غياث بن غوث
ويقال: ابن غويث بن الصلت بن طارقة بن سيحان - وأطار في نسبه. أبو مالك التغلبي النصراني، المعروف بالأخطل الشاعر قدم دمشق غير مرة على غير واحدٍ من الخلفاء.
خطله قول كعب بن جعيل لع: إنك لأخطل يا غلام، وقيل: سمي لخطل لسانه، وقيل: لطول أذنيه، وقيل: سمي الأخطل ببيتٍ قاله. ويلقب دوبل بن حمار، ويعرف بذي الصليب.
قال أبو الحسين بن فارس: الدوبل: حمارٌ صغير، مجتمع الخلق، وبه لقب الأخطل.
وكان مقدماً عند خلفاء بني أمية وولاتهم، لمدحه لهم ولانقطاعه إليهم، ومدح يزيد بن معاوية في أيام أبيه، وهجا الأنصار بسببه؛ وعمر عمرأً طويلاً.
وكان أبو عمرو بن العلاء وينس النحوي يقدمانه على جرير والفرزدق في الشعر؛ واحتج له يونس في ذلك بجماعةٍ من علماء أهل البصرة؛ وكان حماد الراوية يقدمه أيضاً عليهما.
وقيل: إن الأخطل لما ترعض لكعب بن جعيل الشاعر أقبل إليه فقال أبو الأخطل لكعب: إنه غلامٌ خطل. فسمى لذلك الأخطل.
قال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل: خرجت مع أبي إلى الشام، فخرجت إلى دمشق أنظر إلى بنائها، فإذا كنيسة، وإذا الأخطل في ناحيتها، فلما رآني أنكرني، فسأل عني فأخبر، فقال: يا فتى! إن لك موضعاً
وشرفاً. وإن الأشقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه وتكلمه في إطلاقي. قال: قلت نعم، فذهبت إلى الأسقف، فانتسبت له وكلمته وطلبت إليه تخليته، فقال: مهلاً أعيذك بالله أن تكلم في مثل هذا. فإن لك موضعاً وشرفاً! وهذا ظالمٌ يشتم أعراض الناس فيهجوهم. فلم أزل به حتى قام معي فدخل عليه الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا والأخطل يتضرع إليه وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقول: لا. قال إسحاق: فقلت له: يا أبا مالك تهابك الملوك ويكرمك الخلفاء، وذكرك في الناس! وعظم أمره، فقال: إنه الدين إنه الدين.
أنشد الأخطل قصيدته التي يقول فيها: من الكامل
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
فقال له هشام بن عبد الملك: هنيئاً لك أبا مالك الإسلام - أو قال: أسلمت - قال: ما زلت مسلماً - يقول: في ديني.
وقال لعبد الملك: من البسيط
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
مثل الناس بينه وبين بيت جرير: من الوافر
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال الأخطل في قصيدة: من البسيط
حشدٌ على الحق عن قول الخنا خرسٌ ... وإن ألمت بهم مكروهةٌ صيروا
بني أمية إني ناصحٌ لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر
فإن مشهده كفرٌ وغائلةٌ ... وما تغيب من أخلاقه دعر
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالغر يكمن أحياناً وينتشر
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قومٍ آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً ... فما بغوك جهاراً بعد ما كفروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس غيلان من أخلاقها الضجر
قال عبد الملك بن مروان للخطل: من أشعر الناس؟ قال: أنا، ثم المغدف القناع القبيح السماع، الضيق الذراع. يعني القطامي.
قال أبو عمر بن العلاء: قلت لجرير: أخبرني ما عندكم في الشعراء؟ قال: أما أنا فمدينة الشعر، والفرزدق يروم مني مالا ينال، وابن النصرانية أرمانا للفرائص وأمدحنا للملوك وأقلنا اجتزاء بالقليل، وأوضفنا للخمر والحمر - قال أبو عمرو: والحمر النساء البيض، والحمرة عند العرب البياض - فقلت: ذو الرمة؟ قال: ليس بشيء، أبعار ظباء ونقط عروس.
قال: وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: كفاك بي إذا افتخرت؛ وبابن المراغة إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح.
قال بعض الرواة: ذهب كثير بالنسيب، وذهب جريرٌ بالهجاء، وذهب الأخطل بالمديح، وذهب الفرزدق بالفخار.
قال الشعبي: كان الأخطل ينشد عبد الملك شعره، فأنشده عروضه من أشعار العرب، فغممته ولا أشعر، فجلس لي يوماً على باب عبد الملك، فلما مررت قام إلي فقال: يا هذا إني آخذ من وعاءٍ واحد، وإنك تأخذ من أوعية شتى. قال: فكففت عنه.
وفي رواية قال له: يا شعبي! ارفق بي فإنك تغرف من آنية شتى وأنا أغرف من إناء واحد.
كتب عبد الملك إلى الحجاج أنه لم تبق علي لذةٌ من لذات الدنيا إلا وقد بلغتها، إلا محادثة الرجال، فوجه إلى بعامر الشعبي مكرماً. فأمره الحجاج بالتجهز، ثم خرج. فقال: قدمت على أمير المؤمنين فوافيت بابه، فلقيت حرسياً فقلت له: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال الحرسي: من تكون؟ قال: قلت عامر الشعبي، فدخل وما أبطأ حتى خرج فقال: ادخل، فدخلت فإذا عبد الملك في صحن الدار على الكرسي، في يده خيزرانة وبين يديه شيخٌ جالسٌ لا أعرفه، فسلمت فرد علي وقال: كيف حالك؟ قلت: بخير، ثم أومي إلي فجلست، ثم أقبل على الشيخ فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: الذي بينك وبين الحائط. قال الشعبي: فأظلم علي ما بين السماء والأرض! قت: من هذا يا أمير المؤمنين؟! أشعر منه شاب كان عندنا قصير الباع يقول: من البسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فقال عبد الملك: أحسن والله! من يقوله؟ قلت: القطامي، قال: لله أبوه! وإذا الشيخ الأخطل قال: يا شعبي إن لك فنوناً تفتن فيها، وإنما لي فن واحد وهو الشعر، فإن رأيت
أن لا تعترض علي فيه، ولا تكلفني أن أحمل قومك على كاهل، وأجعلهم عرضاً للعرب فافعل. قال الشعبي: قلت لا أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه عبد الملك فقال: ويلك! من أشعر الناس؟ فقال: قد أعلمتك مرة. فوالله ما صبرت أن قلت: أشعر منه يا أمير المؤمنين الذي قدمه عمر؛ خرج عمر يوماً على أسد وغطفان فقال: من الذي يقول: من الوافر
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تظن بي الظنون
قالوا: النابغة، قال عمر: هذا أشعر الشعراء. فلما كان الغد خرج فقال: من الذي يقول: من الطويل
ولست بمتبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
فقالوا: النابغة، فقال: هذا والله أشعر الشعراء. فغضب الأخطل فقال: يا شعبي! ماأسرع ما رجعت! فقلت: ما أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه فقال: من أشعر النساء قال: ليلى الأخيلية. فما صبرت أن قلت: أشعر النساء من قدمها عمر، قال: ومن هي؟ قلت: خنساء، قال عمر: ومن الذي يقول: من الطويل
وقائلةٍ والنفس تقدم خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على عمر
ألا ثكلت أم الذين عدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
فقالوا: هذه خنساء، فقال عمر: هذه أشعر النساء. فقال عبد الملك صدق أمير المؤمنين.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمن يسقيني؟ قال: اسقوه ماء، قال: شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال: فاسقوه
لبناً، قال: عن اللبن فطمت، قال: فاسقوه عسلاً، قال: شراب المريض وأنا صحيح! قال: فتريد ماذا؟ قال خمراً يا أمير المؤمنين، قال: وعهدتني أسقي الخمر لا أم لك!؟ لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت! وخرج فلقي فراشاً كان لعبد الملك فقال: ويحك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه شربة خمر، فسقاه رطلاً فقال اعدله بآخر، فصقاه آخر فقال: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثاً، فسقاه ثالثاً، فقال: تركت اثنين على واحد، عدل ميلهما برابع، فسقاه رابعاً. فدخل على عبد الملك فأنشده: من البسيط
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال عبد الملك: لا، بل منك؛ وتطير عبد الملك من قوله، فعاد فقال:
فراحو اليوم أو بكروا
وأنشده حت بلغ:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
فقال عبد الملك: خذ بيده يا غلام، فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره، ثم ناد أن لكل قومٍ شاعراً وأن شاعر بني أمية الأخطل. فمر به جرير فقال: كيف تركت خنازير أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا قرناك منها، فكيف تركت أعيار أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا حملناك على بعضها.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فقال له: يا أخطل، صف لي السكر، قال: أوله لذة وآخره صداع، وبين ذلك ساعةٌ لا أصف لك مبلغها، فقال له: ما مبلغها؟ فقال: لملك يا أمير المؤمنين أهون علي من شسع نعلي، فقال عبد الملك: صف لي، فأنشأ يقول: من الطويل
إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجاتٍ لهن هدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
فقال عبد الملك: يا أخطل! قل من شرها - وهذه صفتها - أن تسخو نفسه بترك لذتها إلا من أحب أن يبتغي إلى ذي العرش سبيلا.
كان عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية يتناقلان، فاستعلاه ابن حسان، فقال يزيد لكع بن جعيل التغلبي: أجبه عني واهجه، فقال: والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار، ولكن أدلك على الشاعر الفاجر الماهر، فتى منا يقال له غياث بن الغوث، نصراني. وكان كعب سماه الأخطل.
قال محمد بن سيرين: دخل أناس من الأنصار فيهم النعمان بن بشير على معاوية، فلما صاروا بين الشماطين حسروا عمائمهم عن رؤوسهم، قال: وما ذلك؟ قال: هذا النصراني الذي قال: من الكامل
ذهب قريش بالسماحة والندى ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
قال: لكم لسانه - يعني الأخطل.
وقيل: إن يزيد قال له: اهجهم، فقال: كيف أصنع بمكانهم؟ أخاف على نفسي! قال: لك ذمة أمير المؤمنين وذمتي. فذلك حين يقول:
ذهبت قريشٌ بالسماحة والندى
فجاء النعمان إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين! بلغ منا أمير ما بلغ منا مثله في جاهليةٍ ولا إسلام، قال: ومن بلغ ذلك منكم؟ قال: غلامٌ نصراني من بني تغلب،
قال: ما حاجتك؟ قال: ذلك لك - وكان النعمان ذا منزلةٍ من معاوية، كان معاوية يقول: يا معشر الأنصار تستبطئوني وما صحبني منكم إلا النعمان، وقد رأيتم ما صنعت به. ولاه الكوفة وأكرمه - فأخبر الأخطل فطار إلى يزيد. فدخل يزيد على أبيه معاوية فقال: يا أمير المؤمنين هجوني وذكروك، فجعلت له ذمتك على أن يرد عني، فقال معاوية للنعمان: لا سبيل إلى ذمة أبي خالد، فذلك حين يقول الأخطل من أبيات: من الطويل
أبا خالدٍ دافعت عني عظيمةٌ ... وأدركت لحمي قبل أن يتبددا
وأطفأت عني نار نعمان بعدما ... أغذ لأمرٍ فاجرٍ وتجردا
ولما رأى النعمان دوني ابن حرةٍ ... طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا
قال الأخطل: ما رأيت أعجب من قصتي وقصة جرير، هجوته بأجود هجاء يكون، وهجاني بأرذل شعر، فنفق فصار علماً! قلت فيه: من البسيط
مازال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليبٍ رباط الذل والعار
النازلين بدار الهون مذ خلقوا ... والماكثين على رغمٍ وإصغار
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وهجاني جرير بأن قال: من الكامل
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثال
فانظر كم بين الشعرين!.
قال ابن بشير المدني: وفدت إلى بعض ملوك بني أمية، فمررت بقريةٍ فإذا رجلٌ مرنح بالشراب، قائم يبول فسألته عن الطريق فقال: أمامك. ثم لحقني فقال: انزل، فنزلت فقال: ادن وعليك الحانة، فدخلت فأحضر سفرة واستل سلة فأخرج منها رغفاً ووذراً من لحم، فقال: أصب فأصبت، ثم صقاني خمراً، فإذا أبو مالك! ثم قال لي: كيف علمك بالشعر؟ قلت: قد زويت، فأنشدني قصيدته: من الكامل
صرمت حبالك زينب ورعوم
فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا أخذ الزجاج أكفنا ... نفحت فأدرك ريحها المزكوم
قال: ألست تزعم أنك تبصر الشعر؟ قلت: بلى، قال: فكيف لم تشقق بطنك فضلاً عن ثوبك عند هذا البيت! قال: قلت قد فعلت عند البيت الذي سرقت هذا منه، قال: وما هو؟ قلت: بيت الأعشى: من الكامل
من خمر عانة قد أتى لختامها ... حولٌ تفض غمامة المزكوم
قال: أنت تبصر الشعر، فلما صرت إلى سليمان سمرت معه بهذا أول بدأتي.
قال المصنف: وللأعشى في هذا المعنى بيتٌ أبلغ من هذا في كلمةٍ أخرى وهو: من الوافر
من اللاتي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما
واستلال الزكام أبلغ من فضه، لأن استلاله نزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره، كفض الخاتم، وفي فضه مع هذا إزالته وتنحيته كما يزول الختام عند فضة، فيفارق ما كان حالاً فيه ولازماً له؛ وفي قول الأخطل: "..فأدرك ريحها المزكوم " من البلاغة أنه إنما يقويه إدراك المشموم بحلول الزكام به وغلبته إياه، فإذا أدرك ريح الخمر التي كان الزكام حائلاً بينه وبينها عند نفحتها، فإنما ذلك لزوال الزكام المانع الحائل بينه وبين إدراكها، وقد تدرك الرائحة بعد خفة الزكام وزوال بعضه وإن لم يزل بكليته، فمن هاهنا كان الفض والاستلال أبلغ وأبين في المعنى.
ويقال: ابن غويث بن الصلت بن طارقة بن سيحان - وأطار في نسبه. أبو مالك التغلبي النصراني، المعروف بالأخطل الشاعر قدم دمشق غير مرة على غير واحدٍ من الخلفاء.
خطله قول كعب بن جعيل لع: إنك لأخطل يا غلام، وقيل: سمي لخطل لسانه، وقيل: لطول أذنيه، وقيل: سمي الأخطل ببيتٍ قاله. ويلقب دوبل بن حمار، ويعرف بذي الصليب.
قال أبو الحسين بن فارس: الدوبل: حمارٌ صغير، مجتمع الخلق، وبه لقب الأخطل.
وكان مقدماً عند خلفاء بني أمية وولاتهم، لمدحه لهم ولانقطاعه إليهم، ومدح يزيد بن معاوية في أيام أبيه، وهجا الأنصار بسببه؛ وعمر عمرأً طويلاً.
وكان أبو عمرو بن العلاء وينس النحوي يقدمانه على جرير والفرزدق في الشعر؛ واحتج له يونس في ذلك بجماعةٍ من علماء أهل البصرة؛ وكان حماد الراوية يقدمه أيضاً عليهما.
وقيل: إن الأخطل لما ترعض لكعب بن جعيل الشاعر أقبل إليه فقال أبو الأخطل لكعب: إنه غلامٌ خطل. فسمى لذلك الأخطل.
قال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل: خرجت مع أبي إلى الشام، فخرجت إلى دمشق أنظر إلى بنائها، فإذا كنيسة، وإذا الأخطل في ناحيتها، فلما رآني أنكرني، فسأل عني فأخبر، فقال: يا فتى! إن لك موضعاً
وشرفاً. وإن الأشقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه وتكلمه في إطلاقي. قال: قلت نعم، فذهبت إلى الأسقف، فانتسبت له وكلمته وطلبت إليه تخليته، فقال: مهلاً أعيذك بالله أن تكلم في مثل هذا. فإن لك موضعاً وشرفاً! وهذا ظالمٌ يشتم أعراض الناس فيهجوهم. فلم أزل به حتى قام معي فدخل عليه الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا والأخطل يتضرع إليه وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقول: لا. قال إسحاق: فقلت له: يا أبا مالك تهابك الملوك ويكرمك الخلفاء، وذكرك في الناس! وعظم أمره، فقال: إنه الدين إنه الدين.
أنشد الأخطل قصيدته التي يقول فيها: من الكامل
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
فقال له هشام بن عبد الملك: هنيئاً لك أبا مالك الإسلام - أو قال: أسلمت - قال: ما زلت مسلماً - يقول: في ديني.
وقال لعبد الملك: من البسيط
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
مثل الناس بينه وبين بيت جرير: من الوافر
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال الأخطل في قصيدة: من البسيط
حشدٌ على الحق عن قول الخنا خرسٌ ... وإن ألمت بهم مكروهةٌ صيروا
بني أمية إني ناصحٌ لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر
فإن مشهده كفرٌ وغائلةٌ ... وما تغيب من أخلاقه دعر
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالغر يكمن أحياناً وينتشر
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قومٍ آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً ... فما بغوك جهاراً بعد ما كفروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس غيلان من أخلاقها الضجر
قال عبد الملك بن مروان للخطل: من أشعر الناس؟ قال: أنا، ثم المغدف القناع القبيح السماع، الضيق الذراع. يعني القطامي.
قال أبو عمر بن العلاء: قلت لجرير: أخبرني ما عندكم في الشعراء؟ قال: أما أنا فمدينة الشعر، والفرزدق يروم مني مالا ينال، وابن النصرانية أرمانا للفرائص وأمدحنا للملوك وأقلنا اجتزاء بالقليل، وأوضفنا للخمر والحمر - قال أبو عمرو: والحمر النساء البيض، والحمرة عند العرب البياض - فقلت: ذو الرمة؟ قال: ليس بشيء، أبعار ظباء ونقط عروس.
قال: وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: كفاك بي إذا افتخرت؛ وبابن المراغة إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح.
قال بعض الرواة: ذهب كثير بالنسيب، وذهب جريرٌ بالهجاء، وذهب الأخطل بالمديح، وذهب الفرزدق بالفخار.
قال الشعبي: كان الأخطل ينشد عبد الملك شعره، فأنشده عروضه من أشعار العرب، فغممته ولا أشعر، فجلس لي يوماً على باب عبد الملك، فلما مررت قام إلي فقال: يا هذا إني آخذ من وعاءٍ واحد، وإنك تأخذ من أوعية شتى. قال: فكففت عنه.
وفي رواية قال له: يا شعبي! ارفق بي فإنك تغرف من آنية شتى وأنا أغرف من إناء واحد.
كتب عبد الملك إلى الحجاج أنه لم تبق علي لذةٌ من لذات الدنيا إلا وقد بلغتها، إلا محادثة الرجال، فوجه إلى بعامر الشعبي مكرماً. فأمره الحجاج بالتجهز، ثم خرج. فقال: قدمت على أمير المؤمنين فوافيت بابه، فلقيت حرسياً فقلت له: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال الحرسي: من تكون؟ قال: قلت عامر الشعبي، فدخل وما أبطأ حتى خرج فقال: ادخل، فدخلت فإذا عبد الملك في صحن الدار على الكرسي، في يده خيزرانة وبين يديه شيخٌ جالسٌ لا أعرفه، فسلمت فرد علي وقال: كيف حالك؟ قلت: بخير، ثم أومي إلي فجلست، ثم أقبل على الشيخ فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: الذي بينك وبين الحائط. قال الشعبي: فأظلم علي ما بين السماء والأرض! قت: من هذا يا أمير المؤمنين؟! أشعر منه شاب كان عندنا قصير الباع يقول: من البسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فقال عبد الملك: أحسن والله! من يقوله؟ قلت: القطامي، قال: لله أبوه! وإذا الشيخ الأخطل قال: يا شعبي إن لك فنوناً تفتن فيها، وإنما لي فن واحد وهو الشعر، فإن رأيت
أن لا تعترض علي فيه، ولا تكلفني أن أحمل قومك على كاهل، وأجعلهم عرضاً للعرب فافعل. قال الشعبي: قلت لا أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه عبد الملك فقال: ويلك! من أشعر الناس؟ فقال: قد أعلمتك مرة. فوالله ما صبرت أن قلت: أشعر منه يا أمير المؤمنين الذي قدمه عمر؛ خرج عمر يوماً على أسد وغطفان فقال: من الذي يقول: من الوافر
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تظن بي الظنون
قالوا: النابغة، قال عمر: هذا أشعر الشعراء. فلما كان الغد خرج فقال: من الذي يقول: من الطويل
ولست بمتبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
فقالوا: النابغة، فقال: هذا والله أشعر الشعراء. فغضب الأخطل فقال: يا شعبي! ماأسرع ما رجعت! فقلت: ما أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه فقال: من أشعر النساء قال: ليلى الأخيلية. فما صبرت أن قلت: أشعر النساء من قدمها عمر، قال: ومن هي؟ قلت: خنساء، قال عمر: ومن الذي يقول: من الطويل
وقائلةٍ والنفس تقدم خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على عمر
ألا ثكلت أم الذين عدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
فقالوا: هذه خنساء، فقال عمر: هذه أشعر النساء. فقال عبد الملك صدق أمير المؤمنين.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمن يسقيني؟ قال: اسقوه ماء، قال: شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال: فاسقوه
لبناً، قال: عن اللبن فطمت، قال: فاسقوه عسلاً، قال: شراب المريض وأنا صحيح! قال: فتريد ماذا؟ قال خمراً يا أمير المؤمنين، قال: وعهدتني أسقي الخمر لا أم لك!؟ لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت! وخرج فلقي فراشاً كان لعبد الملك فقال: ويحك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه شربة خمر، فسقاه رطلاً فقال اعدله بآخر، فصقاه آخر فقال: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثاً، فسقاه ثالثاً، فقال: تركت اثنين على واحد، عدل ميلهما برابع، فسقاه رابعاً. فدخل على عبد الملك فأنشده: من البسيط
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال عبد الملك: لا، بل منك؛ وتطير عبد الملك من قوله، فعاد فقال:
فراحو اليوم أو بكروا
وأنشده حت بلغ:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
فقال عبد الملك: خذ بيده يا غلام، فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره، ثم ناد أن لكل قومٍ شاعراً وأن شاعر بني أمية الأخطل. فمر به جرير فقال: كيف تركت خنازير أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا قرناك منها، فكيف تركت أعيار أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا حملناك على بعضها.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فقال له: يا أخطل، صف لي السكر، قال: أوله لذة وآخره صداع، وبين ذلك ساعةٌ لا أصف لك مبلغها، فقال له: ما مبلغها؟ فقال: لملك يا أمير المؤمنين أهون علي من شسع نعلي، فقال عبد الملك: صف لي، فأنشأ يقول: من الطويل
إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجاتٍ لهن هدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
فقال عبد الملك: يا أخطل! قل من شرها - وهذه صفتها - أن تسخو نفسه بترك لذتها إلا من أحب أن يبتغي إلى ذي العرش سبيلا.
كان عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية يتناقلان، فاستعلاه ابن حسان، فقال يزيد لكع بن جعيل التغلبي: أجبه عني واهجه، فقال: والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار، ولكن أدلك على الشاعر الفاجر الماهر، فتى منا يقال له غياث بن الغوث، نصراني. وكان كعب سماه الأخطل.
قال محمد بن سيرين: دخل أناس من الأنصار فيهم النعمان بن بشير على معاوية، فلما صاروا بين الشماطين حسروا عمائمهم عن رؤوسهم، قال: وما ذلك؟ قال: هذا النصراني الذي قال: من الكامل
ذهب قريش بالسماحة والندى ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
قال: لكم لسانه - يعني الأخطل.
وقيل: إن يزيد قال له: اهجهم، فقال: كيف أصنع بمكانهم؟ أخاف على نفسي! قال: لك ذمة أمير المؤمنين وذمتي. فذلك حين يقول:
ذهبت قريشٌ بالسماحة والندى
فجاء النعمان إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين! بلغ منا أمير ما بلغ منا مثله في جاهليةٍ ولا إسلام، قال: ومن بلغ ذلك منكم؟ قال: غلامٌ نصراني من بني تغلب،
قال: ما حاجتك؟ قال: ذلك لك - وكان النعمان ذا منزلةٍ من معاوية، كان معاوية يقول: يا معشر الأنصار تستبطئوني وما صحبني منكم إلا النعمان، وقد رأيتم ما صنعت به. ولاه الكوفة وأكرمه - فأخبر الأخطل فطار إلى يزيد. فدخل يزيد على أبيه معاوية فقال: يا أمير المؤمنين هجوني وذكروك، فجعلت له ذمتك على أن يرد عني، فقال معاوية للنعمان: لا سبيل إلى ذمة أبي خالد، فذلك حين يقول الأخطل من أبيات: من الطويل
أبا خالدٍ دافعت عني عظيمةٌ ... وأدركت لحمي قبل أن يتبددا
وأطفأت عني نار نعمان بعدما ... أغذ لأمرٍ فاجرٍ وتجردا
ولما رأى النعمان دوني ابن حرةٍ ... طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا
قال الأخطل: ما رأيت أعجب من قصتي وقصة جرير، هجوته بأجود هجاء يكون، وهجاني بأرذل شعر، فنفق فصار علماً! قلت فيه: من البسيط
مازال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليبٍ رباط الذل والعار
النازلين بدار الهون مذ خلقوا ... والماكثين على رغمٍ وإصغار
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وهجاني جرير بأن قال: من الكامل
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثال
فانظر كم بين الشعرين!.
قال ابن بشير المدني: وفدت إلى بعض ملوك بني أمية، فمررت بقريةٍ فإذا رجلٌ مرنح بالشراب، قائم يبول فسألته عن الطريق فقال: أمامك. ثم لحقني فقال: انزل، فنزلت فقال: ادن وعليك الحانة، فدخلت فأحضر سفرة واستل سلة فأخرج منها رغفاً ووذراً من لحم، فقال: أصب فأصبت، ثم صقاني خمراً، فإذا أبو مالك! ثم قال لي: كيف علمك بالشعر؟ قلت: قد زويت، فأنشدني قصيدته: من الكامل
صرمت حبالك زينب ورعوم
فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا أخذ الزجاج أكفنا ... نفحت فأدرك ريحها المزكوم
قال: ألست تزعم أنك تبصر الشعر؟ قلت: بلى، قال: فكيف لم تشقق بطنك فضلاً عن ثوبك عند هذا البيت! قال: قلت قد فعلت عند البيت الذي سرقت هذا منه، قال: وما هو؟ قلت: بيت الأعشى: من الكامل
من خمر عانة قد أتى لختامها ... حولٌ تفض غمامة المزكوم
قال: أنت تبصر الشعر، فلما صرت إلى سليمان سمرت معه بهذا أول بدأتي.
قال المصنف: وللأعشى في هذا المعنى بيتٌ أبلغ من هذا في كلمةٍ أخرى وهو: من الوافر
من اللاتي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما
واستلال الزكام أبلغ من فضه، لأن استلاله نزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره، كفض الخاتم، وفي فضه مع هذا إزالته وتنحيته كما يزول الختام عند فضة، فيفارق ما كان حالاً فيه ولازماً له؛ وفي قول الأخطل: "..فأدرك ريحها المزكوم " من البلاغة أنه إنما يقويه إدراك المشموم بحلول الزكام به وغلبته إياه، فإذا أدرك ريح الخمر التي كان الزكام حائلاً بينه وبينها عند نفحتها، فإنما ذلك لزوال الزكام المانع الحائل بينه وبين إدراكها، وقد تدرك الرائحة بعد خفة الزكام وزوال بعضه وإن لم يزل بكليته، فمن هاهنا كان الفض والاستلال أبلغ وأبين في المعنى.