عامر بن عبد الله بن الجراح
ابن هلال بن أُهَيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبيدة القرشي الفهري أمين الأمة، وأحد العشرة الذين شهد لهم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، ومات وهو عنهم راضٍ.
وكان أحد الأمراء الذين وُلوا فتح دمشق، وشهدوا اليرموك، ثم أفضت إليه إمرة الشام.
حدث أبو عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب. واعلموا أن شرّ الناس الذين اتخذوا قبورأنبيائهم مساجد ".
وعن أبي عبيدة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال، وإن أُنذِرُكموه. فوصفه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لعله سيدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. قالوا: يا رسول الله، فكيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم؟ قال: وخير ".
شهد أبو عبيدة بدراً وأُحُداً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيتاه، فحسَّنتا فاه. فقيل: ما رُئي هَتْم قط أحسن من هَتْم أبي عبيدة.
قالوا: وشهد الخندق والمشاهد كلها. وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذي القصة سرية في أربعين رجلاً.
وكان يقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح. ودعا أبو بكر الصديق يوم توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، وقال: قد رضيت لكم أحدهما. وولاه عمر بن الخطاب الشام، وفتح الله عليه اليرموك والجابية.
وأم أبي عبيدة أميمة بنت غَنْم بن جابر بن عبد العزي. ودَرَج وَلَد أبي عبيدة بن الجراح، فليس له عقب.
وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة. وكان أبو عبيدة يُسمى القوي الأمين.
وكان رجلاً نحيفاً معروق الوجه، خفيف اللحية، طوالاً، أجنأ، أثرم الثنتين، وكان يخضب. شهد بدراً وهو ابن إحدى وأربعين سنة. ومات في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
حدث يزيد بن رومان قال: انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عليهم الإسلام، وأبنأهم بشرائعه، فأسلموا جميعاً في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل.
قال عبد الله بن شوذب:
جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر قصَدَه فقتله، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الآية حين قتل أباه: " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أَبْنَاءَهُمْ أوْ إْخْوَانَهُمْ أَوْ عَشيْرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوْبِهِمُ الإِيْمانَ " الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أخبرني أبي قال: كنت في أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل دونه أُراه قال: ويحميه قلت: كن طلحة، حين فاتني ما فاتني، وبيني وبين المشركين رجل لأنا أقرب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، وهو يخطف السعي تخطُّفاً لا أخطفه، حتى دُفعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا حلقتان من المغفر قد نشبتا في وجهه، وإذا هو أبو عبيدة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم صاحبك يريد: طلحة وقد نزف فلم يُنظر إليه، فأقبلنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرادني أبو عبيدة على أن أتركه، فلم يزل بي حتى تركته، فأكب على
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حلقة قد نشبت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكره أن يزعزعها فيشتكي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزمَ عليها بفيه ثم نهض عليها، فندرت ثنيته، ونزعها، فقلت: دعني، فأبى وطلب إلى، فأكبّ على الأخرى فصنع بها مثل ذلك، فنزعها، وندرت ثنيته، فكان أبو عبيدة أهتم الثنيَّتين.
قال موسى بن عقبة: ثم غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل، من مشارف الشام، في بَلِيّ وسَعْد الله، ومن يليهم من قضاعة، فخاف عمرو بن العاص من جانبه الدي هو به، فعبث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فندّب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين الأولين، فانتُدب فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وأمدّ بهم عمرو بن العاص. فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمددتُ بكم. فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجلاً حسن الخلق، لين الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده قال: تعلَّم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك لئن عصيتني لأطيعنَّك فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
وعن ابن مسعود قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران. قال: وأرادا أن يلاعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه. فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا أبداً. قال: فأتيناه فقلنا: لا نلاعنك ولكنا نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً. قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن رجلاً أميناً، حقّ أمين، حقّ أمين. قال: فاستشرف لها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. قال: فلما قفا قال: هذا أمين هذه الأمة.
وعن أنس أن أهل اليمن لما قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السُّنّة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمة.
وفي رواية: فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال: هذا أمين هذه الأمة.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وفي رواية: " وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرأهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعنه في حديث بمعناه قال: وطعن في خاصرته وقال: هذه خاصرة مؤمنة.
وعن عمر بن الخطاب قال:
ما تعرضت للإمارة قط أُحِبّ أن أكون عليها إلا مرة واحدة، فإن قوماً أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون عاملهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً، حقّ أمين. قال عمر: فتعرضت لهذا لتدركني كلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأمّر أبا عبيدة وتركني.
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سَرْغ حُدِّث أن بالشام وباءً شديداً. قال: بلغني أن شدة الوباء بالشام فقلت: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حيّ
استخلفته، فإن سألني الله عزّ وجلّ: لم استخلفته على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن لكل نبيّ أميناً، وأميني أبو عبيدة بن الجراح "، فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال عُليا قريش؟! - يعنون: بني فهر ثم قال: وإن أدركني أجلي، وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي عزّ وجلّ: لمَ استخلفته "؟ قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه يُحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نَبْذَة ".
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي عبيدة ثلاث كلمات، لأن يكون قالهن لي أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم. قالوا: وما هن يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام أبو عبيدة، فأتبعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره ثم أقبل علينا وقال: إن هاهنا لكتفَيْن مؤمنتَيْن.
وخرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نتحدث، فسكتنا، فظن أنا كنا في شيء كرهنا أن نسمعه. قال: فسكت ساعة لا يتكلم، ثم قال: ما من أصحابي إلا وقد كنت قائلاً فيه: لابدّ، إلا أبا عبيدة.
قال: وقدم علينا وفد نجران، فقالوا: يا محمد، أبعث لنا من يأخذ لك الحق، ويعطيناه، فقال: والذي بعثني بالحقّ لأرسلن معكم القوي الأمين. قال أبو بكر: فما تعرضت للإمارة غيرها، فرفعت رأسي لأُرِيَه نفسي، فقال: قم يا أبا عبيدة، فبعثه معهم.
وعن علي بن كثير أنا أبا بكر قال لأبي عبيدة: قم أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنك أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: ما كنت لأفعل أن أصلي بين يدي رجل أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأّمنا حتى قُبض.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عشرة من قريش في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ".
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أُسيد بن حُضَير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شمّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجَموح ".
وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحبّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
قال يزيد: قلت: ثم من؟ قال: فسكتت.
وعن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قال: مَن مِن الرجال؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم أبو عبيدة بن الجراح.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من أصحابي أحد إلا وقد وجدت عليه، ولو شئت أن أقول فيه إلا أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: ثلاثة من قريش أحسن قريش أخلاقاً، وأصبحها وجوهاً، وأشدّها حياء. إن
حدَّثوا لم يكذِبوا، وإن حدثتهم بحق أو بباطل لم يكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ورضي الله عنهم.
وكان أبو بكر رضي الله عنه ولّى أبا عبيدة بيت المال، ثم وجهه للشام، ففي سنة ثلاث عشرة بويع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزل خالد بن الوليد عن الشام وولّى أبا عبيدة. وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحاً على يدي أبي عبيدة، في ذي القعدة، ويقال: في سنة خمس عشرة.
وقال ابن الكلبي:
صالح أبو عبيد أهل حلب، وكتب لهم كتاباً، ثم شخص أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد فحاصر أهل إيلياء، فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك، ثم وقع طاعون عَمَواس فمات أبو عبيدة، واستخلف معاذاً.
وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: ذكر لي من دخل عليه فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال: يبكيني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوماً ما: يفتح الله على المسلمين، ويفيء عليهم حتى ذكر الشام، فقال: إن ينسِىء الله في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة، خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويَرِه عليهم. وحسبك من الدوابّ ثلاثة: دابة لرجلك، ودابة لثقَلك، ودابة لغلامك. ثم هذا أبا، أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلاً ودوابً، فكيف ألقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا، وقد عهد إلينا، وأوصانا، فقال: إنّ أحبَّكم إليّ وأقربكم مني مَن لقيني على مثل الحال التي فارقني عليها؟! هذه رواية، وهي منقطعة، والمحفوظ أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان متقللاً.
حدث هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض
فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: مَن؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه وسأله، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليها، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر بن الخطاب: لو اتخذت متاعاً أو قال شيئاً قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل.
وقيل: إن عمر بلغه أبا عبيدة يُسبغ على عياله وقد ظهرت شارته، فنقص من عطاياه التي كان يجري عليه، ثم سأل عنه، فقيل: قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة، ما أعفّ وأصبر، هل يؤخذَن على رجل أسبغنا عليه فأسبغ على عياله، وأمسكنا عنه فصبر واحتسب، فرد عليه ما كان حبس وأجراه عليه.
وقيل: إن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي، ما تريد إلا أن تعصِّر عينيك عليّ، قال: فدخل منزله فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لِبْداً وصحفة وشنّاً وأنت أمير؟ أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جُونة فأخذ منها كُسيرات، فبكى عمر. فقال له أبو عبيدة، قد قلت: إنك ستعصّر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين، يكفيك ما بلغك المقيل. قال عمر: غيّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة.
وروي أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول: ألا رب مبيّض لثيابه، مدنّس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها غداً مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمر حسنة لَعَلَت فوق سيئاته حتى تقهرهن.
وعن طارق بن شهاب قال: كنا عند أبي موسى فقال لنا ذات يوم: لا يضركم أن تخفوا عني، فإن هذا الداء قد
أصاب في أهلي يعني الطاعون فمن شاء أن يعبره فليفعل، واحذروا اثنتين: لا يقولن قائل إن هو جلس فعوفي الخارجُ: لو كنت خارجت فعوفيت كما عوفي فلان، ولا يقولن الخارج إن هو عوفي وأصيب الذي جلس: لو كنت جلست أُصبت كما أصيب فلان، وإني سأحدثكم بما ينبغي للناس من خروج هذا الطاعون: إن أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إني قد بدت لي حاجة إليك فلا غنى بي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك أن تمشي حتى تركب إليّ، فقال أبو عبيدة: قد علمت حاجة أميرة المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب إليه: إن في جندٍ من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وأنك تستبقني من ليس بباق، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمتك، وائذن لي في الجلوس.
فلما قرأ عمر كتابه فاضت عيناه بكى، فقال له من عند: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، كأنْ قد. قال: فكتب إليه عمر: إن الأرض أرضك، إن الجابية أرض نَزِهة، فاظهَر بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أما هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه. قال: فأمرني أبو أبوىء الناس منازلهم. قال: فطّعنت امرأتي، فجئت إلى أبي عبيدة فقلت: قد كان في أهلي بعض الغرض شغلني عن الوجه الذي بعثتني له، قال. لعل المرأة أصيبت؟ فقلت: أجل، فانطلق هو يبوّىء الناس منازلهم وأمرني أن أُرْجلهم على إثره، فطعن أبو عبيدة حين أرسله فقال: لقد وجدت في قدمي وخزة، فلا أدري لعل هذا الذي أصابني قد أصابني، فانطلق أبو عبيدة فبوّأ الناس منازلهم، وارتحل الناس على إثره. وكان انكشاف الطاعون، وتوفي أبو عبيدة رحمة الله عليه.
وفي حديث بمعناه: وزعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فلم يبق إلا ستة آلاف رجل. ماتوا.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة بن الجراح بالأردن، وبها قبره، دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وأتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحُجّوا، واعتمروا، وتواصَوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن أمرأ لو عُمِّر ألف حل ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي تَرَونْ. إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميّتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده، والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ بن جبل: صَلِّ بالناس، ومات. فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن عبداً لايلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مُرتَهَن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث، وهو الذنب العظيم. إنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أن رأيت عبداً أبرّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشد حباً للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحّموا عليه، رحمه الله، واحضروا الصلاة عليه.
توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان يصبغ رأسه بالحناء والكتَم، وكان له عقيصتان.
وقيل: توفي بفحل، وقبره بعمواس، وهي من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. وهو وهم.
وقيل: قبر معاذ بن جبل بقصير خالد بالغور، وقبر أبي عبيدة ببيسان.
ابن هلال بن أُهَيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبيدة القرشي الفهري أمين الأمة، وأحد العشرة الذين شهد لهم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، ومات وهو عنهم راضٍ.
وكان أحد الأمراء الذين وُلوا فتح دمشق، وشهدوا اليرموك، ثم أفضت إليه إمرة الشام.
حدث أبو عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب. واعلموا أن شرّ الناس الذين اتخذوا قبورأنبيائهم مساجد ".
وعن أبي عبيدة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال، وإن أُنذِرُكموه. فوصفه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لعله سيدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. قالوا: يا رسول الله، فكيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم؟ قال: وخير ".
شهد أبو عبيدة بدراً وأُحُداً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيتاه، فحسَّنتا فاه. فقيل: ما رُئي هَتْم قط أحسن من هَتْم أبي عبيدة.
قالوا: وشهد الخندق والمشاهد كلها. وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذي القصة سرية في أربعين رجلاً.
وكان يقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح. ودعا أبو بكر الصديق يوم توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، وقال: قد رضيت لكم أحدهما. وولاه عمر بن الخطاب الشام، وفتح الله عليه اليرموك والجابية.
وأم أبي عبيدة أميمة بنت غَنْم بن جابر بن عبد العزي. ودَرَج وَلَد أبي عبيدة بن الجراح، فليس له عقب.
وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة. وكان أبو عبيدة يُسمى القوي الأمين.
وكان رجلاً نحيفاً معروق الوجه، خفيف اللحية، طوالاً، أجنأ، أثرم الثنتين، وكان يخضب. شهد بدراً وهو ابن إحدى وأربعين سنة. ومات في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
حدث يزيد بن رومان قال: انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عليهم الإسلام، وأبنأهم بشرائعه، فأسلموا جميعاً في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل.
قال عبد الله بن شوذب:
جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر قصَدَه فقتله، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الآية حين قتل أباه: " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أَبْنَاءَهُمْ أوْ إْخْوَانَهُمْ أَوْ عَشيْرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوْبِهِمُ الإِيْمانَ " الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أخبرني أبي قال: كنت في أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل دونه أُراه قال: ويحميه قلت: كن طلحة، حين فاتني ما فاتني، وبيني وبين المشركين رجل لأنا أقرب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، وهو يخطف السعي تخطُّفاً لا أخطفه، حتى دُفعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا حلقتان من المغفر قد نشبتا في وجهه، وإذا هو أبو عبيدة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم صاحبك يريد: طلحة وقد نزف فلم يُنظر إليه، فأقبلنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرادني أبو عبيدة على أن أتركه، فلم يزل بي حتى تركته، فأكب على
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حلقة قد نشبت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكره أن يزعزعها فيشتكي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزمَ عليها بفيه ثم نهض عليها، فندرت ثنيته، ونزعها، فقلت: دعني، فأبى وطلب إلى، فأكبّ على الأخرى فصنع بها مثل ذلك، فنزعها، وندرت ثنيته، فكان أبو عبيدة أهتم الثنيَّتين.
قال موسى بن عقبة: ثم غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل، من مشارف الشام، في بَلِيّ وسَعْد الله، ومن يليهم من قضاعة، فخاف عمرو بن العاص من جانبه الدي هو به، فعبث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فندّب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين الأولين، فانتُدب فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وأمدّ بهم عمرو بن العاص. فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمددتُ بكم. فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجلاً حسن الخلق، لين الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده قال: تعلَّم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك لئن عصيتني لأطيعنَّك فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
وعن ابن مسعود قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران. قال: وأرادا أن يلاعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه. فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا أبداً. قال: فأتيناه فقلنا: لا نلاعنك ولكنا نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً. قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن رجلاً أميناً، حقّ أمين، حقّ أمين. قال: فاستشرف لها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. قال: فلما قفا قال: هذا أمين هذه الأمة.
وعن أنس أن أهل اليمن لما قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السُّنّة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمة.
وفي رواية: فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال: هذا أمين هذه الأمة.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وفي رواية: " وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرأهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعنه في حديث بمعناه قال: وطعن في خاصرته وقال: هذه خاصرة مؤمنة.
وعن عمر بن الخطاب قال:
ما تعرضت للإمارة قط أُحِبّ أن أكون عليها إلا مرة واحدة، فإن قوماً أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون عاملهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً، حقّ أمين. قال عمر: فتعرضت لهذا لتدركني كلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأمّر أبا عبيدة وتركني.
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سَرْغ حُدِّث أن بالشام وباءً شديداً. قال: بلغني أن شدة الوباء بالشام فقلت: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حيّ
استخلفته، فإن سألني الله عزّ وجلّ: لم استخلفته على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن لكل نبيّ أميناً، وأميني أبو عبيدة بن الجراح "، فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال عُليا قريش؟! - يعنون: بني فهر ثم قال: وإن أدركني أجلي، وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي عزّ وجلّ: لمَ استخلفته "؟ قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه يُحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نَبْذَة ".
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي عبيدة ثلاث كلمات، لأن يكون قالهن لي أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم. قالوا: وما هن يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام أبو عبيدة، فأتبعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره ثم أقبل علينا وقال: إن هاهنا لكتفَيْن مؤمنتَيْن.
وخرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نتحدث، فسكتنا، فظن أنا كنا في شيء كرهنا أن نسمعه. قال: فسكت ساعة لا يتكلم، ثم قال: ما من أصحابي إلا وقد كنت قائلاً فيه: لابدّ، إلا أبا عبيدة.
قال: وقدم علينا وفد نجران، فقالوا: يا محمد، أبعث لنا من يأخذ لك الحق، ويعطيناه، فقال: والذي بعثني بالحقّ لأرسلن معكم القوي الأمين. قال أبو بكر: فما تعرضت للإمارة غيرها، فرفعت رأسي لأُرِيَه نفسي، فقال: قم يا أبا عبيدة، فبعثه معهم.
وعن علي بن كثير أنا أبا بكر قال لأبي عبيدة: قم أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنك أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: ما كنت لأفعل أن أصلي بين يدي رجل أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأّمنا حتى قُبض.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عشرة من قريش في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ".
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أُسيد بن حُضَير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شمّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجَموح ".
وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحبّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
قال يزيد: قلت: ثم من؟ قال: فسكتت.
وعن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قال: مَن مِن الرجال؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم أبو عبيدة بن الجراح.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من أصحابي أحد إلا وقد وجدت عليه، ولو شئت أن أقول فيه إلا أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: ثلاثة من قريش أحسن قريش أخلاقاً، وأصبحها وجوهاً، وأشدّها حياء. إن
حدَّثوا لم يكذِبوا، وإن حدثتهم بحق أو بباطل لم يكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ورضي الله عنهم.
وكان أبو بكر رضي الله عنه ولّى أبا عبيدة بيت المال، ثم وجهه للشام، ففي سنة ثلاث عشرة بويع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزل خالد بن الوليد عن الشام وولّى أبا عبيدة. وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحاً على يدي أبي عبيدة، في ذي القعدة، ويقال: في سنة خمس عشرة.
وقال ابن الكلبي:
صالح أبو عبيد أهل حلب، وكتب لهم كتاباً، ثم شخص أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد فحاصر أهل إيلياء، فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك، ثم وقع طاعون عَمَواس فمات أبو عبيدة، واستخلف معاذاً.
وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: ذكر لي من دخل عليه فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال: يبكيني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوماً ما: يفتح الله على المسلمين، ويفيء عليهم حتى ذكر الشام، فقال: إن ينسِىء الله في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة، خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويَرِه عليهم. وحسبك من الدوابّ ثلاثة: دابة لرجلك، ودابة لثقَلك، ودابة لغلامك. ثم هذا أبا، أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلاً ودوابً، فكيف ألقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا، وقد عهد إلينا، وأوصانا، فقال: إنّ أحبَّكم إليّ وأقربكم مني مَن لقيني على مثل الحال التي فارقني عليها؟! هذه رواية، وهي منقطعة، والمحفوظ أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان متقللاً.
حدث هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض
فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: مَن؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه وسأله، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليها، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر بن الخطاب: لو اتخذت متاعاً أو قال شيئاً قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل.
وقيل: إن عمر بلغه أبا عبيدة يُسبغ على عياله وقد ظهرت شارته، فنقص من عطاياه التي كان يجري عليه، ثم سأل عنه، فقيل: قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة، ما أعفّ وأصبر، هل يؤخذَن على رجل أسبغنا عليه فأسبغ على عياله، وأمسكنا عنه فصبر واحتسب، فرد عليه ما كان حبس وأجراه عليه.
وقيل: إن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي، ما تريد إلا أن تعصِّر عينيك عليّ، قال: فدخل منزله فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لِبْداً وصحفة وشنّاً وأنت أمير؟ أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جُونة فأخذ منها كُسيرات، فبكى عمر. فقال له أبو عبيدة، قد قلت: إنك ستعصّر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين، يكفيك ما بلغك المقيل. قال عمر: غيّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة.
وروي أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول: ألا رب مبيّض لثيابه، مدنّس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها غداً مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمر حسنة لَعَلَت فوق سيئاته حتى تقهرهن.
وعن طارق بن شهاب قال: كنا عند أبي موسى فقال لنا ذات يوم: لا يضركم أن تخفوا عني، فإن هذا الداء قد
أصاب في أهلي يعني الطاعون فمن شاء أن يعبره فليفعل، واحذروا اثنتين: لا يقولن قائل إن هو جلس فعوفي الخارجُ: لو كنت خارجت فعوفيت كما عوفي فلان، ولا يقولن الخارج إن هو عوفي وأصيب الذي جلس: لو كنت جلست أُصبت كما أصيب فلان، وإني سأحدثكم بما ينبغي للناس من خروج هذا الطاعون: إن أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إني قد بدت لي حاجة إليك فلا غنى بي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك أن تمشي حتى تركب إليّ، فقال أبو عبيدة: قد علمت حاجة أميرة المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب إليه: إن في جندٍ من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وأنك تستبقني من ليس بباق، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمتك، وائذن لي في الجلوس.
فلما قرأ عمر كتابه فاضت عيناه بكى، فقال له من عند: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، كأنْ قد. قال: فكتب إليه عمر: إن الأرض أرضك، إن الجابية أرض نَزِهة، فاظهَر بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أما هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه. قال: فأمرني أبو أبوىء الناس منازلهم. قال: فطّعنت امرأتي، فجئت إلى أبي عبيدة فقلت: قد كان في أهلي بعض الغرض شغلني عن الوجه الذي بعثتني له، قال. لعل المرأة أصيبت؟ فقلت: أجل، فانطلق هو يبوّىء الناس منازلهم وأمرني أن أُرْجلهم على إثره، فطعن أبو عبيدة حين أرسله فقال: لقد وجدت في قدمي وخزة، فلا أدري لعل هذا الذي أصابني قد أصابني، فانطلق أبو عبيدة فبوّأ الناس منازلهم، وارتحل الناس على إثره. وكان انكشاف الطاعون، وتوفي أبو عبيدة رحمة الله عليه.
وفي حديث بمعناه: وزعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فلم يبق إلا ستة آلاف رجل. ماتوا.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة بن الجراح بالأردن، وبها قبره، دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وأتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحُجّوا، واعتمروا، وتواصَوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن أمرأ لو عُمِّر ألف حل ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي تَرَونْ. إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميّتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده، والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ بن جبل: صَلِّ بالناس، ومات. فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن عبداً لايلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مُرتَهَن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث، وهو الذنب العظيم. إنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أن رأيت عبداً أبرّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشد حباً للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحّموا عليه، رحمه الله، واحضروا الصلاة عليه.
توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان يصبغ رأسه بالحناء والكتَم، وكان له عقيصتان.
وقيل: توفي بفحل، وقبره بعمواس، وهي من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. وهو وهم.
وقيل: قبر معاذ بن جبل بقصير خالد بالغور، وقبر أبي عبيدة ببيسان.