سعيد بن العاص بن أبي أحيحة
سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عثمان ويقال: أبو عبد الرحمن الأموي أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله عنه رواية. وقتل أبوه العاص بن سعيد يوم بدرٍ كافراً. وكان سعيد عامل عثمان على الكوفة، واستعمله معاوية على المدينة غير مرة.
وقدم على معاوية بعد استقرار الأمر له، ولم يدخل معه في شيء من حروبه، وكانت له بدمشق دار، كانت بعده تعرف بدار نعيم، وحمام نعيم بنواحي الديماس.
ثم رجع سعيد إلى المدينة، ومات بها. وكان كريماً جواداً ممدحاً.
حدث سعيد بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية ".
حدث سعيد بن عمرو بن سعيد أنه سمع أباه يوم المرج يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا أني سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله سيعز هذا الدين بنصارى من ربيعة على شاطىء الفرات. ما تركت عربياً إلا قتلته أو يسلم.
وعن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببردٍ فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: أعطيه هذا الغلام، يعني: سعيد بن العاص، وهو واقف: فلذلك سميت الثياب السعيدية.
ومن حديثٍ:
قال عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص: ما لي أراك معرضاً؟ كأنك ترى أني قتلت أباك! ما أنا قتلته، ولكن قتله علي بن أبي طالب، ولو قتلته ما اعتذرت من قتل مشرك، ولكني قتلت خالي بيدي: العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. فقال سعيد بن العاص: يا أمير المؤمنين، لو قتلته كنت على حق، وكان على باطل. فسر ذلك عمر منه.
قالوا: ولم يزل سعيد بن العاص في ناحية عثمان بن عفان للقرابة. فلما عزل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط عن الكوفة، دعا سعيد بن العاص فاستعمله عليها. فلما قدم الكوفة قدمها شاباً مترفاً، ليست له سابقة، فقال: لا أصعد المنبر حتى يطهر. فأمر به فغسل، ثم صعد المنبر، فخطب أهل الكوفة، وتكلم بكلام، قصر بهم فيه، ونسبهم إلى الشقاق والخلاف، فقال: إنما هو السواد بستانٌ لأغيلمة من قريش. فشكوه إلى عثمان. فقال: كلما رأى أحدكم من أمير جفوة أرادنا أن نعزله؟! وقدم سعيد بن العاص المدينة وافداً على عثمان، فبعث إلى وجوه المهاجرين والأنصار بصلاتٍ وكسًى، وبعث إلى علي بن أبي طالب أيضاً، فقبل ما بعث به إليه، وقال علي: إن بني أمية ليفوقوني تراث محمد تفوقاً، والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم من ذلك نفض القصاب الثراب الوذمة. ثم انصرف سعيد بن العاص إلى الكوفة، فأضر بأهلها إضراراً شديداً، وعمل عليها خمس سنين إلا أشهراً.
وقال مرة بالكوفة: من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان فقال القوم: ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته. فقال له سعيد: بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم: تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل الله وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ثم أصبح هاشم في داره مفطراً، وغدى الناس عنده فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فأرسل إليه، فضربه، وحرق داره. فخرجت أم الحكم بنت عتبة بن أبي وقاص وكانت من المهاجرات ونافع بن عتبة بن أبي وقاص من الكوفة حتى قدما المدينة فذكرا لسعد بن أبي وقاص ما صنع سعيد بهاشم، فأتى سعد عثمان، فذكر ذلك له، فقال عثمان: سعيد لكم بهاشم اضربوه بضربه، ودار سعيد لكم بدار هاشم فاحرقوها كما حرق داره. فخرج عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو يومئذٍ غلام يسعى حتى أشعل النار في دار سعيد بالمدينة، فبلغ الخبر عائشة رضي الله عنها، فأرسلت إلى سعد بن أبي وقاص تطلب إليه، وتسأله أن يكف، ففعل، ورحل من الكوفة إلى عثمان الأشتر مالك بن الحارث، ويزيد بن مكنف، وثابت بن قيس، وكميل بن زياد النخعي، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان، والحارث بن عبد الله الأعور، وجندب بن زهير وأبو زينب الأزديان، وأصفر بن قيس الحارثي، يسألونه عزل سعيد بن العاص عنهم. ورحل سعيد وافداً على عثمان، فوافقهم عنده، فأبى عثمان أن يعزله عنهم، وأمره أن يرجع إلى عمله، فخرج الأشتر من ليلته في نفرٍ من أصحابه، فسار عشر ليالٍ إلى الكوفة، واستولى عليها، وصعد على المنبر، فقال: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمةٍ من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم، ومراكز رماحكم وفيئكم وفيء آبائكم، فمن كان يرى لله عليه حقاً فلينهض إلى الجرعة. فخرج الناس فعسكروا بالجرعة وهي بين الكوفة والحيرة وأقبل سعيد بن العاص حتى نزل العذيب، فدعا الأشتر يزيد بن قيس الأرحبي، وعبد الله بن كنانة العبدي وكانا محربين فعقد لكل واحد منهما على خمس مئة فارس وقال لهما: سيرا إلى سعيد بن العاص، فأزعجاه، وألحقاه بصاحبه، فإن أبى فاضربا عنقه، وائتياني برأسه. فأتياه، فقالا له: ارحل إلى صاحبك فقال: إبلي أنضاءٌ أعلفها أياماً، ونقدم المصر، فنشتري حوائجنا، ونتزود، ثم أرتحل. فقالا: لا والله
ولا ساعةً، لترتحلن أو لنضربن عنقك. فلما رأى الجد منهما ارتحل لاحقاً بعثمان، وأتيا الأشتر فأخبراه، وانصرف الأشتر من معسكره إلى الكوفة، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: والله يا أهل الكوفة، ما غضبت إلا لله ولكم. قد ألحقنا هذا الرجل بصاحبه، وقد وليت أبا موسى الأشعري صلاتكم وثغركم، وحذيفة بن اليمان على فيئكم، ثم نزل، وقال: يا أبا موسى، اصعد. فقال أبو موسى: ما كنت لأفعل، ولكن هلموا فبايعوا لأمير المؤمنين عثمان، وجددوا له البيعة في أعناقكم. فأجابه الناس إلى ذلك، فقبل ولايتهم، وجدد البيعة لعثمان في رقابهم، وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب ذلك عثمان وسره، فقال عتبة بن الوغل شاعر أهل الكوفة: من الطويل
تصدق علينا يا بن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري ليالي
فقال عثمان: نعم وشهوراً وسنين إن بقيت.
وكان الذي صنع أهل الكوفة بسعيد بن العاص أول وهنٍ دخل على عثمان حين اجترىء عليه، ولم يزل أبو موسى والياً لعثمان على الكوفة حتى قتل عثمان، ولم يزل سعيد بن العاص حين رجع عن الكوفة بالمدينة حتى وثب الناس بعثمان فحصروه، فلم يزل سعيد في الدار معه يلزمه فيمن يلزمه، لم يفارقه، ويقاتل دونه.
قالوا: فلما خرج طلحة، الزبير، وعائشة من مكة يريدون البصرة خرج معهم سعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، والمغيرة بن شعبة. فلما نزلوا مر الظهران ويقال: ذات عرق قام سعيد بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان عاش في الدنيا حميداً، وخرج منها فقيداً، وتوفي سعيداً شهيداً، فضاعف الله حسناته، وحط سيئاته، ورفع درجاته: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ". وقد زعمتم أيها الناس، أنكم إنما تخرجون تطلبون بدم عثمان، فإن كنتم ذلك تريدون فإن قتلة عثمان على صدور هذه المطي وأعجازها، فميلوا عليهم بأسيافكم، وإلا فانصرفوا إلى
منازلكم، ولا تقتلوا في رضى المخلوقين أنفسكم، ولا يغني الناس عنكم يوم القيامة شيئاً. فقال مروان بن الحكم: لا بل نضرب بعضهم ببعض، فمن قتل كان الظفر فيه، ويبقى الباقي فنطلبه وهو واهن ضعيف. وقام المغيرة بن شعبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرأي ما رأى سعيد بن العاص، من كان من هوازن فأحب أن يتبعني فليفعل. فتبعه منهم أناسٌ، وخرج حتى نزل الطائف، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين، ورجع سعيد بن العاص بمن اتبعه حتى نزل مكة، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين. ومضى طلحة والزبير، وعائشة، ومعهم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومروان بن الحكم، ومن اتبعهم من قريش وغيرهم إلى البصرة، فشهدوا وقعة الجمل. فلما ولي معاوية الخلافة ولى مروان بن الحكم المدينة، ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، ثم عزله، وولاها مروان بن الحكم ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، فمات الحسن بن علي بن أبي طالب في ولايته تلك سنة خمسين بالمدينة، فصلى عليه سعيد بن العاص.
قدم محمد بن عقيل بن أبي طالب على أبيه وهو بمكة فقال: ما أقدمك يا بني؟ قال: قدمت لأن قريشاً تفاخرني، فأردت أن أعلم أشرف الناس. قال: أنا، وابن أمي، ثم حسبك بسعيد بن العاص.
وعن قبيصة بن جابر قال: بعثني زياد إلى معاوية في حوائج، فلما فرغت منها قلت له: يا أمير المؤمنين، كل ما جئت له فقد فرغت منه، وبقيت لي حاجة، أصدرها في مصادرها. قال: وما هي؟ قلت: من لهذه الأمة بعدك؟ قال: وما أنت من ذاك؟ فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ فوالله إني لقريب القرابة، عظيم الشرف، ناصح الجيب، واد الصدر، فسكت ساعة، ثم قال: بين أربعة من بني عبد مناف: كرمة قريش سعيد بن العاص، وفتى قريش حياءً
ودهاءً وسخاءً عبد الله بن عامر، وأما الحسن بن علي فرجل سيد كريم، وأما القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله فمروان بن الحكم، وأما رجل نفسه فعبد الله بن عمر، وأما رجل يرد الشريعة مع دواهي السباع، ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وعن محمد بن سيرين: أن عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار منهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، يعني لكتابة المصحف.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية لأنه كان أشبههم لهجةً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال سعيد: وقتل العاص مشركاً يوم بدر، ومات سعيد بن العاص قبل بدرٍ مشركاً.
وعن عبد الله بن ساعدة قال: جاء سعيد بن العاص إلى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، إلى متى تمسك بأيدينا؟ قد أكلنا أكلاً هؤلاء القوم: منهم من رمى بالنبل، ومنهم من قد رمى بالحجارة، ومنهم شاهرٌ سيفه! فمرنا بأمرك. فقال عثمان: إني والله ما أريد قتالهم، ولو أردت قتالهم لرجوت أن أمتنع منهم، ولكني أكلهم إلى الله عز وجل، وأكل من ألبهم علي إلى الله، فإنا سنجمع عند ربنا، فأما قتالٌ، فوالله ما آمرك بقتال. فقال سعيد: والله لا أسأل عنك أحداً أبداً. فخرج فقاتل حتى أم.
حدث محمد بن المنكدر قال:
أهدى سعيد بن العاص هدايا لأهل المدينة، وقال لرسوله: لا تعذرني إلا عند علي بن أبي طالب، وقل له: ما فضلت عليك أحداً في الهدية إلا أمير المؤمنين عثمان. فقال علي لما قال له الرسول ذلك: لشد ما نفست علي أمية وضايقتني، والله لئن وليتها لأنفضنها
نقض القصاب الثراب الوذمة. قال: فقال الأصمعي: التراب، فقال شعبة: ما سمعته إلا الثراب بالثاء. فتحاكما إلى أبي عمرو، فحكم كما قال شعبة. قال أبو محكم: الصواب ما قال شعبة، وحكم به أبو عمرو. قال الثوري: صحف الأصمعي وأصاب شعبة.
والثراب: الكروش، يقال: هذه كروش ثربة. والوذمة: ذات زوائد شبهت بوذام الدلو، وقال أبو بكر بن دريد: قولهم التراب الوذمة خطأ، وإن أصحاب الحديث قلبوه، وإنما هو الوذام التربة: قال: وأصله أن كل سير قددته مستطيلاً فهو وذم، وكذلك اللحم والكرش وما أشبهه.
قال سليمان بن زياد: كان بين سعيد بن العاص وبين قوم من بني أمية منازعة، فجاءت سعيداً ولاية المدينة من قبل معاوية، فقال: لا أنتصر وأنا والٍ، فترك منازعة القوم.
كان معاوية يولي المدينة مروان بن الحكم سنة وسعيد بن العاص سنة، فلما كان في ولاية سعيد كتب إليه معاوية: بلغني أن مروان ابتنى داراً، وأنه خرج في الطريق. فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم داره. فقال سعيد: يا جارية، خذي هذا الكتاب فضعيه في الصندوق. فلم يزل يكتب إليه في ولايته تيك، ويأمر باحتفاظ الكتب، لا ينفذ أمره فيما كتب به. ثم ولى مروان فكتب إليه بنظير الكتب التي كتب بها إلى سعيد في مروان، فمضى إلى دار سعيد بالفعلة، وسعيد قد صلى الغداة في المسجد مستقبلاً القبلة فجاء خادم له بخبر مروان، فخرج سعيد، فأخذ بيد مروان، فأدخله الدار، وأخبره مروان بالذي جاء له: فقال سعيد: يا جارية، هاتي الكتب فجاءت بكتب معاوية، فرمى بها إلى مروان. فلما قرأها قال: دواةً وقرطاساً، فكتب إلى معاوية: من الوافر
كتبت إلي تأمرني بعقٍ ... كما قبلي كتبت إلى سعيد
فلما أن عصاك أردت حملي ... على ملساء تزلق بالسديد
لأقطع واصلاً وأخا حفاظٍ ... فرأيك ليس بالرأي الرشيد
ولما مات الحسن بن علي بعث مروان بن الحكم إلى معاوية يخبره أنه مات، قال:
وبعث سعيد بن العاص رسولاً آخر يخبره بذلك، وكتب مروان يخبره بما أوصى به حسن من دفنه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ذلك لا يكون وأنا حي، ولم يذكر ذلك سعيد، فلما دفن حسن بن علي بالبقيع أرسل مروان بريداً آخر يخبره بما كان من ذلك، ومن قيامه ببني أمية ومواليهم، وأني يا أمير المؤمنين عقدت لوائي ولبسنا السلاح، وأحضرت معي من اتبعني، ألفي رجل، فلم يزل الله بمنه وفضله يدرأ ذلك أن يكون مع أبي بكر وعمر ثالثاً أبداً، حيث لم يكن أمير المؤمنين عثمان مظلوم رحمه الله، وكانوا هم الذين فعلوا بعثمان ما فعلوا، فكتب معاوية إلى مروان يشكر له ما صنع، واستعمله على المدينة، ونزع سعيد بن العاص، وكتب إلى مروان: إذا جاءك كتابي هذا فلا تدع لسعيد بن العاص قليلاً ولا كثيراً إلا قبضته. فلما جاء الكتاب إلى مروان بعث به مع ابنه عبد الملك إلى سعيد يخبره بكتاب أمير المؤمنين، فلما قرأه سعيد بن العاص صاح بجارية له: هات كتابي أمير المؤمنين، فطلعت عليه بكتابين فقال لعبد الملك: اقرأهما، فإذا فيهما كتاب من معاوية إلى سعيد بن العاص، يأمره حين عزل مروان بقبض أموال مروان التي بذي المروة، والتي بالسويداء، والتي بذي خشب ولا يدع له عذقاً واحداً. فقال: أخبر أباك؟ فجزاه عبد الملك خيراً، فقال سعيد: والله، لولا أنك جئتني بهذا الكتاب ما ذكرت مما ترى حرفاً واحداً. قال: فجاء عبد الملك بالخبر إلى أبيه قال: هو كان أوصل لنا منا له.
قال صالح بن كيسان: كان سعيد بن العاص رجلاً حليماً وقوراً، ولقد كانت المأمومة التي أصابت رأسه يوم الدار قد كاد أن يخف منها بعض الخفة، وهو على ذلك من أوقر الرجال. وكان مروان رجلاً حديداً، حديد اللسان، سريع الجواب، ذلق اللسان، قلما صبر أن يكون في صدره شيء من حب أحد أو بغضه إلا ذكره، وكان سعيد خلاف ذلك، كان من أحب صبر عن ذكر ذلك ومن أبغض فمثل ذلك، ويقول: إن الأمور تغير والقلوب تغير، فلا ينبغي للمرء أن يكون مادحاً اليوم عائباً غداً.
قال عمير بن إسحاق:
كان مروان بن الحكم أميراً علينا بالمدينة سنة ستين فكان يسب علياً عليه السلام في الجمع كذلك، ثم عزل، فاستعمل علينا سعيد بن العاص، فكان لا يسب علياً.
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي بعد عمر بن الخطاب، وبعث إليها بمئة ألف، فدخل عليها الحسين، فشاورته، فقال: لا تزوجيه. فأرسلت إلى الحسن فقال: أنا أزوجه، فاتعدوا لذلك، وحضر الحسن، وأتاهم سعيد ومن معه، فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ قال الحسن: أكفيك دونه، قال: فلعل أبا عبد الله كره هذا يا أبا محمد؟ قال: قد كان وأكفيكه، قال: إذاً لا أدخل في شيء يكرهه، ورجع ولم يعرض في المال، ولم يأخذ منه شيئاً.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه لما خطبها أنعمت له، فبلغ ذلك إخوتها فكرهوه، وثقل عليهم، وكلموها كلاماً شديداً، وقد كانت وعدت سعيداً موعداً، فدعت ابنها زيد بن عمر بن الخطاب وهو يومئذ غلام صغير وبسطت دارها، ووضعت فيها سريراً، ثم قالت: إذا جاء سعيد بن العاص فزوجنيه. وقد كان سعيد وعد ناساً، وأرسل إليهم ليحضروا تزويجه، فحضروه في المسجد، فلما اجتمعوا إليه قال: إني دعوتكم لأمرٍ ثم بدا لي غيره، إني كنت خطبت أم كلثوم فأنعمت، والله ما كنت لأدخل على ابني فاطمة بأمر يكرهانه. ثم التفت إلى كعبٍ مولاه فقال: انظر إلى المئتي ألف درهم التي هيأت لابنة علي، اذهب بها إليها، وقل لها: يقول لك ابن عمك: إنا كنا هيأنا لك هذه فاقبضيها صلة منا لك.
قال ابن عيينة: كان سعيد بن العاص إذا سأله سائلٌ فلم يكن عنده شيء قال: اكتب علي بمسألتك سجلاً إلى يوم ميسرتي.
وكان سعيد بن العاص يدعو إخوانه وجيرته في كل جمعة يوماً، فيصنع لهم الطعام، ويخلع عليهم الثياب الفاخرة، ويأمر لهم بالجوائز الواسعة، ويبعث إلى عيالاتهم بالبر
الكثير، وكان يوجه مولى له في كل ليلة جمعة، فيدخل المسجد ومعه صرر فيها دنانير فيضعها بين يدي المصلين، فكان قد كثر المصلون في كل ليلة جمعة في مسجد الكوفة.
قال عبد الأعلى بن حماد: استسقى سعيد بن العاص من دار بالمدينة، فسقوه، ثم حضر صاحب الدار في الوقت مع جماعة، فعرض الدار على البيع، وكان عليه أربعة آلاف دينار، فبلغه أن صاحب الدار يريد بيع داره، فقال لغلام له: لم يبيع هذا الرجل داره؟ فقال: عليه أربعة آلاف دينار دينٌ. قال سعيد: إن له لحرمة وذماماً علينا، لسقيه إيانا. فركب إليه فخافضه، فقال له: السلام عليك، وقال لغريمه: كم لك عليه؟ قال أربعة آلاف دينار. قال: أترضى بضمانها؟ قال: نعم. قال له: فمر وهي لك علي، وقال لصاحب الدار: لتستمتع بدارك.
أتى أعرابي سعيد بن العاص فسأله شيئاً، فقال: يا غلام، أعطه خمس مئة، فذهب، ورجع فقال: خمس مئة درهم، أم خمس مئة دينار؟ فقال سعيد: ويحك ما أردت إلا الدراهم! فإذا توهمت الدنانير فأعطه الدنانير. قال: فقبضها الأعرابي، ثم جلس يبكي: فقال له سعيد: ما يبكيك! أليس قد قضى الله حاجتك؟ قال: بلى، ولكن أبكي على الأرض تأكل مثلك.
قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع ديات خملها، فقيل له: عليك بحسن بن علي، عليك بعبد الله بن جعفر، عليك بسعيد بن العاص، عليك بعبيد الله بن العباس. فدخل المسجد، فرأى رجلاً يخرج ومعه جماعة، فقال: من هذا؟ فقيل: سعيد بن العاص. فقال: هذا أحد أصحابي الذين ذكروا لي. فمشى معه، فأخبره بالذي قدم له، ومن ذكر له، وأنه أحدهم، وهو ساكت لا يجيبه. فلما بلغ باب منزله قال لخازنه: قل لهذا الأعرابي فليأت بمن يحمل له. فقيل له: إيت بمن يحمل لك. قال: عافى الله سعيداً، إنما سألناه ورقاً، لم نسأله تمراً! قال: ويحك! إيت بمن يحمل لك. فأخرج إليه أربعين ألفاً، فاحتملها الأعرابي، ومضى إلى البادية، ولم يلق غيره.
كان سعيد بن العاص والياً لمعاوية على المدينة، فأصاب الناس سنة فأقحموا، فأطعمهم سعيد حتى أنفق ما في بيت المال، فكتب إلى معاوية، فغضب وقال: لم يرض أن أنفق مالنا حتى ادان؟ فعزله، فلما احتضر دعا ابنه عمراً فقال: إني قد رضيت غيبتك وشهادتك، فانظر ديني فاقضه، واكسر فيه أموالي، ولا يعطه عني معاوية، وانظر بناتي، فلتكن قبورهن بيوتهن إلا من الأكفاء، وانظر إخواني لا يفقدوني، احفظ منهم ما كنت أحفظ. فلما بلغ معاوية موته قال: رحم الله أبا عثمان، مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني: من الطويل
إذا سار من دون امرىءٍ وأمامه ... وأوحش من إخوانه فهو سائر
لما حضرت سعيد بن العاص الوفاة قال لبنيه: أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا يا أبه. قال: إن فيها قضاء ديني! قال: وما دينك يا أبه؟ قال: ثمانون ألف دينار. قال: يا أبه وفيم أخذتها؟ قال: يا بني، في كريم سددت به منه خلة، وفي رجل جاءني في حاجة ودمه ينزو في وجهه من الحياء، فبدأته بحاجته قبل أن يسألنيها.
قال سعيد بن العاص لابنه: يا بني، أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه، ومخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
قال سعيد بن العاص: ما أدري كيف أكافىء رجلاً بات يقسم ظنه، فلا يقع إلا علي، أصبح يتخطى الناس، ويتخطى المجالس والأحياء حتى يكرمني بنفسه، ويؤنسني بحديثه، غدا التجار إلى تجاراتهم، وغدا إلي في حاجته، فإن كان أخسهم فأخس الله حظي يوم القيامة.
قال سعيد بن العاص: يا بني، إن المكارم لو كانت سهلة يسيرة لسابقكم إليها اللئام.
ولكنها كريهة مرة، لا يصبر عليها إلا من عرف فضلها، ورجا ثوابها، وأنشد أبو جعفر مولى بني هاشم: من الكامل
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق
ولو نني خيرت كل فضيلةٍ ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
قال سعيد بن العاص: لجليسي علي ثلاث خصال: إذا أقبل وسعت له، وإذا جلس أقبلت عليه، وإذا حدث سمعت منه.
قال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فتهون عليه.
خطب سعيد بن العاص فقال في خطبته: من رزقه الله حسناً فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين: إما مصلح فلا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
لما ولي سعيد بن العاص الكوفة أتته هند بنت النعمان مترهبةً معها جوارٍ قد ترهبن، ولبسن المسوح، فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت فأجلسها على فرشه، وكلمته في حاجات لها، فقضاها، فلما قامت قالت: أصلح الله الأمير، ألا أحييك بكلمات كانت الملوك تحيى بهن قبلك؟ قال سعيد: بلى. قالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجةً، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمةً فجعلك الله سبباً في ردها إليه.
كان دين سعيد بن العاص ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية من عمرو بن سعيد بن العاص القصر بألف ألف، والمزارع بألف ألف، والنخل بألف ألف درهم.
وولد سعيد بن العاص محمداً، وعثمان الأكبر، وعمراً يقال له الأشدق، ورجالاً درجوا، وأمهم أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص أخت مروان بن الحكم لأبيه وأمه.
ومات سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق، وأمره أن يدفنه
بالبقيع. قال: إن قليلاً لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عمراً إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه، ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلاً قد اتخذه سعيد، وغرس فيه النخل، وزرع فيه، وبنى فيه قصراً معجباً، ولذلك القصر يقول أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة: من البسيط
القصر ذو النخل فالجماء فوقهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وقال لابنه عمرو: إن منزلي هذا ليس من العقد، إنما هو منزل برهة، فبعه من معاوية، واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي. فلما دفنه عمرو وقف الناس بالبقيع، فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه، فنعاه له أول الناس، فاسترجع معاوية، ثم ترحم عليه، وتوجع لموته، ثم قال: هل ترك من دين؟ قال: نعم، قال: وكم؟ قال: ثلاث مئة ألف درهم. قال: هي علي. قال: قد أبى ذلك، وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها. قال: فعرصني ما شئت. قال: أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته منزله بالعرصة، فقال معاوية: هيهات، لا، تبيعون هذا المنزل؟ انظر غيره، قال: فما نصنع؟ نحن نحب تعجيل قضاء دينه، فقال: قد أخذته بثلاث مئة ألف درهم. قال: اجعلها بالوافية، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واجعلها بالوافقة، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واحملها لي إلى المدينة. قال: وأفعل. قال: فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعل يصرفها في ديونه ويحاسبهم بمئتي الدراهم الوافية وهي البغلية وهي الدراهم الجواز وهي تنقص في العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبغلية عشرة بالجواز حتى أتاه فتى من قريش، يذكر حقاً له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض
نفقاته وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى وهو صعلوك من قريش هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه، فدفع إليه الصك، فلما قرأه المولى بكى ثم قال: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق. فقال عمرو: وما سبب مالك هذا؟ قال: رأيته وهو معزول يمشي وحدهن فقمت فمشيت معه، حتى بلغ داره، ثم وقف، فقال: هل لك من حاجةٍ: فقلت: لا إله أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك. فقال: وصلتك رحمٌ يا بن أخي. ثم قال: ابغني قطعة أديم، فأتيت جزاراً عند باب داره، فأخذت منه هذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقال: اكتب. فكتب وأملاه، وكتب فيه شهادته على نفسه، ثم دفعه إلي وقال: يا بن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب، فإذا أتانا شيء فأتنا به إن شاء الله. فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلا وافية، فدفعها إليه كل سبع باثنتي عشرة جوازاً.
قال عوانة: لما توفي سعيد بن العاص قيل لمعاوية: توفي سعيد بن العاص، فقال معاوية: ما مات رجل ترك عمراً. وقيل له: توفي ابن عامر، فقال: لم يدع خلفاً ابن عامر، وكان سعيد وابن عامر ماتا في عام واحد في سنة ثمان وخمسين، كانت بينهما جمعة، ومات سعيد قبل ابن عامر.
قال مسدد: مات سعيد بن العاص، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عامر سنة سبع أو ثمان وخمسين. وقيل: توفي سعيد بن العاص سنة تسع وخمسين.
سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عثمان ويقال: أبو عبد الرحمن الأموي أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله عنه رواية. وقتل أبوه العاص بن سعيد يوم بدرٍ كافراً. وكان سعيد عامل عثمان على الكوفة، واستعمله معاوية على المدينة غير مرة.
وقدم على معاوية بعد استقرار الأمر له، ولم يدخل معه في شيء من حروبه، وكانت له بدمشق دار، كانت بعده تعرف بدار نعيم، وحمام نعيم بنواحي الديماس.
ثم رجع سعيد إلى المدينة، ومات بها. وكان كريماً جواداً ممدحاً.
حدث سعيد بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية ".
حدث سعيد بن عمرو بن سعيد أنه سمع أباه يوم المرج يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا أني سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله سيعز هذا الدين بنصارى من ربيعة على شاطىء الفرات. ما تركت عربياً إلا قتلته أو يسلم.
وعن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببردٍ فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: أعطيه هذا الغلام، يعني: سعيد بن العاص، وهو واقف: فلذلك سميت الثياب السعيدية.
ومن حديثٍ:
قال عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص: ما لي أراك معرضاً؟ كأنك ترى أني قتلت أباك! ما أنا قتلته، ولكن قتله علي بن أبي طالب، ولو قتلته ما اعتذرت من قتل مشرك، ولكني قتلت خالي بيدي: العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. فقال سعيد بن العاص: يا أمير المؤمنين، لو قتلته كنت على حق، وكان على باطل. فسر ذلك عمر منه.
قالوا: ولم يزل سعيد بن العاص في ناحية عثمان بن عفان للقرابة. فلما عزل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط عن الكوفة، دعا سعيد بن العاص فاستعمله عليها. فلما قدم الكوفة قدمها شاباً مترفاً، ليست له سابقة، فقال: لا أصعد المنبر حتى يطهر. فأمر به فغسل، ثم صعد المنبر، فخطب أهل الكوفة، وتكلم بكلام، قصر بهم فيه، ونسبهم إلى الشقاق والخلاف، فقال: إنما هو السواد بستانٌ لأغيلمة من قريش. فشكوه إلى عثمان. فقال: كلما رأى أحدكم من أمير جفوة أرادنا أن نعزله؟! وقدم سعيد بن العاص المدينة وافداً على عثمان، فبعث إلى وجوه المهاجرين والأنصار بصلاتٍ وكسًى، وبعث إلى علي بن أبي طالب أيضاً، فقبل ما بعث به إليه، وقال علي: إن بني أمية ليفوقوني تراث محمد تفوقاً، والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم من ذلك نفض القصاب الثراب الوذمة. ثم انصرف سعيد بن العاص إلى الكوفة، فأضر بأهلها إضراراً شديداً، وعمل عليها خمس سنين إلا أشهراً.
وقال مرة بالكوفة: من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان فقال القوم: ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته. فقال له سعيد: بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم: تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل الله وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ثم أصبح هاشم في داره مفطراً، وغدى الناس عنده فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فأرسل إليه، فضربه، وحرق داره. فخرجت أم الحكم بنت عتبة بن أبي وقاص وكانت من المهاجرات ونافع بن عتبة بن أبي وقاص من الكوفة حتى قدما المدينة فذكرا لسعد بن أبي وقاص ما صنع سعيد بهاشم، فأتى سعد عثمان، فذكر ذلك له، فقال عثمان: سعيد لكم بهاشم اضربوه بضربه، ودار سعيد لكم بدار هاشم فاحرقوها كما حرق داره. فخرج عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو يومئذٍ غلام يسعى حتى أشعل النار في دار سعيد بالمدينة، فبلغ الخبر عائشة رضي الله عنها، فأرسلت إلى سعد بن أبي وقاص تطلب إليه، وتسأله أن يكف، ففعل، ورحل من الكوفة إلى عثمان الأشتر مالك بن الحارث، ويزيد بن مكنف، وثابت بن قيس، وكميل بن زياد النخعي، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان، والحارث بن عبد الله الأعور، وجندب بن زهير وأبو زينب الأزديان، وأصفر بن قيس الحارثي، يسألونه عزل سعيد بن العاص عنهم. ورحل سعيد وافداً على عثمان، فوافقهم عنده، فأبى عثمان أن يعزله عنهم، وأمره أن يرجع إلى عمله، فخرج الأشتر من ليلته في نفرٍ من أصحابه، فسار عشر ليالٍ إلى الكوفة، واستولى عليها، وصعد على المنبر، فقال: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمةٍ من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم، ومراكز رماحكم وفيئكم وفيء آبائكم، فمن كان يرى لله عليه حقاً فلينهض إلى الجرعة. فخرج الناس فعسكروا بالجرعة وهي بين الكوفة والحيرة وأقبل سعيد بن العاص حتى نزل العذيب، فدعا الأشتر يزيد بن قيس الأرحبي، وعبد الله بن كنانة العبدي وكانا محربين فعقد لكل واحد منهما على خمس مئة فارس وقال لهما: سيرا إلى سعيد بن العاص، فأزعجاه، وألحقاه بصاحبه، فإن أبى فاضربا عنقه، وائتياني برأسه. فأتياه، فقالا له: ارحل إلى صاحبك فقال: إبلي أنضاءٌ أعلفها أياماً، ونقدم المصر، فنشتري حوائجنا، ونتزود، ثم أرتحل. فقالا: لا والله
ولا ساعةً، لترتحلن أو لنضربن عنقك. فلما رأى الجد منهما ارتحل لاحقاً بعثمان، وأتيا الأشتر فأخبراه، وانصرف الأشتر من معسكره إلى الكوفة، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: والله يا أهل الكوفة، ما غضبت إلا لله ولكم. قد ألحقنا هذا الرجل بصاحبه، وقد وليت أبا موسى الأشعري صلاتكم وثغركم، وحذيفة بن اليمان على فيئكم، ثم نزل، وقال: يا أبا موسى، اصعد. فقال أبو موسى: ما كنت لأفعل، ولكن هلموا فبايعوا لأمير المؤمنين عثمان، وجددوا له البيعة في أعناقكم. فأجابه الناس إلى ذلك، فقبل ولايتهم، وجدد البيعة لعثمان في رقابهم، وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب ذلك عثمان وسره، فقال عتبة بن الوغل شاعر أهل الكوفة: من الطويل
تصدق علينا يا بن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري ليالي
فقال عثمان: نعم وشهوراً وسنين إن بقيت.
وكان الذي صنع أهل الكوفة بسعيد بن العاص أول وهنٍ دخل على عثمان حين اجترىء عليه، ولم يزل أبو موسى والياً لعثمان على الكوفة حتى قتل عثمان، ولم يزل سعيد بن العاص حين رجع عن الكوفة بالمدينة حتى وثب الناس بعثمان فحصروه، فلم يزل سعيد في الدار معه يلزمه فيمن يلزمه، لم يفارقه، ويقاتل دونه.
قالوا: فلما خرج طلحة، الزبير، وعائشة من مكة يريدون البصرة خرج معهم سعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، والمغيرة بن شعبة. فلما نزلوا مر الظهران ويقال: ذات عرق قام سعيد بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان عاش في الدنيا حميداً، وخرج منها فقيداً، وتوفي سعيداً شهيداً، فضاعف الله حسناته، وحط سيئاته، ورفع درجاته: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ". وقد زعمتم أيها الناس، أنكم إنما تخرجون تطلبون بدم عثمان، فإن كنتم ذلك تريدون فإن قتلة عثمان على صدور هذه المطي وأعجازها، فميلوا عليهم بأسيافكم، وإلا فانصرفوا إلى
منازلكم، ولا تقتلوا في رضى المخلوقين أنفسكم، ولا يغني الناس عنكم يوم القيامة شيئاً. فقال مروان بن الحكم: لا بل نضرب بعضهم ببعض، فمن قتل كان الظفر فيه، ويبقى الباقي فنطلبه وهو واهن ضعيف. وقام المغيرة بن شعبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرأي ما رأى سعيد بن العاص، من كان من هوازن فأحب أن يتبعني فليفعل. فتبعه منهم أناسٌ، وخرج حتى نزل الطائف، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين، ورجع سعيد بن العاص بمن اتبعه حتى نزل مكة، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين. ومضى طلحة والزبير، وعائشة، ومعهم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومروان بن الحكم، ومن اتبعهم من قريش وغيرهم إلى البصرة، فشهدوا وقعة الجمل. فلما ولي معاوية الخلافة ولى مروان بن الحكم المدينة، ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، ثم عزله، وولاها مروان بن الحكم ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، فمات الحسن بن علي بن أبي طالب في ولايته تلك سنة خمسين بالمدينة، فصلى عليه سعيد بن العاص.
قدم محمد بن عقيل بن أبي طالب على أبيه وهو بمكة فقال: ما أقدمك يا بني؟ قال: قدمت لأن قريشاً تفاخرني، فأردت أن أعلم أشرف الناس. قال: أنا، وابن أمي، ثم حسبك بسعيد بن العاص.
وعن قبيصة بن جابر قال: بعثني زياد إلى معاوية في حوائج، فلما فرغت منها قلت له: يا أمير المؤمنين، كل ما جئت له فقد فرغت منه، وبقيت لي حاجة، أصدرها في مصادرها. قال: وما هي؟ قلت: من لهذه الأمة بعدك؟ قال: وما أنت من ذاك؟ فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ فوالله إني لقريب القرابة، عظيم الشرف، ناصح الجيب، واد الصدر، فسكت ساعة، ثم قال: بين أربعة من بني عبد مناف: كرمة قريش سعيد بن العاص، وفتى قريش حياءً
ودهاءً وسخاءً عبد الله بن عامر، وأما الحسن بن علي فرجل سيد كريم، وأما القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله فمروان بن الحكم، وأما رجل نفسه فعبد الله بن عمر، وأما رجل يرد الشريعة مع دواهي السباع، ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وعن محمد بن سيرين: أن عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار منهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، يعني لكتابة المصحف.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية لأنه كان أشبههم لهجةً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال سعيد: وقتل العاص مشركاً يوم بدر، ومات سعيد بن العاص قبل بدرٍ مشركاً.
وعن عبد الله بن ساعدة قال: جاء سعيد بن العاص إلى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، إلى متى تمسك بأيدينا؟ قد أكلنا أكلاً هؤلاء القوم: منهم من رمى بالنبل، ومنهم من قد رمى بالحجارة، ومنهم شاهرٌ سيفه! فمرنا بأمرك. فقال عثمان: إني والله ما أريد قتالهم، ولو أردت قتالهم لرجوت أن أمتنع منهم، ولكني أكلهم إلى الله عز وجل، وأكل من ألبهم علي إلى الله، فإنا سنجمع عند ربنا، فأما قتالٌ، فوالله ما آمرك بقتال. فقال سعيد: والله لا أسأل عنك أحداً أبداً. فخرج فقاتل حتى أم.
حدث محمد بن المنكدر قال:
أهدى سعيد بن العاص هدايا لأهل المدينة، وقال لرسوله: لا تعذرني إلا عند علي بن أبي طالب، وقل له: ما فضلت عليك أحداً في الهدية إلا أمير المؤمنين عثمان. فقال علي لما قال له الرسول ذلك: لشد ما نفست علي أمية وضايقتني، والله لئن وليتها لأنفضنها
نقض القصاب الثراب الوذمة. قال: فقال الأصمعي: التراب، فقال شعبة: ما سمعته إلا الثراب بالثاء. فتحاكما إلى أبي عمرو، فحكم كما قال شعبة. قال أبو محكم: الصواب ما قال شعبة، وحكم به أبو عمرو. قال الثوري: صحف الأصمعي وأصاب شعبة.
والثراب: الكروش، يقال: هذه كروش ثربة. والوذمة: ذات زوائد شبهت بوذام الدلو، وقال أبو بكر بن دريد: قولهم التراب الوذمة خطأ، وإن أصحاب الحديث قلبوه، وإنما هو الوذام التربة: قال: وأصله أن كل سير قددته مستطيلاً فهو وذم، وكذلك اللحم والكرش وما أشبهه.
قال سليمان بن زياد: كان بين سعيد بن العاص وبين قوم من بني أمية منازعة، فجاءت سعيداً ولاية المدينة من قبل معاوية، فقال: لا أنتصر وأنا والٍ، فترك منازعة القوم.
كان معاوية يولي المدينة مروان بن الحكم سنة وسعيد بن العاص سنة، فلما كان في ولاية سعيد كتب إليه معاوية: بلغني أن مروان ابتنى داراً، وأنه خرج في الطريق. فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم داره. فقال سعيد: يا جارية، خذي هذا الكتاب فضعيه في الصندوق. فلم يزل يكتب إليه في ولايته تيك، ويأمر باحتفاظ الكتب، لا ينفذ أمره فيما كتب به. ثم ولى مروان فكتب إليه بنظير الكتب التي كتب بها إلى سعيد في مروان، فمضى إلى دار سعيد بالفعلة، وسعيد قد صلى الغداة في المسجد مستقبلاً القبلة فجاء خادم له بخبر مروان، فخرج سعيد، فأخذ بيد مروان، فأدخله الدار، وأخبره مروان بالذي جاء له: فقال سعيد: يا جارية، هاتي الكتب فجاءت بكتب معاوية، فرمى بها إلى مروان. فلما قرأها قال: دواةً وقرطاساً، فكتب إلى معاوية: من الوافر
كتبت إلي تأمرني بعقٍ ... كما قبلي كتبت إلى سعيد
فلما أن عصاك أردت حملي ... على ملساء تزلق بالسديد
لأقطع واصلاً وأخا حفاظٍ ... فرأيك ليس بالرأي الرشيد
ولما مات الحسن بن علي بعث مروان بن الحكم إلى معاوية يخبره أنه مات، قال:
وبعث سعيد بن العاص رسولاً آخر يخبره بذلك، وكتب مروان يخبره بما أوصى به حسن من دفنه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ذلك لا يكون وأنا حي، ولم يذكر ذلك سعيد، فلما دفن حسن بن علي بالبقيع أرسل مروان بريداً آخر يخبره بما كان من ذلك، ومن قيامه ببني أمية ومواليهم، وأني يا أمير المؤمنين عقدت لوائي ولبسنا السلاح، وأحضرت معي من اتبعني، ألفي رجل، فلم يزل الله بمنه وفضله يدرأ ذلك أن يكون مع أبي بكر وعمر ثالثاً أبداً، حيث لم يكن أمير المؤمنين عثمان مظلوم رحمه الله، وكانوا هم الذين فعلوا بعثمان ما فعلوا، فكتب معاوية إلى مروان يشكر له ما صنع، واستعمله على المدينة، ونزع سعيد بن العاص، وكتب إلى مروان: إذا جاءك كتابي هذا فلا تدع لسعيد بن العاص قليلاً ولا كثيراً إلا قبضته. فلما جاء الكتاب إلى مروان بعث به مع ابنه عبد الملك إلى سعيد يخبره بكتاب أمير المؤمنين، فلما قرأه سعيد بن العاص صاح بجارية له: هات كتابي أمير المؤمنين، فطلعت عليه بكتابين فقال لعبد الملك: اقرأهما، فإذا فيهما كتاب من معاوية إلى سعيد بن العاص، يأمره حين عزل مروان بقبض أموال مروان التي بذي المروة، والتي بالسويداء، والتي بذي خشب ولا يدع له عذقاً واحداً. فقال: أخبر أباك؟ فجزاه عبد الملك خيراً، فقال سعيد: والله، لولا أنك جئتني بهذا الكتاب ما ذكرت مما ترى حرفاً واحداً. قال: فجاء عبد الملك بالخبر إلى أبيه قال: هو كان أوصل لنا منا له.
قال صالح بن كيسان: كان سعيد بن العاص رجلاً حليماً وقوراً، ولقد كانت المأمومة التي أصابت رأسه يوم الدار قد كاد أن يخف منها بعض الخفة، وهو على ذلك من أوقر الرجال. وكان مروان رجلاً حديداً، حديد اللسان، سريع الجواب، ذلق اللسان، قلما صبر أن يكون في صدره شيء من حب أحد أو بغضه إلا ذكره، وكان سعيد خلاف ذلك، كان من أحب صبر عن ذكر ذلك ومن أبغض فمثل ذلك، ويقول: إن الأمور تغير والقلوب تغير، فلا ينبغي للمرء أن يكون مادحاً اليوم عائباً غداً.
قال عمير بن إسحاق:
كان مروان بن الحكم أميراً علينا بالمدينة سنة ستين فكان يسب علياً عليه السلام في الجمع كذلك، ثم عزل، فاستعمل علينا سعيد بن العاص، فكان لا يسب علياً.
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي بعد عمر بن الخطاب، وبعث إليها بمئة ألف، فدخل عليها الحسين، فشاورته، فقال: لا تزوجيه. فأرسلت إلى الحسن فقال: أنا أزوجه، فاتعدوا لذلك، وحضر الحسن، وأتاهم سعيد ومن معه، فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ قال الحسن: أكفيك دونه، قال: فلعل أبا عبد الله كره هذا يا أبا محمد؟ قال: قد كان وأكفيكه، قال: إذاً لا أدخل في شيء يكرهه، ورجع ولم يعرض في المال، ولم يأخذ منه شيئاً.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه لما خطبها أنعمت له، فبلغ ذلك إخوتها فكرهوه، وثقل عليهم، وكلموها كلاماً شديداً، وقد كانت وعدت سعيداً موعداً، فدعت ابنها زيد بن عمر بن الخطاب وهو يومئذ غلام صغير وبسطت دارها، ووضعت فيها سريراً، ثم قالت: إذا جاء سعيد بن العاص فزوجنيه. وقد كان سعيد وعد ناساً، وأرسل إليهم ليحضروا تزويجه، فحضروه في المسجد، فلما اجتمعوا إليه قال: إني دعوتكم لأمرٍ ثم بدا لي غيره، إني كنت خطبت أم كلثوم فأنعمت، والله ما كنت لأدخل على ابني فاطمة بأمر يكرهانه. ثم التفت إلى كعبٍ مولاه فقال: انظر إلى المئتي ألف درهم التي هيأت لابنة علي، اذهب بها إليها، وقل لها: يقول لك ابن عمك: إنا كنا هيأنا لك هذه فاقبضيها صلة منا لك.
قال ابن عيينة: كان سعيد بن العاص إذا سأله سائلٌ فلم يكن عنده شيء قال: اكتب علي بمسألتك سجلاً إلى يوم ميسرتي.
وكان سعيد بن العاص يدعو إخوانه وجيرته في كل جمعة يوماً، فيصنع لهم الطعام، ويخلع عليهم الثياب الفاخرة، ويأمر لهم بالجوائز الواسعة، ويبعث إلى عيالاتهم بالبر
الكثير، وكان يوجه مولى له في كل ليلة جمعة، فيدخل المسجد ومعه صرر فيها دنانير فيضعها بين يدي المصلين، فكان قد كثر المصلون في كل ليلة جمعة في مسجد الكوفة.
قال عبد الأعلى بن حماد: استسقى سعيد بن العاص من دار بالمدينة، فسقوه، ثم حضر صاحب الدار في الوقت مع جماعة، فعرض الدار على البيع، وكان عليه أربعة آلاف دينار، فبلغه أن صاحب الدار يريد بيع داره، فقال لغلام له: لم يبيع هذا الرجل داره؟ فقال: عليه أربعة آلاف دينار دينٌ. قال سعيد: إن له لحرمة وذماماً علينا، لسقيه إيانا. فركب إليه فخافضه، فقال له: السلام عليك، وقال لغريمه: كم لك عليه؟ قال أربعة آلاف دينار. قال: أترضى بضمانها؟ قال: نعم. قال له: فمر وهي لك علي، وقال لصاحب الدار: لتستمتع بدارك.
أتى أعرابي سعيد بن العاص فسأله شيئاً، فقال: يا غلام، أعطه خمس مئة، فذهب، ورجع فقال: خمس مئة درهم، أم خمس مئة دينار؟ فقال سعيد: ويحك ما أردت إلا الدراهم! فإذا توهمت الدنانير فأعطه الدنانير. قال: فقبضها الأعرابي، ثم جلس يبكي: فقال له سعيد: ما يبكيك! أليس قد قضى الله حاجتك؟ قال: بلى، ولكن أبكي على الأرض تأكل مثلك.
قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع ديات خملها، فقيل له: عليك بحسن بن علي، عليك بعبد الله بن جعفر، عليك بسعيد بن العاص، عليك بعبيد الله بن العباس. فدخل المسجد، فرأى رجلاً يخرج ومعه جماعة، فقال: من هذا؟ فقيل: سعيد بن العاص. فقال: هذا أحد أصحابي الذين ذكروا لي. فمشى معه، فأخبره بالذي قدم له، ومن ذكر له، وأنه أحدهم، وهو ساكت لا يجيبه. فلما بلغ باب منزله قال لخازنه: قل لهذا الأعرابي فليأت بمن يحمل له. فقيل له: إيت بمن يحمل لك. قال: عافى الله سعيداً، إنما سألناه ورقاً، لم نسأله تمراً! قال: ويحك! إيت بمن يحمل لك. فأخرج إليه أربعين ألفاً، فاحتملها الأعرابي، ومضى إلى البادية، ولم يلق غيره.
كان سعيد بن العاص والياً لمعاوية على المدينة، فأصاب الناس سنة فأقحموا، فأطعمهم سعيد حتى أنفق ما في بيت المال، فكتب إلى معاوية، فغضب وقال: لم يرض أن أنفق مالنا حتى ادان؟ فعزله، فلما احتضر دعا ابنه عمراً فقال: إني قد رضيت غيبتك وشهادتك، فانظر ديني فاقضه، واكسر فيه أموالي، ولا يعطه عني معاوية، وانظر بناتي، فلتكن قبورهن بيوتهن إلا من الأكفاء، وانظر إخواني لا يفقدوني، احفظ منهم ما كنت أحفظ. فلما بلغ معاوية موته قال: رحم الله أبا عثمان، مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني: من الطويل
إذا سار من دون امرىءٍ وأمامه ... وأوحش من إخوانه فهو سائر
لما حضرت سعيد بن العاص الوفاة قال لبنيه: أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا يا أبه. قال: إن فيها قضاء ديني! قال: وما دينك يا أبه؟ قال: ثمانون ألف دينار. قال: يا أبه وفيم أخذتها؟ قال: يا بني، في كريم سددت به منه خلة، وفي رجل جاءني في حاجة ودمه ينزو في وجهه من الحياء، فبدأته بحاجته قبل أن يسألنيها.
قال سعيد بن العاص لابنه: يا بني، أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه، ومخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
قال سعيد بن العاص: ما أدري كيف أكافىء رجلاً بات يقسم ظنه، فلا يقع إلا علي، أصبح يتخطى الناس، ويتخطى المجالس والأحياء حتى يكرمني بنفسه، ويؤنسني بحديثه، غدا التجار إلى تجاراتهم، وغدا إلي في حاجته، فإن كان أخسهم فأخس الله حظي يوم القيامة.
قال سعيد بن العاص: يا بني، إن المكارم لو كانت سهلة يسيرة لسابقكم إليها اللئام.
ولكنها كريهة مرة، لا يصبر عليها إلا من عرف فضلها، ورجا ثوابها، وأنشد أبو جعفر مولى بني هاشم: من الكامل
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق
ولو نني خيرت كل فضيلةٍ ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
قال سعيد بن العاص: لجليسي علي ثلاث خصال: إذا أقبل وسعت له، وإذا جلس أقبلت عليه، وإذا حدث سمعت منه.
قال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فتهون عليه.
خطب سعيد بن العاص فقال في خطبته: من رزقه الله حسناً فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين: إما مصلح فلا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
لما ولي سعيد بن العاص الكوفة أتته هند بنت النعمان مترهبةً معها جوارٍ قد ترهبن، ولبسن المسوح، فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت فأجلسها على فرشه، وكلمته في حاجات لها، فقضاها، فلما قامت قالت: أصلح الله الأمير، ألا أحييك بكلمات كانت الملوك تحيى بهن قبلك؟ قال سعيد: بلى. قالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجةً، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمةً فجعلك الله سبباً في ردها إليه.
كان دين سعيد بن العاص ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية من عمرو بن سعيد بن العاص القصر بألف ألف، والمزارع بألف ألف، والنخل بألف ألف درهم.
وولد سعيد بن العاص محمداً، وعثمان الأكبر، وعمراً يقال له الأشدق، ورجالاً درجوا، وأمهم أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص أخت مروان بن الحكم لأبيه وأمه.
ومات سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق، وأمره أن يدفنه
بالبقيع. قال: إن قليلاً لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عمراً إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه، ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلاً قد اتخذه سعيد، وغرس فيه النخل، وزرع فيه، وبنى فيه قصراً معجباً، ولذلك القصر يقول أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة: من البسيط
القصر ذو النخل فالجماء فوقهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وقال لابنه عمرو: إن منزلي هذا ليس من العقد، إنما هو منزل برهة، فبعه من معاوية، واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي. فلما دفنه عمرو وقف الناس بالبقيع، فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه، فنعاه له أول الناس، فاسترجع معاوية، ثم ترحم عليه، وتوجع لموته، ثم قال: هل ترك من دين؟ قال: نعم، قال: وكم؟ قال: ثلاث مئة ألف درهم. قال: هي علي. قال: قد أبى ذلك، وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها. قال: فعرصني ما شئت. قال: أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته منزله بالعرصة، فقال معاوية: هيهات، لا، تبيعون هذا المنزل؟ انظر غيره، قال: فما نصنع؟ نحن نحب تعجيل قضاء دينه، فقال: قد أخذته بثلاث مئة ألف درهم. قال: اجعلها بالوافية، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واجعلها بالوافقة، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واحملها لي إلى المدينة. قال: وأفعل. قال: فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعل يصرفها في ديونه ويحاسبهم بمئتي الدراهم الوافية وهي البغلية وهي الدراهم الجواز وهي تنقص في العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبغلية عشرة بالجواز حتى أتاه فتى من قريش، يذكر حقاً له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض
نفقاته وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى وهو صعلوك من قريش هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه، فدفع إليه الصك، فلما قرأه المولى بكى ثم قال: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق. فقال عمرو: وما سبب مالك هذا؟ قال: رأيته وهو معزول يمشي وحدهن فقمت فمشيت معه، حتى بلغ داره، ثم وقف، فقال: هل لك من حاجةٍ: فقلت: لا إله أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك. فقال: وصلتك رحمٌ يا بن أخي. ثم قال: ابغني قطعة أديم، فأتيت جزاراً عند باب داره، فأخذت منه هذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقال: اكتب. فكتب وأملاه، وكتب فيه شهادته على نفسه، ثم دفعه إلي وقال: يا بن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب، فإذا أتانا شيء فأتنا به إن شاء الله. فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلا وافية، فدفعها إليه كل سبع باثنتي عشرة جوازاً.
قال عوانة: لما توفي سعيد بن العاص قيل لمعاوية: توفي سعيد بن العاص، فقال معاوية: ما مات رجل ترك عمراً. وقيل له: توفي ابن عامر، فقال: لم يدع خلفاً ابن عامر، وكان سعيد وابن عامر ماتا في عام واحد في سنة ثمان وخمسين، كانت بينهما جمعة، ومات سعيد قبل ابن عامر.
قال مسدد: مات سعيد بن العاص، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عامر سنة سبع أو ثمان وخمسين. وقيل: توفي سعيد بن العاص سنة تسع وخمسين.