إبراهيم أبو إسحاق
ابن النّائحة، الشّاعر من أهل دمشق.
كان في زمن أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون.
حدّث قال: دخلت على أبي الجيش خمارويه بن أحمد، فقال لي: أخبرني بحديث حسن، فقلت: بلغني أيّد الله الأمير أن رجلاً من الممتحنين ممّن تولّت عنه الدّنيا،
وزالت عنه النّعمة، ولحقته النّحوس، وساءت حاله، ورثّت ثيابه، وشعث شعره، وكثر سهره، وقلّ فرخه، فوجد درهماً، فقال: آخذ شعري، وأغسل ثوبي، وأدخل الحمّام؛ فكسر الدّرهم بأربعة وجعله في جيبه، ومضى يغسل ثوبه، فسقطت القطع من جيبه، ولم يبق منها إلاّ قطعة واحدة، فرجع واجتاز في طريقه بحمّام فدخله، وأعطى القطعة؛ فلّما دخل الحمّام نام فيه، وقصد ذلك الحمّام رجل من الأغنياء ذو حشم وغلمان، فدخل الحمّام وليس فيه إلاّ هذا النّائم، فأراد الغلمان طرده، فنهاهم عن ذلك، وقال: دعوه.
فلّما انتبه الرّجل استحيا وأراد الخروج، فدعاه الرّجل إليه، وخاطبه وكلّمه، فإذا رجل أديب متكلم فهم ظريف، قد كملت فيه الأخلاق الشّريفة، إلاّ انه فقير لا شيء له؛ وإذا بالرّجل الغنيّ صاحب الحشم رجل قصير، أعور، مقطوع الأذنين، أحدب؛ فعجب من نفسه وحاله ومن الرّجل.
فأمر الرّجل غلمانه، فغسلوا رأسه، ودعا بمزيّن فأخذ شعره، ودعا له بثياب جدد، فلبسها، وحمله معه إلى منزله، وقدّم له طعاماً سريّاً، فأكل معه، وأمر له بمئة دينار، وقال له: قد أجريت لك في كلّ شهر عشرة دنانير، أكسوك كسوة الشّتاء والصّيف.
فقال له: يا سيّدي، أريد أن تحدّثني ما الذي كان بسببه قطع أذناك، وقلعت عينك، وما هذه الحدبة التي في ظهرك؟ فقال له الرّجل: يا هذا، وأيش سؤالك عمّا لا يعنيك، اله عن هذه؛ قال: لا بدّ أن تحدّثني؛ قال: يا هذا؛ إنّ هذا الذي تسألني عنه شيء ما حدّثت به أحداً قطّ، ولا جسر أحد يسألني عنه غيرك؛ وأنا الذي جلبت لنفسي هذه البليّة بإدخالك منزلي، فقم عافاك الله وانصرف.
فقال: لا والله لا برحت أو تحدّثني؛ فقا: يا هذا، اختر منّي خصلة من اثنتين؛ إمّا أن تنصرف وقد سوّغتك ما وهبت لك، وإمّا أن أحدّثك وآخذ منك كلّ ما أعطيتك، وألبسك خلقك، وأضربك مئة عصاً تأديباً لك!
فقال: يا سيدي، خذ منّي، واعمل بي ما شئت بعد ذلك؛ فقال للغلمان: اعتزلوا،
ثم أنشأ يحدّثني، فقال: كانت لي ابنة عمّ غنيّة موسرة، عظيمة اليسار، فخطبتها، فلم ترغب في لدمامتي وفقري، فوجّهت إليها: يا بنت عمّي، أبي وأبوك أخوان، وأنا أولى النّاس بك، وأنا أسألك أن تحبسي نفسك عليّ سنةً، فإن رزقني الله، وفتح لي، فأنا أولى النّاس بك، وإلاّ فاعملي بنفسك ما أحببت؛ فأجابتني إلى ذلك، واحتلت بعشرين ديناراً فاشتريت فرساً وسرجاً ولجاماً وسلاحاً، وخرجت إلى رجل من الفتيان ممّن يقطع الطّريق، معروف بالشّجاعة والفروسيّة، والإحسان إلى الفتيان والصّعاليك؛ وحدّثته بخبري، وطرحت نفسي عليه، وقبّلت رأسه ويديه، فأقمت عنده شهراً، وهو محسن إليّ، ثمّ خرجنا إلى الصّحراء نطلب الطّريق، ونحن عشرة فتيان أجلاد شجعان، كلّ واحد يرى نفسه.
فبينما نحن جلوس إذ وافى رجل على فرس فاره، وسرج ولجام محلّى، ومعه بغل عليه صناديق، فوق الصّناديق جارية كأنّها الشّمس الطّالعة، وعليها ثياب مرتفعة، وحلّي ظاهر؛ فقال رئيسنا: قد جاءكم رزقكم؛ ثم التفت إلى رجل من أصحابه، فقال: يا فلان، قم الحق الرّجل فاقتله، وائتنا بالجارية وما معها؛ فركب الرّجل فرسه، ومضى خلف الرّجل حتى غاب عنّا وأبطا؛ فقال رئيسنا: أظنّ صاحبنا قتل الرّجل واشتغل بالجارية يضاجعها؛ ثم قال لرجلين: قوما إلى الجارية والرّجل فاحضرا ذلك إلينا؛ فمضيا واحتبسا ولم يعودا! فقال: لأصحابنا خبر؛ ثم ركب فرسه، وركبنا خيلنا، وسرنا فوافينا صاحبنا الأوّل مقتولاً، ثم سرنا فوافينا الآخرين قتيلين، وسرنا حتى لحقنا الرّجل، وإذا معه قوس موترة، وفيه السّهم؛ فرمى رئيسنا فقتله، ثم ثنّى بآخر فقتله، فانهزم الباقون، وهربوا على وجوههم، وأقمت أنا، فطلبت منه الأمان، فأمّنني، وسألته أن يأذن لي في صحبته وخدمته، فقال: خلّ قوسك وتعال سق بالجارية، وسار، ولم يأخذ من سلب القوم شيئاً، ولا من دوابّهم؛ ولم يزل سائراً إلى العصر حتى أتى ديراً فدّق بابه، فنزل إليه صاحب الدّير ففتح الدّير، ودخل الرّجل والجارية الدّير وأنا معهما، وذبح له صاحب الدّير دجاحة، وأعدّ له طعاماً سريّاً، ثم قدّم المائدة، وجلس الرّجل والجارية وأنا وصاحب الدّير وابنه، فأكلنا حتى شبعنا، ثم احضر الشّراب فلم يزالوا يشربون إلى المغرب، ثم قام إليّ وقال: اعذرني فيما أفعله بك، فإنيّ لست آمنك، وإنّما
أنت لصّ بعد كل حال، وأكره غدرك؛ ثم شدّ يدي وحبسني في بيت وأقفل عليّ، ولم يزل يشرب حتى سكر ونام، وأنا أطالع من شقّ الباب.
فإذا الجارية رميت بحصاة، فأشارت إلى الذي رماها، وقالت: قف قليلاً، فلّما استثقل الفتى قامت إلى ابن صاحب الدّير، فوطئها، ثم عادت إلى مولاها؛ فغرت عليها، وقلت: مثل هذه جسرت على هذا السّيّد الشّجاع الذي ما رأت عيني مثله قطّ، فأقبلت أرمقها من خلل الباب وهي تقصد ابن صاحب الدّير يقضي حاجته منها ثم تعود، فلّما أصبح الرّجل، فتح الباب، وحلّ عني، واعتذر إليّ أيضاً.
ومضت الجارية خارج الدّير لما يخرج له النّساء، فحدّثت مولاها بما كان منها، فصاح عليّ وزبرني وانتهزني فسكتّ وأنا خجل، فقلت: هذا رجل قد علم بها وراقت الجارية، فلم يظهر لها شيئاً.
وأقام يومه ذلك، وأعدّ له صاحب الدّير طعاماً كما فعل بالأمس، وهو في ذلك يضاحك الجارية ويمازحها، إلى أن قدّم الطّعام، فأكلنا ثم قدّم الشّراب، فشربنا كفعلنا بالأمس سواء؛ ومع الجارية عود تغنّي به، فلّما جاء المساء، قام إليّ واعتذر إليّ وشدّ يديّ وحبسني في البيت وأقفله عليّ، وأقبل يشرب، وأنا أنظر إليه إلى أن نام، ورميت الجارية بحصاة، فأومت إليه: قف قليلاً؛ فلّما علمت أن مولاها قد استثقل قامت إليه فوطئها، ووثب مولاها إليهما مبادراً فذبحها، ثم فتح الباب عليّ، وحلّ كتافي، ودعا بصاحب الدّير وقال: خذ ابنك فواره، وحدّثه بأمره؛ وقال لي: إنّما صحت عليك لأستثبت القصّة في سكون، ولا أقدم على ما أقدم عليه إلاّ بعلم وعذر واضح.
ثم أمرني فأسرجت له فرسه، فركب وحمل الصّناديق والجارية فوقها، وسار وأنا بين يديه ماش حتى انتصف اللّيل، وقال: عاونّي؛ فلم أزل أنا وهو حتى حفرنا قبراً وطرح الجارية فيه بثيابها وحليها لم ينزعه عنها وطم القبر ودفع إلى صرة، وقال: هذه مئة دينار، خذها وامض إلى أهلك، ولا تقصد هذا القبر ولا تقربه، والله لئن قربته لأنكّلنّ بك؛ فقلت: ما أقربه.
وانصرفت فاختفيت ثلاثة أيام، ثم جئت إلى القبر في اللّيل، فحفرت حتى وصلت
إلى الجارية، فإذا مولاها قائم على رأسي، فأخرجني من القبر، وقطع أذنيّ، وقال: والله لئن عدت لأنكلن بك.
فأقمت عشرة أيام، ثم رجعت إلى القبر، فحفرته حتى وصلت إلى الجارية، وهممت بقلع الحليّ، فإذا مولاها قائم على رأسي فأخرجني، وقلع عيني اليمنى؛ وقال ألم أقل لك: إنك لصّ، ليس فيك حيلة، والله لئن عدت لأقتلنك. وانصرفت، ثم عدت إلى القبر بعد ستة أشهر، وحفرت عليها، فقلعت عنها الحليّ، ورددت القبر كما كان، وانصرفت، فوجدت في الحليّ خمسمئة دينار، وجئت بلدي، ورفقت بابنة عمّي حتى تزوّجت بها، وكانت عظيمة النّعمة، كثيرة الجواري، فأباحتني نعمتها، ووضعت يدي في التّجارة، فكثر مالي، واتسعت دنياي، وعشقت جارية من جواري زوجتي، وبليت بها، وزاد الأمر عليّ حتى كنت لا أصبر عن نظري إليها، وبذلت لها ثلاثمئة دينار على أن تمكّنني من نفسها فلم تفعل، فقنعت بالنّظر، فشكتني إلى ستّها، وأعلمتها محبتي لها، وما بذلت لها، فحجبتها عنّي، ومنعتني من النّظر إليها.
فجعلت بيني وبينها رسولاً على أن أشتريها من ستّها ثم أعتقها وأتزوّج بها، وأهب لها ألف دينار، فامتنعت وكلّمتني من وراء حجاب، فقالت: يا مولاي: اصدقني حتى أصدقك، هل أحببت ستّي قطّ؟ فقلت: إي والله، حتى جاء حبّك فأزال حبّها؛ قالت: وكذا بعدي تحبّ غيري وتبغضني، أنت رجل ملول، لا تصلح لي، فلا تتعب نفسك، فليس والله تصل إليّ أبداً.
ومضت إلى ستّها فحدّثتها بكل ما جرى بيني وبينها، فطردت الرّسول، وحجبتها عنّي، فاشتد قلقي، ثم قابلتني وقالت: أخذتك فقيراً وحشاً، فكسرت بختي، ولحقني منك بلاء؛ إلى أن زاد الأمر بيني وبيتها، فمددت يدي إليها فأقبلتها إلى الأرض، وجعلت أخنقها، فبادرت الجارية التي أحبهّا فأخذت منارة عظيمة فضربت بها ظهري، وخرجت من الدّار هاربة على وجهها منّي.
فماتت زوجتي ممّا خنقتها، وظهرت لي حدبة في ظهري، ولم أر الجارية إلى يومي هذا ولا سمعت لها بخبر!
ثم أمر بالرّجل فنزعت عنه ثيابه، وألبسه خلقانه، وأخذ المال منه، وضربه مئتي عصاً وطرده.
قال أبو إسحاق: فضحك أبو الجيش، وأمر لي بمئة دينار، فأخذتها وانصرفت.
ابن النّائحة، الشّاعر من أهل دمشق.
كان في زمن أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون.
حدّث قال: دخلت على أبي الجيش خمارويه بن أحمد، فقال لي: أخبرني بحديث حسن، فقلت: بلغني أيّد الله الأمير أن رجلاً من الممتحنين ممّن تولّت عنه الدّنيا،
وزالت عنه النّعمة، ولحقته النّحوس، وساءت حاله، ورثّت ثيابه، وشعث شعره، وكثر سهره، وقلّ فرخه، فوجد درهماً، فقال: آخذ شعري، وأغسل ثوبي، وأدخل الحمّام؛ فكسر الدّرهم بأربعة وجعله في جيبه، ومضى يغسل ثوبه، فسقطت القطع من جيبه، ولم يبق منها إلاّ قطعة واحدة، فرجع واجتاز في طريقه بحمّام فدخله، وأعطى القطعة؛ فلّما دخل الحمّام نام فيه، وقصد ذلك الحمّام رجل من الأغنياء ذو حشم وغلمان، فدخل الحمّام وليس فيه إلاّ هذا النّائم، فأراد الغلمان طرده، فنهاهم عن ذلك، وقال: دعوه.
فلّما انتبه الرّجل استحيا وأراد الخروج، فدعاه الرّجل إليه، وخاطبه وكلّمه، فإذا رجل أديب متكلم فهم ظريف، قد كملت فيه الأخلاق الشّريفة، إلاّ انه فقير لا شيء له؛ وإذا بالرّجل الغنيّ صاحب الحشم رجل قصير، أعور، مقطوع الأذنين، أحدب؛ فعجب من نفسه وحاله ومن الرّجل.
فأمر الرّجل غلمانه، فغسلوا رأسه، ودعا بمزيّن فأخذ شعره، ودعا له بثياب جدد، فلبسها، وحمله معه إلى منزله، وقدّم له طعاماً سريّاً، فأكل معه، وأمر له بمئة دينار، وقال له: قد أجريت لك في كلّ شهر عشرة دنانير، أكسوك كسوة الشّتاء والصّيف.
فقال له: يا سيّدي، أريد أن تحدّثني ما الذي كان بسببه قطع أذناك، وقلعت عينك، وما هذه الحدبة التي في ظهرك؟ فقال له الرّجل: يا هذا، وأيش سؤالك عمّا لا يعنيك، اله عن هذه؛ قال: لا بدّ أن تحدّثني؛ قال: يا هذا؛ إنّ هذا الذي تسألني عنه شيء ما حدّثت به أحداً قطّ، ولا جسر أحد يسألني عنه غيرك؛ وأنا الذي جلبت لنفسي هذه البليّة بإدخالك منزلي، فقم عافاك الله وانصرف.
فقال: لا والله لا برحت أو تحدّثني؛ فقا: يا هذا، اختر منّي خصلة من اثنتين؛ إمّا أن تنصرف وقد سوّغتك ما وهبت لك، وإمّا أن أحدّثك وآخذ منك كلّ ما أعطيتك، وألبسك خلقك، وأضربك مئة عصاً تأديباً لك!
فقال: يا سيدي، خذ منّي، واعمل بي ما شئت بعد ذلك؛ فقال للغلمان: اعتزلوا،
ثم أنشأ يحدّثني، فقال: كانت لي ابنة عمّ غنيّة موسرة، عظيمة اليسار، فخطبتها، فلم ترغب في لدمامتي وفقري، فوجّهت إليها: يا بنت عمّي، أبي وأبوك أخوان، وأنا أولى النّاس بك، وأنا أسألك أن تحبسي نفسك عليّ سنةً، فإن رزقني الله، وفتح لي، فأنا أولى النّاس بك، وإلاّ فاعملي بنفسك ما أحببت؛ فأجابتني إلى ذلك، واحتلت بعشرين ديناراً فاشتريت فرساً وسرجاً ولجاماً وسلاحاً، وخرجت إلى رجل من الفتيان ممّن يقطع الطّريق، معروف بالشّجاعة والفروسيّة، والإحسان إلى الفتيان والصّعاليك؛ وحدّثته بخبري، وطرحت نفسي عليه، وقبّلت رأسه ويديه، فأقمت عنده شهراً، وهو محسن إليّ، ثمّ خرجنا إلى الصّحراء نطلب الطّريق، ونحن عشرة فتيان أجلاد شجعان، كلّ واحد يرى نفسه.
فبينما نحن جلوس إذ وافى رجل على فرس فاره، وسرج ولجام محلّى، ومعه بغل عليه صناديق، فوق الصّناديق جارية كأنّها الشّمس الطّالعة، وعليها ثياب مرتفعة، وحلّي ظاهر؛ فقال رئيسنا: قد جاءكم رزقكم؛ ثم التفت إلى رجل من أصحابه، فقال: يا فلان، قم الحق الرّجل فاقتله، وائتنا بالجارية وما معها؛ فركب الرّجل فرسه، ومضى خلف الرّجل حتى غاب عنّا وأبطا؛ فقال رئيسنا: أظنّ صاحبنا قتل الرّجل واشتغل بالجارية يضاجعها؛ ثم قال لرجلين: قوما إلى الجارية والرّجل فاحضرا ذلك إلينا؛ فمضيا واحتبسا ولم يعودا! فقال: لأصحابنا خبر؛ ثم ركب فرسه، وركبنا خيلنا، وسرنا فوافينا صاحبنا الأوّل مقتولاً، ثم سرنا فوافينا الآخرين قتيلين، وسرنا حتى لحقنا الرّجل، وإذا معه قوس موترة، وفيه السّهم؛ فرمى رئيسنا فقتله، ثم ثنّى بآخر فقتله، فانهزم الباقون، وهربوا على وجوههم، وأقمت أنا، فطلبت منه الأمان، فأمّنني، وسألته أن يأذن لي في صحبته وخدمته، فقال: خلّ قوسك وتعال سق بالجارية، وسار، ولم يأخذ من سلب القوم شيئاً، ولا من دوابّهم؛ ولم يزل سائراً إلى العصر حتى أتى ديراً فدّق بابه، فنزل إليه صاحب الدّير ففتح الدّير، ودخل الرّجل والجارية الدّير وأنا معهما، وذبح له صاحب الدّير دجاحة، وأعدّ له طعاماً سريّاً، ثم قدّم المائدة، وجلس الرّجل والجارية وأنا وصاحب الدّير وابنه، فأكلنا حتى شبعنا، ثم احضر الشّراب فلم يزالوا يشربون إلى المغرب، ثم قام إليّ وقال: اعذرني فيما أفعله بك، فإنيّ لست آمنك، وإنّما
أنت لصّ بعد كل حال، وأكره غدرك؛ ثم شدّ يدي وحبسني في بيت وأقفل عليّ، ولم يزل يشرب حتى سكر ونام، وأنا أطالع من شقّ الباب.
فإذا الجارية رميت بحصاة، فأشارت إلى الذي رماها، وقالت: قف قليلاً، فلّما استثقل الفتى قامت إلى ابن صاحب الدّير، فوطئها، ثم عادت إلى مولاها؛ فغرت عليها، وقلت: مثل هذه جسرت على هذا السّيّد الشّجاع الذي ما رأت عيني مثله قطّ، فأقبلت أرمقها من خلل الباب وهي تقصد ابن صاحب الدّير يقضي حاجته منها ثم تعود، فلّما أصبح الرّجل، فتح الباب، وحلّ عني، واعتذر إليّ أيضاً.
ومضت الجارية خارج الدّير لما يخرج له النّساء، فحدّثت مولاها بما كان منها، فصاح عليّ وزبرني وانتهزني فسكتّ وأنا خجل، فقلت: هذا رجل قد علم بها وراقت الجارية، فلم يظهر لها شيئاً.
وأقام يومه ذلك، وأعدّ له صاحب الدّير طعاماً كما فعل بالأمس، وهو في ذلك يضاحك الجارية ويمازحها، إلى أن قدّم الطّعام، فأكلنا ثم قدّم الشّراب، فشربنا كفعلنا بالأمس سواء؛ ومع الجارية عود تغنّي به، فلّما جاء المساء، قام إليّ واعتذر إليّ وشدّ يديّ وحبسني في البيت وأقفله عليّ، وأقبل يشرب، وأنا أنظر إليه إلى أن نام، ورميت الجارية بحصاة، فأومت إليه: قف قليلاً؛ فلّما علمت أن مولاها قد استثقل قامت إليه فوطئها، ووثب مولاها إليهما مبادراً فذبحها، ثم فتح الباب عليّ، وحلّ كتافي، ودعا بصاحب الدّير وقال: خذ ابنك فواره، وحدّثه بأمره؛ وقال لي: إنّما صحت عليك لأستثبت القصّة في سكون، ولا أقدم على ما أقدم عليه إلاّ بعلم وعذر واضح.
ثم أمرني فأسرجت له فرسه، فركب وحمل الصّناديق والجارية فوقها، وسار وأنا بين يديه ماش حتى انتصف اللّيل، وقال: عاونّي؛ فلم أزل أنا وهو حتى حفرنا قبراً وطرح الجارية فيه بثيابها وحليها لم ينزعه عنها وطم القبر ودفع إلى صرة، وقال: هذه مئة دينار، خذها وامض إلى أهلك، ولا تقصد هذا القبر ولا تقربه، والله لئن قربته لأنكّلنّ بك؛ فقلت: ما أقربه.
وانصرفت فاختفيت ثلاثة أيام، ثم جئت إلى القبر في اللّيل، فحفرت حتى وصلت
إلى الجارية، فإذا مولاها قائم على رأسي، فأخرجني من القبر، وقطع أذنيّ، وقال: والله لئن عدت لأنكلن بك.
فأقمت عشرة أيام، ثم رجعت إلى القبر، فحفرته حتى وصلت إلى الجارية، وهممت بقلع الحليّ، فإذا مولاها قائم على رأسي فأخرجني، وقلع عيني اليمنى؛ وقال ألم أقل لك: إنك لصّ، ليس فيك حيلة، والله لئن عدت لأقتلنك. وانصرفت، ثم عدت إلى القبر بعد ستة أشهر، وحفرت عليها، فقلعت عنها الحليّ، ورددت القبر كما كان، وانصرفت، فوجدت في الحليّ خمسمئة دينار، وجئت بلدي، ورفقت بابنة عمّي حتى تزوّجت بها، وكانت عظيمة النّعمة، كثيرة الجواري، فأباحتني نعمتها، ووضعت يدي في التّجارة، فكثر مالي، واتسعت دنياي، وعشقت جارية من جواري زوجتي، وبليت بها، وزاد الأمر عليّ حتى كنت لا أصبر عن نظري إليها، وبذلت لها ثلاثمئة دينار على أن تمكّنني من نفسها فلم تفعل، فقنعت بالنّظر، فشكتني إلى ستّها، وأعلمتها محبتي لها، وما بذلت لها، فحجبتها عنّي، ومنعتني من النّظر إليها.
فجعلت بيني وبينها رسولاً على أن أشتريها من ستّها ثم أعتقها وأتزوّج بها، وأهب لها ألف دينار، فامتنعت وكلّمتني من وراء حجاب، فقالت: يا مولاي: اصدقني حتى أصدقك، هل أحببت ستّي قطّ؟ فقلت: إي والله، حتى جاء حبّك فأزال حبّها؛ قالت: وكذا بعدي تحبّ غيري وتبغضني، أنت رجل ملول، لا تصلح لي، فلا تتعب نفسك، فليس والله تصل إليّ أبداً.
ومضت إلى ستّها فحدّثتها بكل ما جرى بيني وبينها، فطردت الرّسول، وحجبتها عنّي، فاشتد قلقي، ثم قابلتني وقالت: أخذتك فقيراً وحشاً، فكسرت بختي، ولحقني منك بلاء؛ إلى أن زاد الأمر بيني وبيتها، فمددت يدي إليها فأقبلتها إلى الأرض، وجعلت أخنقها، فبادرت الجارية التي أحبهّا فأخذت منارة عظيمة فضربت بها ظهري، وخرجت من الدّار هاربة على وجهها منّي.
فماتت زوجتي ممّا خنقتها، وظهرت لي حدبة في ظهري، ولم أر الجارية إلى يومي هذا ولا سمعت لها بخبر!
ثم أمر بالرّجل فنزعت عنه ثيابه، وألبسه خلقانه، وأخذ المال منه، وضربه مئتي عصاً وطرده.
قال أبو إسحاق: فضحك أبو الجيش، وأمر لي بمئة دينار، فأخذتها وانصرفت.