أَبُو الْحُسَيْن الرهاوي اسْمه أَحْمد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك بن أبي شيبَة يروي عَن يزِيد بن هَارُون ثَنَا عَنهُ أَبُو عرُوبَة وَأهل الجزيرة مَاتَ بضيعة لَهُ إِلَى جَانب الرها لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ صَاحب حَدِيث يحفظ
I pay $140/month to host my websites. If you wish to help, please use the following button (secure payments with Stripe).
Jump to entry:الذهاب إلى موضوع رقم:
500100015002000250030003500400045005000550060006500700075008000850090009500100001050011000115001200012500130001350014000145001500015500160001650017000175001800018500190001950020000205002100021500220002250023000235002400024500250002550026000265002700027500280002850029000295003000030500310003150032000325003300033500340003450035000355003600036500370003750038000385003900039500400004050041000415004200042500430004350044000445004500045500460004650047000475004800048500490004950050000505005100051500520005250053000535005400054500550005550056000565005700057500580005850059000595006000060500610006150062000625006300063500640006450065000655006600066500670006750068000685006900069500700007050071000715007200072500730007350074000745007500075500760007650077000775007800078500790007950080000805008100081500820008250083000835008400084500850008550086000865008700087500880008850089000895009000090500910009150092000925009300093500940009450095000955009600096500970009750098000985009900099500100000100500Similar and related entries:
مواضيع متعلقة أو مشابهة بهذا الموضوع
أبو بكر، الشبلي الصوفي :
أَخْبَرَنَا أبو عبد الرحمن إِسْمَاعِيل بن أَحْمَد الحيري، أَخْبَرَنَا أبو عبد الرّحمن محمّد ابن الْحُسَيْن السلمي قَالَ: أَبُو بَكْر الشبلي دُلَف بْن جَعْفَر ويُقال دُلف بْن جَحدر، ويُقال إن اسم الشبلي جَعْفَر بْن يونس.
قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن: سَمِعْتُ الْحُسَيْن بْن يَحْيَى الشافعي يذكر ذَلِكَ، وهكذا رأيت عَلَى قبره مكتوبًا ببغداد.
قلت: وقيل أيضًا إن اسمه جحدر بْن دُلَف، وقيل دلف بْن جعترة، وقيل دُلَف بْن جبغويه، وقيل غير ذَلِكَ.
أخبرنا إسماعيل الحيري، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شاذان يَقُولُ: الشبلي من أهل أُشروسنة، بِهَا قرية يُقالُ لَهَا شبلية أصله منها، وكان خاله أمير الأمراء بالإسكندرية قَالَ السلمي: كَانَ الشبلي مولده بسرَّ من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوهُ حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دُماوند ثُمَّ لَمّا أقعد الموفق- وكان ولي العهد من قبل أَبِيهِ- حضر الشبلي يومًا مجلس خير النساج وتاب فِيهِ ورجعَ إلى دماوند. وقال: أَنَا كنت صاحب الموفق وكان ولَّاني بلدتكم هذه، فاجعلوني فِي حل. فجعلوهُ فِي حل، وجهدوا أن يَقبل منهم شيئًا فأبَى، وصارَ بعد ذَلِكَ واحد زمانه حالا ونفسًا.
قُلْتُ: وَأَخْبَارُ الشِّبْلِيِّ وَحَكَايَاتُهُ كَثِيرَةٌ، وَلا أَعْلَمُ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ إِلا مَا:
أَخْبَرَنَاهُ أَبُو سَعْدٍ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن حَفْصٍ الْهَرَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمَالِينِيِّ- إِجَازَةً- وأخبرناه إسماعيل الحيري- قراءة- أخبرنا عبد الرّحمن السّلميّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حفص الهرويّ، حدثنا عبد الواحد بن العبّاس، حدثنا أحمد بن محمّد بن ثابت، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَمَّالُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشِّبْلِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مهدي المصريّ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ الرَّهَاوِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلالٍ: «الْقَ [اللَّهَ] فَقِيرًا وَلا تَلْقَهُ غَنِيًّا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: «مَا سُئِلْتَ فَلا تَمْنَعْ، وَمَا رُزِقْتَ فَلا تَخْبَأْ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَاكَ؟ قَالَ: «هُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَالنَّارُ» .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي الفوارس الحافظ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّفَّارُ- بِهَرَاةَ- قَالَ: سُئِلَ الشبلي- وأنا حاضر- أي شيء أعجب؟ قَالَ: قلب عرف ربه ثُمَّ عصاهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْد إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن بندار الإستراباذي- ببيت المقدس- قَالَ: سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ما قلت الله قط إلا واستغفرتُ من قولي الله.
أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم عَبْد الكريم بْن هوازن القشيري النيسابوري قال: سمعت محمد بن الحسين السلمي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد الله بْن مُوسَى السلامي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يُنشد فِي مجلسه:
ذكرتك لا أني نسيتك لَمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى ... وهام علي القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودًا بغير تكلم ... ولاحظت معلوما بغير عيان
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن علي المحتسب قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الفرج مُحَمَّد بْن عبيد الشاعر المعروف بالبارد يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يُنشد:
ليس تخلو جوارحي منك وقتا ... هي مشغولة بحمل هواك
ليس يجري على لساني شيء ... علم الله ذا سوى ذكراك
وتمثلت حيث كنت بعيني ... فهي إن غبت أو حضرت تراك
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن أَحْمَدَ الأهوازي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حاتِم الطبري الصوفي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ذكر الله عَلَى الصفاء، يُنسي العبد مرارة البلاء.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَبْد الله الأردستاني- بمكة في المسجد الحرام- أخبرنا محمّد بن الحسن بْن مُوسَى النيسابوري- بنيسابور- قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْد الله بْن علي الْبَصْرِيّ يَقُولُ: قَالَ رجلٌ للشبلي: إلى ماذا تستريح قلوب المحبين والمشتاقين؟ فقال: إلى سرورهم عن أجره وقد اشتاقوا إِلَيْهِ. وأنشد:
أسر بمهلكي فيه لأني ... أسرُّ بِما يسر الإلف جدَّا
ولو سئلت عظامي عن بلاها ... لأنكرت البلا وسمعت جحدا
ولو أخرجت من سقمي لنادى ... لَهيب الشوق بي يسأله ردا
أَخْبَرَنِي هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الطَّبَرِيُّ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: سمعت الشبلي- وسئل- فقيل: ما الفرق بين رق العبودية ورق المحبة؟ فقال:
كم بين عَبْد إذا أعتق صار حرًا، وعبد كلما أعتق ازداد رقًّا. ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
لتحشرن عظامي بعد إذ بليت ... يوم الحساب وفيها حبكم علق
أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد الخلال قَالَ: حدَّثَنِي أخي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد. ثُمَّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد أخو الخلال قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن يوسف بْن يعقوب الأزرقي- بسارية- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن المثنى العنبري يَقُولُ: سألتُ أَبَا بَكْر الشبلي جَحدر بْن دُلف عَن التصوف. فقال: التصوف ترويح القلوب بِمراوح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.
أخبرني أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن محمود الزوزني قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن المثنى التميمي يَقُولُ: دخلتُ عَلَى أبي بَكْر جَحْدر بْن جَعْفَر الملقب بالشبلي فِي داره يومًا وهو يهيج ويقول:
على بعدك ما يصبر ... مَن عادته القرب
ولا يقوى على حبك ... مَن تيمه الحب
فإن لَم ترك العين ... فقد يبصرك القلب
أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْلِ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الرازي- بنيسابور- أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن جَعْفَر السيرواني قَالَ: دخلتُ أَنَا وفقير عَلَى الشبلي فسلمنا عَلَيْهِ. فقال لنا:
أَيْنَ تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: عَلَى أي حُكم؟ فقال صاحبي: عَلَى حُكم الفقراء.
فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر. قَالَ أَبُو الْحَسَن السيرواني: فجمع لنا العلم كله فِي هذه الكلمة.
أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن غالب المقرئ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا القاسم عِيسَى بْن عَلِيّ بْن عِيسَى الوزير يَقُولُ: كَانَ ابن مجاهد يومًا عِنْدَ أبي، فقيل لَهُ: الشبلي؟ فقال: يدخل، فقال ابن
مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك، وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئًا خَرق فِيهِ موضعًا، فلما جلس قَالَ لَهُ ابن مجاهد: يا أَبَا بَكْر أَيْنَ فِي العلم إفساد ما ينتفع بِهِ؟
فقال له الشبلي: أين في العلم فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ
[ص 33] قَالَ:
فسكت ابن مجاهد، فقال لَهُ أبي: أردت أن تُسكتَه فأسكتَك!! ثُمَّ قَالَ لَهُ: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت، أَيْنَ فِي القرآن الحبيب لا يُعذِّب حبيبه؟ قَالَ: فسكت ابن مجاهد. فقال لَهُ أبي: قل يا أبا بكر، فقال قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
[المائدة 18] فقال ابن مجاهد كأنني ما سمعتها قَط.
أَخْبَرَنَا أَبُو سعد الْحُسَيْن بْن عثمان العجلي الشّيرازيّ، حدثنا أبو الحسين زيد بْن رفاعة الهاشمي قَالَ: دخل أَبُو بكر بن مجاهد عَلَى أبي بَكْر الشبلي دُلف بْن جبغويه الأشروسني، فحادثه فسأله عَن حاله فقال تَرجو الخير، تَختم فِي كل يوم بين يدي ختمتين وثلاثًا. فقال لَهُ الشبلي: أيها الشيخ قد خَتَمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختْمة، إن كَانَ فيها شيء قُبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.
أَخْبَرَنَا إسماعيل الحيري، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد الله الرازي يَقُولُ: لَم أر فِي الصوفية أعلم من الشبلي ولا أتمَّ حالا من الكتاني.
وقال السلمي: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: أعرف من لَم يدخل فِي هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه وغرَّق فِي هذه الدجلة التي تَرون سبعين قمطرًا مكتوبًا بِخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءة- عني به نفسه.
أخبرنا أحمد بن علي بن الفتح، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الصُّوفِيُّ النيسابوري قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَد بْن عطاء يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: كتبت الحديث عشرين سنة، وجالست الفقهاء عشرين سنة، وكان يتفقه لِمالك، وكان لَهُ يوم الجمعة نظرة ومن بعدها صيحة، فصاح يومًا صيحة تشوش ما حوله من الحلق، وكان يجنب حَلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قَالَ: حردوا من صيحتك، وحرد أَبُو عمران وأهل حلقته، فقام الشبلي وجاء إلى أبي عمران فلمّا رآهُ أَبُو عمران قام إِلَيْهِ وأجلسه
بجنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يُريَ الناس أن الشبلي جاهل. فقال لَهُ: يا أَبَا بَكْر إذا اشتبه عَلَى المرأة دم الحيض ودم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جوابًا. فقام أَبُو عمران وقبل رأسه وقال: يا أَبَا بَكْر أعرف منها اثني عشر، وستة ما سَمِعْتُ بِهَا قط.
أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن غالب قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْن بْن سمعون يَقُولُ: قَالَ لي الشبلي: كنت باليمن وكان باب دار الأمير رحبة عظيمة وفيها خلقٌ كثير قيام ينظرون إلى منظرة. فإذا قد ظَهَر من المنظرة شخصٌ أخرج يَدَهُ كالمسلِّم عليهم، فسجدوا كلهم، فلما كَانَ بعد سنين كنت بالشام وإذا تِلْكَ اليد قد اشترت لحمًا بدرهم وحملته، فقلتُ لَهُ: أنت ذَلِكَ الرجل؟ قَالَ: نعم من رأى ذاك ورأى هذا يَغْتر بالدنيا؟! أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن يزداد القارئ قَالَ: سَمِعْتُ زيد بْن رفاعة الهاشمي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر الشبلي يُنشد فِي جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله:
يقول خليلي كيف صبرك عنهمُ ... فقلت: وهل صبر فيسأل عن كيفِ
بقلبي هوًى أذكى من النار حره ... وأصلى من التقوى وأمضى من السيف
أَخْبَرَنَا أَبُو حازم عُمَر بْن أَحْمَد العبدوي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر الشبلي يَقُولُ: ما أحوج الناس إلى سكرة، فقيل: أي سكرة؟ فقال: سكرة تُغنيهم عَن ملاحظات أنفسهم وأفعالهِمْ وأحوالهِمْ، والأكوان وما فيها. وأنشد:
وتَحسبني حيًّا وإني لَميت ... وبعضي من الهجران يبكي على بعض
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن التوزي قَالَ: سمعتُ أَبَا الفرج المعروف بالبارد يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ما أحدٌ يعرف الله، قِيلَ: وكيف؟ قَالَ: لو عرفوه لما اشتغلوا عَنْهُ بسواه. وقال: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: الأسرار الأسرار صونوها عَن رؤية الأغيار.
وأَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْل عَبْد الصمد بْن مُحَمَّد الخطيب، حدثنا الحسن بن الْحُسَيْن الفقيه الهمداني قَالَ: سَمِعْتُ برهان الدينوري يَقُولُ: حضر الشبلي ليلة ومعه صبي،
فقال للصبي: قُم نَم. فقال الصبي: إني آنسُ برؤيتك، وأشتهي النظرُ إليك إلى أن تَنَام، فقال الشبلي: إنَّ جاريتي قَالَتْ عَددتُ عليك ستة أشهر لَم تَنم فيها.
سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَسَن الخفاف- المعروف بابن النقيب- يَقُولُ: كنتُ يومًا جالسًا بباب الطاق أقرأُ القرآن عَلَى رجلٍ يُكنى بأبي بَكْر العميش- وكان وليا لله- فإذا بأبي بَكْر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطّيّب الجلا- وكان من أهلم العلم، فسلم عَلَيْهِ، وأطال الحديث معه، وقامَ لينصرف فاجتمعَ قومٌ إلى أبي الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا ويُرينا شيئًا من آيات الله عَزَّ وَجَلَّ- ومعه صاحبان لَهُ- فألحَّ أَبُو الطيب عَلَيْهِ فِي المسألة، واجتمعَ الناس بباب الطاق. فرفعَ الشبلي يَده إلى الله تعالى ودعا بدعاء لَم يُفهم، ثُمَّ شَخُص إلى السماء فلَم يطبق جفنًا عَلَى جفن إلى وقت الزَّوال. وكان دُعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضُحَى النَّهار، فكَبَّر الناس وضَجوا بالدعاء والابتهال. ثُمَّ مَضَى الشبلي إلى سوق يَحْيَى وإذا برجلٍ يبيع حَلْواء وبين يديه طنجير فِيهِ عصيدة تغلي. فقال الشبلي لصاحب لَهُ: هَلْ تُريد من هذه العصيدة؟ قال نعم! وأعطى الحلاوي درهمًا وقال أعط هذا ما يُريد، ثُمَّ قَالَ تدعني أعطيه رزقه؟ قَالَ الحلاوي: نعم، فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده فِي الطنجير والعصيدة تَغلي فأخذ منها بكفه وطرحها عَلَى الرقاقة. ومشَى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بَكْر بْن مُجاهد، فدَخلَ عَلَى أبي بَكْر فقام إِلَيْهِ أَبُو بَكْر، فتحدَّث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بَكْر: أنتَ لم تَقُم لعلي بْن عيسى الوزير وتقوم للشبلي؟ فقال أَبُو بَكْر: ألا أقوم لمن يعظمه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رَأَيْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي يَا أَبَا بَكْرٍ إِذَا كَانَ فِي غَدٍ فَسَيَدْخُلُ عَلَيْكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا جَاءَكَ فَأَكْرِمْهُ. قَالَ ابن مُجاهد: فلما كَانَ بعد ذَلِكَ بثلاثين- أو أكثر- رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا بَكْرٍ أَكْرَمَكَ اللَّهُ كَمَا أَكْرَمْتَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ اسْتَحَقَّ الشِّبْلِيُّ هَذَا مِنْكَ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، يَذْكُرُنِي فِي إِثْرِ كُلِّ صَلاةٍ وَيَقْرَأُ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
[التوبة 128] الآيَةَ. يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً، أَفَلا أُكْرِمُ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل الحيري، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز الواعظ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَر الفرغاني يَقُولُ: سَمِعْتُ الجنيد يَقُولُ:
لا تنظروا إلى أبي بَكْر الشبلي بالعين التي ينظرُ بعضكم إلى بعض، فإنه عينٌ من عيون الله عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ السلمي: سَمِعْتُ منصور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُولُ: سمعتُ أَبَا عمران الأنماطي يَقُولُ: سَمِعْتُ الجنيد يَقُولُ: لكل قوم تاج، وتاج هَؤُلَاءِ القوم الشبلي.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّهِ الأردستاني- بمكة- أخبرنا محمّد بن الحسين ابن مُوسَى قَالَ: سمعتُ منصور بْن عَبْد الله يَقُولُ: دخل قومٌ عَلَى الشبلي فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ فقالوا: كيف تَجدك يا أَبَا بَكْر؟ فأنشأ يَقُولُ:
إن سلطان حبه ... قال لا أقبل الرِّشَا
فسلوه- فَدَيْتُهُ- ... لِمَ بقتلي تَحرَّشَا
أَخْبَرَنَا عَبْد الكريم بْن هَوازن الْقُشَيْري قَالَ: سمعتُ أَبَا حاتِم مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن يَحْيَى السجستاني يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نصر السراج يَقُولُ: بَلَغني عَن أبي مُحَمَّد الحريري قَالَ: مكثت عِنْدَ الشبلي فِي الليلة التي مات، فكان يَقُولُ طول ليلته هذين البيتين:
كل بيت أنت ساكنه ... غير مُحتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
وَأَخْبَرَنَا القشيري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حاتِم السجستاني يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد الله بْن علي التميمي يَقُولُ: سأل جَعْفَر بْن نُصَيْر بكران الدينوري- وكان يخدم الشبلي- ما الَّذِي رأيت منه- يعني عِنْدَ وفاته- فقال: قَالَ لي عليّ درهمٌ مظْلَمةٌ، وتصدقتُ عَن صاحبه بألوف، فما عَلَى قلبي شغلٌ أعظم منه. ثم قال: وضيني للصلاة ففعلت، فنسيتُ تَخليل لحيته وقد أمسك عَلَى لسانه، فقَبَض عَلَى يدي وأدخلها فِي لحيته، ثُمَّ مات فبكى جَعْفَر وقال: ما تقولون فِي رَجُل لَم يَفُته فِي آخر عمره أدبٌ من آداب الشريعة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أبي الفتح، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الصُّوفِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا نصر الْهَرَويّ يَقُولُ: كَانَ الشبلي يَقُولُ: إنَّما يُحفظ هذا الجانب بي- يعني من الديالمة- فمات هُوَ يوم الجمعة، وعَبَرت الديالِمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت، مات هُوَ وعلي بْن عيسى فِي يوم واحد.
أَخْبَرَنِي أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بن العبّاس بن المهدي الهاشميّ الخطيب، حَدَّثَنَا أَبُو حَفص عُمَر بْن عَبْد الله بن عمر الدلال، أخبرنا بُكير صاحب الشبلي قَالَ:
وجد الشبلي يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفَّة من وجع كَانَ بِهِ، فقال: تنشط نَمْضي إلى الجامع؟ قلتُ: نعم! قَالَ: فاتكأ عَلَى يدي حتى انتهينا إلى الوراقين من الجانب الشرقي، قَالَ: فتلقانا رجلٌ جائي من الرصافة فقال بُكير؟
قلتُ لبيك، قَالَ غدًا يكون لي مَعَ هذا الشيخ شأنٌ، ثُمَّ مضينا وصلينا ثُمَّ عدنا، فتناول شيئًا من الغداء، فلما كَانَ الليل مات رَحِمَهُ الله. فقيل فِي درب السقائين رجلٌ شيخ صالِح يغسل الموتى، قَالَ: فدلوني عَلَيْهِ فِي سحر ذَلِكَ اليوم فنقرت الباب خفيًّا فقلتُ سلام عليكم فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم فخرج إليّ فإذا بِهِ الشيخ. فقلت: لا إله إلا الله، فقال لا إله إلا الله. تعجبًا! ثُمَّ قلت قَالَ لي الشبلي أمس لَما التقينا بك فِي الوراقين: غدًا يكون لي مَعَ هذا الشيخ شأنٌ، بِحق معبودك من أَيْنَ لك أن الشبلي قد مات؟ قَالَ: يا أبله فمن أين للشبلي أن يكون لَهُ معي شأن من الشأن اليوم! حَدَّثَنَا أبو نصر إبراهيم بن هبة الله الجرباذقاني- بها- قال: قَالَ لنا أَبُو منصور معمر بْن أَحْمَد الأصبهاني: مات الشبلي فِي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. قَالَ غيره:
مات يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة.
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد السّمسار، أخبرنا عبد الله بن عثمان الصّفّار، حَدَّثَنَا ابن قانع أن الشبلي مات فِي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، والأول أصح.
أَخْبَرَنَا أبو عبد الرحمن إِسْمَاعِيل بن أَحْمَد الحيري، أَخْبَرَنَا أبو عبد الرّحمن محمّد ابن الْحُسَيْن السلمي قَالَ: أَبُو بَكْر الشبلي دُلَف بْن جَعْفَر ويُقال دُلف بْن جَحدر، ويُقال إن اسم الشبلي جَعْفَر بْن يونس.
قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن: سَمِعْتُ الْحُسَيْن بْن يَحْيَى الشافعي يذكر ذَلِكَ، وهكذا رأيت عَلَى قبره مكتوبًا ببغداد.
قلت: وقيل أيضًا إن اسمه جحدر بْن دُلَف، وقيل دلف بْن جعترة، وقيل دُلَف بْن جبغويه، وقيل غير ذَلِكَ.
أخبرنا إسماعيل الحيري، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شاذان يَقُولُ: الشبلي من أهل أُشروسنة، بِهَا قرية يُقالُ لَهَا شبلية أصله منها، وكان خاله أمير الأمراء بالإسكندرية قَالَ السلمي: كَانَ الشبلي مولده بسرَّ من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوهُ حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دُماوند ثُمَّ لَمّا أقعد الموفق- وكان ولي العهد من قبل أَبِيهِ- حضر الشبلي يومًا مجلس خير النساج وتاب فِيهِ ورجعَ إلى دماوند. وقال: أَنَا كنت صاحب الموفق وكان ولَّاني بلدتكم هذه، فاجعلوني فِي حل. فجعلوهُ فِي حل، وجهدوا أن يَقبل منهم شيئًا فأبَى، وصارَ بعد ذَلِكَ واحد زمانه حالا ونفسًا.
قُلْتُ: وَأَخْبَارُ الشِّبْلِيِّ وَحَكَايَاتُهُ كَثِيرَةٌ، وَلا أَعْلَمُ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ إِلا مَا:
أَخْبَرَنَاهُ أَبُو سَعْدٍ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن حَفْصٍ الْهَرَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمَالِينِيِّ- إِجَازَةً- وأخبرناه إسماعيل الحيري- قراءة- أخبرنا عبد الرّحمن السّلميّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حفص الهرويّ، حدثنا عبد الواحد بن العبّاس، حدثنا أحمد بن محمّد بن ثابت، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَمَّالُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشِّبْلِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مهدي المصريّ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ الرَّهَاوِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلالٍ: «الْقَ [اللَّهَ] فَقِيرًا وَلا تَلْقَهُ غَنِيًّا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: «مَا سُئِلْتَ فَلا تَمْنَعْ، وَمَا رُزِقْتَ فَلا تَخْبَأْ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِذَاكَ؟ قَالَ: «هُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَالنَّارُ» .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي الفوارس الحافظ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّفَّارُ- بِهَرَاةَ- قَالَ: سُئِلَ الشبلي- وأنا حاضر- أي شيء أعجب؟ قَالَ: قلب عرف ربه ثُمَّ عصاهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْد إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن بندار الإستراباذي- ببيت المقدس- قَالَ: سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ما قلت الله قط إلا واستغفرتُ من قولي الله.
أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم عَبْد الكريم بْن هوازن القشيري النيسابوري قال: سمعت محمد بن الحسين السلمي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد الله بْن مُوسَى السلامي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يُنشد فِي مجلسه:
ذكرتك لا أني نسيتك لَمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى ... وهام علي القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودًا بغير تكلم ... ولاحظت معلوما بغير عيان
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن علي المحتسب قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الفرج مُحَمَّد بْن عبيد الشاعر المعروف بالبارد يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يُنشد:
ليس تخلو جوارحي منك وقتا ... هي مشغولة بحمل هواك
ليس يجري على لساني شيء ... علم الله ذا سوى ذكراك
وتمثلت حيث كنت بعيني ... فهي إن غبت أو حضرت تراك
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن أَحْمَدَ الأهوازي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حاتِم الطبري الصوفي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ذكر الله عَلَى الصفاء، يُنسي العبد مرارة البلاء.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَبْد الله الأردستاني- بمكة في المسجد الحرام- أخبرنا محمّد بن الحسن بْن مُوسَى النيسابوري- بنيسابور- قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْد الله بْن علي الْبَصْرِيّ يَقُولُ: قَالَ رجلٌ للشبلي: إلى ماذا تستريح قلوب المحبين والمشتاقين؟ فقال: إلى سرورهم عن أجره وقد اشتاقوا إِلَيْهِ. وأنشد:
أسر بمهلكي فيه لأني ... أسرُّ بِما يسر الإلف جدَّا
ولو سئلت عظامي عن بلاها ... لأنكرت البلا وسمعت جحدا
ولو أخرجت من سقمي لنادى ... لَهيب الشوق بي يسأله ردا
أَخْبَرَنِي هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الطَّبَرِيُّ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: سمعت الشبلي- وسئل- فقيل: ما الفرق بين رق العبودية ورق المحبة؟ فقال:
كم بين عَبْد إذا أعتق صار حرًا، وعبد كلما أعتق ازداد رقًّا. ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
لتحشرن عظامي بعد إذ بليت ... يوم الحساب وفيها حبكم علق
أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد الخلال قَالَ: حدَّثَنِي أخي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد. ثُمَّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد أخو الخلال قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن يوسف بْن يعقوب الأزرقي- بسارية- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن المثنى العنبري يَقُولُ: سألتُ أَبَا بَكْر الشبلي جَحدر بْن دُلف عَن التصوف. فقال: التصوف ترويح القلوب بِمراوح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.
أخبرني أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن محمود الزوزني قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن المثنى التميمي يَقُولُ: دخلتُ عَلَى أبي بَكْر جَحْدر بْن جَعْفَر الملقب بالشبلي فِي داره يومًا وهو يهيج ويقول:
على بعدك ما يصبر ... مَن عادته القرب
ولا يقوى على حبك ... مَن تيمه الحب
فإن لَم ترك العين ... فقد يبصرك القلب
أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْلِ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الرازي- بنيسابور- أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن جَعْفَر السيرواني قَالَ: دخلتُ أَنَا وفقير عَلَى الشبلي فسلمنا عَلَيْهِ. فقال لنا:
أَيْنَ تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: عَلَى أي حُكم؟ فقال صاحبي: عَلَى حُكم الفقراء.
فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر. قَالَ أَبُو الْحَسَن السيرواني: فجمع لنا العلم كله فِي هذه الكلمة.
أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن غالب المقرئ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا القاسم عِيسَى بْن عَلِيّ بْن عِيسَى الوزير يَقُولُ: كَانَ ابن مجاهد يومًا عِنْدَ أبي، فقيل لَهُ: الشبلي؟ فقال: يدخل، فقال ابن
مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك، وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئًا خَرق فِيهِ موضعًا، فلما جلس قَالَ لَهُ ابن مجاهد: يا أَبَا بَكْر أَيْنَ فِي العلم إفساد ما ينتفع بِهِ؟
فقال له الشبلي: أين في العلم فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ
[ص 33] قَالَ:
فسكت ابن مجاهد، فقال لَهُ أبي: أردت أن تُسكتَه فأسكتَك!! ثُمَّ قَالَ لَهُ: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت، أَيْنَ فِي القرآن الحبيب لا يُعذِّب حبيبه؟ قَالَ: فسكت ابن مجاهد. فقال لَهُ أبي: قل يا أبا بكر، فقال قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
[المائدة 18] فقال ابن مجاهد كأنني ما سمعتها قَط.
أَخْبَرَنَا أَبُو سعد الْحُسَيْن بْن عثمان العجلي الشّيرازيّ، حدثنا أبو الحسين زيد بْن رفاعة الهاشمي قَالَ: دخل أَبُو بكر بن مجاهد عَلَى أبي بَكْر الشبلي دُلف بْن جبغويه الأشروسني، فحادثه فسأله عَن حاله فقال تَرجو الخير، تَختم فِي كل يوم بين يدي ختمتين وثلاثًا. فقال لَهُ الشبلي: أيها الشيخ قد خَتَمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختْمة، إن كَانَ فيها شيء قُبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.
أَخْبَرَنَا إسماعيل الحيري، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد الله الرازي يَقُولُ: لَم أر فِي الصوفية أعلم من الشبلي ولا أتمَّ حالا من الكتاني.
وقال السلمي: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: أعرف من لَم يدخل فِي هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه وغرَّق فِي هذه الدجلة التي تَرون سبعين قمطرًا مكتوبًا بِخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءة- عني به نفسه.
أخبرنا أحمد بن علي بن الفتح، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الصُّوفِيُّ النيسابوري قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَد بْن عطاء يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: كتبت الحديث عشرين سنة، وجالست الفقهاء عشرين سنة، وكان يتفقه لِمالك، وكان لَهُ يوم الجمعة نظرة ومن بعدها صيحة، فصاح يومًا صيحة تشوش ما حوله من الحلق، وكان يجنب حَلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قَالَ: حردوا من صيحتك، وحرد أَبُو عمران وأهل حلقته، فقام الشبلي وجاء إلى أبي عمران فلمّا رآهُ أَبُو عمران قام إِلَيْهِ وأجلسه
بجنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يُريَ الناس أن الشبلي جاهل. فقال لَهُ: يا أَبَا بَكْر إذا اشتبه عَلَى المرأة دم الحيض ودم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جوابًا. فقام أَبُو عمران وقبل رأسه وقال: يا أَبَا بَكْر أعرف منها اثني عشر، وستة ما سَمِعْتُ بِهَا قط.
أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن غالب قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْن بْن سمعون يَقُولُ: قَالَ لي الشبلي: كنت باليمن وكان باب دار الأمير رحبة عظيمة وفيها خلقٌ كثير قيام ينظرون إلى منظرة. فإذا قد ظَهَر من المنظرة شخصٌ أخرج يَدَهُ كالمسلِّم عليهم، فسجدوا كلهم، فلما كَانَ بعد سنين كنت بالشام وإذا تِلْكَ اليد قد اشترت لحمًا بدرهم وحملته، فقلتُ لَهُ: أنت ذَلِكَ الرجل؟ قَالَ: نعم من رأى ذاك ورأى هذا يَغْتر بالدنيا؟! أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن يزداد القارئ قَالَ: سَمِعْتُ زيد بْن رفاعة الهاشمي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر الشبلي يُنشد فِي جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله:
يقول خليلي كيف صبرك عنهمُ ... فقلت: وهل صبر فيسأل عن كيفِ
بقلبي هوًى أذكى من النار حره ... وأصلى من التقوى وأمضى من السيف
أَخْبَرَنَا أَبُو حازم عُمَر بْن أَحْمَد العبدوي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْر الشبلي يَقُولُ: ما أحوج الناس إلى سكرة، فقيل: أي سكرة؟ فقال: سكرة تُغنيهم عَن ملاحظات أنفسهم وأفعالهِمْ وأحوالهِمْ، والأكوان وما فيها. وأنشد:
وتَحسبني حيًّا وإني لَميت ... وبعضي من الهجران يبكي على بعض
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن التوزي قَالَ: سمعتُ أَبَا الفرج المعروف بالبارد يَقُولُ: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: ما أحدٌ يعرف الله، قِيلَ: وكيف؟ قَالَ: لو عرفوه لما اشتغلوا عَنْهُ بسواه. وقال: سَمِعْتُ الشبلي يَقُولُ: الأسرار الأسرار صونوها عَن رؤية الأغيار.
وأَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْل عَبْد الصمد بْن مُحَمَّد الخطيب، حدثنا الحسن بن الْحُسَيْن الفقيه الهمداني قَالَ: سَمِعْتُ برهان الدينوري يَقُولُ: حضر الشبلي ليلة ومعه صبي،
فقال للصبي: قُم نَم. فقال الصبي: إني آنسُ برؤيتك، وأشتهي النظرُ إليك إلى أن تَنَام، فقال الشبلي: إنَّ جاريتي قَالَتْ عَددتُ عليك ستة أشهر لَم تَنم فيها.
سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَسَن الخفاف- المعروف بابن النقيب- يَقُولُ: كنتُ يومًا جالسًا بباب الطاق أقرأُ القرآن عَلَى رجلٍ يُكنى بأبي بَكْر العميش- وكان وليا لله- فإذا بأبي بَكْر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطّيّب الجلا- وكان من أهلم العلم، فسلم عَلَيْهِ، وأطال الحديث معه، وقامَ لينصرف فاجتمعَ قومٌ إلى أبي الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا ويُرينا شيئًا من آيات الله عَزَّ وَجَلَّ- ومعه صاحبان لَهُ- فألحَّ أَبُو الطيب عَلَيْهِ فِي المسألة، واجتمعَ الناس بباب الطاق. فرفعَ الشبلي يَده إلى الله تعالى ودعا بدعاء لَم يُفهم، ثُمَّ شَخُص إلى السماء فلَم يطبق جفنًا عَلَى جفن إلى وقت الزَّوال. وكان دُعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضُحَى النَّهار، فكَبَّر الناس وضَجوا بالدعاء والابتهال. ثُمَّ مَضَى الشبلي إلى سوق يَحْيَى وإذا برجلٍ يبيع حَلْواء وبين يديه طنجير فِيهِ عصيدة تغلي. فقال الشبلي لصاحب لَهُ: هَلْ تُريد من هذه العصيدة؟ قال نعم! وأعطى الحلاوي درهمًا وقال أعط هذا ما يُريد، ثُمَّ قَالَ تدعني أعطيه رزقه؟ قَالَ الحلاوي: نعم، فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده فِي الطنجير والعصيدة تَغلي فأخذ منها بكفه وطرحها عَلَى الرقاقة. ومشَى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بَكْر بْن مُجاهد، فدَخلَ عَلَى أبي بَكْر فقام إِلَيْهِ أَبُو بَكْر، فتحدَّث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بَكْر: أنتَ لم تَقُم لعلي بْن عيسى الوزير وتقوم للشبلي؟ فقال أَبُو بَكْر: ألا أقوم لمن يعظمه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رَأَيْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي يَا أَبَا بَكْرٍ إِذَا كَانَ فِي غَدٍ فَسَيَدْخُلُ عَلَيْكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا جَاءَكَ فَأَكْرِمْهُ. قَالَ ابن مُجاهد: فلما كَانَ بعد ذَلِكَ بثلاثين- أو أكثر- رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا بَكْرٍ أَكْرَمَكَ اللَّهُ كَمَا أَكْرَمْتَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ اسْتَحَقَّ الشِّبْلِيُّ هَذَا مِنْكَ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، يَذْكُرُنِي فِي إِثْرِ كُلِّ صَلاةٍ وَيَقْرَأُ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
[التوبة 128] الآيَةَ. يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً، أَفَلا أُكْرِمُ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل الحيري، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز الواعظ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَر الفرغاني يَقُولُ: سَمِعْتُ الجنيد يَقُولُ:
لا تنظروا إلى أبي بَكْر الشبلي بالعين التي ينظرُ بعضكم إلى بعض، فإنه عينٌ من عيون الله عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ السلمي: سَمِعْتُ منصور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُولُ: سمعتُ أَبَا عمران الأنماطي يَقُولُ: سَمِعْتُ الجنيد يَقُولُ: لكل قوم تاج، وتاج هَؤُلَاءِ القوم الشبلي.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّهِ الأردستاني- بمكة- أخبرنا محمّد بن الحسين ابن مُوسَى قَالَ: سمعتُ منصور بْن عَبْد الله يَقُولُ: دخل قومٌ عَلَى الشبلي فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ فقالوا: كيف تَجدك يا أَبَا بَكْر؟ فأنشأ يَقُولُ:
إن سلطان حبه ... قال لا أقبل الرِّشَا
فسلوه- فَدَيْتُهُ- ... لِمَ بقتلي تَحرَّشَا
أَخْبَرَنَا عَبْد الكريم بْن هَوازن الْقُشَيْري قَالَ: سمعتُ أَبَا حاتِم مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن يَحْيَى السجستاني يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نصر السراج يَقُولُ: بَلَغني عَن أبي مُحَمَّد الحريري قَالَ: مكثت عِنْدَ الشبلي فِي الليلة التي مات، فكان يَقُولُ طول ليلته هذين البيتين:
كل بيت أنت ساكنه ... غير مُحتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
وَأَخْبَرَنَا القشيري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حاتِم السجستاني يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد الله بْن علي التميمي يَقُولُ: سأل جَعْفَر بْن نُصَيْر بكران الدينوري- وكان يخدم الشبلي- ما الَّذِي رأيت منه- يعني عِنْدَ وفاته- فقال: قَالَ لي عليّ درهمٌ مظْلَمةٌ، وتصدقتُ عَن صاحبه بألوف، فما عَلَى قلبي شغلٌ أعظم منه. ثم قال: وضيني للصلاة ففعلت، فنسيتُ تَخليل لحيته وقد أمسك عَلَى لسانه، فقَبَض عَلَى يدي وأدخلها فِي لحيته، ثُمَّ مات فبكى جَعْفَر وقال: ما تقولون فِي رَجُل لَم يَفُته فِي آخر عمره أدبٌ من آداب الشريعة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أبي الفتح، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الصُّوفِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا نصر الْهَرَويّ يَقُولُ: كَانَ الشبلي يَقُولُ: إنَّما يُحفظ هذا الجانب بي- يعني من الديالمة- فمات هُوَ يوم الجمعة، وعَبَرت الديالِمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت، مات هُوَ وعلي بْن عيسى فِي يوم واحد.
أَخْبَرَنِي أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بن العبّاس بن المهدي الهاشميّ الخطيب، حَدَّثَنَا أَبُو حَفص عُمَر بْن عَبْد الله بن عمر الدلال، أخبرنا بُكير صاحب الشبلي قَالَ:
وجد الشبلي يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفَّة من وجع كَانَ بِهِ، فقال: تنشط نَمْضي إلى الجامع؟ قلتُ: نعم! قَالَ: فاتكأ عَلَى يدي حتى انتهينا إلى الوراقين من الجانب الشرقي، قَالَ: فتلقانا رجلٌ جائي من الرصافة فقال بُكير؟
قلتُ لبيك، قَالَ غدًا يكون لي مَعَ هذا الشيخ شأنٌ، ثُمَّ مضينا وصلينا ثُمَّ عدنا، فتناول شيئًا من الغداء، فلما كَانَ الليل مات رَحِمَهُ الله. فقيل فِي درب السقائين رجلٌ شيخ صالِح يغسل الموتى، قَالَ: فدلوني عَلَيْهِ فِي سحر ذَلِكَ اليوم فنقرت الباب خفيًّا فقلتُ سلام عليكم فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم فخرج إليّ فإذا بِهِ الشيخ. فقلت: لا إله إلا الله، فقال لا إله إلا الله. تعجبًا! ثُمَّ قلت قَالَ لي الشبلي أمس لَما التقينا بك فِي الوراقين: غدًا يكون لي مَعَ هذا الشيخ شأنٌ، بِحق معبودك من أَيْنَ لك أن الشبلي قد مات؟ قَالَ: يا أبله فمن أين للشبلي أن يكون لَهُ معي شأن من الشأن اليوم! حَدَّثَنَا أبو نصر إبراهيم بن هبة الله الجرباذقاني- بها- قال: قَالَ لنا أَبُو منصور معمر بْن أَحْمَد الأصبهاني: مات الشبلي فِي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. قَالَ غيره:
مات يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة.
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد السّمسار، أخبرنا عبد الله بن عثمان الصّفّار، حَدَّثَنَا ابن قانع أن الشبلي مات فِي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، والأول أصح.
أبو بكر الشبلي
أحد شيوخ الصوفية المعدودين، وزهادهم الموصوفين.
اختلف في اسمه، فقيل: دلف بن جعبر، ويقال: ابن جحدر، ويقال: بل اسمه جعفر بن يونس.
كان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، وكتب الحديث الكثير، ثم صدف عن ذلك، ولزم العبادة حتى صار رأساً في المتعبدين، ورئيساً للمجتهدين. وكان مقامه ببغداد، وقد زرت قبره بها. وقدم دمشق على ما بلغني في بعض الحكايات.
عن الشبلي قال: حدثنا محمد بن مهدي المصري، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً. قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: ما سئلت فلا تمنع، وما رزقت فلا تخبأ. قال: يا رسول الله، كيف لي بذاك؟ قال: هو ذاك، وإلا فالنار.
وقال الشبلي: كنت وردت الشام من مكة، فرأيت راهباً في صومعة، فنظر إلي، فقلت له: يا راهب، لماذا حبست نفسك في هذه الصومعة؟ قال: ليثوب عملي، فقلت: يا راهب، ولمن تعمل؟ قال: لعيسى، قلت: وبأي شيء استحق عيسى هذه العبادة منك دون الله؟ قال: لأنه مكث أربعين يوماً لم يطعم، ولم يشرب، فقلت له: ومن يعمل ذلك يستحق العبادة له؟ قال: نعم.
قال الشبلي: فقلت للراهب: فاستوفها مني. فمكثت أربعين يوماً تحت صومعته، لا آكل، ولا أشرب. فقال لي: ما دينك؟ قلت: محمدي. فنزل، وأسلم علي يدي. وحملته إلى دمشق، فقلت: اجمعوا له أشياء، فإنه قريب العهد بالإسلام. وانصرفت، وتركته مع الصوفية.
قال الحافظ أبو القاسم رحمه الله: وقد كتبت نحو هذه الحكاية عن أبي بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، وسقتها في ترجمته. وقد ورد وروده يعني الشبلي الشام من وجهيت آخرين:
قال أبو الحسن بن سمعون: قال لي الشبلي: كنت باليمن، وكان باب دار الإمارة رحبةً عظيمة، وفيها خلق كثير قيام ينظرون إلى منظرة، فإذا قد ظهر من المنظرة شخص أخرج يده كالمسلم عليهم، فسجدوا كلهم. فلما كان بعد سنين كنت بالشام، وإذا تلك اليد قد اشترت لحماً بدرهم، وحملته. فقلت له: أنت ذلك الرجل؟ قال: نعم، من رأى ذاك، ورأى هذا لا يغتر بالدنيا.
وقال: سمعت الشبلي يقول: كنت في قافلة الشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه. فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير فما كان يأكل، فقلت له: لم لا تأكل؟ قال: أنا صائم، قلت: تقطع الطريق، وتأخذ الأموال، وتقتل النفس وأنت صائم؟! قال: يا شيخ، أجعل للصلح موضعاً.
فلما كن بعد حين رأيته يطوف حول البيت وهو محرم كالشن البالي. فقلت: أنت ذاك الرجل؟ فقال: ذاك الصوم بلغ بي إلى هذا.
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي: دلف بن جعبر، ويقال: دلف بن جحدر، ويقال: دلف بن جعفر. ويقال: إن اسم الشبلي جعفر بن يونس. سمعت الحسين بن يحيى الشافعي يذكر ذلك، وهكذا رأيته على قبره مكتوباً ببغداد. وأظن أن الأصح: دلف بن جحدر.
وأبو بكر الشبلي أصله من أشروسنة، ومولده بسر من رأى.
سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: الشبلي من أهل أشروسنة، بها قرية يقال لها: شبلية أصله منها. وكان خاله أمير الأمراء بإسكندرية.
قال السلمي: كان الشبلي مولده بسر من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوه حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دماوند، ثم لما قعد الموفق وكان ولي العهد من قبل أخيه حضر الشبلي يوماً مجلس خير النساج، وتاب فيه، ورجع إلى دماوند، وقال: أنا كنت حاجب الموفق، وكان ولاني بلدتكم هذه، فاجعلوني في حل. فجعلوه في حل، وجهدوا أن يقبل منهم شيئاً، فأبى. وصار بعد ذلك واحد زمانه حالاً ونفساً. سمعت أبا سعيد السجزي يذكر ذلك كله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي. بغدادي المولد والمنشأ، أصله من أشروسنة. صحب الجنيد، ومن في عصره، وكان نسيج وحده حالاً وظرفاً وعلماً، مالكي المذهب، عاش تسعاً وثمانين سنة، ومات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وقبره ببغداد. ومجاهداته في بدايته فوق الحد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم. ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد في الطاعات، ويقول: هذا شهر عظمه ربي فأنا أولى من يعظمه.
وقال الشبلي: مات أبي وخلف ستين ألف دينار سوى الضياع والعقار وغيرها، فأنفقتها كلها، ثم قعدت مع الفقراء حتى لا أرجع إلى مادي، ولا أستظهر بمعلوم.
وقال أحمد بن عطاء: سمعت الشبلي يقول: كتبت الحديث عشرين سنةً، وجالست الفقراء عشرين سنةً.
وكان يتفقه لمالك. وكان له يوم الجمعة نظرة، ومن بعدها صيحة. فصاح يوماً صيحةً تشوش ما حوله من الخلق. وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قال؛ حردوا من صيحتك. وحرد أبو عمران وأهل حلقته. فقام الشبلي، وجاء إلى أبي عمران، فلما رآه أبو عمران قام إليه، وأجلسه إلى جنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يري الناس أن الشبلي جاهل، فقال له: يا أبا بكر، إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جواباً. فقام أبو عمران وقبل رأسه، وقال: يا أبا بكر، أعرف منها اثني عشر، وستة ما سمعت بها قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: لم أر في الصوفية أعلم من الشبلي، ولا أتم حالاً من الكتاني.
وقال السلمي: سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت الشبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه، وغرق في هذه الدجلة التي
ترون سبعين قمطراً مكتوباً بخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءةً عنى به نفسه.
قال أبو الخير زيد بن رفاعة الهاشمي: دخل أبو بكر بن مجاهد على أبي بكر الشبلي، فحادثه، وسأله عن حاله. فقال ابن مجاهد: نرجو الخير؛ يختم في كل يوم بين يدي ختمتان وثلاث. فقال له الشبلي: أيها الشيخ قد ختمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة إن كان فيها شيء قبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.
قال أبو بكر محمد بن عمر: كنت عند أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ، فجاء الشبلي، فقام إليه أبو بكر بن مجاهد، فعانقه، وقبل بين عينيه، فقلت له: يا سيدي، تفعل هذا بالشبلي، وأنت وجميع من ببغداد يتصورونه بأنه مجنون؟؟! فقال لي: فعلت كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل به؛ وذاك أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وقد أقبل الشبلي، فقام إليه، وقبل بين عينيه، فقلت: يا رسول الله، أتفعل هذا بالشبلي؟ قال لي: نعم، هذا يقرأ بعد صلاته: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم " الآية، ويتبعها بالصلاة علي.
قال الخطيب: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن عبد الله بن الحسن الخفاف المعروف بابن النقيب يقول:
كنت يوماً جالساً بباب الطاق أقرأ القرآن على رجل يكنى بأبي بكر المعيمش، وكان ولياً لله، فإذا بأبي بكر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطيب الجلاء، وكان من أهل العلم، فسلم عليه، وأطال الحديث معه، وقام لينصرف. فاجتمع قوم إلى أبي
الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا، ويرينا شيئاً من آيات الله ومعهم صاحبان له فألح أبو الطيب عليه في المسألة، واجتمع الناس بباب الطاق، فرفع الشبلي يده إلى الله تعالى، ودعا بدعاء لم يفهم، ثم شخص إلى السماء، فلم يطبق جفناً على جفن إلى وقت الزوال. وكان دعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضحى النهار. فكبر الناس وضجوا بالدعاء والابتهال. ثم مضى الشبلي إلى سوق يحيى، وإذا برجل يبيع حلواء، وبين يديه طنجير فيه عصيدة تغلي، فقال الشبلي لصاحب له: هل تريد من هذه العصيدة؟ قال: نعم. فأعطى الحلاوي درهماً، وقال: أعط هذا ما يريد، ثم قال: تدعني أعطيه رزقه؟ قال الحلاوي: نعم. فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده في الطنجير، والعصيدة تغلي، فأخذ منها بكفه، وطرحها على الرقاقة. ومشى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر بن مجاهد، فدخل على أبي بكر، فقام إليه، فتحدث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بكر: أنت لم تقم لعلي بن عيسى الوزير، وتقوم للشبلي؟! فقال أبو بكر: ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقال لي: يا أبا بكر، إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة، فإذا جاءك فأكرمه.
قال ابن مجاهد: فلما كان بعد ذلك بليلتين أو أكثر رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال لي: يا أبا بكر، أكرمك الله كما أكرمت رجلاً من أهل الجنة. فقلت: يا رسول الله، بم استحق الشبلي هذا منك؟ فقال: هذا رجل يصلي كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة، ويقرأ: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم "، الآية يفعل ذلك منذ ثمانين سنةً، أفلا أكرم من يفعل هذا؟
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن جعفر الرازي: كان أهل بغداد يقولون: عجائب الدنيا ثلاث: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر.
قال أبو بكر الزبير بن محمد بن عبد الله: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الجنيد؟ قال: جمع العلم، قلت: فالشبلي؟ قال: إن صحا انتفع به كثير من الناس، قلت: فالحلاج؟ قال: استعجل.
قال الشبلي: كان بدء أمري أني نوديت: يا أبا بكر، ليس لهذا أردناك، ولا بهذا أمرناك. فتركت خدمة المعتضد، ونظرت في الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتفسير، والتحليل والتحريم. وسمعت الحديث والفقه وكتاب المبتدأ وغير ذلك، ثم أبدت علي خفقة أذهبت ما سوى الله، فإذا الله الله.
وقال: كنت في أول بدايتي أكتحل بالملح، فلما زاد علي الأمر أحميت الميل فاكتحلت به.
وقال: أطع الله يطعك كل شيء.
قال برهان الدينوري: حضر الشبلي ليلةً ومعه صبي، فقال للصبي: قم نم، فقال الصبي: إني آنس برؤيتك، فأشتهي النظر إليك إلى أن تنام. فقال الشبلي: إن جاريتي قالت: عددت عليك ستة أشهر لم تنم فيها.
قال جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله.
قال أبو عمر الأنماطي: سمعت الجنيد يقول: لكل قوم تاج، وتاج هؤلاء القوم الشبلي.
قال أبو عمرو بن علوان: سمعت الجنيد يقول: جزى الله الشبلي عني خيراً، فإنه ينوب عني في أمر الفقراء شيئاً كثيراً.
قال الجنيد: إذا كلمتم الشبلي فكلموه من وراء الترس، فإن سيوف الشبلي تقطر دماً، فقال له ابن عطاء: هو هكذا يا أبا القاسم؟ قال: نعم يا أحمد، ما ظنك بشخص السيوف في وجهه، والأسنة في ظهره، والسهام عن يمينه وشماله، والنار تحت قدميه؟ قال: فزعقت.
قال عبد الله بن يوسف الصباغ: كنت مع أبي في الدكان نصبغ، فلما كان يوم من الأيام خرجت فإذا على باب الدكان شيخ جالس، فقلت مازحاً: الشيخ قد صلى الظهر؟ قال: نعم، والحمد لله، قلت: أين صليت؟ قال: بمكة. فدخلت إلى أبي، فقلت: يا أبه، رجل بباب الدكان قال: صليت الظهر بمكة! فخرج أبي، فلما رآه رجع وقال: هذا الشبلي.
قال أبو الحسين بن سمعون:
اعتل الشبلي، فقال علي بن عيسى للمقتدر بالله: الشبلي عليل. فأنفذ إليه بطبيب يحمل إليه ما يصف له، فلما كان يوم قال الطبيب للشبلي: والله لو كان دواءك في قطعة من لحمي ما عسر علي ذلك. قال له الشبلي: دوائي في دون ذلك، قال: وما هو؟ قال:
تقطع الزنار، قال: فإذا قطعت الزنار تبرأ؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فأخبر الخليفة بذلك، فقال: أنفذنا بطبيب إلى عليل، وما علمنا أنا أنفذنا بعليل إلى طبيب.
قال أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى الوزير: كان ابن مجاهد يوماً عند أبي، فقيل له: الشبلي؟ قال: يدخل. فقال ابن مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك؛ وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئاً خرق فيه موضعاً، فلما جلس قال له ابن مجاهد: يا أبا بكر، أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ قال له الشبلي: أين في العلم " فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعناق "؟ قال: فسكت ابن مجاهد. فقال له أبي: أردت أن تسكته فأسكتك! ثم قال له: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت؛ أين في القرآن: الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: فسكت ابن مجاهد، فقال له أبي: قل يا أبا بكر، فقال: قوله تعالى: " وقالت اليهودُ والنصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤه قلْ فَلِمَ يُعَذّبُكم بذنوبِكُم ". فقال ابن مجاهد: كأنني ما سمعتهما قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: قال أبو العباس بن شريح يوماً للشبلي: يا أبا بكر، أنت مع جودة خاطرك وفهمك لو شغلته بشيء من علوم الفقه؟ فقال: أنا أشتغل بعلم يشاركني فيه مثلك؟! قال القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي، فقيل له: أخبرنا عن توحيد مجرد بلسان حق مفرد؟ فقال: ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن
أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي يقول: جل الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف.
وقال الشبلي في قوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم ": ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: كنت واقفاً في مجلس الشبلي في جامع المدينة ببغداد، فوقف سائل على مجلسه وحلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد، فتأوه الشبلي، وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود، ومخلوق يقول في شكله: من الطويل
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
هو البحر من أيّ النّواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
ثم بكى وقال: بلى يا جواد، فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت
بعد ذلك على أقوام بالاستغناء عنهم، وعما في أيديهم، فإنك الجواد كل الجواد، فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حد له، ولا صفة. فيا جواد يعلو كل جواد، وبه جاد كل من جاد.
وقال الشبلي: ما قلت الله قط إلا واستغفرت الله من قولي الله.
قال السلمي: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال: الصبر في الله، قال: لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلي صرخةً كادت روحه أن تتلف.
وسئل الشبلي عن المحبة، فقال: الميم محو الصفات، والحاء: حياة القلوب بذكر الله، والباء بلى الأجساد، والهاء: هيمان القلوب في ذات الله.
قال بندار بن الحسين:
سمعت الشبلي يقول يوم الجمعة وهو يتكلم على الناس، وقد سأله شاب فقال: يا أبا بكر، لم تقول: الله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟ قال الشبلي: أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود فلا اصل إلى كلمة الإقرار. قال الشاب: أريد حجةً أقوى من هذه، فقال: يا هذا، قال الله تعالى: " قُلِ اللهُ ثمّ ذَرْهُمْ في خوضِهم يَلْعَبُون "، قال: فزعق الشاب زعقةً، فقال الشبلي: الله، فزعق ثانية، فقال الشبلي: الله، فزعق الثالثة، فمات. فاجتمع إليه أبواه، فقدماه إلى الخليفة، وادعيا عليه الدم، فقال له الخليفة: يا أبا بكر، ماذا صنعت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح جنت فرنت، ودربت، فعلمت، ودعيت، فأجابت، فما ذنبي؟ فصاح الخليفة ثم أفاق فقال: خليا سبيله، لا ذنب له. هذا قتيل لا دية له ولا قود.
قال السلمي: سمعت أبا بكر الأبهري الفقيه ببغداد يقول: سمعت الشبلي يقول: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وترك الأدب يوجب الطرد، ومن لم يراع أسراره مع الحق لا يكاشف عن عين الحقيقة بذرة.
قال أبو العباس الدامغاني: أوصاني الشبلي فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت.
قال السلمي: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: كان الشبلي يقول لمن يدخل عليه: عندك خبر، أو عندك أثر؟! وينشد: من الطويل
أسائل عن سلمى فهل من مخبر ... بأنّ له علماً بها أين تنزل
ثم يقول: لا وعزتك ما في الدارين عنك مخبر.
وقال الشبلي: ما أحد يعرف الله، قيل: كيف؟ قال: لو عرفوه لما اشتغلوا عنه بسواه.
قال أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي: كنت عند الجنيد، فدخل الشبلي، فقال جنيد: من كان الله همه طال حزنه، فقال الشبلي: يا أبا القاسم، لا بل، من كان همه زال حزنه.
قال البيهقي: قول الجنيد محمول على دار الدنيا، وقول الشبلي محمول على الآخرة، وقول الجنيد محمود على حزنه عند رؤية التقصير في نفسه في القيام بواجباته، وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهم هماً واحداً. والله أعلم.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء.
وقال: ليكن همك معك لا يتقدم، ولا يتأخر.
وسئل: لم سموا صوفية؟ فقال: لمصافاة أدركتهم من الحق فصفوا. فمن صفا فهو صوفي. وقيل للشبلي: يا أبا بكر، أوصني، فقال: كلامك كتابك إلى ربك، فانظر ما تملي فيه.
وقال: سهو طرفة عين عن الله شرك بالله.
قال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سئل الشبلي وأنا حاضر: هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة، أو الحق؟ فقال: لا بد من الاجتهاد والمجاهدة، ولكنهما لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة، لأن الحقيقة ممتنعة عن أن تدرك بجهد واجتهاد، فإنما هي مواهب، يصل العبد إليها بإيصال الحق إياه لا غير. وأنشد على أثره: من الطويل
أسائلكم عنها فهل من مخبّرٍ ... فمالي بنعمٍ بعد مكثتنا علم
فلو كنت أدري أين خيّم أهلها ... وأيّ بلاد الله أو ظعنوا أمّوا
إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها ... ولو أصبحت نعمٌ ومن دونها النجم
قال السلمي: وحكي عن بعضهم قال: كنت يوماً في حلقة الشبلي فسمعته يقول: الحق يفني بما به يبقي، ويبقي بما به يفني، ويفني بما فيه بقاء، ويبقي بما فيه فناء. فإذا أفنى عبداً عن إياه أوصله به، وأشرفه على أسراره. وبكى، وأنشد على أثره: من الوافر
لها في طرفها لحظات سحرٍ ... تميت به وتحيي من تريد
وسئل الشبلي: ما علامة صحة المعرفة؟ قال: نسيان كل شيء سوى معروفه. قيل: وما علامة صحة المحبة؟ قال: العمى عن كل شيء سوى محبوبه.
وقال: ليس للعارف، ولا لمحب سلوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
قال الحسن الفرغاني: سألت الشبلي: ما علامة العارف؟ فقال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. والعارف الذي عرف الله، وعرف مراد الله، وعمل لما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله. والصوفي من صفا قلبه فصفا، وسلك طريق المصطفى، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا. والتصوف التآلف والتطرف، والإعراض عن التكلف.
وقال أيضاً: هو التعظيم لأمر الله، والشفقة على عباد الله.
وقال أيضاً: الصوفي من صفا من الكدر، وخلص من الغير، وامتلأ من الفكر، وتساوي عنده الذهب والمدر.
وقيل له: ما علامة القاصد؟ قال: أن لا يكون للدرهم راصداً.
وقيل له: في أي شيء أعجب؟ قال: قلب عرف ربه ثم عصاه.
وقال: المعارف تبدو فتطمع، ثم تخفى فتؤيس، فلا سبيل إلى تحصيلها، ولا طريق إلى الهرب منها؛ فإنها تطمع الآيس، وتؤيس الطامع.
وسئل: إلى ماذا تحن قلوب أهل المعارف؟ فقال: إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب من حسن العناية. وأنشد: من الكامل
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا
وقال: الدنيا خيال، وظلها وبال، وتركها جمال، والإعراض عنها كمال، والمعرفة بالله اتصال.
وسئل: ما الفرق بين رق العبودية، ورق المحبة؟ فقال: كم بين عبد إذا عتق صار حراً، وعبد كلما عتق ازداد رقاً.
وقال: من البسيط
لتحشرنّ عظامي بعد إذ بليت ... يوم الحساب وفيها حبّكم علق
وسئل: هل يتسلى المبتلى عن حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشأ يقول: من السريع
والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق
ولو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد، ومن قد بقي
وقلت لي لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي
وسئل: هل يعرف المحب أنه محب؟ قال: نعم، إذا كتم حبه، ثم ظهر عليه مع كتمانه.
وأنشد: من البسيط
قد يسحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذبٌ قد رمى بالظن غرّكم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
قال زيد بن رفاعة الهاشمي: سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله: من الطويل
يقول خليلي كيف صبرك عنهم ... فقلت وهل صبر فتسأل عن كيف
بقلبي هوى أذكى من النار حرّه ... وأخلى من التقوى وأمضى من السيف
قال أبو جعفر الفرغاني: كنت أنا وأبو العباس بن عطاء، وأبو محمد الجريري جلوساً عند الجنيد، إذ أقبل الشبلي وهو متغير، فلم يتكلم مع أحد، وقصد الجنيد، فوقف على رأسه، وصفق بيديه، وقال: من الخفيف
عوّدوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصّدّ والصدّ صعب
لا وحسن الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحبّ الاّ يحبّ
قال: فضرب الجنيد برجله الأرض وقال: هو ذاك يا أبا بكر، هو ذاك! قال عامر الدينوري: كنت جالساً عند الشبلي، فاجتاز أبو بكر بن داود الأصبهاني، فسلم عليه. فقال له الشبلي: أنت الذي أنشدت لك وحقيقة: من الخفيف
موقف للرقيب لا أنساه لست أخشى.
مرحباً بالرقيب من غير وعدٍ ... جاء يجلو عليّ من أهواه
لا أحبّ الرّقيب إلاّ لأني ... لا أرى من أحبّ حتى أراه
فقال ابن داود: ما علمت أن لله فيها إشارة حتى نبهني الشبلي عليها.
وسئل الشبلي عن حقيقة التوكل، فقال: حفظ العبد حركات همته من الطلب بما ضمنه الباري عز وجل من رزقه.
وقال الشبلي: ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.
وقال: ذكر الغفلة يكون جوابه اللعن. وأنشد: من البسيط
ما إن ذكرتك إلاّ همّ يلعنني ... ذكري وسري وفكري عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا
وقال: ليس مع العالم إلا ذكر؛ قال الله تعالى: " إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمِين ".
وسئل: من أقرب أصحابك إليك؟ قال: ألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله.
قال أبو نصر محمد بن علي الطوسي: سمعت الشبلي يوماً في مجلسه، وقد غلبه حاله، جثا على ركبتيه وهو يقول: من الطويل
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى لمطايانا بذكرك هاديا
وقطع المجلس.
وسمعته يوماً ينشد وهو في مثل هذه الحال: من الطويل
إذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ ... وعارض فيك الشكّ أثبتك القلب
ولو أن ركباً أمّموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
فقطع المجلس أيضاً بمثل هذا.
وسئل الشبلي عن التصوف فقال: ترويح القلوب بمرواح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.
وقال السلمي: سمعت ... والسجزي يقولان: بلغنا أن رجلاً قال للشبلي من أصحابك؟ وهم في المسجد الجامع فقال الشبلي: مر بنا إليهم، فمر الرجل معه حتى دخل المسجد، فرأى الشبلي قوماً عليهم المرقعات والفوط، فقال؛ هؤلاء هم؟ قال: نعم. فأنشأ يقول: من الكامل
أمّا الخيام فإنّها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
قال عيسى بن علي الوزير: دخل الشبلي على أبي، فدفع إليه صرة فيها أربعون ديناراً، فقال له: خذ هذه نفقة للصوفية. فأخذها وخرج. فقيل لأبي: إنه عبر على الجسر، فرأى رجلاً صوفياً قد وقف على دكان الحجام يقول له: قد احتجت إليك ساعة، أتفعل ذلك من أجل الله؟ فقال له: ادخل، فدخل إليه، فأصلح وجهه، وحلق رأسه، وحجمه، والشبلي بباب الدكان، فلما فرغ وجاء الرجل ليخرج قال الشبلي للحجام: خذ هذه الصرة أجرة خدمتك لهذا الرجل، فقال الحجام: إنما فعلت ذلك من أجل الله، فقال له: إن فيها أربعين ديناراً! فقال الحجام: ما أنا بالذي أحل عقداً عقدته بيني وبين الله بأربعين ديناراً. فلطم الشبلي وجهه وقال: كل أحد خير من الشبلي حتى الحجام.
قال أحمد بن جعفر السيرواني: دخلت أنا وفقير على الشبلي، فسلمنا عليه، فقال: إلى أين تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: على أي حكم؟ فقال صاحبي: على حكم الفقراء، فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر!
قال أبو الحسن السيرواني: فجمع لنا العلم كله في هذه الكلمة.
قال أبو حاتم الطبري: سمعت أبا بكر الشبلي يقول في وصيته: وإن أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها فانظر إلى مزبلة، فهي الدنيا، فإذا أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفاً من تراب، فإنك منها خلقت، وفيها تعود، ومنها تخرج. ومتى أردت أن تنظر ما أنت فانظر إلى ما يخرج منك في دخولك الخلاء، فمن كان حاله كذلك لا يجوز أن يتطاول ويتكبر على من هو منه.
قال أبو طالب العلوي: كنت مع الشبلي بباب الطاق، فجاء رجل راكب، وبين يديه غلام، فقال رجل لرجل: من هذا؟ قال: صقعان الأمير ومسخرته، فغدا الشبلي، فقبل فخذه، فرمى الرجل نفسه من الفرس فقال: يا سيدي، أحسبك ما عرفتني! قال: بلى قد عرفتك، أنت تأكل الدنيا بما تساويه، اركب، فأنت خير ممن يأكل الدنيا بالدين.
قال أبو بكر الرازي: سمعت الشبلي يقول: ما أحوج الناس إلى سكرة تفنيهم عن ملاحظات أنفسهم، وأفعالهم، وأحوالهم، والأكوان وما فيها. وأنشد: من الطويل
وتحسبني حيّاً وإنّي لميّت ... وبعضي من الهجران يبكي على بعضي
وسئل عن متابعة الإسلام، فقال: أن تموت عنك نفسك.
وقال: ليس في الوقت مرح، الوقت جد كله.
وقال: من فني عن نفسه وقام الحق بتوليه لا ينكر له تقليب الأعيان، واتخاذ المفقود.
وقال: احذر أماكن الاتصال، فإنه خدع كلها، وقف بحيث وقف العوام تسلم.
وقال: لا أشك إلا أني قد وصلت، ولا أشك إلا أن الوصل دوني، ولكن أبكي. ثم أنشأ يقول: من الوافر
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتخسن عينه عند التلاقي
وسئل الشبلي: ما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة، لأن الحيلة إما رشوة، أو قرار، وهما بعيدان عن طرق الحقيقة، فاطلب الدواء من حيث جاء الداء، فلا يقدر على شفائك إلا من أعلك وأنشد: من البسيط
إنّ الذين بخيرٍ كنت تذكرهم ... هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا
لا تطلبن دواء عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
واجتاز الشبلي بدرب سليمان عند الجسر في شهر رمضان، فسمع البقلي ينادي: من كل لون. فحال لونه، وأخذه السماع، وأنشأ يقول: من المتقارب
فيا ساقي القوم لا تنسني ... ويا ربّة الخدر غنّي رمل
وقد كان شيء يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
خليليّ إن دام هذا الصّدود ... على ما أراه سريعاً قتل
وفي رواية:
خليليّ إن دام همّ النفوس ... على ما تراه قليلاً قبل
مؤمّل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمّل قبل الأمل
وقال الشبلي: لولا أن الله خلق الدنيا على العكس لكان منفعة الإهليلج في اللوزينج.
وقال: كن مع مولاك مثل الصبي مع أمه؛ تضربه ويمسكها، ويقول: يا أمي لا أعود.
وقال: ما ظنك بمعان هي شموس كلها، بل الشموس فيها ظلمة.
وقيل له: يا أبا بكر، الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه، فيؤاخذ عليه، لم هذا؟! فأنشأ يقول: من الرمل
ربّ ورقاء هتوفٍ بالضحى ... ذات شجوٍ صدحت في فنن
ذكرت إلفاً ودهراً صالحاً ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أنّي بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
وقال الشبلي: الوجد اصطلام. ثم قال:
الوجد عندي جحود ... ما لم يكن عن شهود
وشاهد الحق عندي ... يفني شهود الوجود
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي ليلة في مجلس سماع، وحضره المشايخ، فغنى قوال شيئاً، فصاح
الشبلي والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر، أليس هؤلاء يسمعون معك؟ مالك من بين الجماعة؟ فقام، وتواجد، وأنشأ يقول: من الكامل
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزة ركّعاً وسجودا
وقال: من البسيط
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: كنا جماعة من الأحداث نصحب أبا الحسين بن أبي بكر الشبلي، وهو حدث، ونكتب الحديث، فأضافنا ليلة أبو الحسين، فقلنا: بشرط ألا يدخل علينا أبوك، فقال: لا يدخل. فدخلنا داره، فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة، ثماني شموع. فجاء وقعد في وسطنا، فاحتشمنا منه، فقال: يا سادة عدوني فيما بينكم طست شمع. ثم قال: أين غلامي أبو العباس؟ فتقدمت إليه، فقال لي: غنّ الصوت الذي كنت تغني: من الهزج
ولما بلغ الحير ... ة حادي جملي حارا
فقلت احطط بها رحلي ... ولا تحفل بمن سارا
فغنيته، فألفى الشموع من يده وخرج.
قال أبو يعقوب الخراط: كنت في حلقة الشبلي، فبكى رجل حتى علا صوته، وبكى الشبلي وأهل الحلقة ببكائه، وأنشأ يقول: من السريع
أنافعي دمعي فأبكيكا ... هيهات مالي طمع فيكا
لو كنت تدري بالذي نالني ... أقصرت عن بعض تجنيكا
وقيل للشبلي: كم تهلك نفسك بهذه الدعاوى، ولا تدعها! فقال: من المنسرح
إني وإن كنت قد أسأت بي ال ... يوم لراج للعطف منك غدا
أستدفع الوقت بالرجاء وإن ... لم أر منكم ما أرتجي أبدا
أغرّ نفسي بكم وأخدعها ... نفسٌ ترى الغيّ فيكم رشدا
وسئل: هل يقع بين الإلفين تهاجر؟ فقال: يزاد رشدا، ثم أنشأ يقول: من الوافر
هجرتك لا قلىً مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنّ المنية في الورود
وسئل عن قوله تعالى: " وللهِ على النَّاسِ حجُّ البيتِ "، فوصفه بصفة تضبط عنه، ثم قال: من الخفيف
لست من جملة المحبّين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي إجالة السرّ فيه ... وهو ركني إذا أردت استلاما
قال أبو السري: وقفت يوم عيد على حلقة الشبلي، والناس عليه، فجاء حدثٌ من أولاد الوزراء حسن الوجه والزي، وكثر الناس. فلما رآه الشبلي قال: من نظر اعتباراً سلم، ومن نظر اختياراً فتن. ثم قال له: مر من عندي وإلا أخرق ثيابك.
قال أبو الحسن علي بن محمد بن أي صابر الدلال: وقفت على الشبلي قي قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه يعرف بابن مسلم، فقال له: تنح، فلم يبرح، فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح، فقال له الثالثة: تنح، وإلا والله خرقت كل ما عليك، وكان عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كبيرة. فانصرف الفتى.
وقيل: خرج الشبلي يوماً من منزله وعليه خريق وأطمار، فقيل له: ما هذا؟ فقال: من الطويل
فيوماً ترانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً ترانا في الحديد عوابسا
ويوماً ترانا في الثريد نبسه ... ويوماً ترانا نأكل الخبز يابسا
وقال الشبلي: ضاق صدري ببغداد، فضاقت علي أوقاتي، فوقع لي أن أنحدر إلى البصرة، فاكتريت سمارية، وركبت فيها، فلما بلغت البصرة، وخرجت من السمارية زاد علي ما كنت أجده ببغداد أضعاف ذلك. فركبت تلك السمارية، ورجعت إلى بغداد، فلما بلغت دار الخليفة إذا جارية تغنيى له في التاج: من الطويل
أيا قادماً من سفرة البحر مرحباً ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
قدمت على قلبي كما قد تركته ... كئيباً حزيناً بالصّبابة متعبا
فلما سمعت غناءها طرحت نفسي في دجلة، فقيل: أدركوا الرجل! فأخذت إلى الشط، فقال المقتدر: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر الشبلي؛ فحملت إليه، ووقفت بين يديه، فقال: يا أبا بكر، تبلغنا عنك في كل وقت أعاجيب فما هذا؟، فقصصت عليه القصة، وخرجت.
وفي رواية: فصاح صيحة، ووقع في دجلة مغشياً عليه، فقال الخليفة: الحقوه، واحملوه، فحمل إلى بين يديه، فقال له: أمجنون أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان من أمري كيت وكيت، فتحيرت فيما هو يجري علي. فبكي الخليفة مما رأى من حرقته.
قال أبو الصقر الصوفي: دخلت على شيخ من شيوخنا أهنئه يوم عيد، فرأيت عنده نخالة وهندباء وخلاً، فشغل ذلك قلبي، فخرجت من عنده، ودخلت على أحد أرباب الدنيا، فذكرت ذلك له، فدفع إلي صرة فيها دراهم، فقال: احملها إليه.
فعدت ودخلت إليه، فأخبرته، فقال: وما الذي رأيت من حالي؟ قلت: رأيت هندباء وخلاً ونخالة. فقال: كأنك افتقدت منزلي، وكذلك لو كانت في بيتي حرمة أكنت تفتقدها؟ قم فاخرج! أشهد لا كلمتك شهراً. قال: فخرجت، فنطح الباب وجهي، ففتحته، فمسحت الدم ومشيت. فلقيني الشبلي، فقلت: يا أبا بكر، رجل مشى في طاعة الله ينطح وجهه، ما يوجب هذا؟ قال: لعله أراد أن يجيء إلى شيء صاف فيكدره.
وقال للشبلي رجل: يا أبا بكر، اليوم يوم العيد، فأنشأ يقول: من البسيط
الناس بالعيد قد سرّوا وقد فرحوا ... وما سررت به والواحد الصمد
لمّا تيقنت أنّي لا أعاينكم ... غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد
قال السلمي: وبلغني أن الشبلي كان واقفاً على قبر الجنيد، فسئل عن مسألة، فنظر إلى الرجل، ونظر إلى القبر، وقال: من الطويل
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني
وقيل له: إن فلاناً رجلاً من أصحابه مات فجاءة، فقال: من الطويل
قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... ولكن دماء العاشقين جبار
ومات أخ من إخوان الشبلي، فعز عليه، فرجع من جنازته وهو يقول: من الكامل
سأودّع الإحسان بعدك والنّهى ... إذ حال منك البين والتوديع
ولأستقلّ لك الدموع صبابةً ... ولو أن دجلة لي عليك دموع
وحكايات الشبلي رحمه الله كثيرة في إنشاده للشعر الحسن، والتمثل به، والطرب عليه، والتواجد من سماعه.
وأنشد: من البسيط
كادت سرائر سرّي أن تشير بما ... أوليتني من سرورٍ لا أسمّيه
فصاح بالسر سرّ منك ترقبه ... كيف السرور بسرّ دون مبديه
فظل يلحظني فكري لألحظه ... والحق يلحظني أن لا أراعيه
وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي ... وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه
وقال: من الطويل
وكم كذبةٍ لي فيك لا أستقلّها ... أقول لمن ألقاه إنّي صالح
وأيّ صلاحٍ بي وجسمي ناحلٌ ... وقلبي مشغوفٌ ودمعي سافح
وقال: من الطويل
ذكرتك لا أنّي نسيتك لمحةً ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجدٍ أموت من الهوى ... وهام عليّ القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضرٌ ... شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم ... ولاحظت معلوماً بغير عيان
وقال: من البسيط
إنّي عجبت وما في الحبّ من عجبٍ ... فيه الهموم وفيه الوجد والكلف
أرى الطريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
قال جعفر الخلدي: أحسن أحوال الشبلي أن يقال له مجنون.
وقال الشبلي: من الخفيف
كلما قلت قد دنا حلّ قيدي ... قدّموني وأوثقوا المسمارا
وقال لأصحابه ذات يوم: ألست عندكم مجنوناً وأنتم أصحاء؟ زاد الله في جنوني، وزاد في صحتكم. ثم قال: من البسيط
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذّة العيش إلا للمجانين
وقال أيضاً: من الخفيف
بي جنون الهوى وما بي جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون
قال أبو نصر الهروي: كان الشبلي يقول: إنما يحفظ هذا الجانب بي يعني من الديالمة فمات هو يوم الجمعة، وعبرت الديالمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت. مات هو وعلي بن عيسى في يوم واحد.
قال منصور بن عبد الله: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه، فقالوا: كيف نجدك يا أبا بكر؟ فقال:
إن سلطان حبه ... قال لا أقبل الرّشا
فسلوه ت فديته ... لم بقلبي تحرشا
وسأل جعفر بن نصير بكران الدينوري وكان يخدم الشبلي: ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي: علي درهم مظلمة، وتصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي
شغل أعظم منه. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك على لسانه، فقبض على يدي، وأدخلها في لحيته، ثم مات. فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟ وفي رواية: ما يمكن أن يقال في رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء في وقت نزع روحه.
وقيل: دخل عليه قوم من أصحابه وهو في الموت، فقالوا: قل لا إله إلا الله. فأنشا يقول: من المديد
إنّ بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاجٍ إلى السّرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجاً ... يوم أدعو منك بالفرج
وقال بكير صاحب الشبلي: وجد الشبلي في يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفة من وجع كان به، فقال: تنشط نمشي إلى الجامع؟ قلت: نعم. فاتكأ عل يدي حتى انتهيت إلى الوراقين من الجانب الشرقي، فتلقانا رجل جاء من الرصافة، فقال بكير؟ قلت: لبيك، قال: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. ثم مضينا، وصلينا، ثم عدنا. فتناول شيئاً من الغداء، فلما كان الليل مات رحمه الله فقيل: في درب السقائين رجل شيخ صالح يغسل الموتى. قال: فدلوني عليه في سحر ذلك اليوم. فنقرت الباب نقراً خفياً، فقلت: سلام عليكم، فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم، فخرج إلي، فإذا به الشيخ، فقلت: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، تعجباً. ثم قلت: لي الشبلي أمس لما التقينا بك في الوراقين: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. بحق معبودك، من أين لك أن الشبلي قد مات؟ قال: يا أبله، فمن أين للشبلي أنه يكون له معي شأن من الشأن اليوم؟!
وكان موت الشبلي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ت وقيل: سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في الخيزرانية.
أحد شيوخ الصوفية المعدودين، وزهادهم الموصوفين.
اختلف في اسمه، فقيل: دلف بن جعبر، ويقال: ابن جحدر، ويقال: بل اسمه جعفر بن يونس.
كان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، وكتب الحديث الكثير، ثم صدف عن ذلك، ولزم العبادة حتى صار رأساً في المتعبدين، ورئيساً للمجتهدين. وكان مقامه ببغداد، وقد زرت قبره بها. وقدم دمشق على ما بلغني في بعض الحكايات.
عن الشبلي قال: حدثنا محمد بن مهدي المصري، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً. قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: ما سئلت فلا تمنع، وما رزقت فلا تخبأ. قال: يا رسول الله، كيف لي بذاك؟ قال: هو ذاك، وإلا فالنار.
وقال الشبلي: كنت وردت الشام من مكة، فرأيت راهباً في صومعة، فنظر إلي، فقلت له: يا راهب، لماذا حبست نفسك في هذه الصومعة؟ قال: ليثوب عملي، فقلت: يا راهب، ولمن تعمل؟ قال: لعيسى، قلت: وبأي شيء استحق عيسى هذه العبادة منك دون الله؟ قال: لأنه مكث أربعين يوماً لم يطعم، ولم يشرب، فقلت له: ومن يعمل ذلك يستحق العبادة له؟ قال: نعم.
قال الشبلي: فقلت للراهب: فاستوفها مني. فمكثت أربعين يوماً تحت صومعته، لا آكل، ولا أشرب. فقال لي: ما دينك؟ قلت: محمدي. فنزل، وأسلم علي يدي. وحملته إلى دمشق، فقلت: اجمعوا له أشياء، فإنه قريب العهد بالإسلام. وانصرفت، وتركته مع الصوفية.
قال الحافظ أبو القاسم رحمه الله: وقد كتبت نحو هذه الحكاية عن أبي بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، وسقتها في ترجمته. وقد ورد وروده يعني الشبلي الشام من وجهيت آخرين:
قال أبو الحسن بن سمعون: قال لي الشبلي: كنت باليمن، وكان باب دار الإمارة رحبةً عظيمة، وفيها خلق كثير قيام ينظرون إلى منظرة، فإذا قد ظهر من المنظرة شخص أخرج يده كالمسلم عليهم، فسجدوا كلهم. فلما كان بعد سنين كنت بالشام، وإذا تلك اليد قد اشترت لحماً بدرهم، وحملته. فقلت له: أنت ذلك الرجل؟ قال: نعم، من رأى ذاك، ورأى هذا لا يغتر بالدنيا.
وقال: سمعت الشبلي يقول: كنت في قافلة الشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه. فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير فما كان يأكل، فقلت له: لم لا تأكل؟ قال: أنا صائم، قلت: تقطع الطريق، وتأخذ الأموال، وتقتل النفس وأنت صائم؟! قال: يا شيخ، أجعل للصلح موضعاً.
فلما كن بعد حين رأيته يطوف حول البيت وهو محرم كالشن البالي. فقلت: أنت ذاك الرجل؟ فقال: ذاك الصوم بلغ بي إلى هذا.
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي: دلف بن جعبر، ويقال: دلف بن جحدر، ويقال: دلف بن جعفر. ويقال: إن اسم الشبلي جعفر بن يونس. سمعت الحسين بن يحيى الشافعي يذكر ذلك، وهكذا رأيته على قبره مكتوباً ببغداد. وأظن أن الأصح: دلف بن جحدر.
وأبو بكر الشبلي أصله من أشروسنة، ومولده بسر من رأى.
سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: الشبلي من أهل أشروسنة، بها قرية يقال لها: شبلية أصله منها. وكان خاله أمير الأمراء بإسكندرية.
قال السلمي: كان الشبلي مولده بسر من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوه حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دماوند، ثم لما قعد الموفق وكان ولي العهد من قبل أخيه حضر الشبلي يوماً مجلس خير النساج، وتاب فيه، ورجع إلى دماوند، وقال: أنا كنت حاجب الموفق، وكان ولاني بلدتكم هذه، فاجعلوني في حل. فجعلوه في حل، وجهدوا أن يقبل منهم شيئاً، فأبى. وصار بعد ذلك واحد زمانه حالاً ونفساً. سمعت أبا سعيد السجزي يذكر ذلك كله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي. بغدادي المولد والمنشأ، أصله من أشروسنة. صحب الجنيد، ومن في عصره، وكان نسيج وحده حالاً وظرفاً وعلماً، مالكي المذهب، عاش تسعاً وثمانين سنة، ومات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وقبره ببغداد. ومجاهداته في بدايته فوق الحد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم. ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد في الطاعات، ويقول: هذا شهر عظمه ربي فأنا أولى من يعظمه.
وقال الشبلي: مات أبي وخلف ستين ألف دينار سوى الضياع والعقار وغيرها، فأنفقتها كلها، ثم قعدت مع الفقراء حتى لا أرجع إلى مادي، ولا أستظهر بمعلوم.
وقال أحمد بن عطاء: سمعت الشبلي يقول: كتبت الحديث عشرين سنةً، وجالست الفقراء عشرين سنةً.
وكان يتفقه لمالك. وكان له يوم الجمعة نظرة، ومن بعدها صيحة. فصاح يوماً صيحةً تشوش ما حوله من الخلق. وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قال؛ حردوا من صيحتك. وحرد أبو عمران وأهل حلقته. فقام الشبلي، وجاء إلى أبي عمران، فلما رآه أبو عمران قام إليه، وأجلسه إلى جنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يري الناس أن الشبلي جاهل، فقال له: يا أبا بكر، إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جواباً. فقام أبو عمران وقبل رأسه، وقال: يا أبا بكر، أعرف منها اثني عشر، وستة ما سمعت بها قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: لم أر في الصوفية أعلم من الشبلي، ولا أتم حالاً من الكتاني.
وقال السلمي: سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت الشبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه، وغرق في هذه الدجلة التي
ترون سبعين قمطراً مكتوباً بخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءةً عنى به نفسه.
قال أبو الخير زيد بن رفاعة الهاشمي: دخل أبو بكر بن مجاهد على أبي بكر الشبلي، فحادثه، وسأله عن حاله. فقال ابن مجاهد: نرجو الخير؛ يختم في كل يوم بين يدي ختمتان وثلاث. فقال له الشبلي: أيها الشيخ قد ختمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة إن كان فيها شيء قبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.
قال أبو بكر محمد بن عمر: كنت عند أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ، فجاء الشبلي، فقام إليه أبو بكر بن مجاهد، فعانقه، وقبل بين عينيه، فقلت له: يا سيدي، تفعل هذا بالشبلي، وأنت وجميع من ببغداد يتصورونه بأنه مجنون؟؟! فقال لي: فعلت كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل به؛ وذاك أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وقد أقبل الشبلي، فقام إليه، وقبل بين عينيه، فقلت: يا رسول الله، أتفعل هذا بالشبلي؟ قال لي: نعم، هذا يقرأ بعد صلاته: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم " الآية، ويتبعها بالصلاة علي.
قال الخطيب: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن عبد الله بن الحسن الخفاف المعروف بابن النقيب يقول:
كنت يوماً جالساً بباب الطاق أقرأ القرآن على رجل يكنى بأبي بكر المعيمش، وكان ولياً لله، فإذا بأبي بكر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطيب الجلاء، وكان من أهل العلم، فسلم عليه، وأطال الحديث معه، وقام لينصرف. فاجتمع قوم إلى أبي
الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا، ويرينا شيئاً من آيات الله ومعهم صاحبان له فألح أبو الطيب عليه في المسألة، واجتمع الناس بباب الطاق، فرفع الشبلي يده إلى الله تعالى، ودعا بدعاء لم يفهم، ثم شخص إلى السماء، فلم يطبق جفناً على جفن إلى وقت الزوال. وكان دعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضحى النهار. فكبر الناس وضجوا بالدعاء والابتهال. ثم مضى الشبلي إلى سوق يحيى، وإذا برجل يبيع حلواء، وبين يديه طنجير فيه عصيدة تغلي، فقال الشبلي لصاحب له: هل تريد من هذه العصيدة؟ قال: نعم. فأعطى الحلاوي درهماً، وقال: أعط هذا ما يريد، ثم قال: تدعني أعطيه رزقه؟ قال الحلاوي: نعم. فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده في الطنجير، والعصيدة تغلي، فأخذ منها بكفه، وطرحها على الرقاقة. ومشى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر بن مجاهد، فدخل على أبي بكر، فقام إليه، فتحدث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بكر: أنت لم تقم لعلي بن عيسى الوزير، وتقوم للشبلي؟! فقال أبو بكر: ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقال لي: يا أبا بكر، إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة، فإذا جاءك فأكرمه.
قال ابن مجاهد: فلما كان بعد ذلك بليلتين أو أكثر رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال لي: يا أبا بكر، أكرمك الله كما أكرمت رجلاً من أهل الجنة. فقلت: يا رسول الله، بم استحق الشبلي هذا منك؟ فقال: هذا رجل يصلي كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة، ويقرأ: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم "، الآية يفعل ذلك منذ ثمانين سنةً، أفلا أكرم من يفعل هذا؟
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن جعفر الرازي: كان أهل بغداد يقولون: عجائب الدنيا ثلاث: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر.
قال أبو بكر الزبير بن محمد بن عبد الله: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الجنيد؟ قال: جمع العلم، قلت: فالشبلي؟ قال: إن صحا انتفع به كثير من الناس، قلت: فالحلاج؟ قال: استعجل.
قال الشبلي: كان بدء أمري أني نوديت: يا أبا بكر، ليس لهذا أردناك، ولا بهذا أمرناك. فتركت خدمة المعتضد، ونظرت في الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتفسير، والتحليل والتحريم. وسمعت الحديث والفقه وكتاب المبتدأ وغير ذلك، ثم أبدت علي خفقة أذهبت ما سوى الله، فإذا الله الله.
وقال: كنت في أول بدايتي أكتحل بالملح، فلما زاد علي الأمر أحميت الميل فاكتحلت به.
وقال: أطع الله يطعك كل شيء.
قال برهان الدينوري: حضر الشبلي ليلةً ومعه صبي، فقال للصبي: قم نم، فقال الصبي: إني آنس برؤيتك، فأشتهي النظر إليك إلى أن تنام. فقال الشبلي: إن جاريتي قالت: عددت عليك ستة أشهر لم تنم فيها.
قال جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله.
قال أبو عمر الأنماطي: سمعت الجنيد يقول: لكل قوم تاج، وتاج هؤلاء القوم الشبلي.
قال أبو عمرو بن علوان: سمعت الجنيد يقول: جزى الله الشبلي عني خيراً، فإنه ينوب عني في أمر الفقراء شيئاً كثيراً.
قال الجنيد: إذا كلمتم الشبلي فكلموه من وراء الترس، فإن سيوف الشبلي تقطر دماً، فقال له ابن عطاء: هو هكذا يا أبا القاسم؟ قال: نعم يا أحمد، ما ظنك بشخص السيوف في وجهه، والأسنة في ظهره، والسهام عن يمينه وشماله، والنار تحت قدميه؟ قال: فزعقت.
قال عبد الله بن يوسف الصباغ: كنت مع أبي في الدكان نصبغ، فلما كان يوم من الأيام خرجت فإذا على باب الدكان شيخ جالس، فقلت مازحاً: الشيخ قد صلى الظهر؟ قال: نعم، والحمد لله، قلت: أين صليت؟ قال: بمكة. فدخلت إلى أبي، فقلت: يا أبه، رجل بباب الدكان قال: صليت الظهر بمكة! فخرج أبي، فلما رآه رجع وقال: هذا الشبلي.
قال أبو الحسين بن سمعون:
اعتل الشبلي، فقال علي بن عيسى للمقتدر بالله: الشبلي عليل. فأنفذ إليه بطبيب يحمل إليه ما يصف له، فلما كان يوم قال الطبيب للشبلي: والله لو كان دواءك في قطعة من لحمي ما عسر علي ذلك. قال له الشبلي: دوائي في دون ذلك، قال: وما هو؟ قال:
تقطع الزنار، قال: فإذا قطعت الزنار تبرأ؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فأخبر الخليفة بذلك، فقال: أنفذنا بطبيب إلى عليل، وما علمنا أنا أنفذنا بعليل إلى طبيب.
قال أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى الوزير: كان ابن مجاهد يوماً عند أبي، فقيل له: الشبلي؟ قال: يدخل. فقال ابن مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك؛ وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئاً خرق فيه موضعاً، فلما جلس قال له ابن مجاهد: يا أبا بكر، أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ قال له الشبلي: أين في العلم " فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعناق "؟ قال: فسكت ابن مجاهد. فقال له أبي: أردت أن تسكته فأسكتك! ثم قال له: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت؛ أين في القرآن: الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: فسكت ابن مجاهد، فقال له أبي: قل يا أبا بكر، فقال: قوله تعالى: " وقالت اليهودُ والنصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤه قلْ فَلِمَ يُعَذّبُكم بذنوبِكُم ". فقال ابن مجاهد: كأنني ما سمعتهما قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: قال أبو العباس بن شريح يوماً للشبلي: يا أبا بكر، أنت مع جودة خاطرك وفهمك لو شغلته بشيء من علوم الفقه؟ فقال: أنا أشتغل بعلم يشاركني فيه مثلك؟! قال القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي، فقيل له: أخبرنا عن توحيد مجرد بلسان حق مفرد؟ فقال: ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن
أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي يقول: جل الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف.
وقال الشبلي في قوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم ": ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: كنت واقفاً في مجلس الشبلي في جامع المدينة ببغداد، فوقف سائل على مجلسه وحلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد، فتأوه الشبلي، وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود، ومخلوق يقول في شكله: من الطويل
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
هو البحر من أيّ النّواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
ثم بكى وقال: بلى يا جواد، فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت
بعد ذلك على أقوام بالاستغناء عنهم، وعما في أيديهم، فإنك الجواد كل الجواد، فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حد له، ولا صفة. فيا جواد يعلو كل جواد، وبه جاد كل من جاد.
وقال الشبلي: ما قلت الله قط إلا واستغفرت الله من قولي الله.
قال السلمي: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال: الصبر في الله، قال: لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلي صرخةً كادت روحه أن تتلف.
وسئل الشبلي عن المحبة، فقال: الميم محو الصفات، والحاء: حياة القلوب بذكر الله، والباء بلى الأجساد، والهاء: هيمان القلوب في ذات الله.
قال بندار بن الحسين:
سمعت الشبلي يقول يوم الجمعة وهو يتكلم على الناس، وقد سأله شاب فقال: يا أبا بكر، لم تقول: الله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟ قال الشبلي: أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود فلا اصل إلى كلمة الإقرار. قال الشاب: أريد حجةً أقوى من هذه، فقال: يا هذا، قال الله تعالى: " قُلِ اللهُ ثمّ ذَرْهُمْ في خوضِهم يَلْعَبُون "، قال: فزعق الشاب زعقةً، فقال الشبلي: الله، فزعق ثانية، فقال الشبلي: الله، فزعق الثالثة، فمات. فاجتمع إليه أبواه، فقدماه إلى الخليفة، وادعيا عليه الدم، فقال له الخليفة: يا أبا بكر، ماذا صنعت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح جنت فرنت، ودربت، فعلمت، ودعيت، فأجابت، فما ذنبي؟ فصاح الخليفة ثم أفاق فقال: خليا سبيله، لا ذنب له. هذا قتيل لا دية له ولا قود.
قال السلمي: سمعت أبا بكر الأبهري الفقيه ببغداد يقول: سمعت الشبلي يقول: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وترك الأدب يوجب الطرد، ومن لم يراع أسراره مع الحق لا يكاشف عن عين الحقيقة بذرة.
قال أبو العباس الدامغاني: أوصاني الشبلي فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت.
قال السلمي: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: كان الشبلي يقول لمن يدخل عليه: عندك خبر، أو عندك أثر؟! وينشد: من الطويل
أسائل عن سلمى فهل من مخبر ... بأنّ له علماً بها أين تنزل
ثم يقول: لا وعزتك ما في الدارين عنك مخبر.
وقال الشبلي: ما أحد يعرف الله، قيل: كيف؟ قال: لو عرفوه لما اشتغلوا عنه بسواه.
قال أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي: كنت عند الجنيد، فدخل الشبلي، فقال جنيد: من كان الله همه طال حزنه، فقال الشبلي: يا أبا القاسم، لا بل، من كان همه زال حزنه.
قال البيهقي: قول الجنيد محمول على دار الدنيا، وقول الشبلي محمول على الآخرة، وقول الجنيد محمود على حزنه عند رؤية التقصير في نفسه في القيام بواجباته، وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهم هماً واحداً. والله أعلم.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء.
وقال: ليكن همك معك لا يتقدم، ولا يتأخر.
وسئل: لم سموا صوفية؟ فقال: لمصافاة أدركتهم من الحق فصفوا. فمن صفا فهو صوفي. وقيل للشبلي: يا أبا بكر، أوصني، فقال: كلامك كتابك إلى ربك، فانظر ما تملي فيه.
وقال: سهو طرفة عين عن الله شرك بالله.
قال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سئل الشبلي وأنا حاضر: هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة، أو الحق؟ فقال: لا بد من الاجتهاد والمجاهدة، ولكنهما لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة، لأن الحقيقة ممتنعة عن أن تدرك بجهد واجتهاد، فإنما هي مواهب، يصل العبد إليها بإيصال الحق إياه لا غير. وأنشد على أثره: من الطويل
أسائلكم عنها فهل من مخبّرٍ ... فمالي بنعمٍ بعد مكثتنا علم
فلو كنت أدري أين خيّم أهلها ... وأيّ بلاد الله أو ظعنوا أمّوا
إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها ... ولو أصبحت نعمٌ ومن دونها النجم
قال السلمي: وحكي عن بعضهم قال: كنت يوماً في حلقة الشبلي فسمعته يقول: الحق يفني بما به يبقي، ويبقي بما به يفني، ويفني بما فيه بقاء، ويبقي بما فيه فناء. فإذا أفنى عبداً عن إياه أوصله به، وأشرفه على أسراره. وبكى، وأنشد على أثره: من الوافر
لها في طرفها لحظات سحرٍ ... تميت به وتحيي من تريد
وسئل الشبلي: ما علامة صحة المعرفة؟ قال: نسيان كل شيء سوى معروفه. قيل: وما علامة صحة المحبة؟ قال: العمى عن كل شيء سوى محبوبه.
وقال: ليس للعارف، ولا لمحب سلوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
قال الحسن الفرغاني: سألت الشبلي: ما علامة العارف؟ فقال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. والعارف الذي عرف الله، وعرف مراد الله، وعمل لما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله. والصوفي من صفا قلبه فصفا، وسلك طريق المصطفى، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا. والتصوف التآلف والتطرف، والإعراض عن التكلف.
وقال أيضاً: هو التعظيم لأمر الله، والشفقة على عباد الله.
وقال أيضاً: الصوفي من صفا من الكدر، وخلص من الغير، وامتلأ من الفكر، وتساوي عنده الذهب والمدر.
وقيل له: ما علامة القاصد؟ قال: أن لا يكون للدرهم راصداً.
وقيل له: في أي شيء أعجب؟ قال: قلب عرف ربه ثم عصاه.
وقال: المعارف تبدو فتطمع، ثم تخفى فتؤيس، فلا سبيل إلى تحصيلها، ولا طريق إلى الهرب منها؛ فإنها تطمع الآيس، وتؤيس الطامع.
وسئل: إلى ماذا تحن قلوب أهل المعارف؟ فقال: إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب من حسن العناية. وأنشد: من الكامل
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا
وقال: الدنيا خيال، وظلها وبال، وتركها جمال، والإعراض عنها كمال، والمعرفة بالله اتصال.
وسئل: ما الفرق بين رق العبودية، ورق المحبة؟ فقال: كم بين عبد إذا عتق صار حراً، وعبد كلما عتق ازداد رقاً.
وقال: من البسيط
لتحشرنّ عظامي بعد إذ بليت ... يوم الحساب وفيها حبّكم علق
وسئل: هل يتسلى المبتلى عن حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشأ يقول: من السريع
والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق
ولو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد، ومن قد بقي
وقلت لي لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي
وسئل: هل يعرف المحب أنه محب؟ قال: نعم، إذا كتم حبه، ثم ظهر عليه مع كتمانه.
وأنشد: من البسيط
قد يسحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذبٌ قد رمى بالظن غرّكم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
قال زيد بن رفاعة الهاشمي: سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله: من الطويل
يقول خليلي كيف صبرك عنهم ... فقلت وهل صبر فتسأل عن كيف
بقلبي هوى أذكى من النار حرّه ... وأخلى من التقوى وأمضى من السيف
قال أبو جعفر الفرغاني: كنت أنا وأبو العباس بن عطاء، وأبو محمد الجريري جلوساً عند الجنيد، إذ أقبل الشبلي وهو متغير، فلم يتكلم مع أحد، وقصد الجنيد، فوقف على رأسه، وصفق بيديه، وقال: من الخفيف
عوّدوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصّدّ والصدّ صعب
لا وحسن الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحبّ الاّ يحبّ
قال: فضرب الجنيد برجله الأرض وقال: هو ذاك يا أبا بكر، هو ذاك! قال عامر الدينوري: كنت جالساً عند الشبلي، فاجتاز أبو بكر بن داود الأصبهاني، فسلم عليه. فقال له الشبلي: أنت الذي أنشدت لك وحقيقة: من الخفيف
موقف للرقيب لا أنساه لست أخشى.
مرحباً بالرقيب من غير وعدٍ ... جاء يجلو عليّ من أهواه
لا أحبّ الرّقيب إلاّ لأني ... لا أرى من أحبّ حتى أراه
فقال ابن داود: ما علمت أن لله فيها إشارة حتى نبهني الشبلي عليها.
وسئل الشبلي عن حقيقة التوكل، فقال: حفظ العبد حركات همته من الطلب بما ضمنه الباري عز وجل من رزقه.
وقال الشبلي: ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.
وقال: ذكر الغفلة يكون جوابه اللعن. وأنشد: من البسيط
ما إن ذكرتك إلاّ همّ يلعنني ... ذكري وسري وفكري عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا
وقال: ليس مع العالم إلا ذكر؛ قال الله تعالى: " إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمِين ".
وسئل: من أقرب أصحابك إليك؟ قال: ألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله.
قال أبو نصر محمد بن علي الطوسي: سمعت الشبلي يوماً في مجلسه، وقد غلبه حاله، جثا على ركبتيه وهو يقول: من الطويل
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى لمطايانا بذكرك هاديا
وقطع المجلس.
وسمعته يوماً ينشد وهو في مثل هذه الحال: من الطويل
إذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ ... وعارض فيك الشكّ أثبتك القلب
ولو أن ركباً أمّموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
فقطع المجلس أيضاً بمثل هذا.
وسئل الشبلي عن التصوف فقال: ترويح القلوب بمرواح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.
وقال السلمي: سمعت ... والسجزي يقولان: بلغنا أن رجلاً قال للشبلي من أصحابك؟ وهم في المسجد الجامع فقال الشبلي: مر بنا إليهم، فمر الرجل معه حتى دخل المسجد، فرأى الشبلي قوماً عليهم المرقعات والفوط، فقال؛ هؤلاء هم؟ قال: نعم. فأنشأ يقول: من الكامل
أمّا الخيام فإنّها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
قال عيسى بن علي الوزير: دخل الشبلي على أبي، فدفع إليه صرة فيها أربعون ديناراً، فقال له: خذ هذه نفقة للصوفية. فأخذها وخرج. فقيل لأبي: إنه عبر على الجسر، فرأى رجلاً صوفياً قد وقف على دكان الحجام يقول له: قد احتجت إليك ساعة، أتفعل ذلك من أجل الله؟ فقال له: ادخل، فدخل إليه، فأصلح وجهه، وحلق رأسه، وحجمه، والشبلي بباب الدكان، فلما فرغ وجاء الرجل ليخرج قال الشبلي للحجام: خذ هذه الصرة أجرة خدمتك لهذا الرجل، فقال الحجام: إنما فعلت ذلك من أجل الله، فقال له: إن فيها أربعين ديناراً! فقال الحجام: ما أنا بالذي أحل عقداً عقدته بيني وبين الله بأربعين ديناراً. فلطم الشبلي وجهه وقال: كل أحد خير من الشبلي حتى الحجام.
قال أحمد بن جعفر السيرواني: دخلت أنا وفقير على الشبلي، فسلمنا عليه، فقال: إلى أين تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: على أي حكم؟ فقال صاحبي: على حكم الفقراء، فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر!
قال أبو الحسن السيرواني: فجمع لنا العلم كله في هذه الكلمة.
قال أبو حاتم الطبري: سمعت أبا بكر الشبلي يقول في وصيته: وإن أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها فانظر إلى مزبلة، فهي الدنيا، فإذا أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفاً من تراب، فإنك منها خلقت، وفيها تعود، ومنها تخرج. ومتى أردت أن تنظر ما أنت فانظر إلى ما يخرج منك في دخولك الخلاء، فمن كان حاله كذلك لا يجوز أن يتطاول ويتكبر على من هو منه.
قال أبو طالب العلوي: كنت مع الشبلي بباب الطاق، فجاء رجل راكب، وبين يديه غلام، فقال رجل لرجل: من هذا؟ قال: صقعان الأمير ومسخرته، فغدا الشبلي، فقبل فخذه، فرمى الرجل نفسه من الفرس فقال: يا سيدي، أحسبك ما عرفتني! قال: بلى قد عرفتك، أنت تأكل الدنيا بما تساويه، اركب، فأنت خير ممن يأكل الدنيا بالدين.
قال أبو بكر الرازي: سمعت الشبلي يقول: ما أحوج الناس إلى سكرة تفنيهم عن ملاحظات أنفسهم، وأفعالهم، وأحوالهم، والأكوان وما فيها. وأنشد: من الطويل
وتحسبني حيّاً وإنّي لميّت ... وبعضي من الهجران يبكي على بعضي
وسئل عن متابعة الإسلام، فقال: أن تموت عنك نفسك.
وقال: ليس في الوقت مرح، الوقت جد كله.
وقال: من فني عن نفسه وقام الحق بتوليه لا ينكر له تقليب الأعيان، واتخاذ المفقود.
وقال: احذر أماكن الاتصال، فإنه خدع كلها، وقف بحيث وقف العوام تسلم.
وقال: لا أشك إلا أني قد وصلت، ولا أشك إلا أن الوصل دوني، ولكن أبكي. ثم أنشأ يقول: من الوافر
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتخسن عينه عند التلاقي
وسئل الشبلي: ما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة، لأن الحيلة إما رشوة، أو قرار، وهما بعيدان عن طرق الحقيقة، فاطلب الدواء من حيث جاء الداء، فلا يقدر على شفائك إلا من أعلك وأنشد: من البسيط
إنّ الذين بخيرٍ كنت تذكرهم ... هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا
لا تطلبن دواء عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
واجتاز الشبلي بدرب سليمان عند الجسر في شهر رمضان، فسمع البقلي ينادي: من كل لون. فحال لونه، وأخذه السماع، وأنشأ يقول: من المتقارب
فيا ساقي القوم لا تنسني ... ويا ربّة الخدر غنّي رمل
وقد كان شيء يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
خليليّ إن دام هذا الصّدود ... على ما أراه سريعاً قتل
وفي رواية:
خليليّ إن دام همّ النفوس ... على ما تراه قليلاً قبل
مؤمّل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمّل قبل الأمل
وقال الشبلي: لولا أن الله خلق الدنيا على العكس لكان منفعة الإهليلج في اللوزينج.
وقال: كن مع مولاك مثل الصبي مع أمه؛ تضربه ويمسكها، ويقول: يا أمي لا أعود.
وقال: ما ظنك بمعان هي شموس كلها، بل الشموس فيها ظلمة.
وقيل له: يا أبا بكر، الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه، فيؤاخذ عليه، لم هذا؟! فأنشأ يقول: من الرمل
ربّ ورقاء هتوفٍ بالضحى ... ذات شجوٍ صدحت في فنن
ذكرت إلفاً ودهراً صالحاً ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أنّي بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
وقال الشبلي: الوجد اصطلام. ثم قال:
الوجد عندي جحود ... ما لم يكن عن شهود
وشاهد الحق عندي ... يفني شهود الوجود
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي ليلة في مجلس سماع، وحضره المشايخ، فغنى قوال شيئاً، فصاح
الشبلي والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر، أليس هؤلاء يسمعون معك؟ مالك من بين الجماعة؟ فقام، وتواجد، وأنشأ يقول: من الكامل
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزة ركّعاً وسجودا
وقال: من البسيط
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: كنا جماعة من الأحداث نصحب أبا الحسين بن أبي بكر الشبلي، وهو حدث، ونكتب الحديث، فأضافنا ليلة أبو الحسين، فقلنا: بشرط ألا يدخل علينا أبوك، فقال: لا يدخل. فدخلنا داره، فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة، ثماني شموع. فجاء وقعد في وسطنا، فاحتشمنا منه، فقال: يا سادة عدوني فيما بينكم طست شمع. ثم قال: أين غلامي أبو العباس؟ فتقدمت إليه، فقال لي: غنّ الصوت الذي كنت تغني: من الهزج
ولما بلغ الحير ... ة حادي جملي حارا
فقلت احطط بها رحلي ... ولا تحفل بمن سارا
فغنيته، فألفى الشموع من يده وخرج.
قال أبو يعقوب الخراط: كنت في حلقة الشبلي، فبكى رجل حتى علا صوته، وبكى الشبلي وأهل الحلقة ببكائه، وأنشأ يقول: من السريع
أنافعي دمعي فأبكيكا ... هيهات مالي طمع فيكا
لو كنت تدري بالذي نالني ... أقصرت عن بعض تجنيكا
وقيل للشبلي: كم تهلك نفسك بهذه الدعاوى، ولا تدعها! فقال: من المنسرح
إني وإن كنت قد أسأت بي ال ... يوم لراج للعطف منك غدا
أستدفع الوقت بالرجاء وإن ... لم أر منكم ما أرتجي أبدا
أغرّ نفسي بكم وأخدعها ... نفسٌ ترى الغيّ فيكم رشدا
وسئل: هل يقع بين الإلفين تهاجر؟ فقال: يزاد رشدا، ثم أنشأ يقول: من الوافر
هجرتك لا قلىً مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنّ المنية في الورود
وسئل عن قوله تعالى: " وللهِ على النَّاسِ حجُّ البيتِ "، فوصفه بصفة تضبط عنه، ثم قال: من الخفيف
لست من جملة المحبّين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي إجالة السرّ فيه ... وهو ركني إذا أردت استلاما
قال أبو السري: وقفت يوم عيد على حلقة الشبلي، والناس عليه، فجاء حدثٌ من أولاد الوزراء حسن الوجه والزي، وكثر الناس. فلما رآه الشبلي قال: من نظر اعتباراً سلم، ومن نظر اختياراً فتن. ثم قال له: مر من عندي وإلا أخرق ثيابك.
قال أبو الحسن علي بن محمد بن أي صابر الدلال: وقفت على الشبلي قي قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه يعرف بابن مسلم، فقال له: تنح، فلم يبرح، فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح، فقال له الثالثة: تنح، وإلا والله خرقت كل ما عليك، وكان عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كبيرة. فانصرف الفتى.
وقيل: خرج الشبلي يوماً من منزله وعليه خريق وأطمار، فقيل له: ما هذا؟ فقال: من الطويل
فيوماً ترانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً ترانا في الحديد عوابسا
ويوماً ترانا في الثريد نبسه ... ويوماً ترانا نأكل الخبز يابسا
وقال الشبلي: ضاق صدري ببغداد، فضاقت علي أوقاتي، فوقع لي أن أنحدر إلى البصرة، فاكتريت سمارية، وركبت فيها، فلما بلغت البصرة، وخرجت من السمارية زاد علي ما كنت أجده ببغداد أضعاف ذلك. فركبت تلك السمارية، ورجعت إلى بغداد، فلما بلغت دار الخليفة إذا جارية تغنيى له في التاج: من الطويل
أيا قادماً من سفرة البحر مرحباً ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
قدمت على قلبي كما قد تركته ... كئيباً حزيناً بالصّبابة متعبا
فلما سمعت غناءها طرحت نفسي في دجلة، فقيل: أدركوا الرجل! فأخذت إلى الشط، فقال المقتدر: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر الشبلي؛ فحملت إليه، ووقفت بين يديه، فقال: يا أبا بكر، تبلغنا عنك في كل وقت أعاجيب فما هذا؟، فقصصت عليه القصة، وخرجت.
وفي رواية: فصاح صيحة، ووقع في دجلة مغشياً عليه، فقال الخليفة: الحقوه، واحملوه، فحمل إلى بين يديه، فقال له: أمجنون أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان من أمري كيت وكيت، فتحيرت فيما هو يجري علي. فبكي الخليفة مما رأى من حرقته.
قال أبو الصقر الصوفي: دخلت على شيخ من شيوخنا أهنئه يوم عيد، فرأيت عنده نخالة وهندباء وخلاً، فشغل ذلك قلبي، فخرجت من عنده، ودخلت على أحد أرباب الدنيا، فذكرت ذلك له، فدفع إلي صرة فيها دراهم، فقال: احملها إليه.
فعدت ودخلت إليه، فأخبرته، فقال: وما الذي رأيت من حالي؟ قلت: رأيت هندباء وخلاً ونخالة. فقال: كأنك افتقدت منزلي، وكذلك لو كانت في بيتي حرمة أكنت تفتقدها؟ قم فاخرج! أشهد لا كلمتك شهراً. قال: فخرجت، فنطح الباب وجهي، ففتحته، فمسحت الدم ومشيت. فلقيني الشبلي، فقلت: يا أبا بكر، رجل مشى في طاعة الله ينطح وجهه، ما يوجب هذا؟ قال: لعله أراد أن يجيء إلى شيء صاف فيكدره.
وقال للشبلي رجل: يا أبا بكر، اليوم يوم العيد، فأنشأ يقول: من البسيط
الناس بالعيد قد سرّوا وقد فرحوا ... وما سررت به والواحد الصمد
لمّا تيقنت أنّي لا أعاينكم ... غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد
قال السلمي: وبلغني أن الشبلي كان واقفاً على قبر الجنيد، فسئل عن مسألة، فنظر إلى الرجل، ونظر إلى القبر، وقال: من الطويل
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني
وقيل له: إن فلاناً رجلاً من أصحابه مات فجاءة، فقال: من الطويل
قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... ولكن دماء العاشقين جبار
ومات أخ من إخوان الشبلي، فعز عليه، فرجع من جنازته وهو يقول: من الكامل
سأودّع الإحسان بعدك والنّهى ... إذ حال منك البين والتوديع
ولأستقلّ لك الدموع صبابةً ... ولو أن دجلة لي عليك دموع
وحكايات الشبلي رحمه الله كثيرة في إنشاده للشعر الحسن، والتمثل به، والطرب عليه، والتواجد من سماعه.
وأنشد: من البسيط
كادت سرائر سرّي أن تشير بما ... أوليتني من سرورٍ لا أسمّيه
فصاح بالسر سرّ منك ترقبه ... كيف السرور بسرّ دون مبديه
فظل يلحظني فكري لألحظه ... والحق يلحظني أن لا أراعيه
وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي ... وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه
وقال: من الطويل
وكم كذبةٍ لي فيك لا أستقلّها ... أقول لمن ألقاه إنّي صالح
وأيّ صلاحٍ بي وجسمي ناحلٌ ... وقلبي مشغوفٌ ودمعي سافح
وقال: من الطويل
ذكرتك لا أنّي نسيتك لمحةً ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجدٍ أموت من الهوى ... وهام عليّ القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضرٌ ... شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم ... ولاحظت معلوماً بغير عيان
وقال: من البسيط
إنّي عجبت وما في الحبّ من عجبٍ ... فيه الهموم وفيه الوجد والكلف
أرى الطريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
قال جعفر الخلدي: أحسن أحوال الشبلي أن يقال له مجنون.
وقال الشبلي: من الخفيف
كلما قلت قد دنا حلّ قيدي ... قدّموني وأوثقوا المسمارا
وقال لأصحابه ذات يوم: ألست عندكم مجنوناً وأنتم أصحاء؟ زاد الله في جنوني، وزاد في صحتكم. ثم قال: من البسيط
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذّة العيش إلا للمجانين
وقال أيضاً: من الخفيف
بي جنون الهوى وما بي جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون
قال أبو نصر الهروي: كان الشبلي يقول: إنما يحفظ هذا الجانب بي يعني من الديالمة فمات هو يوم الجمعة، وعبرت الديالمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت. مات هو وعلي بن عيسى في يوم واحد.
قال منصور بن عبد الله: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه، فقالوا: كيف نجدك يا أبا بكر؟ فقال:
إن سلطان حبه ... قال لا أقبل الرّشا
فسلوه ت فديته ... لم بقلبي تحرشا
وسأل جعفر بن نصير بكران الدينوري وكان يخدم الشبلي: ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي: علي درهم مظلمة، وتصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي
شغل أعظم منه. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك على لسانه، فقبض على يدي، وأدخلها في لحيته، ثم مات. فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟ وفي رواية: ما يمكن أن يقال في رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء في وقت نزع روحه.
وقيل: دخل عليه قوم من أصحابه وهو في الموت، فقالوا: قل لا إله إلا الله. فأنشا يقول: من المديد
إنّ بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاجٍ إلى السّرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجاً ... يوم أدعو منك بالفرج
وقال بكير صاحب الشبلي: وجد الشبلي في يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفة من وجع كان به، فقال: تنشط نمشي إلى الجامع؟ قلت: نعم. فاتكأ عل يدي حتى انتهيت إلى الوراقين من الجانب الشرقي، فتلقانا رجل جاء من الرصافة، فقال بكير؟ قلت: لبيك، قال: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. ثم مضينا، وصلينا، ثم عدنا. فتناول شيئاً من الغداء، فلما كان الليل مات رحمه الله فقيل: في درب السقائين رجل شيخ صالح يغسل الموتى. قال: فدلوني عليه في سحر ذلك اليوم. فنقرت الباب نقراً خفياً، فقلت: سلام عليكم، فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم، فخرج إلي، فإذا به الشيخ، فقلت: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، تعجباً. ثم قلت: لي الشبلي أمس لما التقينا بك في الوراقين: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. بحق معبودك، من أين لك أن الشبلي قد مات؟ قال: يا أبله، فمن أين للشبلي أنه يكون له معي شأن من الشأن اليوم؟!
وكان موت الشبلي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ت وقيل: سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في الخيزرانية.
أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيُّ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ
الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الثِّقَةُ، شَيْخُ المُحَدِّثِيْنَ، أَبُو مُوْسَى مُحَمَّدُ ابنُ أَبِي بَكْرٍ عُمَرَ ابنِ أَبِي عِيْسَى أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ أَبِي عِيْسَى المَدِيْنِيُّ، الأَصْبَهَانِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
مَوْلِدُهُ: فِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَة إِحْدَى وَخَمْس مائَة.
وَمَوْلِد أَبِيْهِ المُقْرِئ أَبِي بَكْرٍ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
حرص عَلَيْهِ أَبُوْهُ، وَسَمَّعَهُ حُضُوْراً، ثُمَّ سَمَاعاً كَثِيْراً، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ الحَافِظ، وَطَبَقَتهِم.
وَعَمِلَ مُوْسَى لِنَفْسِهِ (مُعْجَماً) ، رَوَى فِيْهِ عَنْ أَكْثَر مِنْ ثَلاَث مائَة شَيْخ.
رَوَى عَنْ: أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ المُطَرِّز حُضُوْراً
وَإِجَازَة، وَعَنْ: أَبِي مَنْصُوْرٍ مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ بنِ مَنْدَوَيْه، وَغَانِم بن أَبِي نَصْرٍ البُرْجِيّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الحَدَّادِ -فَأَكْثَر جِدّاً- وَالحَافِظ هِبَة اللهِ بن الحَسَنِ الأَبَرْقُوْهِيّ، وَالحَافِظ يَحْيَى بن مَنْدَةَ، وَالحَافِظ مُحَمَّد بن طَاهِرٍ المَقْدِسِيّ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَد بن الحُسَيْنِ بنِ أَبِي ذَرٍّ، وَمُحَمَّد بن إِبْرَاهِيْمَ الصَّالحَانِيّ، وَابْن عَمِّهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي ذَرٍّ -خَاتمَة مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي طَاهِرٍ بن عَبْدِ الرَّحِيْمِ- وَأَبِي غَالِبٍ أَحْمَد بن العَبَّاسِ بنِ كُوشيذ، وَإِبْرَاهِيْم بن أَبِي الحُسَيْنِ بنِ أَبرويه سِبْط الصَّالحَانِيّ، وَعَبْد الوَاحِدِ بن مُحَمَّدٍ الصَّبَّاغ الدَّشْتَج، وَأَبِي الفَتْحِ إِسْمَاعِيْل بن الفَضْلِ السَّرَّاج، وَالحَافِظ أَبِي القَاسِمِ إِسْمَاعِيْل بن مُحَمَّدِ بنِ أَبِي الفَضْلِ التَّيْمِيّ -لاَزمَه مُدَّة، وَتَخَرَّجَ بِهِ- وَأَبِي طَاهِرٍ إِسْحَاق بن أَحْمَدَ الرَّاشتينَانِيّ، وَالوَاعِظ تَمِيْم بن عَلِيٍّ القَصَّار، وَالرَّئِيْس جَعْفَر بن عَبْدِ الوَاحِدِ الثَّقَفِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ حَمْزَة بن العَبَّاسِ العَلَوِيِّ، وَأَبِي شُكر حَمْد بن عَلِيٍّ الحبَّال، وَأَبِي الطَّيِّبِ حَبِيْب بن أَبِي مُسْلِمٍ الطِّهْرَانِيّ، وَأَبِي الفَتْحِ رَجَاء بن إِبْرَاهِيْمَ الخَبَّاز، وَطَلْحَة بن الحُسَيْنِ بنِ أَبِي ذَرٍّ الصَّالحَانِيّ، وَأَبِي القَاسِمِ طَاهِر بن أَحْمَدَ البَزَّار، وَالحَافِظ أَبِي الخَيْرِ عَبْد اللهِ بن مَرْزُوْق الهَرَوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْد الجَبَّارِ بن عُبَيْدِ اللهِ بنِ فُورويه الدّلاَل -مِنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ- وَأَبِي
نَهْشَل عَبْد الصَّمَدِ بن أَحْمَدَ العَنْبَرِيّ، وَمَحْمُوْد بن إِسْمَاعِيْلَ الصَّيْرَفِيّ الأَشْقَر،وَالهَيْثَم بن مُحَمَّدِ بنِ الهَيْثَم الأَشْعَرِيّ، وَخجستَة بِنْت عَلِيِّ بنِ أَبِي ذَرٍّ الصَّالحَانِيَّة، وَأُمّ اللَّيْث دَعْجَاءَ بِنْت أَبِي سهل الفَضْل بن مُحَمَّدٍ، وَفَاطِمَة بِنْت عَبْدِ اللهِ الجُوْزْدَانِيَّة.
وَارتحل، فَسَمِعَ مِنْ: أَبِي القَاسِمِ بنِ الحُصَيْنِ، وَهِبَة اللهِ بن أَحْمَدَ بنِ الطَّبرِ، وَقَاضِي المَارستَان أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الحَسَنِ ابْن الزَّاغُوْنِيِّ، وَأَبِي العِزِّ بن كَادِشٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
وَصَنَّفَ كِتَاب (الطّوَالاَت) فِي مُجَلَّدين، يُخضَع لَهُ فِي جَمعِه، وَكِتَاب (ذِيل مَعْرِفَة الصَّحَابَة ) جمع فَأَوعَى، وَأَلّف كِتَاب (القُنُوت) فِي مُجَلَّدٍ، وَكِتَاب (تَتمَّة الغرِيبين ) يَدلّ عَلَى برَاعته فِي اللُّغَة، وَكِتَاب (اللطَائِف فِي رِوَايَة الكِبَار وَنَحْوهم عَنِ الصّغَار) ، وَكِتَاب (عَوَالِي ) يُنْبِئُ بتقدّمه فِي مَعْرِفَةِ العَالِي وَالنَّازل، وَكِتَاب (تَضْييع العُمُر فِي اصطنَاع المَعْرُوف إِلَى اللئَام) ، وَأَشيَاء كَثِيْرَة.
وَحفظ (علُوْم الحَدِيْث) لِلْحَاكِم، وَعرضه عَلَى إِسْمَاعِيْلَ التَّيْمِيّ.حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى الحَازِمِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ القَادِرِ بنُ عَبْدِ اللهِ الرُّهَاوِيّ، وَمُحَمَّد بن مَكِّيّ الأَصْبَهَانِيّ، وَأَبُو نَجِيْحٍ مُحَمَّد بن مُعَاوِيَةَ، وَالنَّاصح عَبْد الرَّحْمَانِ ابْن الحَنْبَلِيّ.
وَلَوْ سَلِمَتْ أَصْبَهَان مِنْ سَيْف التَّتَار فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، لعَاشَ أَصْحَاب أَبِي مُوْسَى إِلَى حُدُوْدِ نَيِّف وَسِتِّيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: عَبْد اللهِ بن بَرَكَات الخُشُوْعِيّ، وَطَائِفَة.
قَالَ ابْنُ الدُّبَيْثِيّ : عَاشَ أَبُو مُوْسَى حَتَّى صَارَ أَوحد وَقته، وَشَيْخ زَمَانه إِسْنَاداً وَحفظاً.
قَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ : سَمِعْتُ مِنْ أَبِي مُوْسَى، وَكَتَبَ عَنِّي، وَهُوَ ثِقَةٌ، صَدُوْقٌ.
وَقَالَ عَبْدُ القَادِرِ الحَافِظُ : حصّل أَبُو مُوْسَى مِنَ المَسْمُوْعَات بِأَصْبَهَانَ مَا لَمْ يَحصل لأَحدٍ فِي زَمَانِهِ، وَانضمّ إِلَى ذَلِكَ الحِفْظُ وَالإِتْقَان، وَلَهُ التَّصَانِيْف الَّتِي أَربَى فِيْهَا عَلَى المُتَقَدِّمِيْنَ، مَعَ الثِّقَة، وَالعفَّة، كَانَ لَهُ شَيْء يَسير يَتربّح بِهِ، وَيَنفق مِنْهُ، وَلاَ يَقبل مِنْ أَحَد شَيْئاً قَطُّ، أَوْصَى إِلَيْهِ غَيْر
وَاحِد بِمَال، فِيردّه، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: فَرّقه عَلَى مَنْ تَرَى، فِيمتنع، وَكَانَ فِيْهِ مِنَ التَّوَاضع بِحَيْثُ أَنَّهُ يُقْرِئُ الصَّغِيْر وَالكَبِيْر، وَيُرشد الْمُبْتَدِئ، رَأَيْتهُ يَحفّظ الصِّبْيَان القُرْآن فِي الأَلوَاح، وَكَانَ يمْنَع مَنْ يَمْشِي مَعَهُ، فَعَلْت ذَلِكَ مرَّة، فَزجرنِي، وَتردّدت إِلَيْهِ نَحْواً مِنْ سَنَة وَنِصْف، فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلاَ سَمِعْتُ عَنْهُ سقطَة تُعَاب عَلَيْهِ.وَكَانَ أَبُو مَسْعُوْدٍ كُوتَاه يَقُوْلُ: أَبُو مُوْسَى كنز مخفِيّ.
قَالَ الحُسَيْنُ بنُ يَوْحن البَاورِّيّ: كُنْت فِي مدينَة الخَان، فَسَأَلنِي سَائِل عَنْ رُؤْيَا، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ.
فَقَالَ: إِنْ صدقت رُؤيَاك، يَموت إِمَام لاَ نَظير لَهُ فِي زَمَانِهِ، فَإِنَّ مِثْل هَذَا المَنَام رُئِيَ حَال وَفَاة الشَّافِعِيّ، وَالثَّوْرِيّ، وَأَحْمَد بن حَنْبَلٍ.
قَالَ: فَمَا أَمسينَا حَتَّى جَاءنَا الخَبَر بِوَفَاة الحَافِظ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الخُجَنْدِيّ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو مُوْسَى، لَمْ يَكَادُوا أَن يَفرغُوا مِنْهُ، حَتَّى جَاءَ مَطَر عَظِيْم فِي الحرّ الشَّدِيد، وَكَانَ المَاء قَلِيْلاً بِأَصْبَهَانَ، فَمَا انْفَصل أَحَد عَنِ المَكَان مَعَ كَثْرَة الْخلق إِلاَّ قَلِيْلاً، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِ إِمْلاَء أَملاَهُ: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مَنْ لَهُ مَنْزِلَة عِنْد الله، فَإِنَّ اللهَ يَبعثُ سحَاباً يَوْم مَوْته، علاَمَة لِلمَغْفِرَة لَهُ، وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ.
سَمِعْتُ شَيْخنَا العَلاَّمَة أَبَا العَبَّاسِ بن عَبْدِ الحَلِيْم يُثنِي عَلَى حِفْظِ أَبِي مُوْسَى، وَيُقْدّمه عَلَى الحَافِظ ابْن عَسَاكِرَ، بَاعْتِبَارِ تَصَانِيْفه وَنفعهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَحْمُوْدٍ الرُّوَيْدَشْتِيّ : تُوُفِّيَ أَبُو مُوْسَى فِي تَاسع جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.قُلْتُ: كَانَ حَافِظ المَشْرِق فِي زَمَانِهِ.
وَفِيْهَا مَاتَ: حَافِظ المَغْرِب أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَزْدِيّ مصَنّف (الأَحكَام) ، وَعَالِم الأَنْدَلُس الحَافِظُ أَبُو زَيْد عَبْد الرَّحْمَانِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ إِصبغ الخَثْعَمِيّ السُّهَيْلِيّ المَالقِيّ الضّرِير صَاحِب (الرّوض الأُنُف) ، وَمُسْنِد الوَقْت أَبُو الفَتْحِ عُبَيْد اللهِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ شَاتيل الدَّبَّاس بِبَغْدَادَ، وَحَافِظ أَصْبَهَان الإِمَامُ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغ، وَمُسْنِد دِمَشْق أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بنُ نَصْرٍ النَّجَّار، وَأَبُو المَجْدِ الفَضْل بن الحُسَيْنِ البَانْيَاسِيّ، وَشَيْخ حرَّان الزَّاهِد الشَّيْخ حَيَاة بن قَيْسٍ الأَنْصَارِيّ، وَشَيْخ الإِسْكَنْدَرِيَّة الفَقِيْهُ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيْل بن عَوْفٍ الزُّهْرِيّ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً، وَمُحَدِّث مَكَّة أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ عَبْدِ المَجِيْدِ المَيَانَشِيّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ فَضْلٍ الحَنْبَلِيّ بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن نَجْم الوَاعِظ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ المَدِيْنِيّ الحَافِظ، أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ الحَدَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ بنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَان وَبِهِ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ، وَحَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ رَزِيْنٍ الخَيَّاط، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عطيَة بن قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بن غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو
مَالِك الأَشْعَرِيّ -وَاللهِ مَا كَذَبَنِي-:أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (لَيَكُوْنَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّوْنَ الحِرَ وَالحَرِيْرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوْحُ عَلَيْهِم سَارِحَةٌ، فَيَأْتِيْهِم رَجُلٌ لِحَاجَةٍ، فَيَقُوْلُوْنَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ -تَعَالَى- وَيَضَعُ العِلْمَ عَلَيْهِم، وَيُمْسَخُ آخَرُوْنَ قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ) .
رَوَاهُ: البُخَارِيُّ، عَنْ هِشَامٍ تَعليقاً، فَقَالَ: وَقَالَ هِشَام.
وَأَخْرَجَهُ: أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طرِيقِ بِشْر بن بَكْرٍ التِّنِّيْسِيّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بن يَزِيْدَ بنِ جَابِرٍ، بنَحْوهِ.
المعَازف: اسْمٌ لِكُلِّ آلاَت الملاَهِي الَّتِي يُعزَف بِهَا، كَالزمر، وَالطنبور، وَالشّبّابَة، وَالصُّنوج.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي العِزِّ بِطَرَابُلس، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن نَجْم الوَاعِظ سَنَة ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ الحَافِظ بِأَصْبَهَانَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ القَاضِي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ يُوْسُفَ العَطَّار، حَدَّثَنَا الحَارِثُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيْمِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْد، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
رَجَعَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَة تَبُوْك، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ المَدِيْنَةِ، قَالَ: (إِنَّ بِالمَدِيْنَةِ لأَقْوَاماً مَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ وَلاَ سِرْتُمْ مِنْ مَسِيْرٍ إِلاَّ كَانُوا مَعَكُم فِيْهِ) .
قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! وَهُمْ بِالمَدِيْنَةِ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ، خَلَّفَهُمُ العُذْرُ).
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ : انْتَشَر علم أَبِي مُوْسَى فِي الآفَاق، وَنفع الله بِهِ المُسْلِمِيْنَ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مَا لَمْ يَجتمع لغَيْره مِنَ الحِفْظ، وَالعِلْم، وَالثِّقَة، وَالإِتْقَان، وَالصَّلاَح، وَحسن الطّرِيقَة، وَصحَة النَّقْل، قَرَأَ القُرْآنَ بِالرِّوَايَات، وَتَفَقَّهَ لِلشَّافِعِيِّ، وَمهر فِي النَّحْوِ وَاللُّغَة، وَكَتَبَ الكَثِيْر، رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَحَجّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَسَنَة اثْنَتَيْنِ وأَرْبَعِيْنَ.قَالَ إِسْمَاعِيْلُ التَّيْمِيُّ لطَالب: الزمِ الحَافِظ أَبَا مُوْسَى، فَإِنَّهُ شَابّ مُتْقِن.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَحْمُوْدٍ الرُّوَيْدَشْتِيّ: صَنّف الأَئِمَّة فِي مَنَاقِب شَيْخنَا أَبِي مُوْسَى تَصَانِيْف كَثِيْرَة.
الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الثِّقَةُ، شَيْخُ المُحَدِّثِيْنَ، أَبُو مُوْسَى مُحَمَّدُ ابنُ أَبِي بَكْرٍ عُمَرَ ابنِ أَبِي عِيْسَى أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ أَبِي عِيْسَى المَدِيْنِيُّ، الأَصْبَهَانِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
مَوْلِدُهُ: فِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَة إِحْدَى وَخَمْس مائَة.
وَمَوْلِد أَبِيْهِ المُقْرِئ أَبِي بَكْرٍ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
حرص عَلَيْهِ أَبُوْهُ، وَسَمَّعَهُ حُضُوْراً، ثُمَّ سَمَاعاً كَثِيْراً، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ الحَافِظ، وَطَبَقَتهِم.
وَعَمِلَ مُوْسَى لِنَفْسِهِ (مُعْجَماً) ، رَوَى فِيْهِ عَنْ أَكْثَر مِنْ ثَلاَث مائَة شَيْخ.
رَوَى عَنْ: أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ المُطَرِّز حُضُوْراً
وَإِجَازَة، وَعَنْ: أَبِي مَنْصُوْرٍ مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ بنِ مَنْدَوَيْه، وَغَانِم بن أَبِي نَصْرٍ البُرْجِيّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الحَدَّادِ -فَأَكْثَر جِدّاً- وَالحَافِظ هِبَة اللهِ بن الحَسَنِ الأَبَرْقُوْهِيّ، وَالحَافِظ يَحْيَى بن مَنْدَةَ، وَالحَافِظ مُحَمَّد بن طَاهِرٍ المَقْدِسِيّ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَد بن الحُسَيْنِ بنِ أَبِي ذَرٍّ، وَمُحَمَّد بن إِبْرَاهِيْمَ الصَّالحَانِيّ، وَابْن عَمِّهِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي ذَرٍّ -خَاتمَة مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي طَاهِرٍ بن عَبْدِ الرَّحِيْمِ- وَأَبِي غَالِبٍ أَحْمَد بن العَبَّاسِ بنِ كُوشيذ، وَإِبْرَاهِيْم بن أَبِي الحُسَيْنِ بنِ أَبرويه سِبْط الصَّالحَانِيّ، وَعَبْد الوَاحِدِ بن مُحَمَّدٍ الصَّبَّاغ الدَّشْتَج، وَأَبِي الفَتْحِ إِسْمَاعِيْل بن الفَضْلِ السَّرَّاج، وَالحَافِظ أَبِي القَاسِمِ إِسْمَاعِيْل بن مُحَمَّدِ بنِ أَبِي الفَضْلِ التَّيْمِيّ -لاَزمَه مُدَّة، وَتَخَرَّجَ بِهِ- وَأَبِي طَاهِرٍ إِسْحَاق بن أَحْمَدَ الرَّاشتينَانِيّ، وَالوَاعِظ تَمِيْم بن عَلِيٍّ القَصَّار، وَالرَّئِيْس جَعْفَر بن عَبْدِ الوَاحِدِ الثَّقَفِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ حَمْزَة بن العَبَّاسِ العَلَوِيِّ، وَأَبِي شُكر حَمْد بن عَلِيٍّ الحبَّال، وَأَبِي الطَّيِّبِ حَبِيْب بن أَبِي مُسْلِمٍ الطِّهْرَانِيّ، وَأَبِي الفَتْحِ رَجَاء بن إِبْرَاهِيْمَ الخَبَّاز، وَطَلْحَة بن الحُسَيْنِ بنِ أَبِي ذَرٍّ الصَّالحَانِيّ، وَأَبِي القَاسِمِ طَاهِر بن أَحْمَدَ البَزَّار، وَالحَافِظ أَبِي الخَيْرِ عَبْد اللهِ بن مَرْزُوْق الهَرَوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْد الجَبَّارِ بن عُبَيْدِ اللهِ بنِ فُورويه الدّلاَل -مِنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ- وَأَبِي
نَهْشَل عَبْد الصَّمَدِ بن أَحْمَدَ العَنْبَرِيّ، وَمَحْمُوْد بن إِسْمَاعِيْلَ الصَّيْرَفِيّ الأَشْقَر،وَالهَيْثَم بن مُحَمَّدِ بنِ الهَيْثَم الأَشْعَرِيّ، وَخجستَة بِنْت عَلِيِّ بنِ أَبِي ذَرٍّ الصَّالحَانِيَّة، وَأُمّ اللَّيْث دَعْجَاءَ بِنْت أَبِي سهل الفَضْل بن مُحَمَّدٍ، وَفَاطِمَة بِنْت عَبْدِ اللهِ الجُوْزْدَانِيَّة.
وَارتحل، فَسَمِعَ مِنْ: أَبِي القَاسِمِ بنِ الحُصَيْنِ، وَهِبَة اللهِ بن أَحْمَدَ بنِ الطَّبرِ، وَقَاضِي المَارستَان أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الحَسَنِ ابْن الزَّاغُوْنِيِّ، وَأَبِي العِزِّ بن كَادِشٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
وَصَنَّفَ كِتَاب (الطّوَالاَت) فِي مُجَلَّدين، يُخضَع لَهُ فِي جَمعِه، وَكِتَاب (ذِيل مَعْرِفَة الصَّحَابَة ) جمع فَأَوعَى، وَأَلّف كِتَاب (القُنُوت) فِي مُجَلَّدٍ، وَكِتَاب (تَتمَّة الغرِيبين ) يَدلّ عَلَى برَاعته فِي اللُّغَة، وَكِتَاب (اللطَائِف فِي رِوَايَة الكِبَار وَنَحْوهم عَنِ الصّغَار) ، وَكِتَاب (عَوَالِي ) يُنْبِئُ بتقدّمه فِي مَعْرِفَةِ العَالِي وَالنَّازل، وَكِتَاب (تَضْييع العُمُر فِي اصطنَاع المَعْرُوف إِلَى اللئَام) ، وَأَشيَاء كَثِيْرَة.
وَحفظ (علُوْم الحَدِيْث) لِلْحَاكِم، وَعرضه عَلَى إِسْمَاعِيْلَ التَّيْمِيّ.حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى الحَازِمِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ القَادِرِ بنُ عَبْدِ اللهِ الرُّهَاوِيّ، وَمُحَمَّد بن مَكِّيّ الأَصْبَهَانِيّ، وَأَبُو نَجِيْحٍ مُحَمَّد بن مُعَاوِيَةَ، وَالنَّاصح عَبْد الرَّحْمَانِ ابْن الحَنْبَلِيّ.
وَلَوْ سَلِمَتْ أَصْبَهَان مِنْ سَيْف التَّتَار فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، لعَاشَ أَصْحَاب أَبِي مُوْسَى إِلَى حُدُوْدِ نَيِّف وَسِتِّيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: عَبْد اللهِ بن بَرَكَات الخُشُوْعِيّ، وَطَائِفَة.
قَالَ ابْنُ الدُّبَيْثِيّ : عَاشَ أَبُو مُوْسَى حَتَّى صَارَ أَوحد وَقته، وَشَيْخ زَمَانه إِسْنَاداً وَحفظاً.
قَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ : سَمِعْتُ مِنْ أَبِي مُوْسَى، وَكَتَبَ عَنِّي، وَهُوَ ثِقَةٌ، صَدُوْقٌ.
وَقَالَ عَبْدُ القَادِرِ الحَافِظُ : حصّل أَبُو مُوْسَى مِنَ المَسْمُوْعَات بِأَصْبَهَانَ مَا لَمْ يَحصل لأَحدٍ فِي زَمَانِهِ، وَانضمّ إِلَى ذَلِكَ الحِفْظُ وَالإِتْقَان، وَلَهُ التَّصَانِيْف الَّتِي أَربَى فِيْهَا عَلَى المُتَقَدِّمِيْنَ، مَعَ الثِّقَة، وَالعفَّة، كَانَ لَهُ شَيْء يَسير يَتربّح بِهِ، وَيَنفق مِنْهُ، وَلاَ يَقبل مِنْ أَحَد شَيْئاً قَطُّ، أَوْصَى إِلَيْهِ غَيْر
وَاحِد بِمَال، فِيردّه، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: فَرّقه عَلَى مَنْ تَرَى، فِيمتنع، وَكَانَ فِيْهِ مِنَ التَّوَاضع بِحَيْثُ أَنَّهُ يُقْرِئُ الصَّغِيْر وَالكَبِيْر، وَيُرشد الْمُبْتَدِئ، رَأَيْتهُ يَحفّظ الصِّبْيَان القُرْآن فِي الأَلوَاح، وَكَانَ يمْنَع مَنْ يَمْشِي مَعَهُ، فَعَلْت ذَلِكَ مرَّة، فَزجرنِي، وَتردّدت إِلَيْهِ نَحْواً مِنْ سَنَة وَنِصْف، فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلاَ سَمِعْتُ عَنْهُ سقطَة تُعَاب عَلَيْهِ.وَكَانَ أَبُو مَسْعُوْدٍ كُوتَاه يَقُوْلُ: أَبُو مُوْسَى كنز مخفِيّ.
قَالَ الحُسَيْنُ بنُ يَوْحن البَاورِّيّ: كُنْت فِي مدينَة الخَان، فَسَأَلنِي سَائِل عَنْ رُؤْيَا، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ.
فَقَالَ: إِنْ صدقت رُؤيَاك، يَموت إِمَام لاَ نَظير لَهُ فِي زَمَانِهِ، فَإِنَّ مِثْل هَذَا المَنَام رُئِيَ حَال وَفَاة الشَّافِعِيّ، وَالثَّوْرِيّ، وَأَحْمَد بن حَنْبَلٍ.
قَالَ: فَمَا أَمسينَا حَتَّى جَاءنَا الخَبَر بِوَفَاة الحَافِظ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الخُجَنْدِيّ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو مُوْسَى، لَمْ يَكَادُوا أَن يَفرغُوا مِنْهُ، حَتَّى جَاءَ مَطَر عَظِيْم فِي الحرّ الشَّدِيد، وَكَانَ المَاء قَلِيْلاً بِأَصْبَهَانَ، فَمَا انْفَصل أَحَد عَنِ المَكَان مَعَ كَثْرَة الْخلق إِلاَّ قَلِيْلاً، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِ إِمْلاَء أَملاَهُ: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مَنْ لَهُ مَنْزِلَة عِنْد الله، فَإِنَّ اللهَ يَبعثُ سحَاباً يَوْم مَوْته، علاَمَة لِلمَغْفِرَة لَهُ، وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ.
سَمِعْتُ شَيْخنَا العَلاَّمَة أَبَا العَبَّاسِ بن عَبْدِ الحَلِيْم يُثنِي عَلَى حِفْظِ أَبِي مُوْسَى، وَيُقْدّمه عَلَى الحَافِظ ابْن عَسَاكِرَ، بَاعْتِبَارِ تَصَانِيْفه وَنفعهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَحْمُوْدٍ الرُّوَيْدَشْتِيّ : تُوُفِّيَ أَبُو مُوْسَى فِي تَاسع جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.قُلْتُ: كَانَ حَافِظ المَشْرِق فِي زَمَانِهِ.
وَفِيْهَا مَاتَ: حَافِظ المَغْرِب أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَزْدِيّ مصَنّف (الأَحكَام) ، وَعَالِم الأَنْدَلُس الحَافِظُ أَبُو زَيْد عَبْد الرَّحْمَانِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ إِصبغ الخَثْعَمِيّ السُّهَيْلِيّ المَالقِيّ الضّرِير صَاحِب (الرّوض الأُنُف) ، وَمُسْنِد الوَقْت أَبُو الفَتْحِ عُبَيْد اللهِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ شَاتيل الدَّبَّاس بِبَغْدَادَ، وَحَافِظ أَصْبَهَان الإِمَامُ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغ، وَمُسْنِد دِمَشْق أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بنُ نَصْرٍ النَّجَّار، وَأَبُو المَجْدِ الفَضْل بن الحُسَيْنِ البَانْيَاسِيّ، وَشَيْخ حرَّان الزَّاهِد الشَّيْخ حَيَاة بن قَيْسٍ الأَنْصَارِيّ، وَشَيْخ الإِسْكَنْدَرِيَّة الفَقِيْهُ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيْل بن عَوْفٍ الزُّهْرِيّ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً، وَمُحَدِّث مَكَّة أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ عَبْدِ المَجِيْدِ المَيَانَشِيّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ فَضْلٍ الحَنْبَلِيّ بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن نَجْم الوَاعِظ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ المَدِيْنِيّ الحَافِظ، أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ الحَدَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ بنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَان وَبِهِ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ، وَحَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ رَزِيْنٍ الخَيَّاط، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عطيَة بن قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بن غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو
مَالِك الأَشْعَرِيّ -وَاللهِ مَا كَذَبَنِي-:أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (لَيَكُوْنَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّوْنَ الحِرَ وَالحَرِيْرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوْحُ عَلَيْهِم سَارِحَةٌ، فَيَأْتِيْهِم رَجُلٌ لِحَاجَةٍ، فَيَقُوْلُوْنَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ -تَعَالَى- وَيَضَعُ العِلْمَ عَلَيْهِم، وَيُمْسَخُ آخَرُوْنَ قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ) .
رَوَاهُ: البُخَارِيُّ، عَنْ هِشَامٍ تَعليقاً، فَقَالَ: وَقَالَ هِشَام.
وَأَخْرَجَهُ: أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طرِيقِ بِشْر بن بَكْرٍ التِّنِّيْسِيّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بن يَزِيْدَ بنِ جَابِرٍ، بنَحْوهِ.
المعَازف: اسْمٌ لِكُلِّ آلاَت الملاَهِي الَّتِي يُعزَف بِهَا، كَالزمر، وَالطنبور، وَالشّبّابَة، وَالصُّنوج.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي العِزِّ بِطَرَابُلس، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بن نَجْم الوَاعِظ سَنَة ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ الحَافِظ بِأَصْبَهَانَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ القَاضِي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ يُوْسُفَ العَطَّار، حَدَّثَنَا الحَارِثُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيْمِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْد، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
رَجَعَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَة تَبُوْك، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ المَدِيْنَةِ، قَالَ: (إِنَّ بِالمَدِيْنَةِ لأَقْوَاماً مَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ وَلاَ سِرْتُمْ مِنْ مَسِيْرٍ إِلاَّ كَانُوا مَعَكُم فِيْهِ) .
قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! وَهُمْ بِالمَدِيْنَةِ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ، خَلَّفَهُمُ العُذْرُ).
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ : انْتَشَر علم أَبِي مُوْسَى فِي الآفَاق، وَنفع الله بِهِ المُسْلِمِيْنَ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مَا لَمْ يَجتمع لغَيْره مِنَ الحِفْظ، وَالعِلْم، وَالثِّقَة، وَالإِتْقَان، وَالصَّلاَح، وَحسن الطّرِيقَة، وَصحَة النَّقْل، قَرَأَ القُرْآنَ بِالرِّوَايَات، وَتَفَقَّهَ لِلشَّافِعِيِّ، وَمهر فِي النَّحْوِ وَاللُّغَة، وَكَتَبَ الكَثِيْر، رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَحَجّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَسَنَة اثْنَتَيْنِ وأَرْبَعِيْنَ.قَالَ إِسْمَاعِيْلُ التَّيْمِيُّ لطَالب: الزمِ الحَافِظ أَبَا مُوْسَى، فَإِنَّهُ شَابّ مُتْقِن.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَحْمُوْدٍ الرُّوَيْدَشْتِيّ: صَنّف الأَئِمَّة فِي مَنَاقِب شَيْخنَا أَبِي مُوْسَى تَصَانِيْف كَثِيْرَة.
أبو زرعة الرازى . عبيد اللَّه بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ (مولى لقريش) . كان أحد الأئمة في علم الحديث. وكان أعلم الناس بحديثَ مالك بن أنس مسنده ومرسله ومقطوعه، وأحفظهم له، وكان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه -وهو تلميذ لهما وأخذ عنهما- يعظمانه ويثنيان عليه بالحفظ والفضل والقيام بالسنة، وكان أحمد بن حنبل يدعو له وقال عبد الواحد بن غياث : ما رأى أبو زرعة مثل نفسه وروى عن جماعة يطول ذكرهم ببلده وبخراسان والعراق والحجاز والشام ومصر منهم عبد اللَّه ابن مسلمة القعنبى ، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وخلاد بن يحيى . وقال محمد بن يحيى النيسابورى "لا يزال المسلمون بخير ما كان فيهم مثل أبى زرعة" . وقال محمد بن مسلم ما خلف أبو زرعة مثله وقال أبو حاتم الرازى: كان أبو زرعة إمامًا .
ومن العلماء الجهابذة النقاد من الطبقة الرابعة من أهل الري أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد (4)
[ما ذكر من علم أبي زرعة وفقهه - 5]
حدثنا عبد الرحمن نا الحسن [بن أحمد - 5] بن الليث قال سمعت
عبد الواحد بن غياث البصري يقول: ما رأى أبو زرعة بعينه مثل نفسه أحدا.
قال وسمعت الحسن بن أحمد يقول: وكان عبد الواحد كتب عن حماد بن سلمة الكتب، وحماد بن زيد لقي أصحاب الحسن وابن سيرين.
قال أبو محمد قرأت كتاب إسحاق بن راهويه [بخطه - 1] إلى أبي زرعة: إني ازداد بك كل يوم سرورا فالحمد لله الذي جعلك ممن يحفظ سنته وهذا من أعظم ما يحتاج إليه اليوم طالب العلم، وأحمد بن إبراهيم لا يزال في ذكرك الجميل (2) حتى يكاد يفرط وإن لم يكن فيك بحمد الله إفراط واقرأني كتابك إليه بنحو ما أوصيتك من إظهار السنة وترك المداهنة فجزاك الله خيرا فدم على ما أوصيتك فإن للباطل جولة [ثم يضمحل وان ممن أحب صلاحه.
1] وزينه (3) وإني أسمع من إخواننا القادمين ما أنت عليه من العلم والحفظ فأسر بذلك.
حدثنا عبد الرحمن نا جعفر بن محمد أبو يحيى الزعفراني قال سمعت عمرو بن سهل بن صرخاب يقول - وذكر أبا زرعة فقال: ما ولد في خمسين ومائة سنة مثل أبي زرعة.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت محمد بن مسلم يقول: ما خلف أبو زرعة مثله وسمعته يقول بعد وفاة أبي زرعة - وذكر أبا زرعة فقال: كان (4) (167 م) دربندان العلم.
حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو البرذعي (90 ك) قال سمعت محمد بن يحيى النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: لا يَزَالُ الْمُسْلِمُونَ بخير ما
ابقى الله عزوجل لَهُمْ مِثْلَ أَبِي زُرْعَةَ، وَمَا كان الله عزوجل ليترك الارض
إِلا وَفِيهَا مِثْلُ أَبِي زُرْعَةَ يعلم الناس ما جهلوه.
(89 د) ثُمَّ جَعَلَ يُعَظِّمُ عَلَى جُلَسَائِهِ خَطَرَ مَا حَكَى لَهُ مِنْ عِلَّةِ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَكْعَتَانِ (1) بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةٍ بِغَيْرِ سِوَاكٍ.
قَالَ سَعِيدٌ وَكُنْتُ حَكَيْتُ لَهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ اصْطَحَبَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى الصَّدَفِيِّ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الرِّيِّ فَسَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ (2) لَمْ اسَتْفَدِ مُنْذُ دَهْرٍ عِلْمًا أَوْقَعَ عِنْدِي وَلا آثَرَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَوْ فَهِمْتُمْ عَظِيمَ خَطَرِهَا لاسْتَحْلَيْتُمُوهُ كَمَا اسْتَحْلَيْتُهُ (3) - وَجَعَلَ يَمْدَحُ أَبَا زُرْعَةَ فِي كَلامٍ كَثِيرٍ.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة وذكر أحمد بن حنبل وأنه أعطاه دفتره فقلت له: كان أحمد بن حنبل يعرفك حيث دفع كتابه إليك؟ فقال: أي لعمري، كنت أكثر الاختلاف إليه وكنت اسائله وإذا كره ويذاكرني.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت علي بن الحسين (4) بن الجنيد يقول: ما رأيت أحدا أعلم بحديث مالك بن أنس مسندها ومنقطعها من أبي زرعة، وكذلك سائر العلوم ولكن خاصة حديث مالك (5) قال
أبو زرعة رأيت فيما يرى النائم كأن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكأني امسح يدي على منبر النبي صلى الله عليه وسلم موضع المقعد والذي يليه والذي يليه ثم أمسكته فقصصته (1) على رجل من أهل سجستان كان معنا بحران فقال هذا أنت تعني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكنت إذ ذاك لا أحفظ كثير شئ من مسائل الأوزاعي ومالك والثوري وغيرهم (2) ثم عنيت به [بعد - 3] .
حدثنا عبد الرحمن قال (168 م) سمعت أبي يقول وذكر له أبو عبد الله الطهراني وأبو زرعة فقال: كان أبو زرعة أفهم من أبي عبد الله الطهراني واعلم منه بكل شئ بالفقه والحديث وغيره.
باب ما ذكر من حفظ أبي زرعة رحمه الله
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت علي بن الحسين بن الجنيد المالكي يقول: ما رأيت أحدا أحفظ لحديث (4) مالك بن أنس لمسنده ومنقطعه من أبي زرعة.
قلت (5) : ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ؟ قال: نعم.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول سمعت أحمد بن حنبل وذكر عن عبد الله بن واقد عن عكرمة بن عمار عن الهرماس قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته نحو الشام - فقال أحمد: ما ظننت أن الهرماس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث العضباء حتى جاء أبو قتادة (6) بهذا الحديث، قلت له أنا، وههنا
حديث آخر سوى هذين، قال: ما هو؟ قلت: حدثنا عمرو بن مرزوق عن عكرمة بن عمار عن الهرماس قال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فمد يده.
قال أبو زرعة: فسكت ولم ينكره.
وقال أبو محمد:
كان أبو زرعة قل يوم إلا يخرج معه إلى المسجد كتابين أو ثلاثة كتب، لكل قوم كتابهم الذي سألوا فيه فيقرأ على [كل 1] قوم ما يتفق له القراءة من كتاب، ثم يقرأ للآخر كتابه الذي قد سأل فيه أوراق (2) ثم يقرأ للثالث كمثل ذلك فإذا رجعوا أولئك في يومهم يكون قد أخرج معه كتابهم فيجئ إلى الموضع الذي كان يقرأ عليهم إلى ذلك المكان فيبتدئ فيقرأ من غير أن يسألهم: إلى أين بلغتم؟ وما أول مجلسكم؟ فكان ذاك دأبه كل يوم لا يستفهم من احد منهم أو مجلسه وهذا بالغداة، وبالعشي كمثل (3) ولا أعلم أحدا من المحدثين قدر على هذا.
حدثنا عبد الرحمن نا أبو زرعة قال حضرت يوما عبيد الله بن (169 م) عائشة فقال: أول من كسا البيت جرهم، قال أبو زرعة فقلت فجرهم كان قبل أو تبع؟ قال: بل تبع، قلت حدثنا إبراهيم بن موسى أنا ابن ثور عن معمر عن تميم بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير قال: أول من كسا البيت نبع فنهى الناس عن سبه، فسكت ثم انبسط بعد ذلك إلى.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: قعدت إلى أبي الوليد يوما فحملت عنه ثمانية عشر حديثا وحدثنا مذاكرة من غير أن كتبت منه حرفا وتحفظت عنه كله.
حدثنا عبد الرحمن سمعت أبا زرعة يقول: سمعت من بعض المشايخ أحاديث فسألني رجل من أصحاب الحديث فأعطيته كتابي فرد علي الكتاب
بعد ستة أشهر فأنظر في الكتاب فإذا إنه قد غير في سبعة مواضع، قال أبو زرعة [فأخذت الكتاب وصرت إلى عنده فقلت ألا تتقي الله
تفعل مثل هذا؟ قال أبو زرعة - 1] فأوقفته على موضع موضع وأخبرته وقلت له أما هذا الذي غيرت فإنه هذا الذي جعلت عن ابن أبي فديك فإنه عن أبي ضمرة (2) مشهور وليس هذا من حديث ابن أبي فديك، وأما هذا فإنه كذا (91 ك) وكذا فإنه لا يجئ عن فلان وإنما هذا كذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفته على كله ثم (90 د) قلت له: فإني حفظت جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبت على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى علي مثل هذا، فاتق الله عزوجل يا رجل.
[قال أبو محمد - 3] فقلت له: من ذلك الرجل الذي فعل هذا؟ (4) فأبى أن يسميه.
حدثنا عبد الرحمن قال وسمعت أبا زرعة يقول دفعت كتاب الصوم إلى رجل بغدادي فرد علي فإذا إنه قد غير حرفا من الإسناد عن جهته، قال أبو زرعة فتعجبت منه فقلت في نفسي يا سبحان الله من يريد أن يفعل هذا بي؟ اي شئ يظن؟ وقلت في نفسي إنه يظن أنه عمل شيئا.
حدثنا عبد الرحمن قال وسمعت أبا زرعة يقول: ودفع إليه رجل حدثنا فقال اقرأ فلما نظر في الحديث قال: من اين (170 م) لك هذا؟ قال وجدته على ظهر كتاب ليوسف الوراق، قال أبو زرعة: هذا الحديث من حديثي غير أني لم أحدث به، قيل له: وأنت تحفظ ما حدثت به مما لم تحدث به؟ قال بلى، ما في بيتي حديث إلا وأنا افهم موضعه.
حدنثا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: مررت يوما ببيروت
فإذا شيخ مخضوب متكئ على عصا فلما نظر إلي قال لرجل: ترى هذا ليس في الدنيا أحفظ من هذا.
قال أبو زرعة ما يدريه؟ عرف حفاظ الدنيا حتى يشهد لي بهذه الشهادة؟ غير أن الناس إذا سمعوا شيئا قالوه.
باب ما ذكر في أبي زرعة أنه إمام زمانه حدثنا عبد الرحمن قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان ودعا لهما وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين.
حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبي رحمه الله عن أبي زرعة فقال: إمام.
باب ما ذكر من طهارة خلق أبي زرعة حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول: كنت أتولى الانتخاب على أبي الوليد وكنت لا أنتخب ما سمعت من أبي الوليد قديما، فترى قال أبو زرعة يوما أكتب حديثا معادا بسببي؟ وما سمع تلك الأحاديث التي تركتها على العمد إلا بعد خروجي ولو كنت أنا بدله ما كنت أصبر أن ادع جياد حديثه ولا أسمع منه، فلما تيسر لي الخروج من البصرة قلت لأبي زرعة تخرج؟ فقال: لا، إنك تركت أحاديث من حديث أبي الوليد مما كتبت منه سمعت منه قديما فكرهت أن أسأل في شئ يكون عليك معادا فأنا أقيم بعدك حتى أسمع.
باب ما ذكر من كثرة علم أبي زرعة
حدثنا عبد الرحمن قال (1) قلت لأبي زرعة رحمه الله: تحزر ما كتبت
عن إبراهيم بن موسى مائة ألف [حديث؟ قال: مائة ألف - 1] كثير، قلت فخمسين ألفا؟ قال: نعم، وستين ألفا، وسبعين ألفا، أخبرني من عد كتاب الوضوء والصلاة فبلغ ثمانية عشر ألف حديث.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت (171 م) أبا زرعة يقول: لزمنا إبراهيم بن موسى ثماني سنين من سنة أربع عشرة في آخرها إلى سنة اثنتين وعشرين حتى خرجت إلى مكة في رمضان.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: كتبت بالري قبل أن أخرج إلى العراق عن نحو ثلاثين شيخا منهم عبد الله بن الجراح وعبد العزيز بن المغيرة وعبد الصمد بن حسان وجعفر بن عيسى وبشر ابن يزيد وسلمة بن بشير وعبيد بن إسحاق وذكر شيوخا كثيرة.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن ابي سملة التبوذكي عشرة آلاف حديث، أما حديث حماد بن سلمة فعشرة آلاف حديث، وكنا نظن أنه يقرأ كما كان يقرأ قديما فاستكتبنا الكثير ومات فبقي علينا شئ نحو قوصرة فوهبت لقوم بالبصرة.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: نظرت في نحو من ثمانين (2) ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وفي غير مصر ما أعلم إني رأيت [له - 3] حديثا لا أصل له.
باب ما ذكر من معرفة أبي زرعة بعلل الحديث
وبصحيحه من سقيمه حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زُرْعَةَ يَقُولُ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بن
أَبِي شَيْبَةَ نا وَكِيعٌ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَاصِمِ (1) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُهَرْوِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ - فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ فَقُلْتُ لَهُ: مِسْعَرٌ لَمْ يَرْوِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ شَيْئًا (2) إِنَّمَا هَذَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ، فَلَجَّ فِيهِ (3) قَالَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَطَلَبَهُ فَرَجَعَ فَقَالَ: غَيِّرُوهُ (4) هُوَ عَنْ سُفْيَانَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَأَيْتُ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ الأَصْبَهَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِرُسْتَةَ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ بِخَطِّهِ: وَإِنِّي كُنْتُ رَوَيْتُ عِنْدَكُمْ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هريرة عن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَقُلْتُ: هَذَا غَلَطُ، النَّاسِ يَرْوُونَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عن النبي (92 ك) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِكَ فِي نَفْسِي فَلَمْ أَكُنْ أَنْسَاهُ حَتَّى قَدِمْتُ ونظرت في الاصر فَإِذَا هُوَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ خَفَ عَلَيْكَ فَأَعْلِمْ ابا حاتم عافاه الله (172 م) وَمَنْ سَأَلَكَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّكَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ أَتَيْنَا أَبَا عُمَرَ الْحَوْضِيَّ وَقَدْ دَخَلَ قَوْمٌ عليه وهو يحدثهم (91 د) وَأَنَا وَأَبُو حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَّا (5) خَارِجٌ نَتَسَمَّعُ فَوَقَعَ فِي مَسَامِعِنَا وَهُوَ يَقُولُ: حدثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ
عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ فَصِحْنَا مِنْ وَرَاءِ [الْبَابِ - 6] فَقُلْنَا يَا ابا عمر
هَذَا عَنْ جَابِرٍ، فَقَالَ: صَدَقْتُمْ، ادْخُلُوا.
حدثنا عبد الرحمن قال (1) حضر عند أبي زرعة محمد بن مسلم [والفضل بن العباس المعروف بالصائغ فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد ابن مسلم - 2] حديثا فأنكر فضل الصائغ فقال يا أبا عبد الله ليس هكذا هو، فقال كيف هو؟ فذكر رواية أخرى، فقال محمد بن مسلم بل الصحيح ما قلت والخطأ ما قلت، قال فضل فأبو زرعة الحاكم بيننا، فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة أيش تقول أينا المخطئ؟ فسكت أبو زرعة ولم يجب فقال محمد بن مسلم: مالك سكت، تكلم، فجعل أبو زرعة يتغافل، فألح عليه محمد بن مسلم وقال: لا أعرف لسكوتك معنى، إن كنت أنا المخطئ فأخبر وإن كان هو المخطئ [فأخبر - 2] ، فقال هاتوا أبا القاسم
ابن أخي فدعى به فقال اذهب وادخل بيت الكتب دفع القمطر الاول والقمطر الثاني والقطمر الثالث وعد ستة عشر جزءا وائتني بالجزء السابع عشر، فذهب فجاء بالدفتر فدفعه إليه فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث ودفعه إلى محمد بن مسلم فقرأه محمد بن مسلم: فقال نعم غلطنا فكان ماذا؟.
حدثنا عبد الرحمن قال (3) قيل لأبي زرعة بلغنا عنك أنك قلت لم أر [أحدا - 4] أحفظ من ابن أبي شيبة؟ فقال، نعم في الحفظ ولكن في الحديث كأنه لم يحمده، فقال: روى مرة حديث حذيفة في الإزار فقال حدثنا أبو الأحوص عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي معلى عن حذيفة، [فقلت له إنما هو أبو إسحاق عن مسلم بن نذير عن حذيفة، وذاك الذي ذكرت (173 م)
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي المعلى عن حذيفة - 1] قال كنت ذرب اللسان، فبقي، فقلت للوراق أحضروا المسند، فأتوا بمسند حذيفة فأصابه كما قلت.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: كنا عند أبي بكر بن ابي شعيبة ومعنا كيلجة فقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن (2) عيينة عن عبد الله بن أبي بكر عن أنس أنه قال يتبع الميت ثلاث.
فقال كيلجة هو عن عبيد الله بن أبي بكر فقال: عن عبيد الله بن أبي بكر فقلت يا أبا بكر تركت الصواب وتلقنت الخطأ إنما روى هو عن عبد الله بن أبي بكر
وسفيان لم يلق عبيد الله بن أبي بكر، فقال لقنني [هذا - 3] ، فقلت: كلما لقنك هذا تريد أن تقبله؟.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يَقُولُ حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة مرة عن وكيع عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عبيد الله [قال رأيت سالما توضأ مرة، فقلت إنما هو وكيع عن سفيان، فقال، لا حدثنا وكيع عن مسعر عن عاصم بن عبيد الله - 4] فقلت ليس هذا من حديث مسعر، حدثنا أبو نعيم ومحمد بن كثير عن سفيان عن عاصم، ولم يسمع مسعر من عاصم بن عبيد الله شيئا، فقال: بلى مسعر عن عاصم عن الشعبي، فقلت: هذا عاصم وذكر عاصما آخر إنما قلت لك عاصم بن عبيد الله لم يسمع مسعر منه شيئا، فسكت فلما كان بالعشي قال قد أصبته [هو - 5] كما قلت أنت حدثنا وكيع والفضل بن دكين عن سفيان.
وقال له رجل يوما يا أبا بكر منذ قدم أبو زرعة صحح لنا سبعين حديثا، فحجل، ثم قال أبو زرعة [يكون - 1] مثل هذا كثير.
هذا علي ابن
المديني ذاكر بباب لعبد الرحمن بن مهدي في التسليم واحدة وعبد الرحمن كان له في هذا باب فقال علي: هذا كله كذب، فلما كان بعد أيام
روى الباب عن عبد الرحمن.
باب ما ذكر من فراسة عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي في أبي زرعة [وهو صغير - 1]
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول ذهب بي أبي إلى عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي فلما رأيته نفرت من هيبته فتقدم أبي إليه فسلم عليه وقعد (174 م) بجنبه فلم أزل أدنو وأنظر إليه ولا أجسر من الهيبة أن أدنو منه فلما رآني أتقدم قال لأبي من هذا؟ قال هذا ابني، قال ادعوه، فدعاني فجئت حتى دنوت من أبي فقال لي عبد الرحمن ادن مني، وأنا أدنو شيئا بعد شئ، فلم يزل يقول ادن، حتى دنوت فأظنه أقعدني على فخذه أو أقعدني بجنبه فقال لي أخرج يدك فأخرجت يدي فنظر إلى شقوق باطن أصابعي فتفرس [في - 1] فقال لأبي: إن ابنك هذا سيكون له شان ويحفظ القرآن (93 ك) والعلم، وذكر أشياء.
باب ما ذكر من رحلة أبي زرعة في طلب العلم حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة في أي سنة كتبتم (2) عن أبي نعيم؟ قال في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات في سنة ثماني عشرة ومائتين.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول خرجت من الري المرة
الثانية سنة سبع وعشرين ومائتين ورجعت سنة اثنتين وثلاثين في أولها، بدأت فحججت ثم خرجت إلى مصر فأقمت بمصر خمسة عشر شهرا وكنت عزمت في بدو قدومي مصر أني أقل المقام بها، فلما رأيت كثرة العلم بها وكثرة الاستفادة عزمت على المقام ولم أكن عزمت على سماع كتب الشافعي، فلما عزمت على المقام وجهت إلى أعرف (1) رجل بمصر بكتب الشافعي (92 د) فقبلتها منه بثمانين درهما أن يكتبها كلها وأعطيته الكاغذ وكنت حملت معي ثوبين ديبقيين (2) لأقطعهما لنفسي فلما عزمت على كتابتها أمرت ببيعهما فبيعا بستين درهما واشتريت مائة ورقة كاغذ بعشرة دراهم كتبت فيها كتبت الشافعي.
ثم خرجت إلى الشام فأقمت بها ما أقمت، ثم خرجت إلى الجزيرة وأقمت ما أقمت، ثم رجعت إلى بغداد سنة ثلاثين في آخرها، ورجعت إلى الكوفة وأقمت [بها ما أقمت - 3] وقدمت البصرة فكتبت بها عن شيبان وعبد الأعلى.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت محمد بن عوف يقول: كان أبو زرعة عندنا بحمص سنة ثلاثين ومائتين.
حدثنا عبد الرحمن قال (175 م) سمعت أبا زرعة يقول أقمت في خرجتي الثالثة بالشام والعراق ومصر أربع سنين وستة أشهر فما أعلم أني طبخت فيها قدرا بيد نفسي.
باب ما ذكر من جلالة أبي زرعة عند العلماء حدثنا عبد الرحمن نا الحسن بن أحمد بن الليث قال سمعت احمد ابن حنبل وسأله رجل فقال: بالري شاب يقال له أبو زرعة، فغضب أحمد وقال: تقول شاب؟ كالمنكر عليه، ثم رفع يديه وجعل يدعو الله عزوجل لأبي زرعة ويقول: اللهم انصره على [من - 1] يغي عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء، اللهم، اللهم، في دعاء كثير.
قال الحسن فلما قدمت حكيت ذلك لأبي زرعة وحملت إليه دعاء أحمد بن حنبل [له - 2] وكنت كتبته [عنه - 3] فكتبه أبو زرعة وقال [لي - 3] أبو زرعة: ما وقعت في بلية فذكرت دعاء أحمد إلا ظننت ان الله عزوجل يفرج بدعائه عني.
حدثنا عبد الرحمن قال رأيت في كتاب عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني الْمَعْرُوفُ بِرُسْتَةَ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أبي زرعة [بخطه - 3] :
أعلم رحمك الله إني ما [أكاد - 4] أنساك في الدعاء [لك - 3] ليلي ونهاري أن يمتع المسلمون بطول بقائك فأنه لا يزال الناس بخير ما بقي من يعرف العلم وحقه من باطله، ولولا ذاك لذهب العلم وصار الناس إلى الجهل، وقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقد جعلك الله منهم فأحمد الله على ذلك فقد وجب لله عزوجل عليك الشكر في ذلك.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: أردت الخروج من
مصر فجئت لأودع يحيى بن عبد الله بن بكير فقلت تأمر بشئ؟ قال: أخلف الله علينا بخير.
حدثنا عبد الرحمن نا أبو زرعة قال سمعت إبراهيم بن موسى يقول لي: أجد منك ريح الولد.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت محمد بن مسلم يقول بعد وفاة أبي زرعة بنحو من شهرين يقول: ما قاتني الدعاء لابي زرعة في شئ من [صلوات - 1] الفرائض منذ مات أبو زرعة (176 م) الا امس فابي كنت في التشهد فدخل على بعض الناص فاشتغل به قلبي فنسيت الدعاء ثم دعوت له بعد ما صليت.
قيل له ويجوز الدعاء في الفرائض؟ قال: نعم [أنا - 2] أدعو لأبي زرعة واسميه في صلواتي.
حدثنا عبد الرحمن قال كتب إلي أبو الحسين أحمد بن سليمان الرهاوي قال: ما احد احب الي ان اراهد من أبي زرعة.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول كتب إلى اسحاق ابن راهويه: لا يهولنك الباطل فإن للباطل جولة ثم يتلاشى.
حدثنا عبد الرحمن قال قلت لأبي زرعة كتب إليك حين حدثت؟ قال: نعم، لم أكن انبسطت في مكاشفة القوم حينئذ.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زُرْعَةَ يَقُولُ: ذَكَرْتُ لأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ بِشْرِ بِنْ الْفَضْلِ (3) عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُبَاشِرُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِلا وَهُمَا زَانِيَانِ، وَلا تُبَاشِرُ
الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ إِلا وَهُمَا زَانِيَتَانِ.
فَقَالَ [لِي - 4] أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ بشر
هَذَا؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ الْمِصْرِيِّينَ (1) يُحَدِّثُونَ عَنْ بِشْرٍ هَذَا، فَقَالَ أَحْمَدُ، [كَأَنَّ - 2] هَذَا الشَّيْخَ (3) بَصْرِيٌّ وَقَعَ إِلَيْهِمْ.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: [لما - 4] أتيت محمد بن عائذ وكان رجلا جافيا ومعي جماعة فرفع صوته فقال: من اين 94 ك) أنتم؟ قلنا: من بلدان مختلفة، من خراسان من الري من كذا وكذا، قال، أنتم أمثل من أهل العراق (5) ، قال ما تريدون؟ ورفع صوته قلنا، شيئا من حديث يحيى بن حمزة، فلم أزل أرفق به وأداريه حتى حدثني بما معي، ثم قال: خذ الكتاب فانظر فيه - فأعطاني كتابه فنظرت فيه وكتبت منه أحاديث، ثم قال: خذ الكتاب فاذهب [به - 4] معك، قال أبو زرعة: فدعوت له وشكرته على ما فعل، قلت: أنا أجل كتابك عن حمله، وأنا أصيب نسخة هذا عند أصحابنا، فذهبت فأخذت من بعض أصحاب الحديث فنسخته على الوجه، وسألته كتاب الهيثم بن حميد [فأخرج إلى جزءا عن الهيثم بن حميد وكان عند هشام بن عمار (177 م) عن الهيثم بن حميد - 6] شئ يسير فأخرج هو جزءا عن الهيثم فاستغنمته (93 د) وكتبته على الوجه، وسألته كتاب الفتن عن الوليد بن مسلم فأجابني، وتعجب الدمشقيون مما يفعل بي، ونسخت كتاب الفتن فأتيته مع رفقائي فقال: إنما أجبتك ولم أجب هؤلاء، فلم أزل أرفق به وأداريه (7) حتى حدثنا بد وسمعوا مغي.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعنا (8) أبا زرعة يقول: دفع إلى احمد ابن حنبل جزئين [فنظرت - 4] فإذا أحاديث المعتمر بن سليمان وبشر
ابن المفضل أحاديث قد كتبتها عن غيره فأقبلت (1) أتفكر وانظر إليه فأقول مرة أكتبه، وأقول مرة قد سمعتها (2) من غيره لا أكتبه، ففطن رحمه الله فقال: اراك قد سمعتها من غيرنا؟ قلت: نعم، قال عمن كتبتها؟ فقلت: عن مسدد، فقال: مسدد [ثقة - 3] اصفح، فصفحت فرأيت أحاديث حسانا عن غندر وغيره.
وقال: أحاديث خالد بن ذكوان عن الربيع عمن كتبتها؟ قلت.
عن مسدد.
(4) حدثنا عبد الرحمن قال قرأت كتاب إسحاق بن راهويه إلى أبي زرعة بخطه: أعلم أبقاك الله إني كنت أسمع من إخواننا القادمين علينا ومن غيرهم حالك وما أنت عليه من العلم والحفظ فأسر بذلك و [إني - 5] ازداد بك كل يوم سرورا فالحمد لله الذي جعلك ممن
يحفظ سنته، وهو (6) من أعظم ما يحتاج إليه الطالب اليوم، وأحمد بن إبراهيم لا يزال في ذكرك بالجميل حتى يكاد يفرط حبا لك وإن لم يكن فيك بحمد الله إفراط.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول كتب إلى أبو ثور فقال في كتابه: كان الأمر قديما أمر أصحابك - يعني في التفقه - حتى نشأ قوم فاشتغلوا بعدد الأحاديث وتركوا التفقه.
قال وسمعت أبا زرعة يقول: وقد عاد [قوم - 7] في التفقه وهو الأصل.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة - وقلت له أخبرت أنه قرأ عليك الربيع بالليل فقال: ما اعلم اني سمعت منه بالليل إلا مجلسا واحدا
رافقني رجل فلما تهيأ خروجي امتنع من الخروج قلت مالك؟ قال قد بقي علي شئ من كتب الشافعي وكان [قد - 1] سمع كتب الشافعي من حرملة فقلت لرفيقي: ترضى أن يقرأ عليك الربيع؟ قال: نعم، قال أبو زرعة فلقيت الربيع فأخبرته بالقصة وسألته أن يجيئنا ليلا فيقرأ على رفيقي
ما بقي عليه فجاءنا ليلا فقرأ علينا.
قلت: أخبرت أن الربيع قرأها عليك في أربعين يوما؟ قال: لا يبني، إنما كنت أسمع منه في وقت أتفرغ فيه إليه وكنت آخذ ميعاده في مسجد الجامع فربما أبطأت عليه وربما لم اجئ [فلا ينصرف - 2] (178 م) فيقول إذا لم يمكنك المجئ فاكتب على الإسطوانة حتى أمضى.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت محمد بن مسلم يقول: أنا أحقر في نفسي من أن ينزلني الله عزوجل منزلة أبي زرعة.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول قال لنا أبو الوليد الطيالسي: إذا كان عندنا قوم فلا تستأذنوا فليس عليكم حجاب.
وربما دخلنا عليه وهو يأكل فيشدد علينا أن كلوا.
باب ما ظهر لأبي زرعة من سيد عمله عند وفاته حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبي يَقُولُ: مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ مَطْعُونًا مَبْطُونًا يَعْرَقُ جَبِينُهُ فِي النَّزْعِ فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: مَا تَحْفَظُ فِي تَلْقِينِ الْمَوْتَى لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: يُرْوَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - فَمَنْ (3) قَبِلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ رَفَعَ أَبُو زُرْعَةَ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي النَّزْعِ فَقَالَ: رَوَى عبد الحميد
ابن جَعْفَرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي عَرِيبٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَصَارَ الْبَيْتُ ضَجَّةً بِبُكَاءِ مَنْ حَضَرَ.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أحمد بن إسماعيل ابن عم أبي زرعة يقول سمعت أبا زرعة يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهم إني أشتاق إلى رؤيتك، فإن قال لي بأي عمل اشتقت إلي؟ قلت: برحمتك يا رب.
باب ما رئي لأبي زرعة من الرؤيا قبل وفاته وبعدها حدثنا عبد الرحمن قال سمعت محمد بن مسلم يقول رأيت أبا زرعة رحمه الله في المنام فقلت ما فعل بك ربك؟ فقال قربني وأدناني وقربني وأدناني حتى - هكذا وأومأ بيده، ثم قال [لي - 1] يا عبيد الله تدرعت بالكلام؟ قلت لانهم حاولوا دينك، (95 ك) قال ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله.
قال محمد بن مسلم فوقع في نفسي (2) في النوم أن أبا عبد الله سفيان الثوري وإن أبا عبد الله مالك بن أنس وإن أبا عبد الله أحمد بن حنبل.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول رأيت في المنام كأن علي ثوب برد له خطوط دقاق.
قال أبو محمد (3) (179 م) تعبيره (4) أن يشتهر فاشتهر بالخير والعلم.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة في سنة اثنتين وستين ومائتين
يقول: كنت منذ سنين نحو عشرين سنة ربما خطر ببالي تقصير [ي وتقصير الناس - 1] في الأعمال في النوافل والحج والصيام والجهاد فكثر ذلك في قلبي فرأيت ليلة فيما يرى النائم كأن آتيا أتاني فضرب يده (2) بين كتفي فقال: قد أكثرت من العبادة، وأي عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة؟.
باب ما ذكر من بد ومكاشفة أبي زرعة لاهل الرأي واظهاره السنن ومقاساته اذى القوم (94 د) حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول قال [لي - 3] أبو جعفر الجمال: مالهم - يعني أصحاب الرأي سواك.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: ما رغبت قط في سكني الري وما كاشفت القوم وأنا أريد مزاحمتهم في دنيا ولا مال ولا في ضيعة وقلت في نفسي أنا لست براغب في شئ من هذا فأقاسي إظهار السنن فإن كان كون خرجت وهربت إلى طرسوس.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول قال لي السري بن معاذ: لو أني قبلت لأعطيت مائة ألف درهم قبل الليل فيك وفي ابن مسلم من غير أن أحبسكم ولا أضربكم أكثر من أن أمنعكم من التحديث (4) .
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول وقلت له أنهم كانوا يقولون إن رجلا بصريا يحمل إليك الكلام الذي ترويه في ابن مقاتل فقال: يفرغ ابن مقاتل من مجلسه يوم الجمعة إلى قرب المغرب وأرد عليه من الغد بكرة، من وضع لي؟ وددت إني كنت أرى في
[ذلك - 1] الوقت الذي دفع إلى ما روى في مجلسه [رجلا - 1] .
باب ما ذكر من زهد أبي زرعة وظلف نفسه عن الدنيا حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: لو كان لي صحة بدن على ما أريد كنت أتصدق بمالي كله واخرج إلى طرسوس أو إلى ثعر من الثغور وآكل من المباحات والزمها، ثم قال: إني لألبس الثياب لكي إذا نظر إلى الناس لا يقولون قد (180 م) ترك أبو زرعة الدنيا ولبس الثياب الدون، وإني لآكل ما يقدم إلى من الطيبات والحلواء لكي لا يقول الناس (2) إن أبا زرعة لا يأكل الطيبات لزهده، واني لآكل الشئ الطيب وما مجراه عندي ومجرى غيره من الأدم إلا واحد، وألبس الثياب الجياد (3) ودونه من الثياب عندي واحد، لأن جميعا يعملان عملا واحدا، ومن أحب أن يسلم من لبسه الثياب يلبسه لستر عورته فأنه إذا نوى هذا ولم ينو غيره سلم.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: كنت فيما مضى وأنا صحيح وربما أخذتني الحمى فاضعف وأجد لذلك ألما، وأنا اليوم ربما حممت وربما لم أحم فلا أجد لشئ مما أنا فيه ألما، أظن في نفسي أنه كذا ينبغي أن يكون.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة يقول: أعلم أن عمي إسماعيل طبخ قدرا بقرية روده وبوسته مغمى فقال لي ألق فيه شيئا من الملح فأخذت كفا من الملح وألقيت فيه فصار القدر كله مرا ولم يذق أحد منا منه، فقيل لي: لم ألقيت كثرة هذا الملح في هذا؟ فقلت لهم لم توقتوا
لي فيه شيئا ولم ادركم ألقى فيها.
قال أبو زرعة دخلت مرة البيت فنظرت فإذا قنينة فيها دهن شيرج فنظرت إليه فظننت أنه فقاع فأخذت القدح فصببت منه حتى قيل لي: هذا دهن، فنظرت فإذا هو دهن (1) .
أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ دِرْهَمٍ النَّهْدِيُّ
الحَافِظُ، الحُجَّةُ، الإِمَامُ، أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ مَوْلاَهُمْ، الكُوْفِيُّ، سِبْطُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الفَقِيْهِ.
حَدَّثَ عَنْ: إِسْرَائِيْلَ، وَوَرْقَاءَ، وَعِيْسَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَفُضَيْلِ بنِ مَرْزُوْقٍ، وَالحَسَنِ بنِ صَالِحٍ، وَالحَكَمِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الغَسِيْلِ، وَعَبْدِ العَزِيْزِ بنِ المَاجَشُوْنِ، وَمِنْدَلِ بنِ عَلِيٍّ، وَحِبَّانَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مَعْشَرٍ السِّنْدِيِّ، وَيَحْيَى بنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَزُهَيْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ، وَخَلْقٍ.
وَعَنْهُ: البُخَارِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيُوْسُفُ بنُ مُوْسَى، وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَهَارُوْنُ الحَمَّالُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الجَوْزَجَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ مُلاَعِبٍ، وَسَلَمَةُ بنُ شَبِيْبٍ، وَفَهْدُ بنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الحُنَيْنِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيْرٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ دَاوُدَ البَغْدَادِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ مَعِيْنٍ يَقُوْلُ لأَحَمْدَ بنِ حَنْبَلٍ:
إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَكْتُبَ عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ مِنْهُ شَيْء،
فَاكتُبْ عَنْ أَبِي غَسَّانَ.وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: لَيْسَ بِالكُوْفَةِ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي غَسَّانَ.
وَقَالَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: ثِقَةٌ، صَحِيْحُ الكِتَابِ، مِنَ العَابِدِيْنَ.
وَقَالَ أَيْضاً: كَانَ ثِقَةً، مُتَثَبِّتاً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ: أَبُو غَسَّانَ مُحَدِّثٌ، مِنْ أَئِمَةِ المُحَدِّثِيْنَ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ أَبُو غَسَّانَ يُمْلِي عَلَيْنَا مِنْ أَصْلِهِ، وَكَانَ لاَ يُمْلِي حَدِيْثاً حَتَّى يَقْرَأَه، وَكَانَ يَنحُو، لَمْ أَرَ بِالكُوْفَةِ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي غَسَّانَ، لاَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلاَ غَيْرُه، وَأَبُو غَسَّانَ أَتْقَنُ مِنْ إِسْحَاقَ بنِ مَنْصُوْرٍ، وَهُوَ مُتْقِنٌ، ثِقَةٌ، كَانَ لَهُ فَضلٌ وَصَلاَحٌ وَعِبَادَةٌ، وَصِحَّةُ حَدِيْثٍ وَاسْتقَامَةٌ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ سَجَّادَتَانِ، كُنْتُ إِذَا نَظَرتُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَبْرٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ: ثِقَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ.
قُلْتُ: حَدِيْثُه فِي كُلِّ الأُصُوْلِ، وَفِيْهِ أَدنَى تَشَيُّعٍ.أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يُوْسُفَ المُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ مَحْمُوْدٍ، أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَقِيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ النَّضْرِ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيّ، عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ: (أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُم) .
تَفَرَّدَ بِهِ: أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ.
رَوَاهُ: التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ عَنْ عَلِيِّ بنِ قَادِمٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الحُلْوَانِيِّ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، جَمِيْعاً عَنْ أَسْبَاطٍ.
وَصُبَيْحٌ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِمَعْرُوْفٍ.
أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ الغَازِيُّ، قَالَ:
سَأَلْتُ البُخَارِيَّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، قَالَ: وَعمَّاذَا تَسْأَلُ؟
قُلْتُ: التَّشَيُّعُ.
فَقَالَ: هُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَلَوْ رَأَيْتُم عُبَيْدَ اللهِ بنَ مُوْسَى، وَأَبَا نُعَيْمٍ، وَجَمَاعَةَ مَشَايِخِنَا الكُوْفِيِّيْنَ، لَمَا سَأَلْتُمُوْنَا عَنْ أَبِي غَسَّانَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ مُعَظِّمِيْنَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا يَنَالاَنِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَذَوِيْهِ.
رَضِيَ اللهُ عَنْ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ.
الحَافِظُ، الحُجَّةُ، الإِمَامُ، أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ مَوْلاَهُمْ، الكُوْفِيُّ، سِبْطُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ حَمَّادِ بنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الفَقِيْهِ.
حَدَّثَ عَنْ: إِسْرَائِيْلَ، وَوَرْقَاءَ، وَعِيْسَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَفُضَيْلِ بنِ مَرْزُوْقٍ، وَالحَسَنِ بنِ صَالِحٍ، وَالحَكَمِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الغَسِيْلِ، وَعَبْدِ العَزِيْزِ بنِ المَاجَشُوْنِ، وَمِنْدَلِ بنِ عَلِيٍّ، وَحِبَّانَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مَعْشَرٍ السِّنْدِيِّ، وَيَحْيَى بنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَزُهَيْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ، وَخَلْقٍ.
وَعَنْهُ: البُخَارِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيُوْسُفُ بنُ مُوْسَى، وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَهَارُوْنُ الحَمَّالُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الجَوْزَجَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ مُلاَعِبٍ، وَسَلَمَةُ بنُ شَبِيْبٍ، وَفَهْدُ بنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الحُنَيْنِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيْرٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ دَاوُدَ البَغْدَادِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ مَعِيْنٍ يَقُوْلُ لأَحَمْدَ بنِ حَنْبَلٍ:
إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَكْتُبَ عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ مِنْهُ شَيْء،
فَاكتُبْ عَنْ أَبِي غَسَّانَ.وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: لَيْسَ بِالكُوْفَةِ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي غَسَّانَ.
وَقَالَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: ثِقَةٌ، صَحِيْحُ الكِتَابِ، مِنَ العَابِدِيْنَ.
وَقَالَ أَيْضاً: كَانَ ثِقَةً، مُتَثَبِّتاً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ: أَبُو غَسَّانَ مُحَدِّثٌ، مِنْ أَئِمَةِ المُحَدِّثِيْنَ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ أَبُو غَسَّانَ يُمْلِي عَلَيْنَا مِنْ أَصْلِهِ، وَكَانَ لاَ يُمْلِي حَدِيْثاً حَتَّى يَقْرَأَه، وَكَانَ يَنحُو، لَمْ أَرَ بِالكُوْفَةِ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي غَسَّانَ، لاَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلاَ غَيْرُه، وَأَبُو غَسَّانَ أَتْقَنُ مِنْ إِسْحَاقَ بنِ مَنْصُوْرٍ، وَهُوَ مُتْقِنٌ، ثِقَةٌ، كَانَ لَهُ فَضلٌ وَصَلاَحٌ وَعِبَادَةٌ، وَصِحَّةُ حَدِيْثٍ وَاسْتقَامَةٌ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ سَجَّادَتَانِ، كُنْتُ إِذَا نَظَرتُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَبْرٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ: ثِقَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ.
قُلْتُ: حَدِيْثُه فِي كُلِّ الأُصُوْلِ، وَفِيْهِ أَدنَى تَشَيُّعٍ.أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يُوْسُفَ المُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ مَحْمُوْدٍ، أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَقِيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ النَّضْرِ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيّ، عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ: (أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُم) .
تَفَرَّدَ بِهِ: أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ.
رَوَاهُ: التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ عَنْ عَلِيِّ بنِ قَادِمٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الحُلْوَانِيِّ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، جَمِيْعاً عَنْ أَسْبَاطٍ.
وَصُبَيْحٌ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِمَعْرُوْفٍ.
أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ الغَازِيُّ، قَالَ:
سَأَلْتُ البُخَارِيَّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، قَالَ: وَعمَّاذَا تَسْأَلُ؟
قُلْتُ: التَّشَيُّعُ.
فَقَالَ: هُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَلَوْ رَأَيْتُم عُبَيْدَ اللهِ بنَ مُوْسَى، وَأَبَا نُعَيْمٍ، وَجَمَاعَةَ مَشَايِخِنَا الكُوْفِيِّيْنَ، لَمَا سَأَلْتُمُوْنَا عَنْ أَبِي غَسَّانَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ مُعَظِّمِيْنَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا يَنَالاَنِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَذَوِيْهِ.
رَضِيَ اللهُ عَنْ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ.