عبد الملك بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
أبو الوليد الأموي.
بويع له بالخلافة بعد أبيه مروان، بعهدٍ منه.
روى عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلفه في أهله بخيرٍ أصابه الله - عزوجل - بقارعةٍ قبل يوم القيامة - وفي رواية: إلا أصابه الله " وفي رواية: " ما من امرىء مسلم لا يغزو في سبيل الله، أو يجهز غازياً أو يخلفه بخير إلا " قال عبد الملك: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر، فكان تقول: يا عبد الملك، إني لأرى فيك خصالاً لخليق أن تلي أمر هذه الأمة، فإن وليت فاحذر الدماء؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها بملء محجمة من دمٍ يريقه من مسلم بغير حق "
قال الزبير بن بكار:
فولد مروان بن الحكم أحد عشر رجلاً، ونسوة: عبد الملك بن مروان، ولي الخلافة، ومعاوية، وأمر عمرو، وأمهم عائشة بنت معاوية بن أبي العاص وقال مصعب الزبيري: أول من سمي في الإسلام عبد الملك عبد الملك بن مروان وذكر محمد بن سيرين: أن مروان بن الحكم سمى ابنه القاسم، وكان يكنى به، فلما بلغه النهي حول اسمه عبد الملك.
قال ابن سعد: كان عبد الملك يكنى أبا الوليد. ولد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان بن عفان، وشهد سوم الدار مع أبيه، وهو ابن عشر سنين، وحفظ أمرهم وحديثهم، وشتا المسلمون بأرض الروم سنة اثنتين وأربعين، وهو أول مشتى شتوه بها، فاستعمل معاوية على أهل المدينة عبد الملك بن مروان، وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة "، فركب عبد الملك بالناس البحر.
كان عابداً ناسكاً قبل الخلافة، وقد جالس العلماء والفقهاء، وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث.
قال البخاري: ولي عبد الملك أربع عشرة سنة "، وكانت فتنة ابن الزبير ثمان سنين، مديني سكن الشام. مات سنة ست وثمانين. ودخل على عثمان وهو غلام، فقبله.
قال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر سنة خمسين لغزو المغرب مع معاوية بن خديج التجيبي، وكانت وفاته بدمشق.
قال الخطيب: بويع له بالخلافة عند موت أبيه، وهو بالشام، ثم سار إلى العراق، فالتقى هو
ومصعب بن الزبير يمسكن على نهر دجيل قريباً من أوانا عند دير الجاثليق، فكانت الحرب بينهما حتى قتل مصعب، وقتل الحجاج بن يوسف بعده أخاه عبد الله بن الزبير بمكة، واجتمع الناس على عبد الملك، وكان منزله بدمشق.
قال خليفة: ولد عبد الملك بالمدينة في دار مروان في بني حديلة سنة ثلاث وعشرين - وقال: سنة ست وعشرين وذكر أبو حسان الزيادي أنه ولد سنة خمسٍ وعشرين قال الخطبي: وكان ربعة، إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أبيض، ليس بالنحيف، ولا البادن، ولم يخضب إلى أن مات - وقيل إن خضب وترك - وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، أفوه مفتوح الفم.
عن عبادة بن نسي قال: قيل لبن عمر: إنكم معشر أشايخ قريش توشكون أن تنقرصوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان وروي أن قوماً استغاثوا ليلةً، فخرج الناس مغيثين، فأدركوا رجلاً، فجاؤوا به، فجعل الرجل يقول: إنما كنت مغيثاً، فأبوا حتى رفعوه إلى عبد الملك، فأمر بقتله،
فجاء رجل من الناس، فقال: إن هذا، والله، ما هو القاتل، ولكنني أنا القاتل، ولا والله، لا أقتل رجلين، قال: فقال عبد الملك: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحيا نفساً بنفسه فلا قود عليه ". فخلى سبيله، وقال: ما أحسب قصته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطت عن عبد الملك ومر عبد الملك بن مروان بعبد الله بن عمر، وهو في المسجد، وذكر اختلاف الناس، فقال: لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه. وقال: ولد الناس أبناء، وولد مروان أباً.
قال بشر أبو نصر: دخل عبد الملك بن مروان على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فسلم، ثم جلس، ثم يلبث أن نهض. فقال معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، إنه أخذ بأخلاقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثة: أخذ بأحسن البشر إذا خولف. وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.
وقالت أمر الدرداء لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، مازلت أتخيل هذا الأمر فيك مذ رأيتك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسن منك محدثاً، ولا أعلم منك مستمعاً.
حدث شيخ كان يجالس سعيد بن المسيب قال: مر به يوماً ابن زمل العذري، ونحن معه، فحصبه سعيد، فجاءه، فقال له سعيد: بلغني أنك مدحت هذا، وأشار نحو الشام - يعني عبد الملك، قال: نعم يا أبا محمد، قد مدحته، أفتحب أن تسمع القصيدة؟ قال: نعم، اجلس، فأنشده حتى بلغ: من الوافر
فماعابتك في خلقٍ قريش ... بيثرب حين أنت بها غلام
فقال سعيد: صدقت، ولكنه لما صار إلى الشام بدل قال يحيى بن سعيد:
أول من صلى في المسجد مابين الظهر والعصر عبد الملك، وفتيان معه. كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا، فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء؟ فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة، ولا الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله.
قال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان؛ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.
عن المقبري: أن عبد الملك بن مروان لم يزل بالمدينة في حياة أبيه، وولايته حتى كان أيام الحرة. فلما وثب أهل المدينة، فأخرجوا عامل يزيد بن معاوية عن المدينة، وأخرجوا بني أمية خرج عبد الملك مع أبيه، فلقيهم مسلم بن عقبة بالطريق قد بعثه يزيد بن معاوية في جيشٍ إلى أهل المدينة، فرجع معه مروان، وعبد الملك بن مروان، وكان مجدوراً، فتخلف عبد الملك بذي خشبٍ، وأمر رسولاً أن ينزل مخيضاً، وهي فيما بين المدينة وذي خشب على اثني عشر ميلاً من المدينة، وآخر يحضر الوقعة يأتيه بالخبر، وهو يخاف أن تكون الدولة لأهل المدينة. فبينا عبد الملك جالس في قصر مروان بذي خشب يترقب إذا رسوله قد جاء يلوح بثوبه، فقال عبد الملك: إن هذا لبشير. فأتاه رسوله الذي كان بمخيض يخبره أن أهل المدينة قد قتلوا، ودخلها أهل الشام، فسجد عبد الملك. ودخل المدينة بعد أن برأ.
ويروى أن رجلاً كان يهودياً فأسلم، يقال له: يوسف، وكان يقرأ الكتب، فمر بدار مروان بن الحكم، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار - ثلاث مرار - فقلت له: إلى متى؟ قال: حتى تجىء رايات سود من قبل خراسان، وكان صديقاً
لعبد الملك بن مروان، فضرب منكبيه ذات يومٍ، فقال: اتق الله - يا بن مروان في أمة محمد إذا وليتهم، فقال: دعني، ويحك! ودفعه، ما شأني وشأن ذلك؟ فقال: اتق الله في أمرهم.
قال: وجهز يزيد بن معاوية جيشاً إلى أهل مكة، فقال عبد الملك بن مروان: - وأخذ قميصه فنفضه، يعني من قبل صدره، فقال: - أعوذ بالله، أعوذ بالله، أعوذ بالله، أتبعث إلىحرم الله؟! فضرب يوسف منكبه وقال: لم تنفض قميصك؟ جيشك إليهم أعظم من جيش يزيد بن معاوية.
أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ، فأطبقه، قوال: هذا آخر العهد بك.
وبايع أهل الشام عبد الملك بالخلافة ليله الأحد لهلال شهر رمضان سنة خمس وشتين - وقيل سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين، وتوفي وله سبع وخمسون سنة - وكانت الجماعة على عبد الملك سنة ثلاثٍ وسبعين عن أبي الطفيل قال: صنع لعبد الملك مجلس بويع فيه، فدخله، فقال: لقد كان يرى ابن حنتمة الأحوزي يقول: إن هذا عليه حرام - يعني عمر بن الخطاب.
كان نقش خاتم عبد الملك بن مروان: " أومن بالله مخلصاً " عن عبد الملك بن عمير: أن عبد الملك بن مروان دخل الكوفة بعد قتل مصعب الزبير، فطاف في القصر ثم خرج، فاستلقى، وقال: من الكامل
اعمل على حذرٍ فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
- وفي رواية: اعمل على مهل -
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأنما هو كائن قد كانا
لما أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين كتب إليه ابن عمر بالبيعة، وكتب إليه أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الأكوع بالبيعة.
وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنك راع، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته " لا إله إلا الله هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، ومن أصدق من الله حديثاً؟ لا أحد، والسلام.
قال: وبعث به مع سالم. قال: فوجدوا عليه أن قدم اسمه. فقال سالم: انظروا في كتبه إلى معاوية، فنظروا، فوجدوه يقدم اسمه، فاحتلموا ذلك.
حج عبد الملك حجة "، أقام الحج للناس سنة خمس ٍوسبعين، فلما مر بالمدينة نزل في دار أبيه، فأقدم أياماً، ثم خرج حتى انتهى إلى ذي الحليفة، وخرج معه الناس، فقال له أبان بن عثمان: أحرم من البيداء، فأحرم عبد الملك من البيداء.
قال ثعلبة بن مالك القرظي:
رأيت عبد الملك بن مروان صلى المغرب والعشاء في الشعب، فأدركني دون جمع، فست معه، فقال: صليت بعد؟ فقلت: لا لعمري، قال: فما منعك من الصلاة؟ قال: قلت: إني في وقت بعد، قال: لا لعمري، ما أنت في وقتٍ. قال: ثم قال: لعلك ممن يطعن على أمير المؤمنين عثمان؟ فاشهد على أبي لأخبرني أنه رآه صلى المغرب والعشاء في الشعب، فقلت: ومثلك يا أمير المؤمنين يتكلم بهذا، وأنت الأمام!؟ ومالي وللطعن عليه وعلى غيره؟ قد كنت له لازماً، ولكني رأيت عمر لا يصلي حتى يبلغ جمعاً، وليست سنة أحب إلي من سنة عمر. فقال: رحم الله عمر، لعثمان كان أعلم بعمر، لو كان عمر فعل هذا لاتبعه عثمان، وما كان أحد أتبع لأمر عمر بن عثمان، وما خالف
عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين؛ فإن عثمان لان لهم حتى ركب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كمما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا، وأين الناس الذين كان يسير فيهم عمر بن الخطاب والناس اليوم! يا ثعلبة؛ إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلابد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه.
وعن ابن كعب قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: باأهل المدينة، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق، لا نعرفها، ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم - رحمه الله - وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم - رحمه الله - فإنه استشار في ذلك رويد بن ثابت، ونعم المشير كان للإسلام - رحمه الله - فأحكما ما أحكما، وأسقطا ما شذ عنهما وعن ابن جريج، عن أبيه قال: حج علينا عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين، فخطبنا، وقال: أما بعد، فإنه كان من قبلي من الخلفاء، يأكلون من المال، ويؤكلون، وإني والله، لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف - بعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - أيها الناس، إنما نحتمل لكم كل اللغوبة مالم يكن عقد راية، أو وثوب على منبر؛ هذا عمرو بن سعيد، حقه حقه، وقرابته قرابته، قال رأسه هكذا، فقلنا بسيفنا هكذا.
وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً ألا أضعها في عنق أحدٍ إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب.
قال الأصمعي: خطب عبد الملك بن مروان، فحصر، فقال: إن اللسان بضعة من الإنسان، وإنا لا نسكت حصراً ولا ننطق هذراً، ونحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تهدلت أغصانه، وبعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا هذه أيام يعرف فيها فصل الخطاب، ومواقع الصواب.
عن أبي الزناد قال: قال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحداً من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله: من الطويل
إني امرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسوا قراح الماء والماء البارد
قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني كثرة ارتقاء المنبر مخافة اللحن - وفي رواية: وكيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين.
وأراد قتل رجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله، فاعف له، فإنك به تعان، وإليه تعاد، فخلى سبيله.
قال في خطبة له بإيلياء قبل أن يقع الوجع الذي خرج منه إلى الموقر: إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه، ولاجافٍ عنه.
قال يوسف بن الماجشون: كان عبد الملك بن مروان إذا قعد للقضاء قيم على رأسه بالسيوف، فأنشد: من السريع
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكمٍ عادلٍ فاضل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن نسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الخامل
قال: ثم يجتهد في القضاء
عن الزهري: أن يهودياً جاء إلى عبد الملك بن مروان فقال له: ابن هرمز ظلمني، فلم يلتفت إليه، ثم الثانية، ثم الثالثة، فلم يلتفت إليه، فقال له اليهودي: إنا نجد في كتاب الله في التوراة: إن الإمام لا يشرك في ظلم ولا جور حتى يرفع إليه، فإذا رفع إليه فلم يغير شرك في الجور والظلم. قال: ففزع لها عبد الملك، وأرسل إلى ابن هرمز، فنزعه.
عن عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه قال: سأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم. فلما تهيأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني، فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إلي بأحد. وإن شئت أقلتك، قال: أقلني. فأقاله.
وفي رواية أخرى: كان عبد الملك بن مروان إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال: أعفني من أربع وقل بعدها ما شئت - وقال فيه: ولا تحملني على الرعية. فإني إلى الرفق بهم والرأفة أحوج - وفي رواية: لا تخفني - يعني تغضبني حتى يحملني الغضب على خفة الطيش.
عن الأصمعي، عن أبيه قال: أتى عبد الملك بن مروان برجلٍ كان مع بعض من خرج عليه، فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان هذا جزائي منك! قال: وما جزاؤك؟ قال: والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك؛ وذلك أني رجل مشؤوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألفٍ معك. فضحك وخلى سبيله.
قال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وترك النصرة عن قوة.
وقال عبد الملك: ثلاثة من أحسن شيء: جواد لغير ثوابٍ، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذل.
وقال: يا بني أمية، إن خير المال ما أفاد حمداً، ومنع ذماً، فلا يقولن أحدكم: " أبدأ بمن تعول "، فإن الناس عيال الله.
وقال: الطمأنينة ضد الحزم دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا بن عم، ادن، فكل من الفالوذج، فإنه يزيد في الدماغ. قال: إن كان كما يقول أمير المؤمنين فينبغي أن يكون رأسه مثل رأس البغل.
بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي، عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب، فحدثني، فما بقي معي شيء إلا قد ملكته سوى الحديث الحسن، وأنشد:
ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
وقال: كل شيء قد قضيت منه وطراً إلا من مناقضة - وفي رواية: مفاوضة - الإخوان الحديث على متن التلال العفر في الليالي البيض قال إسماعيل بن عبيد الله: كنت أعلم ولد عبد الملك بن مروان من عاتكة، فكنت جالساً على فراشين وهم بين يدي يتعلمون إذ أقبل عبد الملك، ثم جلس ينظر إليهم، وهم يتعلمون، فقال له بنوه: يا أمير المؤمنين، إنه قد شق علينا في التعليم، فإن رأيت أن تأذن لنا نلعب، فقال: تلعبون، وقد مر على رأس أبيكم ما قد علمتم؟! لقد رأيتني أغزو مصعب بن الزبير، وعدوي كأمثال الجبال كثرة "، وأنصاري من أهل الشام عامتهم أعداء لي، فأمكث طويلاً، وقد ذهب عقلي، ثم يرده الله علي.
وقال لمؤدب بنيه: لا تطعم ولدي السمن، ولا تطعمهم طعاماً حتى تخرجهم على البراز، وعلمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب، وإن كان فيه القتل - وفي رواية: وجنبهم الحشم، فإنهم لهم مفسدة، وجنبهم السفلة، فإنهم أسوأ الناس رعة "، واحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً، ويمصوا الماء مصاً، ولا يعبوا عباً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدبٍ فليكن في سر لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليهم - وفي رواية: وجالس بهم علية الناس يناطقوهم الكلام.
كتب زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه، وكان في آخره: ولا يطعمك يا أمير المؤمنين، في طول البقاء ما يظهر من صحتك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون: من الرجز
إذا الرجال ولدت أولادها ... وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... تلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ عبد الملك الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر، لو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.
وقف عبد الملك على قبر أبيه فقال: من الطويل
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مالٍ أو فراق حبيب
وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، فقال: أيها عن ذكر عمر، فإنه إزراء على الولاة، مفسدة للرعية.
وكان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق وهو خليفة، فجلس إليها مرة من المرار، فقالت له: يا أمير المؤمنين، بلغني أنك شربت الطلاء بعد العبادة والنسك؟! قال: إي والله، يا أم الدرداء، والدماء قد شربتها، ثم أتاه غلام له قد كان بعثه في حاجةٍ، فأبطأ عليه، فقال: ما حسبك، عليك لعنة الله؟ فقالت له: لا تفعل، يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يدخل الجنة لعان " قال عبد الملك بن مروان لمحمد بن عطارد التميمي: يا محمد، احفظ عني هذه الأبيات، واعمل بهن، قال: هاتها يا أمير المؤمنين، قال: من الطويل
إذا أنت جاريت السفيه كما جرى ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
إذا أمن الجهال حلمك مرة ... فعرضك للجهال غنم من الغنم
فلا تعرض عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
وعض عليه الحلم والجهال والقه ... بمرتبةٍ بين العداوة والسلم
فيرجوك تارات، ويخشاك تارة ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن ... عليه بجهال وذاك من العزم
قيل لسعيد بن المسيب: إن عبد الملك بن مروان قال: قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد: الآن تكامل موت قلبه!.
كان عبد الملك فاسد الفم، فعض تفاحة، فألقاها إلى امرأة من نسائه، فأخذت سكيناً، فاجتلفت ما عاب منها، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أمطت الأذى عنها.
وصعد يوماً المنبر فخطب الناس بخطبةٍ بليغة، ثم قطعها، وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب، إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي. قال: فبلغ ذلك الحسن، فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.
وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: من الطويل
ألم تر أن الفقر يهجر أهله ... وبيت الغنى يهدى له ويزار
وماذا يضر المرء من كان جده ... إذا سرحت شول له وعشار
عن أبي مسهر الدمشقي قال: حضر غداء عبد الملك بن مروان، فقال لآذنه: خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين، قال: فأمية بن عبد الملك بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين. قال: - وكان عبد الملك قد علم أنهم ماتوا، فقال: - ارفع يا غلام، ثم قال: من الكامل
ذهبت لذاتي وانقضت آجالهم ... وغبرت بعدهم ولست بخالد
وعن قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه قال: كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرات: يا أهل النعم، لا تغالوا شيئاً منها مع العافية، وكان قد أصابه داء في فمه.
قيل لعبد الملك بن مروان في مرضه: كيف تجدك، يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " واستأذن قوم على عبد الملك بن مروان، وهو شديد المرض، فقالوا: إنه لما به، فقالوا: إنما ندخل لنسلم قياماً ثم نخرج، فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، وقد اربد لونه، وجرى منخراه، وشخصت عيناه، فقال: إنكم دخلتم علي في حين إقبال آخرتي، وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدته غزوة " عزوتها في سبيل الله، وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها.
ولما نزل به الموت أمر بفتح باب القصر، فإذا بقصار يضرب بثوب له على حجر، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قصار، قال: يا ليتني كنت قصاراً.
وقال: والله وددت أني عبد لرجلٍ من تهامة أرعى غنماً في جبالها، وأني لم أل من أمر الناس شيئاً ودعا بنيه فأوصاهم، ثم لم يزل بين مقالتين حتى فاضت نفسه: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيراً أخذ من ملكه أم كبيراً، والأخرى: من الوافر
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وكان آخر ما تكلم به عد موته: اللهم إن تغفر تغفر جماً، ليتني كنت غسالاً أعيش بما أكتسب يوماً بيوم.
في حديث سعيد بن المسيب أنه قال ذات يوم: اكتب يا برد أني رأيت موسى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي على البحر حتى صعد إلى قصرٍ، ثم أخذ برجلي شيطانٍ، فألقاه في البحر، وإني لا أعلم نبياً هلك على رجله الجبابرة ما هلك على رجل موسى. وأظن هذا قد هلك - يعني عبد الملك - فجاءه نعيه بعد أربعٍ.
قوله: هلك على رجله: إي في زمانه وأيامه، يقال: هلك القوم على رجل فلانٍ أي بعهده.
وقد اختلف في سنه ومدة خلافته وتاريخ وفاته.
قال الخطيب: كانت خلافة عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين سنة ونصفاً - يعني من وقت بويع له بالخلافة بعد موت أبيه.
وقال: كان موت عبد الملك لانسلاخ شوال - وقال آخرون: للنصف من شوال - سنة ست وثمانين، وهو ابن سبع وخمسون سنة " - ومنهم من الق: إحدى وستين سنة " وهو أثبت عندنا - فكانت خلافته من مقتل ابن الزبير إلى أن توفي ثلاث عشرة سنة " وأربعة أشهر وثمانياً وعشرين ليلة. وصلى عليه ابن الوليد بن عبد الملك، ودفن خارجاً بين باب الجابية وباب الصغير.
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
أبو الوليد الأموي.
بويع له بالخلافة بعد أبيه مروان، بعهدٍ منه.
روى عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلفه في أهله بخيرٍ أصابه الله - عزوجل - بقارعةٍ قبل يوم القيامة - وفي رواية: إلا أصابه الله " وفي رواية: " ما من امرىء مسلم لا يغزو في سبيل الله، أو يجهز غازياً أو يخلفه بخير إلا " قال عبد الملك: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر، فكان تقول: يا عبد الملك، إني لأرى فيك خصالاً لخليق أن تلي أمر هذه الأمة، فإن وليت فاحذر الدماء؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها بملء محجمة من دمٍ يريقه من مسلم بغير حق "
قال الزبير بن بكار:
فولد مروان بن الحكم أحد عشر رجلاً، ونسوة: عبد الملك بن مروان، ولي الخلافة، ومعاوية، وأمر عمرو، وأمهم عائشة بنت معاوية بن أبي العاص وقال مصعب الزبيري: أول من سمي في الإسلام عبد الملك عبد الملك بن مروان وذكر محمد بن سيرين: أن مروان بن الحكم سمى ابنه القاسم، وكان يكنى به، فلما بلغه النهي حول اسمه عبد الملك.
قال ابن سعد: كان عبد الملك يكنى أبا الوليد. ولد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان بن عفان، وشهد سوم الدار مع أبيه، وهو ابن عشر سنين، وحفظ أمرهم وحديثهم، وشتا المسلمون بأرض الروم سنة اثنتين وأربعين، وهو أول مشتى شتوه بها، فاستعمل معاوية على أهل المدينة عبد الملك بن مروان، وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة "، فركب عبد الملك بالناس البحر.
كان عابداً ناسكاً قبل الخلافة، وقد جالس العلماء والفقهاء، وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث.
قال البخاري: ولي عبد الملك أربع عشرة سنة "، وكانت فتنة ابن الزبير ثمان سنين، مديني سكن الشام. مات سنة ست وثمانين. ودخل على عثمان وهو غلام، فقبله.
قال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر سنة خمسين لغزو المغرب مع معاوية بن خديج التجيبي، وكانت وفاته بدمشق.
قال الخطيب: بويع له بالخلافة عند موت أبيه، وهو بالشام، ثم سار إلى العراق، فالتقى هو
ومصعب بن الزبير يمسكن على نهر دجيل قريباً من أوانا عند دير الجاثليق، فكانت الحرب بينهما حتى قتل مصعب، وقتل الحجاج بن يوسف بعده أخاه عبد الله بن الزبير بمكة، واجتمع الناس على عبد الملك، وكان منزله بدمشق.
قال خليفة: ولد عبد الملك بالمدينة في دار مروان في بني حديلة سنة ثلاث وعشرين - وقال: سنة ست وعشرين وذكر أبو حسان الزيادي أنه ولد سنة خمسٍ وعشرين قال الخطبي: وكان ربعة، إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أبيض، ليس بالنحيف، ولا البادن، ولم يخضب إلى أن مات - وقيل إن خضب وترك - وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، أفوه مفتوح الفم.
عن عبادة بن نسي قال: قيل لبن عمر: إنكم معشر أشايخ قريش توشكون أن تنقرصوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان وروي أن قوماً استغاثوا ليلةً، فخرج الناس مغيثين، فأدركوا رجلاً، فجاؤوا به، فجعل الرجل يقول: إنما كنت مغيثاً، فأبوا حتى رفعوه إلى عبد الملك، فأمر بقتله،
فجاء رجل من الناس، فقال: إن هذا، والله، ما هو القاتل، ولكنني أنا القاتل، ولا والله، لا أقتل رجلين، قال: فقال عبد الملك: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحيا نفساً بنفسه فلا قود عليه ". فخلى سبيله، وقال: ما أحسب قصته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطت عن عبد الملك ومر عبد الملك بن مروان بعبد الله بن عمر، وهو في المسجد، وذكر اختلاف الناس، فقال: لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه. وقال: ولد الناس أبناء، وولد مروان أباً.
قال بشر أبو نصر: دخل عبد الملك بن مروان على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فسلم، ثم جلس، ثم يلبث أن نهض. فقال معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، إنه أخذ بأخلاقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثة: أخذ بأحسن البشر إذا خولف. وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.
وقالت أمر الدرداء لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، مازلت أتخيل هذا الأمر فيك مذ رأيتك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسن منك محدثاً، ولا أعلم منك مستمعاً.
حدث شيخ كان يجالس سعيد بن المسيب قال: مر به يوماً ابن زمل العذري، ونحن معه، فحصبه سعيد، فجاءه، فقال له سعيد: بلغني أنك مدحت هذا، وأشار نحو الشام - يعني عبد الملك، قال: نعم يا أبا محمد، قد مدحته، أفتحب أن تسمع القصيدة؟ قال: نعم، اجلس، فأنشده حتى بلغ: من الوافر
فماعابتك في خلقٍ قريش ... بيثرب حين أنت بها غلام
فقال سعيد: صدقت، ولكنه لما صار إلى الشام بدل قال يحيى بن سعيد:
أول من صلى في المسجد مابين الظهر والعصر عبد الملك، وفتيان معه. كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا، فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء؟ فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة، ولا الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله.
قال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان؛ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.
عن المقبري: أن عبد الملك بن مروان لم يزل بالمدينة في حياة أبيه، وولايته حتى كان أيام الحرة. فلما وثب أهل المدينة، فأخرجوا عامل يزيد بن معاوية عن المدينة، وأخرجوا بني أمية خرج عبد الملك مع أبيه، فلقيهم مسلم بن عقبة بالطريق قد بعثه يزيد بن معاوية في جيشٍ إلى أهل المدينة، فرجع معه مروان، وعبد الملك بن مروان، وكان مجدوراً، فتخلف عبد الملك بذي خشبٍ، وأمر رسولاً أن ينزل مخيضاً، وهي فيما بين المدينة وذي خشب على اثني عشر ميلاً من المدينة، وآخر يحضر الوقعة يأتيه بالخبر، وهو يخاف أن تكون الدولة لأهل المدينة. فبينا عبد الملك جالس في قصر مروان بذي خشب يترقب إذا رسوله قد جاء يلوح بثوبه، فقال عبد الملك: إن هذا لبشير. فأتاه رسوله الذي كان بمخيض يخبره أن أهل المدينة قد قتلوا، ودخلها أهل الشام، فسجد عبد الملك. ودخل المدينة بعد أن برأ.
ويروى أن رجلاً كان يهودياً فأسلم، يقال له: يوسف، وكان يقرأ الكتب، فمر بدار مروان بن الحكم، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار - ثلاث مرار - فقلت له: إلى متى؟ قال: حتى تجىء رايات سود من قبل خراسان، وكان صديقاً
لعبد الملك بن مروان، فضرب منكبيه ذات يومٍ، فقال: اتق الله - يا بن مروان في أمة محمد إذا وليتهم، فقال: دعني، ويحك! ودفعه، ما شأني وشأن ذلك؟ فقال: اتق الله في أمرهم.
قال: وجهز يزيد بن معاوية جيشاً إلى أهل مكة، فقال عبد الملك بن مروان: - وأخذ قميصه فنفضه، يعني من قبل صدره، فقال: - أعوذ بالله، أعوذ بالله، أعوذ بالله، أتبعث إلىحرم الله؟! فضرب يوسف منكبه وقال: لم تنفض قميصك؟ جيشك إليهم أعظم من جيش يزيد بن معاوية.
أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ، فأطبقه، قوال: هذا آخر العهد بك.
وبايع أهل الشام عبد الملك بالخلافة ليله الأحد لهلال شهر رمضان سنة خمس وشتين - وقيل سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين، وتوفي وله سبع وخمسون سنة - وكانت الجماعة على عبد الملك سنة ثلاثٍ وسبعين عن أبي الطفيل قال: صنع لعبد الملك مجلس بويع فيه، فدخله، فقال: لقد كان يرى ابن حنتمة الأحوزي يقول: إن هذا عليه حرام - يعني عمر بن الخطاب.
كان نقش خاتم عبد الملك بن مروان: " أومن بالله مخلصاً " عن عبد الملك بن عمير: أن عبد الملك بن مروان دخل الكوفة بعد قتل مصعب الزبير، فطاف في القصر ثم خرج، فاستلقى، وقال: من الكامل
اعمل على حذرٍ فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
- وفي رواية: اعمل على مهل -
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأنما هو كائن قد كانا
لما أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين كتب إليه ابن عمر بالبيعة، وكتب إليه أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الأكوع بالبيعة.
وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنك راع، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته " لا إله إلا الله هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، ومن أصدق من الله حديثاً؟ لا أحد، والسلام.
قال: وبعث به مع سالم. قال: فوجدوا عليه أن قدم اسمه. فقال سالم: انظروا في كتبه إلى معاوية، فنظروا، فوجدوه يقدم اسمه، فاحتلموا ذلك.
حج عبد الملك حجة "، أقام الحج للناس سنة خمس ٍوسبعين، فلما مر بالمدينة نزل في دار أبيه، فأقدم أياماً، ثم خرج حتى انتهى إلى ذي الحليفة، وخرج معه الناس، فقال له أبان بن عثمان: أحرم من البيداء، فأحرم عبد الملك من البيداء.
قال ثعلبة بن مالك القرظي:
رأيت عبد الملك بن مروان صلى المغرب والعشاء في الشعب، فأدركني دون جمع، فست معه، فقال: صليت بعد؟ فقلت: لا لعمري، قال: فما منعك من الصلاة؟ قال: قلت: إني في وقت بعد، قال: لا لعمري، ما أنت في وقتٍ. قال: ثم قال: لعلك ممن يطعن على أمير المؤمنين عثمان؟ فاشهد على أبي لأخبرني أنه رآه صلى المغرب والعشاء في الشعب، فقلت: ومثلك يا أمير المؤمنين يتكلم بهذا، وأنت الأمام!؟ ومالي وللطعن عليه وعلى غيره؟ قد كنت له لازماً، ولكني رأيت عمر لا يصلي حتى يبلغ جمعاً، وليست سنة أحب إلي من سنة عمر. فقال: رحم الله عمر، لعثمان كان أعلم بعمر، لو كان عمر فعل هذا لاتبعه عثمان، وما كان أحد أتبع لأمر عمر بن عثمان، وما خالف
عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين؛ فإن عثمان لان لهم حتى ركب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كمما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا، وأين الناس الذين كان يسير فيهم عمر بن الخطاب والناس اليوم! يا ثعلبة؛ إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلابد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه.
وعن ابن كعب قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: باأهل المدينة، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق، لا نعرفها، ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم - رحمه الله - وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم - رحمه الله - فإنه استشار في ذلك رويد بن ثابت، ونعم المشير كان للإسلام - رحمه الله - فأحكما ما أحكما، وأسقطا ما شذ عنهما وعن ابن جريج، عن أبيه قال: حج علينا عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين، فخطبنا، وقال: أما بعد، فإنه كان من قبلي من الخلفاء، يأكلون من المال، ويؤكلون، وإني والله، لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف - بعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - أيها الناس، إنما نحتمل لكم كل اللغوبة مالم يكن عقد راية، أو وثوب على منبر؛ هذا عمرو بن سعيد، حقه حقه، وقرابته قرابته، قال رأسه هكذا، فقلنا بسيفنا هكذا.
وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً ألا أضعها في عنق أحدٍ إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب.
قال الأصمعي: خطب عبد الملك بن مروان، فحصر، فقال: إن اللسان بضعة من الإنسان، وإنا لا نسكت حصراً ولا ننطق هذراً، ونحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تهدلت أغصانه، وبعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا هذه أيام يعرف فيها فصل الخطاب، ومواقع الصواب.
عن أبي الزناد قال: قال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحداً من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله: من الطويل
إني امرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسوا قراح الماء والماء البارد
قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني كثرة ارتقاء المنبر مخافة اللحن - وفي رواية: وكيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين.
وأراد قتل رجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله، فاعف له، فإنك به تعان، وإليه تعاد، فخلى سبيله.
قال في خطبة له بإيلياء قبل أن يقع الوجع الذي خرج منه إلى الموقر: إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه، ولاجافٍ عنه.
قال يوسف بن الماجشون: كان عبد الملك بن مروان إذا قعد للقضاء قيم على رأسه بالسيوف، فأنشد: من السريع
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكمٍ عادلٍ فاضل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن نسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الخامل
قال: ثم يجتهد في القضاء
عن الزهري: أن يهودياً جاء إلى عبد الملك بن مروان فقال له: ابن هرمز ظلمني، فلم يلتفت إليه، ثم الثانية، ثم الثالثة، فلم يلتفت إليه، فقال له اليهودي: إنا نجد في كتاب الله في التوراة: إن الإمام لا يشرك في ظلم ولا جور حتى يرفع إليه، فإذا رفع إليه فلم يغير شرك في الجور والظلم. قال: ففزع لها عبد الملك، وأرسل إلى ابن هرمز، فنزعه.
عن عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه قال: سأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم. فلما تهيأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني، فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إلي بأحد. وإن شئت أقلتك، قال: أقلني. فأقاله.
وفي رواية أخرى: كان عبد الملك بن مروان إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال: أعفني من أربع وقل بعدها ما شئت - وقال فيه: ولا تحملني على الرعية. فإني إلى الرفق بهم والرأفة أحوج - وفي رواية: لا تخفني - يعني تغضبني حتى يحملني الغضب على خفة الطيش.
عن الأصمعي، عن أبيه قال: أتى عبد الملك بن مروان برجلٍ كان مع بعض من خرج عليه، فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان هذا جزائي منك! قال: وما جزاؤك؟ قال: والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك؛ وذلك أني رجل مشؤوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألفٍ معك. فضحك وخلى سبيله.
قال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وترك النصرة عن قوة.
وقال عبد الملك: ثلاثة من أحسن شيء: جواد لغير ثوابٍ، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذل.
وقال: يا بني أمية، إن خير المال ما أفاد حمداً، ومنع ذماً، فلا يقولن أحدكم: " أبدأ بمن تعول "، فإن الناس عيال الله.
وقال: الطمأنينة ضد الحزم دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا بن عم، ادن، فكل من الفالوذج، فإنه يزيد في الدماغ. قال: إن كان كما يقول أمير المؤمنين فينبغي أن يكون رأسه مثل رأس البغل.
بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي، عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب، فحدثني، فما بقي معي شيء إلا قد ملكته سوى الحديث الحسن، وأنشد:
ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما
وقال: كل شيء قد قضيت منه وطراً إلا من مناقضة - وفي رواية: مفاوضة - الإخوان الحديث على متن التلال العفر في الليالي البيض قال إسماعيل بن عبيد الله: كنت أعلم ولد عبد الملك بن مروان من عاتكة، فكنت جالساً على فراشين وهم بين يدي يتعلمون إذ أقبل عبد الملك، ثم جلس ينظر إليهم، وهم يتعلمون، فقال له بنوه: يا أمير المؤمنين، إنه قد شق علينا في التعليم، فإن رأيت أن تأذن لنا نلعب، فقال: تلعبون، وقد مر على رأس أبيكم ما قد علمتم؟! لقد رأيتني أغزو مصعب بن الزبير، وعدوي كأمثال الجبال كثرة "، وأنصاري من أهل الشام عامتهم أعداء لي، فأمكث طويلاً، وقد ذهب عقلي، ثم يرده الله علي.
وقال لمؤدب بنيه: لا تطعم ولدي السمن، ولا تطعمهم طعاماً حتى تخرجهم على البراز، وعلمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب، وإن كان فيه القتل - وفي رواية: وجنبهم الحشم، فإنهم لهم مفسدة، وجنبهم السفلة، فإنهم أسوأ الناس رعة "، واحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً، ويمصوا الماء مصاً، ولا يعبوا عباً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدبٍ فليكن في سر لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليهم - وفي رواية: وجالس بهم علية الناس يناطقوهم الكلام.
كتب زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه، وكان في آخره: ولا يطعمك يا أمير المؤمنين، في طول البقاء ما يظهر من صحتك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون: من الرجز
إذا الرجال ولدت أولادها ... وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... تلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ عبد الملك الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر، لو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.
وقف عبد الملك على قبر أبيه فقال: من الطويل
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مالٍ أو فراق حبيب
وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، فقال: أيها عن ذكر عمر، فإنه إزراء على الولاة، مفسدة للرعية.
وكان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق وهو خليفة، فجلس إليها مرة من المرار، فقالت له: يا أمير المؤمنين، بلغني أنك شربت الطلاء بعد العبادة والنسك؟! قال: إي والله، يا أم الدرداء، والدماء قد شربتها، ثم أتاه غلام له قد كان بعثه في حاجةٍ، فأبطأ عليه، فقال: ما حسبك، عليك لعنة الله؟ فقالت له: لا تفعل، يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يدخل الجنة لعان " قال عبد الملك بن مروان لمحمد بن عطارد التميمي: يا محمد، احفظ عني هذه الأبيات، واعمل بهن، قال: هاتها يا أمير المؤمنين، قال: من الطويل
إذا أنت جاريت السفيه كما جرى ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
إذا أمن الجهال حلمك مرة ... فعرضك للجهال غنم من الغنم
فلا تعرض عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
وعض عليه الحلم والجهال والقه ... بمرتبةٍ بين العداوة والسلم
فيرجوك تارات، ويخشاك تارة ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن ... عليه بجهال وذاك من العزم
قيل لسعيد بن المسيب: إن عبد الملك بن مروان قال: قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد: الآن تكامل موت قلبه!.
كان عبد الملك فاسد الفم، فعض تفاحة، فألقاها إلى امرأة من نسائه، فأخذت سكيناً، فاجتلفت ما عاب منها، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أمطت الأذى عنها.
وصعد يوماً المنبر فخطب الناس بخطبةٍ بليغة، ثم قطعها، وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب، إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي. قال: فبلغ ذلك الحسن، فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.
وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: من الطويل
ألم تر أن الفقر يهجر أهله ... وبيت الغنى يهدى له ويزار
وماذا يضر المرء من كان جده ... إذا سرحت شول له وعشار
عن أبي مسهر الدمشقي قال: حضر غداء عبد الملك بن مروان، فقال لآذنه: خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين، قال: فأمية بن عبد الملك بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين. قال: - وكان عبد الملك قد علم أنهم ماتوا، فقال: - ارفع يا غلام، ثم قال: من الكامل
ذهبت لذاتي وانقضت آجالهم ... وغبرت بعدهم ولست بخالد
وعن قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه قال: كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرات: يا أهل النعم، لا تغالوا شيئاً منها مع العافية، وكان قد أصابه داء في فمه.
قيل لعبد الملك بن مروان في مرضه: كيف تجدك، يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " واستأذن قوم على عبد الملك بن مروان، وهو شديد المرض، فقالوا: إنه لما به، فقالوا: إنما ندخل لنسلم قياماً ثم نخرج، فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، وقد اربد لونه، وجرى منخراه، وشخصت عيناه، فقال: إنكم دخلتم علي في حين إقبال آخرتي، وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدته غزوة " عزوتها في سبيل الله، وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها.
ولما نزل به الموت أمر بفتح باب القصر، فإذا بقصار يضرب بثوب له على حجر، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قصار، قال: يا ليتني كنت قصاراً.
وقال: والله وددت أني عبد لرجلٍ من تهامة أرعى غنماً في جبالها، وأني لم أل من أمر الناس شيئاً ودعا بنيه فأوصاهم، ثم لم يزل بين مقالتين حتى فاضت نفسه: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيراً أخذ من ملكه أم كبيراً، والأخرى: من الوافر
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وكان آخر ما تكلم به عد موته: اللهم إن تغفر تغفر جماً، ليتني كنت غسالاً أعيش بما أكتسب يوماً بيوم.
في حديث سعيد بن المسيب أنه قال ذات يوم: اكتب يا برد أني رأيت موسى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي على البحر حتى صعد إلى قصرٍ، ثم أخذ برجلي شيطانٍ، فألقاه في البحر، وإني لا أعلم نبياً هلك على رجله الجبابرة ما هلك على رجل موسى. وأظن هذا قد هلك - يعني عبد الملك - فجاءه نعيه بعد أربعٍ.
قوله: هلك على رجله: إي في زمانه وأيامه، يقال: هلك القوم على رجل فلانٍ أي بعهده.
وقد اختلف في سنه ومدة خلافته وتاريخ وفاته.
قال الخطيب: كانت خلافة عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين سنة ونصفاً - يعني من وقت بويع له بالخلافة بعد موت أبيه.
وقال: كان موت عبد الملك لانسلاخ شوال - وقال آخرون: للنصف من شوال - سنة ست وثمانين، وهو ابن سبع وخمسون سنة " - ومنهم من الق: إحدى وستين سنة " وهو أثبت عندنا - فكانت خلافته من مقتل ابن الزبير إلى أن توفي ثلاث عشرة سنة " وأربعة أشهر وثمانياً وعشرين ليلة. وصلى عليه ابن الوليد بن عبد الملك، ودفن خارجاً بين باب الجابية وباب الصغير.