محمد بن يزيد بن عبد الأكبر
ابن عمير بن حسان بن سليمان بن سعد أبو العباس الأزدي الثمالي البصري النحوي، المعروف بالمبرد حدث عن المغيرة، بسنده إلى مالك بن أنس، قال: لهؤلاء الشطار ملاحةٌ، كان أحدهم يصلي خلف إنسانٍ، فقرأ الإنسان " الحمد لله رب العالمين " حتى فرغ منها، ثم أرتج عليه، فجعل يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وجعل يردد ذلك، فقال الشاطر: ليس للشيطان ذنبٌ إلا أنك لا تحسن تقرأ.
قال المبرد:
كنا عند التوجي، فجاءه عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فأجلسه إلى جنبه، ثم قال لي: اقرأ عليه من شعر جده جرير، فقرأت عليه قصائد فيها: من الكامل
طرب الحمام بذي الأراك فشاقني ... لا زلت في فننٍ وأيكٍ ناضر
فلما بلغت إلى قوله:
أما الفؤاد فلا يزال موكلاً ... بهوى جمانة أو بحب العاقر
قال له التوجي: ما جمانة والعاقر؟ قال: ما يقول صاحبكم يعني أبا عبيدة؟ قال: هما امرأتان؛ فضحك؛ وقال: لا عليه، ذهب مذهباً يذهب نحوه، هما والله رملتان عند بيوتنا من عن يمينٍ وشمالٍ قال التوجي: اكتب، فلو حضر أبو عبيدة لأفاد هذا، لأنه بيت الرجل.
قال المبرد: قال المفضل الضبي لأعرابي: من أين معاشك؟ قال: نرد الحاج؛ قلت: فإذا صدروا؛ فبكى، ثم قال: لو لم تعش إلا من حيث تدري لم تعش؛ فلما أردت الانصراف قال: أتفهم؟ قلت: نعم؛ قال: من الطويل
هل الدهر إلا ضيقةٌ تتفرج ... وإلا جديدٌ ناضرٌ ثم ينهج
أرى الناس في الدنيا كسفر تتابعوا ... على منهجٍ ثم استخفوا فأدلجوا
قال المبرد: وافيت الشام وأنا حدثٌ في جماعةٍ أقرانٍ أكتب الحديث، فاجتزنا بدير مران، فقلت: أنا أحب النظر إليه؛ فدخلناه فرأينا منظراً حسناً، وإذا في بعض بيوته كهلٌ مشدودٌ، حسن الوجه، عليه أثر النعمة؛ فدنونا منه فسلمنا عليه، فرد، وقال: من أين أنتم؟ قلنا: من العراق؛ قال: بأبي أنتم، ما الذي أقدمكم هذا البلد الغليظ هواؤه الثقيل ماؤه، الجفاة أهله؟ قلنا: طلب الحديث والأدب؛ قال: حبذا تنشدوني أو أنشدكم؟ قلنا: أنشدنا، فقال: من الكامل
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي روحٌ تضمنها ... بلدٌ وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبرٌ وليس يضرها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
ثم أغمي عليه وأفاق، فصاح بنا، فعدنا إليه، فقال: تنشدوني أو أنشدكم؟ فقلنا: أنشدنا، فأنشدنا: من الطويل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
وأبرزت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل
منها:
إني على العهد لم أنقص مودتهم ... فليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟
فقال فتىً من المجان: ماتوا؛ قال: فأموت أنا أيضاً؛ ثم تمطى وتمدد، فما برحنا حتى دفناه.
لما عمل أبو عثمان كتاب الألف واللام، سأله كافة أصحابه عن جليله فكانوا فيه متقاربي الأحوال، ثم سأل أبا العباس يعني المبرد عن دقيقه ومعتاصه، فأحسن الجواب عنه، فقال أبو عثمان: قم فأنت المبرد، أي المثبت للحق؛ قال أبو العباس: فغير الكوفيون اسمي فجعلوه المبرد بفتح الراء، وإنما هو بكسرها.
ولد المبرد سنة عشرٍ ومئتين، ومات سنة خمسٍ وثمانين ومئتين، وما رأى المبرد مثل نفسه.
وكان المبرد شيخ أهل النحو، وحافظ علم العربية، وكان عالماً فاضلاً موثوقاً به في الرواية، حسن المحاضرة، مليح الأخبار، كثير النوادر، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قولٌ لمتقدمٍ.
قال أبو عبد الله المفجع: كان المبرد لعظم حفظه اللغة واتساعه فيها يتهم بالكذب، فتواضعنا على مسألةٍ
لا أصل لها نسأله عنها لننظر كيف يجيب، وكان قبل ذلك قد تمارينا في عروض بيت الشاعر: من الطويل
أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا
فقال بعضنا: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، فقطعناه وتردد على أفواهنا من تقطيعه " قبعضنا " فقلت له: أيدك الله ما القبعض؟ فقال: القطن، قال الشاعر: من الوافر
كأن سنامها حشي القبعضا
قال: فقلت لأصحابي: هو ذا ترون الجواب والشاهد، إن كان صحيحاً فهو عجيبٌ، وإن كان اختلق الجواب وعمل الشاهد في الحال فهو أعجب.
ومما مدح به المبرد: من الكامل
وإذا يقال: من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله؟ قيل: ابن عبد الأكبر
كان سليمان بن نوفل الدئلي سيداً في كنانة، فوثب رجلٌ من أهله على أبيه، فجيء به إليه، فقال له: ما أمنك مني وجرأك علي؟ أما خشيت عقابي؟ قال: لا؛ قال: ولم؟ قال: لأنا سودناك لتكظم الغيظ، وتحلم عن الجاهل؛ فخلى سبيله.
اجتمع أبو العباس بن سريج، وأبو العباس المبرد، وأبو بكر بن داود، في طريقٍ، فأفضى بهم إلى مضيقٍ، فتقدم ابن سريج وتلاه المبرد وتأخر ابن داود، فلما خرجوا إلى الفضاء التفت ابن سريج وقال: الفقه قدمني؛ وقال ابن داود: الأدب أخرني يعني حرفة الأدب فقال المبرد: أخطأتما جميعاً، إذا صحت المودة سقط التكلف والتعمل.
قال محمد بن يزيد المبرد: حدثنا بعض أصحابنا، قال: كان في زمن المأمون شيخٌ مؤذن مسجدٍ وإمامه، فكان إذا جاء زمان الورد أغلق باب المسجد ودفع مفتاحه إلى بعض جيرانه، وأنشأ يقول: من المجتث
يا صاحبي اسقياني ... من قهوةٍ خندريس
على جنبات وردٍ ... تذهب هم النفوس
خذا من الورد حظاً ... بالقصف غير خسيس
ما تنظران وهذا ... أوان حث الكؤوس
فبادرا قبل فوتٍ ... لا عطر بعد عروس
فلا يزال على هذا حتى تنقضي أيام الورد، فيرجع إلى مسجده ويقول: من الطويل
تبدلت من وردٍ جني ومسمعٍ ... شهي ومن لهوٍ وشرب مدام
وأنس بمن أهوى وصحبٍ ألفتهم ... بكأس ندامى كالشموس كرام
أذاناً وإخباتاً وقوماً أؤمهم ... بصرف زمانٍ مولعٍ بغرام
فذلك دأبي أو أرى الورد طالعاً ... فأترك أصحابي بغير إمام
وأرجع في لهوي وأترك مسجدي ... يؤذن فيه من يشا بسلام
قال محمد بن يزيد المبرد: كنت غلاماً خدناً جميلاً، وكان لي فتىً يهواني، ويقبل علي بالخير، وأقبل عليه بالشر، فاعتل علةً كنت سببها، فمات فكثر أسفي عليه، فبينا أنا نائمٌ إذا هو أقبل، فقلت: فلان؟ قال: نعم؛ فبكيت، فولى عني، وأنشأ يقول: من الوافر
أتبكي بعد قتلك لي عليا ... ومن قبل الممات تسي إليا
سكبت علي دمعك بعد موتي ... فهلا كان ذاك وكنت حيا
تجاف على البكاء ولا تزده ... فإني ما أراك صنعت شيا
قال المبرد: ما ذكرت هذه الأبيات إلا ترحمت عليه.
قال المازني للمبرد: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيس، وإلى مواضع المجانين والمعالجين، فما معناك في ذلك؟ فقلت: إن لهم طرائف من الكلام؛ فقال: خبرني بأعجب ما رأيت من المجانين؛ فقلت: دخلت يوماً إلى مستقرهم فرأيت مراتبهم على قدر بليتهم، وإذا قومٌ قيامٌ قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها، لأن علاج أمثالهم أن يقوموا بالليل والنهار، لا يقعدون ولا يضطجعون، ومنهم من يجلب على رأسه وتدهن أوراده، ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسبما يحتاجون إليه، ورحت يوماً مع ابن أبي خميصة، وكان المتقلد للنفقة عليهم ولتفقد أحوالهم، فنظروا إليه وانا معه، فأمسكوا عما كانوا عليه، ومررت على شيخٍ منهم تلوح صلعته وتبرق للدهن جبهته، وهو جالسٌ على حصيرٍ نظيفٍ، ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله، أين السلام؟ من المجنون ترى أنا أم أنت؟ فاستحييت منه وقلت: السلام عليكم؛ فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشةً، اجلس أعزك الله عندنا، وأومى إلى موضعٍ من حصيرة ينفضه، كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن أبي خميصة: إياك، إياك، فأحجمت عن ذلك، ووقفت ناحيةً أستجلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه، ثم قال لي وقد رأى محبرةً معي: يا هذا، أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهام؛ أتجالس أصحاب الحديث الأغثاء أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء؛ قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت: نعم، معرفة ثابتة؛ قال: أتعرف الذي يقول فيه: من مجزوء الرمل
وفتىً من مازنٍ ... ساد أهل البصرة
أمه معرفةً ... وأبوه نكره
قلت: لا أعرفه؛ قال: أفتعرف غلاماً له قد نبغ، معه ذهنٌ، وله حفظٌ، قد برز في النحو، وجلس مجلس صاحبه، وشاركه فيه يعرف بالمبرد؟ قلت: أنا والله عين الخبير به؛ قال: فهل أنشدك شيئاً من عبثات شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، قال: يا سبحان الله، أليس هو الذي يقول: من مجزوء الكامل
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح الخدود الناعمات
قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجلس الأنس؛ قال: يا سبحان الله أو يستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟ ما تسمع الناس يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون: هو من الأزد أزد شنؤه، ثم من ثمالة؛ قال: قاتله الله، ما أبعد غوره؛ أتعرف قوله: من الوافر
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد خل قومي ... فقومي معشرٌ فيهم نذالة
قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يقولها فيه؛ قال: كذب كل من ادعى هذه غيره، هذا كلام رجلٍ لا نسب له يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً؛ قلت: أنت أعلم؛ قال: يا هذا غلبت بخفة روحك، وتمكنت بفصاحتك من استحساني وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه، الكنية أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس؛ قال: فالاسم؟ قلت: محمد؛ قال: فالأب؟ قلت: يزيد؛ قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره، ثم وثب باسطاً يده لمصافحتي، فرأيت
القيد في رجله قد شد إلى خشبةٍ في الأرض، فأمنت عند ذلك غائلته؛ فقال لي: يا أبا العباس، صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع، فليس يتهيأ لك في كل وقتٍ أن تصادف مثلي على مثل هذه الحال الجميلة، أنت المبرد، أنت المبرد؛ وجعل يصفق وقد انقلبت عينه وتغيرت خلقته؛ فبادرت مسرعاً خوفاً من أن تبدر منه بادرةٌ، وقبلت قوله ولم أعاود الدخول إلى مخيس ولا غيره.
أنشد أحمد بن أبي طاهر لنفسه في المبرد: من الطويل
ويومٍ كحر الشوق في الصدر والحشا ... على أنه منه أحر وأرمد
ظللت به عند المبرد ثاوياً ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
ومن شعر المبرد: من الخفيف
لم أعاتبك بل مدحتك في الشع ... ر ويكفيك مدحتي عن عتابي
أي عارٍ عليك أعظم من مد ... حٍ إذا لم يكافه بثواب
قال أحمد بن مروان: أنشدنا المبرد: من الوافر
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عند أخٍ مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر
قال: وأنشدني: من الطويل
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأحوجني طول العزاء إلى الصبر
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ... تكرهت منه طال عتبي على الدهر
قال: وأنشدنا محمد بن يزيد: من الكامل
بادر هواك إذا هممت بصالحٍ ... وتجنب الأمر الذي يتجنب
واعمل لنفسك في زمانك صالحاً ... إن الزمان بأهله يتقلب
واحذر ذوي الملق اللئام فإنهم ... في النائبات عليك ممن يخطب
قال إسماعيل بن محمد النحوي: أنشدنا محمد بن يزيد المبرد: من الطويل
إذا ضاق صدري بالهموم تحللت ... لعلمي بأن الأمر ليس إلى الخلق
فلا الحزم يغنيني فأركب عزمه ... ولا العجز بالإمساك ينقص من رزقي
قال محمد بن يحيى الصولي: أنشدنا المبرد: من الطويل
ولي حاجةٌ قد راث غمي نجاحها ... وجودك أجدى وافرٍ في اقتضائها
وما لي شفيعٌ غير نفسك إنني ... اتكلت من الدنيا على حسن رأيها
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... ويبقي وجوه السائلين بمائها
شكوت وما الشكوى لنفسي بعادةٍ ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
أنشد المبرد لإبراهيم بن العباس الكاتب: من المجتث
لو قيل لي: خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان
قال جعفر بن قدامة: أنشدنا المبرد: من الطويل
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروةً ... وأصبحت فيها بعد عسرٍ أخا يسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقاً ... من اللؤم كانت تحت ثوبٍ من الفقر
ومن شعر محمد بن يزيد المبرد: من مجزوء الكامل
تأدب غير متكلٍ ... على حسبٍ ولا نسب
فإن مروءة الرجل الش ... شريف بصالح الأدب
توفي المبرد سنة خمسٍ وثمانين ومئتين، وكان مولده سنة عشرٍ ومئتين.
وكان في العلم بنحو البصريين فرداً؛ ومن شعره: من السريع
وصاحبٍ أثقل من أحد ... جلوسه جهدٌ من الجهد
علامة المقت على وجهه ... بينةٌ مذ كان في المهد
لو دخل النار انطفى حرها ... ومات من فيها من البرد
ابن عمير بن حسان بن سليمان بن سعد أبو العباس الأزدي الثمالي البصري النحوي، المعروف بالمبرد حدث عن المغيرة، بسنده إلى مالك بن أنس، قال: لهؤلاء الشطار ملاحةٌ، كان أحدهم يصلي خلف إنسانٍ، فقرأ الإنسان " الحمد لله رب العالمين " حتى فرغ منها، ثم أرتج عليه، فجعل يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وجعل يردد ذلك، فقال الشاطر: ليس للشيطان ذنبٌ إلا أنك لا تحسن تقرأ.
قال المبرد:
كنا عند التوجي، فجاءه عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فأجلسه إلى جنبه، ثم قال لي: اقرأ عليه من شعر جده جرير، فقرأت عليه قصائد فيها: من الكامل
طرب الحمام بذي الأراك فشاقني ... لا زلت في فننٍ وأيكٍ ناضر
فلما بلغت إلى قوله:
أما الفؤاد فلا يزال موكلاً ... بهوى جمانة أو بحب العاقر
قال له التوجي: ما جمانة والعاقر؟ قال: ما يقول صاحبكم يعني أبا عبيدة؟ قال: هما امرأتان؛ فضحك؛ وقال: لا عليه، ذهب مذهباً يذهب نحوه، هما والله رملتان عند بيوتنا من عن يمينٍ وشمالٍ قال التوجي: اكتب، فلو حضر أبو عبيدة لأفاد هذا، لأنه بيت الرجل.
قال المبرد: قال المفضل الضبي لأعرابي: من أين معاشك؟ قال: نرد الحاج؛ قلت: فإذا صدروا؛ فبكى، ثم قال: لو لم تعش إلا من حيث تدري لم تعش؛ فلما أردت الانصراف قال: أتفهم؟ قلت: نعم؛ قال: من الطويل
هل الدهر إلا ضيقةٌ تتفرج ... وإلا جديدٌ ناضرٌ ثم ينهج
أرى الناس في الدنيا كسفر تتابعوا ... على منهجٍ ثم استخفوا فأدلجوا
قال المبرد: وافيت الشام وأنا حدثٌ في جماعةٍ أقرانٍ أكتب الحديث، فاجتزنا بدير مران، فقلت: أنا أحب النظر إليه؛ فدخلناه فرأينا منظراً حسناً، وإذا في بعض بيوته كهلٌ مشدودٌ، حسن الوجه، عليه أثر النعمة؛ فدنونا منه فسلمنا عليه، فرد، وقال: من أين أنتم؟ قلنا: من العراق؛ قال: بأبي أنتم، ما الذي أقدمكم هذا البلد الغليظ هواؤه الثقيل ماؤه، الجفاة أهله؟ قلنا: طلب الحديث والأدب؛ قال: حبذا تنشدوني أو أنشدكم؟ قلنا: أنشدنا، فقال: من الكامل
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي روحٌ تضمنها ... بلدٌ وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبرٌ وليس يضرها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
ثم أغمي عليه وأفاق، فصاح بنا، فعدنا إليه، فقال: تنشدوني أو أنشدكم؟ فقلنا: أنشدنا، فأنشدنا: من الطويل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
وأبرزت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل
منها:
إني على العهد لم أنقص مودتهم ... فليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟
فقال فتىً من المجان: ماتوا؛ قال: فأموت أنا أيضاً؛ ثم تمطى وتمدد، فما برحنا حتى دفناه.
لما عمل أبو عثمان كتاب الألف واللام، سأله كافة أصحابه عن جليله فكانوا فيه متقاربي الأحوال، ثم سأل أبا العباس يعني المبرد عن دقيقه ومعتاصه، فأحسن الجواب عنه، فقال أبو عثمان: قم فأنت المبرد، أي المثبت للحق؛ قال أبو العباس: فغير الكوفيون اسمي فجعلوه المبرد بفتح الراء، وإنما هو بكسرها.
ولد المبرد سنة عشرٍ ومئتين، ومات سنة خمسٍ وثمانين ومئتين، وما رأى المبرد مثل نفسه.
وكان المبرد شيخ أهل النحو، وحافظ علم العربية، وكان عالماً فاضلاً موثوقاً به في الرواية، حسن المحاضرة، مليح الأخبار، كثير النوادر، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قولٌ لمتقدمٍ.
قال أبو عبد الله المفجع: كان المبرد لعظم حفظه اللغة واتساعه فيها يتهم بالكذب، فتواضعنا على مسألةٍ
لا أصل لها نسأله عنها لننظر كيف يجيب، وكان قبل ذلك قد تمارينا في عروض بيت الشاعر: من الطويل
أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا
فقال بعضنا: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، فقطعناه وتردد على أفواهنا من تقطيعه " قبعضنا " فقلت له: أيدك الله ما القبعض؟ فقال: القطن، قال الشاعر: من الوافر
كأن سنامها حشي القبعضا
قال: فقلت لأصحابي: هو ذا ترون الجواب والشاهد، إن كان صحيحاً فهو عجيبٌ، وإن كان اختلق الجواب وعمل الشاهد في الحال فهو أعجب.
ومما مدح به المبرد: من الكامل
وإذا يقال: من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله؟ قيل: ابن عبد الأكبر
كان سليمان بن نوفل الدئلي سيداً في كنانة، فوثب رجلٌ من أهله على أبيه، فجيء به إليه، فقال له: ما أمنك مني وجرأك علي؟ أما خشيت عقابي؟ قال: لا؛ قال: ولم؟ قال: لأنا سودناك لتكظم الغيظ، وتحلم عن الجاهل؛ فخلى سبيله.
اجتمع أبو العباس بن سريج، وأبو العباس المبرد، وأبو بكر بن داود، في طريقٍ، فأفضى بهم إلى مضيقٍ، فتقدم ابن سريج وتلاه المبرد وتأخر ابن داود، فلما خرجوا إلى الفضاء التفت ابن سريج وقال: الفقه قدمني؛ وقال ابن داود: الأدب أخرني يعني حرفة الأدب فقال المبرد: أخطأتما جميعاً، إذا صحت المودة سقط التكلف والتعمل.
قال محمد بن يزيد المبرد: حدثنا بعض أصحابنا، قال: كان في زمن المأمون شيخٌ مؤذن مسجدٍ وإمامه، فكان إذا جاء زمان الورد أغلق باب المسجد ودفع مفتاحه إلى بعض جيرانه، وأنشأ يقول: من المجتث
يا صاحبي اسقياني ... من قهوةٍ خندريس
على جنبات وردٍ ... تذهب هم النفوس
خذا من الورد حظاً ... بالقصف غير خسيس
ما تنظران وهذا ... أوان حث الكؤوس
فبادرا قبل فوتٍ ... لا عطر بعد عروس
فلا يزال على هذا حتى تنقضي أيام الورد، فيرجع إلى مسجده ويقول: من الطويل
تبدلت من وردٍ جني ومسمعٍ ... شهي ومن لهوٍ وشرب مدام
وأنس بمن أهوى وصحبٍ ألفتهم ... بكأس ندامى كالشموس كرام
أذاناً وإخباتاً وقوماً أؤمهم ... بصرف زمانٍ مولعٍ بغرام
فذلك دأبي أو أرى الورد طالعاً ... فأترك أصحابي بغير إمام
وأرجع في لهوي وأترك مسجدي ... يؤذن فيه من يشا بسلام
قال محمد بن يزيد المبرد: كنت غلاماً خدناً جميلاً، وكان لي فتىً يهواني، ويقبل علي بالخير، وأقبل عليه بالشر، فاعتل علةً كنت سببها، فمات فكثر أسفي عليه، فبينا أنا نائمٌ إذا هو أقبل، فقلت: فلان؟ قال: نعم؛ فبكيت، فولى عني، وأنشأ يقول: من الوافر
أتبكي بعد قتلك لي عليا ... ومن قبل الممات تسي إليا
سكبت علي دمعك بعد موتي ... فهلا كان ذاك وكنت حيا
تجاف على البكاء ولا تزده ... فإني ما أراك صنعت شيا
قال المبرد: ما ذكرت هذه الأبيات إلا ترحمت عليه.
قال المازني للمبرد: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيس، وإلى مواضع المجانين والمعالجين، فما معناك في ذلك؟ فقلت: إن لهم طرائف من الكلام؛ فقال: خبرني بأعجب ما رأيت من المجانين؛ فقلت: دخلت يوماً إلى مستقرهم فرأيت مراتبهم على قدر بليتهم، وإذا قومٌ قيامٌ قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها، لأن علاج أمثالهم أن يقوموا بالليل والنهار، لا يقعدون ولا يضطجعون، ومنهم من يجلب على رأسه وتدهن أوراده، ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسبما يحتاجون إليه، ورحت يوماً مع ابن أبي خميصة، وكان المتقلد للنفقة عليهم ولتفقد أحوالهم، فنظروا إليه وانا معه، فأمسكوا عما كانوا عليه، ومررت على شيخٍ منهم تلوح صلعته وتبرق للدهن جبهته، وهو جالسٌ على حصيرٍ نظيفٍ، ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله، أين السلام؟ من المجنون ترى أنا أم أنت؟ فاستحييت منه وقلت: السلام عليكم؛ فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشةً، اجلس أعزك الله عندنا، وأومى إلى موضعٍ من حصيرة ينفضه، كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن أبي خميصة: إياك، إياك، فأحجمت عن ذلك، ووقفت ناحيةً أستجلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه، ثم قال لي وقد رأى محبرةً معي: يا هذا، أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهام؛ أتجالس أصحاب الحديث الأغثاء أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء؛ قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت: نعم، معرفة ثابتة؛ قال: أتعرف الذي يقول فيه: من مجزوء الرمل
وفتىً من مازنٍ ... ساد أهل البصرة
أمه معرفةً ... وأبوه نكره
قلت: لا أعرفه؛ قال: أفتعرف غلاماً له قد نبغ، معه ذهنٌ، وله حفظٌ، قد برز في النحو، وجلس مجلس صاحبه، وشاركه فيه يعرف بالمبرد؟ قلت: أنا والله عين الخبير به؛ قال: فهل أنشدك شيئاً من عبثات شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، قال: يا سبحان الله، أليس هو الذي يقول: من مجزوء الكامل
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح الخدود الناعمات
قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجلس الأنس؛ قال: يا سبحان الله أو يستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟ ما تسمع الناس يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون: هو من الأزد أزد شنؤه، ثم من ثمالة؛ قال: قاتله الله، ما أبعد غوره؛ أتعرف قوله: من الوافر
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد خل قومي ... فقومي معشرٌ فيهم نذالة
قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يقولها فيه؛ قال: كذب كل من ادعى هذه غيره، هذا كلام رجلٍ لا نسب له يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً؛ قلت: أنت أعلم؛ قال: يا هذا غلبت بخفة روحك، وتمكنت بفصاحتك من استحساني وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه، الكنية أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس؛ قال: فالاسم؟ قلت: محمد؛ قال: فالأب؟ قلت: يزيد؛ قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره، ثم وثب باسطاً يده لمصافحتي، فرأيت
القيد في رجله قد شد إلى خشبةٍ في الأرض، فأمنت عند ذلك غائلته؛ فقال لي: يا أبا العباس، صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع، فليس يتهيأ لك في كل وقتٍ أن تصادف مثلي على مثل هذه الحال الجميلة، أنت المبرد، أنت المبرد؛ وجعل يصفق وقد انقلبت عينه وتغيرت خلقته؛ فبادرت مسرعاً خوفاً من أن تبدر منه بادرةٌ، وقبلت قوله ولم أعاود الدخول إلى مخيس ولا غيره.
أنشد أحمد بن أبي طاهر لنفسه في المبرد: من الطويل
ويومٍ كحر الشوق في الصدر والحشا ... على أنه منه أحر وأرمد
ظللت به عند المبرد ثاوياً ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
ومن شعر المبرد: من الخفيف
لم أعاتبك بل مدحتك في الشع ... ر ويكفيك مدحتي عن عتابي
أي عارٍ عليك أعظم من مد ... حٍ إذا لم يكافه بثواب
قال أحمد بن مروان: أنشدنا المبرد: من الوافر
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عند أخٍ مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر
قال: وأنشدني: من الطويل
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأحوجني طول العزاء إلى الصبر
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ... تكرهت منه طال عتبي على الدهر
قال: وأنشدنا محمد بن يزيد: من الكامل
بادر هواك إذا هممت بصالحٍ ... وتجنب الأمر الذي يتجنب
واعمل لنفسك في زمانك صالحاً ... إن الزمان بأهله يتقلب
واحذر ذوي الملق اللئام فإنهم ... في النائبات عليك ممن يخطب
قال إسماعيل بن محمد النحوي: أنشدنا محمد بن يزيد المبرد: من الطويل
إذا ضاق صدري بالهموم تحللت ... لعلمي بأن الأمر ليس إلى الخلق
فلا الحزم يغنيني فأركب عزمه ... ولا العجز بالإمساك ينقص من رزقي
قال محمد بن يحيى الصولي: أنشدنا المبرد: من الطويل
ولي حاجةٌ قد راث غمي نجاحها ... وجودك أجدى وافرٍ في اقتضائها
وما لي شفيعٌ غير نفسك إنني ... اتكلت من الدنيا على حسن رأيها
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... ويبقي وجوه السائلين بمائها
شكوت وما الشكوى لنفسي بعادةٍ ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
أنشد المبرد لإبراهيم بن العباس الكاتب: من المجتث
لو قيل لي: خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان
قال جعفر بن قدامة: أنشدنا المبرد: من الطويل
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروةً ... وأصبحت فيها بعد عسرٍ أخا يسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقاً ... من اللؤم كانت تحت ثوبٍ من الفقر
ومن شعر محمد بن يزيد المبرد: من مجزوء الكامل
تأدب غير متكلٍ ... على حسبٍ ولا نسب
فإن مروءة الرجل الش ... شريف بصالح الأدب
توفي المبرد سنة خمسٍ وثمانين ومئتين، وكان مولده سنة عشرٍ ومئتين.
وكان في العلم بنحو البصريين فرداً؛ ومن شعره: من السريع
وصاحبٍ أثقل من أحد ... جلوسه جهدٌ من الجهد
علامة المقت على وجهه ... بينةٌ مذ كان في المهد
لو دخل النار انطفى حرها ... ومات من فيها من البرد