محمد المعتصم بن هارون الرشيد
ابن محمد المهدي بن عبد الله المنصور أبو إسحاق الهاشمي بويع له بالخلافة بعد أخيه المأمون بعهدٍ منه، قدم دمشق عدة دفعات مع أخيه المأمون، ووحده قبل الخلافة، ثم قدمها في خلافته.
حدث هشام بن محمد الكلبي أنه كان عند المعتصم في أول أيام المأمون حين قدم المأمون بغداد، فذكر قوماً بسوء السير، فقلت له: أيها الأمير إن الله تعالى أمهلهم فطغوا وحلم عنهم فبغوا؛ فقال: حدثني أبي الرشيد، عن جدي المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى قومٍ من بني فلان يتبخترون في مشيهم، فعرف الغضب في وجهه، ثم قرأ: " والشجرة الملعونة في القرآن " فقيل له: أي الشجر هي يا رسول الله حتى نجتنبها؟ فقال: " ليست بشجرة نباتٍ، إنما هم بنو فلان، إذا ملكوا جاروا وإذا ائتمنوا خانوا " ثم ضرب بيده على ظهر العباس، قال: " فيخرج الله من ظهرك يا عم رجلاً يكون هلاكهم علي يديه ". قال: هذا حديثٌ منكر.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليكونن من ولده يعني العباس بن عبد المطلب ملوكٌ يلون أمر أمتي يعز الله بهم الدين ".
حدث المعتصم، عن المأمون، عن آبائه إلى ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تحتجموا يوم الخميس فإنه من يحتجم فيه فيناله مكروهٌ فلا يلومن إلا نفسه ".
وأم المعتصم أم ولدٍ اسمها ماردة، لم تدرك خلافته، والمعتصم يقال له: الثماني، لأنه ولد سنة ثمانين ومئة، في الشهر الثامن، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وفتح ثمانية فتوحاتٍ، وولد له ثمان بنين، وثمان بنات، ومات وعمره ثمان وأربعون سنةً، وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهرٍ ويومان، وقتل ثمانية أعداء: بابك ومازيار وياطس ورئيس الزنادقة والأفشين وعجيفاً وقارن وقائد الرافضة.
وكان المعتصم أبيض، أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون.
وبويع للمعتصم يوم مات المأمون سنة ثمان عشر ومئتين، ودخل بغداد على بغلٍ كميتٍ بسرجٍ مكشوفٍ وعليه قلنسوةٌ لاطئةٌ وسيفٌ بمعاليق، فأخذ على باب الشام حتى عبر الجسر، ثم دخل من باب الرصافة فأخذ يمنة حتى دخل الدار التي كان ينزلها المأمون من باب العامة.
كان مع المعتصم غلامٌ معه في الكتاب، فمات الغلام، فقال له الرشيد: مات غلامك؟ قال: نعم، واستراح من الكتاب قال الرشيد: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟ دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلموه شيئاً؛ فكان يكتب كتاباً ضعيفاً، ويقرأ قراءة ضعيفةً.
قال الزبير بن بكار: لما قدمت إلى الرشيد لأحدث أولاده بالأخبار التي صنفتها، أعجل المعتصم في القصر فعثر، فكادت إبهامه تنقطع، فقام وهو يقول: من الطويل
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس بموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
كذا، وقد وهم فإن الزبير لم يكن في زمن الرشيد يقرأ عليه، فإنه كان ميتاً إذ ذاك، وإنما قرئ عليه في أيام المتوكل والذي عثر المعتز بن المتوكل.
كتب ملك الروم كتاباً إلى المعتصم يتهدده فيه، فأمر بجوابه، فلما قرئ عليه الجواب لم يرضه، وقال للكاتب: اكتب؛ بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ".
قال الخطيب: غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين، فأنكى في العدو نكايةً عظيمةً، ونصب على عمورية المجانيق، وأقام عليها حتى فتحها، ودخلها عنوةً، فقتل فيها ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية من سائر نواحيها فأحرقها، وجاء ببابها إلى العراق، وهو باقٍ إلى الآن، منصوبٌ على أبواب دار الخلافة، وهو الباب الملاصق مسجد الجامع في القصر.
وكان المعتصم قبل وصوله عمورية خرب ما مر به من قراهم، وهربت الروم في كل وجهٍ؛ وقيل: وخرب أنقرة، وتوجه قافلاً، فضرب رقاب أربعة آلافٍ ونيفٍ من الأسارى، ولم يزل يقتل الأسارى في مسيره ويحرق ويخرب حتى ورد بلاد الإسلام؛ وأتي فيها ببابك أسيراً، فأمر بقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه، وصلبه في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين؛ وكانت الروم أغارت على زبطرة في سنة اثنتين وعشرين ومئتين، فقتلوا وأسروا من وجدوا بها، وخربوها، فدخل قائدٌ له في جماعةٍ في درب الحديد، ودخل المعتصم من درب الصفصاف في جماعةٍ لم تدخل أرض الروم قبلهم، ولقي أفشين الطاغية، فظفره الله به، وولى الطاغية منهزماً مفلولاً، وسار المعتصم إلى عمورية، ووافاه أفشين عليها، فأسر وغنم وسبى ما لا يحصى عدده، وشعث حائطها، وحرق وخرب
داخلها، وخرج سالماً هو وجيوشه، وخرج معه بياطس بطريقها وأسرى كثر، وأقام فيها بعد فتحه ثلاثة أيام، ورحل في الرابع وقد ظفر قبل ذلك ببابك الخرمي وأصحابه، فقدم أسيراً فأمر بقتله.
ولما تجهز المعتصم لغزو عمورية حكم المنجمون على ذلك الوقت أنه لا يرجع من غزوه، فإن رجع كان مفلولاً خائباً، لأنه خرج في وقت نحسٍ، فكان من فتحه العظيم ما لم يخف، حتى وصف ذلك أبو تمام الطائي في قوله: من البسيط
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً ... ليست بنبعٍ إذا عدت ولا غرب
عجائباً زعموا الأيام مجفلةً ... عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمةٍ ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العليا مرتبةً ... ما كان منقلباً أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ... ما دار في فلكٍ منها وفي قطب
لو بينت قط أمراً قبل موقعه ... ما حل ما حل بالأوثان والصلب
قال يحيى بن معاذ: كنت أنا ويحيى بن أكثم نسير مع المعتصم، وهو يريد بلاد الروم؛ قال: فمررنا براهبٍ في صومعته فوقفنا عليه وقلنا: أيها الراهب، أترى هذا الملك يدخل عمورية؟ فقال: لا، إنما يدخلها ملكٌ أكثر أصحابه أولاد زنى؛ قال: فأتينا المعتصم فأخبرناه، فقال: أنا والله صاحبها، أكثر جندي أولاد زنى، إنما هم أتراك وأعاجم.
وكان المعتصم يقول: إذا لم يعد الوالي للأمور أقرانها قبل نزولها أطبقت عليه ظلم الجهالة عند حلولها.
قال ابن داود: كان المعتصم يخرج ساعده إلي فيقول: يا أبا عبد الله عضد ساعدي بأكثر من قوتك؛ فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك؛ فيقول: إنه لا يضرني؛ فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان.
وانصرف يوماً من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظماً بالخيم، فيها الجند، فمر المعتصم بامرأةٍ تبكي، وتقول: ابني ابني؛ وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها؛ فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها؛ فأبى، فاستدناه فدنا منه فقبض عليه بيده، فسمع صوت عظامه، ثم أطلقه من يده، فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.
قال عمرو بن محمد الرومي: كان على بيت مال المعتصم رجلٌ من أهل خراسان يكنى أبا حاتمٍ؛ فخرجت لي جائزةٌ فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جاريةً مغنيةً اسمها قاسم، بستين ألف درهم، قال: فعملت فيها شعراً، وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج في يوم الجمار، وكان يشرب يوماً ويستريح يوماً ليلعب فيه، ونلعب بين يديه، فجعلت أنشده: من السريع
لتنصفني يا أبا حاتمٍ ... أو لنصيرن إلى حاكم
فتعطي الحق على ذلةٍ ... بالرغم من أنفك ذا الراغم
يا سارقاً مال إمام الهدى ... سيظهر الظلم على الظالم
ستون ألفاً في شرا قاسمٍ ... من مال هذا الملك النائم
فقال لي: ما هذا الشعر؟ فتفازعت كأني أنشدته ساهياً، وتلجلجت؛ فقال: أعده؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني؛ وإنما أريد أن يحرص على أن يسمعه؛ فقال: أعده ويلك؛ فأعدته؛ فقال: ما هذا؟ فقلت: أظن صاحب بيت المال مطل بعض هؤلاء الشعراء بشيءٍ له، فعمل فيه هذا الشعر؛ قال: فما معنى قاسم؟ قلت: جاريةٌ اشتراها بستين ألف درهم؛ قال: وأراني أنا الملك النائم؟ صدق والله قائل هذا الشعر، والله ما عرفته لوصلته لصدقه؛ رجلٌ مملق وليته بيت المال لتعسر رزقه
منذ سنين، من أين لابنه هذا المال؟ ثم قال لإيتاخ: قيد صاحب بيت المال وابنه حتى نأخذ منهما مئتي ألف درهم وول بيت المال غيره.
قال محمد بن عمرو الدومي: لله در المعتصم ما كان أعقله كان له غلامٌ يقال له عجيب لم ير الناس مثله، وكان مشغوفاً به، فحارب بين يديه يوماً فحسن بلاؤه، فقال لي المعتصم: يا محمد جليس الرجل صديقه وذو نصحه، ولي عليك حق الرئاسة والإحسان، فاصدقني عما أسألك عنه؛ فقلت: لعن الله من يقم نفسه إلا مقام العبد الناصح الذي يرى فرضاً عليه أن يضيف كل حسنٍ إليك، وينفي كل عيبٍ عنك؛ قال: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين الرشيد وميلي إلى اللعب وأنا حدثٌ، فما أبالي ما قالوا، وقد قاتل عجيبٌ بين يدي، وأنت تعلم وجدي به وقد جاش طبعي بشيء قلته فإن كان مثله يجوز فاصدقني حتى أذيعه، وإلا طويته فقلت: والله لأخبرت ما أمرت؛ فأنشدني: من المجتث
لقد رأيت عجيباً ... يحكي الغزال الربيبا
الوجه منه كبدرٍ ... والقد يحكي القضيبا
وإن تناول سيفاً ... رأيت ليثاً حريبا
وإن رمى بسهامٍ ... كان المجد المصيبا
طبيب ما بي من الحب ... ب لا عدمت الطبيبا
إني هويت عجيباً ... هوىً أراه عجيبا
فحلفت له أنه شعرٌ مليحٌ من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء، وطابت نفسه؛ فقلت له: تحتاج إلى لحنٍ فيه؛ فقال: ما أحب ذلك لئلا يمر ذكر عجيبٍ؛ قلت: فلا تذكر البيتين اللذين فيهما ذكر عجيبٍ؛ قال: أما ذا فنعم، فغنى به مخارق ووصلني بخمسين ألفاً.
ومما أنشد للمعتصم بالله: من الطويل
أيا منشئ الموتى أعذني من التي ... بها نهلت نفسي سقاماً وعلت
لقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من ساقي التراب لضنت
فإن بخلت فالبخل منها سجيةٌ ... وإن بذلت أعطت قليلاً وضنت
قال علي بن يحيى المنجم:
لما أن استتم المعتصم عدة غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً، وعلق له خمسون ألف مخلاةً على فرسٍ وبرذونٍ وبغلٍ، وذلل العدو بكل النواحي أتته المنية على غفلةٍ؛ فقيل: إنه قال في حماة التي مات فيها: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون ".
قال الخطيب: ولكثرة عسكر المعتصم وضيق بغداد عنه، وتأذي الناس به بنى المعتصم سر من رأى، وانتقل إليها فسكنها بعسكره فسميت العسكر، في سنة إحدى وعشرين ومئتين.
قال حمدون بن إسماعيل: دخلت على المعتصم في يوم خميسٍ، وهو يحتجم؛ فلما رأيته وقفت واجماً وتبين له ذلك في؛ فقال: يا حمدون لعلك ذكرت الحديث الذي حدثتك به في حجامة الخميس وكراهتها، والله ما ذكرت ذلك حتى شرط الحجام، قال: فحم من عشيته، وكانت المرضة التي مات فيها.
ولما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيلة ليست حيلة؛ حتى أصمت.
وسمع يقول: اللهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي.
وجعل يقول: أؤخذ من بين هذا الخلق؟ وقال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت. وتوفي سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين؛ وقيل: سنة سبعٍ وعشرين؛ ودفن بسر من رأى، وهو ابن ست وأربعين سنة، أو سبعٍ وأربعين سنة، أو تسعٍ وأربعين سنة.
ابن محمد المهدي بن عبد الله المنصور أبو إسحاق الهاشمي بويع له بالخلافة بعد أخيه المأمون بعهدٍ منه، قدم دمشق عدة دفعات مع أخيه المأمون، ووحده قبل الخلافة، ثم قدمها في خلافته.
حدث هشام بن محمد الكلبي أنه كان عند المعتصم في أول أيام المأمون حين قدم المأمون بغداد، فذكر قوماً بسوء السير، فقلت له: أيها الأمير إن الله تعالى أمهلهم فطغوا وحلم عنهم فبغوا؛ فقال: حدثني أبي الرشيد، عن جدي المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى قومٍ من بني فلان يتبخترون في مشيهم، فعرف الغضب في وجهه، ثم قرأ: " والشجرة الملعونة في القرآن " فقيل له: أي الشجر هي يا رسول الله حتى نجتنبها؟ فقال: " ليست بشجرة نباتٍ، إنما هم بنو فلان، إذا ملكوا جاروا وإذا ائتمنوا خانوا " ثم ضرب بيده على ظهر العباس، قال: " فيخرج الله من ظهرك يا عم رجلاً يكون هلاكهم علي يديه ". قال: هذا حديثٌ منكر.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليكونن من ولده يعني العباس بن عبد المطلب ملوكٌ يلون أمر أمتي يعز الله بهم الدين ".
حدث المعتصم، عن المأمون، عن آبائه إلى ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تحتجموا يوم الخميس فإنه من يحتجم فيه فيناله مكروهٌ فلا يلومن إلا نفسه ".
وأم المعتصم أم ولدٍ اسمها ماردة، لم تدرك خلافته، والمعتصم يقال له: الثماني، لأنه ولد سنة ثمانين ومئة، في الشهر الثامن، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وفتح ثمانية فتوحاتٍ، وولد له ثمان بنين، وثمان بنات، ومات وعمره ثمان وأربعون سنةً، وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهرٍ ويومان، وقتل ثمانية أعداء: بابك ومازيار وياطس ورئيس الزنادقة والأفشين وعجيفاً وقارن وقائد الرافضة.
وكان المعتصم أبيض، أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون.
وبويع للمعتصم يوم مات المأمون سنة ثمان عشر ومئتين، ودخل بغداد على بغلٍ كميتٍ بسرجٍ مكشوفٍ وعليه قلنسوةٌ لاطئةٌ وسيفٌ بمعاليق، فأخذ على باب الشام حتى عبر الجسر، ثم دخل من باب الرصافة فأخذ يمنة حتى دخل الدار التي كان ينزلها المأمون من باب العامة.
كان مع المعتصم غلامٌ معه في الكتاب، فمات الغلام، فقال له الرشيد: مات غلامك؟ قال: نعم، واستراح من الكتاب قال الرشيد: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟ دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلموه شيئاً؛ فكان يكتب كتاباً ضعيفاً، ويقرأ قراءة ضعيفةً.
قال الزبير بن بكار: لما قدمت إلى الرشيد لأحدث أولاده بالأخبار التي صنفتها، أعجل المعتصم في القصر فعثر، فكادت إبهامه تنقطع، فقام وهو يقول: من الطويل
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس بموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
كذا، وقد وهم فإن الزبير لم يكن في زمن الرشيد يقرأ عليه، فإنه كان ميتاً إذ ذاك، وإنما قرئ عليه في أيام المتوكل والذي عثر المعتز بن المتوكل.
كتب ملك الروم كتاباً إلى المعتصم يتهدده فيه، فأمر بجوابه، فلما قرئ عليه الجواب لم يرضه، وقال للكاتب: اكتب؛ بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ".
قال الخطيب: غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين، فأنكى في العدو نكايةً عظيمةً، ونصب على عمورية المجانيق، وأقام عليها حتى فتحها، ودخلها عنوةً، فقتل فيها ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية من سائر نواحيها فأحرقها، وجاء ببابها إلى العراق، وهو باقٍ إلى الآن، منصوبٌ على أبواب دار الخلافة، وهو الباب الملاصق مسجد الجامع في القصر.
وكان المعتصم قبل وصوله عمورية خرب ما مر به من قراهم، وهربت الروم في كل وجهٍ؛ وقيل: وخرب أنقرة، وتوجه قافلاً، فضرب رقاب أربعة آلافٍ ونيفٍ من الأسارى، ولم يزل يقتل الأسارى في مسيره ويحرق ويخرب حتى ورد بلاد الإسلام؛ وأتي فيها ببابك أسيراً، فأمر بقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه، وصلبه في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين؛ وكانت الروم أغارت على زبطرة في سنة اثنتين وعشرين ومئتين، فقتلوا وأسروا من وجدوا بها، وخربوها، فدخل قائدٌ له في جماعةٍ في درب الحديد، ودخل المعتصم من درب الصفصاف في جماعةٍ لم تدخل أرض الروم قبلهم، ولقي أفشين الطاغية، فظفره الله به، وولى الطاغية منهزماً مفلولاً، وسار المعتصم إلى عمورية، ووافاه أفشين عليها، فأسر وغنم وسبى ما لا يحصى عدده، وشعث حائطها، وحرق وخرب
داخلها، وخرج سالماً هو وجيوشه، وخرج معه بياطس بطريقها وأسرى كثر، وأقام فيها بعد فتحه ثلاثة أيام، ورحل في الرابع وقد ظفر قبل ذلك ببابك الخرمي وأصحابه، فقدم أسيراً فأمر بقتله.
ولما تجهز المعتصم لغزو عمورية حكم المنجمون على ذلك الوقت أنه لا يرجع من غزوه، فإن رجع كان مفلولاً خائباً، لأنه خرج في وقت نحسٍ، فكان من فتحه العظيم ما لم يخف، حتى وصف ذلك أبو تمام الطائي في قوله: من البسيط
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً ... ليست بنبعٍ إذا عدت ولا غرب
عجائباً زعموا الأيام مجفلةً ... عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمةٍ ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العليا مرتبةً ... ما كان منقلباً أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ... ما دار في فلكٍ منها وفي قطب
لو بينت قط أمراً قبل موقعه ... ما حل ما حل بالأوثان والصلب
قال يحيى بن معاذ: كنت أنا ويحيى بن أكثم نسير مع المعتصم، وهو يريد بلاد الروم؛ قال: فمررنا براهبٍ في صومعته فوقفنا عليه وقلنا: أيها الراهب، أترى هذا الملك يدخل عمورية؟ فقال: لا، إنما يدخلها ملكٌ أكثر أصحابه أولاد زنى؛ قال: فأتينا المعتصم فأخبرناه، فقال: أنا والله صاحبها، أكثر جندي أولاد زنى، إنما هم أتراك وأعاجم.
وكان المعتصم يقول: إذا لم يعد الوالي للأمور أقرانها قبل نزولها أطبقت عليه ظلم الجهالة عند حلولها.
قال ابن داود: كان المعتصم يخرج ساعده إلي فيقول: يا أبا عبد الله عضد ساعدي بأكثر من قوتك؛ فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك؛ فيقول: إنه لا يضرني؛ فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان.
وانصرف يوماً من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظماً بالخيم، فيها الجند، فمر المعتصم بامرأةٍ تبكي، وتقول: ابني ابني؛ وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها؛ فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها؛ فأبى، فاستدناه فدنا منه فقبض عليه بيده، فسمع صوت عظامه، ثم أطلقه من يده، فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.
قال عمرو بن محمد الرومي: كان على بيت مال المعتصم رجلٌ من أهل خراسان يكنى أبا حاتمٍ؛ فخرجت لي جائزةٌ فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جاريةً مغنيةً اسمها قاسم، بستين ألف درهم، قال: فعملت فيها شعراً، وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج في يوم الجمار، وكان يشرب يوماً ويستريح يوماً ليلعب فيه، ونلعب بين يديه، فجعلت أنشده: من السريع
لتنصفني يا أبا حاتمٍ ... أو لنصيرن إلى حاكم
فتعطي الحق على ذلةٍ ... بالرغم من أنفك ذا الراغم
يا سارقاً مال إمام الهدى ... سيظهر الظلم على الظالم
ستون ألفاً في شرا قاسمٍ ... من مال هذا الملك النائم
فقال لي: ما هذا الشعر؟ فتفازعت كأني أنشدته ساهياً، وتلجلجت؛ فقال: أعده؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني؛ وإنما أريد أن يحرص على أن يسمعه؛ فقال: أعده ويلك؛ فأعدته؛ فقال: ما هذا؟ فقلت: أظن صاحب بيت المال مطل بعض هؤلاء الشعراء بشيءٍ له، فعمل فيه هذا الشعر؛ قال: فما معنى قاسم؟ قلت: جاريةٌ اشتراها بستين ألف درهم؛ قال: وأراني أنا الملك النائم؟ صدق والله قائل هذا الشعر، والله ما عرفته لوصلته لصدقه؛ رجلٌ مملق وليته بيت المال لتعسر رزقه
منذ سنين، من أين لابنه هذا المال؟ ثم قال لإيتاخ: قيد صاحب بيت المال وابنه حتى نأخذ منهما مئتي ألف درهم وول بيت المال غيره.
قال محمد بن عمرو الدومي: لله در المعتصم ما كان أعقله كان له غلامٌ يقال له عجيب لم ير الناس مثله، وكان مشغوفاً به، فحارب بين يديه يوماً فحسن بلاؤه، فقال لي المعتصم: يا محمد جليس الرجل صديقه وذو نصحه، ولي عليك حق الرئاسة والإحسان، فاصدقني عما أسألك عنه؛ فقلت: لعن الله من يقم نفسه إلا مقام العبد الناصح الذي يرى فرضاً عليه أن يضيف كل حسنٍ إليك، وينفي كل عيبٍ عنك؛ قال: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين الرشيد وميلي إلى اللعب وأنا حدثٌ، فما أبالي ما قالوا، وقد قاتل عجيبٌ بين يدي، وأنت تعلم وجدي به وقد جاش طبعي بشيء قلته فإن كان مثله يجوز فاصدقني حتى أذيعه، وإلا طويته فقلت: والله لأخبرت ما أمرت؛ فأنشدني: من المجتث
لقد رأيت عجيباً ... يحكي الغزال الربيبا
الوجه منه كبدرٍ ... والقد يحكي القضيبا
وإن تناول سيفاً ... رأيت ليثاً حريبا
وإن رمى بسهامٍ ... كان المجد المصيبا
طبيب ما بي من الحب ... ب لا عدمت الطبيبا
إني هويت عجيباً ... هوىً أراه عجيبا
فحلفت له أنه شعرٌ مليحٌ من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء، وطابت نفسه؛ فقلت له: تحتاج إلى لحنٍ فيه؛ فقال: ما أحب ذلك لئلا يمر ذكر عجيبٍ؛ قلت: فلا تذكر البيتين اللذين فيهما ذكر عجيبٍ؛ قال: أما ذا فنعم، فغنى به مخارق ووصلني بخمسين ألفاً.
ومما أنشد للمعتصم بالله: من الطويل
أيا منشئ الموتى أعذني من التي ... بها نهلت نفسي سقاماً وعلت
لقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من ساقي التراب لضنت
فإن بخلت فالبخل منها سجيةٌ ... وإن بذلت أعطت قليلاً وضنت
قال علي بن يحيى المنجم:
لما أن استتم المعتصم عدة غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً، وعلق له خمسون ألف مخلاةً على فرسٍ وبرذونٍ وبغلٍ، وذلل العدو بكل النواحي أتته المنية على غفلةٍ؛ فقيل: إنه قال في حماة التي مات فيها: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون ".
قال الخطيب: ولكثرة عسكر المعتصم وضيق بغداد عنه، وتأذي الناس به بنى المعتصم سر من رأى، وانتقل إليها فسكنها بعسكره فسميت العسكر، في سنة إحدى وعشرين ومئتين.
قال حمدون بن إسماعيل: دخلت على المعتصم في يوم خميسٍ، وهو يحتجم؛ فلما رأيته وقفت واجماً وتبين له ذلك في؛ فقال: يا حمدون لعلك ذكرت الحديث الذي حدثتك به في حجامة الخميس وكراهتها، والله ما ذكرت ذلك حتى شرط الحجام، قال: فحم من عشيته، وكانت المرضة التي مات فيها.
ولما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيلة ليست حيلة؛ حتى أصمت.
وسمع يقول: اللهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي.
وجعل يقول: أؤخذ من بين هذا الخلق؟ وقال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت. وتوفي سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين؛ وقيل: سنة سبعٍ وعشرين؛ ودفن بسر من رأى، وهو ابن ست وأربعين سنة، أو سبعٍ وأربعين سنة، أو تسعٍ وأربعين سنة.