محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر القاضي، المعروف بابن الباقلاني :
المتكلم على مذهب الأشعري من أهل البصرة. سكن بغداد، وسمع بها الحديث من أبي بَكْر بْن مالك القطيعي، وأبي محمد بن ماسي، وأبي أحمد الحسين بن علي النيسابوري، خرج له محمد بن أبي الفوارس وحدثنا عنه: القاضي أبو جعفر محمّد ابن أحمد السّمنانيّ، وكان ثقة.
فأما الكلام فكان أعرف الناس به، وأحسنهم خاطرا، وأجودهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، والخوارج وغيرهم. وحدث أن ابن المعلم- شيخ الرافضة ومتكلمها- حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له إذ أقبل القاضي أبو بكر الأشعري فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وَقَالَ لهم: قد جاءكم الشيطان! فسمع القاضي كلامهم- وكان بعيدا من القوم- فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وَقَالَ لهم: قَالَ الله تعالى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا
أي إن كنت شيطانا فأنتم كفار، وقد أرسلت عليكم.
حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي عثمان الدقاق وغيره أن الملك الملقب بعضد الدولة كان قد بعث القاضي أبا بكر بن الباقلاني في رسالة إلى ملك الروم، فلما ورد مدينته عرف الملك خبره، وبين له محله من العلم وموضعه، فأفكر الملك في أمره وعلم أنه لا يكفر له إذ دخل عليه، كما جرى رسم الرعية أن تقبل الأرض بين يدي الملوك ثم نتجت له الفكرة أن يضع سريره الذي يجلس عليه وراء باب لطيف
لا يمكن أحدا أن يدخل منه إلا راكعا ليدخل القاضي منه على تلك الحال فيكون عوضا من تكفيره بين يديه. فلما وضع سريره في ذلك الموضع أمر بإدخال القاضي من الباب، فسار حتى وصل إلى المكان، فلما رآه تفكر فيه ثم فطن بالقصة فأدار ظهره، وحنا رأسه راكعا ودخل من الباب وهو يمشي إلى خلفه قد استقبل الملك بدبره حتى صار بين يديه، ثم رفع رأسه ونصب ظهره، وأدار وجهه حينئذ إلى الملك! فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في نفسه.
سمعت أبا الفرج محمد بن عمران الخلال يقول: كان ورد القاضي أبي بكر محمد بن الطيب في كل ليلة عشرين ترويحة، ما يتركها في حضر ولا سفر. قَالَ:
وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده وضع الدواة بين يديه وكتب خمسا وثلاثين ورقة تصنيفا من حفظه، وكان يذكر أن كتبه بالمداد أسهل عليه من الكتب بالحبر، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلته وأمره بقراءته عليه.
وأملى عليه الزيادات فيه.
قَالَ أبو الفرج: وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ المالكي قَالَ: كان القاضي أبو بكر الأشعري يهم بأن يختصر ما يصنفه فلا يقدر على ذلك لسعة علمه، وكثرة حفظه.
قَالَ: وما صنف أحد خلافا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين غير القاضي أبي بكر، فإن جميع ما كان يذكر خلاف الناس فيه صنفه من حفظه.
حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عمرو الأستوائي قال: كان أبو محمّد اليافعي يقول: لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس لوجب أن يدفع لأبي بكر الأشعري، حَدَّثَنِي عبد الصمد بن سلامة المقرئ، عن القاضي أَبِي عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه البيضاوي قَالَ: رأيت في المنام كأني دخلت مسجدي الذي أدرس فيه فرأيت رجلا جالسا في المحراب وآخر يقرأ عليه ويتلو تلاوة لا شيء أحسن منها. فقلت: من هذا القارئ ومن الذي يقرأ عليه؟ فقيل لي: أما الجالس في المحراب فهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما القارئ عليه فهو أبو بكر الأشعري يدرس عليه الشريعة.
أنشدني أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْنِ دالان قَالَ: أنشدني أبو الحسن علي بن عيسى السكري لنفسه- يمدح القاضي أبا بكر محمد بن الطيب- من قصيدة أولها:
يا عتب هل لتعتبي من معتب ... أم هل لديك لراغب من مرغب؟
إلى أن قَالَ:
أنا من علمت فلا تظني غيره ... صعب على خطب الزمان الأصعب
لكنني طوع لكل خريدة ... رود الشباب وكل خود خرعب
من كل ساجية الجفون كأنما ... ترنو إذا نظرت بعيني ربرب
بيضاء أخلصها النعيم، كأنما ... يجلو مجردها حشاشة مقضب
ملكت محبات القلوب ببهجة ... مخلوقة من عفة وتحبب
فكأنها من حيث ما قابلتها ... شيم الإمام محمد بن الطيب
اليعربي فصاحة وبلاغة ... والأشعري إذا اعتزي للمذهب
قاض إذا التبس القضاء على الحجى ... كشفت له الآراء كل مغيّب
لا يستريح إذا الشكوك تخالجت ... إلا إلى لب كريم المنصب
وصلته همته بأبعد غاية ... أعيا المريد لها سبيل المطلب
أهدى له ثمر القلوب محبة ... وحباه حسن الذكر من لم يحبب
ما زال ينصر دين أحمد صادعا ... بالحق، يهدي للطريق الأصوب
والناس بين مضلَّل ومضلِّل ... ومكذَّب فيما أتى ومكذِّب
حتى انجلت تلك الضلالة واهتدى الس ... اري وأشرق جنح ذاك الغيهب
بمحاسن لم تكتسب بتكلف ... لكنهن سجية لمهذب
وبديهة تجني الصواب، وإنما ... تُجنى الفوائد من لبيب مسهب
شرفا أبا بكر وقدرا صاعدا ... يختب في شرق العلى والمغرب
متنقلا من سؤدد في سؤدد ... ومرددا من منقب في منقب
أعذر حسودك في الذي أوليته ... إذ فاز منه بجد قدح أخيب
فلقد حللت من العلاء بذروة ... صماء تسفر عن حمى المستصعب
حييت بك الآمال بعد مماتها ... والغيث خصب للمكان المجدب
فإذا رعين، رعين أخصب مرتع ... وإذا وردن، وردن أعذب مشرب
وإذا صدرن، صدرن أحمد مصدر ... من خير منتجب لأكرم منجب
أنصبت نفسك للثناء فحزته ... إن الثناء عدو من لم ينصب
وإذا الكلام تطاردت فرسانه ... وتحامت الأقران كل مجرب
ألفيته من لبه وجنانه ... ولسانه وبيانه في مقنب
ذو مجلس فلك تضيء بروجه ... عن كل أزهر كالصباح الأشهب
متوقد إلا لديك ضياؤه ... والشمس تمنع من ضياء الكوكب
يا سيدا زرع القلوب مهابة ... تسقي بماء محبة لم تنضب
آنستني، فأنست منك بشيمة ... بيضاء تأنف بالثناء الأطيب
فعجزت في وصفيك، غير مقصر ... ونطقت في مدحيك، غير مكذب
فاسلم- سلمت من الزمان وصرفه ... فلأنت أمرع من ربيع المخصب
فإذا سلمت لنا فأية نعمة ... لم نعطها؟ وبلية لم تسلب؟
حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن أَبِي عَلِيّ المعدل قَالَ: مات القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة.
قلت: وصلى عليه ابنه الحسن ودفنه في داره بدرب المجوس من نهر طابق ثم انتقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.
أنشدني أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد الفقيه لبعضهم يرثي القاضي أبا بكر محمد بن الطيب:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر ما يحوي من الصلف
انظر إلى صارم الإسلام منغمدا ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْل عُبَيْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْن علي المقري قَالَ: مضيت أنا وأبو علي بن شاذان وأَبُو القاسم عُبَيْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن عثمان الصيرفي إلى قبر القاضي أبي بكر الأشعري لنترحم عليه، وذلك بعد موته بشهر، فرفعت مصحفا كان موضوعا على قبره وقلت: اللهم بيّن لي في هذا المصحف حال القاضي أبي بكر وما الذي آل إليه أمره، ثم فتحت المصحف فوجدت مكتوبا فيه: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ
[هود 28] .