عروة بن رويم أبو القاسم اللخمي
من أهل الأردن، قدم الجابية، وسمع بها أنس بن مالك يحدث الخليفة.
قال عروة بن رويم: كنا عند عبد الملك بن مروان حين قدم عليه أنس بن مالك، فقال له عبد الملك: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بينك وبينه أحد، ليس فيه تزيد ولا نقصان، فقال أنس: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الإيمان يمان إلى لخم وجذام، إلا أن الكفر وقسوة القلوب في هذين الحيين من ربيعة ومضر.
وحدث عروة عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: لما أنزلت " إذا وقعت الواقعة " فذكر فيها " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " قال عمر: يا نبي الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم أنزل الله تبارك وتعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر، تعال اسمع ما قد أنزل الله " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " ألا وإن من آدم إلي ثلة، وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى تسعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وعن عروة بن رويم أنه حدث عن الأنصاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يكون في أمتي رجفة، يهلك فيها عشرة آلاف، وعشرون ألف، وثلاثون ألف، يجعلها الله تعالى موعظة للمتقين، ورحمة للمؤمنين، وعذاباً على الكافرين.
وحدث عن الأنصاري قال: قال الله: " لأرجفن بعبادي في خير ليال، فمن قبضته فيها كافراً كانت منيته التي قدرت عليه، ومن قبضته فيها مؤمناً كانت له شهادة ".
وعن عروة بن رويم قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة له، فدخل المسجد، فصلى له ركعتين وكان يعجبه إذا قدم، أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين ثم خرج فأتى فاطمة عليها السلام، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته فاطمة، فجعلت تقبل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يبكيك؟ قالت: أراك يا رسول الله قد شحب لونك واخلولقت ثيابك. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة، إن الله بعث أباك بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أدخله الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث يبلغ الليل.
وعن عروة بن رويم قال: كاد المقلسون يحولون بيننا وبين جنازة عبد الملك، قوم يقلسون للوليد بن عبد الملك، ونحن نذهب بجنازة عبد الملك إلى المقابر!.
توفي عروة بن رويم اللخمي سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهودمشقي، وكان كثير الحديث، ثقة.
وعن عروة بن رويم قال: ثلاثة من جاء بإحداهن زوجه الله من أي الحور العين شاء: من ولي طعماً فاتقى
الله فأدى الأمانة، ومن ضرب بسيفه بين يدي كتيبة يريد ما عند الله، ومن رد غيظه وهو قادر على أن يمضيه.
قال عروة بن رويم: يأتي على الناس زمان يسمى فيه الأمر بالمعروف مكلف.
واختلف في وفاة عروة، فقيل: سنة خمس وعشرين ومئة، وقالوا: وهو وهم.
وقيل: توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة، وقيل: سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة أربعين.
ومات بذي خشب. وحمل إلى المدينة فدفن بها. وقيل: توفي سنة أربع وأربعين ومئة.
/
عروة بن الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله الأسدي القرشي الفقيه المدني أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة أم المؤمنين وفد على معاوية بن أبي سفيان، وعلى عبد الملك بن مروان، وعلى الوليد بن عبد الملك.
حدث عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلوى والعسل.
وحدث عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حضر الطعام أو العشاء وحضرت الصلاة فابدؤوا بالطعام ".
وحدث عنها: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبّل وهو صائم.
وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً عالماً، مأموناً ثبتاً.
ولد عروة بن الزبير سنة ثلاث وعشرين في آخر خلافة عمر. وقيل: ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان. وكان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير عشرون سنة. وقيل: ولد سنة تسع وعشرين.
قال عروة: كنت أتعلق بشعر كتفي أبي الزبير وهوي قول: من الرجز
مباركٌ من ولد الصّديق ... أزهر من آل أبي غتيق
ألذّه كما ألذّ ريقي
قال عروة بن الزبير: وقفت وأنا غلام أنظر إلى الذين حضورا عثمان بن عفان، وقد مشى أحدهم على الخشبتين اللتين غرزتا ليدخل منهما إلى عثمان، فلقيه عليهما أخي عبد الله بن الزبير، فبصرته طاح قتيلاً على البلاط، فقلت لصبيانٍ معي: قتله أخي، فوثب عليّ الذين حضروا عثمان، فكشّفوني فلم يجدوني أنبت، فخلّوني.
وقد روي أنه أذّن له عمر بن الخطاب.
قال عروة: كنت غلاماً لي ذؤابتان، قال: فقمت أركع ركعتين بعد العصر، قال: فبصر بي عمر بن الخطاب ومعه الدّرّة، فلما رأيته فررت منه وأحضر في طلبي حتى تعلق بذؤابتي قال: فنهاني، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أعود.
قال علقمة بن وقاص: لما خرج طلحة والزبير وعائشة بطلب دم عثمان عرضوا من معهم بذات عرق فاستصغروا عروة بن الزبير فردوه.
قال عروة: رددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن من الطريق يوم الجمل واستصغرنا.
قال قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة:
كنا في خلافة معاوية في آخرها نجتمع في حلقة في المسجد بالليل وأنا ومصعب وعروة ابنا الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكنا نتفرق بالنهار. فكنت أنا أجالس زيد بن ثابت، وزيد مترئس بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة، وفي الفقه خمس سنين، حتى ولي معاوية سنة أربعين، فكان كذلك حتى توفي زيد سنة خمس وأربعين، فكنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله على عائشة. وكانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يقول لنا ونحن شباب: مالكم لا تعلّمون؛ لقد هابكم سراتكم، إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبارهم، وما خير للشيخ يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج أو خمس حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته. ولقد كان يبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين الحديث فآتيه فأجده قد قال، فأجلس على بابه فأسأله عنه.
قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
قال الزهري: سألت ابن صغير عن شيء من الفقه، فقال: ألك بذا حاجة؟ عليك بهذا، وأشار
إلى سعيد بن المسيّب؛ فجالسته سبع سنين لا أرى أن عالماً غيره. قال: ثم تحولت إلى عروة ففجّرت به ثبج بحر.
قال ابن شهاب: جالست سعيد بن المسيب، فكان يعيد عليّ الرجيع من حديثه. وكان عروة بحراً ما تكدره الدلاء. وما رأيت أغزر حديثاً من عبيد الله بن عبد الله.
قال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن.
حدث هشام بن عروة: أن عون بن عبد الله قال: حدثني عن أبيك، قال: فذهبت أحدثه عن السنين، فقال: لا غرائب أحاديثه! فإن عبد الله بن عروة حدثني عن عروة عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان: إنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً، فاتق الله.
قال هشام: حدثني عتبة بن عبد الله قال: جلست مع أبيك فضحكت فقال: ما يضحكك؟ فقلت: أنك تحيلنا على الأملئاء.
قال هشام: فإنما كان يحدث عن عائشة.
فقال هشام: وكان أبي يقول: إنا كنا أصاغر قوم، ثم نحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر وستكونون كباراً، فتعلموا العلم تسودوا به قومكم، ويحتاجون إليكم، فوالله ما سألني الناس حتى لقد نسيت.
قال هشام: وكان أبي يدعوني وعبد الله بن عروة وعثمان وإسماعيل أخويّ، وآخر قد سمّاه هشام، فيقول: لا تغشوني مع الناس، إذا خلوت فسلوني، فكان يحدثنا: يأخذ في الطلاق ثم الخلع ثم الحج ثم الهدي ثم كذا، ثم يقول: كروا عليه، فكان يعجب من حفظي. قال هشام: فوالله ما تعلمنا جزءاً من ألف جزء من أحاديثه.
وفي حديث بمعناه: عن عبيد الله بن عبد الله: فقال: وما يضحكك؟ فقال: إنك تحدثني عن عائشة وتحيلني على الملاء وإن غيرك يحيلنا على المفاليس.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: العلم لواحد من ثلاثة: لذي حسب يزينه به، أو ذي دين يسوس به دينه، أو مختبطٍ سلطاناً يتحفه بعلمه، ولا أعلم أحداً أشرط لهذه الخلال من عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز كلاهما حسيب ديّن من السلطان تأرّى.
قال الزهري: كن عروة يتألّف الناس على حديثه، وفي رواية: على علمه.
قال عثمان بن عروة: كان عروة يقول: يا بنيّ هلموا فتعلموا، فإن أزهد الناس في عالم أهله، وما أشده على أمير بأن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
قال هشام بن عروة: ما رأيت عروة يسأل عن شيء قط، فقال فيه برأيه، إن كان عنده فيه علم قال بعلمه، وإن لم يكن عنده فيه علم، قال: هذا من خالص السلطان.
قال: وقال أبي: ما أخبرت أحداً بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ذلك ضلالة عليه.
وعن هشام بن عروة: أن أباه حرق كتباً له فيها فقه، ثم قال: لوددت أني كنت فديتها بأهلي ومالي.
قال الزهري:
كنا عند عمر بن عبد العزيز، وهو والي المدينة، ثم صرت إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فقال: هل من معه به خبرٌ فأسأله الأمر؟ هل كان عمر يكتب؟ فقال عروة: نعم كان يكتب، فقال: بآية ماذا؟ قال: بقوله: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن لخططت آية الرجم بيدي. فقال عبيد الله: هل سمّى عروة من حدّثه؟ قلت: لا، فقال عبيد الله: فإنما صار عروة يمص مص البعوضة تملأ بطنها ولا يرى أثرها، يسرق أحاديثنا ويكتمنا. أي: إني أنا حدثته.
قال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله!! فقال: وما روايتي في رواية عائشة: ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً.
قال ابن شوذب: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردّد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " حتى يخرج.
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاوده من الليلة المقبلة، وكان في رجله الأكلة، فنشرها
وكان الوليد بن عبد الملك بعث إليه الأطباء فقالوا: نقطع رجله، فقطعت، فما تضوّر وجهه يومئذ.
وعن عروة: أنه خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، وكانوا على رواحل، فأرادوه على أين يركب محملاً، فأبى عليهم، ثم غلبوه، وخلّوا ناقة له بمحمل فركبها، ولم يركب محملاً قبل ذلك، فلما أصبح تلا هذه الآية: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " حتى فرغ منها، وقال: لقد أنعم الله على هذه الأمة في هذه المحامل بنعمة لا تؤدون شكرها. وترقّى في رجله الوضع حين قدم على الوليد، فلما رآه الوليد قال: يا أبا عبد الله اقطعها، فإني أخاف أن يبالغ فوق ذلك قال: فدونك؛ فدعا له الطبيب، وقال له: اشرب المرقد، قال: لا أشرب مرقداً أبداً. قال: فقدرها الطبيب، واحتاط بشيء من اللحم الحي، مخافة أن يبقى منها شيء ضمنٌ فيرقى، فأخذ منشاراً، فأمسّه النار فاتكأ له عروة، فقطعها من نصف الساق. فما زاد على أن يقول: حس حس. فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا.
وأصيب عروة بابن له يقال له محمد، في ذلك السفر، ودخل إسطبل دواب من الليل ليبول، فركضته بغلةٌ فقتلته، وكان من أحب ولده غليه، فلم يسمع من عروة في ذلك كله كلمة حتى رجع، فلما كان بوادي القرى قال: لقينا من سفرنا هذا نصباً، اللهم
كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وبقّيت لي ستة، وكانت لي أطراف أربعة، فأخذت مني طرفاً وبقّيت لي ثلاثة. وايمك لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.
فلما قدم المدينة جاء رجل من قومه يقال له عطاء بن ذؤيب، فقال: يا أبا عبد الله ما كنا نحتاج أن نسابق بك، ولا نصارع بك، ولكنا كنا نحتاج إلى رأيك والأنس بك، فأما ما أصبت به فهو أمر ذخره الله لك، وأما ما كنا نحب أن يبقى لنا منك فقد بقي.
وفي حديث غيره بمعناه، قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.
ونشرت رجل عروة في دمشق. ولما نظر عروة إلى رجله في الطست حين قطعت قال: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى معصية قط. وما ترك حزبه تلك الليلة. قال: وقعد بنوه يخنّون، يعني يبكون، فقال: يا بنيّ إن أباكم لم يكن فرساً يراهن عليه، قد أبقي لي خير خلتين: ديني وعقلي.
كان عروة يصوم الدهر كله إلا يوم الفطر ويوم النحر، ومات وهو صائم، فجعلوا يقولون له: أفطر، فلم يفطر.
قال أبو الزناد: اجتمع في الحجر مصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع
بينعائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنّوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
وعن محمد بن شيبة قال:
قال مصعب بن الزبير: وددت أني لا أموت حتى أملك المصرين، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عبد الملك: وددت أني لا أموت حتى أسمى بهذا الاسم. وقال عروة بن الزبير: وددت أن الله غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة. قال: ولم يمت هذان حتى أصابا ما طلبا، وأرجو أن يصيب هذا ما طلب.
قال الزهري: كنت آتي عروة فأجلس في بابه مليّاً، ولو شئت أن أدخل لدخلت، فأرجع وما أدخل إعظاماً له.
قال هشام بن عروة: جاء عمر بن عبد العزيز من قبل أن سيتخلف إلى أبي عروة بن الزبير، فقال له: رأيت البارحة عجباً، كنت فوق سطحي مستلقياً على فراشي، فسمت جلبة في الطريق، فأشرفت فظننت عسكر العسس، فإذا الشياطين يجيئون كردوساً كردوساً حتى اجتمعوا في جوبة خلف منزلي. قال: ثم جاء إبليس. فلما اجتمعوا هتف إبليس بصوت عال؛ فتفازعوا، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة منهم: نحن، فذهبوا ورجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فصاح الثانية أشد من الأولى، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة أخرى: نحن، فذهبوا،
فلبثوا طويلاً، ثم رجعوا، وقالوا: ما قدرنا منه على شيء، فصاح الثالثة صيحة ظننت أن الأرض قد انشقت، فتفازعوا، فقال؛ من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت جماعتهم: نحن، فذهبوا ثم لبثوا طويلاً، ثم رجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فذهب إبليس مغضباً، واتبعوه. فقال عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز: حدثني أبي الزبير بن العوام قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من رجل يدعو بهذا الدعاء في أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، أعوذ بالله من الشيطان.
قال عروة بن الزبير: كنت جالساً في مسجد الرسول ضحوة وحدي، إذ أتاني آتٍ يقول: السلام عليك يا بن الزبير، فالتفتّ يميناً وشمالاً، فلم أر شيئاً، غير أني رددت عليه: واقشعر جلدي، فقال: لا روع عليك، أنا رجل من أهل الأرض من الخافية أتيتك، أخبرك بشيء وأسألك عن شيء، قال: ما الذي تسألني عنه؟ وما الذي تخبرني به؟ قال: الذي أخبرك به أني شهدت إبليس عليه لعنة الله ثلاثة أيام، فرأيت شيطاناً مسودّاً وجهه، مزرقّة عيناه، يقول له إبليس عند المساء: ماذا صنعت بالرجل؟ فيقول له الشيطان: لم أطق الكلام الذي يقوله إذا أمسى وأصبح. فلما كان يوم الثالث قلت للشيطان: عمن يسألك إبليس اللعين؟ قال: يسألني عن عروة بن الزبير أن أغويه فما أستطيع ذلك لكلام يتكلم به إذا أصبح وإذا أمسى؛ فأتيتك أسألك ماذا تكلّم به إذا أصبحت وأمسيت؟ فقال عروة: أقول: آمنت بالله العظيم واعتصمت به، وكفرت بالطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وإن الله هو السميع العليم. فإذا أصبحت أقول ذلك. فقال له: يا بن الزبير جزاك الله خيراً، فقد استفدت خيراً وأفدته.
قال: وكان عروة يقول: إذا رأيتم من رجل خلعة رائعةً من شر فاحذروه، وإن كان عند الناس رجل حذق، فإن لها عنده أخوات. وإذا رأيتم من رجل خلة رائعة من خير فلا تقطعوا أناتكم عنه، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات.
قال عروة: وإني لأعشق الشرف كما أعشق الجمال، فعل الله بفلانة؛ ألفت بني فلان وهو بيض طوالٌ فقلبتهم سوداً قصاراً.
قال عروة: خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته سودة ونحن في الطواف، فلم يجبني بشيء، فقلت في نفسي: لو رضيني لأجابني. فلما انقضى الحج خرج إلى المدينة قبلي، وخرجت بعده. فلما دخلت المدينة مضيت إليه، فسلمت عليه، فقال لي: كنت ذكرت سودة بنت عبد الله؟ قلت: نعم. قال: كنت ذكرتها ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا، أفلك فيها حاجة؟ قلت: أحرص ما كنت. قال: يا غلام: ادع عبد الله بن عبد الله ونافعاً مولى عبد الله. قال: قلت له: وبعض آل الزبير؟ قال: لا. قلت: فمولاك حبيباً؟ قال: ذلك أبعد. ثم قال لهما: هذا عروة بن أبي عبد الله بن الزبير، وقد علمتما حاله، وقد خطب إليّ سودة بنت عبد الله، وقد زوجته إياها بما جعل الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعلى أن يستحلها بما يستحل به مثلها. أقبلت يا عروة؟ قلت: نعم؛ قال: بارك الله لك.
قال عروة بن الزبير: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً.
قال عروة:
تفرق بنو الزبير في البلاد، فخرج المنذر إلى العراق، وخرج معه بخالد بن الزبير، فأرسل عبد الله بن الزبير مصعباً فرد خالداً من بني المطلب، ونفذ المنذر فقدم الكوفة. وخرج عروة حتى قدم البصرة على عبد الله بن عباس، وهو عامل عليها، فقال له عروة حين دخل عليه: من الطويل.
أمتّ بأرحام إليكم قريبةٍ ... ولا قرب بالأرحام ما لم تقرّب
فقال له ابن عباس: من قالها؟ قال عروة: قلت: أبو أحمد بن جحش. قال ابن عباس: فهل تدري ما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: لا، قال: قال له: صدقت. قال: ثم قال لي: ما أقدمك؟ قال: قلت: اشتدت الحال وأبى عبد الله أن يقسم سبع حجج، وتألّى أن لا يفعل حتى يقضي دين الزبير، وليس يؤدي عنه أحد. قال: ثم أجازني وأعطاني. ثم لحق بمصر فأقام بها بعد.
بعث معاوية إلى عروة بن الزبير مقدمه المدينة، فكشفه وسأله واستنشده، ثم قال: تروي قول جدتك صفية؟ وأراد أن يحركه. وكان يقال: طيّروا دماء الشباب في وجوههم، يقول: حركوهم: من الطويل
خالجت آباد الدهور عليكم ... وأسماء لم تشعر بذلك أيّم
فلو كان زبرّ مشركاً لعذرته ... ولكنه قد يزعم الناس مسلم
فقال لها الزبير: يا أمتاه وما هو إلا الزعم. فقال عروة: نعم وأروي قولها: من الوافر
ألا أبلغ بني عمّي رسولاً ... ففيم الكيد فينا والإمار
وسائل في جموع بني عليٍّ ... إذا كثر التّناشد والفخار
بأنّا لا نقرّ الضّيم فينا ... ونحن لمن توسّمنا نضار
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ... وتظعن من أماثلكم ديار
مجازيل العطاء إذا وهبنا ... وأيسارٌ إذا جبّ القتار
ونحن الغافرون إذا قدرنا ... وفينا عند غدوتنا انتصار
ولم نبدأ بذي رحم عقوقاً ... ولم توقد لنا بالغدر نار
وإنّا والسوابح يوم جمع ... بأيديها وقد سطع الغبار
لنصطبرن لأمر الله حتى ... يبيّن ربّنا أين الفرار
قال معاوية: يا بن أخي هذه بتلك، قال: وإنما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعيّر به أبا سفيان بن حرب. وكان أبو أزيهر صهر أبي سفيان، وكان يدخل ثمّ في جوار أبي سفيان، فقتله هشام بن الوليد، فعيّر به حسان بن ثابت في قوله: من الطويل
غدا أهل حضني المجاز بسحرةٍ ... وجار ابن حربٍ بالمغمّس لا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه ... فأبل وأخلق مثلها جدداً بعد
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً ... وأصبحت رخواً ما تخبّ ولا تعدو
فما منع العير الضّروط ذمارة ... وما منعت مخزاة والدها هند
فلو أن أشياخاً ببدر تشاهدوا ... لبلّ نعال القوم معتبطٌ ورد
قال: وكانت العرب إذا غدر الرجل أوقدوا له ناراً بمنى أيام الحج على الأخشب الجبل المطل على منى، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان، ففعلوا ذلك بأبي سفيان في أبي أزيهر.
قال سفيان: قتل بان الزبير وهو ابن ثلاث وسبعين، وقتل معه ابن صفوان وابن مطيع بن الأسود. قيل له: فأين كان عروة؟ قال: بمكة، فلما قتل خرج إلى المدينة بالأموال، فاستودعها، وخرج إلى عبد الملك، فقدم عليه قبل البريد، وقبل أن يصل إليه الخبر. فلما انتهى إلى الباب قال للبواب: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله على الباب، فقال: من أبو عبد الله؟ قال: قل له: أبو عبد الله، فدخل، فقال: ههنا رجل عليه أثر سفر يقول: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله عند الباب، فقلت له: من أبو عبد الله؟ فقال: قل له: أبو عبد الله، فقال: ذاك عروة بن الزبير؛ فأذن له. فلما رآه زال له عن موضعه، قال: فجعل يسأله، فقال: كيف أبو بكر؟ يعين عبد الله بن الزبير، فقال: قتل رحمه الله قال: فنزل عبد الملك عن السرير فسجد. وكتب إليه الحجاج أن عروة قد خرج والأموال عنده. قال: فقال له عبد الملك في ذلك، فقال: ما تدعون الرجل حتى يأخذ سيفه فيموت كريماُ؟! قال: فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج أن أعرض عن ذلك.
حدث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في حديث عروة بن الزبير
أن الحجاج رآه قاعداً مع عبد الملك بن مروان، فقال له: أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك؟! لا أم له. فقال عروة: أنا لا أم لي؟! وأنا ابن عجائز الجنة؟! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا بن المتمنّية. فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل فكفّ عروة.
قوله: يا بن المتمنّية أراد أمه، وهي الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف، وكانت تحت المغيرة بن شعبة، وهي القائلة: من البسيط
ألا سبيل إلى خمر فأشربها ... أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج
وكان نصر بن حجاج من بني سليم، وكان جميلاً رائعاً، فمرّ عمر بن الخطاب ذات ليلة وهذه المرأة تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشريها...... البيت......
فدعا بنصر بن حجاج فسيره إلى البصرة، فأتى مجاشع نب مسعود السّلمي، وعنده امرأته شميلة، وكان مجاشع أميّاً، فكتب نصر على الأرض: أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك، ولو كان تحتك لأقلّك. فكتبت المرأة: وأنا والله. فلبث مجاشع آنأ ثم أدخل كاتباً فقرأه، فأخرج نصراً، وطلقها.
وكان عمر بن الخطاب سمع قائلاً بالمدينة يقول: من الطويل
أعوذ برب الناس من شر معقلٍ ... إذا معقلٌ راح البقيع مرجّلا
يعني معقل بن سنان الأشجعي، وكان قدم المدينة، فقال له عمر: الحق بباديتك.
قال الزهري: دخل عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وهو أميرنا بالمدينة، فقال عروة في شيء جرى من ذكر عائشة وعبد الله بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحداً كحبي عبد الله بن الزبير، لا أعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبوي، فقال له عمر: إنكم تنتحلون عائشة وابن الزبير انتحال من لا يرى فيهما لأحد
نصيباً. قال عروة: بركة عائشة رضوان الله عليها كانت أوسع من أن لا نرى لكل مسلم فيها حقاً، ولقد كان عبد الله بن الزبير منها بحيث وضعته الرحم والمودة التي لا يشرك كلّ واحد منهما فيها غير صاحبه أحد، فقال عمر: كذبت. فقال عروة: هذا يعني عبيد الله بن عبد الله يعلم أين غير كاذب، وأنّ أكذب الكاذبين لمن كذّب الصادقين، فسكت عبيد الله ولم يدخل ما بينهما بشيء؛ فأفّف بهما عمر، وقال: اخرجا عني، فلم يلبث أن بعث إلى عبيد الله بن عبد الله رسولاً يدعوه لبعض ما كان يدعوه له، فكتب إليه عبيد الله: من الطويل
لعمر ابن ليلى وابن عائشة الذي ... لمروان أدّاه أبٌ غير زمّل
ولو أنهم عمّاً وجدّاً ووالداً ... تأسّوا فسنّوا سنّة المتفضّل
غذرت أبا حفص بأن كان واحداً ... من القوم يهدي هديهم ليس يأتلي
ولكنهم فاتوا وجئت مصلّياً ... تقرّب إثر السابق المتهمّل
وعمت فإن تلحق فحضر مبرّز ... جوادٍ وإن تسبق فنفسك أعول
فمالك في السلطان أن تحمل القذى ... جفونٌ عيونٍ بالقذى لم تكحّل
وما الحقّ أن تهوى فتعسف بالذي ... هويت إذا ما كان ليس بأعدل
أبى الله والأحساب أن ترأم الخنا ... نفوس كرامٍ بالخنا لم توكّل
قال هشام بن عروة: ما سمعت أحداً من أهل الأهواء يذكر عروة إلا بخير.
كان عروة بن الزبير تابعياً ثقة صالحاً، لم يدخل في شيء من الفتن.
قال عروة: ما برّ والده من شدّ الطرف إليه.
قال عبد الله بن حسن بن حسن: كان علي بن حسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخر مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما. فتحدثا ليلة فذكرا جور من جار من بني أميّة. والمقام معهم، وهو لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم، فقال عروة لعليّ: يا علي، إن من اعتزل أهل الجور، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم. قال: فخرج عروة فسكن العقيق. قال عبد الله: وخرجت أنا فنزلت سويقة.
قال هشام بن عروة:
لما قطع عمر بن الخطاب العقيق فدنا من موضع قصر عروة، قال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فوالله ما مررت بقطيعة تشبه هذه القطيعة، فقام إليه خوات بن خيبر الأنصاري فقال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين، فأقطعه إياها، وكان يقال لموضعها: خيف حرّة الوبرة.
فلما كانت سنة إحدى وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عباس بن
علقمة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ ما بين الميل الرابع من المدينة إلى صفيرة أرض المغيرة بن الأخنس التي في وادي العقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء، وشهود قطيعته عبد الملك وأبان ابنا مروان وعبيد الله بن عبد الله بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبئاره من عبد الله بن عباس وابتنى واحتفر واحتجر وضفر. فقيل له: يا أبا عبد الله إنك بغير موضع مدر، فقال: يأتي الله به من البقيع. فجاء سيل فدخل في مزارعه، فكساها من خليج كان خلجه.
ولما فرغ عروة من بناء قصره وبئاره دعا جماعة من الناس، وكان فيمن دعي ابن أبي عتيق، قال: فطعم وجعلوا يبرّكون وينصرفون ويقولون: ما رأينا ماء أعذب ولا أطيب، ولا منزلاً أكرم. قال: وقام ابن أبي عتيق فبرّك، ثم قال: لولا خصيلة واحدة ما كان في الأرض مثلها، قال: فاشرأب عروة والناس، وقال: ما هي؟ قال: ليس لها وقاية ولا دونها وديعة، قال: فضحك عروة ومن حضر، وأعجبهم ذلك من قول ابن أبي عتيق.
الوديعة: الخزانة تستودع بالمطر إذا جاء فيكون لها غذاء. والرقابة أن يكون لها ميضأة لئلا يرجع عليها الماء.
لما اتخذ عروة قصراً بالعقيق، قال له الناس: قد جفرت عن مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هنالك عما هم فيه عافية.
وعن ابن أبي ربيعة: أنه مرّ بعروة بن الزبير وهو يبني قصره بالعقيق، فقال: أردت الحرث يا أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكنه ذكر لي أنه سيصيبها عذاب، يعني المدينة، فقلت: إن أصابها شيء كنت منتحياً عنها.
وكان عروة يكون بالعقيق فيموت بعض ولده بالمدينة فلا يأتيه.
من شعر عروة بن الزبير: من المتقارب
إذا انتسب الناس كان التقيّ ... بتقواه أفضل من ينسب
ومن يتّق الله يكسب بها ... من الحظ أفضل ما يكسب
قال عروة: أفضل ما أعطي العباد في الدنيا العقل، وأفضل ما أعطوا في الآخرة رضوان الله.
وقال عروة: ليس الرجل الذي إذا وقع في الأمر تخلص منه، ولكن الرجل يتوقى الأمور حتى لا يقع فيها.
قال عروة: ما أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إليّ من أن أدفن فيه. إما أحد الرجلين: إما ظالم فما أحب أن أكون في قبره، وإما صالح فما أحب أن تنبش لي عظامه.
مات عروة بن الزبير يوم مات، وهو يقول: أخشاك ربي وأرجوك، أخشاك ربي وأرجوك.
مات عروة بن الزبير في أمواله بمجاح في ناحية الفرع، ودفن هناك يوم الجمعة سنة أربع وتسعين. وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها.
وقيل: توفي سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن سبع وسبعين، وقيل: سبع وستين سنة.
وقيل: توفي سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة خمس وتسعين. وقيل: سنة سبع وتسعين أو تسع وتسعين، أو إحدى ومئة.
من أهل الأردن، قدم الجابية، وسمع بها أنس بن مالك يحدث الخليفة.
قال عروة بن رويم: كنا عند عبد الملك بن مروان حين قدم عليه أنس بن مالك، فقال له عبد الملك: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بينك وبينه أحد، ليس فيه تزيد ولا نقصان، فقال أنس: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الإيمان يمان إلى لخم وجذام، إلا أن الكفر وقسوة القلوب في هذين الحيين من ربيعة ومضر.
وحدث عروة عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: لما أنزلت " إذا وقعت الواقعة " فذكر فيها " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " قال عمر: يا نبي الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم أنزل الله تبارك وتعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر، تعال اسمع ما قد أنزل الله " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " ألا وإن من آدم إلي ثلة، وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى تسعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وعن عروة بن رويم أنه حدث عن الأنصاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يكون في أمتي رجفة، يهلك فيها عشرة آلاف، وعشرون ألف، وثلاثون ألف، يجعلها الله تعالى موعظة للمتقين، ورحمة للمؤمنين، وعذاباً على الكافرين.
وحدث عن الأنصاري قال: قال الله: " لأرجفن بعبادي في خير ليال، فمن قبضته فيها كافراً كانت منيته التي قدرت عليه، ومن قبضته فيها مؤمناً كانت له شهادة ".
وعن عروة بن رويم قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة له، فدخل المسجد، فصلى له ركعتين وكان يعجبه إذا قدم، أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين ثم خرج فأتى فاطمة عليها السلام، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته فاطمة، فجعلت تقبل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يبكيك؟ قالت: أراك يا رسول الله قد شحب لونك واخلولقت ثيابك. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة، إن الله بعث أباك بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أدخله الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث يبلغ الليل.
وعن عروة بن رويم قال: كاد المقلسون يحولون بيننا وبين جنازة عبد الملك، قوم يقلسون للوليد بن عبد الملك، ونحن نذهب بجنازة عبد الملك إلى المقابر!.
توفي عروة بن رويم اللخمي سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهودمشقي، وكان كثير الحديث، ثقة.
وعن عروة بن رويم قال: ثلاثة من جاء بإحداهن زوجه الله من أي الحور العين شاء: من ولي طعماً فاتقى
الله فأدى الأمانة، ومن ضرب بسيفه بين يدي كتيبة يريد ما عند الله، ومن رد غيظه وهو قادر على أن يمضيه.
قال عروة بن رويم: يأتي على الناس زمان يسمى فيه الأمر بالمعروف مكلف.
واختلف في وفاة عروة، فقيل: سنة خمس وعشرين ومئة، وقالوا: وهو وهم.
وقيل: توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة، وقيل: سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة أربعين.
ومات بذي خشب. وحمل إلى المدينة فدفن بها. وقيل: توفي سنة أربع وأربعين ومئة.
/
عروة بن الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله الأسدي القرشي الفقيه المدني أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة أم المؤمنين وفد على معاوية بن أبي سفيان، وعلى عبد الملك بن مروان، وعلى الوليد بن عبد الملك.
حدث عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلوى والعسل.
وحدث عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حضر الطعام أو العشاء وحضرت الصلاة فابدؤوا بالطعام ".
وحدث عنها: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبّل وهو صائم.
وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً عالماً، مأموناً ثبتاً.
ولد عروة بن الزبير سنة ثلاث وعشرين في آخر خلافة عمر. وقيل: ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان. وكان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير عشرون سنة. وقيل: ولد سنة تسع وعشرين.
قال عروة: كنت أتعلق بشعر كتفي أبي الزبير وهوي قول: من الرجز
مباركٌ من ولد الصّديق ... أزهر من آل أبي غتيق
ألذّه كما ألذّ ريقي
قال عروة بن الزبير: وقفت وأنا غلام أنظر إلى الذين حضورا عثمان بن عفان، وقد مشى أحدهم على الخشبتين اللتين غرزتا ليدخل منهما إلى عثمان، فلقيه عليهما أخي عبد الله بن الزبير، فبصرته طاح قتيلاً على البلاط، فقلت لصبيانٍ معي: قتله أخي، فوثب عليّ الذين حضروا عثمان، فكشّفوني فلم يجدوني أنبت، فخلّوني.
وقد روي أنه أذّن له عمر بن الخطاب.
قال عروة: كنت غلاماً لي ذؤابتان، قال: فقمت أركع ركعتين بعد العصر، قال: فبصر بي عمر بن الخطاب ومعه الدّرّة، فلما رأيته فررت منه وأحضر في طلبي حتى تعلق بذؤابتي قال: فنهاني، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أعود.
قال علقمة بن وقاص: لما خرج طلحة والزبير وعائشة بطلب دم عثمان عرضوا من معهم بذات عرق فاستصغروا عروة بن الزبير فردوه.
قال عروة: رددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن من الطريق يوم الجمل واستصغرنا.
قال قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة:
كنا في خلافة معاوية في آخرها نجتمع في حلقة في المسجد بالليل وأنا ومصعب وعروة ابنا الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكنا نتفرق بالنهار. فكنت أنا أجالس زيد بن ثابت، وزيد مترئس بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة، وفي الفقه خمس سنين، حتى ولي معاوية سنة أربعين، فكان كذلك حتى توفي زيد سنة خمس وأربعين، فكنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله على عائشة. وكانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يقول لنا ونحن شباب: مالكم لا تعلّمون؛ لقد هابكم سراتكم، إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبارهم، وما خير للشيخ يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج أو خمس حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته. ولقد كان يبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين الحديث فآتيه فأجده قد قال، فأجلس على بابه فأسأله عنه.
قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
قال الزهري: سألت ابن صغير عن شيء من الفقه، فقال: ألك بذا حاجة؟ عليك بهذا، وأشار
إلى سعيد بن المسيّب؛ فجالسته سبع سنين لا أرى أن عالماً غيره. قال: ثم تحولت إلى عروة ففجّرت به ثبج بحر.
قال ابن شهاب: جالست سعيد بن المسيب، فكان يعيد عليّ الرجيع من حديثه. وكان عروة بحراً ما تكدره الدلاء. وما رأيت أغزر حديثاً من عبيد الله بن عبد الله.
قال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن.
حدث هشام بن عروة: أن عون بن عبد الله قال: حدثني عن أبيك، قال: فذهبت أحدثه عن السنين، فقال: لا غرائب أحاديثه! فإن عبد الله بن عروة حدثني عن عروة عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان: إنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً، فاتق الله.
قال هشام: حدثني عتبة بن عبد الله قال: جلست مع أبيك فضحكت فقال: ما يضحكك؟ فقلت: أنك تحيلنا على الأملئاء.
قال هشام: فإنما كان يحدث عن عائشة.
فقال هشام: وكان أبي يقول: إنا كنا أصاغر قوم، ثم نحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر وستكونون كباراً، فتعلموا العلم تسودوا به قومكم، ويحتاجون إليكم، فوالله ما سألني الناس حتى لقد نسيت.
قال هشام: وكان أبي يدعوني وعبد الله بن عروة وعثمان وإسماعيل أخويّ، وآخر قد سمّاه هشام، فيقول: لا تغشوني مع الناس، إذا خلوت فسلوني، فكان يحدثنا: يأخذ في الطلاق ثم الخلع ثم الحج ثم الهدي ثم كذا، ثم يقول: كروا عليه، فكان يعجب من حفظي. قال هشام: فوالله ما تعلمنا جزءاً من ألف جزء من أحاديثه.
وفي حديث بمعناه: عن عبيد الله بن عبد الله: فقال: وما يضحكك؟ فقال: إنك تحدثني عن عائشة وتحيلني على الملاء وإن غيرك يحيلنا على المفاليس.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: العلم لواحد من ثلاثة: لذي حسب يزينه به، أو ذي دين يسوس به دينه، أو مختبطٍ سلطاناً يتحفه بعلمه، ولا أعلم أحداً أشرط لهذه الخلال من عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز كلاهما حسيب ديّن من السلطان تأرّى.
قال الزهري: كن عروة يتألّف الناس على حديثه، وفي رواية: على علمه.
قال عثمان بن عروة: كان عروة يقول: يا بنيّ هلموا فتعلموا، فإن أزهد الناس في عالم أهله، وما أشده على أمير بأن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
قال هشام بن عروة: ما رأيت عروة يسأل عن شيء قط، فقال فيه برأيه، إن كان عنده فيه علم قال بعلمه، وإن لم يكن عنده فيه علم، قال: هذا من خالص السلطان.
قال: وقال أبي: ما أخبرت أحداً بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ذلك ضلالة عليه.
وعن هشام بن عروة: أن أباه حرق كتباً له فيها فقه، ثم قال: لوددت أني كنت فديتها بأهلي ومالي.
قال الزهري:
كنا عند عمر بن عبد العزيز، وهو والي المدينة، ثم صرت إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فقال: هل من معه به خبرٌ فأسأله الأمر؟ هل كان عمر يكتب؟ فقال عروة: نعم كان يكتب، فقال: بآية ماذا؟ قال: بقوله: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن لخططت آية الرجم بيدي. فقال عبيد الله: هل سمّى عروة من حدّثه؟ قلت: لا، فقال عبيد الله: فإنما صار عروة يمص مص البعوضة تملأ بطنها ولا يرى أثرها، يسرق أحاديثنا ويكتمنا. أي: إني أنا حدثته.
قال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله!! فقال: وما روايتي في رواية عائشة: ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً.
قال ابن شوذب: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردّد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " حتى يخرج.
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاوده من الليلة المقبلة، وكان في رجله الأكلة، فنشرها
وكان الوليد بن عبد الملك بعث إليه الأطباء فقالوا: نقطع رجله، فقطعت، فما تضوّر وجهه يومئذ.
وعن عروة: أنه خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، وكانوا على رواحل، فأرادوه على أين يركب محملاً، فأبى عليهم، ثم غلبوه، وخلّوا ناقة له بمحمل فركبها، ولم يركب محملاً قبل ذلك، فلما أصبح تلا هذه الآية: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " حتى فرغ منها، وقال: لقد أنعم الله على هذه الأمة في هذه المحامل بنعمة لا تؤدون شكرها. وترقّى في رجله الوضع حين قدم على الوليد، فلما رآه الوليد قال: يا أبا عبد الله اقطعها، فإني أخاف أن يبالغ فوق ذلك قال: فدونك؛ فدعا له الطبيب، وقال له: اشرب المرقد، قال: لا أشرب مرقداً أبداً. قال: فقدرها الطبيب، واحتاط بشيء من اللحم الحي، مخافة أن يبقى منها شيء ضمنٌ فيرقى، فأخذ منشاراً، فأمسّه النار فاتكأ له عروة، فقطعها من نصف الساق. فما زاد على أن يقول: حس حس. فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا.
وأصيب عروة بابن له يقال له محمد، في ذلك السفر، ودخل إسطبل دواب من الليل ليبول، فركضته بغلةٌ فقتلته، وكان من أحب ولده غليه، فلم يسمع من عروة في ذلك كله كلمة حتى رجع، فلما كان بوادي القرى قال: لقينا من سفرنا هذا نصباً، اللهم
كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وبقّيت لي ستة، وكانت لي أطراف أربعة، فأخذت مني طرفاً وبقّيت لي ثلاثة. وايمك لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.
فلما قدم المدينة جاء رجل من قومه يقال له عطاء بن ذؤيب، فقال: يا أبا عبد الله ما كنا نحتاج أن نسابق بك، ولا نصارع بك، ولكنا كنا نحتاج إلى رأيك والأنس بك، فأما ما أصبت به فهو أمر ذخره الله لك، وأما ما كنا نحب أن يبقى لنا منك فقد بقي.
وفي حديث غيره بمعناه، قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.
ونشرت رجل عروة في دمشق. ولما نظر عروة إلى رجله في الطست حين قطعت قال: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى معصية قط. وما ترك حزبه تلك الليلة. قال: وقعد بنوه يخنّون، يعني يبكون، فقال: يا بنيّ إن أباكم لم يكن فرساً يراهن عليه، قد أبقي لي خير خلتين: ديني وعقلي.
كان عروة يصوم الدهر كله إلا يوم الفطر ويوم النحر، ومات وهو صائم، فجعلوا يقولون له: أفطر، فلم يفطر.
قال أبو الزناد: اجتمع في الحجر مصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع
بينعائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنّوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
وعن محمد بن شيبة قال:
قال مصعب بن الزبير: وددت أني لا أموت حتى أملك المصرين، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عبد الملك: وددت أني لا أموت حتى أسمى بهذا الاسم. وقال عروة بن الزبير: وددت أن الله غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة. قال: ولم يمت هذان حتى أصابا ما طلبا، وأرجو أن يصيب هذا ما طلب.
قال الزهري: كنت آتي عروة فأجلس في بابه مليّاً، ولو شئت أن أدخل لدخلت، فأرجع وما أدخل إعظاماً له.
قال هشام بن عروة: جاء عمر بن عبد العزيز من قبل أن سيتخلف إلى أبي عروة بن الزبير، فقال له: رأيت البارحة عجباً، كنت فوق سطحي مستلقياً على فراشي، فسمت جلبة في الطريق، فأشرفت فظننت عسكر العسس، فإذا الشياطين يجيئون كردوساً كردوساً حتى اجتمعوا في جوبة خلف منزلي. قال: ثم جاء إبليس. فلما اجتمعوا هتف إبليس بصوت عال؛ فتفازعوا، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة منهم: نحن، فذهبوا ورجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فصاح الثانية أشد من الأولى، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة أخرى: نحن، فذهبوا،
فلبثوا طويلاً، ثم رجعوا، وقالوا: ما قدرنا منه على شيء، فصاح الثالثة صيحة ظننت أن الأرض قد انشقت، فتفازعوا، فقال؛ من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت جماعتهم: نحن، فذهبوا ثم لبثوا طويلاً، ثم رجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فذهب إبليس مغضباً، واتبعوه. فقال عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز: حدثني أبي الزبير بن العوام قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من رجل يدعو بهذا الدعاء في أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، أعوذ بالله من الشيطان.
قال عروة بن الزبير: كنت جالساً في مسجد الرسول ضحوة وحدي، إذ أتاني آتٍ يقول: السلام عليك يا بن الزبير، فالتفتّ يميناً وشمالاً، فلم أر شيئاً، غير أني رددت عليه: واقشعر جلدي، فقال: لا روع عليك، أنا رجل من أهل الأرض من الخافية أتيتك، أخبرك بشيء وأسألك عن شيء، قال: ما الذي تسألني عنه؟ وما الذي تخبرني به؟ قال: الذي أخبرك به أني شهدت إبليس عليه لعنة الله ثلاثة أيام، فرأيت شيطاناً مسودّاً وجهه، مزرقّة عيناه، يقول له إبليس عند المساء: ماذا صنعت بالرجل؟ فيقول له الشيطان: لم أطق الكلام الذي يقوله إذا أمسى وأصبح. فلما كان يوم الثالث قلت للشيطان: عمن يسألك إبليس اللعين؟ قال: يسألني عن عروة بن الزبير أن أغويه فما أستطيع ذلك لكلام يتكلم به إذا أصبح وإذا أمسى؛ فأتيتك أسألك ماذا تكلّم به إذا أصبحت وأمسيت؟ فقال عروة: أقول: آمنت بالله العظيم واعتصمت به، وكفرت بالطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وإن الله هو السميع العليم. فإذا أصبحت أقول ذلك. فقال له: يا بن الزبير جزاك الله خيراً، فقد استفدت خيراً وأفدته.
قال: وكان عروة يقول: إذا رأيتم من رجل خلعة رائعةً من شر فاحذروه، وإن كان عند الناس رجل حذق، فإن لها عنده أخوات. وإذا رأيتم من رجل خلة رائعة من خير فلا تقطعوا أناتكم عنه، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات.
قال عروة: وإني لأعشق الشرف كما أعشق الجمال، فعل الله بفلانة؛ ألفت بني فلان وهو بيض طوالٌ فقلبتهم سوداً قصاراً.
قال عروة: خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته سودة ونحن في الطواف، فلم يجبني بشيء، فقلت في نفسي: لو رضيني لأجابني. فلما انقضى الحج خرج إلى المدينة قبلي، وخرجت بعده. فلما دخلت المدينة مضيت إليه، فسلمت عليه، فقال لي: كنت ذكرت سودة بنت عبد الله؟ قلت: نعم. قال: كنت ذكرتها ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا، أفلك فيها حاجة؟ قلت: أحرص ما كنت. قال: يا غلام: ادع عبد الله بن عبد الله ونافعاً مولى عبد الله. قال: قلت له: وبعض آل الزبير؟ قال: لا. قلت: فمولاك حبيباً؟ قال: ذلك أبعد. ثم قال لهما: هذا عروة بن أبي عبد الله بن الزبير، وقد علمتما حاله، وقد خطب إليّ سودة بنت عبد الله، وقد زوجته إياها بما جعل الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعلى أن يستحلها بما يستحل به مثلها. أقبلت يا عروة؟ قلت: نعم؛ قال: بارك الله لك.
قال عروة بن الزبير: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً.
قال عروة:
تفرق بنو الزبير في البلاد، فخرج المنذر إلى العراق، وخرج معه بخالد بن الزبير، فأرسل عبد الله بن الزبير مصعباً فرد خالداً من بني المطلب، ونفذ المنذر فقدم الكوفة. وخرج عروة حتى قدم البصرة على عبد الله بن عباس، وهو عامل عليها، فقال له عروة حين دخل عليه: من الطويل.
أمتّ بأرحام إليكم قريبةٍ ... ولا قرب بالأرحام ما لم تقرّب
فقال له ابن عباس: من قالها؟ قال عروة: قلت: أبو أحمد بن جحش. قال ابن عباس: فهل تدري ما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: لا، قال: قال له: صدقت. قال: ثم قال لي: ما أقدمك؟ قال: قلت: اشتدت الحال وأبى عبد الله أن يقسم سبع حجج، وتألّى أن لا يفعل حتى يقضي دين الزبير، وليس يؤدي عنه أحد. قال: ثم أجازني وأعطاني. ثم لحق بمصر فأقام بها بعد.
بعث معاوية إلى عروة بن الزبير مقدمه المدينة، فكشفه وسأله واستنشده، ثم قال: تروي قول جدتك صفية؟ وأراد أن يحركه. وكان يقال: طيّروا دماء الشباب في وجوههم، يقول: حركوهم: من الطويل
خالجت آباد الدهور عليكم ... وأسماء لم تشعر بذلك أيّم
فلو كان زبرّ مشركاً لعذرته ... ولكنه قد يزعم الناس مسلم
فقال لها الزبير: يا أمتاه وما هو إلا الزعم. فقال عروة: نعم وأروي قولها: من الوافر
ألا أبلغ بني عمّي رسولاً ... ففيم الكيد فينا والإمار
وسائل في جموع بني عليٍّ ... إذا كثر التّناشد والفخار
بأنّا لا نقرّ الضّيم فينا ... ونحن لمن توسّمنا نضار
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ... وتظعن من أماثلكم ديار
مجازيل العطاء إذا وهبنا ... وأيسارٌ إذا جبّ القتار
ونحن الغافرون إذا قدرنا ... وفينا عند غدوتنا انتصار
ولم نبدأ بذي رحم عقوقاً ... ولم توقد لنا بالغدر نار
وإنّا والسوابح يوم جمع ... بأيديها وقد سطع الغبار
لنصطبرن لأمر الله حتى ... يبيّن ربّنا أين الفرار
قال معاوية: يا بن أخي هذه بتلك، قال: وإنما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعيّر به أبا سفيان بن حرب. وكان أبو أزيهر صهر أبي سفيان، وكان يدخل ثمّ في جوار أبي سفيان، فقتله هشام بن الوليد، فعيّر به حسان بن ثابت في قوله: من الطويل
غدا أهل حضني المجاز بسحرةٍ ... وجار ابن حربٍ بالمغمّس لا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه ... فأبل وأخلق مثلها جدداً بعد
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً ... وأصبحت رخواً ما تخبّ ولا تعدو
فما منع العير الضّروط ذمارة ... وما منعت مخزاة والدها هند
فلو أن أشياخاً ببدر تشاهدوا ... لبلّ نعال القوم معتبطٌ ورد
قال: وكانت العرب إذا غدر الرجل أوقدوا له ناراً بمنى أيام الحج على الأخشب الجبل المطل على منى، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان، ففعلوا ذلك بأبي سفيان في أبي أزيهر.
قال سفيان: قتل بان الزبير وهو ابن ثلاث وسبعين، وقتل معه ابن صفوان وابن مطيع بن الأسود. قيل له: فأين كان عروة؟ قال: بمكة، فلما قتل خرج إلى المدينة بالأموال، فاستودعها، وخرج إلى عبد الملك، فقدم عليه قبل البريد، وقبل أن يصل إليه الخبر. فلما انتهى إلى الباب قال للبواب: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله على الباب، فقال: من أبو عبد الله؟ قال: قل له: أبو عبد الله، فدخل، فقال: ههنا رجل عليه أثر سفر يقول: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله عند الباب، فقلت له: من أبو عبد الله؟ فقال: قل له: أبو عبد الله، فقال: ذاك عروة بن الزبير؛ فأذن له. فلما رآه زال له عن موضعه، قال: فجعل يسأله، فقال: كيف أبو بكر؟ يعين عبد الله بن الزبير، فقال: قتل رحمه الله قال: فنزل عبد الملك عن السرير فسجد. وكتب إليه الحجاج أن عروة قد خرج والأموال عنده. قال: فقال له عبد الملك في ذلك، فقال: ما تدعون الرجل حتى يأخذ سيفه فيموت كريماُ؟! قال: فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج أن أعرض عن ذلك.
حدث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في حديث عروة بن الزبير
أن الحجاج رآه قاعداً مع عبد الملك بن مروان، فقال له: أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك؟! لا أم له. فقال عروة: أنا لا أم لي؟! وأنا ابن عجائز الجنة؟! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا بن المتمنّية. فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل فكفّ عروة.
قوله: يا بن المتمنّية أراد أمه، وهي الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف، وكانت تحت المغيرة بن شعبة، وهي القائلة: من البسيط
ألا سبيل إلى خمر فأشربها ... أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج
وكان نصر بن حجاج من بني سليم، وكان جميلاً رائعاً، فمرّ عمر بن الخطاب ذات ليلة وهذه المرأة تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشريها...... البيت......
فدعا بنصر بن حجاج فسيره إلى البصرة، فأتى مجاشع نب مسعود السّلمي، وعنده امرأته شميلة، وكان مجاشع أميّاً، فكتب نصر على الأرض: أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك، ولو كان تحتك لأقلّك. فكتبت المرأة: وأنا والله. فلبث مجاشع آنأ ثم أدخل كاتباً فقرأه، فأخرج نصراً، وطلقها.
وكان عمر بن الخطاب سمع قائلاً بالمدينة يقول: من الطويل
أعوذ برب الناس من شر معقلٍ ... إذا معقلٌ راح البقيع مرجّلا
يعني معقل بن سنان الأشجعي، وكان قدم المدينة، فقال له عمر: الحق بباديتك.
قال الزهري: دخل عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وهو أميرنا بالمدينة، فقال عروة في شيء جرى من ذكر عائشة وعبد الله بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحداً كحبي عبد الله بن الزبير، لا أعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبوي، فقال له عمر: إنكم تنتحلون عائشة وابن الزبير انتحال من لا يرى فيهما لأحد
نصيباً. قال عروة: بركة عائشة رضوان الله عليها كانت أوسع من أن لا نرى لكل مسلم فيها حقاً، ولقد كان عبد الله بن الزبير منها بحيث وضعته الرحم والمودة التي لا يشرك كلّ واحد منهما فيها غير صاحبه أحد، فقال عمر: كذبت. فقال عروة: هذا يعني عبيد الله بن عبد الله يعلم أين غير كاذب، وأنّ أكذب الكاذبين لمن كذّب الصادقين، فسكت عبيد الله ولم يدخل ما بينهما بشيء؛ فأفّف بهما عمر، وقال: اخرجا عني، فلم يلبث أن بعث إلى عبيد الله بن عبد الله رسولاً يدعوه لبعض ما كان يدعوه له، فكتب إليه عبيد الله: من الطويل
لعمر ابن ليلى وابن عائشة الذي ... لمروان أدّاه أبٌ غير زمّل
ولو أنهم عمّاً وجدّاً ووالداً ... تأسّوا فسنّوا سنّة المتفضّل
غذرت أبا حفص بأن كان واحداً ... من القوم يهدي هديهم ليس يأتلي
ولكنهم فاتوا وجئت مصلّياً ... تقرّب إثر السابق المتهمّل
وعمت فإن تلحق فحضر مبرّز ... جوادٍ وإن تسبق فنفسك أعول
فمالك في السلطان أن تحمل القذى ... جفونٌ عيونٍ بالقذى لم تكحّل
وما الحقّ أن تهوى فتعسف بالذي ... هويت إذا ما كان ليس بأعدل
أبى الله والأحساب أن ترأم الخنا ... نفوس كرامٍ بالخنا لم توكّل
قال هشام بن عروة: ما سمعت أحداً من أهل الأهواء يذكر عروة إلا بخير.
كان عروة بن الزبير تابعياً ثقة صالحاً، لم يدخل في شيء من الفتن.
قال عروة: ما برّ والده من شدّ الطرف إليه.
قال عبد الله بن حسن بن حسن: كان علي بن حسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخر مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما. فتحدثا ليلة فذكرا جور من جار من بني أميّة. والمقام معهم، وهو لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم، فقال عروة لعليّ: يا علي، إن من اعتزل أهل الجور، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم. قال: فخرج عروة فسكن العقيق. قال عبد الله: وخرجت أنا فنزلت سويقة.
قال هشام بن عروة:
لما قطع عمر بن الخطاب العقيق فدنا من موضع قصر عروة، قال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فوالله ما مررت بقطيعة تشبه هذه القطيعة، فقام إليه خوات بن خيبر الأنصاري فقال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين، فأقطعه إياها، وكان يقال لموضعها: خيف حرّة الوبرة.
فلما كانت سنة إحدى وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عباس بن
علقمة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ ما بين الميل الرابع من المدينة إلى صفيرة أرض المغيرة بن الأخنس التي في وادي العقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء، وشهود قطيعته عبد الملك وأبان ابنا مروان وعبيد الله بن عبد الله بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبئاره من عبد الله بن عباس وابتنى واحتفر واحتجر وضفر. فقيل له: يا أبا عبد الله إنك بغير موضع مدر، فقال: يأتي الله به من البقيع. فجاء سيل فدخل في مزارعه، فكساها من خليج كان خلجه.
ولما فرغ عروة من بناء قصره وبئاره دعا جماعة من الناس، وكان فيمن دعي ابن أبي عتيق، قال: فطعم وجعلوا يبرّكون وينصرفون ويقولون: ما رأينا ماء أعذب ولا أطيب، ولا منزلاً أكرم. قال: وقام ابن أبي عتيق فبرّك، ثم قال: لولا خصيلة واحدة ما كان في الأرض مثلها، قال: فاشرأب عروة والناس، وقال: ما هي؟ قال: ليس لها وقاية ولا دونها وديعة، قال: فضحك عروة ومن حضر، وأعجبهم ذلك من قول ابن أبي عتيق.
الوديعة: الخزانة تستودع بالمطر إذا جاء فيكون لها غذاء. والرقابة أن يكون لها ميضأة لئلا يرجع عليها الماء.
لما اتخذ عروة قصراً بالعقيق، قال له الناس: قد جفرت عن مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هنالك عما هم فيه عافية.
وعن ابن أبي ربيعة: أنه مرّ بعروة بن الزبير وهو يبني قصره بالعقيق، فقال: أردت الحرث يا أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكنه ذكر لي أنه سيصيبها عذاب، يعني المدينة، فقلت: إن أصابها شيء كنت منتحياً عنها.
وكان عروة يكون بالعقيق فيموت بعض ولده بالمدينة فلا يأتيه.
من شعر عروة بن الزبير: من المتقارب
إذا انتسب الناس كان التقيّ ... بتقواه أفضل من ينسب
ومن يتّق الله يكسب بها ... من الحظ أفضل ما يكسب
قال عروة: أفضل ما أعطي العباد في الدنيا العقل، وأفضل ما أعطوا في الآخرة رضوان الله.
وقال عروة: ليس الرجل الذي إذا وقع في الأمر تخلص منه، ولكن الرجل يتوقى الأمور حتى لا يقع فيها.
قال عروة: ما أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إليّ من أن أدفن فيه. إما أحد الرجلين: إما ظالم فما أحب أن أكون في قبره، وإما صالح فما أحب أن تنبش لي عظامه.
مات عروة بن الزبير يوم مات، وهو يقول: أخشاك ربي وأرجوك، أخشاك ربي وأرجوك.
مات عروة بن الزبير في أمواله بمجاح في ناحية الفرع، ودفن هناك يوم الجمعة سنة أربع وتسعين. وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها.
وقيل: توفي سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن سبع وسبعين، وقيل: سبع وستين سنة.
وقيل: توفي سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة خمس وتسعين. وقيل: سنة سبع وتسعين أو تسع وتسعين، أو إحدى ومئة.