مرشد بن علي بن المقلد
ابن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم أبو سلامة الكناني ذكر لي ولده أبو المغيث منقذ بن مرشد أنه دخل طرابلس غير مرة، وكان مولده بحلب سنة ستين وأربعمئة، وسافر إلى بغداد وأصبهان، وكانت له يد طولى في علم العربية
والكتابة والشعر، وكان حافظاً للقرآن، حسن التلاوة له، كثير الصوم، شديد البأس والنجدة في الحرب، ونسخ بخطه سبعين ختمة بخط حسن.
حدثني ابنه أبو عبد الله محمد بن مرشد وكتبه لي بخطه، قال: مات عمي أبو المرهف نصر بن علي، وأوصى بشيزر لوالدي، فقال: لا وليتها ولا خرجت من الدنيا إلا كما دخلت إليها، فولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، فاصطحبنا أجمل صحبة مدة من الزمان، وأنا قد نشأنا، ولم يكن لعمي أبي العساكر ولد، فلحقه الحسد على كون أخيه له عدة من الولد، ولم يكن له سوى بنات، ثم رزق أولاداً صغاراً، فصار كلما رأى صغرهم ورأى أولاد أخيه قد سدوا مكان أبيهم تضاعف الحسد؛ فكتب إلى والدي شعراً فأجابه بقصيدة منها: " من الطويل "
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعاني فيه لي والمعاليا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوف ... إذا رمت أدنى القول منه عصانيا
ومنها:
ولبيت في الحرب الضروس بمهجتي ... على حرس عمي يجيب المناديا
ورصعت في علياك در مدائح ... تخال نجوم الأفق فيها قوافيا
وقلت أخي يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فما لك لما أن حتى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتنائيا
فأصببحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
ولا غرو عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهن بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم السماء لم تغد دراريا
تحلت بدر من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانياً للجود ما كان واهياً ... مشيداً من الإحسان ما كان هاويا
وله قصيدة أولها: " من الطويل "
لنا منك يا سلمى عذاب وتعذيب ... وجفن قريح دمعه دمعه فيك مسكوب
ووعد كوعد الدهر يوشك بالغنى ... ولكنه بالمين والمطل مقطوب
تجدين لي هجراً وفعلك مازح ... وتبدين لي زهداً ولي فيك ترغيب
وتبدي سليمى بالصدود تأدباً ... رويدك ما بالموت يا سلم تأديب
وله: " من الطويل "
وما الشعر مما أرتضيه صناعة ... ولا هو من فعل الأماجد محسوب
وله من قصيدة إلى أخيه أبي كامل شافع: " من البسيط "
صفات مجدك تلهيني عن الغزل ... فلست أبكي على رسم ولا طلل
ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... حبالها من حبالي راجعي وصلي
حسبي مديحك تسبيحاً أؤمله ... يوم القيامة عند الله يشفع لي
ملكتني بأيديك التي غمرت ... فعدت في وجل منها وفي جذل
ما خاب حائز آمال بعثت بها ... إليك إلا بما يوفي على مهل
وافتك غراء نظم بنت ساعتها ... تشكو تباريح وجهه غير منتحل
ما إن لها في الورى كفء يماثلها ... من بعد سلطان إلا شافع بن علي
صنوا البدور إماماً كل مكرمة ... عما توالى لمن في السهل والجبل
وله من قصيدة أولها: " من مجزوء الوافر "
تقطع قلبه أسفاً ... فأضحى للأسى هدفا
وباح بكل ما أخفى ... فليس بما أجن خفا
وما يجدي الجحود له ... إذا ما دمعه اعترفا
زفير لا يني وحشاً ... إذا ذكر الفراق هما
وعين دمعها جار ... إذا نهنهته وكفا
لها دمعان وردي ... وآخر كالجمان صفا
وكان الحبس كثير البسق والبراغيث، فكتب إلى أولاده حين أرادوا التوجه إليه: " من البسيط "
صاحبت بالحبس ليلاً لا انقضاء له ... كأنما صبحه قد ضل أو عدما
مكلماً من براغيث أظل بها ... أعض كفي من ذلي بها ندما
لبست منها قميصاً لو تقمصه ... أيوب لحظة عين لاشتكى ألما
وجاءني البق لا أبقاه خالقه ... مغرداً بطنين عقب الصمما
فقلت: لا تقربني إنني راجل ... لم تبق في براغيث البريح ذما
قال: وكتب إلى أبي مصيار: " من البسيط "
رحلت عنك وأشواقي تجاذبني ... إليك والوجد يثنيني ويعطفني
وغبت عني وما غيبت عن خلدي ... وبنت عنك وسري عنك لم يبن
وما فراقك يا من لا نظير له ... إلا نظير فراق الروح للبدن
ما بعد مثلك محمود عواقبه ... ولا التصبر عن رؤياك بالحسن
حكى لي أبو المغيث منقذ بن مرشد الكناني، قال: كنت عند والي رحمه الله تعالى وهو ينسخ مصحفاً، ونحن نتذاكر خروج الروم، فرفع المصحف وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بخروج الروم فخذ روحي ولا أراهم؛ فمات يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمئة بشيزر، ودفن في داره؛ وخرجت الروم ونزلوا على شيزر في نصف شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، فحاصروها أربعة وعشرين يوماً، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، ثم رحلوا عنها يوم السبت تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، والله أعلم.
ابن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم أبو سلامة الكناني ذكر لي ولده أبو المغيث منقذ بن مرشد أنه دخل طرابلس غير مرة، وكان مولده بحلب سنة ستين وأربعمئة، وسافر إلى بغداد وأصبهان، وكانت له يد طولى في علم العربية
والكتابة والشعر، وكان حافظاً للقرآن، حسن التلاوة له، كثير الصوم، شديد البأس والنجدة في الحرب، ونسخ بخطه سبعين ختمة بخط حسن.
حدثني ابنه أبو عبد الله محمد بن مرشد وكتبه لي بخطه، قال: مات عمي أبو المرهف نصر بن علي، وأوصى بشيزر لوالدي، فقال: لا وليتها ولا خرجت من الدنيا إلا كما دخلت إليها، فولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، فاصطحبنا أجمل صحبة مدة من الزمان، وأنا قد نشأنا، ولم يكن لعمي أبي العساكر ولد، فلحقه الحسد على كون أخيه له عدة من الولد، ولم يكن له سوى بنات، ثم رزق أولاداً صغاراً، فصار كلما رأى صغرهم ورأى أولاد أخيه قد سدوا مكان أبيهم تضاعف الحسد؛ فكتب إلى والدي شعراً فأجابه بقصيدة منها: " من الطويل "
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعاني فيه لي والمعاليا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوف ... إذا رمت أدنى القول منه عصانيا
ومنها:
ولبيت في الحرب الضروس بمهجتي ... على حرس عمي يجيب المناديا
ورصعت في علياك در مدائح ... تخال نجوم الأفق فيها قوافيا
وقلت أخي يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فما لك لما أن حتى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتنائيا
فأصببحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
ولا غرو عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهن بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم السماء لم تغد دراريا
تحلت بدر من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانياً للجود ما كان واهياً ... مشيداً من الإحسان ما كان هاويا
وله قصيدة أولها: " من الطويل "
لنا منك يا سلمى عذاب وتعذيب ... وجفن قريح دمعه دمعه فيك مسكوب
ووعد كوعد الدهر يوشك بالغنى ... ولكنه بالمين والمطل مقطوب
تجدين لي هجراً وفعلك مازح ... وتبدين لي زهداً ولي فيك ترغيب
وتبدي سليمى بالصدود تأدباً ... رويدك ما بالموت يا سلم تأديب
وله: " من الطويل "
وما الشعر مما أرتضيه صناعة ... ولا هو من فعل الأماجد محسوب
وله من قصيدة إلى أخيه أبي كامل شافع: " من البسيط "
صفات مجدك تلهيني عن الغزل ... فلست أبكي على رسم ولا طلل
ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... حبالها من حبالي راجعي وصلي
حسبي مديحك تسبيحاً أؤمله ... يوم القيامة عند الله يشفع لي
ملكتني بأيديك التي غمرت ... فعدت في وجل منها وفي جذل
ما خاب حائز آمال بعثت بها ... إليك إلا بما يوفي على مهل
وافتك غراء نظم بنت ساعتها ... تشكو تباريح وجهه غير منتحل
ما إن لها في الورى كفء يماثلها ... من بعد سلطان إلا شافع بن علي
صنوا البدور إماماً كل مكرمة ... عما توالى لمن في السهل والجبل
وله من قصيدة أولها: " من مجزوء الوافر "
تقطع قلبه أسفاً ... فأضحى للأسى هدفا
وباح بكل ما أخفى ... فليس بما أجن خفا
وما يجدي الجحود له ... إذا ما دمعه اعترفا
زفير لا يني وحشاً ... إذا ذكر الفراق هما
وعين دمعها جار ... إذا نهنهته وكفا
لها دمعان وردي ... وآخر كالجمان صفا
وكان الحبس كثير البسق والبراغيث، فكتب إلى أولاده حين أرادوا التوجه إليه: " من البسيط "
صاحبت بالحبس ليلاً لا انقضاء له ... كأنما صبحه قد ضل أو عدما
مكلماً من براغيث أظل بها ... أعض كفي من ذلي بها ندما
لبست منها قميصاً لو تقمصه ... أيوب لحظة عين لاشتكى ألما
وجاءني البق لا أبقاه خالقه ... مغرداً بطنين عقب الصمما
فقلت: لا تقربني إنني راجل ... لم تبق في براغيث البريح ذما
قال: وكتب إلى أبي مصيار: " من البسيط "
رحلت عنك وأشواقي تجاذبني ... إليك والوجد يثنيني ويعطفني
وغبت عني وما غيبت عن خلدي ... وبنت عنك وسري عنك لم يبن
وما فراقك يا من لا نظير له ... إلا نظير فراق الروح للبدن
ما بعد مثلك محمود عواقبه ... ولا التصبر عن رؤياك بالحسن
حكى لي أبو المغيث منقذ بن مرشد الكناني، قال: كنت عند والي رحمه الله تعالى وهو ينسخ مصحفاً، ونحن نتذاكر خروج الروم، فرفع المصحف وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بخروج الروم فخذ روحي ولا أراهم؛ فمات يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمئة بشيزر، ودفن في داره؛ وخرجت الروم ونزلوا على شيزر في نصف شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، فحاصروها أربعة وعشرين يوماً، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، ثم رحلوا عنها يوم السبت تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، والله أعلم.