مريم بنت عمران بن ماتان بن أليعازر
منسوبة إلى سليمان بن داود عليهما السلام، الصديقة أم عيسى عليه السلام كانت بالربوة ويقال إن قبرها بالنيرب، ولم يصح.
وعن الحسن: في قوله: " إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: إلى أرض مستوية ذات أنهار وأشجار، يعني به أرض دمشق.
واسم أم مريم حنة.
وعن سعيد: في قوله: " إني نذرت لك ما في بطني محرراً "، قال: للعبادة لا يشغله عنها.
وقال سفيان: قالت: يخدم الكنيسة سنة، فملا وضعت جارية قالوا: كيف تخدم الكنيسة امرأة وهي تحيض؟! فألقوا الأقلام التي كانوا يكتبون بها الوحي، فاستهموا بالأقلام أيهم يكفل مريم، فخرج سهم زكريا، وكانت خالتها عنده، فكان عيسى ويحيى ابني خالة، وكانوا من بني إسرائيل.
وعن ابن عباس:
في قوله عز وجل: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " يعني اختار من الناس
لرسالته آدم ونوحاً، " وآل إبراهيم " يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، " وآل عمران على العالمين " يعني اختارهم للنبوة وللرسالة على عالمي ذلك الزمان، فهم " ذرية بعضها من بعض " فكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم، " إذ قالت امرأة عمران " ابن ماتان، واسمها حنة بنت واقوذ، وهي أم مريم، " رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً " وذلك أن حنة أم مريم كانت جاشت على الولد والمحيض، فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخاً، فتحرك نفسها للود، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحاضت من ساعتها، فلما طهرت أتاها زوجها، فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرراً.
وبنو ماتان من فلول بني إسرائيل من نسل داود.
والمحرر لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة، ويعبد الله، ويكون في خدمة الكنيسة، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان؛ فقالت لزوجها: ليس جنس من جنس الأنبياء إلا وفيهم محرر غيرنا، وإني جعلت ما في بطني نذيرة.
تقول: قد نذرت أن أجعله لله، فهو المحرر.
فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة كيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك، فقالت عند ذلك حنة أم مريم: " رب إني نذرت لك ما في
بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " يعني تقبل مني ما نذرت لك، فاستجب لي بأن تنجيني من هذا سالمة بعد الإجابة.
" فلما وضعتها قال: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقد كنت إلهي نذرت لك ما في بطني إن نجيتني فنيجتني " وليس الذكر كالأنثى " والأنثى عورة ثم قالت: " وإني سميتها مريم "، وكذلك كان اسمها عند الله، " وإني أعذيها بك وذريتها " يعني عيسى " من الشيطان الرجيم " يعني الملعون.
فاستجاب الله لها؛ فلم يقربها الشيطان ولا ذريتها عيسى.
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل ولد ابن آدم ينال منه الشيطان نطفته حين يقع بالأرض بإصبعه، ولها يستهل، إلا ما كان من مريم بنت عمران وابنها عيسى، لم يصل إبليس إليها.
قال ابن عباس: لما وضعتها خشيت حنة أم مريم ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها لأنها كانت بنت إمامهم - وكان إمام القراء من ولد هارون - أيهم يأخذها، فقال زكريا: - وهو رأس الأحبار - أنا آخذها وأنا أحقهم بها، أختها عندي، يعني أم يحيى، فقالت القراء: وإن كان في القوم من هو أفقر إليها منك، ولو تركت لأحق الناس بها تركت لأمها ولكنها محررة غير أنا نتاهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي " أيهم يكفل مريم " يعني أيهم يقبضها، فقرعهم زكريا.
وكانت قرعة أقلامهم أنهم جمعوها في موضع، ثم غطوها، فقالوا لبعض خدم بيت المقدس من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم: أدخل يدك، فأخرج قلماً منها، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى، ولكن نلقي الأقلام في الماء، فمن خرج قلمه في
جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن، فارتفع قلم زكريا في جرية الماء، فقالوا: نقترع الثالثة، فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء، وارتفعت أقلامهم في جرية الماء، وقبضها عند ذلك زكريا، فذلك قوله عز وجل: " وكفلها زكريا " يعني وقبضها، ثم قال: " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً " يعني ورباها تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها حتى ترعرت، وبنى لها زكريا محراباً في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، وكان استأجر لها ظئراً، فلما تم لها حولان طعمت وتحركت، فكان يغلق عليها الباب، والمفتاح معه، لا يأمن عليه أحداً، لا يأتيها بما يصلحها غيره حتى بلغت.
وقيل: إنهم لما خرجوا إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، أيهم يقوم قلمه فيكفلها، فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين، فأخذ الجارية.
أصاب بني إسرائيل أزمة، ومرين عند زكريا على حالها حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: تعلمون أني قد ضعفت عن حمل ابنة عمران، فقالوا: ونحن قد جهدنا من حمل هذه السنة، فتقارعوا بينهم، فخرج السهم على رجل من بني إسرائيل نجار، يقال له: جريج، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه، فقالت: يا جريج، أحسن الظن بالله، فإن الله سيرزقنا.
فجعل الله يرزق جريجاً لمكانها منه، فيأتيها كل يوم رزقها غدوة وعشية وهي في الكنيسة.
قال ابن عباس: فكان زكريا يقوم بشأنها، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله من محرابها،
فتكون مع خالتها وأختها يلسفع أم يحيى، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس، فكان زكريا يرى عندهم في المحراب العنب في الشتاء الشديد فيأتيها به جبريل من السماء.
وعن ابن عباس قال: كان بنو إسرائيل إذا أرادوا أن يحرروا للمحراب ولد أحد منهم لم يحرروه حتى يولد، فإن كان غلاماً فشاؤوا أن يحرروه لمهنة المحراب حرروه وإن كانت جارية لم يحرروها للمحراب، وإن امرأة عمران عجلت؛ فنذرت ما في بطنها " فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى " الآية.
فحملتها على خرقة وأدخلتها المحراب وقالت: أقضي ما نذرت لله علي، فقالوا: ما هذه؟ قالت: كنت عجلت ونذرت ما في بطني محرراً لمهنة المحراب، فوضعتها أنثى، فجئت لأقضي ما جعلته لله علي، قالوا: وما شأن المحراب وشأن الأنثى، فألقى الله في قلوبهم محبة مريم، فقالوا: ما كنا نقبل الأنثى، سوف نقبل هذه.
قال: فوضعتها بين أيديهم وخرجت، وتشاح القوم فيها، فقال لهم زكريا: أخت هذه الجارية عندي، وأنا أحق بها أن أكفلها، وكان في المحراب جدول يجري يشربون منه ويتوضؤون فيه، فلما رأى زكريا إباءهم عليه قال: بيني وبينكم أقلامنا التي نكتب بها التوراة، يجيء كل رجل بقلمه فيلقيه في هذا الجدول، فأي قلم منها شق الماء فقد كفله الله هذه الصبية.
قالوا: نعم، فجاء كل رجل منهم بقلمه، وجاء زكريا بقلمه، فألقوها في الجدول، فذهب الماء بأقلامهم، واستقبل قلم زكريا الماء فجعل يشقه، فقال لهم زكريا: معه، قالوا: قد كفلكها الله تعالى، فأنبتها الله نباتاً حسناً، فجعل لها في المحراب بيتاً لا يدخل
عليها فيه إلا بإذنها، فكان زكريا يستأذن عليها؛ فتأذن له، فيدخل عليها، يسلم عليها، فتأتيه بمكيل عندها، فتضعه بين يديه، فيجد زكريا فيه عنباً في غير حين العنب، فيقول: " يا مريم أنى لك هذا؟ ". فتقول: " هو من عند الله ". وقيل: هو ثمرة الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء الرمان في غير حينه.
فرغب زكريا في الولد، " فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها " لقادر " أن يصلح لي زوجي ويهب لي منها ولداً "، فدعا ربه، فأوحى الله إليه يبشره بيحيى " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً "، " قال: رب اجعل لي آية قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ".
قال أبو الحسن: يعني هي آية البشرى، فكان زكريا إذا قام يصلي لربه أطلق لسانه فيناجيه، فإذا خرج إلى أهل المحراب اعتقل لسانه، فيشير إليهم أن صلوا كما كنتم تصلون ثلاثة أيام.
فلما بلغت مريم فبينا هي في بيتها متفضلة، إذ دخل عليها رجل بغير إذن، فخشيت أن يكون دخل عليها ليغتالها فقالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال: كذلك قال ربك ".
قال: فجعل جبريل يردد ذلك عليها، وتقول: " أنى يكون لي غلام ". قال: وتغفلها جبريل فنفخ في جيب درعها ونهض عنها، فاستمر بها حملها، فقالت:
إن خرجت نحو المغرب فالقوم يصلون نحو المغرب، ولكن أخرج نحو المشرق حيث لا يراني أحد، فخرجت نحو المشرق.
فبينا هي تمشي إذ فجئها المخاض؛ فنظرت هل تجد شيئاً تستتر به؟ فلم تر إلا جذع النخلة؛ فقالت: أستتر بهذا الجذع من الناس، وكان تحت الجذع نهر يجري، فانضمت إلى النخلة، فلما وضعته خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجداً لوجهه، وفزع إبليس فخرج فصعد فلم يجد شيئاً ينكره، وأتى المشرق فلم يجد شيئاً ينكره، ودخل الأرض فلم يجد شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فأتى المغرب لينظر فلم ير شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فبينا هو يطوف إذ مر بالنخلة، فإذا هو بامرأة معها غلام قد ولدته، وإذا الملائكة قد أحدقوا بها وبابنها وبالنخلة، فقال: هاهنا حدث الأمر، فمال إليهم فقال: أي شيء هذا الذي أحدث؟ فكلمته الملائكة فقالوا: هذا نبي ولد بغير ذكر، قال: نبي ولد بغير ذكر؟ قالوا: نعم. قال: أما والله لأضلن به أكثر العالمين، أضل اليهود فكفروا به، وأضل النصارى فقالوا: هو ابن الله.
قال: وناداها ملك من تحتها " قد جعل ربك تحتك سرياً "، والسري هو النهر بكلام أهل اليمن.
قال إبليس: ما حملت أنثى إلا بعلمي، ولا وضعته إلا على كفي، ليس هذا الغلام، لم أعلم به حين حملته أمه، ولم أعلم به حين وضعته.
قال: وكان دعاء زكريا ربه لثلاث ليال بقين من المحرم، قام زكريا فاغتسل، ثم ابتهل بالدعاء إلى الله. قال: يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء، وثمار الشتاء في الصيف، " هب لي من لدنك " يعني من عندك " ذرية طيبة " يعني تقياً، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصة عبده زكريا، ودعائه ربه، وإجابة الله عز وجل وتخننه
عليه، فقال جل وعز: " كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا ".
قال ابن عباس: خمسة أحرف وخمسة أسماء مقطعة، يعني بكاف: كافياً لخلقه، ها: يعني هادياً لأوليائه، يا: يعني يميناً يحلف به عباده، عين: يعني عالماً بأعمال خلقه، صاد: يعني صادقاً وعده.
ووهب الله له يحيى ولم يسم يحيى قبله.
وقيل: إن جبريل عليه السلام نفخ ما بين جيبها ودرعها، فمكث ما يمكث النساء، فخرجت هاربة من أهلها نحو الشرق، وخرجوا في طلبها، فجعلوا لا يلقون أحداً إلا قالوا: هل رأيت فتاة من حالها كذا وكذا؟ فلقوا راعي بقر، فقالوا: يا راعي، هل رأيت فتاة كذا وكذا؟ قال: لا، رأيت من بقري شيئاً لم أره فيما مضى في ليلتي هذه، رأيتها تسجد نحو هذا الوادي.
قال: وجاءها المخاض، فساندت إلى النخلة، و" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً " حيضة بعد حيضة، فناداها جبريل من أقصى الوادي: " قد جعل ربك تحتك سرياً، وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً "، قالت: لا أدري شاتية أو صائفة، " فكلي واشربي وقري عيناً "، فوضعته وقطعت سرته، ولفته في خرقة، فحملته، فأقبلوا حيث رأوها، فأقعدته في حجرها، فأعطته ثديها، فجاؤوا فقاموا عليها فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " أي عظيماً، فمن أين لك هذا؟ "
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، فأشارت إليه " أن كلموه " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً " والمهد حجرها، فنزع فمه من ثديها وجلس واتكأ على يساره، فقال: " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً " حتى بلغ " فاختلف الأحزاب " والأحزاب: الناس.
وفي حديث: أن مريم خرجت إلى جانب المحراب لحيض أصابها فلما طهرت إذا هي برجل معها، وهو قوله " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً " وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، ففزعت منه و" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً "، فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت.
فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة لتزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله: " مصدقاً بكلمة من الله " وذكرت القصة.
وعن ابن عباس: في قوله: " وبراً بوالديه " قال: كان لا يعصيهما، " ولم يكن جباراً " قال: لم يكن قتال النفس التي حرم الله قتلها " عصياً " يعني لم يكن عاصياً لربه، "
وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ".
ولما وهب الله لزكريا يحيى، بلغ ثلاث سنين، بشر الله مريم بعيسى.
فبينا هي في المحراب " إذ قالت الملائكة " وهو جبريل وحده: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها، " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين، مع قراء بيت المقدس.
والقنوت: طاعة الله عز وجل. وقيل: " اقنتي لربك " سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينها.
يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم، و" ما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم.
ثم قال: يا محمد، يخبر بقصة عيسى " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا ومن المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.
وفي حديث: لما استقر حمل مريم، وبشرها جبريل؛ فوثقت بكرامة الله، واطمأنت وطابت نفساً، واشتد أزرها.
وكان معها في المحررين ابن خال لها يقال له يوسف، وكان يخدمها من وراء الحجاب، ويكلمها، ويناولها الشيء من وراء الحجاب، وكان أول من اطلع على حملها هو، واهتم لذلك، وأحزنه، وخاف منه البلية التي لا قبل له بها، ولم يشعر من أين أتيت مريم، وشغله عن النظر في أمر نفسه وعمله لأنه كان متعبداً حيكماً، وكان من قبل أن تضرب مريم الحجاب على نفسها تكون معه ونشأ معها.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما ثم انطلقا إلى المغارة التي فيها الماء، فيملأان قلتيهما ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة مقبلة على مريم بالبشارة " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فيعجب يوسف مما يسمع.
فلما استبان ليوسف حمل مريم وقع في نفسه من أمرها حتى كاد أن يفتتن، فلما أراد أن يتهمها في نفسه ذكر ما طهرها الله واصطفاها، وما وعد الله أمها أنه معيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، وما سمع من قول الملائكة: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فذكر الفضاء التي فضلها الله عز وجل بها، وقال: إن زكريا قد أحرزها في المحراب؛ فلا يدخل عليها أحد، وليس للشيطان عليها سبيل؛ فمن أين هذا؟ فلما رأى من تغير لونها، وظهر بطنها، عظم ذلك عليه وتحير فيه رأيه وعقله، وخاف الإثم من التهمة وسوء الظن بها.
فعض لها فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إن الله خلق البذر الأول من غير نبات، وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر، ولعلك تقول:
لولا أنه استعان عليها بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته.
قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت، وقلت بالنور والحكمة، كما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر على أن يجعل زرعاً من غير بذر.
قال لها يوسف: أخبريني فهل ينبت الشجر من ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر والزرع والماء والمطر والشجر خالقاً واحداً؟ فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر! قال: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت وتكلمت بالنور والحكمة، فأخبريني هل يكون ولد أو حبل من غير ذكر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء امرأته من غير حبل ولا أنثى ولا ذكر؟ قال: بلى.
قال لها: فأخبريني خبرك، قالت: بشرني الله " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " إلى قوله: " ومن الصالحين ".
فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله بسبب خير أراده بمريم، فسكت عنها، فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق، فنوديت: أن اخرجي من المحراب، فخرجت.
وعن أبي وائل قال: لقد علمت مريم أن التقي ذو نهية حتى قالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ".
وقيل: إن مريم حملت بعيسى تسعة أشهر، وأن زكريا النجار هو القائل لها: أخبريني: هل يكون زرع من غير بذر. الحديث.
وقيل: لم يكن في حمل مريم إلا أن حملت ثم وضعت.
وقيل:
إنها وضعت لثمانية أشهر، ولذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر إلا مات لئلا تسب مريم بعيسى عليه السلام.
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس شيء من الشجر يلقح غيرها، وأطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فالتمر، فليس شيء من الشجر أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: إن رسلي أخبروني أن قبلكم شجرة تحمل مثل أذان الحمر، ثم تفلق عن مثل اللؤلؤ الأبيض ثم تغبر ثم تصير مثل الزمرد الأخضر، ثم تغبر فتصير مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع ثم تنضج فتصير مثل الفالوذجة، فتصير عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن رسلي صدقوني فإن هذه شجرة من شجر الجنة.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن رسلك قد صدقوا، وهي شجرة عندنا يقال لها النخلة، وهي التي أنبتها الله على مريم حين نفست، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله، فإنما " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون. الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أطعموا نساءكم في نفاسهن التمر، فإنه من كان طعامها في نفاسها التمر خرج ولدها ذلك حليماً، فإنه كان طعام مريم حيث ولدت عيسى، ولو علم الله طعاماً هو خير لها من التمر لأطعمها إياه ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحماً لا دم له، فأطعمها الجراد،
فقالت: اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بينه بغير شياع.
قيل: ما الشياع؟ قال: الصوت.
قال عمرو بن ميمون: خير الطعام للنفساء التمر والرطب يريد قوله عز وجل: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ".
وعن الحسن: سأله رجل: يا أبا سعيد ما تقول في قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سرياً "، قال الحسن: عبداً صالحاً تقياً، فقال أعرابي وهو قائم يسمع إلى حديث الحسن: إنا لا نقول ذلك، ولكن نقول: سرياً يعني جدولاً نهراً صغيراً، قال الحسن: أحسنت يا أعرابي بمثلها فأفدنا.
قال ابن عباس: وذلك أنه أصابها العطش، فأجرى الله لها جدولاً من الأردن، وحمل الجذع من ساعته رطباً جنياً يعني بغباره، فناداها من تحتها جبريل: " هزي إليك بجذع النخلة " ولم يكن على رأسها سعف، وكانت قد يبست منذ دهر طويل، فأحياها الله لها، وحملت، فذلك قوله: " تساقط عليك رطباً جنياً " يعني طرياً بغباره، " فكلي " من الرطب " واشربي " من الجدول " وقري عيناً " بولدك.
فقالت: فكيف لي إذا سألوني: من أين هذا؟ قال لها جبريل: " فإما
ترين " يعني: فإذا رأيت " من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " يعني صمتاً في أمر عيسى " فلن أكلم اليوم إنسياً " في أمره حتى يكون هو الذي يعبر عني وعن نفسه. الحديث.
فطلبوها فلما رأت قومها قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به، فذلك قوله: " فأتت به قومها تحمله " أي لا تخاف ريبة ولا تهمة، فلما نظروا إليها شق أبوها مدرعته، وجعل التراب على رأسه وإخوتها وآل وكريا، فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " يعني عظيماً " يا أخت هارون ".
وقال ابن عباس: في قوله عز وجل: " فأتت به قومها تحمله " قال: بعدما تعالت من نفاسها، بعد أربعين يوماً.
وعن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم ترؤون: " يا أخت هارون " وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى من القرون؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
وعن مجاهد: في قول الله عز وجل: " يا أخت هارون " قال: كان رجل صالح في بني إسرائيل حضر جنازته أربعون ألفاً ممن اسمه هارون سواه.
وقال مجاهد: كان رجلاً صالحاص يسمى هارون بني إسرائيل، فشبهوها به فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح.
وقال ابن عباس: " يا أخت هارون " إنما كانت من آل هارون.
وعن ابن عباس: " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً " يعني زانية، فأنى أتيت هذا الأخ الصالح، والأب الصالح، والأم الصالحة؟ فأشارت إليه أن كلموه فإنه سيخبركم، وإني نذرت لله صوماً ألا أكلمكم في أمره؛ فإنه سيعبر عني ويكون لكم آية وعبرة.
قالوا يا عجباً " كيف نكلم من كان في المهد صبياً " يعني من هو في الخرق صبياً طفلاً لا ينطق إلا إن أنطقه الله عز وجل، فعبر عن أمه، وكان عبرة لهم، فقال: " إني عبد الله " فلما أن قالها ابتدأ يحيى - وهو ابن ثلاث سنين - فكان أول من صدق به، فقال: أنا أشهد أنك عبد الله ورسوله، لتصديق قول الله: و" مصدقاً بكلمة من الله " فقال عيسى: " آتاني الكتاب وجعلني نبياً " إليكم، " وجعلني مباركاً أينما كنت ".
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البركة التي جعلها الله لعيسى أنه كان معلماً مؤدباً حيثما توجه، فذلك قوله: " أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً "، يعني وأمرني بالصلاة والزكاة " وبراً بوالدتي ".
قال ابن عباس: حين قال: " وبراً بوالدتي " قال زكريا: الله أكبر، فأخذه فضمه إلى صدره.
قال ابن شوذب: كانت لرجل جارية، وكان يطؤها سراً من أهله، فوطئها فقال لأهله: اغتسلوا فإن مريم كانت تغتسل في هذه الليلة، قال: وكانت مريم تغتسل في كل ليلة.
وعن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير نسائها مريم بنت عمران هي خير نسائها يومئذ وخير نسائها خديجة بنت خويلد ".
وفي رواية عنه: " خير نساء لجنة مريم بنت عمران وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالماً فاطمة ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، صلوات الله عليهن أجمعين ".
وعنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وعليهن وسلم ".
وعن عائشة: أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكيت، ثم أكببت فضحكت؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به، قال: " وأنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران "؛ فضحكت.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران ".
وعن علي: أن فاطمة شكت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ألا ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأحلمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟! أما ترضي أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا ما جعل الله لمريم بنت عمران، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة؟! ".
وعن عمار بن سعد قال: رأت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع اللحم لفاطمة وابنيها، فقالت: يا رسول الله لابنة الحمراء وحيش من رأيته تقطع اللحم، فغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترك عائشة لا يكلمها، وأن أم رومان كلمته فقالت: يا رسول الله إن عائشة هنة
فلا تؤاخذها، فقال: " وتدرين ما قالت؟! إنها قالت: كذا وكذا في خديجة، وقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".
وعن عتبة بن عبيد الثمالي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أقسمت لبررت، لا يدخل الجنة قبل سابق أمتي إلا بضعه عشر رجلاً منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم بنة عمران ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولو علمت أن مريم ركبت الإبل ما فضلت عليها أحداً من النساء ".
وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
وعن ابن عمر قال:
نزل جبريل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مرت خديجة بنت خويلد، فقال جبريل: من هذه يا محمد؟ قال: هذه صديقة أمتي، قال جبريل: معي إلياه رسالة من البر تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام ومنه السلام، والسلام عليكما، ورحمة الله وبركاته على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما ذلك البيت الذي من قصب؟ قال: لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على خديجة وهي في الموت فقال: يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فاقريهن مني السلام، قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون " فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله.
وعن ابن أبي رواد قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خديجة في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها: بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ قالت: وقد جعل الله ذلك بك يا رسول الله؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين.
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نخر في أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة يوم القيامة ".
كان من دعاء مريم أم عيسى: اللهم املأ قلبي منك فرحاً وغش وجهي منك الحياء.
وكان من دعاء بعض التابعين: اللهم وأمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك.
قال يحيى بن حبيب: بلغني أن أهل بيت من بني إسرائيل كانوا أهل بيت الملك، قال: فاندست إليهم مريم إلى نسائهم فقالت: هذا الملك قد ظفر بعيسى فقتله وصلبه فما يصنع بصلبه وقد بلغ حاجته منه، فلو كلمتم صاحبكم أو من يكلمه أن يهب لي جسده، قال: فكلم، فوعدهم أن يفعل. قال: فوجد منه خلوة قال: فذكروا له أن أهل هذا البيت كانوا منقطعين إلينا، وقد ظفرت به وقتلته، وبلغت حاجتك منه فما تصنع بصلبه؟ هب لي جسده، قال: نعم، قد وهبت لك.
قال: فاستنزل ودفن، قال: وأهل الفتى الذي ألقي عليه شبه عيسى قد فقدوه وهم يبكون ولا يدرون ما فعل.
فقالت مريم لأم يحيى: انطلقي بنا نزور قبر المسيح، وهم لا يرون إلا أنه عيسى.
قال: فخرجتا تمشيان مستترتين، فلما أن برزتا تركتا بعض التستر. فبينما هما تمشيان إذ تسترت مريم حين دنت من القبر، وجعلت أم يحيى لا تستتر: قالت لها مريم: ما لم لا تستترين؟ قالت: وممن أتستر؟ قالت: أو ما ترين الرجل على قبر المسيح؟ قالت لها أم يحيى: ما أرى أحداً. قالت: لا، قال: فزجت مريم أن يكون جبريل، قال: ولم يكن لها عهد بجبريل بعد الوقعة الأولى، فقالت لأم يحيى: كما أنت لا تبرحي، ومضت إلى القبر، فقال لها جبريل: يا مريم، أين تريدين؟ قال: فعرفته، فقالت: أريد قبر المسيح أسلم عليه وأحدث به عهداً.
قال: يا مريم، إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتي الذي ألقي عليه شبه عيسى، فأخذ وقتل وصلب، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدروه ما فعل، فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأتي غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرت أم يحيى أن جبريل، وما أخبرها جبريل من إتيان الغيضة، فإذا هي بعيسى في الغيضة، فلما رآها أسرع إليها فأكب عليها، وقبل رأسها، وجعل يدعو لها، كما كان يفعل، وقال: يا أمه، إن القوم لم يقتلوني، ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك، والموت يأتيك قريباً، فاصبري واذكري الله، ثم صعد عيسى، ولم تلقه إلا تلك اللقاة حتى ماتت.
وقيل: إن مريم بقيت بعد رفع عيسى خمس سنين، وكان عمرها ثلاثاً وخمسين سنة.
منسوبة إلى سليمان بن داود عليهما السلام، الصديقة أم عيسى عليه السلام كانت بالربوة ويقال إن قبرها بالنيرب، ولم يصح.
وعن الحسن: في قوله: " إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: إلى أرض مستوية ذات أنهار وأشجار، يعني به أرض دمشق.
واسم أم مريم حنة.
وعن سعيد: في قوله: " إني نذرت لك ما في بطني محرراً "، قال: للعبادة لا يشغله عنها.
وقال سفيان: قالت: يخدم الكنيسة سنة، فملا وضعت جارية قالوا: كيف تخدم الكنيسة امرأة وهي تحيض؟! فألقوا الأقلام التي كانوا يكتبون بها الوحي، فاستهموا بالأقلام أيهم يكفل مريم، فخرج سهم زكريا، وكانت خالتها عنده، فكان عيسى ويحيى ابني خالة، وكانوا من بني إسرائيل.
وعن ابن عباس:
في قوله عز وجل: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " يعني اختار من الناس
لرسالته آدم ونوحاً، " وآل إبراهيم " يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، " وآل عمران على العالمين " يعني اختارهم للنبوة وللرسالة على عالمي ذلك الزمان، فهم " ذرية بعضها من بعض " فكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم، " إذ قالت امرأة عمران " ابن ماتان، واسمها حنة بنت واقوذ، وهي أم مريم، " رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً " وذلك أن حنة أم مريم كانت جاشت على الولد والمحيض، فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخاً، فتحرك نفسها للود، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحاضت من ساعتها، فلما طهرت أتاها زوجها، فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرراً.
وبنو ماتان من فلول بني إسرائيل من نسل داود.
والمحرر لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة، ويعبد الله، ويكون في خدمة الكنيسة، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان؛ فقالت لزوجها: ليس جنس من جنس الأنبياء إلا وفيهم محرر غيرنا، وإني جعلت ما في بطني نذيرة.
تقول: قد نذرت أن أجعله لله، فهو المحرر.
فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة كيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك، فقالت عند ذلك حنة أم مريم: " رب إني نذرت لك ما في
بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " يعني تقبل مني ما نذرت لك، فاستجب لي بأن تنجيني من هذا سالمة بعد الإجابة.
" فلما وضعتها قال: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقد كنت إلهي نذرت لك ما في بطني إن نجيتني فنيجتني " وليس الذكر كالأنثى " والأنثى عورة ثم قالت: " وإني سميتها مريم "، وكذلك كان اسمها عند الله، " وإني أعذيها بك وذريتها " يعني عيسى " من الشيطان الرجيم " يعني الملعون.
فاستجاب الله لها؛ فلم يقربها الشيطان ولا ذريتها عيسى.
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل ولد ابن آدم ينال منه الشيطان نطفته حين يقع بالأرض بإصبعه، ولها يستهل، إلا ما كان من مريم بنت عمران وابنها عيسى، لم يصل إبليس إليها.
قال ابن عباس: لما وضعتها خشيت حنة أم مريم ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها لأنها كانت بنت إمامهم - وكان إمام القراء من ولد هارون - أيهم يأخذها، فقال زكريا: - وهو رأس الأحبار - أنا آخذها وأنا أحقهم بها، أختها عندي، يعني أم يحيى، فقالت القراء: وإن كان في القوم من هو أفقر إليها منك، ولو تركت لأحق الناس بها تركت لأمها ولكنها محررة غير أنا نتاهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي " أيهم يكفل مريم " يعني أيهم يقبضها، فقرعهم زكريا.
وكانت قرعة أقلامهم أنهم جمعوها في موضع، ثم غطوها، فقالوا لبعض خدم بيت المقدس من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم: أدخل يدك، فأخرج قلماً منها، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى، ولكن نلقي الأقلام في الماء، فمن خرج قلمه في
جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن، فارتفع قلم زكريا في جرية الماء، فقالوا: نقترع الثالثة، فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء، وارتفعت أقلامهم في جرية الماء، وقبضها عند ذلك زكريا، فذلك قوله عز وجل: " وكفلها زكريا " يعني وقبضها، ثم قال: " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً " يعني ورباها تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها حتى ترعرت، وبنى لها زكريا محراباً في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، وكان استأجر لها ظئراً، فلما تم لها حولان طعمت وتحركت، فكان يغلق عليها الباب، والمفتاح معه، لا يأمن عليه أحداً، لا يأتيها بما يصلحها غيره حتى بلغت.
وقيل: إنهم لما خرجوا إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، أيهم يقوم قلمه فيكفلها، فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين، فأخذ الجارية.
أصاب بني إسرائيل أزمة، ومرين عند زكريا على حالها حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: تعلمون أني قد ضعفت عن حمل ابنة عمران، فقالوا: ونحن قد جهدنا من حمل هذه السنة، فتقارعوا بينهم، فخرج السهم على رجل من بني إسرائيل نجار، يقال له: جريج، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه، فقالت: يا جريج، أحسن الظن بالله، فإن الله سيرزقنا.
فجعل الله يرزق جريجاً لمكانها منه، فيأتيها كل يوم رزقها غدوة وعشية وهي في الكنيسة.
قال ابن عباس: فكان زكريا يقوم بشأنها، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله من محرابها،
فتكون مع خالتها وأختها يلسفع أم يحيى، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس، فكان زكريا يرى عندهم في المحراب العنب في الشتاء الشديد فيأتيها به جبريل من السماء.
وعن ابن عباس قال: كان بنو إسرائيل إذا أرادوا أن يحرروا للمحراب ولد أحد منهم لم يحرروه حتى يولد، فإن كان غلاماً فشاؤوا أن يحرروه لمهنة المحراب حرروه وإن كانت جارية لم يحرروها للمحراب، وإن امرأة عمران عجلت؛ فنذرت ما في بطنها " فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى " الآية.
فحملتها على خرقة وأدخلتها المحراب وقالت: أقضي ما نذرت لله علي، فقالوا: ما هذه؟ قالت: كنت عجلت ونذرت ما في بطني محرراً لمهنة المحراب، فوضعتها أنثى، فجئت لأقضي ما جعلته لله علي، قالوا: وما شأن المحراب وشأن الأنثى، فألقى الله في قلوبهم محبة مريم، فقالوا: ما كنا نقبل الأنثى، سوف نقبل هذه.
قال: فوضعتها بين أيديهم وخرجت، وتشاح القوم فيها، فقال لهم زكريا: أخت هذه الجارية عندي، وأنا أحق بها أن أكفلها، وكان في المحراب جدول يجري يشربون منه ويتوضؤون فيه، فلما رأى زكريا إباءهم عليه قال: بيني وبينكم أقلامنا التي نكتب بها التوراة، يجيء كل رجل بقلمه فيلقيه في هذا الجدول، فأي قلم منها شق الماء فقد كفله الله هذه الصبية.
قالوا: نعم، فجاء كل رجل منهم بقلمه، وجاء زكريا بقلمه، فألقوها في الجدول، فذهب الماء بأقلامهم، واستقبل قلم زكريا الماء فجعل يشقه، فقال لهم زكريا: معه، قالوا: قد كفلكها الله تعالى، فأنبتها الله نباتاً حسناً، فجعل لها في المحراب بيتاً لا يدخل
عليها فيه إلا بإذنها، فكان زكريا يستأذن عليها؛ فتأذن له، فيدخل عليها، يسلم عليها، فتأتيه بمكيل عندها، فتضعه بين يديه، فيجد زكريا فيه عنباً في غير حين العنب، فيقول: " يا مريم أنى لك هذا؟ ". فتقول: " هو من عند الله ". وقيل: هو ثمرة الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء الرمان في غير حينه.
فرغب زكريا في الولد، " فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها " لقادر " أن يصلح لي زوجي ويهب لي منها ولداً "، فدعا ربه، فأوحى الله إليه يبشره بيحيى " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً "، " قال: رب اجعل لي آية قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ".
قال أبو الحسن: يعني هي آية البشرى، فكان زكريا إذا قام يصلي لربه أطلق لسانه فيناجيه، فإذا خرج إلى أهل المحراب اعتقل لسانه، فيشير إليهم أن صلوا كما كنتم تصلون ثلاثة أيام.
فلما بلغت مريم فبينا هي في بيتها متفضلة، إذ دخل عليها رجل بغير إذن، فخشيت أن يكون دخل عليها ليغتالها فقالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال: كذلك قال ربك ".
قال: فجعل جبريل يردد ذلك عليها، وتقول: " أنى يكون لي غلام ". قال: وتغفلها جبريل فنفخ في جيب درعها ونهض عنها، فاستمر بها حملها، فقالت:
إن خرجت نحو المغرب فالقوم يصلون نحو المغرب، ولكن أخرج نحو المشرق حيث لا يراني أحد، فخرجت نحو المشرق.
فبينا هي تمشي إذ فجئها المخاض؛ فنظرت هل تجد شيئاً تستتر به؟ فلم تر إلا جذع النخلة؛ فقالت: أستتر بهذا الجذع من الناس، وكان تحت الجذع نهر يجري، فانضمت إلى النخلة، فلما وضعته خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجداً لوجهه، وفزع إبليس فخرج فصعد فلم يجد شيئاً ينكره، وأتى المشرق فلم يجد شيئاً ينكره، ودخل الأرض فلم يجد شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فأتى المغرب لينظر فلم ير شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فبينا هو يطوف إذ مر بالنخلة، فإذا هو بامرأة معها غلام قد ولدته، وإذا الملائكة قد أحدقوا بها وبابنها وبالنخلة، فقال: هاهنا حدث الأمر، فمال إليهم فقال: أي شيء هذا الذي أحدث؟ فكلمته الملائكة فقالوا: هذا نبي ولد بغير ذكر، قال: نبي ولد بغير ذكر؟ قالوا: نعم. قال: أما والله لأضلن به أكثر العالمين، أضل اليهود فكفروا به، وأضل النصارى فقالوا: هو ابن الله.
قال: وناداها ملك من تحتها " قد جعل ربك تحتك سرياً "، والسري هو النهر بكلام أهل اليمن.
قال إبليس: ما حملت أنثى إلا بعلمي، ولا وضعته إلا على كفي، ليس هذا الغلام، لم أعلم به حين حملته أمه، ولم أعلم به حين وضعته.
قال: وكان دعاء زكريا ربه لثلاث ليال بقين من المحرم، قام زكريا فاغتسل، ثم ابتهل بالدعاء إلى الله. قال: يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء، وثمار الشتاء في الصيف، " هب لي من لدنك " يعني من عندك " ذرية طيبة " يعني تقياً، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصة عبده زكريا، ودعائه ربه، وإجابة الله عز وجل وتخننه
عليه، فقال جل وعز: " كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا ".
قال ابن عباس: خمسة أحرف وخمسة أسماء مقطعة، يعني بكاف: كافياً لخلقه، ها: يعني هادياً لأوليائه، يا: يعني يميناً يحلف به عباده، عين: يعني عالماً بأعمال خلقه، صاد: يعني صادقاً وعده.
ووهب الله له يحيى ولم يسم يحيى قبله.
وقيل: إن جبريل عليه السلام نفخ ما بين جيبها ودرعها، فمكث ما يمكث النساء، فخرجت هاربة من أهلها نحو الشرق، وخرجوا في طلبها، فجعلوا لا يلقون أحداً إلا قالوا: هل رأيت فتاة من حالها كذا وكذا؟ فلقوا راعي بقر، فقالوا: يا راعي، هل رأيت فتاة كذا وكذا؟ قال: لا، رأيت من بقري شيئاً لم أره فيما مضى في ليلتي هذه، رأيتها تسجد نحو هذا الوادي.
قال: وجاءها المخاض، فساندت إلى النخلة، و" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً " حيضة بعد حيضة، فناداها جبريل من أقصى الوادي: " قد جعل ربك تحتك سرياً، وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً "، قالت: لا أدري شاتية أو صائفة، " فكلي واشربي وقري عيناً "، فوضعته وقطعت سرته، ولفته في خرقة، فحملته، فأقبلوا حيث رأوها، فأقعدته في حجرها، فأعطته ثديها، فجاؤوا فقاموا عليها فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " أي عظيماً، فمن أين لك هذا؟ "
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، فأشارت إليه " أن كلموه " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً " والمهد حجرها، فنزع فمه من ثديها وجلس واتكأ على يساره، فقال: " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً " حتى بلغ " فاختلف الأحزاب " والأحزاب: الناس.
وفي حديث: أن مريم خرجت إلى جانب المحراب لحيض أصابها فلما طهرت إذا هي برجل معها، وهو قوله " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً " وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، ففزعت منه و" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً "، فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت.
فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة لتزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله: " مصدقاً بكلمة من الله " وذكرت القصة.
وعن ابن عباس: في قوله: " وبراً بوالديه " قال: كان لا يعصيهما، " ولم يكن جباراً " قال: لم يكن قتال النفس التي حرم الله قتلها " عصياً " يعني لم يكن عاصياً لربه، "
وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ".
ولما وهب الله لزكريا يحيى، بلغ ثلاث سنين، بشر الله مريم بعيسى.
فبينا هي في المحراب " إذ قالت الملائكة " وهو جبريل وحده: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها، " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين، مع قراء بيت المقدس.
والقنوت: طاعة الله عز وجل. وقيل: " اقنتي لربك " سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينها.
يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم، و" ما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم.
ثم قال: يا محمد، يخبر بقصة عيسى " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا ومن المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.
وفي حديث: لما استقر حمل مريم، وبشرها جبريل؛ فوثقت بكرامة الله، واطمأنت وطابت نفساً، واشتد أزرها.
وكان معها في المحررين ابن خال لها يقال له يوسف، وكان يخدمها من وراء الحجاب، ويكلمها، ويناولها الشيء من وراء الحجاب، وكان أول من اطلع على حملها هو، واهتم لذلك، وأحزنه، وخاف منه البلية التي لا قبل له بها، ولم يشعر من أين أتيت مريم، وشغله عن النظر في أمر نفسه وعمله لأنه كان متعبداً حيكماً، وكان من قبل أن تضرب مريم الحجاب على نفسها تكون معه ونشأ معها.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما ثم انطلقا إلى المغارة التي فيها الماء، فيملأان قلتيهما ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة مقبلة على مريم بالبشارة " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فيعجب يوسف مما يسمع.
فلما استبان ليوسف حمل مريم وقع في نفسه من أمرها حتى كاد أن يفتتن، فلما أراد أن يتهمها في نفسه ذكر ما طهرها الله واصطفاها، وما وعد الله أمها أنه معيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، وما سمع من قول الملائكة: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فذكر الفضاء التي فضلها الله عز وجل بها، وقال: إن زكريا قد أحرزها في المحراب؛ فلا يدخل عليها أحد، وليس للشيطان عليها سبيل؛ فمن أين هذا؟ فلما رأى من تغير لونها، وظهر بطنها، عظم ذلك عليه وتحير فيه رأيه وعقله، وخاف الإثم من التهمة وسوء الظن بها.
فعض لها فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إن الله خلق البذر الأول من غير نبات، وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر، ولعلك تقول:
لولا أنه استعان عليها بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته.
قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت، وقلت بالنور والحكمة، كما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر على أن يجعل زرعاً من غير بذر.
قال لها يوسف: أخبريني فهل ينبت الشجر من ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر والزرع والماء والمطر والشجر خالقاً واحداً؟ فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر! قال: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت وتكلمت بالنور والحكمة، فأخبريني هل يكون ولد أو حبل من غير ذكر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء امرأته من غير حبل ولا أنثى ولا ذكر؟ قال: بلى.
قال لها: فأخبريني خبرك، قالت: بشرني الله " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " إلى قوله: " ومن الصالحين ".
فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله بسبب خير أراده بمريم، فسكت عنها، فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق، فنوديت: أن اخرجي من المحراب، فخرجت.
وعن أبي وائل قال: لقد علمت مريم أن التقي ذو نهية حتى قالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ".
وقيل: إن مريم حملت بعيسى تسعة أشهر، وأن زكريا النجار هو القائل لها: أخبريني: هل يكون زرع من غير بذر. الحديث.
وقيل: لم يكن في حمل مريم إلا أن حملت ثم وضعت.
وقيل:
إنها وضعت لثمانية أشهر، ولذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر إلا مات لئلا تسب مريم بعيسى عليه السلام.
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس شيء من الشجر يلقح غيرها، وأطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فالتمر، فليس شيء من الشجر أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: إن رسلي أخبروني أن قبلكم شجرة تحمل مثل أذان الحمر، ثم تفلق عن مثل اللؤلؤ الأبيض ثم تغبر ثم تصير مثل الزمرد الأخضر، ثم تغبر فتصير مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع ثم تنضج فتصير مثل الفالوذجة، فتصير عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن رسلي صدقوني فإن هذه شجرة من شجر الجنة.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن رسلك قد صدقوا، وهي شجرة عندنا يقال لها النخلة، وهي التي أنبتها الله على مريم حين نفست، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله، فإنما " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون. الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أطعموا نساءكم في نفاسهن التمر، فإنه من كان طعامها في نفاسها التمر خرج ولدها ذلك حليماً، فإنه كان طعام مريم حيث ولدت عيسى، ولو علم الله طعاماً هو خير لها من التمر لأطعمها إياه ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحماً لا دم له، فأطعمها الجراد،
فقالت: اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بينه بغير شياع.
قيل: ما الشياع؟ قال: الصوت.
قال عمرو بن ميمون: خير الطعام للنفساء التمر والرطب يريد قوله عز وجل: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ".
وعن الحسن: سأله رجل: يا أبا سعيد ما تقول في قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سرياً "، قال الحسن: عبداً صالحاً تقياً، فقال أعرابي وهو قائم يسمع إلى حديث الحسن: إنا لا نقول ذلك، ولكن نقول: سرياً يعني جدولاً نهراً صغيراً، قال الحسن: أحسنت يا أعرابي بمثلها فأفدنا.
قال ابن عباس: وذلك أنه أصابها العطش، فأجرى الله لها جدولاً من الأردن، وحمل الجذع من ساعته رطباً جنياً يعني بغباره، فناداها من تحتها جبريل: " هزي إليك بجذع النخلة " ولم يكن على رأسها سعف، وكانت قد يبست منذ دهر طويل، فأحياها الله لها، وحملت، فذلك قوله: " تساقط عليك رطباً جنياً " يعني طرياً بغباره، " فكلي " من الرطب " واشربي " من الجدول " وقري عيناً " بولدك.
فقالت: فكيف لي إذا سألوني: من أين هذا؟ قال لها جبريل: " فإما
ترين " يعني: فإذا رأيت " من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " يعني صمتاً في أمر عيسى " فلن أكلم اليوم إنسياً " في أمره حتى يكون هو الذي يعبر عني وعن نفسه. الحديث.
فطلبوها فلما رأت قومها قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به، فذلك قوله: " فأتت به قومها تحمله " أي لا تخاف ريبة ولا تهمة، فلما نظروا إليها شق أبوها مدرعته، وجعل التراب على رأسه وإخوتها وآل وكريا، فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " يعني عظيماً " يا أخت هارون ".
وقال ابن عباس: في قوله عز وجل: " فأتت به قومها تحمله " قال: بعدما تعالت من نفاسها، بعد أربعين يوماً.
وعن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم ترؤون: " يا أخت هارون " وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى من القرون؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
وعن مجاهد: في قول الله عز وجل: " يا أخت هارون " قال: كان رجل صالح في بني إسرائيل حضر جنازته أربعون ألفاً ممن اسمه هارون سواه.
وقال مجاهد: كان رجلاً صالحاص يسمى هارون بني إسرائيل، فشبهوها به فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح.
وقال ابن عباس: " يا أخت هارون " إنما كانت من آل هارون.
وعن ابن عباس: " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً " يعني زانية، فأنى أتيت هذا الأخ الصالح، والأب الصالح، والأم الصالحة؟ فأشارت إليه أن كلموه فإنه سيخبركم، وإني نذرت لله صوماً ألا أكلمكم في أمره؛ فإنه سيعبر عني ويكون لكم آية وعبرة.
قالوا يا عجباً " كيف نكلم من كان في المهد صبياً " يعني من هو في الخرق صبياً طفلاً لا ينطق إلا إن أنطقه الله عز وجل، فعبر عن أمه، وكان عبرة لهم، فقال: " إني عبد الله " فلما أن قالها ابتدأ يحيى - وهو ابن ثلاث سنين - فكان أول من صدق به، فقال: أنا أشهد أنك عبد الله ورسوله، لتصديق قول الله: و" مصدقاً بكلمة من الله " فقال عيسى: " آتاني الكتاب وجعلني نبياً " إليكم، " وجعلني مباركاً أينما كنت ".
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البركة التي جعلها الله لعيسى أنه كان معلماً مؤدباً حيثما توجه، فذلك قوله: " أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً "، يعني وأمرني بالصلاة والزكاة " وبراً بوالدتي ".
قال ابن عباس: حين قال: " وبراً بوالدتي " قال زكريا: الله أكبر، فأخذه فضمه إلى صدره.
قال ابن شوذب: كانت لرجل جارية، وكان يطؤها سراً من أهله، فوطئها فقال لأهله: اغتسلوا فإن مريم كانت تغتسل في هذه الليلة، قال: وكانت مريم تغتسل في كل ليلة.
وعن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير نسائها مريم بنت عمران هي خير نسائها يومئذ وخير نسائها خديجة بنت خويلد ".
وفي رواية عنه: " خير نساء لجنة مريم بنت عمران وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالماً فاطمة ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، صلوات الله عليهن أجمعين ".
وعنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وعليهن وسلم ".
وعن عائشة: أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكيت، ثم أكببت فضحكت؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به، قال: " وأنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران "؛ فضحكت.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران ".
وعن علي: أن فاطمة شكت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ألا ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأحلمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟! أما ترضي أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا ما جعل الله لمريم بنت عمران، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة؟! ".
وعن عمار بن سعد قال: رأت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع اللحم لفاطمة وابنيها، فقالت: يا رسول الله لابنة الحمراء وحيش من رأيته تقطع اللحم، فغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترك عائشة لا يكلمها، وأن أم رومان كلمته فقالت: يا رسول الله إن عائشة هنة
فلا تؤاخذها، فقال: " وتدرين ما قالت؟! إنها قالت: كذا وكذا في خديجة، وقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".
وعن عتبة بن عبيد الثمالي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أقسمت لبررت، لا يدخل الجنة قبل سابق أمتي إلا بضعه عشر رجلاً منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم بنة عمران ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولو علمت أن مريم ركبت الإبل ما فضلت عليها أحداً من النساء ".
وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
وعن ابن عمر قال:
نزل جبريل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مرت خديجة بنت خويلد، فقال جبريل: من هذه يا محمد؟ قال: هذه صديقة أمتي، قال جبريل: معي إلياه رسالة من البر تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام ومنه السلام، والسلام عليكما، ورحمة الله وبركاته على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما ذلك البيت الذي من قصب؟ قال: لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على خديجة وهي في الموت فقال: يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فاقريهن مني السلام، قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون " فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله.
وعن ابن أبي رواد قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خديجة في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها: بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ قالت: وقد جعل الله ذلك بك يا رسول الله؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين.
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نخر في أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة يوم القيامة ".
كان من دعاء مريم أم عيسى: اللهم املأ قلبي منك فرحاً وغش وجهي منك الحياء.
وكان من دعاء بعض التابعين: اللهم وأمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك.
قال يحيى بن حبيب: بلغني أن أهل بيت من بني إسرائيل كانوا أهل بيت الملك، قال: فاندست إليهم مريم إلى نسائهم فقالت: هذا الملك قد ظفر بعيسى فقتله وصلبه فما يصنع بصلبه وقد بلغ حاجته منه، فلو كلمتم صاحبكم أو من يكلمه أن يهب لي جسده، قال: فكلم، فوعدهم أن يفعل. قال: فوجد منه خلوة قال: فذكروا له أن أهل هذا البيت كانوا منقطعين إلينا، وقد ظفرت به وقتلته، وبلغت حاجتك منه فما تصنع بصلبه؟ هب لي جسده، قال: نعم، قد وهبت لك.
قال: فاستنزل ودفن، قال: وأهل الفتى الذي ألقي عليه شبه عيسى قد فقدوه وهم يبكون ولا يدرون ما فعل.
فقالت مريم لأم يحيى: انطلقي بنا نزور قبر المسيح، وهم لا يرون إلا أنه عيسى.
قال: فخرجتا تمشيان مستترتين، فلما أن برزتا تركتا بعض التستر. فبينما هما تمشيان إذ تسترت مريم حين دنت من القبر، وجعلت أم يحيى لا تستتر: قالت لها مريم: ما لم لا تستترين؟ قالت: وممن أتستر؟ قالت: أو ما ترين الرجل على قبر المسيح؟ قالت لها أم يحيى: ما أرى أحداً. قالت: لا، قال: فزجت مريم أن يكون جبريل، قال: ولم يكن لها عهد بجبريل بعد الوقعة الأولى، فقالت لأم يحيى: كما أنت لا تبرحي، ومضت إلى القبر، فقال لها جبريل: يا مريم، أين تريدين؟ قال: فعرفته، فقالت: أريد قبر المسيح أسلم عليه وأحدث به عهداً.
قال: يا مريم، إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتي الذي ألقي عليه شبه عيسى، فأخذ وقتل وصلب، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدروه ما فعل، فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأتي غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرت أم يحيى أن جبريل، وما أخبرها جبريل من إتيان الغيضة، فإذا هي بعيسى في الغيضة، فلما رآها أسرع إليها فأكب عليها، وقبل رأسها، وجعل يدعو لها، كما كان يفعل، وقال: يا أمه، إن القوم لم يقتلوني، ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك، والموت يأتيك قريباً، فاصبري واذكري الله، ثم صعد عيسى، ولم تلقه إلا تلك اللقاة حتى ماتت.
وقيل: إن مريم بقيت بعد رفع عيسى خمس سنين، وكان عمرها ثلاثاً وخمسين سنة.