القاسم بن عثمان
أبو عبد الملك العبدي الجوعي الزاهد روى عن عبد الله بن نافع المدني بسنده عن ابن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قاسم بن عثمان الجوعي من جلة المشايخ.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان يقدم في الفضل على ابن أبي الحواري.
وقال أبو جعفر الحداد: دخلت دمشق، فوقفت على قاسم الجوعي وهو يتكلم، وهو شيخ الدمشقيين، فسمعته يتكلم في الإيثار، فدخل عليه رجل من خارج الحلقة حتى جاء إلى القاسم وفي
رأسه عمامة، فأخذها، وجعل يلفها على رأسه، وقاسم يدير له رأسه حتى أخذها، ولم يكلمه القاسم، ولا أحد من أصحابه، ولم يقطع كلامه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: دخلت دمشق على كتبة الحديث، فمررت بحلقة قاسم الجوعي، فرأيت نفراً جلوساًحوله، وهو يتكلم عليهم، فهالني منظرهم، فتقدمت إليهم، فسمعته يقول: اغتنموا من أهل زمانكم خمساً، منها: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ذممتم لم تجزعو، وإن كذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فائدتي من دمشق.
قدم يحيى بن أكثم مع المأمون إلى دمشق سنة ست عشرة ومائتين، فبعث إلى أحمد بن أبي الحواري، فسمع منه، وجالسه، واستعذبه، وخلع عليه ثياباً سرية، وقلنسوةً وشيئاً من قلانسه طويلة، ودفع إليه خمسة آلاف درهم، وقال: يا أبا الحسن، فرق هذه حيث ترى. فدخل بها المسجد، وصلى صلوات بالقلنسوة، وأقامت عليها أياماً، فقال بعض جلساء قاسم لقاسم: يا معلم، هذا أحمد بن أبي الحواري، أخذ دراهمه، ولبس قلنسوته. فالتفت قاسم، فنظر إليه، فقال: أخذ دراهم اللصوص، ولبس قلانس اللصوص! وكان قاسم إذا راح إلى المسجد في وقت الزوال يدخل من باب الفراديس، ويأخذ في الأسطوان الغربي حتى يصير إلى المصعد، ثم يأخذ قبلةً حتى يدخل من أقصى الأبواب إلى مجلسه. فلما كان من الغد، من يوم نظره إلى أحمد، دخل من باب الفراديس حتى وافى باب القبة، ثم مر حتى مر بأحمد وهو جالس يتشهد في ركوعه، والقلنسوة على رأسه، فلما حاذى به رفع يده فلطم القلنسوة، فالتفت أحمد بن أبي الحواري، فنظر إليه فسلم، ثم التفت إلى ابنه إبراهيم، فقال: يا إبراهيم، خذ القلنسوة، وامض بها إلى البيت. فقال له من رآه: يا أبا الحسن، ما رأيت ما فعل بك هذا الرجل؟! فقال: رحمه الله!
قال سعيد بن عبد العزيز الحلبي: سمعت قاسم الجوعي، وقال له رجل: ادع لي، فإن السلطان يطلبني وأنا مظلوم، قال: ما أخدعك، أنا ما أدعو لنفسي، أنا أعرف أيش تحت ثيابي! قال ابن سيد حمدويه:
كان أستاذي قاسم الجوعي عند باب الساعات في الجامع، قال: من يمضي بكتابي إلى بعض إخواني إلى صور؟ فقلت: أنا يا أستاذ. فأخذت الكتاب، ودعا لي، ثم سرت إلى صور، فدفعت الكتاب إلى الشيخ، ثم قدم لي شيئاً، فأكلت. وكانت ليلة مقمرة، وكنت أشرف على البحر، فإذا برجل قد دخل على الشيخ، فسلم عليه وقال له: هذا كتاب قاسم الجوعي، يقرأ عليك فيه السلام. فلما صليت الغداة ناولني الشيخ الكتاب، فقلت له: يا سيدي، من كان ذلك الرجل الذي دخل عليك البارحة، وسلم عليك، وسلمت أنت عليه؟ فقال: الخضر - عليه السلام - فأخذ الكتاب، فزاد فيه شيئاً.
ثم قدمت على أستاذي قاسم الجوعي، فقال لي: إيش الذي منعك أن تمضي بكتابي؟ فقلت له: قد مضيت، وهذا جواب الكتاب، فقرأه، ثم قال لي: أبشر، فإن الشيخ قد كتب إلي يوصيني بك، ويقول: إن هذا الغلام قد رأى أخانا الخضر - عليه السلام - فقلت: هذا ببركتك. ودعا لي.
قال القاسم بن عثمان الجوعي: التوبة رد المظالم، وترك المعاصي، وطلب الحلال، وأداء الفرائض.
وقال: رأس الأعمال كلها الرضى عن الله، والورع عماد الدين، والجوع مخ العبادة، والحصن الحصين ضبط اللسان. ومن شكر الله حشر من ميدان الزيادة، ومن تم عمله عرف المصائب.
وقال: السلامة كلها في اعتزال الناس، والفرح كله في الخلوة بالله - عز وجل.
وقال: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى، وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى، وما بقي.
وقال: إن لله عباداً قصدوا الله بهمهم، وأفردوه بطاعتهم، واكتفوا به في توكلهم،
ورضوا به عوضاً من كل ما خطر على قلوبهم من أمر الدنيا؛ فليس لهم حبيب غيره، ولا قرة عين إلا فيما قرب إليه.
وقال: الاعتبار بالنطق، والذكر باللسان، والفكر بالقلوب، والمراقبة أصل الحذر، والحياء جامع لكل خير.
وقال: رأيت في الطواف حول البيت رجلاً، فتقربت منه، فإذا هو لا يزيد على قوله: اللهم قضيت حاجة المحتاجين وحاجتي لم تقض. فقلت له: مالك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك: كنا سبعة رفقاء من بلدان شتى، غزونا أرض العدو، فاستأسرونا كلنا، فاعتزل بنا لتضرب أعناقنا. فنظرت إلى السماء، فإذا سبعة أبواب مفتحةً، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية، فقدم رجل منا، فضربت عنقه، فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض، حتى ضربت أعناق ستة، وبقيت أنا، وبقي باب وجارية، فلما قدمت لتضرب عنقي استوهبني بعض رجاله، فوهبني له، فسمعتها تقول: أي شيء فاتك يا محروم؟! وأغلقت الباب. وأنا يا أخي متحسر على ما فاتني.
قال قاسم بن عثمان: أراه أفضلهم؛ لأنه رأى ما لم يروا، وترك يعمل على الشوق. ومن شعره: " مخلع البسيط "
اصبر على كسرة وملح ... فالصبر مفتاح كل زين
واقنع فإن القنوع عز ... لا خير في شهوة بدين
قال أبو الحسن محمد بن الفيض: قام أبو بكر بن عتاب في مجلس قاسم بن عثمان الجوعي، وكان غلامً جميلاً حسن الوجه، وكان صفوان بن صالح جالساً، وسليمان بن عبد الرحمن جالس عند باب المئذنة وغيرهم، فقال: يا قوم، هذا قاسم، يا أبا عبد الملك، ويا أبا أيوب، دخلت إليه البيت، فجذبني، وقبلني، وأراد أن يفعل بي كذا، وكذا حتى انفلت منه.
قال أبو الحسن بن الفيض: وكنت حينئذ صغيراً في المجلس، فوثب إليه رجال، فضربوه، وعنفوه في ذلك، وضربه أبوه، وعنفه في ذلك.
قال أبو الحسن: كان القاسم أورع من ذلك، وإنما أراد أن يوقع عليه بذلك أمراً.
توفي القاسم بن عثمان سنة ثمان وأربعين ومائتين.
أبو عبد الملك العبدي الجوعي الزاهد روى عن عبد الله بن نافع المدني بسنده عن ابن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قاسم بن عثمان الجوعي من جلة المشايخ.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان يقدم في الفضل على ابن أبي الحواري.
وقال أبو جعفر الحداد: دخلت دمشق، فوقفت على قاسم الجوعي وهو يتكلم، وهو شيخ الدمشقيين، فسمعته يتكلم في الإيثار، فدخل عليه رجل من خارج الحلقة حتى جاء إلى القاسم وفي
رأسه عمامة، فأخذها، وجعل يلفها على رأسه، وقاسم يدير له رأسه حتى أخذها، ولم يكلمه القاسم، ولا أحد من أصحابه، ولم يقطع كلامه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: دخلت دمشق على كتبة الحديث، فمررت بحلقة قاسم الجوعي، فرأيت نفراً جلوساًحوله، وهو يتكلم عليهم، فهالني منظرهم، فتقدمت إليهم، فسمعته يقول: اغتنموا من أهل زمانكم خمساً، منها: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ذممتم لم تجزعو، وإن كذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فائدتي من دمشق.
قدم يحيى بن أكثم مع المأمون إلى دمشق سنة ست عشرة ومائتين، فبعث إلى أحمد بن أبي الحواري، فسمع منه، وجالسه، واستعذبه، وخلع عليه ثياباً سرية، وقلنسوةً وشيئاً من قلانسه طويلة، ودفع إليه خمسة آلاف درهم، وقال: يا أبا الحسن، فرق هذه حيث ترى. فدخل بها المسجد، وصلى صلوات بالقلنسوة، وأقامت عليها أياماً، فقال بعض جلساء قاسم لقاسم: يا معلم، هذا أحمد بن أبي الحواري، أخذ دراهمه، ولبس قلنسوته. فالتفت قاسم، فنظر إليه، فقال: أخذ دراهم اللصوص، ولبس قلانس اللصوص! وكان قاسم إذا راح إلى المسجد في وقت الزوال يدخل من باب الفراديس، ويأخذ في الأسطوان الغربي حتى يصير إلى المصعد، ثم يأخذ قبلةً حتى يدخل من أقصى الأبواب إلى مجلسه. فلما كان من الغد، من يوم نظره إلى أحمد، دخل من باب الفراديس حتى وافى باب القبة، ثم مر حتى مر بأحمد وهو جالس يتشهد في ركوعه، والقلنسوة على رأسه، فلما حاذى به رفع يده فلطم القلنسوة، فالتفت أحمد بن أبي الحواري، فنظر إليه فسلم، ثم التفت إلى ابنه إبراهيم، فقال: يا إبراهيم، خذ القلنسوة، وامض بها إلى البيت. فقال له من رآه: يا أبا الحسن، ما رأيت ما فعل بك هذا الرجل؟! فقال: رحمه الله!
قال سعيد بن عبد العزيز الحلبي: سمعت قاسم الجوعي، وقال له رجل: ادع لي، فإن السلطان يطلبني وأنا مظلوم، قال: ما أخدعك، أنا ما أدعو لنفسي، أنا أعرف أيش تحت ثيابي! قال ابن سيد حمدويه:
كان أستاذي قاسم الجوعي عند باب الساعات في الجامع، قال: من يمضي بكتابي إلى بعض إخواني إلى صور؟ فقلت: أنا يا أستاذ. فأخذت الكتاب، ودعا لي، ثم سرت إلى صور، فدفعت الكتاب إلى الشيخ، ثم قدم لي شيئاً، فأكلت. وكانت ليلة مقمرة، وكنت أشرف على البحر، فإذا برجل قد دخل على الشيخ، فسلم عليه وقال له: هذا كتاب قاسم الجوعي، يقرأ عليك فيه السلام. فلما صليت الغداة ناولني الشيخ الكتاب، فقلت له: يا سيدي، من كان ذلك الرجل الذي دخل عليك البارحة، وسلم عليك، وسلمت أنت عليه؟ فقال: الخضر - عليه السلام - فأخذ الكتاب، فزاد فيه شيئاً.
ثم قدمت على أستاذي قاسم الجوعي، فقال لي: إيش الذي منعك أن تمضي بكتابي؟ فقلت له: قد مضيت، وهذا جواب الكتاب، فقرأه، ثم قال لي: أبشر، فإن الشيخ قد كتب إلي يوصيني بك، ويقول: إن هذا الغلام قد رأى أخانا الخضر - عليه السلام - فقلت: هذا ببركتك. ودعا لي.
قال القاسم بن عثمان الجوعي: التوبة رد المظالم، وترك المعاصي، وطلب الحلال، وأداء الفرائض.
وقال: رأس الأعمال كلها الرضى عن الله، والورع عماد الدين، والجوع مخ العبادة، والحصن الحصين ضبط اللسان. ومن شكر الله حشر من ميدان الزيادة، ومن تم عمله عرف المصائب.
وقال: السلامة كلها في اعتزال الناس، والفرح كله في الخلوة بالله - عز وجل.
وقال: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى، وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى، وما بقي.
وقال: إن لله عباداً قصدوا الله بهمهم، وأفردوه بطاعتهم، واكتفوا به في توكلهم،
ورضوا به عوضاً من كل ما خطر على قلوبهم من أمر الدنيا؛ فليس لهم حبيب غيره، ولا قرة عين إلا فيما قرب إليه.
وقال: الاعتبار بالنطق، والذكر باللسان، والفكر بالقلوب، والمراقبة أصل الحذر، والحياء جامع لكل خير.
وقال: رأيت في الطواف حول البيت رجلاً، فتقربت منه، فإذا هو لا يزيد على قوله: اللهم قضيت حاجة المحتاجين وحاجتي لم تقض. فقلت له: مالك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك: كنا سبعة رفقاء من بلدان شتى، غزونا أرض العدو، فاستأسرونا كلنا، فاعتزل بنا لتضرب أعناقنا. فنظرت إلى السماء، فإذا سبعة أبواب مفتحةً، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية، فقدم رجل منا، فضربت عنقه، فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض، حتى ضربت أعناق ستة، وبقيت أنا، وبقي باب وجارية، فلما قدمت لتضرب عنقي استوهبني بعض رجاله، فوهبني له، فسمعتها تقول: أي شيء فاتك يا محروم؟! وأغلقت الباب. وأنا يا أخي متحسر على ما فاتني.
قال قاسم بن عثمان: أراه أفضلهم؛ لأنه رأى ما لم يروا، وترك يعمل على الشوق. ومن شعره: " مخلع البسيط "
اصبر على كسرة وملح ... فالصبر مفتاح كل زين
واقنع فإن القنوع عز ... لا خير في شهوة بدين
قال أبو الحسن محمد بن الفيض: قام أبو بكر بن عتاب في مجلس قاسم بن عثمان الجوعي، وكان غلامً جميلاً حسن الوجه، وكان صفوان بن صالح جالساً، وسليمان بن عبد الرحمن جالس عند باب المئذنة وغيرهم، فقال: يا قوم، هذا قاسم، يا أبا عبد الملك، ويا أبا أيوب، دخلت إليه البيت، فجذبني، وقبلني، وأراد أن يفعل بي كذا، وكذا حتى انفلت منه.
قال أبو الحسن بن الفيض: وكنت حينئذ صغيراً في المجلس، فوثب إليه رجال، فضربوه، وعنفوه في ذلك، وضربه أبوه، وعنفه في ذلك.
قال أبو الحسن: كان القاسم أورع من ذلك، وإنما أراد أن يوقع عليه بذلك أمراً.
توفي القاسم بن عثمان سنة ثمان وأربعين ومائتين.