عبد الملك بن صالح بن علي
ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو عبد الرحمن الهاشمي كانت أمه أمة لمروان بن محمد، فشراها أبوه صالح. ولي دمشق من قبل هارون الرشيد، ثم حبسه خشية وثوبه على الخلافة، ثم أطلقه الأمين، وولاه الشام والجزيرة سنة أربعٍ وتسعين، وولي المدينة، والصوائف في أيام الرشيد.
روى عن عمه سليمان بن علي، عن عكرمة قال: إنا لمع عبد الله بن عباس عشية عرفة إذ أقبل أدمان يحملون فتى ىدم من بني
عذرة، قد بلي بدنه، وكانت له حلاوة وجمال، حتى وقفوه بين يديه، ثم قالوا: استشف لهذا يابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: وما به؟ قال: فترنم الفتى بصوت ضعيف خفي لا يبين، وهو يقول: من الطويل
بنا من جوى الأحزان والحب لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معولٍ ... على ما به عود هناك صليب
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب
ثم شهق شهقة، فمات.
قال عكرمة: فمازال ابن عباس بقية يتعوذ بالله من الحب ونقل عن مالك بن أنس: آل محمد كل من آمن بمحمد وقال: " العاملين عليها "، فقلا: له عبيد الله بن عمرو: ليس لكم فيها شيء، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الصدقة لا تحل لنا أهل البيت " وبعث الرشيد إلى يحيى بن خالد بن برمك: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج علي، ومنازعتي في الملك، وعلمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك الأول - وكان يحيى في الحبس - فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي.
وولي عبد الملك بن صالح الجزيرة مرتين، وأقام الصائفة. وأوصى أمير السرية ببلاد الروم، فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس، الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا احتفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد خوفاً من احتيال عدوك عليك.
وكان يرسل الجفان فيها الكعك والسويق والتمر إلى رحل ابن المبارك، بأرض
الروم، فيقول عبد الله بن المبارك للشرط: انطلقوا، لا حاجة لنا فيها.
وقال لمؤدب بنيه: يا عبد الرحمن، لا تطرني في وجهي؛ فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تعني على ما يقبح، ودع عنك: كيف أصبح الأمير، وكيف أمسى الأمير؟ واجعل مكان التقريظ لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول؛ فإذا حدثتك فلا يفوتنك منه شيء، وأرني فهمك في طرفك. إني اتخذتك مؤدباً بعد أن كنت معلماً، وجعلتك جليساً مقرباً بعد أن كنت مع الصبيان مباعداً، ومتى لم تعرف نقصان ماخرجت منه لم تعرف رجحان ما صرت إليه.
وعزى الرشيد في ابن له توفي وهنأه بآخر ولد، فقال: يا أمير المؤمنين، أجرك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه جزاء " للشاكرين، وثواباً للصابرين.
وحكى الأصمعي: كنت عند الرشيد، ودعا بعبد الملك بن صالح - وكان معتقلاً في حبسه - فأقبل يرفل في قيوده، فلما مثل بين يديه التفت الرشيد، وقد كان يحدث يحيى بن خالد بن برمك، وهو يتمثل ببيت عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: يا عبد الملك، كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى ناراً، فأبرز عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم. فمهلاً بني هاشم؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فبدار تدارككم كم حلول داهية خبوط باليد والرجل.
فقال عبد الملك: اتق الله، يا أمير المؤمنين، فيما ولاك، واحفظه في رعاياك التي استرعاك، ولاتجعل الكفر بموضع الشكر، والعقاب بموضع الثواب؛ فقد، والله، سهلت لك الوعور، وجمعت على خوفك، ورجائك الصدور، وشدد أواخي ملكك بأوثق من ركن يلملم.
فأعاده إلى محبسه، ثم أقبل على جلسائه، فقال: والله لقد نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، فمنعني من قتله إبقائي على مثله.
وأجاب يحيى بن خالد حين قال له: بلغني أنك حقود: إن كان الحقد هو بقاء الخير والشر إنهما لباقيان في قلبي وقيل: إن الذي سعى به إلى الرشيد ابنه عبد الرحمن، ومؤدب بنيه قمامة، فقالا له: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها.
وقال بعد أن أخرجه الأمين من حبس الرشيد: والله إن الملك لشيء ما تمنيته، ولا نويته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته. ولو أردته لكان أسرع إلى من السيل إلى الحدود، ومن النار في يبس العرفج؛ وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لا أعرف؛ ولكنه حين رآني للملك قمنا "، وللخلافة خطرا؟، ورأى لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفساً تكمل بخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الواله، وتميل نحوي ميل الهلوك، وحاذر أن ترغب إلى خير مرغوب، وتنزع إلى خير منزوع عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتقدر لها بجهده، وتهيأ لها بكل حيلته.
فإن كان حبسني على أني أصلح لها، وتصلح لي، وأليق بها، وتليق بي فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا جرم فأرجع عنه، ولا تطاولت لها فأخطأتني. فإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من إغضابه إلا بأن أخرج له من الحلم والعلم، وأتبرأ إليه من الحزم والعزم؛ فكما لا يستطيع المضياع أن يكون حافظاً ولا يملك العاجز أن يكون حازماً كذلك العاقل لا يكون جاهلاً، ولا يكون الذكي بليداً، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل الجهد إلا القليل، غير أني والله أرى السلامة من تبعاتها غنماً، والخف من أوزارها حظاً.
مات عبد الملك بن صالح بن علي بالرقة سنة ست وتسعين ومائة.
ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو عبد الرحمن الهاشمي كانت أمه أمة لمروان بن محمد، فشراها أبوه صالح. ولي دمشق من قبل هارون الرشيد، ثم حبسه خشية وثوبه على الخلافة، ثم أطلقه الأمين، وولاه الشام والجزيرة سنة أربعٍ وتسعين، وولي المدينة، والصوائف في أيام الرشيد.
روى عن عمه سليمان بن علي، عن عكرمة قال: إنا لمع عبد الله بن عباس عشية عرفة إذ أقبل أدمان يحملون فتى ىدم من بني
عذرة، قد بلي بدنه، وكانت له حلاوة وجمال، حتى وقفوه بين يديه، ثم قالوا: استشف لهذا يابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: وما به؟ قال: فترنم الفتى بصوت ضعيف خفي لا يبين، وهو يقول: من الطويل
بنا من جوى الأحزان والحب لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معولٍ ... على ما به عود هناك صليب
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب
ثم شهق شهقة، فمات.
قال عكرمة: فمازال ابن عباس بقية يتعوذ بالله من الحب ونقل عن مالك بن أنس: آل محمد كل من آمن بمحمد وقال: " العاملين عليها "، فقلا: له عبيد الله بن عمرو: ليس لكم فيها شيء، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الصدقة لا تحل لنا أهل البيت " وبعث الرشيد إلى يحيى بن خالد بن برمك: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج علي، ومنازعتي في الملك، وعلمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك الأول - وكان يحيى في الحبس - فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي.
وولي عبد الملك بن صالح الجزيرة مرتين، وأقام الصائفة. وأوصى أمير السرية ببلاد الروم، فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس، الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا احتفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد خوفاً من احتيال عدوك عليك.
وكان يرسل الجفان فيها الكعك والسويق والتمر إلى رحل ابن المبارك، بأرض
الروم، فيقول عبد الله بن المبارك للشرط: انطلقوا، لا حاجة لنا فيها.
وقال لمؤدب بنيه: يا عبد الرحمن، لا تطرني في وجهي؛ فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تعني على ما يقبح، ودع عنك: كيف أصبح الأمير، وكيف أمسى الأمير؟ واجعل مكان التقريظ لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول؛ فإذا حدثتك فلا يفوتنك منه شيء، وأرني فهمك في طرفك. إني اتخذتك مؤدباً بعد أن كنت معلماً، وجعلتك جليساً مقرباً بعد أن كنت مع الصبيان مباعداً، ومتى لم تعرف نقصان ماخرجت منه لم تعرف رجحان ما صرت إليه.
وعزى الرشيد في ابن له توفي وهنأه بآخر ولد، فقال: يا أمير المؤمنين، أجرك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه جزاء " للشاكرين، وثواباً للصابرين.
وحكى الأصمعي: كنت عند الرشيد، ودعا بعبد الملك بن صالح - وكان معتقلاً في حبسه - فأقبل يرفل في قيوده، فلما مثل بين يديه التفت الرشيد، وقد كان يحدث يحيى بن خالد بن برمك، وهو يتمثل ببيت عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: يا عبد الملك، كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى ناراً، فأبرز عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم. فمهلاً بني هاشم؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فبدار تدارككم كم حلول داهية خبوط باليد والرجل.
فقال عبد الملك: اتق الله، يا أمير المؤمنين، فيما ولاك، واحفظه في رعاياك التي استرعاك، ولاتجعل الكفر بموضع الشكر، والعقاب بموضع الثواب؛ فقد، والله، سهلت لك الوعور، وجمعت على خوفك، ورجائك الصدور، وشدد أواخي ملكك بأوثق من ركن يلملم.
فأعاده إلى محبسه، ثم أقبل على جلسائه، فقال: والله لقد نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، فمنعني من قتله إبقائي على مثله.
وأجاب يحيى بن خالد حين قال له: بلغني أنك حقود: إن كان الحقد هو بقاء الخير والشر إنهما لباقيان في قلبي وقيل: إن الذي سعى به إلى الرشيد ابنه عبد الرحمن، ومؤدب بنيه قمامة، فقالا له: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها.
وقال بعد أن أخرجه الأمين من حبس الرشيد: والله إن الملك لشيء ما تمنيته، ولا نويته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته. ولو أردته لكان أسرع إلى من السيل إلى الحدود، ومن النار في يبس العرفج؛ وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لا أعرف؛ ولكنه حين رآني للملك قمنا "، وللخلافة خطرا؟، ورأى لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفساً تكمل بخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الواله، وتميل نحوي ميل الهلوك، وحاذر أن ترغب إلى خير مرغوب، وتنزع إلى خير منزوع عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتقدر لها بجهده، وتهيأ لها بكل حيلته.
فإن كان حبسني على أني أصلح لها، وتصلح لي، وأليق بها، وتليق بي فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا جرم فأرجع عنه، ولا تطاولت لها فأخطأتني. فإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من إغضابه إلا بأن أخرج له من الحلم والعلم، وأتبرأ إليه من الحزم والعزم؛ فكما لا يستطيع المضياع أن يكون حافظاً ولا يملك العاجز أن يكون حازماً كذلك العاقل لا يكون جاهلاً، ولا يكون الذكي بليداً، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل الجهد إلا القليل، غير أني والله أرى السلامة من تبعاتها غنماً، والخف من أوزارها حظاً.
مات عبد الملك بن صالح بن علي بالرقة سنة ست وتسعين ومائة.