ابْنُ حَزْمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدٍ القُرْطُبِيُّ
الإِمَامُ الأَوْحَدُ، البَحْرُ، ذُو الفُنُوْنِ وَالمعَارِفِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ بنِ غَالِبِ بنِ صَالِحِ بنِ خَلَفِ بنِ مَعْدَانَ بنِ سُفْيَانَ بنِ يَزِيْدَ الفَارِسِيُّ الأَصْلِ، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ اليَزِيْدِيُّ مَوْلَى الأَمِيْر يَزِيْدَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ الأُمَوِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - المَعْرُوف بيَزِيْد الخَيْر، نَائِب أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ أَبِي حَفْصٍ عُمَر عَلَى دِمَشْقَ، الفَقِيْهُ الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، فَكَانَ جَدُّهُ يَزِيْد
مَوْلَى لِلأَمِيْر يَزِيْد أَخِي مُعَاوِيَة.وَكَانَ جَدُّهُ خَلَفُ بنُ مَعْدَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الأَنْدَلُس فِي صحَابَة ملك الأَنْدَلُس عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن مُعَاوِيَةَ بنِ هِشَامٍ؛ المَعْرُوف بِالدَّاخل.
وَلد: أَبُو مُحَمَّدٍ بقُرْطُبَة فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَة.
وَسَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَع مائَة وَبعدهَا مِنْ طَائِفَة مِنْهُم: يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة؛ صَاحِبِ قَاسِم بن أَصْبَغ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخ عِنْدَهُ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ.
وَيَنْزِلُ إِلَى أَنْ يَرْوِي عَنْ: أَبِي عُمَرَ بن عبدِ البرِّ، وَأَحْمَدَ بنِ عُمَرَ بنِ أَنَس العُذْرِيّ.
وَأَجْوَد مَا عِنْدَهُ مِنَ الكُتُب (سُنَن النَّسَائِيّ) يَحمله عَنِ ابْنِ رَبيع، عَنِ ابْنِ الأَحْمَر، عَنْهُ.
وَأَنْزَل مَا عِنْدَهُ (صَحِيْحُ مُسْلِم) ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَمْسَةُ رِجَال، وَأَعْلَى مَا رَأَيْتُ لَهُ حَدِيْثٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَكِيْع فِي ثَلاَثَةُ أَنْفُس.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَوَالِد
القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِي، وَطَائِفَة.وَآخر مَنْ رَوَى عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ بِالإِجَازَة أَبُو الحَسَنِ شُرَيْح بن مُحَمَّد.
نشَأَ فِي تَنَعُّمٍ وَرفَاهيَّة، وَرُزِقَ ذكَاء مُفرطاً، وَذِهْناً سَيَّالاً، وَكُتُباً نَفِيْسَةً كَثِيْرَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاء أَهْل قُرْطُبَة؛ عَمل الوزَارَةَ فِي الدَّوْلَة العَامِرِيَّة، وَكَذَلِكَ وَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي شَبِيْبته، وَكَانَ قَدْ مَهر أَوَّلاً فِي الأَدب وَالأَخْبَار وَالشّعر، وَفِي الْمنطق وَأَجزَاءِ الفلسفَة، فَأَثَّرت فِيْهِ تَأْثيراً لَيْتَهُ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ وَقفتُ لَهُ عَلَى تَأَلِيف يَحضُّ فِيْهِ عَلَى الاعتنَاء بِالمنطق، وَيُقَدِّمه عَلَى العلُوْم، فَتَأَلَّمت لَهُ، فَإِنَّهُ رَأْسٌ فِي علُوْم الإِسْلاَم، مُتَبَحِّر فِي النَّقْل، عَديمُ النّظير عَلَى يُبْسٍ فِيْهِ، وَفَرْطِ ظَاهِرِيَّة فِي الْفُرُوع لاَ الأُصُوْل.
قِيْلَ: إِنَّهُ تَفَقَّهَ أَوَّلاً لِلشَافعِيّ، ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى القَوْل بنفِي القيَاس كُلّه جَلِيِّه وَخَفِيِّه، وَالأَخْذ بِظَاهِرِ النَّصّ وَعمومِ الكِتَاب وَالحَدِيْث، وَالقَوْلِ بِالبَرَاءة الأَصْليَّة، وَاسْتصحَاب الحَال، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كتباً كَثِيْرَة، وَنَاظر عَلَيْهِ، وَبسط لِسَانَه وَقلمَه، وَلَمْ يَتَأَدَّب مَعَ الأَئِمَّة فِي الخَطَّاب، بَلْ فَجَّج العبَارَة، وَسبَّ وَجَدَّع، فَكَانَ جزَاؤُه مِنْ جِنس فِعله، بِحَيْثُ إِنَّهُ أَعْرَضَ
عَنْ تَصَانِيْفه جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهَجَرُوهَا، وَنفرُوا مِنْهَا، وَأُحرقت فِي وَقت، وَاعْتَنَى بِهَا آخرُوْنَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَفَتَّشوهَا انتقَاداً وَاسْتفَادَة، وَأَخذاً وَمُؤَاخذَة، وَرَأَوا فِيْهَا الدُّرَّ الثّمِينَ ممزوجاً فِي الرَّصْفِ بِالخَرَزِ المَهين، فَتَارَةٌ يَطربُوْنَ، وَمرَّةً يُعجبُوْنَ، وَمِنْ تَفَرُّدِهِ يهزؤُون.وَفِي الجُمْلَةِ فَالكَمَالُ عزِيز، وَكُلُّ أَحَد يُؤْخَذ مِنْ قَوْله وَيُتْرَك، إِلاَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَانَ يَنهض بعلُوْمٍ جَمَّة، وَيُجيد النَّقل، وَيُحْسِنُ النّظم وَالنثر.
وَفِيْهِ دِينٌ وَخير، وَمقَاصدُهُ جمِيْلَة، وَمُصَنّفَاتُهُ مُفِيدَة، وَقَدْ زهد فِي الرِّئَاسَة، وَلَزِمَ مَنْزِله مُكِبّاً عَلَى العِلْم، فَلاَ نغلو فِيْهِ، وَلاَ نَجْفو عَنْهُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلنَا الكِبَارُ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ الغزَالِي :وَجَدْتُ فِي أَسْمَاء الله تَعَالَى كِتَاباً أَلفه أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيّ يَدلُّ عَلَى عِظَمِ حَفِظه وَسَيَلاَن ذِهنه.
وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو القَاسِمِ صَاعِدُ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ أَجْمَعَ أَهْل الأَنْدَلُس قَاطبَة لعلُوْم الإِسْلاَم، وَأَوسعَهم مَعْرِفَة مَعَ تَوسعه فِي عِلم اللِّسَان، وَوُفور حَظِّه مِنَ البلاغَة وَالشّعر، وَالمَعْرِفَة بِالسير وَالأَخْبَار؛ أَخْبَرَنِي ابْنُه الفَضْل أَنَّهُ اجْتَمَع عِنْدَهُ بِخَط أَبِيْهِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ تَوَالِيفه أَرْبَعُ مائَةِ مُجَلد تَشتمِل عَلَى قَرِيْب مِنْ ثَمَانِيْنَ أَلفِ وَرقَة.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيّ :كَانَ ابْنُ حَزْمٍ حَافِظاً لِلْحَدِيْثِ وَفقهه،
مُسْتنبطاً لِلأَحكَام مِنَ الكِتَاب وَالسُّنَّة، مُتَفَنِّناً فِي عُلُوْمٍ جَمَّة، عَامِلاً بِعِلْمه، مَا رَأَينَا مِثْلَه فِيمَا اجْتَمَع لَهُ مِنَ الذّكَاء، وَسُرعَةِ الحِفْظ، وَكَرَمِ النَفْس وَالتَّدين، وَكَانَ لَهُ فِي الأَدب وَالشّعر نَفَس وَاسِع، وَبَاعٌ طَوِيْل، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ يَقُوْلُ الشِّعر عَلَى البَديهِ أَسرعَ مِنْهُ، وَشِعره كَثِيْر جَمَعتُه عَلَى حُرُوف المُعْجَم.وَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صَاعِد: كَانَ أَبُوْهُ أَبُو عُمَرَ مِنْ وَزرَاء المَنْصُوْر مُحَمَّد بن أَبِي عَامِرٍ، مُدبِّر دَوْلَة المُؤَيَّد بِاللهِ بن المُسْتنصر المَرْوَانِي، ثُمَّ وَزَرَ لِلمظفر، وَوَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ لِلمُسْتظهر عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن هِشَامٍ، ثُمَّ نَبذ هَذِهِ الطّرِيقَة، وَأَقْبَلَ عَلَى العلُوْم الشرعيَّة، وَعُنِي بِعِلْم الْمنطق وَبَرَعَ فِيْهِ، ثُمَّ أَعرض عَنْهُ.
قُلْتُ: مَا أَعرض عَنْهُ حَتَّى زرع فِي بَاطِنه أُمُوْراً وَانحرَافاً عَنِ السّنَة.
قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى علُوْم الإِسْلاَم حَتَّى نَال مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنَلْهُ أَحَد بِالأَنْدَلُسِ قَبْلَهُ.
وَقَدْ حَطَّ أَبُو بَكْرٍ بنُ العَرَبِي عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ (القوَاصم وَالعوَاصم ) وَعَلَى الظَّاهِرِيَّة، فَقَالَ: هِيَ أمة سخيفَة، تَسَوَّرتْ عَلَى مرتبَة لَيْسَتْ لَهَا، وَتَكلمت بكَلاَمٍ لَمْ نَفْهمه، تَلَقَّوهُ مِنْ إِخْوَانهم الخَوَارِج حِيْنَ حكَّم عليّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَوْمَ صفِّين، فَقَالَتْ: لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ.
وَكَانَ أَوّلَ
بدعَة لقيتُ فِي رحلتِي القَوْلُ بِالبَاطِن، فَلَمَّا عُدتُ وَجَدْت القَوْل بِالظَّاهِر قَدْ ملأَ بِهِ المَغْرِبَ سخيفٌ كَانَ مِنْ بَادِيَة إِشْبِيلِية يُعْرَفُ بِابْنِ حَزْم، نشَأَ وَتعلَّق بِمَذْهَب الشَّافِعِيّ، ثُمَّ انْتسب إِلَى دَاوُد، ثُمَّ خلع الكُلَّ، وَاسْتقلَّ بِنَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إِمَام الأُمَّة يَضع وَيَرفع، وَيْحَكم وَيَشرع، يَنْسِبُ إِلَى دين الله مَا لَيْسَ فِيْهِ، وَيَقُوْلُ عَنِ العُلَمَاء مَا لَمْ يَقولُوا تَنفِيراً لِلقُلُوْب مِنْهُم، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيْق المُشبِّهَة فِي ذَات الله وَصِفَاته، فَجَاءَ فِيْهِ بطوَامَّ، وَاتَّفَقَ كَوْنُهُ بَيْنَ قَوْم لاَ بَصَرَ لَهم إِلاَّ بِالمَسَائِل، فَإِذَا طَالبهم بِالدليل كَاعُوا، فَيَتَضَاحكُ مَعَ أَصْحَابه مِنْهُم، وَعَضَدَتْهُ الرِّئَاسَةُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَدب، وَبشُبَهٍ كَانَ يُورِدُهَا عَلَى المُلُوْك، فَكَانُوا يَحملونه، وَيَحمُونه، بِمَا كَانَ يُلقِي إِلَيْهِم مِنْ شُبه البِدَع وَالشِّرْك، وَفِي حِيْنَ عَوْدي مِنَ الرّحلَة أَلفيتُ حضَرتِي مِنْهم طَافحَة، وَنَارَ ضلاَلهم لاَفحَة، فَقَاسيتهم مَعَ غَيْر أَقرَان، وَفِي عدمِ أَنْصَار إِلَى حسَاد يَطؤون عَقِبِي، تَارَة تَذْهَب لَهم نَفْسِي، وَأُخْرَى يَنكشر لَهم ضِرسِي، وَأَنَا مَا بَيْنَ إِعرَاضٍ عَنْهم أَوْ تَشغِيبٍ بِهِم، وَقَدْ جَاءنِي رَجُلٌ بِجُزء لابْنِ حَزْم سَمَّاهُ (نكت الإِسْلاَم) فِيْهِ دوَاهِي، فَجردت عَلَيْهِ نوَاهِي، وَجَاءنِي آخر برِسَالَة فِي الاعْتِقَاد، فَنَقَضْتُهَا برِسَالَة (الغُرَّة ) وَالأَمْرُ أَفحش مِنْ أَنْ يُنقض.يَقُوْلُوْنَ: لاَ قَوْلَ إِلاَّ مَا قَالَ اللهُ، وَلاَ نَتْبَعُ إِلاَّ رَسُوْل اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمر بِالاَقتدَاءِ بِأَحد، وَلاَ بِالاَهتدَاء بِهَدْيِ بشر.
فِيجب أَنْ يَتحققُوا أَنَّهم لَيْسَ لَهم دَلِيل، وَإِنَّمَا هِيَ سَخَافَة فِي تَهويل، فَأُوصيكُم بِوَصِيَّتَيْنِ: أَنْ لاَ تَسْتدلُوا عَلَيْهِم، وَأَن تُطَالبوهم بِالدَّليل، فَإِنَّ المُبْتَدِع إِذَا اسْتدللت عَلَيْهِ شَغَّبَ
عَلَيْك، وَإِذَا طَالبته بِالدليل لَمْ يَجِدْ إِلَيْهِ سَبِيلا.فَأَمَّا قَوْلهُم: لاَ قَوْلَ إِلاَّ مَا قَالَ اللهُ، فَحق، وَلَكِنْ أَرنِي مَا قَالَ.
وَأَمَّا قَوْلهُم: لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الإِطلاَق، بَلْ مِنْ حُكْمِ الله أَنْ يَجْعَلَ الحُكْمَ لغَيْرِهِ فِيمَا قَالَهُ وَأَخبر بِهِ.
صَحَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَلاَ تُنْزِلْهم عَلَى حُكْمِ الله، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حُكْمُ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهم عَلَى حُكْمِكَ ) .
وَصَحَّ أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُم بِسَنَّتِي وَسُنَّة الخُلَفَاء ... ) الحَدِيْث.
قُلْتُ: لَمْ يُنْصِفِ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - شَيْخَ أَبِيْهِ فِي العِلْمِ، وَلاَ تَكَلَّمَ فِيْهِ بِالقِسْطِ، وَبَالَغَ فِي الاسْتخفَاف بِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ فَعَلَى عَظمته فِي العِلْمِ لاَ يَبْلُغُ رُتْبَة أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلاَ يَكَاد، فَرحمهُمَا الله وَغفر لَهُمَا.
قَالَ اليَسَعُ ابْنُ حَزْمٍ الغَافِقِيّ وَذَكَرَ أَبَا مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَمَا مَحْفُوْظُهُ فَبحرٌ عَجَّاج، وَمَاءٌ ثَجَّاج، يَخْرُج مِنْ بحره مَرجَان الحِكَم، وَيَنبت بِثَجَّاجه أَلفَافُ النِّعم فِي رِيَاض الهِمم، لَقَدْ حَفِظ علُوْمَ المُسْلِمِيْنَ، وَأَربَى عَلَى كُلّ أَهْل دين، وَأَلَّف (الْملَل وَالنحل) وَكَانَ فِي صِبَاهُ يَلْبَس الحَرِيْر، وَلاَ يَرْضَى مِنَ المَكَانَة إِلاَّ بِالسَّرِيْر.
أَنْشَدَ المعتمدَ، فَأَجَاد، وَقصد بَلَنْسِيةَ وَبِهَا المُظَفَّر
أَحَد الأَطوَاد.وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُمَرُ بنُ وَاجِب قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد أَبِي بِبَلَنْسِيةَ وَهُوَ يُدَرِّسُ المَذْهَب، إِذَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم يَسْمَعُنَا، وَيَتَعَجَّب، ثُمَّ سَأَلَ الحَاضِرِيْنَ مَسْأَلَةً مِنَ الفِقْهِ، جُووب فِيْهَا، فَاعْترَض فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الحُضَّار: هَذَا العِلْمُ لَيْسَ مِنْ مُنْتَحَلاَتِكَ، فَقَامَ وَقَعَدَ، وَدَخَلَ مَنْزِله فَعكَف، وَوَكَفَ مِنْهُ وَابِلٌ فَمَا كَفَّ، وَمَا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَرِيْبَة حَتَّى قَصَدْنَا إِلَى ذَلِكَ المَوْضِع، فَنَاظر أَحْسَن منَاظرَة، وَقَالَ فِيْهَا: أَنَا أَتبع الحَقَّ، وَأَجتهد، وَلاَ أَتَقَيَّدُ بِمَذْهَب.
قُلْتُ: نَعم، مَنْ بَلَغَ رُتْبَة الاجْتِهَاد، وَشَهِد لَهُ بِذَلِكَ عِدَّة مِنَ الأَئِمَّةِ، لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ، كَمَا أَنَّ الفَقِيْه المُبتدئ وَالعَامِي الَّذِي يَحفظ القُرْآن أَوْ كَثِيْراً مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَاد أَبَداً، فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ، وَمَا الَّذِي يَقُوْلُ؟ وَعلاَم يَبنِي؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّش؟
وَالقِسم الثَّالِث: الفَقِيْهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث، الَّذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَراً فِي الْفُرُوع، وَكِتَاباً فِي قوَاعد الأُصُوْل، وَقرَأَ النَّحْو، وَشَاركَ فِي الفضَائِل مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغله بتَفْسِيْره وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ، فَهَذِهِ رُتْبَة مِنْ بلغَ الاجْتِهَاد المُقيَّد، وَتَأَهَّل لِلنظر فِي دلاَئِل الأَئِمَّة، فَمتَى وَضحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَة، وَثبت فِيْهَا النَّصّ، وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً، أَوْ كَمَالِك، أَوِ الثَّوْرِيِّ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، أَوِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاق، فَلْيَتَّبع فِيْهَا الحَقّ وَلاَ يَسْلُكِ الرّخصَ، وَلِيَتَوَرَّع، وَلاَ يَسَعُه فِيْهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقليدٌ.
فَإِن خَاف مِمَّنْ
يُشَغِّب عَلَيْهِ مِنَ الفُقَهَاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا، فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ، وَأَحَبّ الظُهُوْر، فَيُعَاقب، وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ، وَأَمر بِالمَعْرُوف، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ، وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة، فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء، كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة، وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ، فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ، وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ، وَالعجبِ، وَلُبْسِ القرَاقل المُذَهَّبَة، وَالخُوذ المزخرفَة، وَالعُدد المُحلاَّة عَلَى نُفُوْس مُتكبّرَةٍ، وَفُرْسَان مُتجبِّرَة، وَيَنضَاف إِلَى ذَلِكَ إِخلاَلٌ بِالصَّلاَة، وَظُلم لِلرَّعيَّة، وَشُرب لِلمسكر، فَأَنَّى يُنْصرُوْن؟ وَكَيْفَ لاَ يُخذلُوْن؟ اللَّهُمَّ: فَانصر دينَك، وَوَفِّق عِبَادك.فَمَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلعمل كَسره العِلْمُ، وَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ طلب العِلْم لِلمدَارس وَالإِفتَاء وَالفخر وَالرِّيَاء، تحَامقَ، وَاختَال، وَازدرَى بِالنَّاسِ، وَأَهْلكه العُجْبُ، وَمَقَتَتْهُ الأَنْفُس {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ... وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشَّمْس:9 و10] أَي دسَّسَهَا بِالفجُور وَالمَعْصِيَة.
قُلِبَتْ فِيْهِ السِّينُ أَلِفاً.قَالَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَم - وَكَانَ أَحَدَ المُجْتَهِدين -:مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الإِسْلاَم فِي العِلْمِ مِثْل (المحلَّى ) لابْنِ حَزْم، وَكِتَاب (المُغنِي) لِلشَّيْخِ مُوَفَّق الدِّيْنِ.
قُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ.
وَثَالِثهُمَا: (السُّنَن الكَبِيْر) لِلبيهقِي.
وَرَابعهَا : (التّمهيد) لابْنِ عبدِ الْبر.
فَمَنْ حصَّل هَذِهِ الدَّوَاوِيْن، وَكَانَ مِنْ أَذكيَاء الْمُفْتِينَ، وَأَدمنَ المُطَالعَة فِيْهَا، فَهُوَ العَالِم حَقّاً.
وَلابْنِ حَزْم مُصَنّفَات جَلِيْلَة: أَكْبَرُهَا كِتَاب (الإِيصَال إِلَى فَهم كِتَاب الخِصَال) خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف وَرقَة، وَكِتَاب (الخِصَال الحَافِظ لِجمل
شرَائِع الإِسْلاَم) مُجَلَّدَان، وَكِتَاب (المُجَلَّى ) فِي الفِقْه مُجَلَّد، وَكِتَاب (المُحَلَّى فِي شرح المُجَلَّى بِالحجج وَالآثَار) ثَمَانِي مُجَلَّدَات، كِتَاب (حَجَّة الوَدَاعِ) مائَة وَعِشْرُوْنَ وَرقَة، كِتَاب (قسمَة الخَمْس فِي الرَّدِّ عَلَى إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي) مُجَلَّد، كِتَاب (الآثَار الَّتِي ظَاهِرهَا التعَارض وَنفِي التنَاقض عَنْهَا) يَكُوْن عَشْرَة آلاَف وَرقَة، لَكِن لَمْ يُتِمَّه، كِتَاب (الجَامِع فِي صَحِيْح الحَدِيْث) بِلاَ أَسَانِيْد، كِتَاب (التَّلخيص وَالتَّخليص فِي المَسَائِل النّظرِيَّة ) كِتَاب (مَا انْفَرد بِهِ مَالِك وَأَبُو حنِيفَة وَالشَّافِعِيّ ) ، (مُخْتَصَر الْموضح) لأَبِي الحَسَن بن الْمُغلس الظَّاهِرِي، مُجَلد، كِتَاب (اخْتِلاَف الفُقَهَاء الخَمْسَة مَالِك، وَأَبِي حَنِيْفَةَ، وَالشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَدَاوُد) كِتَاب (التَّصفح فِي الفِقْه) مُجَلَّد، كِتَاب (التَّبيين فِي هَلْ عَلِمَ المُصْطَفَى أَعيَان المُنَافِقين) ثَلاَثَة كَرَارِيْس، كِتَاب (الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ) أَلف وَرقَة.
كِتَاب (الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه) أَلف وَرقَة أَيْضاً، كِتَاب (در القوَاعد فِي فَقه الظَّاهِرِيَّة) أَلف وَرقَة أَيْضاً، كِتَاب (الإِجْمَاع ) مُجيليد، كِتَاب (الفَرَائِض) مُجَلَّد، كِتَاب (الرِّسَالَة البلقَاء فِي الرَّدِّ عَلَى عبد الحَقّ بن مُحَمَّدٍ الصَّقَلِي) مُجيليد، كِتَاب (الإِحكَام لأُصُوْل الأَحكَام ) مُجَلَّدَان، كِتَاب (الفِصَل فِي الْملَل وَالنِّحل ) مُجَلَّدَان كَبِيْرَان، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى مَنِ اعْترض عَلَى الفَصْل) لَهُ، مُجَلَّد، كِتَاب (اليَقين فِي نَقض تَمويه المعتذرِيْنَ عَنْ إِبليس وَسَائِر المُشْرِكِيْنَ) مُجَلَّد كَبِيْر، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى ابْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِيّ) مائَة وَرقَة، كِتَاب (التَّرشيد فِي الرَّدّ عَلَى كِتَابِ الفرِيْد) لابْنِ الرَّاوندي فِي اعترَاضه عَلَى النّبوَات مُجَلَّد، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى مَنْ كفر المتَأَوِّلين مِنَ المُسْلِمِيْنَ) مُجَلَّد، كِتَاب (مُخْتَصَر فِي علل الحَدِيْث) مُجَلَّد، كِتَاب (التَّقَرِيْب لَحْد الْمنطق بِالأَلْفَاظ العَامِيَّة) مُجَلَّد، كِتَاب (الاسْتجلاَب) مُجَلَّد، كِتَاب (نَسَب البَرْبَر) مُجَلَّد، كِتَاب (نَقْطُ الْعَرُوس ) مُجيليد، وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِمَّا لَهُ فِي جُزْء أَوْ كُرَّاس: (مُرَاقبَة أَحْوَال الإِمَام) ، (مِنْ ترك الصَّلاَة
عمداً) ، (رِسَالَة المُعَارَضَة) ، (قصر الصَّلاَة) ، (رِسَالَة التَأكيد) ، (مَا وَقَعَ بَيْنَ الظَّاهِرِيَّة وَأَصْحَاب القيَاس) ، (فَضَائِل الأَنْدَلُس ) ، (العتَاب عَلَى أَبِي مَرْوَانَ الخَوْلاَنِيّ) ، (رِسَالَة فِي مَعْنَى الفِقْه وَالزُّهْد) ، (مَرَاتِب العُلَمَاء وَتوَالِيفهُم) ، (التَّلْخِيص فِي أَعْمَال العبَاد) ، (الإِظهَار لمَا شُنِّعَ بِهِ عَلَى الظَّاهِرِيَّة) ، (زجر الغَاوِي) جُزآن (النّبذ الكَافِيَة) ، (النّكت الموجزَة فِي نَفِي الرَّأْي وَالقيَاس وَالتَّعليل وَالتَّقليد) مُجَلَّد صَغِيْر، (الرِّسَالَة اللاَزمَة لأَولِي الأَمْر) ، (مُخْتَصَر الْملَل وَالنِّحل) مُجَلَّد (الدّرَة فِي مَا يَلزم المُسْلِم) جُزآن (مَسْأَلَة فِي الرُّوح ) ، (الرَّدّ عَلَى إِسْمَاعِيْلَ اليَهودي، الَّذِي أَلَّف فِي تَنَاقض آيَات) ، (النَّصَائِح المنجيَة ) ، (الرِّسَالَة الصُّمَادحية فِي الْوَعْد وَالوعيد) ، (مَسْأَلَة الإِيْمَان) ، (مَرَاتِب العلُوْم) ، (بيَان غلط عُثْمَان بن سَعِيْدٍ الأَعْوَر فِي المُسْنَد وَالمُرسل) . (تَرْتِيْب
سُؤَالاَت عُثْمَان الدَّارِمِيّ لابْنِ مَعِيْنٍ) ، (عدد مَا لِكُلِّ صَاحِب فِي مُسند بَقِيّ) ، (تسمِيَة شُيُوْخ مَالِك) ، (السِّير وَالأَخلاَق) جُزآن (بيَان الفَصَاحَة وَالبلاغَة) رِسَالَة فِي ذَلِكَ إِلَى ابْنِ حَفْصُوْنَ (مَسْأَلَة هَلِ السَّوَاد لُوْنٌ أَوْ لاَ) ، (الحدّ وَالرَّسم) ، (تسمِيَة الشُّعَرَاء الوَافدين عَلَى ابْنِ أَبِي عَامِرٍ) ، (شَيْء فِي الْعرُوض) ، (مُؤَلّف فِي الظَّاء وَالضَاد) ، (التَّعقب عَلَى الأَفليلِي فِي شَرحه لديوَان المتنبِّي) ، (غَزَوَات المَنْصُوْر بن أَبِي عَامِرٍ) ، (تَألِيف فِي الرَّدِّ عَلَى أَنَاجيل النَّصَارَى) .وَلابْنِ حَزْم: (رِسَالَة فِي الطِّبّ النّبوِي) وَذَكَرَ فِيْهَا أَسْمَاء كتب لَهُ فِي الطِّبّ مِنْهَا: (مَقَالَة العَادَة ) ، وَ (مَقَالَة فِي شفَاء الضِّدّ بِالضِّدِّ) ، وَ (شَرْح فَصول بقرَاط) ، وَكِتَاب (بلغَة الحَكِيْم) ، وَكِتَاب (حدّ الطِّبّ) ، وَكِتَاب (اخْتصَار كَلاَم جَالينوس فِي الأَمرَاض الحَادَّة) ، وَكِتَاب فِي (الأَدويَة المفردَة) ، وَ (مَقَالَة فِي المحَاكمَة بَيْنَ التَّمْر وَالزَّبِيْب) ، وَ (مَقَالَة فِي النَّخْل ) وَأَشيَاء سِوَى ذَلِكَ.
وَقَدِ امتُحن لِتطويل لِسَانه فِي العُلَمَاء، وشُرِّد عَنْ وَطَنه، فَنَزَلَ بقَرْيَة لَهُ، وَجَرَتْ لَهُ أُمُوْرٌ، وَقَامَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ المَالِكِيَّة، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي الوَلِيْد البَاجِي مُنَاظرَاتٌ وَمُنَافُرَاتٌ، وَنَفَّرُوا مِنْهُ مُلُوْكَ النَّاحيَة، فَأَقْصَتْهُ الدَّوْلَة، وَأَحرقت مجلدَاتٌ مِنْ كتبِهِ، وَتَحَوَّل إِلَى بَادِيَة لَبْلَة فِي قَرْيَة.قَالَ أَبُو الخَطَّاب ابْنُ دِحْيَة: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ قَدْ بَرِصَ مِنْ أَكل اللُّبانَ، وَأَصَابه زَمَانة، وَعَاشَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ سَنَةً غَيْر شَهْر.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللهُ - يَسْتَعْمَل اللُّبانَ لقُوَة الحِفْظ،
فَولَّدَ لَهُ رَمْيَ الدَّم.قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ العرِيف: كَانَ لِسَان ابْنِ حَزْمٍ وَسيفُ الحجَاجِ شَقِيقَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ طَرْخَان التركِي: قَالَ لِي الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بن مُحَمَّد - يَعْنِي: وَالِد أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِي -:
أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ أَن سَبَبَ تَعَلُّمه الفِقْه أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَة، فَدَخَلَ المَسْجَدَ، فَجَلَسَ، وَلَمْ يَركع، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قُمْ فَصلِّ تحيَّة المَسْجَد.
وَكَانَ قَدْ بلغَ سِتّاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
قَالَ: فَقُمْتُ وَركعتُ، فَلَمَّا رَجَعنَا مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى الجِنَازَة، دَخَلْتُ المَسْجَد، فَبَادرتُ بِالرُّكُوْع، فَقِيْلَ لِي: اجْلِسْ اجْلِسْ، لَيْسَ ذَا وَقتَ صَلاَة - وَكَانَ بَعْد العَصْر - قَالَ: فَانْصَرَفت وَقَدْ حَزِنْتُ، وَقُلْتُ لِلأسْتَاذ الَّذِي رَبَّانِي: دُلنِي عَلَى دَار الفَقِيْه أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ دحُّوْنَ.
قَالَ: فَقصدتُه، وَأَعْلَمتُه بِمَا جرَى، فَدلَّنِي عَلَى (مُوَطَّأ مَالِكٍ) ، فَبدَأَتُ بِهِ عَلَيْهِ، وَتتَابعت قِرَاءتِي عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَحْواً مِنْ ثَلاَثَة أَعْوَام، وَبدَأتُ بِالمنَاظرَة.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ العَرَبِي :صَحِبتُ ابْنَ حَزْمٍ سَبْعَةَ أَعْوَام، وَسَمِعْتُ مِنْهُ جمِيْع مُصَنّفَاته سِوَى المُجَلَّد الأَخِيْر مِنْ كِتَاب (الْفَصْل) ، وَهُوَ سِتُّ مُجَلَّدَات، وَقرَأَنَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَاب (الإِيصَال) أَرْبَع مُجَلَّدَات فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَع مائَة، وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُوْنَ مجلداً، وَلِي مِنْهُ إِجَازَة غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَالَ أَبُو مَرْوَان بن حَيَّان: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - حَامِل فُنُوْن مِنْ حَدِيْثٍ وَفقهٍ وَجَدَلٍ وَنَسَبٍ، وَمَا يَتعلَّق بِأَذِيَال الأَدب، مَعَ المُشَارَكَة فِي أَنْوَاع التَّعَالِيم القَدِيْمَة مِنَ المَنطق وَالفلسفَة، وَلَهُ كُتب كَثِيْرَة لَمْ يَخلُ فِيْهَا مِنْ غَلَطٍ لِجرَاءته فِي التَّسوُّر عَلَى الفُنُوْن لاَ سِيَّمَا الْمنطق، فَإِنَّهم زَعَمُوا أَنَّهُ زَلَّ هنَالك، وَضَلَّ فِي سُلُوْك المسَالك، وَخَالف أَرسطَاطَاليس وَاضِعَ الْفَنّ مُخَالَفَةَ مِنْ لَمْ يَفهم غَرَضَه، وَلاَ ارْتَاض، وَمَال أَوَّلاً إِلَى النَّظَر عَلَى رَأْي الشَّافِعِيّ، وَنَاضل عَنْ مَذْهَبه حَتَّى وُسِمَ بِهِ، فَاسْتُهْدِفَ بِذَلِكَ لَكَثِيْر مِنَ الفُقَهَاء، وَعِيْبَ بِالشُّذوذ، ثُمَّ عَدَل إِلَى قَوْل أَصْحَاب الظَّاهِر، فَنقَّحه، وَجَادَل عَنْهُ، وَثبتَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ يحمل علمه هَذَا، وَيُجَادل عَنْهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى اسْترسَالٍ فِي طِبَاعِهِ، وَمَذَلٍ بِأَسرَارِهِ، وَاسْتنَادٍ إِلَى العَهْد الَّذِي أَخَذَهُ الله عَلَى العُلَمَاءِ: {لتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُوْنَهُ } فَلَمْ يَكُ يُلَطِّفُ صَدْعَهُ بِمَا عِنْدَهُ بِتعرِيض وَلاَ بتدرِيج، بَلْ يَصكُّ بِهِ مَنْ عَارضَهُ صكَّ الجَنْدَل، وَيُنْشِقه إِنشَاق الخَرْدَل، فَتنفِرُ عَنْهُ القُلُوْبُ، وَتُوقع بِهِ النّدوب، حَتَّى اسْتُهْدِفَ لفُقَهَاء وَقته، فَتمَالؤُوا عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تضليلِهِ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ، وَحَذَّرُوا سلاَطينهم مِنْ فِتنتهِ، وَنهوا عَوَامَّهم عَنِ الدنوِّ مِنْهُ، فَطفق المُلُوْك
يُقصونه عَنْ قُربهم، وَيُسَيِّرُوْنَهُ عَنْ بلادِهِم إِلَى أَنِ انْتَهوا بِهِ مُنْقَطع أَثرِه: بَلْدَة مِنْ بَادِيَة لَبْلَة.وَهُوَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُرتدِع وَلاَ رَاجع، يَبُثُّ علمه فِيْمَنْ يَنْتَابه مِنْ بَادِيَة بلدِهِ، مِنْ عَامَّة المُقتبسينَ مِنْ أَصَاغِرِ الطَّلبَة، الَّذِيْنَ لاَ يَخشُوْنَ فِيْهِ المَلاَمَة، يُحَدِّثهُم، وَيُفَقِّههُم، وَيُدَارسهُم، حَتَّى كَمَلَ مِنْ مُصَنّفَاته وَقْرُ بعير، لَمْ يَعْدُ أَكْثَرُهَا بَادِيَتَه لزُهْد الفُقَهَاء فِيْهَا، حَتَّى لأُحْرِقَ بَعْضُهَا بِإِشبيلية، وَمُزِّقَتْ عَلاَنِيَةً، وَأَكْثَرُ معَايبه - زَعَمُوا عِنْد المنصَف - جَهلُه بسيَاسَة العِلْم الَّتِي هِيَ أَعوصُ... ، وَتَخلُّفه عَنْ ذَلِكَ عَلَى قوَةِ سَبْحه فِي غِمَاره، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ بِالسَّلِيم مِنِ اضطرَاب رَأيه، وَمغِيبِ شَاهد علمه عَنْهُ عِنْد لقَائِهِ، إِلَى أَنْ يُحَرَّكَ بِالسُّؤَال، فِيتفجَّر مِنْهُ بحرُ عِلْمٍ لاَ تُكَدِّرُهُ الدّلاَء، وَكَانَ مِمَّا يَزِيْدُ فِي شَنَآنه تَشيُّعه لأُمَرَاء بَنِي أُمَيَّةَ مَاضِيهم وَبَاقيهِم، وَاعْتِقَادُهُ لِصِحَّةِ إِمَامتهِم، حَتَّى لنُسب إِلَى النَّصْبِ.
قُلْتُ: وَمِنْ تَوَالِيفه: كِتَاب (تَبديل اليَهُوْد وَالنَّصَارَى لِلتَّورَاة وَالإِنجيل ) ، وَقَدْ أَخَذَ الْمنطق - أَبعدَهُ الله مِنْ عِلمٍ - عَنْ: مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ المَذْحِجِيّ، وَأَمعَنَ فِيْهِ، فَزلزله فِي أَشيَاء، وَلِي أَنَا مَيْلٌ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ
لمَحَبَّته فِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْح، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أُوَافِقُهُ فِي كَثِيْرٍ مِمَّا يَقولُهُ فِي الرِّجَالِ وَالعلل، وَالمَسَائِل البَشِعَةِ فِي الأُصُوْلِ وَالفروع، وَأَقطعُ بخطئِهِ فِي غَيْرِ مَا مَسْأَلَةٍ، وَلَكِن لاَ أُكَفِّره، وَلاَ أُضَلِّلُهُ، وَأَرْجُو لَهُ العفوَ وَالمُسَامحَة وَللمُسْلِمِيْنَ.وَأَخضعُ لِفَرْطِ ذكَائِهِ وَسَعَة علُوْمِهِ، وَرَأَيْتهُ قَدْ ذَكَرَ قَوْل مَنْ يَقُوْلُ: أَجَلُّ المُصَنَّفَاتِ (المُوَطَّأ) .
فَقَالَ: بَلْ أَوْلَى الكُتُب بِالتَّعَظِيْم (صَحيحَا) البُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَ (صَحِيْح ابْن السَّكَن) ، وَ (مُنتقَى ابْن الجَارُوْدِ) ، وَ (المنتقَى) لقَاسِم بن أَصْبَغ، ثُمَّ بَعْدَهَا كِتَاب أَبِي دَاوُدَ، وَكِتَاب النَّسَائِيّ، وَ (المصَنّف) لقَاسِم بن أَصْبَغ، (مصَنّف أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ) .
قُلْتُ: مَا ذكر (سُنَن ابْنِ مَاجَه) ، وَلاَ (جَامِع أَبِي عِيْسَى) ؛فَإِنَّهُ مَا رَآهُمَا، وَلاَ أُدخِلا إِلَى الأَنْدَلُسِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَ (مُسْنَد البَزَّار) ، وَ (مُسْنَد ابْنَي أَبِي شَيْبَةَ) ، وَ (مُسْنَد أَحْمَد بن حَنْبَلٍ) ، وَ (مُسْنَد إِسْحَاق) ، وَ (مُسْنَد) الطَّيَالِسِيّ، وَ (مُسْنَد) الحَسَن بن سُفْيَانَ، وَ (مُسْنَد ابْن سَنْجَر) ، وَ (مُسْنَد عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدٍ) المُسْنَدِي، وَ (مُسْنَد يَعْقُوْب بن شَيْبَةَ) ، وَ (مُسْنَد عَلِيّ بن المَدِيْنِيِّ) ، وَ (مُسْنَد ابْن أَبِي غَرَزَةَ).
وَمَا جرَى مجرَى هَذِهِ الكُتُب الَّتِي أُفْرِدَتْ لِكَلاَمِ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِرْفاً، ثُمَّ الكُتُب الَّتِي فِيْهَا كلامُهُ وَكَلاَمُ غَيْره
مِثْل (مصَنّف عَبْد الرَّزَّاقِ) ، وَ (مُصَنَّف أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ) ، وَ (مُصَنَّف بَقِيَ بن مَخْلَدٍ) ، وَكِتَاب مُحَمَّد بن نَصْرٍ المَرْوَزِيّ، وَكِتَاب ابْن المُنْذِرِ الأَكْبَر وَالأَصْغَر، ثُمَّ (مُصَنَّف حَمَّاد بن سَلَمَةَ) ، و (مُوَطَّأ مَالِك بن أَنَسٍ) ، وَ (موطَّأَ ابْن أَبِي ذِئْبٍ) ، وَ (مُوَطَّأَ ابْن وَهْبٍ) ، وَ (مُصَنَّف وَكِيْع) ، وَ (مُصَنَّف مُحَمَّد بن يُوْسُفَ الفِرْيَابِيّ) ، وَ (مُصَنَّف سَعِيْد بن مَنْصُوْرٍ) ، وَ (مَسَائِل أَحْمَد بن حَنْبَلٍ) ، وَفقه أَبِي عُبَيْدٍ، وَفقه أَبِي ثَوْرٍ.قُلْتُ: مَا أَنْصَفَ ابْنُ حَزْمٍ؛ بَلْ رُتْبَة (المُوَطَّأ) أَنْ يُذكر تِلْوَ (الصَّحِيْحَيْنِ) مَعَ (سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ) ، لَكنَّه تَأَدَّبَ، وَقَدَّمَ المُسْنَدَات النّبويَّة الصِّرْف، وَإِنَّ (لِلموطَّأ) لَوَقْعاً فِي النُّفُوْسِ، وَمَهَابَةً فِي القُلوب لاَ يُوَازِنهَا شَيْءٌ.
كَتَبَ إِلَيْنَا المُعَمَّر العَالِم أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ هَارُوْنَ مِنْ مدينَة تُونس عَام سَبْعِ مائَة، عَنْ أَبِي القَاسِمِ أَحْمَدَ بنِ يَزِيْدَ القَاضِي، عَنْ شُرَيْح بن مُحَمَّدٍ الرُّعَيْنِيّ، أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ بن حَزْم كتب إِلَيْهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَسْعُوْدٍ، أَخْبَرَنَا قَاسِم بنُ أَصْبَغ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ
ابْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا وَكِيْعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الصَّوْمُ جُنَّةٌ) .
أَخْرَجَهُ مُسْلِم، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الأَشَجّ، عَنْ وَكِيْع.
وَبِهِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الجسورِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي دُلِيم، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ وَضَّاح، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرِ بن عَبْدِ اللهِ المُزَنِيّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَجِّ، وَأَهْلَلْنَا بِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ) .
فَأَحَلَّ النَّاسُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدْي، وَلَمْ يَحِلَّ.
وَبِهِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنُ عُمَرَ العُذْرِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بن الحُسَيْنِ بنِ عقَالَ، حَدَّثَنَا عبيدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ سَلْم، حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الجَوْهَرِيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الأَثْرَم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْد، حَدَّثَنَا بَكْرُ بنُ عَبْدِ اللهِ، سَمِعْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي بِالحَجِّ
وَالعُمْرَةِ جَمِيْعاً.قَالَ بكر: فَحَدّثتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالحَجِّ وَحْدَهُ.
وَقَعَ لَنَا هَذَا فِي (مُسْنَد أَحْمَدَ) ، فَأَنَا وَابْنُ حَزْمٍ فِيْهِ سَوَاء.
وَبِهِ: إِلَى ابْنِ حَزْم فِيمَا أَحرق لَهُ المُعْتَضِدُ بنُ عَبَّادٍ مِنَ الكُتُب يَقُوْلُ:
فَإِنْ تَحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تَحْرِقُوا الَّذِي ... تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ... وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي
دَعُوْنِيَ مِنْ إِحْرَاقِ رَقٍ وَكَاغَدٍ ... وَقُولُوا بِعِلْمٍ كِي يَرَى النَّاسُ مَنْ يَدْرِي
وَإِلاَّ فَعُوْدُوا فِي المَكَاتِبِ بَدْأَةً ... فَكَمْ دُوْنَ مَا تَبْغُونَ للهِ مِنْ سِتْرِ
كَذَاكَ النَّصَارَى يَحْرِقُوْنَ إِذَا عَلَتْ ... أَكفُّهم القُرْآنَ فِي مُدُنِ الثَّغْرِ
وَبِهِ لابْنِ حَزْم:
أُشْهِدُ اللهَ وَالمَلاَئِكَ أَنِّي ... لاَ أَرَى الرَّأْيَ وَالمَقَايِيْسَ دِيْناً
حَاشَ للهِ أَنْ أَقُوْلَ سِوَى مَا ... جَاءَ فِي النَّصِّ وَالهُدَى مُسْتَبِيْنَاكَيْفَ يَخفَى عَلَى البَصَائِرِ هَذَا ... وَهُوَ كَالشَّمْسِ شُهْرَةً وَيَقينَا
فَقُلْتُ مُجيباً لَهُ:
لَوْ سَلِمْتُم مِنَ العُمُومِ الَّذِي ... نَعْلَمُ قَطْعاً تخصِيْصَهُ وَيَقِيْنَا
وَتَرَطَّبْتُمُ فَكَمْ قَدْ يَبِسْتُمْ... لَرَأَينَا لَكُم شُفُوَفاً مُبِيْنَا
وَلابْنِ حَزْم:
مُنَايَ مِنَ الدُّنْيَا علُوْمٌ أَبُثُّهَا ... وَأَنْشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرُهَا فِي المحَاضِرِ
وَأَلزمُ أَطرَافَ الثُّغُوْرِ مُجَاهِداً ... إِذَا هَيْعَةٌ ثَارَتْ فَأَوَّلُ نَافِرِ
لأَلْقَى حِمَامِي مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ ... بِسُمْرِ العَوَالِي وَالرِّقَاقِ البَوَاتِرِ
كِفَاحاً مَعَ الكُفَّارِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ... وَأَكْرَمُ مَوْتٍ لِلْفتى قَتْلُ كَافِرِ
فَيَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْ حِمَامِي بِغَيْرِهَا ... وَلاَ تَجْعَلَنِّي مِنْ قَطِيْنِ المَقَابِرِ
وَمِنْ شِعْرِهِ :
هَلِ الدَّهْرُ إِلاَّ مَا عَرَفْنَا وَأَدْرَكْنَا ... فَجَائِعُهُ تَبقَى وَلَذَّاتُهُ تَفْنَى
إِذَا أَمْكَنَتْ فِيْهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ ... تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا
إِلَى تَبِعَاتٍ فِي المَعَادِ وَمَوْقِفٍ ... نَوَدُّ لَدِيْهِ أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ كُنَّاحَنِيْنٌ لِما وَلَّى وَشُغْلٌ بِمَا أَتَى ... وَهم لَمَّا نَخْشَى فَعَيْشُكَ لاَ يَهْنَا
حَصَلْنَا عَلَى هَمٍّ وَإِثْمٍ وَحَسْرَةٍ ... وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا نَلَذُّ بِهِ عَنَّا
كَأنَّ الَّذِي كُنَّا نُسَرُّ بِكَوْنِهِ ... إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلاَ مَعْنَى
وَلَهُ عَلَى سَبِيْل الدُّعَابَة - وَهُوَ يمَاشِي أَبَا عُمَر بن عبد الْبر - وَقَدْ رَأَى شَابّاً مَلِيحاً، فَأَعْجَب ابْنَ حَزْمٍ، فَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَعَلَّ مَا تَحْتَ الثِّيَاب لَيْسَ هُنَاكَ، فَقَالَ:
وَذِي عَذَلٍ فِيْمَنْ سَبَانِي حُسْنُهُ... يُطِيْلُ مَلاَمِي فِي الهَوَى وَيَقُوْلُ
أَمِنْ حُسْنِ وَجْهٍ لاَحَ لَمْ تَرَ غَيْرَهُ... وَلَمْ تَدْرِ كَيْفَ الجِسْمُ أَنْتَ قَتِيْلُ ؟
فَقُلْتُ لَهُ: أَسْرَفْتَ فِي اللَّوْمِ فَاتَّئِدْ... فَعِنْدِيَ رَدٌّ لَوْ أَشَاءُ طَوِيْلُ
أَلَمْ تَرَ أَنِّي ظَاهِرِيٌّ وَأَنَّنِي ... عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقومَ دَلِيْلُ
أَنشدنَا أَبُو الْفَهم بن أَحْمَدَ السُّلَمِيّ، أَنشدنَا ابْنُ قُدَامَةَ، أَنشدنَا ابْن البَطِّي، أَنشدنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيّ، أَنشدنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ لِنَفْسِهِ :لاَ تَشْمَتَنْ حَاسِدِي إِنْ نَكْبَةً عَرَضَتْ ... فَالدَّهْرُ لَيْسَ عَلَى حَال بِمُتَّركِ
ذُو الفَضْلِ كَالتِّبْرِ طَوْراً تَحْتَ مَيْفَعَةٍ... وَتَارَةً فِي ذُرَى تَاجٍ عَلَى مَلِكِ
وَشعره فَحلٌ كَمَا تَرَى، وَكَانَ يُنظِمُ عَلَى البَدِيه، وَمِنْ شِعْرِهِ:
أَنَا الشَّمْسُ فِي جُوِّ العُلُوْمِ مُنِيْرَةً ... وَلَكِنَّ عَيْبِي أَنَّ مَطْلَعِي الغَرْبُ
وَلَوْ أَنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ طَالِعٌ ... لَجَدَّ عَلَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ
وَلِي نَحْوَ أَكْنَافِ العِرَاقِ صَبَابَةٌ ... وَلاَ غَرْوَ أَنْ يَسْتَوحِشَ الكَلِفُ الصُّبُّ
فَإِنَّ يُنْزِلِ الرَّحْمَنُ رَحْلِيَ بَيْنَهُمْ ... فَحِيْنَئِذٍ يَبْدُو التَأَسُّفُ وَالكَرْبُ
هُنَالِكَ يُدْرَى أَنَّ لِلْبُعْدِ قِصَّةٌ... وَأَنَّ كسَادَ العِلْمِ آفَتُهُ القُرْبُ وَلَهُ:
أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ كتبِ الحَدِيْثِ وَمَا ... أَتَى عَنِ المُصْطَفَى فِيْهَا مِنَ الدِّيْنِ كَمُسْلِمٍ وَالبُخَارِيّ الَّلذِيْنَ هُمَا ... شَدَّا عُرَى الدِّيْنِ فِي نَقْلٍ وَتَبْيِينِ
أَوْلَى بِأَجْرٍ وَتعَظِيْمٍ وَمَحْمَدَةٍ ... مِنْ كُلِّ قَوْلٍ أَتَى مِنْ رَأْي سُحْنُوْنِ
يَا مَنْ هَدَى بِهِمَا اجعَلْنِي كَمِثْلِهِمَا ... فِي نَصْرِ دِيْنِكَ مَحْضاً غَيْرَ مَفْتُوْنِ
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي ترَاجم أَبْوَاب (صَحِيْح البُخَارِيّ) :مِنْهَا مَا هُوَ مقصُوْرٌ عَلَى آيَة، إِذْ لاَ يَصِحُّ فِي البَابِ شَيْءٌ غَيْرهَا، وَمِنْهَا مَا يُنَبِّهُ بِتَبْوِيبِهِ عَلَى أَنَّ فِي البَابِ حَدِيْثاً يَجِبُ الوُقُوْفُ عَلَيْهِ، لَكنه لَيْسَ مِنْ شَرط مَا أَلَّف عَلَيْهِ كِتَابهُ، وَمِنْهَا مَا يُبَوِّبُ عَلَيْهِ، وَيذكر نُبذَة مِنْ حَدِيْثِ قَدْ سَطَرَه فِي مَوْضِعٍ آخر، وَمِنْهَا أَبْوَاب تَقعُ بِلَفْظ حَدِيْث لَيْسَ مِنْ شَرطه، وَيَذكر فِي البَابِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ فِي أَوَّلِ (الإِحكَام ) :أَمَّا بَعْدُ ... فَإِنَّ اللهَ رَكَّبَ فِي النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّة قُوَىً مختلفَة، فَمِنْهَا عَدْلٌ يُزَيِّنُ لَهَا الإِنصَاف، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهَا مُوَافِقَةَ الحَقّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ} [النَّحْل:90] .
وَقَالَ: {
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ} [النِّسَاء:135] وَمِنْهَا غضبٌ وَشَهْوَةٌ يُزَيِّنَان لَهَا الجُور وَيَعمِيَانهَا عَنْ طَرِيْق الرشد، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البَقَرَة:206] .وَقَالَ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدِيْهِمْ فَرحُوْنَ} [الرُّوْم:32] فَالفَاضِل يُسَرُّ بِمَعْرِفَته، وَالجَاهِل يُسَرُّ بِمَا لاَ يَدْرِي حقيقَةَ وَجْهِهِ وَبِمَا فِيْهِ وَبَالُه، وَمِنْهَا فَهْمٌ يُليح لَهَا الحَقُّ مِنْ قَرِيْب، وَينِير لَهَا فِي ظلمَات المشكلاَت، فَترَى بِهِ الصَّوَابَ ظَاهِراً جَلِيّاً، وَمِنْهَا جَهْلٌ يَطْمِسُ عَلَيْهَا الطَّرِيْق، وَيُسَاوِي عِنْدَهَا بَيْنَ السُّبُل، فَتبقَى النَفْسُ فِي حَيْرَةٍ تَتردد، وَفِي رِيب تَتَلَدَّد، وَيَهْجُمُ بِهَا عَلَى أَحَد الطّرق المُجَانبَة لِلحق تَهَوُّراً وَإِقدَاماً، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعلمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعلمُوْنَ} [الزُّمَر:9] وَمِنْهَا قُوَّةُ التّمِييز الَّتِي سمَّاهَا الأَوَائِلُ المنطقَ، فَجَعَلَ لَهَا خَالِقهَا بِهَذِهِ القُوَّة سَبيلاً إِلَى فَهم خِطَابِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَة الأَشيَاء عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِلَى إِمَكَان التفهُم، فَبهَا تَكُوْن مَعْرِفَة الحَقّ مِنَ البَاطِل، وَمِنْهَا قُوَّةُ العَقْل الَّتِي تُعينُ النَفْس المُمَيِّزَة عَلَى نُصْرَة العَدْل، فَمَنِ اتَّبع مَا أَنَاره لَهُ العَقْلُ الصَّحِيْح، نَجَا وَفَاز، وَمِنْ عَاج عَنْهُ هَلَكَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيْدٌ} [ق:37] .
فَأَرَادَ بِذَلِكَ العَقْلَ، أَمَا مُضغَةُ القَلْب، فَهِيَ لِكُلِّ أَحَد، فَغَيْرُ العَاقل كَمَنْ لاَ قَلْبَ لَهُ.
وَكَلاَمُ ابْن حَزْمٍ كَثِيْرٌ، وَلَوْ أَخذتُ فِي إِيرَادِ طُرَفِهِ وَمَا شَذَّ بِهِ، لطَال الأَمْر.قَالَ أَبُو القَاسِمِ بنُ بَشْكُوَال الحَافِظ فِي (الصّلَة ) لَهُ: قَالَ القَاضِي صَاعِدُ بنُ أَحْمَدَ: كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ حَزْمٍ بخطِّهِ يَقُوْلُ:
وُلِدْتُ بقُرْطُبَة فِي الجَانب الشَّرْقِيّ فِي رَبَضِ مُنية المُغِيْرَة، قَبْل طُلُوْع الشَّمْس آخِرَ لَيْلَة الأَرْبعَاء، آخرَ يَوْم مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَة، بطَالع الْعَقْرَب، وَهُوَ اليَوْم السَّابِع مِنْ نُوَنْيِر.
قَالَ صَاعِد: وَنقُلْتُ مِنْ خطّ ابْنِهِ أَبِي رَافِعٍ، أَنْ أَبَاهُ تُوُفِّيَ عَشِيَّة يَوْم الأَحَد لِليلتين بقيتَا مِنْ شَعْبَانَ، سَنَة سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة، فَكَانَ عُمُره إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ سَنَةً وَأَشْهُراً - رَحِمَهُ اللهُ -.
وَمِنْ نَظْمِ أَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم:
لَمْ أَشْكُ صَدّاً وَلَمْ أُذْعِنْ بِهِجْرَانِ ... وَلاَ شَعَرْتُ مَدَى دَهْرِي بِسُلْوَانِ
أَسْمَاءُ لَمْ أَدْرِ مَعْنَاهَا وَلاَ خَطَرَتْ ... يَوْماً عَلِيَّ وَلاَ جَالَتْ بِمِيدَانِي
لَكِنَّمَا دَائِي الأَدوا الَّذِي عَصَفَتْ ... عَلَيَّ أَرْوَاحُهُ قِدماً فَأَعْيَانِي
تَفَرَّقَ لَمْ تَزَلْ تَسْرِي طَوَارِقُهُ ... إِلَى مَجَامِعَ أَحبَابِي وَخِلاَّنِي
كَأَنمَا البَيْنُ بِي يَأْتَمُّ حَيْثُ رَأَى ... لِي مَذْهَباً فَهُوَ يَتْلُونِي وَيَغشَانِي
وَكُنْتُ أَحسبُ عِنْدِي لِلنوَى جَلَداً ... دَاءٌ عَنَا فِي فؤَادِي شجوهَا العَانِي
فَقَابَلَتْنِي بِأَلوَانٍ غَدَوْتُ بِهَا ... مقَابَلاً مِنْ صَبَابَاتِي بِأَلوَانِ
وَمِمَّنْ مَاتَ مَعَ ابْنِ حَزْم فِي السَّنَةِ: الحَافِظُ أَبُو الوَلِيْدِ الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ الدَّرْبَنْدِي، وَالفَقِيْهُ أَبُو القَاسِمِ سِرَاجُ بنُ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ سِرَاج، قَاضِي الجَمَاعَة بقُرْطُبَة، وَالحَافِظ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَاصِمٍ النَّخْشَبِيّ، وَشيخُ العَرَبِيَّة أَبُو القَاسِمِ عبدُ الوَاحِد بنُ عَلِيِّ بنِ بَرْهَان بِبَغْدَادَ، وَمُسْنِدُ الوَقْتِ أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَسْنُوْنَ النَّرْسِيُّ، وَالمُحَدِّثُ أَبُو سَعِيْدٍ محمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الخَشَّاب النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَالوَزِيْرُ عَمِيْدُ المُلك مُحَمَّدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الكُنْدُرِي.وَلابْنِ حَزْم:
قَالُوا تَحَفَّظْ فَإِنَّ النَّاس قَدْ كَثُرَتْ ... أَقْوَالُهم وَأَقَاويلُ الوَرَى مِحَنُ
فَقُلْتُ: هَلْ عَيْبُهم لِي غَيْر أَنِّي لاَ ... أَقُوْلُ بِالرَّأْي إِذْ فِي رَأَيهِم فِتَنُ
وَأَنَّنِي مُوْلَعٌ بِالنَّصِّ لَسْتُ إِلَى ... سِوَاهُ أَنَحْو وَلاَ فِي نَصْرِهِ أَهِنُ
لاَ أَنثنِي لمقَاييس يُقَالَ بِهَا ... فِي الدِّيْنِ بَلْ حَسْبِيَ القُرْآن وَالسُّنَنُ
يَا بَرْدَ ذَا القَوْلِ فِي قَلْبِي وَفِي كَبِدِي ... وَيَا سرُوْرِي بِهِ لَوْ أَنَّهم فَطنُوا
دَعْهُمْ يَعَضُّوا عَلَى صُمِّ الحَصَى كَمَداً ... مَنْ مَاتَ مِنْ قَوْله عِنْدِي لَهُ كَفَنُ
الإِمَامُ الأَوْحَدُ، البَحْرُ، ذُو الفُنُوْنِ وَالمعَارِفِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ بنِ غَالِبِ بنِ صَالِحِ بنِ خَلَفِ بنِ مَعْدَانَ بنِ سُفْيَانَ بنِ يَزِيْدَ الفَارِسِيُّ الأَصْلِ، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ اليَزِيْدِيُّ مَوْلَى الأَمِيْر يَزِيْدَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ الأُمَوِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - المَعْرُوف بيَزِيْد الخَيْر، نَائِب أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ أَبِي حَفْصٍ عُمَر عَلَى دِمَشْقَ، الفَقِيْهُ الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، فَكَانَ جَدُّهُ يَزِيْد
مَوْلَى لِلأَمِيْر يَزِيْد أَخِي مُعَاوِيَة.وَكَانَ جَدُّهُ خَلَفُ بنُ مَعْدَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الأَنْدَلُس فِي صحَابَة ملك الأَنْدَلُس عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن مُعَاوِيَةَ بنِ هِشَامٍ؛ المَعْرُوف بِالدَّاخل.
وَلد: أَبُو مُحَمَّدٍ بقُرْطُبَة فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَة.
وَسَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَع مائَة وَبعدهَا مِنْ طَائِفَة مِنْهُم: يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة؛ صَاحِبِ قَاسِم بن أَصْبَغ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخ عِنْدَهُ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ.
وَيَنْزِلُ إِلَى أَنْ يَرْوِي عَنْ: أَبِي عُمَرَ بن عبدِ البرِّ، وَأَحْمَدَ بنِ عُمَرَ بنِ أَنَس العُذْرِيّ.
وَأَجْوَد مَا عِنْدَهُ مِنَ الكُتُب (سُنَن النَّسَائِيّ) يَحمله عَنِ ابْنِ رَبيع، عَنِ ابْنِ الأَحْمَر، عَنْهُ.
وَأَنْزَل مَا عِنْدَهُ (صَحِيْحُ مُسْلِم) ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَمْسَةُ رِجَال، وَأَعْلَى مَا رَأَيْتُ لَهُ حَدِيْثٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَكِيْع فِي ثَلاَثَةُ أَنْفُس.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَوَالِد
القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِي، وَطَائِفَة.وَآخر مَنْ رَوَى عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ بِالإِجَازَة أَبُو الحَسَنِ شُرَيْح بن مُحَمَّد.
نشَأَ فِي تَنَعُّمٍ وَرفَاهيَّة، وَرُزِقَ ذكَاء مُفرطاً، وَذِهْناً سَيَّالاً، وَكُتُباً نَفِيْسَةً كَثِيْرَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاء أَهْل قُرْطُبَة؛ عَمل الوزَارَةَ فِي الدَّوْلَة العَامِرِيَّة، وَكَذَلِكَ وَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي شَبِيْبته، وَكَانَ قَدْ مَهر أَوَّلاً فِي الأَدب وَالأَخْبَار وَالشّعر، وَفِي الْمنطق وَأَجزَاءِ الفلسفَة، فَأَثَّرت فِيْهِ تَأْثيراً لَيْتَهُ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ وَقفتُ لَهُ عَلَى تَأَلِيف يَحضُّ فِيْهِ عَلَى الاعتنَاء بِالمنطق، وَيُقَدِّمه عَلَى العلُوْم، فَتَأَلَّمت لَهُ، فَإِنَّهُ رَأْسٌ فِي علُوْم الإِسْلاَم، مُتَبَحِّر فِي النَّقْل، عَديمُ النّظير عَلَى يُبْسٍ فِيْهِ، وَفَرْطِ ظَاهِرِيَّة فِي الْفُرُوع لاَ الأُصُوْل.
قِيْلَ: إِنَّهُ تَفَقَّهَ أَوَّلاً لِلشَافعِيّ، ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى القَوْل بنفِي القيَاس كُلّه جَلِيِّه وَخَفِيِّه، وَالأَخْذ بِظَاهِرِ النَّصّ وَعمومِ الكِتَاب وَالحَدِيْث، وَالقَوْلِ بِالبَرَاءة الأَصْليَّة، وَاسْتصحَاب الحَال، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كتباً كَثِيْرَة، وَنَاظر عَلَيْهِ، وَبسط لِسَانَه وَقلمَه، وَلَمْ يَتَأَدَّب مَعَ الأَئِمَّة فِي الخَطَّاب، بَلْ فَجَّج العبَارَة، وَسبَّ وَجَدَّع، فَكَانَ جزَاؤُه مِنْ جِنس فِعله، بِحَيْثُ إِنَّهُ أَعْرَضَ
عَنْ تَصَانِيْفه جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهَجَرُوهَا، وَنفرُوا مِنْهَا، وَأُحرقت فِي وَقت، وَاعْتَنَى بِهَا آخرُوْنَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَفَتَّشوهَا انتقَاداً وَاسْتفَادَة، وَأَخذاً وَمُؤَاخذَة، وَرَأَوا فِيْهَا الدُّرَّ الثّمِينَ ممزوجاً فِي الرَّصْفِ بِالخَرَزِ المَهين، فَتَارَةٌ يَطربُوْنَ، وَمرَّةً يُعجبُوْنَ، وَمِنْ تَفَرُّدِهِ يهزؤُون.وَفِي الجُمْلَةِ فَالكَمَالُ عزِيز، وَكُلُّ أَحَد يُؤْخَذ مِنْ قَوْله وَيُتْرَك، إِلاَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَانَ يَنهض بعلُوْمٍ جَمَّة، وَيُجيد النَّقل، وَيُحْسِنُ النّظم وَالنثر.
وَفِيْهِ دِينٌ وَخير، وَمقَاصدُهُ جمِيْلَة، وَمُصَنّفَاتُهُ مُفِيدَة، وَقَدْ زهد فِي الرِّئَاسَة، وَلَزِمَ مَنْزِله مُكِبّاً عَلَى العِلْم، فَلاَ نغلو فِيْهِ، وَلاَ نَجْفو عَنْهُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلنَا الكِبَارُ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ الغزَالِي :وَجَدْتُ فِي أَسْمَاء الله تَعَالَى كِتَاباً أَلفه أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيّ يَدلُّ عَلَى عِظَمِ حَفِظه وَسَيَلاَن ذِهنه.
وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو القَاسِمِ صَاعِدُ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ أَجْمَعَ أَهْل الأَنْدَلُس قَاطبَة لعلُوْم الإِسْلاَم، وَأَوسعَهم مَعْرِفَة مَعَ تَوسعه فِي عِلم اللِّسَان، وَوُفور حَظِّه مِنَ البلاغَة وَالشّعر، وَالمَعْرِفَة بِالسير وَالأَخْبَار؛ أَخْبَرَنِي ابْنُه الفَضْل أَنَّهُ اجْتَمَع عِنْدَهُ بِخَط أَبِيْهِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ تَوَالِيفه أَرْبَعُ مائَةِ مُجَلد تَشتمِل عَلَى قَرِيْب مِنْ ثَمَانِيْنَ أَلفِ وَرقَة.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيّ :كَانَ ابْنُ حَزْمٍ حَافِظاً لِلْحَدِيْثِ وَفقهه،
مُسْتنبطاً لِلأَحكَام مِنَ الكِتَاب وَالسُّنَّة، مُتَفَنِّناً فِي عُلُوْمٍ جَمَّة، عَامِلاً بِعِلْمه، مَا رَأَينَا مِثْلَه فِيمَا اجْتَمَع لَهُ مِنَ الذّكَاء، وَسُرعَةِ الحِفْظ، وَكَرَمِ النَفْس وَالتَّدين، وَكَانَ لَهُ فِي الأَدب وَالشّعر نَفَس وَاسِع، وَبَاعٌ طَوِيْل، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ يَقُوْلُ الشِّعر عَلَى البَديهِ أَسرعَ مِنْهُ، وَشِعره كَثِيْر جَمَعتُه عَلَى حُرُوف المُعْجَم.وَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صَاعِد: كَانَ أَبُوْهُ أَبُو عُمَرَ مِنْ وَزرَاء المَنْصُوْر مُحَمَّد بن أَبِي عَامِرٍ، مُدبِّر دَوْلَة المُؤَيَّد بِاللهِ بن المُسْتنصر المَرْوَانِي، ثُمَّ وَزَرَ لِلمظفر، وَوَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ لِلمُسْتظهر عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن هِشَامٍ، ثُمَّ نَبذ هَذِهِ الطّرِيقَة، وَأَقْبَلَ عَلَى العلُوْم الشرعيَّة، وَعُنِي بِعِلْم الْمنطق وَبَرَعَ فِيْهِ، ثُمَّ أَعرض عَنْهُ.
قُلْتُ: مَا أَعرض عَنْهُ حَتَّى زرع فِي بَاطِنه أُمُوْراً وَانحرَافاً عَنِ السّنَة.
قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى علُوْم الإِسْلاَم حَتَّى نَال مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنَلْهُ أَحَد بِالأَنْدَلُسِ قَبْلَهُ.
وَقَدْ حَطَّ أَبُو بَكْرٍ بنُ العَرَبِي عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ (القوَاصم وَالعوَاصم ) وَعَلَى الظَّاهِرِيَّة، فَقَالَ: هِيَ أمة سخيفَة، تَسَوَّرتْ عَلَى مرتبَة لَيْسَتْ لَهَا، وَتَكلمت بكَلاَمٍ لَمْ نَفْهمه، تَلَقَّوهُ مِنْ إِخْوَانهم الخَوَارِج حِيْنَ حكَّم عليّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَوْمَ صفِّين، فَقَالَتْ: لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ.
وَكَانَ أَوّلَ
بدعَة لقيتُ فِي رحلتِي القَوْلُ بِالبَاطِن، فَلَمَّا عُدتُ وَجَدْت القَوْل بِالظَّاهِر قَدْ ملأَ بِهِ المَغْرِبَ سخيفٌ كَانَ مِنْ بَادِيَة إِشْبِيلِية يُعْرَفُ بِابْنِ حَزْم، نشَأَ وَتعلَّق بِمَذْهَب الشَّافِعِيّ، ثُمَّ انْتسب إِلَى دَاوُد، ثُمَّ خلع الكُلَّ، وَاسْتقلَّ بِنَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إِمَام الأُمَّة يَضع وَيَرفع، وَيْحَكم وَيَشرع، يَنْسِبُ إِلَى دين الله مَا لَيْسَ فِيْهِ، وَيَقُوْلُ عَنِ العُلَمَاء مَا لَمْ يَقولُوا تَنفِيراً لِلقُلُوْب مِنْهُم، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيْق المُشبِّهَة فِي ذَات الله وَصِفَاته، فَجَاءَ فِيْهِ بطوَامَّ، وَاتَّفَقَ كَوْنُهُ بَيْنَ قَوْم لاَ بَصَرَ لَهم إِلاَّ بِالمَسَائِل، فَإِذَا طَالبهم بِالدليل كَاعُوا، فَيَتَضَاحكُ مَعَ أَصْحَابه مِنْهُم، وَعَضَدَتْهُ الرِّئَاسَةُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَدب، وَبشُبَهٍ كَانَ يُورِدُهَا عَلَى المُلُوْك، فَكَانُوا يَحملونه، وَيَحمُونه، بِمَا كَانَ يُلقِي إِلَيْهِم مِنْ شُبه البِدَع وَالشِّرْك، وَفِي حِيْنَ عَوْدي مِنَ الرّحلَة أَلفيتُ حضَرتِي مِنْهم طَافحَة، وَنَارَ ضلاَلهم لاَفحَة، فَقَاسيتهم مَعَ غَيْر أَقرَان، وَفِي عدمِ أَنْصَار إِلَى حسَاد يَطؤون عَقِبِي، تَارَة تَذْهَب لَهم نَفْسِي، وَأُخْرَى يَنكشر لَهم ضِرسِي، وَأَنَا مَا بَيْنَ إِعرَاضٍ عَنْهم أَوْ تَشغِيبٍ بِهِم، وَقَدْ جَاءنِي رَجُلٌ بِجُزء لابْنِ حَزْم سَمَّاهُ (نكت الإِسْلاَم) فِيْهِ دوَاهِي، فَجردت عَلَيْهِ نوَاهِي، وَجَاءنِي آخر برِسَالَة فِي الاعْتِقَاد، فَنَقَضْتُهَا برِسَالَة (الغُرَّة ) وَالأَمْرُ أَفحش مِنْ أَنْ يُنقض.يَقُوْلُوْنَ: لاَ قَوْلَ إِلاَّ مَا قَالَ اللهُ، وَلاَ نَتْبَعُ إِلاَّ رَسُوْل اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمر بِالاَقتدَاءِ بِأَحد، وَلاَ بِالاَهتدَاء بِهَدْيِ بشر.
فِيجب أَنْ يَتحققُوا أَنَّهم لَيْسَ لَهم دَلِيل، وَإِنَّمَا هِيَ سَخَافَة فِي تَهويل، فَأُوصيكُم بِوَصِيَّتَيْنِ: أَنْ لاَ تَسْتدلُوا عَلَيْهِم، وَأَن تُطَالبوهم بِالدَّليل، فَإِنَّ المُبْتَدِع إِذَا اسْتدللت عَلَيْهِ شَغَّبَ
عَلَيْك، وَإِذَا طَالبته بِالدليل لَمْ يَجِدْ إِلَيْهِ سَبِيلا.فَأَمَّا قَوْلهُم: لاَ قَوْلَ إِلاَّ مَا قَالَ اللهُ، فَحق، وَلَكِنْ أَرنِي مَا قَالَ.
وَأَمَّا قَوْلهُم: لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الإِطلاَق، بَلْ مِنْ حُكْمِ الله أَنْ يَجْعَلَ الحُكْمَ لغَيْرِهِ فِيمَا قَالَهُ وَأَخبر بِهِ.
صَحَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَلاَ تُنْزِلْهم عَلَى حُكْمِ الله، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حُكْمُ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهم عَلَى حُكْمِكَ ) .
وَصَحَّ أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُم بِسَنَّتِي وَسُنَّة الخُلَفَاء ... ) الحَدِيْث.
قُلْتُ: لَمْ يُنْصِفِ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - شَيْخَ أَبِيْهِ فِي العِلْمِ، وَلاَ تَكَلَّمَ فِيْهِ بِالقِسْطِ، وَبَالَغَ فِي الاسْتخفَاف بِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ فَعَلَى عَظمته فِي العِلْمِ لاَ يَبْلُغُ رُتْبَة أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلاَ يَكَاد، فَرحمهُمَا الله وَغفر لَهُمَا.
قَالَ اليَسَعُ ابْنُ حَزْمٍ الغَافِقِيّ وَذَكَرَ أَبَا مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَمَا مَحْفُوْظُهُ فَبحرٌ عَجَّاج، وَمَاءٌ ثَجَّاج، يَخْرُج مِنْ بحره مَرجَان الحِكَم، وَيَنبت بِثَجَّاجه أَلفَافُ النِّعم فِي رِيَاض الهِمم، لَقَدْ حَفِظ علُوْمَ المُسْلِمِيْنَ، وَأَربَى عَلَى كُلّ أَهْل دين، وَأَلَّف (الْملَل وَالنحل) وَكَانَ فِي صِبَاهُ يَلْبَس الحَرِيْر، وَلاَ يَرْضَى مِنَ المَكَانَة إِلاَّ بِالسَّرِيْر.
أَنْشَدَ المعتمدَ، فَأَجَاد، وَقصد بَلَنْسِيةَ وَبِهَا المُظَفَّر
أَحَد الأَطوَاد.وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُمَرُ بنُ وَاجِب قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد أَبِي بِبَلَنْسِيةَ وَهُوَ يُدَرِّسُ المَذْهَب، إِذَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم يَسْمَعُنَا، وَيَتَعَجَّب، ثُمَّ سَأَلَ الحَاضِرِيْنَ مَسْأَلَةً مِنَ الفِقْهِ، جُووب فِيْهَا، فَاعْترَض فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الحُضَّار: هَذَا العِلْمُ لَيْسَ مِنْ مُنْتَحَلاَتِكَ، فَقَامَ وَقَعَدَ، وَدَخَلَ مَنْزِله فَعكَف، وَوَكَفَ مِنْهُ وَابِلٌ فَمَا كَفَّ، وَمَا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَرِيْبَة حَتَّى قَصَدْنَا إِلَى ذَلِكَ المَوْضِع، فَنَاظر أَحْسَن منَاظرَة، وَقَالَ فِيْهَا: أَنَا أَتبع الحَقَّ، وَأَجتهد، وَلاَ أَتَقَيَّدُ بِمَذْهَب.
قُلْتُ: نَعم، مَنْ بَلَغَ رُتْبَة الاجْتِهَاد، وَشَهِد لَهُ بِذَلِكَ عِدَّة مِنَ الأَئِمَّةِ، لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ، كَمَا أَنَّ الفَقِيْه المُبتدئ وَالعَامِي الَّذِي يَحفظ القُرْآن أَوْ كَثِيْراً مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَاد أَبَداً، فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ، وَمَا الَّذِي يَقُوْلُ؟ وَعلاَم يَبنِي؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّش؟
وَالقِسم الثَّالِث: الفَقِيْهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث، الَّذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَراً فِي الْفُرُوع، وَكِتَاباً فِي قوَاعد الأُصُوْل، وَقرَأَ النَّحْو، وَشَاركَ فِي الفضَائِل مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغله بتَفْسِيْره وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ، فَهَذِهِ رُتْبَة مِنْ بلغَ الاجْتِهَاد المُقيَّد، وَتَأَهَّل لِلنظر فِي دلاَئِل الأَئِمَّة، فَمتَى وَضحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَة، وَثبت فِيْهَا النَّصّ، وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً، أَوْ كَمَالِك، أَوِ الثَّوْرِيِّ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، أَوِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاق، فَلْيَتَّبع فِيْهَا الحَقّ وَلاَ يَسْلُكِ الرّخصَ، وَلِيَتَوَرَّع، وَلاَ يَسَعُه فِيْهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقليدٌ.
فَإِن خَاف مِمَّنْ
يُشَغِّب عَلَيْهِ مِنَ الفُقَهَاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا، فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ، وَأَحَبّ الظُهُوْر، فَيُعَاقب، وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ، وَأَمر بِالمَعْرُوف، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ، وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة، فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء، كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة، وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ، فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ، وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ، وَالعجبِ، وَلُبْسِ القرَاقل المُذَهَّبَة، وَالخُوذ المزخرفَة، وَالعُدد المُحلاَّة عَلَى نُفُوْس مُتكبّرَةٍ، وَفُرْسَان مُتجبِّرَة، وَيَنضَاف إِلَى ذَلِكَ إِخلاَلٌ بِالصَّلاَة، وَظُلم لِلرَّعيَّة، وَشُرب لِلمسكر، فَأَنَّى يُنْصرُوْن؟ وَكَيْفَ لاَ يُخذلُوْن؟ اللَّهُمَّ: فَانصر دينَك، وَوَفِّق عِبَادك.فَمَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلعمل كَسره العِلْمُ، وَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ طلب العِلْم لِلمدَارس وَالإِفتَاء وَالفخر وَالرِّيَاء، تحَامقَ، وَاختَال، وَازدرَى بِالنَّاسِ، وَأَهْلكه العُجْبُ، وَمَقَتَتْهُ الأَنْفُس {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ... وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشَّمْس:9 و10] أَي دسَّسَهَا بِالفجُور وَالمَعْصِيَة.
قُلِبَتْ فِيْهِ السِّينُ أَلِفاً.قَالَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَم - وَكَانَ أَحَدَ المُجْتَهِدين -:مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الإِسْلاَم فِي العِلْمِ مِثْل (المحلَّى ) لابْنِ حَزْم، وَكِتَاب (المُغنِي) لِلشَّيْخِ مُوَفَّق الدِّيْنِ.
قُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ.
وَثَالِثهُمَا: (السُّنَن الكَبِيْر) لِلبيهقِي.
وَرَابعهَا : (التّمهيد) لابْنِ عبدِ الْبر.
فَمَنْ حصَّل هَذِهِ الدَّوَاوِيْن، وَكَانَ مِنْ أَذكيَاء الْمُفْتِينَ، وَأَدمنَ المُطَالعَة فِيْهَا، فَهُوَ العَالِم حَقّاً.
وَلابْنِ حَزْم مُصَنّفَات جَلِيْلَة: أَكْبَرُهَا كِتَاب (الإِيصَال إِلَى فَهم كِتَاب الخِصَال) خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف وَرقَة، وَكِتَاب (الخِصَال الحَافِظ لِجمل
شرَائِع الإِسْلاَم) مُجَلَّدَان، وَكِتَاب (المُجَلَّى ) فِي الفِقْه مُجَلَّد، وَكِتَاب (المُحَلَّى فِي شرح المُجَلَّى بِالحجج وَالآثَار) ثَمَانِي مُجَلَّدَات، كِتَاب (حَجَّة الوَدَاعِ) مائَة وَعِشْرُوْنَ وَرقَة، كِتَاب (قسمَة الخَمْس فِي الرَّدِّ عَلَى إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي) مُجَلَّد، كِتَاب (الآثَار الَّتِي ظَاهِرهَا التعَارض وَنفِي التنَاقض عَنْهَا) يَكُوْن عَشْرَة آلاَف وَرقَة، لَكِن لَمْ يُتِمَّه، كِتَاب (الجَامِع فِي صَحِيْح الحَدِيْث) بِلاَ أَسَانِيْد، كِتَاب (التَّلخيص وَالتَّخليص فِي المَسَائِل النّظرِيَّة ) كِتَاب (مَا انْفَرد بِهِ مَالِك وَأَبُو حنِيفَة وَالشَّافِعِيّ ) ، (مُخْتَصَر الْموضح) لأَبِي الحَسَن بن الْمُغلس الظَّاهِرِي، مُجَلد، كِتَاب (اخْتِلاَف الفُقَهَاء الخَمْسَة مَالِك، وَأَبِي حَنِيْفَةَ، وَالشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَدَاوُد) كِتَاب (التَّصفح فِي الفِقْه) مُجَلَّد، كِتَاب (التَّبيين فِي هَلْ عَلِمَ المُصْطَفَى أَعيَان المُنَافِقين) ثَلاَثَة كَرَارِيْس، كِتَاب (الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ) أَلف وَرقَة.
كِتَاب (الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه) أَلف وَرقَة أَيْضاً، كِتَاب (در القوَاعد فِي فَقه الظَّاهِرِيَّة) أَلف وَرقَة أَيْضاً، كِتَاب (الإِجْمَاع ) مُجيليد، كِتَاب (الفَرَائِض) مُجَلَّد، كِتَاب (الرِّسَالَة البلقَاء فِي الرَّدِّ عَلَى عبد الحَقّ بن مُحَمَّدٍ الصَّقَلِي) مُجيليد، كِتَاب (الإِحكَام لأُصُوْل الأَحكَام ) مُجَلَّدَان، كِتَاب (الفِصَل فِي الْملَل وَالنِّحل ) مُجَلَّدَان كَبِيْرَان، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى مَنِ اعْترض عَلَى الفَصْل) لَهُ، مُجَلَّد، كِتَاب (اليَقين فِي نَقض تَمويه المعتذرِيْنَ عَنْ إِبليس وَسَائِر المُشْرِكِيْنَ) مُجَلَّد كَبِيْر، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى ابْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِيّ) مائَة وَرقَة، كِتَاب (التَّرشيد فِي الرَّدّ عَلَى كِتَابِ الفرِيْد) لابْنِ الرَّاوندي فِي اعترَاضه عَلَى النّبوَات مُجَلَّد، كِتَاب (الرَّدّ عَلَى مَنْ كفر المتَأَوِّلين مِنَ المُسْلِمِيْنَ) مُجَلَّد، كِتَاب (مُخْتَصَر فِي علل الحَدِيْث) مُجَلَّد، كِتَاب (التَّقَرِيْب لَحْد الْمنطق بِالأَلْفَاظ العَامِيَّة) مُجَلَّد، كِتَاب (الاسْتجلاَب) مُجَلَّد، كِتَاب (نَسَب البَرْبَر) مُجَلَّد، كِتَاب (نَقْطُ الْعَرُوس ) مُجيليد، وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِمَّا لَهُ فِي جُزْء أَوْ كُرَّاس: (مُرَاقبَة أَحْوَال الإِمَام) ، (مِنْ ترك الصَّلاَة
عمداً) ، (رِسَالَة المُعَارَضَة) ، (قصر الصَّلاَة) ، (رِسَالَة التَأكيد) ، (مَا وَقَعَ بَيْنَ الظَّاهِرِيَّة وَأَصْحَاب القيَاس) ، (فَضَائِل الأَنْدَلُس ) ، (العتَاب عَلَى أَبِي مَرْوَانَ الخَوْلاَنِيّ) ، (رِسَالَة فِي مَعْنَى الفِقْه وَالزُّهْد) ، (مَرَاتِب العُلَمَاء وَتوَالِيفهُم) ، (التَّلْخِيص فِي أَعْمَال العبَاد) ، (الإِظهَار لمَا شُنِّعَ بِهِ عَلَى الظَّاهِرِيَّة) ، (زجر الغَاوِي) جُزآن (النّبذ الكَافِيَة) ، (النّكت الموجزَة فِي نَفِي الرَّأْي وَالقيَاس وَالتَّعليل وَالتَّقليد) مُجَلَّد صَغِيْر، (الرِّسَالَة اللاَزمَة لأَولِي الأَمْر) ، (مُخْتَصَر الْملَل وَالنِّحل) مُجَلَّد (الدّرَة فِي مَا يَلزم المُسْلِم) جُزآن (مَسْأَلَة فِي الرُّوح ) ، (الرَّدّ عَلَى إِسْمَاعِيْلَ اليَهودي، الَّذِي أَلَّف فِي تَنَاقض آيَات) ، (النَّصَائِح المنجيَة ) ، (الرِّسَالَة الصُّمَادحية فِي الْوَعْد وَالوعيد) ، (مَسْأَلَة الإِيْمَان) ، (مَرَاتِب العلُوْم) ، (بيَان غلط عُثْمَان بن سَعِيْدٍ الأَعْوَر فِي المُسْنَد وَالمُرسل) . (تَرْتِيْب
سُؤَالاَت عُثْمَان الدَّارِمِيّ لابْنِ مَعِيْنٍ) ، (عدد مَا لِكُلِّ صَاحِب فِي مُسند بَقِيّ) ، (تسمِيَة شُيُوْخ مَالِك) ، (السِّير وَالأَخلاَق) جُزآن (بيَان الفَصَاحَة وَالبلاغَة) رِسَالَة فِي ذَلِكَ إِلَى ابْنِ حَفْصُوْنَ (مَسْأَلَة هَلِ السَّوَاد لُوْنٌ أَوْ لاَ) ، (الحدّ وَالرَّسم) ، (تسمِيَة الشُّعَرَاء الوَافدين عَلَى ابْنِ أَبِي عَامِرٍ) ، (شَيْء فِي الْعرُوض) ، (مُؤَلّف فِي الظَّاء وَالضَاد) ، (التَّعقب عَلَى الأَفليلِي فِي شَرحه لديوَان المتنبِّي) ، (غَزَوَات المَنْصُوْر بن أَبِي عَامِرٍ) ، (تَألِيف فِي الرَّدِّ عَلَى أَنَاجيل النَّصَارَى) .وَلابْنِ حَزْم: (رِسَالَة فِي الطِّبّ النّبوِي) وَذَكَرَ فِيْهَا أَسْمَاء كتب لَهُ فِي الطِّبّ مِنْهَا: (مَقَالَة العَادَة ) ، وَ (مَقَالَة فِي شفَاء الضِّدّ بِالضِّدِّ) ، وَ (شَرْح فَصول بقرَاط) ، وَكِتَاب (بلغَة الحَكِيْم) ، وَكِتَاب (حدّ الطِّبّ) ، وَكِتَاب (اخْتصَار كَلاَم جَالينوس فِي الأَمرَاض الحَادَّة) ، وَكِتَاب فِي (الأَدويَة المفردَة) ، وَ (مَقَالَة فِي المحَاكمَة بَيْنَ التَّمْر وَالزَّبِيْب) ، وَ (مَقَالَة فِي النَّخْل ) وَأَشيَاء سِوَى ذَلِكَ.
وَقَدِ امتُحن لِتطويل لِسَانه فِي العُلَمَاء، وشُرِّد عَنْ وَطَنه، فَنَزَلَ بقَرْيَة لَهُ، وَجَرَتْ لَهُ أُمُوْرٌ، وَقَامَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ المَالِكِيَّة، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي الوَلِيْد البَاجِي مُنَاظرَاتٌ وَمُنَافُرَاتٌ، وَنَفَّرُوا مِنْهُ مُلُوْكَ النَّاحيَة، فَأَقْصَتْهُ الدَّوْلَة، وَأَحرقت مجلدَاتٌ مِنْ كتبِهِ، وَتَحَوَّل إِلَى بَادِيَة لَبْلَة فِي قَرْيَة.قَالَ أَبُو الخَطَّاب ابْنُ دِحْيَة: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ قَدْ بَرِصَ مِنْ أَكل اللُّبانَ، وَأَصَابه زَمَانة، وَعَاشَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ سَنَةً غَيْر شَهْر.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللهُ - يَسْتَعْمَل اللُّبانَ لقُوَة الحِفْظ،
فَولَّدَ لَهُ رَمْيَ الدَّم.قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ العرِيف: كَانَ لِسَان ابْنِ حَزْمٍ وَسيفُ الحجَاجِ شَقِيقَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ طَرْخَان التركِي: قَالَ لِي الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بن مُحَمَّد - يَعْنِي: وَالِد أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِي -:
أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ أَن سَبَبَ تَعَلُّمه الفِقْه أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَة، فَدَخَلَ المَسْجَدَ، فَجَلَسَ، وَلَمْ يَركع، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قُمْ فَصلِّ تحيَّة المَسْجَد.
وَكَانَ قَدْ بلغَ سِتّاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
قَالَ: فَقُمْتُ وَركعتُ، فَلَمَّا رَجَعنَا مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى الجِنَازَة، دَخَلْتُ المَسْجَد، فَبَادرتُ بِالرُّكُوْع، فَقِيْلَ لِي: اجْلِسْ اجْلِسْ، لَيْسَ ذَا وَقتَ صَلاَة - وَكَانَ بَعْد العَصْر - قَالَ: فَانْصَرَفت وَقَدْ حَزِنْتُ، وَقُلْتُ لِلأسْتَاذ الَّذِي رَبَّانِي: دُلنِي عَلَى دَار الفَقِيْه أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ دحُّوْنَ.
قَالَ: فَقصدتُه، وَأَعْلَمتُه بِمَا جرَى، فَدلَّنِي عَلَى (مُوَطَّأ مَالِكٍ) ، فَبدَأَتُ بِهِ عَلَيْهِ، وَتتَابعت قِرَاءتِي عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَحْواً مِنْ ثَلاَثَة أَعْوَام، وَبدَأتُ بِالمنَاظرَة.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ العَرَبِي :صَحِبتُ ابْنَ حَزْمٍ سَبْعَةَ أَعْوَام، وَسَمِعْتُ مِنْهُ جمِيْع مُصَنّفَاته سِوَى المُجَلَّد الأَخِيْر مِنْ كِتَاب (الْفَصْل) ، وَهُوَ سِتُّ مُجَلَّدَات، وَقرَأَنَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَاب (الإِيصَال) أَرْبَع مُجَلَّدَات فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَع مائَة، وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُوْنَ مجلداً، وَلِي مِنْهُ إِجَازَة غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَالَ أَبُو مَرْوَان بن حَيَّان: كَانَ ابْنُ حَزْمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - حَامِل فُنُوْن مِنْ حَدِيْثٍ وَفقهٍ وَجَدَلٍ وَنَسَبٍ، وَمَا يَتعلَّق بِأَذِيَال الأَدب، مَعَ المُشَارَكَة فِي أَنْوَاع التَّعَالِيم القَدِيْمَة مِنَ المَنطق وَالفلسفَة، وَلَهُ كُتب كَثِيْرَة لَمْ يَخلُ فِيْهَا مِنْ غَلَطٍ لِجرَاءته فِي التَّسوُّر عَلَى الفُنُوْن لاَ سِيَّمَا الْمنطق، فَإِنَّهم زَعَمُوا أَنَّهُ زَلَّ هنَالك، وَضَلَّ فِي سُلُوْك المسَالك، وَخَالف أَرسطَاطَاليس وَاضِعَ الْفَنّ مُخَالَفَةَ مِنْ لَمْ يَفهم غَرَضَه، وَلاَ ارْتَاض، وَمَال أَوَّلاً إِلَى النَّظَر عَلَى رَأْي الشَّافِعِيّ، وَنَاضل عَنْ مَذْهَبه حَتَّى وُسِمَ بِهِ، فَاسْتُهْدِفَ بِذَلِكَ لَكَثِيْر مِنَ الفُقَهَاء، وَعِيْبَ بِالشُّذوذ، ثُمَّ عَدَل إِلَى قَوْل أَصْحَاب الظَّاهِر، فَنقَّحه، وَجَادَل عَنْهُ، وَثبتَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ يحمل علمه هَذَا، وَيُجَادل عَنْهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى اسْترسَالٍ فِي طِبَاعِهِ، وَمَذَلٍ بِأَسرَارِهِ، وَاسْتنَادٍ إِلَى العَهْد الَّذِي أَخَذَهُ الله عَلَى العُلَمَاءِ: {لتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُوْنَهُ } فَلَمْ يَكُ يُلَطِّفُ صَدْعَهُ بِمَا عِنْدَهُ بِتعرِيض وَلاَ بتدرِيج، بَلْ يَصكُّ بِهِ مَنْ عَارضَهُ صكَّ الجَنْدَل، وَيُنْشِقه إِنشَاق الخَرْدَل، فَتنفِرُ عَنْهُ القُلُوْبُ، وَتُوقع بِهِ النّدوب، حَتَّى اسْتُهْدِفَ لفُقَهَاء وَقته، فَتمَالؤُوا عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تضليلِهِ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ، وَحَذَّرُوا سلاَطينهم مِنْ فِتنتهِ، وَنهوا عَوَامَّهم عَنِ الدنوِّ مِنْهُ، فَطفق المُلُوْك
يُقصونه عَنْ قُربهم، وَيُسَيِّرُوْنَهُ عَنْ بلادِهِم إِلَى أَنِ انْتَهوا بِهِ مُنْقَطع أَثرِه: بَلْدَة مِنْ بَادِيَة لَبْلَة.وَهُوَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُرتدِع وَلاَ رَاجع، يَبُثُّ علمه فِيْمَنْ يَنْتَابه مِنْ بَادِيَة بلدِهِ، مِنْ عَامَّة المُقتبسينَ مِنْ أَصَاغِرِ الطَّلبَة، الَّذِيْنَ لاَ يَخشُوْنَ فِيْهِ المَلاَمَة، يُحَدِّثهُم، وَيُفَقِّههُم، وَيُدَارسهُم، حَتَّى كَمَلَ مِنْ مُصَنّفَاته وَقْرُ بعير، لَمْ يَعْدُ أَكْثَرُهَا بَادِيَتَه لزُهْد الفُقَهَاء فِيْهَا، حَتَّى لأُحْرِقَ بَعْضُهَا بِإِشبيلية، وَمُزِّقَتْ عَلاَنِيَةً، وَأَكْثَرُ معَايبه - زَعَمُوا عِنْد المنصَف - جَهلُه بسيَاسَة العِلْم الَّتِي هِيَ أَعوصُ... ، وَتَخلُّفه عَنْ ذَلِكَ عَلَى قوَةِ سَبْحه فِي غِمَاره، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ بِالسَّلِيم مِنِ اضطرَاب رَأيه، وَمغِيبِ شَاهد علمه عَنْهُ عِنْد لقَائِهِ، إِلَى أَنْ يُحَرَّكَ بِالسُّؤَال، فِيتفجَّر مِنْهُ بحرُ عِلْمٍ لاَ تُكَدِّرُهُ الدّلاَء، وَكَانَ مِمَّا يَزِيْدُ فِي شَنَآنه تَشيُّعه لأُمَرَاء بَنِي أُمَيَّةَ مَاضِيهم وَبَاقيهِم، وَاعْتِقَادُهُ لِصِحَّةِ إِمَامتهِم، حَتَّى لنُسب إِلَى النَّصْبِ.
قُلْتُ: وَمِنْ تَوَالِيفه: كِتَاب (تَبديل اليَهُوْد وَالنَّصَارَى لِلتَّورَاة وَالإِنجيل ) ، وَقَدْ أَخَذَ الْمنطق - أَبعدَهُ الله مِنْ عِلمٍ - عَنْ: مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ المَذْحِجِيّ، وَأَمعَنَ فِيْهِ، فَزلزله فِي أَشيَاء، وَلِي أَنَا مَيْلٌ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ
لمَحَبَّته فِي الحَدِيْثِ الصَّحِيْح، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أُوَافِقُهُ فِي كَثِيْرٍ مِمَّا يَقولُهُ فِي الرِّجَالِ وَالعلل، وَالمَسَائِل البَشِعَةِ فِي الأُصُوْلِ وَالفروع، وَأَقطعُ بخطئِهِ فِي غَيْرِ مَا مَسْأَلَةٍ، وَلَكِن لاَ أُكَفِّره، وَلاَ أُضَلِّلُهُ، وَأَرْجُو لَهُ العفوَ وَالمُسَامحَة وَللمُسْلِمِيْنَ.وَأَخضعُ لِفَرْطِ ذكَائِهِ وَسَعَة علُوْمِهِ، وَرَأَيْتهُ قَدْ ذَكَرَ قَوْل مَنْ يَقُوْلُ: أَجَلُّ المُصَنَّفَاتِ (المُوَطَّأ) .
فَقَالَ: بَلْ أَوْلَى الكُتُب بِالتَّعَظِيْم (صَحيحَا) البُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَ (صَحِيْح ابْن السَّكَن) ، وَ (مُنتقَى ابْن الجَارُوْدِ) ، وَ (المنتقَى) لقَاسِم بن أَصْبَغ، ثُمَّ بَعْدَهَا كِتَاب أَبِي دَاوُدَ، وَكِتَاب النَّسَائِيّ، وَ (المصَنّف) لقَاسِم بن أَصْبَغ، (مصَنّف أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ) .
قُلْتُ: مَا ذكر (سُنَن ابْنِ مَاجَه) ، وَلاَ (جَامِع أَبِي عِيْسَى) ؛فَإِنَّهُ مَا رَآهُمَا، وَلاَ أُدخِلا إِلَى الأَنْدَلُسِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَ (مُسْنَد البَزَّار) ، وَ (مُسْنَد ابْنَي أَبِي شَيْبَةَ) ، وَ (مُسْنَد أَحْمَد بن حَنْبَلٍ) ، وَ (مُسْنَد إِسْحَاق) ، وَ (مُسْنَد) الطَّيَالِسِيّ، وَ (مُسْنَد) الحَسَن بن سُفْيَانَ، وَ (مُسْنَد ابْن سَنْجَر) ، وَ (مُسْنَد عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدٍ) المُسْنَدِي، وَ (مُسْنَد يَعْقُوْب بن شَيْبَةَ) ، وَ (مُسْنَد عَلِيّ بن المَدِيْنِيِّ) ، وَ (مُسْنَد ابْن أَبِي غَرَزَةَ).
وَمَا جرَى مجرَى هَذِهِ الكُتُب الَّتِي أُفْرِدَتْ لِكَلاَمِ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِرْفاً، ثُمَّ الكُتُب الَّتِي فِيْهَا كلامُهُ وَكَلاَمُ غَيْره
مِثْل (مصَنّف عَبْد الرَّزَّاقِ) ، وَ (مُصَنَّف أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ) ، وَ (مُصَنَّف بَقِيَ بن مَخْلَدٍ) ، وَكِتَاب مُحَمَّد بن نَصْرٍ المَرْوَزِيّ، وَكِتَاب ابْن المُنْذِرِ الأَكْبَر وَالأَصْغَر، ثُمَّ (مُصَنَّف حَمَّاد بن سَلَمَةَ) ، و (مُوَطَّأ مَالِك بن أَنَسٍ) ، وَ (موطَّأَ ابْن أَبِي ذِئْبٍ) ، وَ (مُوَطَّأَ ابْن وَهْبٍ) ، وَ (مُصَنَّف وَكِيْع) ، وَ (مُصَنَّف مُحَمَّد بن يُوْسُفَ الفِرْيَابِيّ) ، وَ (مُصَنَّف سَعِيْد بن مَنْصُوْرٍ) ، وَ (مَسَائِل أَحْمَد بن حَنْبَلٍ) ، وَفقه أَبِي عُبَيْدٍ، وَفقه أَبِي ثَوْرٍ.قُلْتُ: مَا أَنْصَفَ ابْنُ حَزْمٍ؛ بَلْ رُتْبَة (المُوَطَّأ) أَنْ يُذكر تِلْوَ (الصَّحِيْحَيْنِ) مَعَ (سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ) ، لَكنَّه تَأَدَّبَ، وَقَدَّمَ المُسْنَدَات النّبويَّة الصِّرْف، وَإِنَّ (لِلموطَّأ) لَوَقْعاً فِي النُّفُوْسِ، وَمَهَابَةً فِي القُلوب لاَ يُوَازِنهَا شَيْءٌ.
كَتَبَ إِلَيْنَا المُعَمَّر العَالِم أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ هَارُوْنَ مِنْ مدينَة تُونس عَام سَبْعِ مائَة، عَنْ أَبِي القَاسِمِ أَحْمَدَ بنِ يَزِيْدَ القَاضِي، عَنْ شُرَيْح بن مُحَمَّدٍ الرُّعَيْنِيّ، أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ بن حَزْم كتب إِلَيْهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَسْعُوْدٍ، أَخْبَرَنَا قَاسِم بنُ أَصْبَغ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ
ابْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا وَكِيْعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الصَّوْمُ جُنَّةٌ) .
أَخْرَجَهُ مُسْلِم، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الأَشَجّ، عَنْ وَكِيْع.
وَبِهِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الجسورِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي دُلِيم، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ وَضَّاح، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرِ بن عَبْدِ اللهِ المُزَنِيّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَجِّ، وَأَهْلَلْنَا بِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ) .
فَأَحَلَّ النَّاسُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدْي، وَلَمْ يَحِلَّ.
وَبِهِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنُ عُمَرَ العُذْرِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بن الحُسَيْنِ بنِ عقَالَ، حَدَّثَنَا عبيدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ سَلْم، حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الجَوْهَرِيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الأَثْرَم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْد، حَدَّثَنَا بَكْرُ بنُ عَبْدِ اللهِ، سَمِعْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي بِالحَجِّ
وَالعُمْرَةِ جَمِيْعاً.قَالَ بكر: فَحَدّثتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالحَجِّ وَحْدَهُ.
وَقَعَ لَنَا هَذَا فِي (مُسْنَد أَحْمَدَ) ، فَأَنَا وَابْنُ حَزْمٍ فِيْهِ سَوَاء.
وَبِهِ: إِلَى ابْنِ حَزْم فِيمَا أَحرق لَهُ المُعْتَضِدُ بنُ عَبَّادٍ مِنَ الكُتُب يَقُوْلُ:
فَإِنْ تَحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تَحْرِقُوا الَّذِي ... تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ... وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي
دَعُوْنِيَ مِنْ إِحْرَاقِ رَقٍ وَكَاغَدٍ ... وَقُولُوا بِعِلْمٍ كِي يَرَى النَّاسُ مَنْ يَدْرِي
وَإِلاَّ فَعُوْدُوا فِي المَكَاتِبِ بَدْأَةً ... فَكَمْ دُوْنَ مَا تَبْغُونَ للهِ مِنْ سِتْرِ
كَذَاكَ النَّصَارَى يَحْرِقُوْنَ إِذَا عَلَتْ ... أَكفُّهم القُرْآنَ فِي مُدُنِ الثَّغْرِ
وَبِهِ لابْنِ حَزْم:
أُشْهِدُ اللهَ وَالمَلاَئِكَ أَنِّي ... لاَ أَرَى الرَّأْيَ وَالمَقَايِيْسَ دِيْناً
حَاشَ للهِ أَنْ أَقُوْلَ سِوَى مَا ... جَاءَ فِي النَّصِّ وَالهُدَى مُسْتَبِيْنَاكَيْفَ يَخفَى عَلَى البَصَائِرِ هَذَا ... وَهُوَ كَالشَّمْسِ شُهْرَةً وَيَقينَا
فَقُلْتُ مُجيباً لَهُ:
لَوْ سَلِمْتُم مِنَ العُمُومِ الَّذِي ... نَعْلَمُ قَطْعاً تخصِيْصَهُ وَيَقِيْنَا
وَتَرَطَّبْتُمُ فَكَمْ قَدْ يَبِسْتُمْ... لَرَأَينَا لَكُم شُفُوَفاً مُبِيْنَا
وَلابْنِ حَزْم:
مُنَايَ مِنَ الدُّنْيَا علُوْمٌ أَبُثُّهَا ... وَأَنْشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرُهَا فِي المحَاضِرِ
وَأَلزمُ أَطرَافَ الثُّغُوْرِ مُجَاهِداً ... إِذَا هَيْعَةٌ ثَارَتْ فَأَوَّلُ نَافِرِ
لأَلْقَى حِمَامِي مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ ... بِسُمْرِ العَوَالِي وَالرِّقَاقِ البَوَاتِرِ
كِفَاحاً مَعَ الكُفَّارِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ... وَأَكْرَمُ مَوْتٍ لِلْفتى قَتْلُ كَافِرِ
فَيَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْ حِمَامِي بِغَيْرِهَا ... وَلاَ تَجْعَلَنِّي مِنْ قَطِيْنِ المَقَابِرِ
وَمِنْ شِعْرِهِ :
هَلِ الدَّهْرُ إِلاَّ مَا عَرَفْنَا وَأَدْرَكْنَا ... فَجَائِعُهُ تَبقَى وَلَذَّاتُهُ تَفْنَى
إِذَا أَمْكَنَتْ فِيْهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ ... تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا
إِلَى تَبِعَاتٍ فِي المَعَادِ وَمَوْقِفٍ ... نَوَدُّ لَدِيْهِ أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ كُنَّاحَنِيْنٌ لِما وَلَّى وَشُغْلٌ بِمَا أَتَى ... وَهم لَمَّا نَخْشَى فَعَيْشُكَ لاَ يَهْنَا
حَصَلْنَا عَلَى هَمٍّ وَإِثْمٍ وَحَسْرَةٍ ... وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا نَلَذُّ بِهِ عَنَّا
كَأنَّ الَّذِي كُنَّا نُسَرُّ بِكَوْنِهِ ... إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلاَ مَعْنَى
وَلَهُ عَلَى سَبِيْل الدُّعَابَة - وَهُوَ يمَاشِي أَبَا عُمَر بن عبد الْبر - وَقَدْ رَأَى شَابّاً مَلِيحاً، فَأَعْجَب ابْنَ حَزْمٍ، فَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَعَلَّ مَا تَحْتَ الثِّيَاب لَيْسَ هُنَاكَ، فَقَالَ:
وَذِي عَذَلٍ فِيْمَنْ سَبَانِي حُسْنُهُ... يُطِيْلُ مَلاَمِي فِي الهَوَى وَيَقُوْلُ
أَمِنْ حُسْنِ وَجْهٍ لاَحَ لَمْ تَرَ غَيْرَهُ... وَلَمْ تَدْرِ كَيْفَ الجِسْمُ أَنْتَ قَتِيْلُ ؟
فَقُلْتُ لَهُ: أَسْرَفْتَ فِي اللَّوْمِ فَاتَّئِدْ... فَعِنْدِيَ رَدٌّ لَوْ أَشَاءُ طَوِيْلُ
أَلَمْ تَرَ أَنِّي ظَاهِرِيٌّ وَأَنَّنِي ... عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقومَ دَلِيْلُ
أَنشدنَا أَبُو الْفَهم بن أَحْمَدَ السُّلَمِيّ، أَنشدنَا ابْنُ قُدَامَةَ، أَنشدنَا ابْن البَطِّي، أَنشدنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيّ، أَنشدنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ لِنَفْسِهِ :لاَ تَشْمَتَنْ حَاسِدِي إِنْ نَكْبَةً عَرَضَتْ ... فَالدَّهْرُ لَيْسَ عَلَى حَال بِمُتَّركِ
ذُو الفَضْلِ كَالتِّبْرِ طَوْراً تَحْتَ مَيْفَعَةٍ... وَتَارَةً فِي ذُرَى تَاجٍ عَلَى مَلِكِ
وَشعره فَحلٌ كَمَا تَرَى، وَكَانَ يُنظِمُ عَلَى البَدِيه، وَمِنْ شِعْرِهِ:
أَنَا الشَّمْسُ فِي جُوِّ العُلُوْمِ مُنِيْرَةً ... وَلَكِنَّ عَيْبِي أَنَّ مَطْلَعِي الغَرْبُ
وَلَوْ أَنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ طَالِعٌ ... لَجَدَّ عَلَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ
وَلِي نَحْوَ أَكْنَافِ العِرَاقِ صَبَابَةٌ ... وَلاَ غَرْوَ أَنْ يَسْتَوحِشَ الكَلِفُ الصُّبُّ
فَإِنَّ يُنْزِلِ الرَّحْمَنُ رَحْلِيَ بَيْنَهُمْ ... فَحِيْنَئِذٍ يَبْدُو التَأَسُّفُ وَالكَرْبُ
هُنَالِكَ يُدْرَى أَنَّ لِلْبُعْدِ قِصَّةٌ... وَأَنَّ كسَادَ العِلْمِ آفَتُهُ القُرْبُ وَلَهُ:
أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ كتبِ الحَدِيْثِ وَمَا ... أَتَى عَنِ المُصْطَفَى فِيْهَا مِنَ الدِّيْنِ كَمُسْلِمٍ وَالبُخَارِيّ الَّلذِيْنَ هُمَا ... شَدَّا عُرَى الدِّيْنِ فِي نَقْلٍ وَتَبْيِينِ
أَوْلَى بِأَجْرٍ وَتعَظِيْمٍ وَمَحْمَدَةٍ ... مِنْ كُلِّ قَوْلٍ أَتَى مِنْ رَأْي سُحْنُوْنِ
يَا مَنْ هَدَى بِهِمَا اجعَلْنِي كَمِثْلِهِمَا ... فِي نَصْرِ دِيْنِكَ مَحْضاً غَيْرَ مَفْتُوْنِ
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي ترَاجم أَبْوَاب (صَحِيْح البُخَارِيّ) :مِنْهَا مَا هُوَ مقصُوْرٌ عَلَى آيَة، إِذْ لاَ يَصِحُّ فِي البَابِ شَيْءٌ غَيْرهَا، وَمِنْهَا مَا يُنَبِّهُ بِتَبْوِيبِهِ عَلَى أَنَّ فِي البَابِ حَدِيْثاً يَجِبُ الوُقُوْفُ عَلَيْهِ، لَكنه لَيْسَ مِنْ شَرط مَا أَلَّف عَلَيْهِ كِتَابهُ، وَمِنْهَا مَا يُبَوِّبُ عَلَيْهِ، وَيذكر نُبذَة مِنْ حَدِيْثِ قَدْ سَطَرَه فِي مَوْضِعٍ آخر، وَمِنْهَا أَبْوَاب تَقعُ بِلَفْظ حَدِيْث لَيْسَ مِنْ شَرطه، وَيَذكر فِي البَابِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ فِي أَوَّلِ (الإِحكَام ) :أَمَّا بَعْدُ ... فَإِنَّ اللهَ رَكَّبَ فِي النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّة قُوَىً مختلفَة، فَمِنْهَا عَدْلٌ يُزَيِّنُ لَهَا الإِنصَاف، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهَا مُوَافِقَةَ الحَقّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ} [النَّحْل:90] .
وَقَالَ: {
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ} [النِّسَاء:135] وَمِنْهَا غضبٌ وَشَهْوَةٌ يُزَيِّنَان لَهَا الجُور وَيَعمِيَانهَا عَنْ طَرِيْق الرشد، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البَقَرَة:206] .وَقَالَ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدِيْهِمْ فَرحُوْنَ} [الرُّوْم:32] فَالفَاضِل يُسَرُّ بِمَعْرِفَته، وَالجَاهِل يُسَرُّ بِمَا لاَ يَدْرِي حقيقَةَ وَجْهِهِ وَبِمَا فِيْهِ وَبَالُه، وَمِنْهَا فَهْمٌ يُليح لَهَا الحَقُّ مِنْ قَرِيْب، وَينِير لَهَا فِي ظلمَات المشكلاَت، فَترَى بِهِ الصَّوَابَ ظَاهِراً جَلِيّاً، وَمِنْهَا جَهْلٌ يَطْمِسُ عَلَيْهَا الطَّرِيْق، وَيُسَاوِي عِنْدَهَا بَيْنَ السُّبُل، فَتبقَى النَفْسُ فِي حَيْرَةٍ تَتردد، وَفِي رِيب تَتَلَدَّد، وَيَهْجُمُ بِهَا عَلَى أَحَد الطّرق المُجَانبَة لِلحق تَهَوُّراً وَإِقدَاماً، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعلمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعلمُوْنَ} [الزُّمَر:9] وَمِنْهَا قُوَّةُ التّمِييز الَّتِي سمَّاهَا الأَوَائِلُ المنطقَ، فَجَعَلَ لَهَا خَالِقهَا بِهَذِهِ القُوَّة سَبيلاً إِلَى فَهم خِطَابِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَة الأَشيَاء عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِلَى إِمَكَان التفهُم، فَبهَا تَكُوْن مَعْرِفَة الحَقّ مِنَ البَاطِل، وَمِنْهَا قُوَّةُ العَقْل الَّتِي تُعينُ النَفْس المُمَيِّزَة عَلَى نُصْرَة العَدْل، فَمَنِ اتَّبع مَا أَنَاره لَهُ العَقْلُ الصَّحِيْح، نَجَا وَفَاز، وَمِنْ عَاج عَنْهُ هَلَكَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيْدٌ} [ق:37] .
فَأَرَادَ بِذَلِكَ العَقْلَ، أَمَا مُضغَةُ القَلْب، فَهِيَ لِكُلِّ أَحَد، فَغَيْرُ العَاقل كَمَنْ لاَ قَلْبَ لَهُ.
وَكَلاَمُ ابْن حَزْمٍ كَثِيْرٌ، وَلَوْ أَخذتُ فِي إِيرَادِ طُرَفِهِ وَمَا شَذَّ بِهِ، لطَال الأَمْر.قَالَ أَبُو القَاسِمِ بنُ بَشْكُوَال الحَافِظ فِي (الصّلَة ) لَهُ: قَالَ القَاضِي صَاعِدُ بنُ أَحْمَدَ: كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ حَزْمٍ بخطِّهِ يَقُوْلُ:
وُلِدْتُ بقُرْطُبَة فِي الجَانب الشَّرْقِيّ فِي رَبَضِ مُنية المُغِيْرَة، قَبْل طُلُوْع الشَّمْس آخِرَ لَيْلَة الأَرْبعَاء، آخرَ يَوْم مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَة، بطَالع الْعَقْرَب، وَهُوَ اليَوْم السَّابِع مِنْ نُوَنْيِر.
قَالَ صَاعِد: وَنقُلْتُ مِنْ خطّ ابْنِهِ أَبِي رَافِعٍ، أَنْ أَبَاهُ تُوُفِّيَ عَشِيَّة يَوْم الأَحَد لِليلتين بقيتَا مِنْ شَعْبَانَ، سَنَة سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة، فَكَانَ عُمُره إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ سَنَةً وَأَشْهُراً - رَحِمَهُ اللهُ -.
وَمِنْ نَظْمِ أَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم:
لَمْ أَشْكُ صَدّاً وَلَمْ أُذْعِنْ بِهِجْرَانِ ... وَلاَ شَعَرْتُ مَدَى دَهْرِي بِسُلْوَانِ
أَسْمَاءُ لَمْ أَدْرِ مَعْنَاهَا وَلاَ خَطَرَتْ ... يَوْماً عَلِيَّ وَلاَ جَالَتْ بِمِيدَانِي
لَكِنَّمَا دَائِي الأَدوا الَّذِي عَصَفَتْ ... عَلَيَّ أَرْوَاحُهُ قِدماً فَأَعْيَانِي
تَفَرَّقَ لَمْ تَزَلْ تَسْرِي طَوَارِقُهُ ... إِلَى مَجَامِعَ أَحبَابِي وَخِلاَّنِي
كَأَنمَا البَيْنُ بِي يَأْتَمُّ حَيْثُ رَأَى ... لِي مَذْهَباً فَهُوَ يَتْلُونِي وَيَغشَانِي
وَكُنْتُ أَحسبُ عِنْدِي لِلنوَى جَلَداً ... دَاءٌ عَنَا فِي فؤَادِي شجوهَا العَانِي
فَقَابَلَتْنِي بِأَلوَانٍ غَدَوْتُ بِهَا ... مقَابَلاً مِنْ صَبَابَاتِي بِأَلوَانِ
وَمِمَّنْ مَاتَ مَعَ ابْنِ حَزْم فِي السَّنَةِ: الحَافِظُ أَبُو الوَلِيْدِ الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ الدَّرْبَنْدِي، وَالفَقِيْهُ أَبُو القَاسِمِ سِرَاجُ بنُ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ سِرَاج، قَاضِي الجَمَاعَة بقُرْطُبَة، وَالحَافِظ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَاصِمٍ النَّخْشَبِيّ، وَشيخُ العَرَبِيَّة أَبُو القَاسِمِ عبدُ الوَاحِد بنُ عَلِيِّ بنِ بَرْهَان بِبَغْدَادَ، وَمُسْنِدُ الوَقْتِ أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَسْنُوْنَ النَّرْسِيُّ، وَالمُحَدِّثُ أَبُو سَعِيْدٍ محمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الخَشَّاب النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَالوَزِيْرُ عَمِيْدُ المُلك مُحَمَّدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الكُنْدُرِي.وَلابْنِ حَزْم:
قَالُوا تَحَفَّظْ فَإِنَّ النَّاس قَدْ كَثُرَتْ ... أَقْوَالُهم وَأَقَاويلُ الوَرَى مِحَنُ
فَقُلْتُ: هَلْ عَيْبُهم لِي غَيْر أَنِّي لاَ ... أَقُوْلُ بِالرَّأْي إِذْ فِي رَأَيهِم فِتَنُ
وَأَنَّنِي مُوْلَعٌ بِالنَّصِّ لَسْتُ إِلَى ... سِوَاهُ أَنَحْو وَلاَ فِي نَصْرِهِ أَهِنُ
لاَ أَنثنِي لمقَاييس يُقَالَ بِهَا ... فِي الدِّيْنِ بَلْ حَسْبِيَ القُرْآن وَالسُّنَنُ
يَا بَرْدَ ذَا القَوْلِ فِي قَلْبِي وَفِي كَبِدِي ... وَيَا سرُوْرِي بِهِ لَوْ أَنَّهم فَطنُوا
دَعْهُمْ يَعَضُّوا عَلَى صُمِّ الحَصَى كَمَداً ... مَنْ مَاتَ مِنْ قَوْله عِنْدِي لَهُ كَفَنُ