نصيب بن رباح
أبو محجن، مولى عمر بن عبد العزيز اشتراه من بني كنانة وأعتقه، وقيل: كان مولى لخزاعة، وقيل: بل كان أبوه من العرب، وأمه نوبية؛ فجاء أسود؛ فباعه عمه ووفد على عبد الملك وغيره.
قدم نصيب الكوفة، فسير إليه صديق له ولده، فقال: سلم عليه وقل له: إن رأيت أن تبدي إلي شيئاً من شعرك فعلت.
قال: فأتيته في يوم جمعة وهو يصلي، فلما فرغ أديت إليه الرسالة فقال: قد علم أبوك أني لم أنشد الشعر في يوم الجمعة، ولكن تعود، ويكون ما تحب، فلما ذهبت لأنصرف دعاني فقال: أتروي الشعر؟ قلت: نعم، قال: فأنشدني لجميل، فأنشدته: " من الكامل "
إني لأحفظ سركم ويسرني ... لو تعلمين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
تقضى الديون وليس ينجز عاجلاً ... هذا الغريم وليس بمعسر
فقال: لله دره! ما قال أحد إلا دون قوله، ولقد ترك لنا مثالاً لا يحتذى عليه، أما أصدقنا في شعره فجميل، وأما أوصفنا لربات الحجال فكثير، وأما أكذبنا إذا قال الشعر فعمر، وأما أنا فأقول ما أعرف.
قال عبد الملك بن مروان لنصيب وهو ينشد قصيدته التي يقول فيها " " من البسيط "
ومضمر الكشح يطويها الضجيع به ... طي الحمالة لا جاف ولا فقر
وذو روادف لا يلفى الإزار بها ... يلوى ولو كان يسعى حين يأتزر
قال: من هذه يا نصيب؟ قال: بنية عم لي نوبية، لو رأيتها ما شربت من يدها الماء، قال: لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.
دخل نصيب على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أنت الذي تبتهر بالنساء وتقول فيهن؟ قال: يا أمير المؤمنين قد تركت ذاك. وكان قد نسك فأثنى عليه القوم، فقال: أما إذ أثنوا فهات حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان، ويرغب عنه البيضان، فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل.
قال: وجهشت الشعراء إلى عمر، فرأوا منه زهادة في الشعر، فقالوا لنصيب: أنت مولاه فكلمه، فدخل عليه نصيب، فقال: " من البسيط "
الحمد لله أما بعد يا عمر ... فقد أتاك بنا الأحداث والقدر
وأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس يعقل فيه السمع والبصر
فقال عمر: يا نصيب إياي وهذا الكلام، ولم أنا والشعر؟! فخرج نصيب فقال: لم أر لكم عنده خيراً.
قال نصيب: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فقلت له: أنت أعلم بانقطاعي إلى أبيك، وميله كان إلي، فقال: إن ذاك لكذلك، قلت: فتأذن لي في الإنشاد؟ فقال: ما نحن على حال إنشاد، فلم أزل أسأله حتى أذن فأنشدته: " من الوافر "
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ومن فوق التراب لك الفداء
فقد عضتني الحاجات حتى ... تحنى الظهر واقتشر اللحاء
وقد أودى بي الإقتار لولا ... غنى نفسي وشيمتي الحياء
فإن أك حائلاً لوني فإني ... لعقل غير ذي سقط وعاء
فقال: يا مزاحم، كم بقي عندك من بقية غلتنا بالحجاز قال: خمسون درهماً، قال: أعطه إياها. قلت: يا أمير المؤمنين، علفت راحلتي بأكثر من هذا! فقال: أعطه ثياب الجمعة، فأعطاني ثوبين أراهما مصريين.
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك بن مروان، فقال له: حدثني ببعض ما مر عليك.
فقال: علقت جارية حمراء يعني بيضاء، فمكثت زماناً تمنيني الأباطيل. فلما ألححت عليها قالت: لا ترعني فكأنك من طوارق الليل، فقلت: وأنت كأنك من طوارق النهار، فقالت: ما أظرفك! فغضبت من قولها، فقالت: وهل تدري ما الظرف؟ الظرف العقل، ثم قالت: انصرف حتى أنظر في أمرك. فأرسلت إليها بهذه الأبيات: " من الوافر "
فإن أك حالكاً فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جود السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلي لا يرد عن النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء
فلما قرأت الكتاب قالت: المال والعقل يعفيان على غيرهما، فزوجتني نفسها.
قال معاذ صاحب الهروي: دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه، ولا أشد سواداً منه، فقلت: من أنت؟ قال: نصيب، قلت: أخبرني عنك وعن أصحابك.
قال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربا الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت.
قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو.
قال: فأقروا لي أني أحسن المدح؟ قلت: نعم.
قال: أفتراني لا أحسن أن أجعل مكان: عافاك الله، أخزاك الله؟ قلت: بلى.
قال: ولكني رأيت الناس رجلين: رجلاً لم أسأله، فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه،
ورجلاً سألته فمنعني، فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
مر جرير بنصيب وهو ينشد، فقال له: اذهب، فأنت أشعر أهل جلدتك. وكان نصيب أسود، قال: وجلدتك، يا أبا حزرة.
ومن شعره: " من الطويل "
فإن تك ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي تنقم
فما ذاك من ذنب أكون اجتنيته ... إليها فتجزيني به حيث أعلم
ولكن إنساناً إذا مل صاحباً ... وحاول صرفاً لم يزل يتجرم
سأثني على ليلى ولست بزائد ... على أنني مثن بما كنت أعلم
قال الضحاك بن عثمان: خرجت في آخر الحج فنزلت بجهة بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت قول نصيب: " من الطويل "
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
وقل في تجنيها لك الذنب إنما ... عتابك إن عاتبت فيها له عتب
خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقدكما أبداً كعب
وقولا لها في البعاد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع الهوى شعب
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالماً ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعتني أتمثل الأبيات قالت: يا فتى، أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نصيب، قالت: نعم، هو ذاك، فتعرف زينبه؟ قلت: لا. قالت: أنا - والله - زينبه. قلت: فحياك الله. قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول، ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح حتى تراه.
قال: فما برحت، فإذا أنا براكب يزول مع الركب، فقالت: ترى حيث ذلك الراكب؟ إني لأحسبه إياه.
فأقبل الراكب وأناخ، فإذا هو نصيب، فنزل وسلم علي وجلس منها ناحية، وسلم عليها، وساءلها وساءلته، وسألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بهدها، فجعل ينشده، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة.
فقمت إلى راحلتي، فقال لي: على رسلك، أنا معك، فجلست حتى نهض، ونهضت معه، فتسايرنا ساعة، ثم قال لي: قلت في نفسك: محبان التقيا بعد طول تناء، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقلت: كان ذلك، قال: فلا ورب هذه البنية ما جلست منها مجلساً قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولا كان بيننا مكروه قط.
قال رجل من قريش: كنت حاجاً: ومعنا رجل، معه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً فإذا فرش ممهدة، وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجاً امرأة زنجية فجلست على تلك الفرش، ثم جاء زنجي فجلس إلى جنبها على الفرش، فتعجبت، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مارٌّ يقود إبلاً، فجعل يغني ويقول:
بزينب ألمم قبل يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فوثبت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وقالت: شهرتني في الناس، شهرك الله.
فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا نصيب الشاعر، وهذه زينب.
أراد ابن أبي عتيق الحج، فقال لنصيب: هل توصي إلى سعدى بشيء؟ قال: نعم، ببيتين، وأنشده: من الطويل
أتصبر عن سعدى وأنت صبور ... وأنت بحسن الصبر منك جدير
وكدت ولم أخلق من الطير إن أرى ... سناً بارقٍ نحو الحجاز أطير
فخرج ابن أبي عتيق، فوجد سعدى في مجلس لها، فقال: معي إليك رسالة، قالت: هاتها يا بن الصديق، فأنشدها البيتين، فتنفست نفساً شديداً، فقال ابن أبي عتيق: أوه، أجبتيه - والله - بأحسن من بيتيه، لو سمعها لنعق وطار، وعتق ما ملك.
لما أصاب نصيب من المال ما أصاب كانت عنده أم محجن، وكانت سوداء، واشتاق إلى البياض، فتزوج امرأة سرية بيضاء؛ فغضبت أم محجن، وغارت عليه، فقال لها: يا أم محجن، ما مثلي يغار عليه، أنا شيخ كبير، وما مثلك يغار، وأنت عجوز كبيرة، وما أحد أكرم علي منك، ولا أوجب حقاً، فجوزي هذا الأمر، ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت. ثم قال: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة، فهو أصلح وألم للشعث؟ فقالت: نعم، فأعطاها ديناراً، وقال لها: إني أكره أن ترى بك خصاصة، أن تفضل عليك، فاعملي لها غداء بهذا الدينار.
ثم أتى زوجته الجديدة، فقال: قد أردت أن أجمعك إلى أم محجن غداً، وهي
مكرمتك، وأكره أن تفضل عليك أم محجن، فخذي هذا الدينار، فأهدي لها به لئلا ترى بك خصاصة، ولا تذكري الدينار إليها.
ثم أتى صاحباً له يستنصحه، فقال: إني أريد أن أجمع بين زوجتي الجديدة إلى أم محجن غداً، فأتني مسلماً، وإني سأستجلسك الغداء فاسألني عن أحبهما إلي، فإني سآبى أن أخبرك، وأعظم ذلك، فاحلف علي.
فلما اجتمعوا وأتاه فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب زوجتيك إليك، فقال: سبحان الله! أتسألني عن هذا وهما يسمعان؟ ما سأل عن مثل هذا أحد. " قال ": فإني أقسم عليك أن تخبرني، فوالله، لا أعذرك، قال: أما إذ فعلت فأحبهما إلي صاحبة الدينار، ولا أزيدك على هذا شيئاً.
فأعرضت كل واحدة منهما تضحك، وهي تظن أنه عناها بذلك القول.
قال منحوف بن جبر: مررت بدار الزبير فإذا مولى لهم يكنى أبا ريحانة، وكان يخضب، فسلمت عليه، وجلست غليه، فمرت به جارية على ظهرها قربة، فقام إليها الشيخ، وقال: غنني بأبيات نصيب، فقالت: أما والقربة على ظهري فلا، قال: فأخذ القربة، ووضعها على ظهره، ثم رفعت عقيرتها وهي تقول: " من الطويل "
فؤادي أسير لا يفك ومهجتي ... تقضى وأحزاني عليك تطول
ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها ... إليك وأجفاني عليك همول
فديتك أعدائي كثير لشقوتي ... عليك وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فطرب الشيخ، فوقع على الأرض، وانشقت القربة، فقالت: يا أبا ريحانة، ما هذا جزائي منك، فقال لها: ما دخل الضرر إلا علي، ودخل السوق فباع قميصه، واشترى لها قربة، ثم ملأها.
فلقيه زيد بن الحسن العلوي، فقال: يا أبا ريحانة، أحسبك ممن قال الله عز وجل: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ". فقال: أرجو أن أكون ممن قال الله عز وجل: " فبشر عباد، الذين يستمعون فيتبعون أحسنه ".
ومن شعر نصيب: " من البسيط "
كما اشتهت خلقت حتى إذا كملت ... كما تمنت فلا طول ولا قصر
جرى لها اللحم حتى عم أكعبها ... ملء الثياب فلا هبج ولا فقر
ما زدت زادتك حسناً في تأملها ... وزادك الطرف حتى يرجع البصر
أبو محجن، مولى عمر بن عبد العزيز اشتراه من بني كنانة وأعتقه، وقيل: كان مولى لخزاعة، وقيل: بل كان أبوه من العرب، وأمه نوبية؛ فجاء أسود؛ فباعه عمه ووفد على عبد الملك وغيره.
قدم نصيب الكوفة، فسير إليه صديق له ولده، فقال: سلم عليه وقل له: إن رأيت أن تبدي إلي شيئاً من شعرك فعلت.
قال: فأتيته في يوم جمعة وهو يصلي، فلما فرغ أديت إليه الرسالة فقال: قد علم أبوك أني لم أنشد الشعر في يوم الجمعة، ولكن تعود، ويكون ما تحب، فلما ذهبت لأنصرف دعاني فقال: أتروي الشعر؟ قلت: نعم، قال: فأنشدني لجميل، فأنشدته: " من الكامل "
إني لأحفظ سركم ويسرني ... لو تعلمين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
تقضى الديون وليس ينجز عاجلاً ... هذا الغريم وليس بمعسر
فقال: لله دره! ما قال أحد إلا دون قوله، ولقد ترك لنا مثالاً لا يحتذى عليه، أما أصدقنا في شعره فجميل، وأما أوصفنا لربات الحجال فكثير، وأما أكذبنا إذا قال الشعر فعمر، وأما أنا فأقول ما أعرف.
قال عبد الملك بن مروان لنصيب وهو ينشد قصيدته التي يقول فيها " " من البسيط "
ومضمر الكشح يطويها الضجيع به ... طي الحمالة لا جاف ولا فقر
وذو روادف لا يلفى الإزار بها ... يلوى ولو كان يسعى حين يأتزر
قال: من هذه يا نصيب؟ قال: بنية عم لي نوبية، لو رأيتها ما شربت من يدها الماء، قال: لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.
دخل نصيب على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أنت الذي تبتهر بالنساء وتقول فيهن؟ قال: يا أمير المؤمنين قد تركت ذاك. وكان قد نسك فأثنى عليه القوم، فقال: أما إذ أثنوا فهات حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان، ويرغب عنه البيضان، فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل.
قال: وجهشت الشعراء إلى عمر، فرأوا منه زهادة في الشعر، فقالوا لنصيب: أنت مولاه فكلمه، فدخل عليه نصيب، فقال: " من البسيط "
الحمد لله أما بعد يا عمر ... فقد أتاك بنا الأحداث والقدر
وأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس يعقل فيه السمع والبصر
فقال عمر: يا نصيب إياي وهذا الكلام، ولم أنا والشعر؟! فخرج نصيب فقال: لم أر لكم عنده خيراً.
قال نصيب: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فقلت له: أنت أعلم بانقطاعي إلى أبيك، وميله كان إلي، فقال: إن ذاك لكذلك، قلت: فتأذن لي في الإنشاد؟ فقال: ما نحن على حال إنشاد، فلم أزل أسأله حتى أذن فأنشدته: " من الوافر "
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ومن فوق التراب لك الفداء
فقد عضتني الحاجات حتى ... تحنى الظهر واقتشر اللحاء
وقد أودى بي الإقتار لولا ... غنى نفسي وشيمتي الحياء
فإن أك حائلاً لوني فإني ... لعقل غير ذي سقط وعاء
فقال: يا مزاحم، كم بقي عندك من بقية غلتنا بالحجاز قال: خمسون درهماً، قال: أعطه إياها. قلت: يا أمير المؤمنين، علفت راحلتي بأكثر من هذا! فقال: أعطه ثياب الجمعة، فأعطاني ثوبين أراهما مصريين.
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك بن مروان، فقال له: حدثني ببعض ما مر عليك.
فقال: علقت جارية حمراء يعني بيضاء، فمكثت زماناً تمنيني الأباطيل. فلما ألححت عليها قالت: لا ترعني فكأنك من طوارق الليل، فقلت: وأنت كأنك من طوارق النهار، فقالت: ما أظرفك! فغضبت من قولها، فقالت: وهل تدري ما الظرف؟ الظرف العقل، ثم قالت: انصرف حتى أنظر في أمرك. فأرسلت إليها بهذه الأبيات: " من الوافر "
فإن أك حالكاً فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جود السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلي لا يرد عن النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء
فلما قرأت الكتاب قالت: المال والعقل يعفيان على غيرهما، فزوجتني نفسها.
قال معاذ صاحب الهروي: دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه، ولا أشد سواداً منه، فقلت: من أنت؟ قال: نصيب، قلت: أخبرني عنك وعن أصحابك.
قال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربا الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت.
قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو.
قال: فأقروا لي أني أحسن المدح؟ قلت: نعم.
قال: أفتراني لا أحسن أن أجعل مكان: عافاك الله، أخزاك الله؟ قلت: بلى.
قال: ولكني رأيت الناس رجلين: رجلاً لم أسأله، فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه،
ورجلاً سألته فمنعني، فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
مر جرير بنصيب وهو ينشد، فقال له: اذهب، فأنت أشعر أهل جلدتك. وكان نصيب أسود، قال: وجلدتك، يا أبا حزرة.
ومن شعره: " من الطويل "
فإن تك ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي تنقم
فما ذاك من ذنب أكون اجتنيته ... إليها فتجزيني به حيث أعلم
ولكن إنساناً إذا مل صاحباً ... وحاول صرفاً لم يزل يتجرم
سأثني على ليلى ولست بزائد ... على أنني مثن بما كنت أعلم
قال الضحاك بن عثمان: خرجت في آخر الحج فنزلت بجهة بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت قول نصيب: " من الطويل "
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
وقل في تجنيها لك الذنب إنما ... عتابك إن عاتبت فيها له عتب
خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقدكما أبداً كعب
وقولا لها في البعاد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع الهوى شعب
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالماً ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعتني أتمثل الأبيات قالت: يا فتى، أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نصيب، قالت: نعم، هو ذاك، فتعرف زينبه؟ قلت: لا. قالت: أنا - والله - زينبه. قلت: فحياك الله. قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول، ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح حتى تراه.
قال: فما برحت، فإذا أنا براكب يزول مع الركب، فقالت: ترى حيث ذلك الراكب؟ إني لأحسبه إياه.
فأقبل الراكب وأناخ، فإذا هو نصيب، فنزل وسلم علي وجلس منها ناحية، وسلم عليها، وساءلها وساءلته، وسألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بهدها، فجعل ينشده، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة.
فقمت إلى راحلتي، فقال لي: على رسلك، أنا معك، فجلست حتى نهض، ونهضت معه، فتسايرنا ساعة، ثم قال لي: قلت في نفسك: محبان التقيا بعد طول تناء، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقلت: كان ذلك، قال: فلا ورب هذه البنية ما جلست منها مجلساً قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولا كان بيننا مكروه قط.
قال رجل من قريش: كنت حاجاً: ومعنا رجل، معه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً فإذا فرش ممهدة، وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجاً امرأة زنجية فجلست على تلك الفرش، ثم جاء زنجي فجلس إلى جنبها على الفرش، فتعجبت، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مارٌّ يقود إبلاً، فجعل يغني ويقول:
بزينب ألمم قبل يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فوثبت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وقالت: شهرتني في الناس، شهرك الله.
فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا نصيب الشاعر، وهذه زينب.
أراد ابن أبي عتيق الحج، فقال لنصيب: هل توصي إلى سعدى بشيء؟ قال: نعم، ببيتين، وأنشده: من الطويل
أتصبر عن سعدى وأنت صبور ... وأنت بحسن الصبر منك جدير
وكدت ولم أخلق من الطير إن أرى ... سناً بارقٍ نحو الحجاز أطير
فخرج ابن أبي عتيق، فوجد سعدى في مجلس لها، فقال: معي إليك رسالة، قالت: هاتها يا بن الصديق، فأنشدها البيتين، فتنفست نفساً شديداً، فقال ابن أبي عتيق: أوه، أجبتيه - والله - بأحسن من بيتيه، لو سمعها لنعق وطار، وعتق ما ملك.
لما أصاب نصيب من المال ما أصاب كانت عنده أم محجن، وكانت سوداء، واشتاق إلى البياض، فتزوج امرأة سرية بيضاء؛ فغضبت أم محجن، وغارت عليه، فقال لها: يا أم محجن، ما مثلي يغار عليه، أنا شيخ كبير، وما مثلك يغار، وأنت عجوز كبيرة، وما أحد أكرم علي منك، ولا أوجب حقاً، فجوزي هذا الأمر، ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت. ثم قال: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة، فهو أصلح وألم للشعث؟ فقالت: نعم، فأعطاها ديناراً، وقال لها: إني أكره أن ترى بك خصاصة، أن تفضل عليك، فاعملي لها غداء بهذا الدينار.
ثم أتى زوجته الجديدة، فقال: قد أردت أن أجمعك إلى أم محجن غداً، وهي
مكرمتك، وأكره أن تفضل عليك أم محجن، فخذي هذا الدينار، فأهدي لها به لئلا ترى بك خصاصة، ولا تذكري الدينار إليها.
ثم أتى صاحباً له يستنصحه، فقال: إني أريد أن أجمع بين زوجتي الجديدة إلى أم محجن غداً، فأتني مسلماً، وإني سأستجلسك الغداء فاسألني عن أحبهما إلي، فإني سآبى أن أخبرك، وأعظم ذلك، فاحلف علي.
فلما اجتمعوا وأتاه فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب زوجتيك إليك، فقال: سبحان الله! أتسألني عن هذا وهما يسمعان؟ ما سأل عن مثل هذا أحد. " قال ": فإني أقسم عليك أن تخبرني، فوالله، لا أعذرك، قال: أما إذ فعلت فأحبهما إلي صاحبة الدينار، ولا أزيدك على هذا شيئاً.
فأعرضت كل واحدة منهما تضحك، وهي تظن أنه عناها بذلك القول.
قال منحوف بن جبر: مررت بدار الزبير فإذا مولى لهم يكنى أبا ريحانة، وكان يخضب، فسلمت عليه، وجلست غليه، فمرت به جارية على ظهرها قربة، فقام إليها الشيخ، وقال: غنني بأبيات نصيب، فقالت: أما والقربة على ظهري فلا، قال: فأخذ القربة، ووضعها على ظهره، ثم رفعت عقيرتها وهي تقول: " من الطويل "
فؤادي أسير لا يفك ومهجتي ... تقضى وأحزاني عليك تطول
ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها ... إليك وأجفاني عليك همول
فديتك أعدائي كثير لشقوتي ... عليك وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فطرب الشيخ، فوقع على الأرض، وانشقت القربة، فقالت: يا أبا ريحانة، ما هذا جزائي منك، فقال لها: ما دخل الضرر إلا علي، ودخل السوق فباع قميصه، واشترى لها قربة، ثم ملأها.
فلقيه زيد بن الحسن العلوي، فقال: يا أبا ريحانة، أحسبك ممن قال الله عز وجل: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ". فقال: أرجو أن أكون ممن قال الله عز وجل: " فبشر عباد، الذين يستمعون فيتبعون أحسنه ".
ومن شعر نصيب: " من البسيط "
كما اشتهت خلقت حتى إذا كملت ... كما تمنت فلا طول ولا قصر
جرى لها اللحم حتى عم أكعبها ... ملء الثياب فلا هبج ولا فقر
ما زدت زادتك حسناً في تأملها ... وزادك الطرف حتى يرجع البصر