عيسى بن مريم
روح الله وكلمته، وعبده ورسوله صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم كان يأوي إلى الربوة خوفاً من الكفار وقد تقدم ذلك في فضل الربوة.
عن ابن عباس: في قوله عز وجل: " وبراً بوالديه " قال: كان لايعصيهما. " ولم يكن جباراً " لم يكن قتال النفس التي حرم الله " عصيا " لم يكن عاصياً لربه " وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويم يموت ويم يبعث حياً " قال: لما وهب الله لزكريا يحيى بلغ ثلاث سنين بشر الله مريم بعيسى، فبينا هي في المحراب إذ قالت الملائكة - وهو
جبريل وحده -: " يامريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين مع قراء بيت المقدس، يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم " وما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم ثم قال: يا محمد - يخبر بقسة عيسى - " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيه عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا من المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.
وعن ابن عباس
في قوله: " واذكر في الكتاب مريم " يقول: قص ذكريا على اليهود والنصارى ومشركي العرب " إذ انتبذتم " خرجت " من أهلها مكاناً شرقياً قال: كانت خرجت من بيت المقدس مما يلي الشرق، " فاتخذت من دونهم حجاباً " وذلك أن الله عز وجل لما أراد أن يبتدئها بالكرامة ويبشرها بعيسى، وكانت قد اغتسلت من المحيض فتشرقت وجعلت بينها وبين قومها حجاباً، يعني جبلاً، فكان الجبل بين مجلسها وبين بيت المقدس " فأرسلنا إليها روحنا " يعني جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشراً سوياً " في صورة الآدامين، سوياً: يعني معتدلاً شاباً، أبيض الوجه جعداً قططاً، حين اخضر شاربه، فلما نظرت إليه بين يديها " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " وذلك أنها شبهته بشاب كان يراها ونشأ معها يقال له يوسف من بني إسرائيل، وكان من خدم بيت المقدس، فخافت أن يكون الشيطان استزله، فمن ثم قالت: " أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً "
يعني إن كنت تخاف الله " قال " جبريل وتبسم: " إنما أنا رسول الله لأهب لك غلاماً زكياً " يعني لله مطيعاً من غير بشر " قالت أنى يكون لي غلام " أو ولد " ولم يمسني بشر " يعني زوجاً، لأن الأنثى تحمل من الذكر " ولم أك بغياً " أي مومسة " قال " جبريل " كذلك " يعني هكذا " قال ربك هو علي هين " يعني خلقه من غير بشر وهو من غيرزوج، وهو يخلق مايشاء " ولنجعله آية للناس " قال: يعني عبرة للناس. قال ابن عباس: والناس هاهنا للمؤمنين خاصة " ورحمة منا " لمن صدق بأنه رسول الله " وكان أمراً مقضيا " يعني كائناً أن يكون من غير بشر " ويعلمه الكتاب " يعني يخط الكتاب بيده " والحكمة " يعني الحلال والحرام " ويعلمه الكتاب والحكمة " والسنة " والتوراة والانجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل " وأجعل على يديه الآيات والعجائب " فحملته " قال ابن عباس: فدنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيبها، فدخلت النفخة جوفها، فاحتملت كما تحمل النساء في الرحم والمشيمة ووضعته كما تضع النساء.
قال أبي بن كعب: كان روح عيسى بن مريم عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم عليه السلام، فأرسله الله إلىمريم في صورة بشر " فتمثل لها بشراً سوياً " إلى قوله: " فحملته " قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى، قال: ودخل من فيها.
قال أبي بن كعب في قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " إلى قوله: " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " قال: جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم واستنطقهم
فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا " إلى قوله: " المبطلون " قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، ويشهد عليكم أبوكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليهم كتابي؛ قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك. فأقروا يومئذٍ بالطاعة، ورفع عليهم أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير والحسن الصورة ودون ذلك فقال: رب! لو سويت بين عبادك، قال: إني أحب أن أشكر؛ ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم النور وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، وهو قوله: " وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً " وهو الذي يقول: " فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطره الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله " وكان روح عيسى في تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، قال: " فأرسلنا إليها روحنا " إلى قوله: " وكان أمراً مقضياً " قال: " فحملته " حملت الذي خاطبها وهو روح عيسى.
قال: فسأله مقاتل بن حيان: من أين دخل الروح؟ فذكر عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه دخل من فيها.
وعن مجاهد قال: كانت مريم عليها السلام تقول: كان عيسى إذا كان عندي أحد يتحدث معي سبح في بطني، وإذا خلوت فلم يكن عندي أحد حدثته وحدثني وهو في بطني.
وعن الحسن قال: بلغني أنها حملته لسبعٍ أو لتسعٍ ساعات ووضعته من يومها. وقيل حملته تسعة أشهر كما تحمل النساء، فالله أعلم أنى ذلك كان.
قال الشعبي:
كتب قيصر إلى عمر أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرةً ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تقق عن مثل اللؤلؤ ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذخٍ أكل، ثم تتشقق فتنتثر فتكون عصمةً للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقتك، هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أبتها الله تعالى على مريم عليها السلام حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله فإن " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
قال: وبلغني أن من آدم إلى مولد المسيح عليه السلام خمسة آلاف وخمس مئة سنة ومن الطوفان إلى مولده ثلاثة آلاف ومئتان وأربع وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى مولده ألفان وسبع مئة وثلاث عشرة، ومنملك داود إلى مولده ألف وتسع وخمسون سنة، وولد في خمسةٍ وعشرين يوماً من كانون الأول، ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع مئة وثلاث وثلاثون سنة.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من بني آدم من مولودٍ إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها. ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
وعن أبي هريرة قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان بإصبعه في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم فإنه ذهب ليطعن فطعن في الحجاب.
قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى بن مريم أتت الشياطين إبليس - لعنهم الله - فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها، فقال: هذا حادثٌ حدث، مكانكم، وطار حتى جاب خافقي الأرض فلم ير شيئاً ولم يجد شيئاً، ثم جاب البحار فلم يقدر على شيء، ثم طاف أيضاً فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا. فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
وعن عكرمة بن خالد المخزومي قال: لما ولد عيسى بن مريم لم يبق شيء يعبد من دون الله إلا خر لوجهه ففزعت لذلك الشياطين واجتمعوا إلى إبليس فأخبروه، فركب، فإذا بعيسى في مهده، فأراده، فحال الله بينه وبينه وملائكته، فقال له إبليس: أتعرفني؟ قال: نعم أنت إبليس، قال: صدقت، قال: أما إني ما جئتك تصديقاً بك، ولكن رحمتك ورجمت أمك لما قالت بنو إسرائيل فيها، فلو أمرت أمك فجعلتك على شاهقةٍ من الجبل ثم طرحتك فإن ربك وملائكته لم يكن ليسلمك ولا ليكسرك، فقال عيسى: يا قديم الغي! إنما أفعل ما يأمرني ربي، وإني أريد أن أعرف كرامتي عند الله عز وجل.
قال وهب بن منبه:
سألني ابن عباس عن عيسى بن مريم وميلاده، وعن لقيه إبليس بعقبة بين المقدس، وعن نعت الإسلام، وعن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل فقلت: نعم، إن إبليس عدو الله اتخذ مجلساً على اللجة الخضراء، ثم بث شياطينه في ولد آدم فقال: انطلقوا فأتوني بأحداث الدنيا، فأتوه بجماعتهم لست ساعات مضين من النهار، فقال: أخبروني عما كنت وجهتكم؟ فقالوا: سيدنا، قد كانت الأصنام بغيتنا ورجاء ضلالة ابن آدم، فلم يبق صنم إلا أصبح منكوساً قد انحدرت حدقتاه على وجنتيه، فساء ظننا وأسقط في أيدينا. فأتوه لست ساعاتٍ مضين من النهار، فقال لهم إبليس: على رسلكم، أعلم علم ما أتيتوني، وكان ذلك
ليلة ولد عيسى بن مريم في ثلاث عشرة ليلة مضين من ذي القعدة، فخرت الأصنام كلها سجداً وتنكس كل صنمٍ كان يعبد من دون الله تعالى ما بين المشرق والمغرب، فانطلق إبليس وطار، فغاب عنهم مقدار ثلاث ساعات من النهار، فانصرف إليهم عوده على بدئه فقال: إني لم أدع مشارق الأرض ومغاربها ولا برها ولا بحرها، ولا سهلها ولا جبلها إلا أيتيه، فوجدت ذلك المولود ولد لغير بشر، فأتيته من بين يديه لأضع يدي عليه فإذا الملائكة دونه كأنهم بنيان مرصوص، من تخوم الثرى إلى أعنان السماء، فأتيته من فوقه فإذا الملاسكة مناكبها ثابتةٌ في السماء وأرجلها تحت الأرض الصفلى فلم أصل إلى ما أردت به ولأضلن به أكثر ممن تبعه.
فلما بلغ عيسى ثلاثين سنة، وبعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، واتخذ الآيات والعجائب، من إحياء الموتى وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص. لقيه إبليس خالياً عند عقبة بيت المقدس، فقال الخبيث في نفسه: أنتهزن اليوم فرصتي من عيسى، فقال له إبليس: أنت عيسى بن مريم؟ قال نعم، قال: أنت الذي تكونت من غير أبٍ؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي كونني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي المريض؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه أشفيهم، وإذا شاء أمرضني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يحي الموتى؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي بإذنه احييهم، ولا بد أن سوف يميتني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظمتك أنك تمشي على الماء؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه مشيت، وإذا شاء أغرقني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يبلغ من عظمتك أنك تعلو السماوات فتدبر فيها الأمر، ما أعرف لله نداً غيرك ولا مثلاً إلا أنت! فارتعد عيسى من الفرق، فخر مغشياً عليه ودعا الله على إبليس دعوةً، فخرج يتدأدأ، ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى، فنهض بالقوة التي جعلت فيه فسد على عيسى العقبة من قبل أن يزول عيسى من مكانه، فقال له: ألم أقل لك إنك إله عظيم وليس لله شبه غيرك، ولكنك لا تعرف نفسك، فهلم
فأمر الشياطين بالعبادة لك، فإنهم لم يعترفوا لبشرٍ كان قبلك، فإذا رأى بنو آدم أنهم قد عبدوك عبدوك بعبادتهم، فتكون أنت الإله في الأرض والإله الذي تصفه إلهاً في السماء. فخر عيسى مغشياً عليه، فبعث الله عز وجل إليه ثلاثة أملاك: جبريل ومياكئيل وإسرافيل، فنفحه ميكائيل نفحة فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى حصيداً محترقاً، ثم مثل له إسرافيل فنفحه نفحة بجناحه، فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى مر بعيسى على العقبة وهو يقول: يا ويله! لقد اقيت منك يابن العذراء تعباً! ثم مثل له جبريل فنفحه نفحةص فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً، حتى وقع في العين الحامية فتخلص منها بعد ثلاثة أيام حتى رجع إلى مجلسه.
وعن مجاهد في قوله " وجعلني مباركاً " قال: نفاعاً للناس، وقال: مباركاً، معلماً للخير.
وعن جابر " وجعلني مباركاً أين ما كنت " لعيسى بن مريم قال: معلماً ومؤدباً وحناناً، قال: ورحمةً وزكاةً، وطاهراً من الذنوب.
وعن يزيد بن أبي حبيب في قوله " وكهلاً " قال: الكهل منتهى الحلم.
وقال مجاهد: الكهل، الحليم.
وعن ابن عباس
في قوله " وبرا بوالدتي " فلا أعقها. فعلموا أنه خلق في غير بشر " ولم يجعلني جباراً شقيا " يعني متعظماً سفاكاً للدم " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً " يقول الله تعالى " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني يشكون - يقوله لليهود - ثم أمسك عيسى عن الكلام حتى بلغ ما يبلغ الناس.
قال عبد الله بن عباس: ما تكلم عيسى إلا بالآيات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن الله تعالى أطلق لسان عيسى مرة أخرى في صباه، فتكلم ثلاث مرات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان فيتكلمون فتكلم، فحمد الله أيضاً بتحميدٍ لم تسمع الآذان بمثله، حيث أنطقه طفلاً فقال: اللهم أنت القرب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك، وحارت البصار دون النظر إليك، أنت الذي عشيت الأبصار دونك وشمخ بك العلياء في النور، وتشعشع بك البناء الرفيع في المتباعد، أنت الذي جليت الظلم بنورك، أنت الذي أشرقت بضوء نورك دلادج الظلام وتلألأت تعظيماً أركان العرش نوراً، فلم يبلغ أحدٌ بصفته صفتك، فتباركت اللهم خالق الخلق بعزتك، مقدر الأمور بحكمتك، مبتدئ الخلق بعظمتك. ثم أمسك الله لسانه حتى بلغ.
وعن ابن عمر قال: ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعيسى أخي، ولكن رسول الله. قال: بينما أنا نائم أراني أطوف بالكعبة فإذا رجلٌ آدم سبط الشعر، بين الرجلين، ينظف رأسه ماءٌ - أو يهراق رأسه - فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم، فذهبت التفت، فإذا رجلٌ أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبةٌ طافية، فقلتك من هذا؟ قالوا: هذا الدجال - وفي رواية: هذا المسيح الدجال - أقرب الناس به شبهاً، رجلٌ من خزاعة يقال له ابن قطن.
قالوا: وهو من بني المصطلق، هلك في الجاهلية.
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليلة أسري بي رأيت إبراهيم وهو يشبهني، ورأيت موسى جعداً آدم، طويلاً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً أحمر ربعةً سبطاً، كأن رأسه يقطر الدهن.
وفي رواية: جعداً أحمر عريض الصدر.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصف لأصحابه ليلة اسري به إبراهيم وموسى وعيسى وقال: أما إبراهيم فلم أر أشبه بصاحبكم منه - أو قال: أنا أشبه ولده به - وأما موسى فرجل آدم طوال جعد أقنى، كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى فرجل أحمر، بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس - يعني الحمام - تخال رأسه يقطر ماء، وما به ماء، أشبه من رأيت به عروة بن مسعود. قال: وأتيت بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت منه، فقيل لي: هديت إلى الفطرة - أو اصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وفي حديث بمعناه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني ليلة أسري بي وضعت قدمي حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس فعرض علي عيسى بن مريم ... الحديث.
وعن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخمزير، ويضع الجزية، وعطل الملل، ويقاتل على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غيرالإسلام، ويهلك في زمانه مسيح الضلالة، الدجال الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرتع الأسد من الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً؛ حتى يمكث في الأرض ما شاء الله، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويهلك في زمانه الملل كلها، صريح البيان عن أن اليهود والنصارى
والمجوس وسائر المشركين ذوو مللٍ مختلفة، وليسوا أهل ملةٍ واحدة وإن جمعهم الكفر وأنه لا توارث بين أحدٍ منهم، وبين من هو على غير ملته لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يتوارث أهل ملتين شتى. وكان أبو جنيفة وأصحابه يرون الكفر كله ملة واحدة ويوقعون التوارث بينهم، وإليه يذهب أصحاب الشفعي.
ومن حديث آخر:
وأنا وعيسى أخوان، لأنه بشر بي وليس بيني وبينه نبي.
قالوا: والديماس محبس.
وعن أبي حازم قال: كنت أرى أبا هريرة يأتي الكتاب فيقول للمعلم: مر غلمانك فلينصتوا وليفقهوا ما أقول لهم، فيقول: يا معشر الغلمان، أيكم أدرك عيسى بن مريم فإنه شاب أحمر، حسن الوجه، فليقرا عليه مني السلام.
قال عبد الله عن عمرو بن العاص: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان، فكان يقول لأهدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أملك؟ فيقول: نعم، فيقول: خبأت لك كذا وكذا. فيذهب الغلام منهم إلى أمه، فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي، فتقول: وأي شيءٍ خبأت لك؟ فيقول كذا وكذا فتقول له: من أخبرك؟ فيقول: عيسى بن مريم، فقالوا: والله إن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسنهم، فجمعوهم في بيت، وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاءهم في بيت، فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء؟ كأن هؤلاء الصبيان! قالوا: لا، إنما هم قردة وخنازير، قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير. فكانوا كذلك.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال لع عيسى: وما باسم؟ قال المعلم: لا أدري، قال عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه،
والميم ملكه، والله لا إله إلا هو، الرحمن رحمان الدنيا واخرة، والرحيم رحيم الآخرة ... الحديث.
وعن ابن عباس: أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلاً، حتى إذا بلغ ما يبلغ الغلمان، ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، قال: فأكثر اليهود فيه وفي أمه من قول الزور، فكان عيسى يشرب اللبن من أمه، فلما فطم أكل الطعام وشرب الشراب حتى بلغ سبع سنين، فكانت اليهود تسميه ابن البغية، فذلك قول الله تعالى: " وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً " فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه للكتاب عند رجلٍ من الكتبيين يعلمه كما يعلم الغلمان، فلا يعلمه شيئاً إلا بدره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فعلمه أبا جاد، فقال عيسى: ما أبجد؟ قال المعلم: لا أدري، فقال عيسى: فكيف تعلمني مالا تدري؟ فقال المعلم: إذاً فعلمني، فقال له عيسى: فقم من مجلسكن فقام فجلس عيسى مجلسه، فقال: سلنين فقال المعلم: فماذا أبجد؟ فقال عيسى: الألف آلاء الله، باء بهاء الله، جيم بهجة الله وجماله - زاد في غيره: دال الله الدائم - فعجب المعلم من ذلك، فكان أول من فسر أبجد عيسى بن مريم.
قال: وسأل عثمان بن عفان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ماتفسير ابجد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا تفسير ابجد، فإن فيه الأعاجيب كلها، ويل لعالمس جهل تفسيره! فقيل يا رسول الله وما أبجد؟ فقال: أما الألف آلاء الله، حرفٌ من أسماءه؛ وأما الباء فبهجة الله وجلال الله؛ وأما الجيم فمجد الله، وأما الدال فدين الله؛ وأما هوز، فالهاء الهاوية، فويل لمن هوى فيها، وأما الواو فويل لأهل النار، وأما الزاي فالزاوية، فنعوذ بالله مما في الزاوية، يعني زوايا جهنم؛ وأما حطي، فالحاء حطوط خطايا المستغفرين في ليلة القدر، وما نزل به جبريل مع الملائكة إلىمطلع الفجر، وأما الطاء فطوبى لهم وحسن مآب، وهي شجرة غرسها الله بيده، وإن أغصانها لترى من وراء سور
الجنة، نبتت بالحي والحلل، والثمار متدلية على أفواههم، فطوبى لهم وحسن مآب، وأما الياء فيد الله فوق خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون؛ وأما كلمن، فالكاف كلام الله، لاتبديل لكلماته " ولن تجد من دونه ملتحدا " وأما اللام فإلمام أهل الجنة بينهم بالزيارة، والتحية والسلام، وتلاوم أهل النار بينهم، وأما الميم فملك الله الذي لا يزول، ودوام الله الذي لا يفنى، وأما نون فنون " والقلم وما يسطرون " فالقلم قلمٌ من نور وكتابٌ من نور، في لوحٍ محفوظ يشهده المقربون، وكفى بالله شهيدا؛ يعني الجزاء بالجزاء وكما تدين تدان، والله لا يريد ظلماً للعباد؛ وأما قريشات، يعني قرشهم يجمعهم يوم القيامة يقضي بينهم وهم لا يظلمون.
قال ابن عباس:
فكان عيسى يري العجائب في صباه إلهاماً من الله تعالى، ففشا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إليها أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " فسئل ابن عباس: ألا كان آيتان وهما اثنان؟ فقال: إنما قال آية لأن عيسى من أمه ولم يكن من أبٍ لم يشاركها في عيسى أحد، فصار آيةٌ واحدة " وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين " قال: يعني أرض مصر.
قال وهب: ولما بلغ عيسى ثلاث عشرة سنة أمره الله تعالى أن يرجع من مصر إلى بيت إيلياء، فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار، حتى جاء بهما إلى إيلياء وأقامهما حتى أحدث الله تعالى له الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والعلم بالغيوب بما يدخرون في بيوتهم؛ وتحدث الناس بقدومه، وفزعوا لما كان يأتي من
العجائب، وجعلوا منه، فدعاهم إلى الله، ففشا فيهم أمره.
وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌ، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل.
زاد في آخر: وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها.
سئل الأوزاعي عن رجلٍ قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً بتةً أن لم أكن من أهل الجنة؟ فقال الأوزاعي: لا يفرق بينه وبين امرأته؛ حدثني عمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، أدخله الله الجنة على ما كان منه فلا يفرق بينهما بالشك لما جاء من هذا الحديث.
وفي رواية: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء.
وعن يعلى بن شداد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليخرجن الله بشفاعة عيسى بن مريم من جهنم مثل أهل الجنة.
أنزلت التوراة على موسى صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ست ليالي خلون من شهر رمضان؛ ونزل الزبور على داود صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في اثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربع مئة سنة واثنتين وثمانين سنة؛ وأنزل الإنجيل على عيسى بن مريم صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاماً؛ وأنزل القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أربعٍ وعشرين من شهر رمضان.
وعن أبي هريرة قال:
أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم: يا عيسى خذ في أمري ولا تهن، واسمع وأطع، يا بن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد،
وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة، فسر لأهل السريانية السريانية، بلغ بين يديك أني أنا الحي القائم الذي لا أزول، صدقوا النبي الأمي العربي، صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهو القضيب - الأنجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية المقرون الحاجبين، الأقنى الأنف، المفلج الثنايا البادي العنفقة، الذي كأن عنقه إبريق فضة، كأن الذهب يجري في تراقيه، له شعيراتٌ من لبته إلى سرته يجري كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعاً، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤة، ريح المسك ينفح منه، لم ير قبله ولا بعده - يعني مثله - الحسن القامة، الطيب الريح، نكاح النساء، ذا النسل القليل إنما نسله من مباركة، لها بيتٌ - يعني في الجنة - من قصب، لانصب فيه ولا صخب؛ تكفله يا عيسى في آخر الزمان، كما كفل زكريا امك، له منها فرحان مستشهدان وله عندي منزلة ليس لأحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه. قال عيسى: يا رب! وما طوبى؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي، فهي الجنان كلها، أصلها من رضوان وماؤه من تسنيم، وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. قال عيسى: يا رب اسقني منها، قال: حرامٌ على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذاك النبي، وحرامٌ على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب أمة ذاك النبي. قال: يا عيسى أرفعك إلي، قال: يا رب! ولم ترفعني؟ قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتال اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة، ثم لا تصل بهم لأنهم أمةٌ مرحومة، ولا نبي بعد نبيهم.
وروي أن عيسى بن مريم قال: رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هم علماء حلماء، كأنهم انبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله، ياعيسى هم أكثر سكان أهل الجنة لأنها لم تذل ألسن قومٍ قط بلا إله إلا الله، كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قومٍ قط بالسجود كما ذلت رقابهم.
وعن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم؛ أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخراً لك في معادك، وتقرب إلي بالنوافل أحبك، ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء، وارضى بالقضاء، وكن كمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريباً، وأحي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدره يقظ من ساعات الغفلة، واحكم لي لطف الفطنة، وكن لي راغباً راهباً، وأمت قلبك من الخشية لي، وراع الليل بحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعرف بالخير حيث توجهت - تفسيره: يقول: ولتعرف بالخير - وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدك، فقد أنزلت عليك شفاء وساوس الصدر من مرض النسيان وجلاء الأبصار من غشا الكلال؛ ولا تكن حلساً كأنك مقبوض وأنت حيتنفس؛ ياعيسى بن مريم ما أمنتني خليقةٌ إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهدك أنها آمنةٌ من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي؛ يا عيسى بن مريم البكر البتول، ابك على نفسك ايام الحياة بكاء من ودع الأهل وقلى الدنيا، وترك اللذات لأهلها وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام، وتفشي السلام وكن يقظانا إذا نامت عيون الأنام حذار ما هو آتٍ من أمر المعاد، وزلازل شدائد الأهوال قبل أن لا ينفع أهلٌ ولا مال، واكحل عينك بملمول الحزن إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابراً محتسباً، فطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين، زج من الدنيا بالله، يوم بيوم، وذق مذاقه، ما هرب منك أين طعمه؟ وما لم يأتك كيف لذته؟ فزج من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الخشب، قد رأيت إلى ما تصير؛ اعمل على حساب، فإنك مسؤول؛ لو رات عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك، وزهقت نفسك.
زاد في آخر: اشتياقاً إليهم.
كان عيسى يصلي على رأس الجبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي يزعم أن كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر؟ قال: نعم، قال: ألق نفسك من الجبل وقد قدر علي، قال: يالعين! الله يختبر العباد، ليس العباد يختبرون الله عز وجل.
وفي حديثٍ بمعناه: قال: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.
صلى عيسى بن مريم ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه، فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبداً؛ فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبداً؛ فاستغاث عيسى بربه فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقرا معه العقبة اكتنفا عيسى، وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي، قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لاينبغي لك أن تكون عبداً، إن غضبك ليس غضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك إلى أمرٍ هو لك، آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى الإنس أن الشياطين قد أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلهاً ليس معك إله، ولكن الله يكون إلهاً في السماء وتكون أنت إلهاً في الأرض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخةق شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة اخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر بعيسى وهو مكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت منك اليوم تعباً شديداً، فرمى به في عين الشمس، وجره سبعة أملاك عند العين الحامية؛ قال: فغطوه، فجعل كلما خرج غطوه في تلك الحمأة. قال: والله ما عاد إليه بعد.
قال أبو حذيفة:
واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعباً! قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشراً كثيراً وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعاً، ويجعلون وأمه إلهين من دون الله. وأنزل الله فيما أيد به عبده عيسى وعصمه من إبليس قرآناً ناطقاً يذكر نعمته على عيسى فقال: " يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب " يعني الانجيل والتوراة " والحكمة " " وإذ كففت بني إسرائيل عنك " الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانةً وصحابةً وأعواناً ترضى بهم، وصحابةً وأعواناً يرضون بك هادياً وقائداً إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل: صمنا فلم يقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاءنا؛ فقل لهم: ولم ذاك؟ وما الذي يمنعني؟ أن ذات يدي قلت؟ أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء؟ أو أن البخل يعتريني؟ أو لست اجود من سئل وأوسع من أعطى؟ وأن رحمتي ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي. ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غذوا أنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم، فاستأثروا به الدنيا أثرةً على الآخرة لعرفوا من أين أتوا، وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟! يا عيسى، إنما أجزي عليها أهلها؛ وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟! ازددت عليهم غضباً، يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من عبدك
وعبد أمك وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقاءك في المنازل، وشركاءك في الكرامة؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أني مسبب هذا الأمر على يدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، ولا متزينٍ بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمرٍ جميل، وأهب له كل خلقٍ كريم، أجعل التقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته؛ والحق شريعته، والإسلام ملته، واسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العايلة، وأرفع به بعد الضعة، أهدي به وأفتح به من ىذانٍ صم، وقلوبٍ وأهواء مختلفةٍ متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، إخلاصاً لا سمي وتصديقاً لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتهليل والتقديس في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومتقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداص وركعاص وسجداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاص وزحوفاً، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
قال وهب بن منبه: كان دعاء بن مريم الذي يدعو به للمرضى والزمن والعميان والمجانين: اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من السماء وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيءٍ قدير.
قال وهب: هذا للفزع والمجنون، يقرأ عليه ويكتب له ويسقي ماءه إن شاء الله.
كان عيسى بن مريم إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتن يقرأ في الأولى " تبارك الذي بيده الملك " وفق الثانية " تنزيل " السجدة، فإذا فرغ مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم! يا حي! يا دائم! يا فرد! يا وتر! يا أحد! يا صمد! قال البيهقي: ليس هذا بالقوي.
وعن هلال بن خباب قال:
سألت بنو إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام فقالوا: يا روح الله وكلمته، إن سام بن نوح دفن هاهنا قريباً، فادع الله أن يبعثه، قال: فهتف نبي الله فلم ير شيئاً فقال: أتتعنتوني!؟ فقالوا: ما نتعنتك، لقد دفن ها هنا قريباً، فهتف نبي الله فخرج أشمط، قالوا: يا نبي الله! إنه مات وهو شاب، فما هذا البياض؟ فسأله فقال: ظننت أنها الصيحة ففزعت، قالوا: دعه يكن فينا، قال: كيف يكون فيكم وقد نفد رزقه!.
وحدث جماعة عن عبر عيسى وقصته، وما كان من الآيات والعجائب، وزاد بعضهم عن بعض قالوا: إن أول من أحيا عيسى بن مريم من الموتى حين قال لهم " إني أخلق من الطين " بإذن الله " وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فتعاظم ذلك عند الكفار والمنافقين فأنكروه، وازداد المؤمنون بذلك إيماناً؛ فكانت اليهود تجتمع إليه في ذلك ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى، ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغدٍ؟ فيخبرهم، فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم، وكان عيسى ليس له قرار ولا موضع يعرف، إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأةٍ قاعدةٍ عند قبرٍ وهي تبكي فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذافت من الموت، ولا أبرح من موضعي أو يبعثها الله لي فأنظر إليها أو أحشر معها من موضعي، لو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال عيسى: إن نظرت إليها أراجعةٌ أنت؟ قالت: نعم،
قال: فصلى عيسى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة، قومي بإذن الرحمن فاخرجي، قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية، فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما بطأ بك عني؟ قالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكاً فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة! فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت يا أمتاه! ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أمتاه، اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته يسأل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت، قال: فدعا ربه، فقبضها إليه، فاستوت عليها الأرض.
فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضباً، وكان ملك منهم في ناحيةٍ منهم في مدينةٍ يقال لها نصيبين جباراً عاتياً، وأمر عيسى بالمسير إليه ليدعوه وأهل تلك المدينة إلى المراجعة. قال: فمضى حتى شارف المدينة ومعه الحواريون، فقال لأصحابه: ألا رجلٌ منكم ينطلق إلى المدينة فينادي فيها فيقول: إن عيسى عبد الله ورسوله. قال: فقام رجلٌ من الحواريين يقال له يعقوب فقال: أنا يا روح الله وكلمته؛ قال: فاذهب فأنت أول من يبر أمتي. فقام آخر يقال له توصار قال له: أنا معه، قال: وأنت معه؛ ومشيا، فقام شمعون فقال: يا روح الله وكلمته! أكون ثالثهم؟ فأذن لي بأن أنال منك إن اضطررت إلى ذلك، قال: نعم.
قال: فانطلقوا، حتى إذا كانوا قريباً من المدينة فقال لهما شمعون: ادخلا المدينة فبلغا ما أمرتما وأنا مقيم مكاني، فإن ابتليتما احتلت لكما. فانطلقا حتى دخلا المدينة، وقد تحدث الناس بأمر عيسى وهم يقولون فيه أقبح القول وفي أمه، فنادى أحدهما - وهو الأول - ألا إن عيسى عبد الله ورسوله؛ فوثبوا إليهما: من القائل إن عيسى عبد الله ورسوله؟ فتبرأ الذي نادى فقال: ما قلت شيئاً؛ فقال الآخر: قد قلت وأنا أقوله: إن
عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فآمنوا به يا معشر بني إسرائيل خيرٌ لكم. فانطلقوا به إلى ملكهم - وكان جباراً طاغياً - فقال له: ويلك! ما تقول؟ قال: أقول إن عيسى عبد اللهورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه؛ قال: كذبت؛ فقذفوا عيسى وأمه بالبهتان، ثم قال له: تبرأ ويلك من عيسى وقل فيه مقالتنا! فقال: لا أفعل، فقال الملك: إن لم تفعل قطعت يديك ورجليك وسمرت عينيك، فقال: افعل ما أنت فاعل. قال: ففعل به ذلك، فألقاه على مزبلةٍ في وسط مدينتهم.
قالوا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: كونوا كحواريي عيسى بن مريم، رفعوا على الخشب وسمروا بالمسامير وطبخوا في القدور، وقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم فكان ذلك البلاء والقتل في طاعة الله أحب إليهم من الحياة في معصية الله.
قال الرواة: إن الملك هم أن يقطع لسانه إذ دخل شمعون وقد اجتمع الناس، فسلم، فلما نظروا إليه أنكروه، فقال لهم: ماقال هذا المسكين؟ قالوا: يزعم أن عيسى عبد الله ورسوله، فقال شمعون: أيها الملك أتأذن لي فأدنوا منه فأسأله؟ قال: نعم، فقال له شمعون: أيها المبتلى! ما تقول؟ قال: أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، قال: فما آيته نعرفه؟ قال: يبرء الأكمة والأبرص والسقيم، قال: هذا يفعله الأطباء فهل غيره؟ قال: نعم، يخبركم بما تأكلون وما تدخرون، قال: هذا يعرفه المهنة فهل غير هذا؟ قال: نعم، يخلق من الطين كهيئة الطير، قال: هذا قد تفعله السحرة، يكون أخذه منهم. قال: فجعل يتعجب الملك منه وسؤاله، فقال: هل غير هذا؟ قال: نعم، يحيي الموتى، قال: أيها الملك! إنه ذكر أمراً عظيماً! وما أظن خلقاً يقدر على ذلك إلا بإذن الله، ولا يقضي الله ذلك على يدي ساحرٍ كذاب، فإن لم يكن عيسى رسولاً فلا يقدر على ذلك، وما فعل الله ذلك بأحد إلا بإبراهيم حين سأله " رب أرني كيف تحيي الموتى " ومن مثل إبراهيم خليل الرحمن! فقال الله: " أو لم تؤمن قال بلى ".
ذكر الحسن أن عيسى بن مريم ومعه ناسٌ من الحواريين، فأتوا على ذهبٍ كثير موضوع، فقال عيسى النجاء النجاء! إنما هي النار. ثم مضى ومضى أصحابه، وتخلف منهم ثلاثة،
فقال رجلان منهم لصاحبهما: إنا لا نستطيع هذا الذهب إلا أن نحمله على شيء فخذ من هذا الذهب فاشتر لنا به طعاماً واشتر لنا ظهراً نحمل عليه من هذا الذهب. فانطلق لما أمراه به، فأتى الشيطان للرجلين فقال لهما: إذا أتاكما فاقتلاه واقسما المال نصفين، فلما أحكم أمرهما انطلق إلى الآخر فقال: إنك لن تطيق هذين، فاجعل في الطعام سما فأطعمهما واذهب بالمال وحدك. فابتاع من المدينة سما، فجعله في طعامهما؛ فلما أناهما وثبا عليه فقتلاه، ثم قربا الطعام فأكلا منه فماتا. فانطلق عيسى إلى حاجته ثم رجع، فإذا هو بهم قد موتوا عند الذهب فقال: انظروا إلى هؤلاء! ثم حدثهم حديثهم، ثم قال لأصحابه: النجاء النجاء! فإنما هي النار.
وعن بن عباس قال:
لما بعث الله عيسى وأمره بالدعوة لقيه بنو إسرائيل فأخرجوه، فخرج هو امه يسيحون في الأرض، فنزلوا في قرية على رجلٍ فأضافهم فأحسن إليهم، وكان للمدينة ملكٌ جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يوماً وقد وقع عليه هم وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته فقال لها: ما شأن زوجك أراه حزيناً؟ فقالت: ل تلسيني، قالت: أخبرني لعل الله يفرج كربه، قالت: فإن لنا ملكاً يجعل على كل رجلس منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليومن يريد أن يصنع له فيه، وليس الآن عندنا سهة، قالت: فقولي له فلا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له، فيلقى ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك، فقال عيسى: يا أمه! إني إن فعلت كان في ذلك شر! قالت: لا تبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فاملاٌ قدورك وخوابيك ما ثم أعلمني، فلما ملأهن أعلمه، فدعا الله، فتحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً، وما في الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاءه الملك أكل منه، فلما شرب الخمر سأل: من أين لك هذا الخمر؟ قال: هو من أرض كذا وكذا، قال الملك: فإن خمري أوتى به من تلك الأرض، ليس هو مثل هذا! قال: هو من أرضٍ أخرى: فلما خلط على الملك اشتد عليه فقال: أنا أخبرك، عندي غلامٌ لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فقال له الملك - وكان له ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحب الخلق إليه - فقال: إن رجلاً دعا الله فجعل الماء خمراً ليستجابن له حتى يحيي ابني؛ فدعا عيسى فكلمه وسأله أن يدعو الله أن يحيي ابنه، فقال
عيسى: لا تفعل إنه إن عاش كان شرا! قال الملك: ليس أبالي، أليس أراه؟ فلا أبالي ما كان؛ قال عيسى: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب حيث نشاء، قال الملك: نعم. فدعا الله الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه. فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى تشاركني؟ قال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهودي يريد ان يأكل الرغيف أكل لقمة، قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول له: لا شيء، فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه؛ وانطلقوا فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاةً من غنمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال اليهودي: كل ولا تكسر عظماً؛ فاكلا، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! وفر منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد؛ فمر بصاحب بقر، فقال له: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلاً، فقال: ابعث صاحبك يأخذخ. فقال: انطلق يا يهودي فجئ به. فانطلق فجاء به فذبحوه وشووه. وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسر عظماً فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال، قم بإذن الله؛ فقام، له خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعدما أكلناه! قال: يا يهودي، فبالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، والعجل بعدما أكلناه كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف
واحد؛ فانطلقا حتى نزلا قريةً، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصاً مثل عصا عيسى وقال: أنا الآن أحيي الموتى. وكان ملك تلك القرية مريضاً شديد المرض. فانطلق اليهودي ينادي من يبغي طبيباً؟ حتى أتى ملك تلك المدين، فأخبر بوجعه فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه ولا يغني دواؤه شيئاً إلا أمر به فصلب، فقال: أدخلوني عليه فإني سأبرئه؛ فأدخل عليه، برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات! فجعل يضربه وهو ميت ويقول: قم بإذن الله، فأذخ ليصلب فبلغ عيسى، فأقبل عليه وقد رفع علي الخشبة فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيا عيسى الملك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى! أنت أعظم الناس علي منةً! والله لا أفارقك أبداً. فخرجوا فمروا بثلاث لبنات، فدعا الله عز وجل عيسى فصيرهن من ذهب، قال: يا يهودي لبنةٌ لي ولبنةٌ لك ولبنةٌ لمن أكل الرغيف؛ قال: أنا أكلت الرغيف.
وعن ابن عباس أن عيسى بن مريم قال للحواريين: صوموا ثلاثين يوماً، ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه. فصاموا، فلما قضوا ثلاثين يوماً قالوا لعيسى: يا معلم الخير، إنه لو عملنا لأحد وقضينا عمله أطعمنا طعاماً، وإنا قد صمنا الذي أمرتنا به، فادع الله أن ينزل علينا مائدةً من السماء، فنزلت الملائكة بمائدةٍ يحملونها، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، فأكل من آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وفي حديثٍ آخر: فأنزلها الله عليهم، فكان ينزل عليهم كل يوم تلك المائدة من ثمار الجنة، فيأكلون من ضروب شتى، فكان يقعد منا أناس يلطخون ثيابنا، فلو بنينا لها بناءً حتى نرفعها؛ فبنوا لها بناءً، فلما فعلوا ذلك أنزلها الله عليهم ذلك اليوم، فجاء أشرافهم وأصحاب الثياب، فارتفعوا على غيرهم، فأكلوا ذلك منها ثم رفعها الله عنهم حين بدلوا أمر الله عز وجل.
وعن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزلت المائدة من السماء خبز ولحم، وأمروا أن لا يخبؤوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادخروا وخبؤوا، فمسخوا قردةً وخنازير.
وعن سلمان
أنه قال في المائدة التي أنزلها الله على عيسى قال: لما سأل الحواريون عيسى - وذلك أنهم حين سألوه - قالوا: تريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا للذي رأينا من العجائب، ونكون عليها من الشاهدين. قال: فقام عيسى فألقى عنه الصوف ولبس جبة من شعر ولحافاً من شعر، ثم وضع يمينه على شماله وصف قدميه، وألصق كعب قدميه مع الآخر، وسى بين إبهاميه، وطأطأ رأسه خاشعاً لله عز وجل، فأرسل عينيه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته وصدره وهو يدعو الله ويتضرع، ثم قال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " يعني تكون لنا عظة " وآية منك " يقول: علامة بيننا وبينك " وارزقنا " عليها طعاماً نأكله وارزقنا " وأنت خير الرازقين " فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وأخرى من تحتها، توهي منقضة في الهواء والناس ينظرون إليها! فأوحى الله تعالى: يا عيسى هذه المائدة، فمن كفر بعد ذلك " منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ". فبلغ عيسى قومه فقالوا: نعم، فقال الله: يا عيسى إن كفروا أخذتهم بالشرط. ونزلت المائدة وعيسى يبكي ويقول: إلهي اجعل رحمةً ولا تجعلها عذاباً! كم أسألك من العجائب " فتعطني، إلهي، أعوذ بك أن يكون نزولها عذاباً ورجزاً، وأسألك أن تجعلها عافيةً وسلامةً، ولا تجعلها مثلة ولا فتنة. فما زال " يدعو ويتضرع حتى استقرت بين يدي عيسى، والناس حوله " يجدون ريح " طيبها، لم يجدوا ريحاً قط أطيب منها، فخر عيسى ساجداً، وسجد الحواريون معه.
وبلغ ذلك اليهود. فأقبلوا مغمومين مكروبين، فنظروا إلى أمرٍ معجب، فإذا سفرة مغطاة بمنديل، فرفع عيسى راسه واستوى قاعداً، فقال: لننظر من كان خيرنا وأوثقنا بنفسه، وأحسننا عملاً عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر إليها ونأكل منها ونحمد الله عليها؛ فقال الحواريون: أنت أولانا وأحقنا يا روح الله! فقام عيسى فتوضأ وضوءاً حسناً وصلى صلاة حسنة، ودعا دعاءً كثيراً وبكى بكاءً طويلاً، ثم جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين وكشف المنديل، فإذا سمكة مشوية وليس عليها فلوس ولا فيها شوك، يسيل السمن منها سيلاناً وقد نذد حولها من ألوان البقول إلا الكراث، وخل عند رأسها وملح عند ذنبها، وخمسة أرغفة على كل رغيف زيتون وخمس رمانات وتميرات، فقال شمعون وهو رأس الحواريين: يا روح الله وكلمته! أمن طعام الدنيا أو من طعتم الآخرة؟ فقال عيسى: ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا! فقال: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بما سألتك عنه سوءاً، فقال عيسى: نزلت وما عليها من السماء، وليس شيء منها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، وهي مما ابتدعه الله بالقدرة البالغة، فقال: كن فكان، فقال: كلوا مما سألتم واذكروا اسم الله عليه واحمدوا إلهكم واشكروه يزدكم، فإنه القادر على ما يشاء إذا يشاء، فقال الحواريون: يا روح الله! كن أنت أول من يأكل منها ثم نأكل منها، فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها الذي سألها وطلبها.
وفرق الحواريون أن يكون " نزولها سخطة ومثلة، فلم يأكلو منها، فدعا عيسى لها أهل الفاقة والزمانة من العميان والمجذمين والمجانين والمخبلين، وهذا الضرب من أنواع البلاء من الناس، فقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، وآية من ربكم، فليكن مهناها لكم وبلاؤها لغيركم " فأكلوا، فصدر عن تلك السمكة والطعام " ألف وثلاث مئة من بين رجل وامرأة شباعاً " يتجشؤون من بين فقيرٍ جائع، وزمنٍ ناقهٍ رغيب، ثم نظر عيسى إلى السفرة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثم رفعت إلى السماء وهم ينظرون
إليها صاعدة، وينظرون إلى ظلها حتى توارت، فاستغنى كل فقير أكل منها حتى مات، وبرأ كل مبتلى يومئذٍ فلم يزل صحيحاً غنياً حتى مات، وندم الحواريون وندم سائر الناس ندامةً شابت حواجبهم وأشفار أعينهم، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان يسعون، يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل صغير ضعيف ومريض، يركب بعضهم بعضاً، حتى جعلها عيسى نوائب فيما بينهم، ثم كانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، كناقة ثمود، ترعى يوماً وترد يوماً فلبثوا بذلك أربعين صباحاً، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، فإذا فاء الفيء ارتفعت صاعدةُ في السماء؛ ثم أوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي ورزقي لليتامى والزمنى والفقراء دون الأغنياء، فتعاظم ذلك عند الأغنياء، وأذاعوا القبيح وارتابوا وشكوا فيها، ووقعت الفتنة في قلوب المرتابين حتى قال قائلهم: يا روح الله وكلمته! إن المائدة بحق أنها تنزل من عند ربنا؟ فقال: عيسى ويلك هلطتم! العذاب نازلٌ بكم إلا أن يعفو الله ويرحمكم.
فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بالشرط الذي اشترطت، إني معذب منهم من كفر بعد نزولها بعذاب " لا أعذبه أحداً من العالمين " فقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وخبرهم بنزول العذاب عليهم، فمسخ الله منهم ثلاثةً وثلاثين رجلاً خنازير، وأصبحوا يأكلون العذرة في الحشوش ويتبعون الزبل في الطرق، وكانوا باتوا أول الليل على فرشهم مع نسائهم آمنين في دورهم، في أحسن صورةٍ وأوسع رزق فأصبحوا خنازير، وأصبح الناس - من بقي - خائفين من عقوبة الله، وعيسى يبكي ويتضرع وأهلوهم يبكون معه عليهم. وجاءت الخنازير تسعى إلى عيسى حين أبصرته، فطفقوا وعيسى يدعوهم: يا فلان يا فلان، فيقول برأسه: نعم، فيقول: ألم أنذركم عقوبة الله؟ فيقولون برؤوسهم: أي نعم، وأحذركم وأخوفكم عذابه! وكأني كنت انظر إليكم في غير صوركم؛ وذلك قوله تعالى: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وأنزل الله على
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات " ثم إن عيسى سأل ربه أن يميتهم، فأماتهم بعد ثلاثة أيام؛ فما رأى أحدٌ من الناس لهم جيفةٌ في الأرض لأن العقوبة إذا نزلت من الله استأصلت، فنعوذ بالله من غضبه.
قالوا: وكان ذلك بين إيلياء وبين أرض الروم.
وفي رواية: فأكلوا، فصدر عنها سبعة آلاف شباعاً - وفي رواية اثنا هشر ألفاً - فكانت المائدة تنزل عليهم أربعين صباحاً، فعمد قومٌ منهم فخبنوا منه، فقال لهم الحواريون: لا تفعلوا فإنكم إن فعلتم عذبتم. وكان قومٌ منهم مداهنين فقال: دعوهم وما الذي يتخوفون عليهم، إنكاراً لما قالوا لهم، فقال الذين جهلوا: ما سمعتهم بساحرٍ يخرج في آخر الزمان يزرع من يومه ويحصد من يومه، ويطعم الناس من يومه فغضب الحواريون وغيروا عليهم، وسكت المداهنون؛ فانطلق الحواريون إلى عيسى فأخبروه بذلك، فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بشرطي. فاعتزل عيسى والحواريون عن عسكرهم، فلما كان عند وجه الصبح بعث الله عز وجل جبريل عليه السلام فصاح عليهم صيحةً فزعوا فحولوا عن صورهم خنازير، فلما أصبحوا نادى منادي عيسى بالرحيل، وكان يرتحل بفلس، فلم يخرج من عسكر القوم، فأقام عيسى حتى أسفر، فنظر الناس إليهم فقالوا: يا عجباً خنازير لها أذناب يسمع لها وحاوح! فلما رأى ذلك عيسى بكى بكاءً شديداً. قال: فجعلوا يومون برؤوسهم إلى عيسى أن ادع ربك، وعيسى يدعوهم بأسمائهم ويقول: ألم أنهكم؟ فيومون برؤوسهم أن نعم، فمضى عيسى عليه السلام، فأوحى الله عز وجل إليه أن يقيم بمكانه ثلاثة أيام، فأقام عيسى، فاجتمع الناس ينظرون إليهم، ثم ارتحل عنهم، فأخذت الخنازير على إثر عيسى، فأوحى الله إلى الأرض أن خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم على المحجة أربعة أيام، ينظر الناس إليهم ثم أماتهم بعد سبعة أيام، ثم أوحى الله إلى الأرض أن اخسفي بهم، فخسفت بهم فطهر الله الأرض من خسيفتهم، فانكسرت اليهود أعداء الله، فقطعت
السنتهم عن عيسى بن مريم فذلك قول الله عز وجل: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " فأما الخنازير على لسان عيسى، وأما القردة فهم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت وهم على لسان داود.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: عندما قال لهم: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها شيء ابتدعه الله تعالى بالقدرة الغالبة، إنما قال كن فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمدكم ويردكم فإنه القادر البديع لما يشاء، إذا شاء يقول له كن فيكون. قالوا: يا روح الله وكلمته! إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة، فقال عيسى: يا سمكة أحيي بإذن الله! فاضطربت السمكة طرية تدور عيناها، لها بصيص تلمظ بفيها كما يتلمظ السبع، وعاد عليها فلوسها، ففزع القوم! فقال عيسى: ما لكم تسألون الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه! ما أخوفني أن يعبدوا هذه السمكة! قال: عودي كما كنت بإذن الله. قال: فعادت مشويةً في حالها. قال: كن يا روح الله أول من يأكل ثم نأكل بعد، قال عيسى: معاذ الله بل يأكل من طلبها وسألها ... الحديث.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: كان وزير لعيسى ركب يوماً فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: أي رب! وزيري في ينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبك فأكله، قال: نعم، كانت له عندي منزلةٌ رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مر ثلاثة نفرٍ على عيسى بن مريم فقال: يموت أحد هؤلاء اليوم إن شاء الله؛ فراحوا عليه بالعشي عليهم حزم الحطب، فقال لهم: ألقوا، فألقوا، فإذا حيةٌ سوداء في حزمة الذي قال يموت إن شاء الله، فقال: ما عملت اليوم؟ قال: ما علمت شيئاً! قال لتخبرني،
قال: ما عملت شيئاً إلا أنه كانت معي فدرةً من خبز كانت بيدي، فمر علي مسكين، فأعطيته بعضها، فقال: بهذه منعت. أو قال: نجوت.
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم، فانطلقوا يطلبونه، فإذا هو قد انطلق نحو البحر، وإذا هو يمشي على الماء، فقال له رجل منهم: يا نبي الله! أجيء إليك؟ قال: نعم، فذهب يرفع رجلاً ويضع أخرى فإذا هو في الماء، فقال له عيسى: ناولني يدك يا قصير اليقين، فلو أن لابن آدم من اليقين قدر ذرةٍ لمشى على الماء.
وعن فضيل بن عياض قال:
قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذاً، قال: فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: مالكم، قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج! قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر أو حصى، فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب قال فإنهما عندي سواء.
وعن ابن عباس قال: خرج عيسى بن مريم يستسقي بالناس، فأوحى الله عز وجل إليه: لا يستسقي معك خطاء. فأخبرهم بذلك فقال: من كان من أهل الخطايا فليعتزل، فاعتزل الناس كلهم إلا رجلاً مصاباً بعينه اليمنى، فقال له عيسى: مالك لا تعتزل؟ قال: يا روح الله! ما عصيت الله طرفة عين، ولقد التفت فنظرت بعيني هذه إلى قدم امرأةٍ من غير أن كنت أردت النظر إليها فقلعتها، ولو كنت نظرت إليها باليسرى لقلعتها. قال: فبكى عيسى حتى ابتلت لحيته بدموعه، ثم قال: فادع فأنت أحق بالدعاء مني، فإني معصومٌ بالوحي، وأنت لم تعصم ولم تعص. فتقدم الرجل فرفع يديه وقال: اللهم إنك خلقتنا وقد علمت ما نعمل من قبل أن تخلقنا، فلم يمنعك ذلك ألا تخلقنا، فكما خلقتنا وتكلفت
بأرزاقنا فأرسل السماء علينا مدرارا. فو الذي نفس عيسى بيده ما خرجت الكلمة تامةٌ من فيه حتى أرخت السماء عزاليها، وسقي الحاضر والباد.
وفي رواية: فقال له عيسى: ادع وأنا أؤمن. فدعا وأمن عيسى، فسقاهم الله.
وفي رواية: قال بل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا عيسى صلى الله على نبينا وعليه، وأمن الرجل، فما رجعوا حتى كادوا أن يدركهم الغرق.
قال الشعبي: كان عيسى بن مريم إذا ذكر عنده الساعة صاح، ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة فيسكت.
وكان عيسى إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: كيف أصبحت يا روح الله؟ قال أصبحت وربي من فوقي، والنار أمامي، والموت في طلبي، لا أملك ما أرجو، ولا أطيق دفع ما أكره، فأي فقيرٍ أفقر مني.
وعن جعفر بن برقان أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بعمل، فلا فقير أفقر مني! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط علي من لا يرحمني.
وعن يونس بن عبيد قال: كان عيسى بن مريم يقول: لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا.
وقال الفضل: قال عيسى: فكرت في الخلق، فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق.
وقوله عز وجل: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " قال: ذاك عيسى بن مريم كان يأكل من غزل أمه.
وكان عيسى بن مريم عليه السلام يأكل الشجر ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسى، لم يكن له ولد فيموت، ولا بيت يخرب ولا يخبأ غداءلٌ لعشاء، ولا عشاء لغداء؛ وكان يقول: كل يومٍ يجيء معه رزقه.
وعن سعيد بن عبد العزيز أن عيسى نظر إلى إبليس فقال: هذا آثر كون الدنيا، إليها خرج وإياها سأل، لا أشركه في شيءٍ منها ولا حجراً أضعه تحت رأسي فلا أكشر فيها ضاحكاً حتى أخرج منها.
وعن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة، قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
قال: وقال الحسن: إن عيسى بن مريم مر به إبليس يوماً وهو متوسد حجراً وقد وجد لذة النوم، فقال له إبليس: يا عيسى، أليس تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا، فقام عيسى غضبان، ثم أخذ الحجر فرمى به فقال: هذا لك مع الدنيا يا إبليس! فلعمري إن الدنيا مزرعةً لك، وإن أهلها لك عمال.
قال الحسن: كان عيسى يمشي على الماء، فقال له الحواريون: يا روح الله إنك لتمشي على الماء! قال: نعم، ذلك باليقين بالله، قالوا: إنا بالله لموقنون، قال لهم عيسى: تقولون لو عرض لكم في الطريق در وحجر أيما كنتم تأخذون؟ قالوا: الدر، قال: لا والله حتى يكون الدر والياقوت مثل الحجارة عندكم سواء.
وقال الحسن: إن عيسى بن مريم أصابه الحر وهو صائم حتى اشتد به، فقالوا: يا روح الله وكلمته! لو بنينا لك بيتاً تسكنه ويكنك من الحر والبرد، قال: لا حاجة لي به فألحوا عليه، فأذن لهم فبنوا عريشاً، فلما دخله فنظر إليه قال: سبحان الله! أعادي أنا!؟ إنما أردت بيتاً إذا جلست أصاب رأسي سقفه، وإذا اضطجعت أصاب جنبي حائطه، ولا حاجة لي بهذا. فلم يسكن بعدها ظل بيتٍ حتى رفع.
قال: وقال الحسن: فوالله لو لم يعذبنا الله إلا بحبنا الدنيا لعذبنا، لأن الله يقول: أحببت شيئاً أبغضه ولقول الله تعالى: " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ".
وحدث مكحول عن كعب أن عيسى بن مريم كان يأكل الشعير ويمشي على رجليه، ولا يركب الدواب ولا يسكن البيوت ولا يصطحب السراج، ولا يلبس الكراسف - يعني القطن - ولم يمس النساء، ولم يمس الطيب، ولم يمزج شرابه بشيءٍ قط، ولم يبرده، ولم يدهن رأسه قط، ولم يقرب رأسه ولحيته غسولٌ قط، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئاً قط إلا لباسه، ولم يهتم لغداءٍ قط ولا لعشاء قط، ولا اشتهى شيئاً من شهوات الدنيا؛ وكان يجالس الضعفاء والمنى والمساكين. وكان إذا قرب إليه طعام على شيءٍ وضعه على الأرض، ولم يأكل مع الطعام إداماً قط؛ وكان يجتزئ من الدنيا بالقوت القليل ويقول: هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير.
قيل لعيسى بن مريم: تزوج، قال: وما أصنع بالتزويج؟ قالوا: تلد لك الأولاد، قال: الأولاد إن عاشوا أفتنوا، وإن ماتوا أحزنوا.
وعن ثابت البناني قال: قيل لعيسى بن مريم: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك، قال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه.
أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى لو رأت عيناك ما أعددت لعبادي الصالحين لذاب قلبك، وزهقت نفسك اشتياقاً إليه.
قال مالك بن دينار: قالوا لعيسى بن مريم: يا روح الله! ألا نبني لك بيتاً؟ قال: ابنوه على شاطئ البحر، قالوا: إذن يجيء الماء فيذهب به! قال: أين تريدون؟ تبنون لي على القنطرة؟.
قيل لعيسى: لو اتخذت بيتاً، قال: يكفينا خلقان من كان قبلنا.
قال ميسرة: ما بنى عيسى بيتاً، فقيل له: ألا تبني؟ فقال: لا أترك بعدي شيئاً من الدنيا أذكر به.
وعن أبي سلمان قال: بينما عيسى يمشي في يومٍ صائف، وقد مشه الحر والشمس والعطش، فجلس في ظل خيمة، فخرج إليه صاحب الخيمة فقال: يا عبد الله، قم من ظلنا، فقام عيسى فجلس في الشمس وقال: ليس أنت الذي أقمتني، إنما أقامني الذي لم يرد أن أصيب من الدنيا شيئاً.
دخل عيسى بن مريم ذات يوم خربةً فمطرت السماء، فنظر إلى ثعلب قد أقبل مستذفراً بذنبه حتى دخل جحره فقال: الحمد لله الذي جعل لكل شيءٍ مأوى إلا عيسى بن مريم لا مأوى له، فإذا هو بصوت: يا بن مريم، ادخل الفج، فدخل الفج فإذا هو برجلٍ قائمٍ يصلي، فأقام عنده ثمانية عشر يوماً ينتظره لينفتل من صلاته فيكلمه، فلما انفتل قال له: يا عبد الله! ما الذي أذنبت؟ فأقبل العابد على البكاء وقال: يا روح الله، أذنبت ذنباً عظيماً، قال: وما هو؟ قال: قلت يوماً لشيءٍ كان: يا ليته لم يكن.
قال المعتمر بن سليمان التيمي: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبةٌ من صوف وكساءٌ وتبان حافياً باكياً شعثاً،
مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس، غني مكثر، فمن أغنى مني وأربح!؟.
قال محمد بن سباع النميري:
بينما عيسى بن مريم يسيح في بعض بلاد الشام إذ اشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه، فرفعت له خيمةٌ من بعيد، فأتاها، فإذا فيها امرأة! فحاد عنها، فإذا هو بكهفٍ في جبل، فأتاه فإذا في الكهف أسد، فوضع يده عليه ثم قال: إلهي! جعلت لكل شيءٍ مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأجابه الجليل تعالى: مأواك عندي في مشتقر من رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مئة حوراء خلقاء بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، يومٌ منها كعمر الدنيا، وآمرن منادياً ينادري: أين الزهاد في دار الدنيا زوروا عرس الزاهد عيسى بن مريم.
وعن أبي رافع قال: رفع عيسى بن مريم وعليه مدرعة وخفا راعٍ، وخذافةٌ يخذف بها الطير.
وفي رواية: ما ترك عيسى بن مريم حين رفع إلا مدرعة صوف، وخفي راعٍ، وقذافةٌ يقذف بها الطير.
وعن سفيان بن عيينة قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك اتركوا لهم الدنيا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: معاشر الحواريين إن خشية الله وحب الفردوس تورثان الصبر على المشقة، وتباعدان من زهرة الدنيا، وفي رواية: وتبعدان العبد من راحة الدنيا.
وعن ابن عمر قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كلوا الخبز الشعير، واشربوا ماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، لحق ما أقول لكم: إن حلاوة الدنيا مارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين؛ لحق ما أقول لكم: إن شركم عالمٌ يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله، ما أحب إلى عبيد الدنيا أن يجدوا معذرة وأبعدهم منها لو كانوا يعلمون!.
وعن أب يهريرة قال: كان عيسى بن مريم يقول لأصحابه: اتخذوا المساجد مساكن والبيوت منازل، وكلوا من بقل البرية، وانجوا من الدنيا بسلام، واشربوا من الماء القراح.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، عليكم بالماء القراح والبقل البري، والخبز الشعير، وإياكم وخبز البر، فإنكم لن تقوموا بشكره.
قال أنس بن مالك: كان طعام عيسى القاقلى حتى رفع؛ ولم يأكل عيسى عليه السلام شيئاً غيرته النار حتى رفع.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، اتخذوا مساجد الله بيوتاً، واتخذوا بيوتكم كمنازل الأضياف، مالكم في العالم من منزل، إن أنتم إلا عابري سبيل.
وعن عتبة بن يزيد قال: قال عيسى بن مريم: ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكل كسرتك من حلال، واتخذ المسجد بيتاً، وكن في الدنيا ضيفاً، وعود نفسك البكاء، وقلبك التفكير، وجسدك الصبر، ولا تهتم برزق غدٍ، فإنها خطيئةٌ تكتب عليك.
قال وهيب المكي: بلغني أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين أنى كتبت لكم الدنيا فلا
تنعشوها، فإنه لا خير في دارٍ قد عصي الله فيها، ولا خير في دارٍ لا تدرك الآخرة إلا بتركها؛ فاعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئةٍ حب الدنيا، ورب شهوةٍ أورثت أهلها حزناً طويلاً.
وعن وهيب قال: قال عيسى بن مريم: أربع لا تجتمع في أحدٍ من الناس إلا يعجب: الصمت، وهو أول العبادة؛ والتواضع لله؛ والزهادة في الدنيا؛ وقلة الشيء.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: إنما تطلب الدنيا لتبر، فتركها أبر! روي أن ملكاً من الملوك بدمشق يقال له: هداد بن هداد صنع طعاماً ودعا إليه الناس، وكان فيمن دعا عيسى وحواريه، فقال المسيح لحواريه: لا تذهبوا. وخرج بهم فأتى بهم شاطئ بردى فأخرجوا كسراً لهم، فجعلوا يبلونها في الماء ويأكلون، فقال المسيح: يا معشر الحواريين! عجباً للملوك وما أوتوا في هذه الدنيا، وما يصنع بهم يوم القيامة! يا معشر الحواريين! إن الله قد بطح لكم الدنيا على وجهها، وأجلسكم على ظهرها، فليس يشارككم فيها إلا الشياطين والملوك، فأما الشياطين فاستعينوا عليهم بالصوم والصلاة، وأما الملوك فدعوهم والدنيا يدعوكم والآخرة.
كان عيسى يقول لأصحابه: بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وبالنظرة تزرع الشهوة في القلب، وكفى بها خطيئة.
كان عيسى يقول: حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كبير، قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله.
وعن شعيب بن صالح قال:
قال عيسى بن مريم: ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث: شغلٍ
لا ينفك عناه؛ وفقرٍ لا يدرك منتهاه. الدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ؛ فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنق.
وعن زرعة بن إبراهيم قال: قال المسيح: بحق أقول: كما لا يستطيع أحدكم أن يبني على موج البحر داراً، كذاكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً.
وعن سفيان الثوري قال: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن، كما لايستقيم الماء والنار في إناء.
قال ابن شوذب: مر عيسى صلوات الله عليه على نبينا وعليه وسلم بقومٍ يبكون على ذنوبهم فقال لهم: ارتكوها يغفر لكم.
وعن أبي عبد الله الصوفي قال: قال عيسى بن مريم: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى تقتله.
قال عيسى: إن الشيطان مع الدنيا، ومكره مع المال، وتزيينه عند الهوى، واتمكانه عند الشهوات.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: كن وسطاً وامش جانباً.
وعن يزيد بن ميسرة قال: قال عيسى بن مريم: بحق أقول لكم: كما تواضعون، كذلك ترفعون، وكما ترحمون كذلك ترحمون، وكما تقضون من حوائج الناس، كذلك يقضي الله من حوائجكم.
وعن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم إذا صنع الطعام فدعا القراء قام عليهم ثم قال: هكذا فافعلوا بالقراء.
وعن ابن شابور قال: قال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوةٌ حاضرة لموعودٍ لم يره.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته.
وعن خيثمة قال: مرت بعيسى امرأة فقالت: طوبى لحجرٍ حملك، ولثديٍ رضعت منه! فقال: بل طوبى لمن قرأ القرآن ثم عمل به.
وعن بشر بن صالح قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لعينٍ نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: كان عيسى يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما. وكان يقول: اعملوا، الليل لما خلق له، واعملوا، النهار لما خلق له.
وعن خالد الربعي قال: نبئت أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أرأيتم لو مررتم على رجلٍ وهو نائم، وقد كشفت الريح عنه ثوبه؟ قالوا: كنا نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قالوا: سبحان الله! نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قال: مثل ضربه للقوم، يسمعون عن الرجل بالسيئة، فيزيدون عليه ويذكرون أكثر منها.
وعن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما ذاك مكافأةٌ بالمعروف، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
قال يزيد بن المهلب: من البسيط
خير الخليلين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً منه لانتصرا
فإن قدرت فكن للعفو مغتنماً ... فإنما يحمد العافي إذا قدرا
واللؤم أن تبخس الأكفاء حقهم ... بالجاه إن زاد أو بالمال إن كثرا
ولا تقولن لي دنيا أصول بها ... فإنما لك منها حسن ما ذكرا
وعن المبارك قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام مر بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومر بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين: كلما زادوا شراً زدتهم خيراً! كأنك تغريهم بنفسك، قال عيسى: كل إنسان يعطي ما عنده.
قال مالك بن أنس: مر بعيسى بن مريم خنزير فقال: مر بسلام، فقالوا له: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟ قال: أكره أن أعود لساني الشر.
قال مالك بن دينار: مر عيسى بن مريم والحواريين على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا! فقال عيسى: ما أشد بياض أسنانه! يعظهم ينهاهم عن الغيبة.
قال عيسى بن مريم: دع الناس فليكونوا منك في راحة، ولتكن نفسك منهم في شغل، دعهم فلا تلتمس محامدهم ولا تكتسب مذامهم، وعليك بما وكلت به.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم من حديث: الأيام ثلاثة: فيوم مضى وعظمت به؛ ويومك الذي أنت فيه لك منه زادك؛ وغداً لا تدري ما لك فيه.
وعن سفيان قال: قالوا لعيسى بن مريم: دلنا على عملٍ ندخل به الجنة؟ قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك! قال: فلا تنطقوا إلا بخير.
وعن عيسى بن مريم أنه قال: لقد دخلت أعمال العباد عند الله في ثلاثة أحرف الذين يرجون بها الخير: في المنطق؛ والصمت؛ والنظر؛ فما كان من منطقٍ ليس فيه ذكر فهو لغو؛ وما كان من صمتٍ ليس فيه تفكير فهو سهو، وما كان من نظرٍ ليس فيه عبرةٌ فهو غفاة. فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، وصمته تفكيراً، ونظره عبراً؛ وملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وأمن الناس من شره. يا بن آدم، كن وديعاً يحبك الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، ولا تؤذي جارك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإنه يميت القلب.
وعن عبد العزيز بن حصين قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: من ساء خلقه عذب نفسه، ومن كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت كرامته - وفي رواية: سقطت مروءته - ومن كثر همه سقم بدنه.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق؛ كونوا منتقدي الكلام، لكيما لا يجوز عليكم الزيوف.
وعن زكريا بن عدي قال: قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا.
وفي ذلك يقول الشاعر: من البسيط
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن باللله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وعن عمرو بن قيس قال: قال عيسى بن مريم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله، ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوب أنفسكم كهيئة العبيد؛ فإنما الناس اثنان: مبتلى ومعافى، فاحمدوه على العافية، وارحموا المبتلى.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى لأصحابه: بحق أقول لكم: إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطوناً من الطير فانظروا إلى هذه الأنافر من الوحش والحمير، فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها. اتقوا فضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله رجز.
وعن أنس بن مالك: أن عيسى بن مريم كان يقول: لا يطيق عبدٌ أن يكون له ربان إن أرضى أحدهما أسخط الآخر، وإن أسخط أحدهما أرضى الآخر، وكذلك لا يطيق عبد أن يكون خادماً للدنيا، يعمل عمل الآخرة؛ بحق أقول لكم، لا تهتموا بما لا تأكلون ولا
ما تشربون فإن الله عز وجل لم يخلق نفساً أعظم من رزقها، ولا جسداً أعظم من كسوته، فاعتبروا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: لو أن ابن آدم عمل بأعمال البر كلها وحب في الله ليس، وبغض في الله ليس، ما أغنى ذلك عنه شيئاً.
قال المقبري: كان عيسى عليه السلام يقول: يا بن آدم، إذا عملت الحسنة فاله عنها، فإنها عند من لا يضيعها. ثم تلا هذه الآية: " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " وإذا عملت سيئة فاجعلها نصب عينيك.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: جاء رجلٌ إلى عيسى بن مريم فقال: يا معلم الخير! علمني شيئاً تعلمه وأجهله، ينفعني ولا يضرك. قال: وما هو؟ قال: كيف يكون العبد لله تقياً؟ قال: بيسيرٍ من الأمر؛ تحب الله حقاً من قلبك، وتعمل لله بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم بني جنسك رحمتك نفسك. فقال: يا معلم الخير! من بنو جنسي؟ فقال: ولد آدم كلهم، وما تحب أن لا تؤتاه فلا تأته إلى غيرك وأنت تقي لله حقاً.
كان عيسى بن مريم يقول: من كان يظن أن حرصاً يزيد في رزقه فليزد في طوله أو في عرضه أو في عدد بنانه أو ليغير لونه! ألا فإن الله خلق الخلق، فمضى الخلق لما خلق، ثم قسم الرزق فمضى الرزق لما قسم، فليست الدنيا بمعطيةٍ أحداً شيئاً ليس له، ولا بمانعةٍ أحداً شيئاً هو له، فعلسكم بعبادة ربكم فإنكم خلقتم لها.
وعن فضيل قال:
قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، إن ابن آدم خلق في الدنيا في أربع منازل، هو في ثلاث منهن بالله واثق، حسن ظنه فيهن بربه، وهو في الرابع سيئ ظنه
بربه، يخاف خذلان الله إياه؛ أما المنزلة الأولى فإنه خلق في بطن أمه خلقاً من بعد خلق، في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ينزل الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن فإذا خرج من البطن وقع في اللبن، لا يخطو إليه بقدم، ولا يتناوله بيد، ولا ينهض إليه بقوة، ولا يأخذه بحرفةٍ يكره عليه إكراهاً ويؤجر ايجاراً، حتى ينبت عليه عظمه ولحمه ودمه، فإذا ارتفع عن اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام من أبويه يكسبان عليه من حلالٍ أو حرام، فإن مات أبواه عن عير شيء تركاه عطف عليه الناس، هذا يطعمه وهذا يسقيه وهذا يؤويه؛ فإذا وقع في المنزلة الرابعة، فاشتد واستوى واجتمع وكان رجلاً، خشي أن لا يرزقه الله، فوثب على الناس يخون أماناتهم ويسرق أمتعاتهم، ويذبحهم على أموالهم مخافة خذلان الله إياه.
كان عيسى عليه السلام يقول: إن الذي يصلي ويصوم ولا يترك الخطايا مكتوبٌ في الملكوت كذاباً.
قال الحواريون لعيسى بن مريم: مال الخالص من العمل؟ قال: مالا تحب أن يحمدك الناس عليه، قال: فما النصوح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حقوق الناس، وإن عرض لك أمران، أحدهما لله عز وجل، وألاخر للدنيا، بدأت بحق الله تبارك وتعالى.
وفي غيره: من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل ... الحديث، وفي آخره: وإذا عرض له أمران، أمر الدنيا وأمر الآخرة، بدأ بأمر الآخرة ثم تفرغ لأمر الدنيا بعد.
وقال عيسى: العمل الصالح الذي لا تحب أن يحمك الناس عليه.
وقال عيسى علسه السلام: لا يجد أحدٌ حقيقة الإيمان حتى لا يحب أن يحمد على طاعة الله عز وجل.
وعن هلال بن يساف قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إذا كان يوم يصوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه ويخرج إلى الناس حتى كأنه ليس بصائم، وإذا أعطى بيمينه فليخفه من شماله، وإذا صلى أحدكم فليدل ستر بابه - يعني يرخيه - فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.
وعن ابن حلبس قال: قال عيسى بن مريم: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزاً بغير حق أورثه الله ذلاً بحق، ومن أخذ مالاً بظلم أورثه الله فقراً بغير ظلم.
قال سعيد المقبري: سأل رجلٌ عيسى بن مريم: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال: أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم.
وعن وهيب بن الورد قال: قال يحيى لعيسى عليهما السلام: يا روح الله، ما أشد خلق الله؟ قال: غضب الله، قال: فأخبرني بشيءٍ أتقي به غضب الله؟ قال: لا تغضب.
وعن عمار بن سعد قال: لقي يحيى بن زكريا عيسى بن مريم، فقال يحيى لعيسى: يا روح الله وكلمته حدثني، فقال عيسى: بل أنت فحدثني أنت خيرٌ مني جعلك الله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، فقال له يحيى: أنت خيرٌ مني أنت روح الله وكلمته، تصعد مع الروح فحدثني بم يبعد من غضب الله؟ قال له عيسى: لا تغضب، قال: يا روح الله ما يبدي الغضب ويثنيه أو يعيده؟ قال: التعزز والفخر والحمية والعظمة، قال: يا روح الله! هؤلاء شدادٌ كلهن، فكيف لي بهن؟ قال: سكن الروح واكظم الغيظ، ثم قال له: وإياك واللهو غبسخط الله عليك، وإياك والزنى فإنه من غضب الرب، قال: يا روح الله! ما يبدي الزنى ويعيده أو يثنيه؟ قال: النظر والشهوة وأتباعهما، لا تكن حديد النظر إلى ما ليس لك، فإنه لن يزني فرجك ما حفظت عينيك، فإن استطعت أن لا تنظر إلى ثوب المرأة التي لا تحل لك، ولن تستطيع ذلك إلا بالله.
وعن عمران بن سليمان قال: بلغني أن عيسى قال لأصحابه: إن كنتم إخواني وأصحابي فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون
ما تحبون إلا بالصبر على نا تكرهون؛ طوبى لمن كان بصره في قلبه، ولم يكن قلبه في بصره.
وعن عثمان بن الأسود قال: قال عيسى بن مريم: أي رب! أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي.
وعن مالك بن مغول قال:
بلغنا أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين، تحببوا إلى الله ببغضكم أهل المعاصي، وتقربوا إليه بما يباعدكم منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. قال: لا أدري بأيتهن بدأ، قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ومن يزيد في عملكم منطقه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله.
وعن معتمر بن سلمان قال: قال عيسى بن مريم: كانت الدنيا قبل أن أكون فيها، وهي كائنةٌ بعدي، وإنما لي فيها أيامٌ معدودة، فإذا لم أسعد في أيامي فمتى أسعد؟! وعن يزيد بن ميسرة قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله! انظر إلى مسجد الله ما أحسنه! قال: آمين آمين، بحق أقول لكم: لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئاً، إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة، وبها يعمر الله الأرض وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك.
قال مالك بن مغول: بلغنا أن عيسى مر بخربة فقال: يا خربة الخربين - أو قال: يا خربة خربت - أين أهلك؟ فأجابه منها شيء فقال: يا روح الله! بادوا فاجتهد. أو قال: فإن أمر الله جد، فجد.
وعن ابن عباد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مر عيسى على مدينة خربة فأعجبه البنيان فقال: أي رب! مر هذه المدينة أن تجيبني، فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى. قال: فنادت
الملائكة: عيسى حبيبي وما تريد مني؟ قال: ما فعل أشجارك؟ وما فعل أنهارك؟ وما فعل قصورك؟ وأين سكانك؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري ويبست أنهاري، وخربت قصوري، ومات سكاني؛ قال: فأين أموالهم؟ قالت: جمعوها من الحلال والحرام، موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والأرض. قال: فنادى عيسى: تعجبت من ثلاثة أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه؛ وباني القصور والقبر منزله؛ ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه. ابن آدم لا بالكثير تسبع ولا بالقليل تقنع! تجمع مالك لمن لا يحمدك! وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما يملأ بطنك إذا دخلت قبرك؛ وأنت يا بن آدم ترى حسد مالك في ميزان غيرك.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وعن عطارد - وكان بكى حتى ترح - قال: قال عيسى بن مريم: إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين وأنتم مقيمون مع المتحرين؟ إنما يبتغى من العلم القليل ومن العمل الكثير.
وعن عبد العزيز بن ظبيان وغيره قال: قال المسيح: من تعلم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء.
كان عيسى بن مريم يقول: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي.
ولمحمد بن يسير في هذا المعنى: من الرجز
ليس بعلمٍ ما يعي القمطر ... لا خير فيما لا يعيه الصدر
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكمة غير
أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم؛ والأمور ثلاثةٌ: بينٌ رشده فاتبعوه، وأمرٌ تبين لكم غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم غيه فردوا علمه إلى عز وجل.
وعن أبي فروة أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تمنع العلم من أهله فتأثم، ولا تنشره عن غير أهله فتجهل، وكن طبيباً رفيقاً يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع.
وفي رواية: إن منعت الحكمة أهلها جهلت، وإن أتحتها غير أهلها جهلت؛ كن كالطبيب المداوي إن رأى موضعاً للدواء وإلا أمسك.
وعن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئاً، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خيرٌ من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير.
وعن عمران الكوفي قال: قال عيسى بن مريم للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمون من الأجر إلا مثل الذي أعطيتموني، ويا ملح الأرض لا تفسدوا، فإن كل شيءٍ إذا فسد فإنما يداوى بالملح، وإن الملح إذا فسد فليس له دواء، واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر.
قيل لعيسى بن مريم: يا روح الله! من أشد الناس فتنةٌ؟ قال: زلة العالم، إذا زل العالم زل بزلته عالمٌ كثير.
وعن سفيان بن عيينة قال:
قال المسيح: ويلكم يا علماء السوء، لا تكونوا كالمنخل، يخرج منه الدقيق الطيب فيمر ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ ويحكم! إن الذي يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه الماء، وإن جهد أن لا يصيبه؛ كذلك من يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا.
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جعلتم الدنيا على رؤسكم والآخرة تحت أقدامكم ... الحديث.
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: ويلكم يا عبيد الدنيا! ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها! كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به. ما أكثر ثمار الشجر وليس كلها ينفع ولا يؤكل؟ وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم؟ فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف منكسين رؤوسهم إلى الأرض يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب، قولهم مخالفٌ فعلهم، من يجتني من الشوك العنب؟ ومن الحنظل التين؟ كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وخلا منه وعطله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل، ويلكم يا عبيد الدنيا؟ إن لكل شيءٍ علامةٌ يعرف بها وتشهد له أو عليه، وإن للدين ثلاث علاماتٍ يعرف بهن: الإيمان، والعلم، والعمل.
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جلستم على أبواب الجنة، فلا أنتم تدخلون الجنة، ولا تدعون المساكين يدخلونها؟ إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وعن عيسى المرادي قال: قال عيسى عليه السلام: إن كنتم أصحابي وإخواني فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لم تفعلوا فلستم لي بإخوان، إني إنما أعلمكم لتعلموا لا لتعجبوا، إنكم لا تبلغون ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، ولا تنالون ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون؛ إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصر عينه، ما أبعد ما فات، وما أدنى ما هو آت؟ ويل لصاحب الدنيا؟ كيف يموت وتتركه؟ ويثق بها وتغره؟ ويأمنها وتمكر به؟ ويل للمغترين؟ قد أزفهم ما يكرهون، وجاءهم ما يوعدون وفارقوا ما يجنون في طول
الليل والنهار؛ فويلٌ لمن كانت الدنيا همه، والخطايا عمله، كيف يقتضي غداٌ بربه؟ ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله ولكن لا تعلمون؛ لا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فاحمدوا الله على العافية وارحموا أهل البلاء؛ متى نزل الماء على جبل، ألا يلين له؟ ومذ متى درسون الحكمة ولا تلين لها قلوبكم؟ بقدر ما تواشعون كذلك ترحمون، وبقدر ما تحرثون كذلك تحصدون، علماء السوء مثلهم كمثل شجرة الدفلى تعجب من نظر إليها وتقتل من يأكلها، كلامكم شفاء يبرئ الداء وأعمالكم داءٌ لا يبرئه شفاء! جعلتم العلم تحت أدامكم مثل عبيد السوء؛ بحق أقول لكم: وكيف أرجو أن تنتفعوا بما أقول وأنتم الحكمة تخرج من أفواهكم ولا تدخل آذانكم، وإنما بينهما أربع أصابع، ولا تعيها قلوبكم، فلا أحرار كرام، ولا عبيد أتقياء.
ومن كلام عيسى بن مريم: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، ويلكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضيعون! يوشك رب العمل أن يطلب عمله، ويوشك أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه؛ الله نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصيام والصلاة؛ كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته؟ كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئاً أصابه؟ كيف يكون من أهل العلم من دنياه عنده آثر من آخرته، وهو في الدنيا أفضل رغبةٌ؟ كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى الآخرة وهو مقبلٌ على دنياه، وما يضره أشهى إليه مما ينفعه؟ كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخزنه ولا يطلبه ليعمل به؟! قال عبد الله بن المبارك:
قال عيسى بن مريم: يوشك أن يفضي بالصابر البلاء إلى الرضا، وبالفاجر الرخاء إلى البلاء.
وعنه قال: سيأتي على الناس زمان يفضي بالصابر فيه الصبر إلى البلاء ويفضي بالفاجر الفجور إلى الرخاء.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، زعمتم أن موسى نهاكم عن الزنى وصدقتم، وأنا أنهاكم عنه وأحدثكم أن مثل حديث النفس بالخطيئة كمثل الدخان في البيت، لا يحرقه، فإنه ينتن ريحه ويغير لونه، ومثل القادح بالخشبة، إلا يكسرها فإنه يعجزها ويضعفها.
قال عيسى عليه السلام لرجل: كن لربك كالحمام الألوف لأهله تذبح فراخه ولا يطير عنهم.
وعن وهب بن منبه قال: قال الحواريون لعيسى: من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى أجل الآخرة حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها أمر الحق وضعوه؛ خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، ونظروا إلى أهلها ضرعى قد خلت فيهم المثلات، فأحبوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة؛ يحبون الله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره؛ لهم خيرٌ عجيب، وعندهم الخبر العجيب؛ بهم قام الكتاب، وبه - يعني - قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه علموا؛ ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أمماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون.
وعن مكحول قال: التقى يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فضحك عيسى في وجه يحيى وصافحه، فقال له يحيى: يا بن خالتي! مالي أراك ضاحكاً كأنك قد أمنت؟ فقال له عيسى: يا بن خالتي! مالي أراك عابساً كأنك قد يئست؟ قال: فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وعن شهر بن حوشب قال: بينما عيسى جالس مع بني إسرائيل إذ أقبل طير منظوم الجناحين بالدر والياقوت كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين أيديهم، فقال عيسى: دعوه لا تنفروه، فإنما بعث إليكم، فحول مسلاخه، فخرج أحمر أقرع كأقبح ما يكون، ثم أتى بركةٌ فتلوث في حمأتها فخرج أسود، ثم استقبل جرية الماء فاغتسل، ثم عاد إلى مسلاخه ولبسه، فعاد إليه حسنه وجماله، فقال عيسى: إنما بعث هذا إليكم، مثل هذا المؤمن إذا وقع في الذنوب والخطايا، ذهب عنه حسنه وجماله، فإذا تاب وراجع عاد عليه حسنه وجماله.
بينما عيسى جالس وشيخ يعمل بمسحاته يثير بها الأرض فقال عيسى: اللهم انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعةٌ، فقال عيسى: اللهم اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فقال له عيسى: مالك بينما أنت تعمل ألقيت مسحاتك واضطجعن ساعةٌ، ثم إنك قمت بعد تعمل؟ فقال الشيخ: بينا أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخٌ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، قم قالت لي نفسي: والله ما بذلك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي.
قال إبراهيم التيمي: لقي عيسى بن مريم رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال أخي، فقال: أخوك أعبد منك.
وعن وهب بن منبه قال: كان عيسى واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلي فيه، وذكروا القبر ووحشته وظلمته وضيقه، فقال عيسى: كنتم في أضيق منه في أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين، ادعوا الله أن يهون علي هذه السكرة - يعني الموت - ثم قال: لقد خفت الموت خوفاً وقفني، مخافتي من الموت على الموت.
وعن عبد الجبار بن عبيد الله بن سليمان قال: أقبل عيسى بن مريم على أصحابه ليلة رفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله عز وجل، فإنكم لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر، الحجر منها خيرٌ من الدنيا وما فيها.
قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر " ورفع عليه السلام.
وعن الحسن قال:
لم يكن نبي كانت العجائب في زمانه أكثر من عيسى بن مريم إلى أن رفعه الله، ومن بعده في أصحابه، وكان من سبب رفعه أن ملكاً جباراً - وكان ملك بني إسرائيل - وهو الذي يقال له داود بن بوذا هو الذي بعث في طلبه ليقتله، وكان الله أنزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة ورفع وهو ابن أربعٍ وثلاثين سنة من ميلاده، وكان في نبوته عشرين سنة، فأحدث الله له الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فأوحى الله إليه " إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " يعني ومخلصك من اليهود فلا يصلون إلى قتلك.
قال وهب: قال كعب: متوفيك، أي مذيقك الموت ثم أرفعك. قال وهب: فأماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه الله ورفعه.
وقال ابن عباس: " إني متوفيك ورافعك " يعني رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان.
وعن الحسن: " إني متوفيك " قال: متوفيك من الأرض.
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم لما أعلمه الله عز وجل أنه خارجٌ من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاماً وقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم بيده ويوضئهم ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه وقال: ألا من رد علي الليلة شيئاً مما أصنع فليس مني ولا أنا منه؛ فأقروه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنت بكم عليها فتدعون الله وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاءٌ، ثم يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلةً واحدةً تعينوني فيها! قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمراً ولا نريد دعاءً إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلامٍ نحو هذا يبغي به نفسه، فقال: الحق أقول لكم: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك - ثلاث مرات - وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني. فخرجوا فتفرقوا.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما اجتمعت اليهود على أخي عيسى بن مريم ليقتلوه بزعمهم أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن أدرك عبدي، فهبط جبريل فإذا هو بسطرٍ في جناح جبريل فيه مكتوب لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، قال: يا عيسى قل، قال: وما أقول يا جبريل؟ قال قل: اللهم إني أسألك باسمك الواحد الأحد، أدعوك اللهم باسمك الصمد، أدعوك اللهم باسمك العظيم الوتر، الذي ملأ الأركان كلها إلا فرجت عني ما أمسيت فيه وأصبحت فيه؛ فدعا بها عيسى، فأوحى الله إلى جبريل أن ارفع إلي عبدي. ثم التفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، ادعوا بهؤلاء الكلمات، والذي بعثني بالحق نبياً، ما دعا قومٌ قط إلا اهتز له العرش والسماوات السبع، والأرضون السبع.
وعن عاشئة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر فقال: هل سمعت دعاءً علمنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: وما هو؟ قال: كان عيسى بن مريم يعلم أصحابه: يا فارج الهم وكاشف الغم! مجيب دعوة المضطرين! رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما! ارحمنا رحمةً تغنينا بها عن رحمة من سواك. أو كما قال.
وعن وهب أنه كان إذا قدم مكة تعلق بأستار الكعبة، فدعا بهذه الدعوات؛ وذكر وهب أنه دعاء عيسى عليه السلام وقت رفعه الله إليه، وهو دعاءٌ مستجاب: اللهم أنت القريب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك وحسرت الأبصار دون النظر إليك وغشيت دونك، وسبح بها الفلق في النور، أنت الذي جليت الظلم بنورك، فتباركت اللهم خالق الخلق بقدرتك، ومقدر الأمور بحكمتك، مبتدع الخلق بعظمتك، القاضي في كل شيء بعلمك، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات الطباق مذعنات لطاعتك، سما بهن العلو بسلطانك فأجبن وهن دخانٌ من خوفك، فأتين طائعاتٍ بأمرك، فيهن الملائكة يسبحونك ويقدسونك، وجعلت فيهن نوراً يجلو الظلام، وضياءً أضوأ الشمس، وجعلت فيهن مصابيح يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ورجوماً للشياطين؛ فتباركت اللهم في مفطور سماواتك، وفيما دحوت من أرضك، دحوتها على الماء فأذللت لها الماء المتظاهر، فذل لطاعتك وأذعن لأمرك، وخضع لقوتك أمواج البحار ففجرت فيها بعد البحار الأنهار، وبعد الأنهار العيون الغزار والينابيع، ثم أخرجت منها الأشجار والثمار، ثم جعلت على ظهرها الجبال أوتادا، فأطاعتك أطوادها، فتباركت اللهم صفتك، فمن يبلغ صفة قدرتك! ومن ينعت نعتك! تنزل الغيث وتثني السحاب، وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين، ل إلع إلا أنت، إنما يخشاك من عبادك العلماء الأكياس، أشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان لك شركاء يقضون معك فتدعوهم ويدعونك، ولا أعانك أحدٌ على خلقك فنشك فيك، أشهد أنك أحدٌ صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. قال وهب: فلما تم الدعاء رفعه الله إليه.
قال وهب: وهو للشقيقة من هذا الموضع: أشهد أنك لست بإلهٍ استحدثناك ... إلى آخرها.
وعن الفراء في قوله عز وجل: " ومكروا ومكر الله " معنى هذه الآية: أن عيسى غاب عن خالته زماناً فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي، فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس الجالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره، ومعه سيفٌ مسلول، فقالوا: إنه أنت عيسى. ألقى الله شبه عيسى عليه، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فقال جل جلاله: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ألقى شبهه عليه، ثم قال عز وجل: " ومكروا ومكر الله ".
وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً من عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماء؛ قال: فقال: إن منكم من سيكفر اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: نعم أنت ذاك. فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنةٍ في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتقرقوا ثلاث فرق؛ قالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه إليه وهم النسطورية؛ وقالت فرقة: كان عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في
زمان عيسى، والطائفة التي آمنت في زمان عيسى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " في إظهار محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينهم على دين الكفار فأصبحوا ظاهرين.
وعن ابن عباس قال:
لما فرغ عيسى من وصيته واستخلف ضمعون وقتلت اليهود بوذا وقالوا هو عيسى يقول الله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ... وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً ". فأما اليهود والنصارى فيقولون قد قتلوه؛ وأما الحواريون فعلموا أنه لم يقتل، وأنكروا قول النصارى واليهود، وخلص الله عيسى انزل اله سحابة من السماء، سحابةٌ لاستقلال عيسى، فوضع عيسى على السحابة، فلزمته أمه وبكت، فقالت السحابة: دعيه فإن الله يرفعه إلى السماء، ثم يشرف على أهل الأرض عند أوان الساعة، ثم يهبط إلى الأرض فيكون فيهم ما شاء الله، ويبدل الله به الأرض أمناً وعدلاً. فكفت عنه مريم تنظر إليه وتشير بإصبعها إليه، ثم ألقى إليها بردائه فقال: هذا علامةٌ ما بيني وبينك يوم القيامة.
وقال ابن عباس: إن عيسى لما حمل على السحابة وودع أمه والحواريين ثم أصعدت به السحابة، فذهبت أمه لتتناول رجله فقال: لا تفعلي يا أمه؟ وألقى عمامته إلى شمعون، وأمه تمس السحاب حتى فاتها السحاب، وأخذ شمعون العمامة فجعلها في عنقه وهم ينظرون إلى عيسى ويشيرون بأيديهم حتى توارى عنهم.
وعن مجاهد: أن اليهود لما أرادوا عيسى وطلبوه ليقتلوه، فألجؤوه إلى غارٍ في الجبل، ومعه أمه والحواريون، فعهد إليهم عهده وقال: إني مرفوع. وأنزلت الغمامة حتى حملت عيسى، واليهود يحرسونه، فانصدع الجبل وارتفعت السحابة بعيسى، ثم دخلوا الغار فأخذوا الذي دل على عيسى فعدوا عليه فصلبوه، وأخذوا أصحاب عيسى فحبسوهم وعذبوهم؛ فبلغ ذلك
صاحب الروم، وكان اليهود تحت يديه، فقيل له: إنه كان في مملكتك رجلٌ عدا عليه بنو إسرائيل فصلبوه، وهم يعذبون أصحابه، وكان يخبرهم أنه رسول الله قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير. فبعث ملك الروم إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن دين عيسى فأخبروه، فبايعهم على دينه، واستنزل الذي صلب فغيبه، وأخذ خشبه الذي كان صلب عليها فأكرمها وطيبها، وعدا على اليهود فقتل منهم مقتلةٌ عظيمة، فمن هنالك يعظم النصارى الصلبان، ومن هنالك صار جل أهل النصرانية بالروم، وملك الحواريون بعد ذلك وذلت اليهود وظهرت النصرانية، وملك يحيى بن زكريا وشمعون والحواريون ومن بايعهم. وكان يقال لشمعون: صخرة الإيمان، وكان رجلاً بكاءً إذا جلس مجلساً فإنما هو باك وجلساؤه يبكون، وكان يحيى بن زكريا رجلاً صحاكاً بساماً، إذا جلس لم يزل ضاحكاً وأصحابه يضحكون فقال لهم يوماً شمعون: سبحان الله يا بن زكريا؟ ما أكثر ضحكك في الحق والباطل! فقال يحيى: سبحان الله يا شمعون! ما أكثر بكاءك في الحق والباطل! لقد عنيت نفسك وعنيت جلساءك! قال: فجاء من الله أن أحب سيرة الرجلين إلى سيرة يحيى بن زكريا.
وعن وهب بن منبه أن عيسى لما رفع اجتمعت بنو إسرائيل من آمن منهم بعيسى فقالوا: ننظر في أمرنا؛ فانطلق إبليس فدعا عفاريته، فاجتمعوا إليه فأخبرهم بالذي يريد بنو إسرائيل فقال: إنا وجدنا منهم فرصة، قال: فاختار عفريتين فأمرهما بما يريد، ثم انطلقوا حتى دخلوا على بني إسرائيل في مجمعهم الذي اجتمعوا فيه، فأمر صاحبيه فجلس كل واحدٍ منهما ناحية، وجلس إبليس ناحية، فلما فرغ بنو إسرائيل من بعض ما هم فيه قام أحد صاحبيه بهيئة حسنة في هيئة عبادهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أكرمكم واختاركم على خلقه بأن نزل من السماء، فكان بين أظهركم ما شاء أن يكون، ثم عاد إلى سماواته، فاشكروه بما صنع إليكم. ثم جلس، فقام الآخر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلم! لا أعلم متكلماً يتكلم بكلامٍ أحسن من كلامك! ولا أرفق ولا أوفق ولا أقرب من كل خير! غير أنك زعمت أن عيسى هو الله وأنه نزل من السماء بين أظهرنا، وإن الله لا يزول من مكانه ولكن
عيسى هو ابنه، فأهبطه إلينا وأكرمنا به، ثم جلس، فقام إبليس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلمان! لا عهد لنا بمتكلمين أقرب من كل خير وأبعد من كل شر منكما إلا ما زعم الأول أن الله هبط إلينا، وإن الله لا يهبط من سماواته؛ وما ذكر الآخر أن عيسى هو ابن الله، وإن الله ليس له ولد، ولكن الله إله السماوات ومن فيهن، وعيسى إله الأرض ومن فيهن. قال: فتفرقت من ذلك العباد والصالحون، فاختلفوا.
قال ابن عابس: اختلفوا على هذا القول بعد إحدى وثمانين سنة.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: أن عيسى صعد وهم ينظرون إليه، حتى إذا بلغ من الكو خرج من الكو لا يستوسع الكو ولا يستصغر على عيسى في بدنه؛ قال: وهم ينظرون إليه حتى توارى عنهم ... الحدي.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال علي: غ، خليلي حدثني أن أضرب لسبع عشرة مضى من رمضان، وهي الليلة التي مات فيها موسى وأموت لاثنتين وعشرين تمضي من رمضان، وهي الليلة التي رفع فيها عيسى عليه السلام.
وعن أبي زرعة أن عيسى بن مرسم عليه السلام رفع من طور زيتا، بعث الله عز وجل ريحاً فخفقت به حتى هرول، ثم رفع الله عز وجل إلى السماء.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي قبض فيه قال: يا فاطمة يابنتي أحني علي.
فأحنت عليه فناجاها ساعةٌ ثم انكشفت عنه وهي تبكي، وعائشة حاضرة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بساعة: أحني علي. فأحنت عليه، فناجاها ساعة ثم انكشفت عنه تضحك، فقالت عائشة: يا بنت رسول الله! أخبريني ماذا ناجك أبوك؟ قالت:
أوشكت، رأيته ناجاني على حال سر، ثم ظننت أني أخبر بسره وهو حي! فشق ذلك على عائشة أن يكون سر دونها؛ فلما قبضه الله عز وجل إليه قالت عائشة لفاطمة: ألا تخبريني ذلك الخبر؟ قالت: أما الآن فنعم، ناجاني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل عامٍ مرة، وأنه عارضه القرآن العام مرتين، وأنه أخبره أنه لم يكن نبي بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى عاش عشرين ومئة سنة ولا أراني إلا ذاهب. وهو على رأس الستين، فأبكاني ذلك، وقال: يا بنية، إنه ليس من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى من امرأةٍ صبراً. ثم ناجاني في المرة الأخرى فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به، وقال: إنك سيدة نساء أهل الجنة.
وفي روايةٍ أخرى بمثله أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضوان الله عليها من حديثٍ بمعناه، وأنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر أخيه الذي كان قبله، عاش عيسى مئة وخمساً وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة. ومات في نصف السنة.
قال: هكذا وقع، والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر وإنما أراد به مدة مقامه في أمته.
وعن فاطمة بنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة.
وفي حديثٍ عن فاطمة عليها السلام بمعناه قالت: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الله لم يبعث نبياً إلا وقد عمر الذي بعده نصف عمره وإن عيسى لبث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذه توفي لي عشرين سنة، ولا أراني إلا ميت في مرضي هذا ... الحديث.
وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، ومات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وعن سلمان قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست مئة سنة.
وعن أنس بن مالك قال: بينا نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ رأينا برداً ويداً، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه؟ قلنا: نعم، قال: ذاك عيسى بن مريم سلم علي.
وعن أنس بن مالك قال: كنت أطوف مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئاً ولا نراه! قلنا: يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئاً ولا يراه أحد! قال: ذاك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه.
وعن ابن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري عن ابن عباس قال:
لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجلٌ قط، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها؟ ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها فقلت أنا لها إذا راح غداً، فلما راح الغد قلت: يا بن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجلٌ قط، ولا تدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها، فقلت: أخبرني عنها وعن اللائي قرأت قبلها؟ قال: نعم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقريش، يا معشر قريش! إنه ليس أحدٌ يصد دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم وما تقول في محمد. فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً، فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم لكما يقولون. قال فأنزل الله عز وجل: " ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون " قال: قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون " وإنه لعلم للساعة " قال: وهو خروج عيسى بن مريم قبل القيامة.
وعن الحسن بن صالح قال: لما قيل لعيسى " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " تزايلت مفاصله. ولما قال لقمان لابنه: " يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " تفطر فمات.
وعن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ". قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلقاه الله عز وجل " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إن عيسى بن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من بعدي، ألا إنه يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها، ألا فمن أدركه منكم فليقرأ عليه السلام.
زاد في رواية: ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وفي آخر: ولتصلحن ذات البين.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهبطن الله عز وجل عيسى بن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فليسلكن فج الروحاء حاجاً أو معتمراً وليقفن على فبري، فليسلمن علي، ولأردن عليه.
وفي رواية: ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأحبيبنه.
وفي رواية: فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب وتكون الدعوة واحدة فأقرئوه السلام من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلما حضرته الوفاة قال أقرئوه مني السلام. زاد في آخر: وتجمع له الصلاة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينزل ابن مريم إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويرجع السلم، وتتخذ السيوف مناجل، وتذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره، فتراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها.
وفي رواية حتى يقتل الخنزير والقردة، ويكسر الصليب، وتكون السجدة لله رب العالمين.
وعن سمرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الدجال خارج، وإنه أعور عين الشمال عليها ظفرة غليظة وإنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى، ويقول للناس: إني ربكم. فمن قال أنت ربي فقد افتتن، ومن قال ربي الله، حتى يموت على ذلك فقد عصم من فتنة الدجال، ولا فتنة عليه ولا عذاب، فيمكث في الأرض ما شاء الله، ثم ينزل عيسى بن مريم من قبل المغرب مصدقاً لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعل ملته فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة.
وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله ذكرت الدجال فبكيت فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يخرج الدجال وأنا حي كفيتكموه، وإن يخرج بعدي فإن ربكم ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان حتى يأتي المدينة فينزل ناحيتها،
ولها يومئذ سبعة أبواب، على كل نقب منها ملكان، فيخرج إليه شرار أهلها، حتى يأتي الشام مدينة بفلسطين بباب لد - وف يرواية: يأتي فلسطين باب لد - فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماماً عدلاً وحكماً مقسطاً.
وعن زيد بن أسلم قال:
يهبط المسيح عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ الإمارة، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء، حتى يتدفق من جوانبه كلها، وتعود الأرض كفاثور الورق، وترفع العداوة والبغضاء والشحناء، وتنزع من كل ذي حمةٍ حمتها، فيومئذ يطأ الصبي على رأس الحية فلا تضره وتفر الجارية الأسد كما تفر جري الكلب الصغير، ويقوم الفرس بعشرين درهماً، وتقوم البقرة بكذا وكذا، كأنه يرفع ثمنها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف بكم إذا نزل بكم ابن مريم فأمكم - أو قال: إمامكم منكم.
وعن جابر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعضٍ أمراء. فتكرمة الله لهذه الأمة. وفي رواية: أنتم أحق، بعضكم أمراء بعض، أمر أكرم الله به هذه الأمة.
وعن عبد الله أن المسيح بن مريم خارجٌ قبل يوم القيامة وليستغن به الناس عمن سواه.
وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم عدلاً في الأرض مقسطاً؛ وإني لأرجو أن لا أموت حتى ألقاه، ويمسح عن وجهي، وأحدثه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصدقني.
وعن أبي هريرة قال: ينزل عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ في الإمارة، وتضع كل ذات حملٍ حملها حتى إن الرجل ليضع قدمه على رأس الحية فما تضره، وحتى إن الذئب ليكون في الغنم ككلبها، وحتى إن السبع ليكون في الخيل كراعيها وحتى إن الصبي ليدخل يده في الذئب فما يضره، وحتى إن الملأ ليأكلون التفاحة، وحتى إن العصابة ليأكلون من العنبة، ثم يقولون: يا ليت إخواننا أدركوا هذا العيش.
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال: سمعت أبا هريرة يقول: يهبط المسيح عيسى بن مريم، فيصلي الصوات، ويجمع الجمع، ويزيد في الحلال قلت: يا أبا هريرة! ما أراه يزيد إلا في النساء. فضحك وقال: كأني به تجد به رواحله ببطن الروحاء حاجاً أو معتمراً، فمن لقيه منكم فليقل إن أخاك أبا هريرة يقرئك السلام. قال أبو الأشعث: ثم نظر إلي فقال: قد أشفقت أني لا أموت حتى أدركه.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا الساعة متى هي؟ فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، وسألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فردوا الحديث إلى عيسى فقال: عهد الله إلي فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل - فذكر من خروج الدجال - ما ما يعيط ما قبله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ
ينسلون، لا يمرون بماءٍ إلا شربوه، ولا شيءٍ إلا أفسدوه فيجأرون إلي، وأدعو الله فيميتهم، فتجيف الأرض من ريحهم، فيجأرون إلي، فأدعو الله، فيرسل السماء بالماء فتحملهم فتقذف أجسادهم في البحر ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم؛ فعهد الله إلي أنه إذا كان ذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلاً أم نهاراً! قال العوام: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ثم قرأ: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون، ةاقترب الوعد الحق ".
وعن ابن عباس أنه قال:
أول من يتبعه سبعون ألفاً من اليهود عليهم السيجان - وهي الألبسة من صوف أخضر، يعني به الطيالبسة - ومعه سحرة اليهود يعملون العجائب ويرونها للناس فيضلونهم بها وهو أعور ممسوح العين اليمنى، يسلطه الله على رجلٍ من هذه الأمة فيقتله، ثم يضربه فيحييه، ثم لا يصل إلى قتله ولا يسلط على غيره، ويكون آية خروجه تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاوناً بالدماء، وضيعوا الحكم، وأكلوا الربا، وشيدوا البناء، وشربوا الخمر، واتخذوا القيان، ولبسوا الحرير وأظهروا بزة آلا فرعون، ونقضوا العهد وتفقهوا لغير الدين، وزينوا المساجد، وخربوا القلوب، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء، وقلت الفهاء وعطلت الحدو، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فتكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء، بعث الله عليهم الدجال فتسلط عليهم، حتى ينتقم منهم، وينحاز المؤمنون إلى بيت المقدس. قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فعند
ذلك ينزل أخي عيسى بن مريم من المساء على جبل أفيق إماماً هادياً وحكماً عدلاً، عليه برنس له، مربوع الخلق أصلب، سبط الشعر، بيده حربة، يقتل الدجال، فإذا اقتل الدجال تضع الحرب أوزارها وكان السلم، فبلقى الرجل الأسد فلا يهيجه، ويأخذ الحية فلا تضره وتنبت الأرض كنباتها على عهد آدم، ويؤمن به أهل الأرض، ويكون الناس أهل ملةٍ واحدة.
وعن عبد الله بن همرو أنه سأل أحد الرجلين فقال: أنت عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، قال: أنت الذي تزعم أن الساعة تقوم إلى مئة سنة؟ قال سبحان الله! وأنا أقول ذلك! قال: ومن يعلم قيام الساعة إلا الله! إنكم يا أهل العراق لتروون أشياء ليست كذلك، وإنما قلت: ما كانت رأس مئةٍ للخلق - يعني منذ خلقت الدنيا - إلا كان عند رأس المئة، قال: ثم يوشك أن يخرج ابن حمل الضان، قال: قلت: وما ابن حمل الضان؟ قال: رومي، أحد أبويه شيطان، يسير إلى المسلمين في خمس مئة ألف براً، وخمسة مئة ألف بحراً حتى ينزل بين عكا وصور ثم يقول: يا أهل السفن! اخرجوا منها. ثم أمر بها فأحرقت. قال: ثم يقول لهم: لا قسطنطينية لكم ولا لا رومية حتى يفصل بيننا وبين المغرب. قال: فيستمد أهل الإسلام بعضهم بعضاً حتى تمدهم عدن أبين على قلصانهم، قال فيجتمعون فيقتتلون؛ قال: فيكاتبهم النصارى الذين بالشام ويخبرونهم بعورات المسلمين، فيقول المسلمون: الحقوا، فكلكم لنا عدو حتى يقضي الله بيننا وبينكم. فيقتتلون شهراً لا يكل لهم سلاح ولا لكم، ويقذف الصبر عليكم وعليهم.
قال: وبلغنا - والله أعلم - أنه إذا كان رأس الشهر قال ربكم: اليوم أسل سيفي فأنتقم من أعدائي وأنصر أوليائي. قال: فيقتتلون مقتلة ما أرى مثلها قط، حتى ما تسير الخيل إلا على الخيل وما يسير الرجل إلا على الرجل وما يجدون خلقاً لله يحول بينهم وبين القسطنطينية ولا رومية، فيقول أميرهم يومئذ: لا غلول اليوم، من أخذ شيئاً فهو له. فيأخذون ما خف عليهم ويذبحون ما ثقل عليهم؛ فبينما هم كذلك إذ جاءهم أن الدجال قد خلفكم في ذراريكم، قال: فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون؛ قال: وتصيب الناس مجاعةٌ شديدة حتى إن الرجل ليحرق وتر قوسه فيأكله، وحتى إن الرجل ليحرق حجفته فيأكلها، حتى إن الرجل ليكلم أخاه فما يسمعه الصوت من الجهد؛ قال: فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً من السماء: أبشروا فقد أتاكم الغوث. فيقولون: نزل عيسى بن مريم. قال: فيستبشرون ويستبشر بهم ويقولون: صل يا روح الله! فيقول: إن الله أكرم هذه الأمة ولا ينبغي لأحدٍ أن يؤمهم إلا منهم. قال: فيصلي أمير المؤمنين بالناس، قال: فأمير الناس يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان؟ قال: لا، فيصلي عيسى خلفه، قال: فإذا انصرف عيسى دعا بحربته، فأتى الدجال فقال: رويدك يا دجال يا كذاب! قال: فإذا رأى عيسى عرف صوته ذاب كما يذوب الرصاص إذا أصابته النار، وكما تذوب الألية إذا أصابتها الشمس. قال: ولولا أنه يقول رويداً لذاب حتى لا يبقى منه شيء، قال: فيحمل عليه عيسى فيطعن بحربته بين ثدييه فيقتله.
قال: وتفرق جنده تحت الحجارة والشجر، قال: وعامة جنده اليهود والمنافقون، فينادي الحجر يا روح الله هذا تحتي كافر فاقتله؛ قال: فيأمر عيسى بالصليب فيكسر وبالخنزير فيقتل، وتضع الحرب أوزارها حتى إن الذئب ليربض إلى جنبه.... ما يغمز بها، وحتى إن الصبيان ليلعبون بالحيات ما تنهشهم، ويملأ الأرض عدلاً؛ فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً، قال: فتحت يأجوج ومأجوج، وهو كما قال الله عز وجل " وهم من كل حدبٍ ينسلون " فيفسدون الأرض كلها، حتى إن أوائلهم لتأتي النهر العجاج
فيشربونه كله، وإن آخرهم ليقول: قد كان ها هنا نهر، ويحاصون عيسى ومن معه ببيت المقدس ويقول: ما نعلم في الأرض - يعني أحداً - إلا قد أنخناه، هلموا نرمي من في السماء، فيرمون حتى ترجع إليهم سهامهم في نصولها الدم للبلاء، فيقولون: ما بقي في الأرض ولا في السماء، فيقول المؤمنون: يا روح الله! نموت من النتن! فيدعو الله، فيبعث وابلاً من المطر فجعله سيلاً، فيقذفهم كلهم في البحر؛ قال: ثم يسمعون صوتاً فيقال: مه! قيل: غزا البيت الحصين، قال: فيبعثون جيشاً فيجدون أوائل ذلك الجيش.
ويقبض عيسى بن مريم، ووليه المسلمون وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلوا عليه وحفروا له ودفنوه؛ فيرجع أوائل الجيش والمسلمون ينفضون أيديهم من تراب قبره، فلا يلبثون بعد ذلك إلا يسيراً حتى يبعث الله الريح اليمانية، قال: قلنا: وما الريح اليمانية؟ قال: ريح من قبل اليمن، ليس على الأرض مؤمن يجد نسيمها إلا قبضت روحه، قال: ويسري على القرآن في ليلةٍ واحدة، ولا يترك في صدور بني آدم ولا في بيوتهم منه شيء إلا رفعه الله، قال: فيبقى الناس ليس فيهم نبي، وليس فيهم قرآن وليس فيهم مؤمن.
قال عبد الله بن عمرو: فعندهم أخفي علينا قيام الساعة، فلا يدري كم يتركون، كذلك تكون الصيحة. قال: ولم تكن صيحةٌ قط إلا بغضبٍ من الله على أهل الأرض، قال: فقال الله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " قال: فلا أدري كم يتركون كذلك.
وعن مجمع بن جارية قال: ذكر عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال فقال: يقتله عيسى بن مريم بباب لد.
زاد في رواية: أو إلى جانب لد.
وعن عبد الله بن عباس أنه قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم على ذروة أفيق، بيده حربة يقتل الدجال.
وعن جابر بن عبد الله في قوله: " ليظهره على الدين كله " قال: خروج عيسى بن مريم.
وعن ابن أبي نجيج عن مجاهد في قوله " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " قال: إذا نزل عيسى بن مريم لم يكن في الأرض دينٌ إلا الإسلام، فذلك قوله: " ليظهره على الدين كله ".
وعن مجاهد في قوله: " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني حتى ينزل عيسى بن مريم، فيسلم كل يهودي وكل نصراني، وكل صاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله.
وفي رواية: فيطمئن كل شيء ولا يكون عداوة بين اثنين.
وعن ابن عباس في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال خروج عيسى بن مريم.
وفي رواية: قال: قبل موت عيسى.
وعن مجاهد قال: ليس من أهل الكتاب أحدٌ يموت حتى يشهد أن عيسى رسول الله. قال: وإن وقع من فوق البيت؟ قال: وإن وقع من فوق البيت.
وعن الحسن البصري في قوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى بن مريم.
قال شهر بن حوشب: كنت مستخفياً من الحجاج بن يوسف، فجعل لي الأمان، فخرجت فمررت به ذات يوم وهو يقسم جروزاً له في أصحابه، فقال لي: يا شهر! فلعلك تكره لباس هذه الجروز؟ قلت: ما أهكرهها أصلح الله الأمير، فكساني منها شقة فارتديت بها، فلما قفيت أتاني نداء: يا شهر! فقلت في نفسي: ها ها، فانصرفت إليه فقال: يا شهر، إني أقرأ القرآن فآتي منه على آي، فلا تزال حرارةٌ في قلبي ألا أكون علمتها، قلت: وما هي؟ قال: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قلت: ذاك في اليهود، لا يقبض ملك الموت روح أحدهم حتى يجيئه ملك ومعه شعلةٌ من نار جهنم فيضرب وجهه ودبره فيقول له: أتقر أن عيسى عبد الله ورسوله؟ فلا يزال به حتى يقر به؛ فإذا أقر به قبض ملك الموت روحه، ففيهم نزلت هذه الآية.
وروى الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا الناس إلا شحا؛ ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم.
قالوا: تفرد بهذا الحديث الشافعي، ولا نعلم حدث به غيره، ولا عنه إلا يونس بن عبد الأعلى، وهو حديثٌ غريب الإسناد، مشهور المتن إلا قوله: ولا مهدي إلا عيسى بن مريم. فما قاله أحدٌ غيره، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسناداً، وفيها بيان كونه من عترة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو الحسن علي بن عبد الله الواسطي: رأيت محمد بن إدريس الشافعي في المنام، فسمعته يقول: كذب علي يونس في ديث الجندي، حديث الحسن عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهدي. قال الشافعي: ما هذا من حديثي ولا حدثت به، كذب علي يونس.
وعن مجاهد قال: المهدي عيسى بن مريم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمراً أو ليثنينهما.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني أرى أن أعيش من بعدك، أفتأذن لي أن أدفن إلى جنبك؟ فقال: وأنى لك بذلك الموضع! ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وقبر عمر، وقبر عيسى بن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن عبد الله بن سلام قال: وجدت في الكتب أن عيسى بن مريم يدفن مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر وقد بقي في البيت موضع قبر.
وعنه قال: نظرت في التوراة صفه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيسى بن مريم عليه السلام يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر.
وعنه قال: ليدفنن عيسى بن مريم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
قال البخاري: هذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
روح الله وكلمته، وعبده ورسوله صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم كان يأوي إلى الربوة خوفاً من الكفار وقد تقدم ذلك في فضل الربوة.
عن ابن عباس: في قوله عز وجل: " وبراً بوالديه " قال: كان لايعصيهما. " ولم يكن جباراً " لم يكن قتال النفس التي حرم الله " عصيا " لم يكن عاصياً لربه " وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويم يموت ويم يبعث حياً " قال: لما وهب الله لزكريا يحيى بلغ ثلاث سنين بشر الله مريم بعيسى، فبينا هي في المحراب إذ قالت الملائكة - وهو
جبريل وحده -: " يامريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين مع قراء بيت المقدس، يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم " وما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم ثم قال: يا محمد - يخبر بقسة عيسى - " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيه عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا من المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.
وعن ابن عباس
في قوله: " واذكر في الكتاب مريم " يقول: قص ذكريا على اليهود والنصارى ومشركي العرب " إذ انتبذتم " خرجت " من أهلها مكاناً شرقياً قال: كانت خرجت من بيت المقدس مما يلي الشرق، " فاتخذت من دونهم حجاباً " وذلك أن الله عز وجل لما أراد أن يبتدئها بالكرامة ويبشرها بعيسى، وكانت قد اغتسلت من المحيض فتشرقت وجعلت بينها وبين قومها حجاباً، يعني جبلاً، فكان الجبل بين مجلسها وبين بيت المقدس " فأرسلنا إليها روحنا " يعني جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشراً سوياً " في صورة الآدامين، سوياً: يعني معتدلاً شاباً، أبيض الوجه جعداً قططاً، حين اخضر شاربه، فلما نظرت إليه بين يديها " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " وذلك أنها شبهته بشاب كان يراها ونشأ معها يقال له يوسف من بني إسرائيل، وكان من خدم بيت المقدس، فخافت أن يكون الشيطان استزله، فمن ثم قالت: " أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً "
يعني إن كنت تخاف الله " قال " جبريل وتبسم: " إنما أنا رسول الله لأهب لك غلاماً زكياً " يعني لله مطيعاً من غير بشر " قالت أنى يكون لي غلام " أو ولد " ولم يمسني بشر " يعني زوجاً، لأن الأنثى تحمل من الذكر " ولم أك بغياً " أي مومسة " قال " جبريل " كذلك " يعني هكذا " قال ربك هو علي هين " يعني خلقه من غير بشر وهو من غيرزوج، وهو يخلق مايشاء " ولنجعله آية للناس " قال: يعني عبرة للناس. قال ابن عباس: والناس هاهنا للمؤمنين خاصة " ورحمة منا " لمن صدق بأنه رسول الله " وكان أمراً مقضيا " يعني كائناً أن يكون من غير بشر " ويعلمه الكتاب " يعني يخط الكتاب بيده " والحكمة " يعني الحلال والحرام " ويعلمه الكتاب والحكمة " والسنة " والتوراة والانجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل " وأجعل على يديه الآيات والعجائب " فحملته " قال ابن عباس: فدنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيبها، فدخلت النفخة جوفها، فاحتملت كما تحمل النساء في الرحم والمشيمة ووضعته كما تضع النساء.
قال أبي بن كعب: كان روح عيسى بن مريم عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم عليه السلام، فأرسله الله إلىمريم في صورة بشر " فتمثل لها بشراً سوياً " إلى قوله: " فحملته " قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى، قال: ودخل من فيها.
قال أبي بن كعب في قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " إلى قوله: " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " قال: جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم واستنطقهم
فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا " إلى قوله: " المبطلون " قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، ويشهد عليكم أبوكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليهم كتابي؛ قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك. فأقروا يومئذٍ بالطاعة، ورفع عليهم أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير والحسن الصورة ودون ذلك فقال: رب! لو سويت بين عبادك، قال: إني أحب أن أشكر؛ ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم النور وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، وهو قوله: " وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً " وهو الذي يقول: " فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطره الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله " وكان روح عيسى في تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، قال: " فأرسلنا إليها روحنا " إلى قوله: " وكان أمراً مقضياً " قال: " فحملته " حملت الذي خاطبها وهو روح عيسى.
قال: فسأله مقاتل بن حيان: من أين دخل الروح؟ فذكر عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه دخل من فيها.
وعن مجاهد قال: كانت مريم عليها السلام تقول: كان عيسى إذا كان عندي أحد يتحدث معي سبح في بطني، وإذا خلوت فلم يكن عندي أحد حدثته وحدثني وهو في بطني.
وعن الحسن قال: بلغني أنها حملته لسبعٍ أو لتسعٍ ساعات ووضعته من يومها. وقيل حملته تسعة أشهر كما تحمل النساء، فالله أعلم أنى ذلك كان.
قال الشعبي:
كتب قيصر إلى عمر أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرةً ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تقق عن مثل اللؤلؤ ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذخٍ أكل، ثم تتشقق فتنتثر فتكون عصمةً للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقتك، هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أبتها الله تعالى على مريم عليها السلام حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله فإن " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
قال: وبلغني أن من آدم إلى مولد المسيح عليه السلام خمسة آلاف وخمس مئة سنة ومن الطوفان إلى مولده ثلاثة آلاف ومئتان وأربع وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى مولده ألفان وسبع مئة وثلاث عشرة، ومنملك داود إلى مولده ألف وتسع وخمسون سنة، وولد في خمسةٍ وعشرين يوماً من كانون الأول، ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع مئة وثلاث وثلاثون سنة.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من بني آدم من مولودٍ إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها. ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
وعن أبي هريرة قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان بإصبعه في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم فإنه ذهب ليطعن فطعن في الحجاب.
قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى بن مريم أتت الشياطين إبليس - لعنهم الله - فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها، فقال: هذا حادثٌ حدث، مكانكم، وطار حتى جاب خافقي الأرض فلم ير شيئاً ولم يجد شيئاً، ثم جاب البحار فلم يقدر على شيء، ثم طاف أيضاً فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا. فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
وعن عكرمة بن خالد المخزومي قال: لما ولد عيسى بن مريم لم يبق شيء يعبد من دون الله إلا خر لوجهه ففزعت لذلك الشياطين واجتمعوا إلى إبليس فأخبروه، فركب، فإذا بعيسى في مهده، فأراده، فحال الله بينه وبينه وملائكته، فقال له إبليس: أتعرفني؟ قال: نعم أنت إبليس، قال: صدقت، قال: أما إني ما جئتك تصديقاً بك، ولكن رحمتك ورجمت أمك لما قالت بنو إسرائيل فيها، فلو أمرت أمك فجعلتك على شاهقةٍ من الجبل ثم طرحتك فإن ربك وملائكته لم يكن ليسلمك ولا ليكسرك، فقال عيسى: يا قديم الغي! إنما أفعل ما يأمرني ربي، وإني أريد أن أعرف كرامتي عند الله عز وجل.
قال وهب بن منبه:
سألني ابن عباس عن عيسى بن مريم وميلاده، وعن لقيه إبليس بعقبة بين المقدس، وعن نعت الإسلام، وعن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل فقلت: نعم، إن إبليس عدو الله اتخذ مجلساً على اللجة الخضراء، ثم بث شياطينه في ولد آدم فقال: انطلقوا فأتوني بأحداث الدنيا، فأتوه بجماعتهم لست ساعات مضين من النهار، فقال: أخبروني عما كنت وجهتكم؟ فقالوا: سيدنا، قد كانت الأصنام بغيتنا ورجاء ضلالة ابن آدم، فلم يبق صنم إلا أصبح منكوساً قد انحدرت حدقتاه على وجنتيه، فساء ظننا وأسقط في أيدينا. فأتوه لست ساعاتٍ مضين من النهار، فقال لهم إبليس: على رسلكم، أعلم علم ما أتيتوني، وكان ذلك
ليلة ولد عيسى بن مريم في ثلاث عشرة ليلة مضين من ذي القعدة، فخرت الأصنام كلها سجداً وتنكس كل صنمٍ كان يعبد من دون الله تعالى ما بين المشرق والمغرب، فانطلق إبليس وطار، فغاب عنهم مقدار ثلاث ساعات من النهار، فانصرف إليهم عوده على بدئه فقال: إني لم أدع مشارق الأرض ومغاربها ولا برها ولا بحرها، ولا سهلها ولا جبلها إلا أيتيه، فوجدت ذلك المولود ولد لغير بشر، فأتيته من بين يديه لأضع يدي عليه فإذا الملائكة دونه كأنهم بنيان مرصوص، من تخوم الثرى إلى أعنان السماء، فأتيته من فوقه فإذا الملاسكة مناكبها ثابتةٌ في السماء وأرجلها تحت الأرض الصفلى فلم أصل إلى ما أردت به ولأضلن به أكثر ممن تبعه.
فلما بلغ عيسى ثلاثين سنة، وبعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، واتخذ الآيات والعجائب، من إحياء الموتى وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص. لقيه إبليس خالياً عند عقبة بيت المقدس، فقال الخبيث في نفسه: أنتهزن اليوم فرصتي من عيسى، فقال له إبليس: أنت عيسى بن مريم؟ قال نعم، قال: أنت الذي تكونت من غير أبٍ؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي كونني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي المريض؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه أشفيهم، وإذا شاء أمرضني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يحي الموتى؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي بإذنه احييهم، ولا بد أن سوف يميتني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظمتك أنك تمشي على الماء؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه مشيت، وإذا شاء أغرقني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يبلغ من عظمتك أنك تعلو السماوات فتدبر فيها الأمر، ما أعرف لله نداً غيرك ولا مثلاً إلا أنت! فارتعد عيسى من الفرق، فخر مغشياً عليه ودعا الله على إبليس دعوةً، فخرج يتدأدأ، ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى، فنهض بالقوة التي جعلت فيه فسد على عيسى العقبة من قبل أن يزول عيسى من مكانه، فقال له: ألم أقل لك إنك إله عظيم وليس لله شبه غيرك، ولكنك لا تعرف نفسك، فهلم
فأمر الشياطين بالعبادة لك، فإنهم لم يعترفوا لبشرٍ كان قبلك، فإذا رأى بنو آدم أنهم قد عبدوك عبدوك بعبادتهم، فتكون أنت الإله في الأرض والإله الذي تصفه إلهاً في السماء. فخر عيسى مغشياً عليه، فبعث الله عز وجل إليه ثلاثة أملاك: جبريل ومياكئيل وإسرافيل، فنفحه ميكائيل نفحة فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى حصيداً محترقاً، ثم مثل له إسرافيل فنفحه نفحة بجناحه، فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى مر بعيسى على العقبة وهو يقول: يا ويله! لقد اقيت منك يابن العذراء تعباً! ثم مثل له جبريل فنفحه نفحةص فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً، حتى وقع في العين الحامية فتخلص منها بعد ثلاثة أيام حتى رجع إلى مجلسه.
وعن مجاهد في قوله " وجعلني مباركاً " قال: نفاعاً للناس، وقال: مباركاً، معلماً للخير.
وعن جابر " وجعلني مباركاً أين ما كنت " لعيسى بن مريم قال: معلماً ومؤدباً وحناناً، قال: ورحمةً وزكاةً، وطاهراً من الذنوب.
وعن يزيد بن أبي حبيب في قوله " وكهلاً " قال: الكهل منتهى الحلم.
وقال مجاهد: الكهل، الحليم.
وعن ابن عباس
في قوله " وبرا بوالدتي " فلا أعقها. فعلموا أنه خلق في غير بشر " ولم يجعلني جباراً شقيا " يعني متعظماً سفاكاً للدم " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً " يقول الله تعالى " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني يشكون - يقوله لليهود - ثم أمسك عيسى عن الكلام حتى بلغ ما يبلغ الناس.
قال عبد الله بن عباس: ما تكلم عيسى إلا بالآيات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن الله تعالى أطلق لسان عيسى مرة أخرى في صباه، فتكلم ثلاث مرات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان فيتكلمون فتكلم، فحمد الله أيضاً بتحميدٍ لم تسمع الآذان بمثله، حيث أنطقه طفلاً فقال: اللهم أنت القرب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك، وحارت البصار دون النظر إليك، أنت الذي عشيت الأبصار دونك وشمخ بك العلياء في النور، وتشعشع بك البناء الرفيع في المتباعد، أنت الذي جليت الظلم بنورك، أنت الذي أشرقت بضوء نورك دلادج الظلام وتلألأت تعظيماً أركان العرش نوراً، فلم يبلغ أحدٌ بصفته صفتك، فتباركت اللهم خالق الخلق بعزتك، مقدر الأمور بحكمتك، مبتدئ الخلق بعظمتك. ثم أمسك الله لسانه حتى بلغ.
وعن ابن عمر قال: ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعيسى أخي، ولكن رسول الله. قال: بينما أنا نائم أراني أطوف بالكعبة فإذا رجلٌ آدم سبط الشعر، بين الرجلين، ينظف رأسه ماءٌ - أو يهراق رأسه - فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم، فذهبت التفت، فإذا رجلٌ أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبةٌ طافية، فقلتك من هذا؟ قالوا: هذا الدجال - وفي رواية: هذا المسيح الدجال - أقرب الناس به شبهاً، رجلٌ من خزاعة يقال له ابن قطن.
قالوا: وهو من بني المصطلق، هلك في الجاهلية.
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليلة أسري بي رأيت إبراهيم وهو يشبهني، ورأيت موسى جعداً آدم، طويلاً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً أحمر ربعةً سبطاً، كأن رأسه يقطر الدهن.
وفي رواية: جعداً أحمر عريض الصدر.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصف لأصحابه ليلة اسري به إبراهيم وموسى وعيسى وقال: أما إبراهيم فلم أر أشبه بصاحبكم منه - أو قال: أنا أشبه ولده به - وأما موسى فرجل آدم طوال جعد أقنى، كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى فرجل أحمر، بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس - يعني الحمام - تخال رأسه يقطر ماء، وما به ماء، أشبه من رأيت به عروة بن مسعود. قال: وأتيت بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت منه، فقيل لي: هديت إلى الفطرة - أو اصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وفي حديث بمعناه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني ليلة أسري بي وضعت قدمي حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس فعرض علي عيسى بن مريم ... الحديث.
وعن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخمزير، ويضع الجزية، وعطل الملل، ويقاتل على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غيرالإسلام، ويهلك في زمانه مسيح الضلالة، الدجال الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرتع الأسد من الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً؛ حتى يمكث في الأرض ما شاء الله، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويهلك في زمانه الملل كلها، صريح البيان عن أن اليهود والنصارى
والمجوس وسائر المشركين ذوو مللٍ مختلفة، وليسوا أهل ملةٍ واحدة وإن جمعهم الكفر وأنه لا توارث بين أحدٍ منهم، وبين من هو على غير ملته لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يتوارث أهل ملتين شتى. وكان أبو جنيفة وأصحابه يرون الكفر كله ملة واحدة ويوقعون التوارث بينهم، وإليه يذهب أصحاب الشفعي.
ومن حديث آخر:
وأنا وعيسى أخوان، لأنه بشر بي وليس بيني وبينه نبي.
قالوا: والديماس محبس.
وعن أبي حازم قال: كنت أرى أبا هريرة يأتي الكتاب فيقول للمعلم: مر غلمانك فلينصتوا وليفقهوا ما أقول لهم، فيقول: يا معشر الغلمان، أيكم أدرك عيسى بن مريم فإنه شاب أحمر، حسن الوجه، فليقرا عليه مني السلام.
قال عبد الله عن عمرو بن العاص: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان، فكان يقول لأهدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أملك؟ فيقول: نعم، فيقول: خبأت لك كذا وكذا. فيذهب الغلام منهم إلى أمه، فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي، فتقول: وأي شيءٍ خبأت لك؟ فيقول كذا وكذا فتقول له: من أخبرك؟ فيقول: عيسى بن مريم، فقالوا: والله إن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسنهم، فجمعوهم في بيت، وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاءهم في بيت، فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء؟ كأن هؤلاء الصبيان! قالوا: لا، إنما هم قردة وخنازير، قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير. فكانوا كذلك.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال لع عيسى: وما باسم؟ قال المعلم: لا أدري، قال عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه،
والميم ملكه، والله لا إله إلا هو، الرحمن رحمان الدنيا واخرة، والرحيم رحيم الآخرة ... الحديث.
وعن ابن عباس: أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلاً، حتى إذا بلغ ما يبلغ الغلمان، ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، قال: فأكثر اليهود فيه وفي أمه من قول الزور، فكان عيسى يشرب اللبن من أمه، فلما فطم أكل الطعام وشرب الشراب حتى بلغ سبع سنين، فكانت اليهود تسميه ابن البغية، فذلك قول الله تعالى: " وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً " فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه للكتاب عند رجلٍ من الكتبيين يعلمه كما يعلم الغلمان، فلا يعلمه شيئاً إلا بدره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فعلمه أبا جاد، فقال عيسى: ما أبجد؟ قال المعلم: لا أدري، فقال عيسى: فكيف تعلمني مالا تدري؟ فقال المعلم: إذاً فعلمني، فقال له عيسى: فقم من مجلسكن فقام فجلس عيسى مجلسه، فقال: سلنين فقال المعلم: فماذا أبجد؟ فقال عيسى: الألف آلاء الله، باء بهاء الله، جيم بهجة الله وجماله - زاد في غيره: دال الله الدائم - فعجب المعلم من ذلك، فكان أول من فسر أبجد عيسى بن مريم.
قال: وسأل عثمان بن عفان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ماتفسير ابجد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا تفسير ابجد، فإن فيه الأعاجيب كلها، ويل لعالمس جهل تفسيره! فقيل يا رسول الله وما أبجد؟ فقال: أما الألف آلاء الله، حرفٌ من أسماءه؛ وأما الباء فبهجة الله وجلال الله؛ وأما الجيم فمجد الله، وأما الدال فدين الله؛ وأما هوز، فالهاء الهاوية، فويل لمن هوى فيها، وأما الواو فويل لأهل النار، وأما الزاي فالزاوية، فنعوذ بالله مما في الزاوية، يعني زوايا جهنم؛ وأما حطي، فالحاء حطوط خطايا المستغفرين في ليلة القدر، وما نزل به جبريل مع الملائكة إلىمطلع الفجر، وأما الطاء فطوبى لهم وحسن مآب، وهي شجرة غرسها الله بيده، وإن أغصانها لترى من وراء سور
الجنة، نبتت بالحي والحلل، والثمار متدلية على أفواههم، فطوبى لهم وحسن مآب، وأما الياء فيد الله فوق خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون؛ وأما كلمن، فالكاف كلام الله، لاتبديل لكلماته " ولن تجد من دونه ملتحدا " وأما اللام فإلمام أهل الجنة بينهم بالزيارة، والتحية والسلام، وتلاوم أهل النار بينهم، وأما الميم فملك الله الذي لا يزول، ودوام الله الذي لا يفنى، وأما نون فنون " والقلم وما يسطرون " فالقلم قلمٌ من نور وكتابٌ من نور، في لوحٍ محفوظ يشهده المقربون، وكفى بالله شهيدا؛ يعني الجزاء بالجزاء وكما تدين تدان، والله لا يريد ظلماً للعباد؛ وأما قريشات، يعني قرشهم يجمعهم يوم القيامة يقضي بينهم وهم لا يظلمون.
قال ابن عباس:
فكان عيسى يري العجائب في صباه إلهاماً من الله تعالى، ففشا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إليها أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " فسئل ابن عباس: ألا كان آيتان وهما اثنان؟ فقال: إنما قال آية لأن عيسى من أمه ولم يكن من أبٍ لم يشاركها في عيسى أحد، فصار آيةٌ واحدة " وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين " قال: يعني أرض مصر.
قال وهب: ولما بلغ عيسى ثلاث عشرة سنة أمره الله تعالى أن يرجع من مصر إلى بيت إيلياء، فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار، حتى جاء بهما إلى إيلياء وأقامهما حتى أحدث الله تعالى له الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والعلم بالغيوب بما يدخرون في بيوتهم؛ وتحدث الناس بقدومه، وفزعوا لما كان يأتي من
العجائب، وجعلوا منه، فدعاهم إلى الله، ففشا فيهم أمره.
وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌ، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل.
زاد في آخر: وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها.
سئل الأوزاعي عن رجلٍ قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً بتةً أن لم أكن من أهل الجنة؟ فقال الأوزاعي: لا يفرق بينه وبين امرأته؛ حدثني عمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، أدخله الله الجنة على ما كان منه فلا يفرق بينهما بالشك لما جاء من هذا الحديث.
وفي رواية: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء.
وعن يعلى بن شداد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليخرجن الله بشفاعة عيسى بن مريم من جهنم مثل أهل الجنة.
أنزلت التوراة على موسى صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ست ليالي خلون من شهر رمضان؛ ونزل الزبور على داود صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في اثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربع مئة سنة واثنتين وثمانين سنة؛ وأنزل الإنجيل على عيسى بن مريم صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاماً؛ وأنزل القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أربعٍ وعشرين من شهر رمضان.
وعن أبي هريرة قال:
أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم: يا عيسى خذ في أمري ولا تهن، واسمع وأطع، يا بن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد،
وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة، فسر لأهل السريانية السريانية، بلغ بين يديك أني أنا الحي القائم الذي لا أزول، صدقوا النبي الأمي العربي، صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهو القضيب - الأنجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية المقرون الحاجبين، الأقنى الأنف، المفلج الثنايا البادي العنفقة، الذي كأن عنقه إبريق فضة، كأن الذهب يجري في تراقيه، له شعيراتٌ من لبته إلى سرته يجري كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعاً، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤة، ريح المسك ينفح منه، لم ير قبله ولا بعده - يعني مثله - الحسن القامة، الطيب الريح، نكاح النساء، ذا النسل القليل إنما نسله من مباركة، لها بيتٌ - يعني في الجنة - من قصب، لانصب فيه ولا صخب؛ تكفله يا عيسى في آخر الزمان، كما كفل زكريا امك، له منها فرحان مستشهدان وله عندي منزلة ليس لأحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه. قال عيسى: يا رب! وما طوبى؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي، فهي الجنان كلها، أصلها من رضوان وماؤه من تسنيم، وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. قال عيسى: يا رب اسقني منها، قال: حرامٌ على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذاك النبي، وحرامٌ على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب أمة ذاك النبي. قال: يا عيسى أرفعك إلي، قال: يا رب! ولم ترفعني؟ قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتال اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة، ثم لا تصل بهم لأنهم أمةٌ مرحومة، ولا نبي بعد نبيهم.
وروي أن عيسى بن مريم قال: رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هم علماء حلماء، كأنهم انبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله، ياعيسى هم أكثر سكان أهل الجنة لأنها لم تذل ألسن قومٍ قط بلا إله إلا الله، كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قومٍ قط بالسجود كما ذلت رقابهم.
وعن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم؛ أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخراً لك في معادك، وتقرب إلي بالنوافل أحبك، ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء، وارضى بالقضاء، وكن كمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريباً، وأحي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدره يقظ من ساعات الغفلة، واحكم لي لطف الفطنة، وكن لي راغباً راهباً، وأمت قلبك من الخشية لي، وراع الليل بحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعرف بالخير حيث توجهت - تفسيره: يقول: ولتعرف بالخير - وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدك، فقد أنزلت عليك شفاء وساوس الصدر من مرض النسيان وجلاء الأبصار من غشا الكلال؛ ولا تكن حلساً كأنك مقبوض وأنت حيتنفس؛ ياعيسى بن مريم ما أمنتني خليقةٌ إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهدك أنها آمنةٌ من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي؛ يا عيسى بن مريم البكر البتول، ابك على نفسك ايام الحياة بكاء من ودع الأهل وقلى الدنيا، وترك اللذات لأهلها وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام، وتفشي السلام وكن يقظانا إذا نامت عيون الأنام حذار ما هو آتٍ من أمر المعاد، وزلازل شدائد الأهوال قبل أن لا ينفع أهلٌ ولا مال، واكحل عينك بملمول الحزن إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابراً محتسباً، فطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين، زج من الدنيا بالله، يوم بيوم، وذق مذاقه، ما هرب منك أين طعمه؟ وما لم يأتك كيف لذته؟ فزج من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الخشب، قد رأيت إلى ما تصير؛ اعمل على حساب، فإنك مسؤول؛ لو رات عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك، وزهقت نفسك.
زاد في آخر: اشتياقاً إليهم.
كان عيسى يصلي على رأس الجبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي يزعم أن كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر؟ قال: نعم، قال: ألق نفسك من الجبل وقد قدر علي، قال: يالعين! الله يختبر العباد، ليس العباد يختبرون الله عز وجل.
وفي حديثٍ بمعناه: قال: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.
صلى عيسى بن مريم ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه، فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبداً؛ فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبداً؛ فاستغاث عيسى بربه فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقرا معه العقبة اكتنفا عيسى، وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي، قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لاينبغي لك أن تكون عبداً، إن غضبك ليس غضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك إلى أمرٍ هو لك، آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى الإنس أن الشياطين قد أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلهاً ليس معك إله، ولكن الله يكون إلهاً في السماء وتكون أنت إلهاً في الأرض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخةق شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة اخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر بعيسى وهو مكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت منك اليوم تعباً شديداً، فرمى به في عين الشمس، وجره سبعة أملاك عند العين الحامية؛ قال: فغطوه، فجعل كلما خرج غطوه في تلك الحمأة. قال: والله ما عاد إليه بعد.
قال أبو حذيفة:
واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعباً! قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشراً كثيراً وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعاً، ويجعلون وأمه إلهين من دون الله. وأنزل الله فيما أيد به عبده عيسى وعصمه من إبليس قرآناً ناطقاً يذكر نعمته على عيسى فقال: " يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب " يعني الانجيل والتوراة " والحكمة " " وإذ كففت بني إسرائيل عنك " الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانةً وصحابةً وأعواناً ترضى بهم، وصحابةً وأعواناً يرضون بك هادياً وقائداً إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل: صمنا فلم يقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاءنا؛ فقل لهم: ولم ذاك؟ وما الذي يمنعني؟ أن ذات يدي قلت؟ أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء؟ أو أن البخل يعتريني؟ أو لست اجود من سئل وأوسع من أعطى؟ وأن رحمتي ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي. ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غذوا أنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم، فاستأثروا به الدنيا أثرةً على الآخرة لعرفوا من أين أتوا، وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟! يا عيسى، إنما أجزي عليها أهلها؛ وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟! ازددت عليهم غضباً، يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من عبدك
وعبد أمك وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقاءك في المنازل، وشركاءك في الكرامة؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أني مسبب هذا الأمر على يدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، ولا متزينٍ بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمرٍ جميل، وأهب له كل خلقٍ كريم، أجعل التقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته؛ والحق شريعته، والإسلام ملته، واسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العايلة، وأرفع به بعد الضعة، أهدي به وأفتح به من ىذانٍ صم، وقلوبٍ وأهواء مختلفةٍ متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، إخلاصاً لا سمي وتصديقاً لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتهليل والتقديس في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومتقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداص وركعاص وسجداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاص وزحوفاً، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
قال وهب بن منبه: كان دعاء بن مريم الذي يدعو به للمرضى والزمن والعميان والمجانين: اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من السماء وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيءٍ قدير.
قال وهب: هذا للفزع والمجنون، يقرأ عليه ويكتب له ويسقي ماءه إن شاء الله.
كان عيسى بن مريم إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتن يقرأ في الأولى " تبارك الذي بيده الملك " وفق الثانية " تنزيل " السجدة، فإذا فرغ مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم! يا حي! يا دائم! يا فرد! يا وتر! يا أحد! يا صمد! قال البيهقي: ليس هذا بالقوي.
وعن هلال بن خباب قال:
سألت بنو إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام فقالوا: يا روح الله وكلمته، إن سام بن نوح دفن هاهنا قريباً، فادع الله أن يبعثه، قال: فهتف نبي الله فلم ير شيئاً فقال: أتتعنتوني!؟ فقالوا: ما نتعنتك، لقد دفن ها هنا قريباً، فهتف نبي الله فخرج أشمط، قالوا: يا نبي الله! إنه مات وهو شاب، فما هذا البياض؟ فسأله فقال: ظننت أنها الصيحة ففزعت، قالوا: دعه يكن فينا، قال: كيف يكون فيكم وقد نفد رزقه!.
وحدث جماعة عن عبر عيسى وقصته، وما كان من الآيات والعجائب، وزاد بعضهم عن بعض قالوا: إن أول من أحيا عيسى بن مريم من الموتى حين قال لهم " إني أخلق من الطين " بإذن الله " وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فتعاظم ذلك عند الكفار والمنافقين فأنكروه، وازداد المؤمنون بذلك إيماناً؛ فكانت اليهود تجتمع إليه في ذلك ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى، ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغدٍ؟ فيخبرهم، فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم، وكان عيسى ليس له قرار ولا موضع يعرف، إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأةٍ قاعدةٍ عند قبرٍ وهي تبكي فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذافت من الموت، ولا أبرح من موضعي أو يبعثها الله لي فأنظر إليها أو أحشر معها من موضعي، لو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال عيسى: إن نظرت إليها أراجعةٌ أنت؟ قالت: نعم،
قال: فصلى عيسى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة، قومي بإذن الرحمن فاخرجي، قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية، فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما بطأ بك عني؟ قالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكاً فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة! فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت يا أمتاه! ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أمتاه، اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته يسأل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت، قال: فدعا ربه، فقبضها إليه، فاستوت عليها الأرض.
فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضباً، وكان ملك منهم في ناحيةٍ منهم في مدينةٍ يقال لها نصيبين جباراً عاتياً، وأمر عيسى بالمسير إليه ليدعوه وأهل تلك المدينة إلى المراجعة. قال: فمضى حتى شارف المدينة ومعه الحواريون، فقال لأصحابه: ألا رجلٌ منكم ينطلق إلى المدينة فينادي فيها فيقول: إن عيسى عبد الله ورسوله. قال: فقام رجلٌ من الحواريين يقال له يعقوب فقال: أنا يا روح الله وكلمته؛ قال: فاذهب فأنت أول من يبر أمتي. فقام آخر يقال له توصار قال له: أنا معه، قال: وأنت معه؛ ومشيا، فقام شمعون فقال: يا روح الله وكلمته! أكون ثالثهم؟ فأذن لي بأن أنال منك إن اضطررت إلى ذلك، قال: نعم.
قال: فانطلقوا، حتى إذا كانوا قريباً من المدينة فقال لهما شمعون: ادخلا المدينة فبلغا ما أمرتما وأنا مقيم مكاني، فإن ابتليتما احتلت لكما. فانطلقا حتى دخلا المدينة، وقد تحدث الناس بأمر عيسى وهم يقولون فيه أقبح القول وفي أمه، فنادى أحدهما - وهو الأول - ألا إن عيسى عبد الله ورسوله؛ فوثبوا إليهما: من القائل إن عيسى عبد الله ورسوله؟ فتبرأ الذي نادى فقال: ما قلت شيئاً؛ فقال الآخر: قد قلت وأنا أقوله: إن
عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فآمنوا به يا معشر بني إسرائيل خيرٌ لكم. فانطلقوا به إلى ملكهم - وكان جباراً طاغياً - فقال له: ويلك! ما تقول؟ قال: أقول إن عيسى عبد اللهورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه؛ قال: كذبت؛ فقذفوا عيسى وأمه بالبهتان، ثم قال له: تبرأ ويلك من عيسى وقل فيه مقالتنا! فقال: لا أفعل، فقال الملك: إن لم تفعل قطعت يديك ورجليك وسمرت عينيك، فقال: افعل ما أنت فاعل. قال: ففعل به ذلك، فألقاه على مزبلةٍ في وسط مدينتهم.
قالوا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: كونوا كحواريي عيسى بن مريم، رفعوا على الخشب وسمروا بالمسامير وطبخوا في القدور، وقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم فكان ذلك البلاء والقتل في طاعة الله أحب إليهم من الحياة في معصية الله.
قال الرواة: إن الملك هم أن يقطع لسانه إذ دخل شمعون وقد اجتمع الناس، فسلم، فلما نظروا إليه أنكروه، فقال لهم: ماقال هذا المسكين؟ قالوا: يزعم أن عيسى عبد الله ورسوله، فقال شمعون: أيها الملك أتأذن لي فأدنوا منه فأسأله؟ قال: نعم، فقال له شمعون: أيها المبتلى! ما تقول؟ قال: أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، قال: فما آيته نعرفه؟ قال: يبرء الأكمة والأبرص والسقيم، قال: هذا يفعله الأطباء فهل غيره؟ قال: نعم، يخبركم بما تأكلون وما تدخرون، قال: هذا يعرفه المهنة فهل غير هذا؟ قال: نعم، يخلق من الطين كهيئة الطير، قال: هذا قد تفعله السحرة، يكون أخذه منهم. قال: فجعل يتعجب الملك منه وسؤاله، فقال: هل غير هذا؟ قال: نعم، يحيي الموتى، قال: أيها الملك! إنه ذكر أمراً عظيماً! وما أظن خلقاً يقدر على ذلك إلا بإذن الله، ولا يقضي الله ذلك على يدي ساحرٍ كذاب، فإن لم يكن عيسى رسولاً فلا يقدر على ذلك، وما فعل الله ذلك بأحد إلا بإبراهيم حين سأله " رب أرني كيف تحيي الموتى " ومن مثل إبراهيم خليل الرحمن! فقال الله: " أو لم تؤمن قال بلى ".
ذكر الحسن أن عيسى بن مريم ومعه ناسٌ من الحواريين، فأتوا على ذهبٍ كثير موضوع، فقال عيسى النجاء النجاء! إنما هي النار. ثم مضى ومضى أصحابه، وتخلف منهم ثلاثة،
فقال رجلان منهم لصاحبهما: إنا لا نستطيع هذا الذهب إلا أن نحمله على شيء فخذ من هذا الذهب فاشتر لنا به طعاماً واشتر لنا ظهراً نحمل عليه من هذا الذهب. فانطلق لما أمراه به، فأتى الشيطان للرجلين فقال لهما: إذا أتاكما فاقتلاه واقسما المال نصفين، فلما أحكم أمرهما انطلق إلى الآخر فقال: إنك لن تطيق هذين، فاجعل في الطعام سما فأطعمهما واذهب بالمال وحدك. فابتاع من المدينة سما، فجعله في طعامهما؛ فلما أناهما وثبا عليه فقتلاه، ثم قربا الطعام فأكلا منه فماتا. فانطلق عيسى إلى حاجته ثم رجع، فإذا هو بهم قد موتوا عند الذهب فقال: انظروا إلى هؤلاء! ثم حدثهم حديثهم، ثم قال لأصحابه: النجاء النجاء! فإنما هي النار.
وعن بن عباس قال:
لما بعث الله عيسى وأمره بالدعوة لقيه بنو إسرائيل فأخرجوه، فخرج هو امه يسيحون في الأرض، فنزلوا في قرية على رجلٍ فأضافهم فأحسن إليهم، وكان للمدينة ملكٌ جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يوماً وقد وقع عليه هم وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته فقال لها: ما شأن زوجك أراه حزيناً؟ فقالت: ل تلسيني، قالت: أخبرني لعل الله يفرج كربه، قالت: فإن لنا ملكاً يجعل على كل رجلس منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليومن يريد أن يصنع له فيه، وليس الآن عندنا سهة، قالت: فقولي له فلا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له، فيلقى ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك، فقال عيسى: يا أمه! إني إن فعلت كان في ذلك شر! قالت: لا تبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فاملاٌ قدورك وخوابيك ما ثم أعلمني، فلما ملأهن أعلمه، فدعا الله، فتحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً، وما في الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاءه الملك أكل منه، فلما شرب الخمر سأل: من أين لك هذا الخمر؟ قال: هو من أرض كذا وكذا، قال الملك: فإن خمري أوتى به من تلك الأرض، ليس هو مثل هذا! قال: هو من أرضٍ أخرى: فلما خلط على الملك اشتد عليه فقال: أنا أخبرك، عندي غلامٌ لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فقال له الملك - وكان له ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحب الخلق إليه - فقال: إن رجلاً دعا الله فجعل الماء خمراً ليستجابن له حتى يحيي ابني؛ فدعا عيسى فكلمه وسأله أن يدعو الله أن يحيي ابنه، فقال
عيسى: لا تفعل إنه إن عاش كان شرا! قال الملك: ليس أبالي، أليس أراه؟ فلا أبالي ما كان؛ قال عيسى: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب حيث نشاء، قال الملك: نعم. فدعا الله الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه. فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى تشاركني؟ قال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهودي يريد ان يأكل الرغيف أكل لقمة، قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول له: لا شيء، فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه؛ وانطلقوا فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاةً من غنمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال اليهودي: كل ولا تكسر عظماً؛ فاكلا، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! وفر منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد؛ فمر بصاحب بقر، فقال له: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلاً، فقال: ابعث صاحبك يأخذخ. فقال: انطلق يا يهودي فجئ به. فانطلق فجاء به فذبحوه وشووه. وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسر عظماً فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال، قم بإذن الله؛ فقام، له خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعدما أكلناه! قال: يا يهودي، فبالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، والعجل بعدما أكلناه كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف
واحد؛ فانطلقا حتى نزلا قريةً، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصاً مثل عصا عيسى وقال: أنا الآن أحيي الموتى. وكان ملك تلك القرية مريضاً شديد المرض. فانطلق اليهودي ينادي من يبغي طبيباً؟ حتى أتى ملك تلك المدين، فأخبر بوجعه فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه ولا يغني دواؤه شيئاً إلا أمر به فصلب، فقال: أدخلوني عليه فإني سأبرئه؛ فأدخل عليه، برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات! فجعل يضربه وهو ميت ويقول: قم بإذن الله، فأذخ ليصلب فبلغ عيسى، فأقبل عليه وقد رفع علي الخشبة فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيا عيسى الملك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى! أنت أعظم الناس علي منةً! والله لا أفارقك أبداً. فخرجوا فمروا بثلاث لبنات، فدعا الله عز وجل عيسى فصيرهن من ذهب، قال: يا يهودي لبنةٌ لي ولبنةٌ لك ولبنةٌ لمن أكل الرغيف؛ قال: أنا أكلت الرغيف.
وعن ابن عباس أن عيسى بن مريم قال للحواريين: صوموا ثلاثين يوماً، ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه. فصاموا، فلما قضوا ثلاثين يوماً قالوا لعيسى: يا معلم الخير، إنه لو عملنا لأحد وقضينا عمله أطعمنا طعاماً، وإنا قد صمنا الذي أمرتنا به، فادع الله أن ينزل علينا مائدةً من السماء، فنزلت الملائكة بمائدةٍ يحملونها، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، فأكل من آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وفي حديثٍ آخر: فأنزلها الله عليهم، فكان ينزل عليهم كل يوم تلك المائدة من ثمار الجنة، فيأكلون من ضروب شتى، فكان يقعد منا أناس يلطخون ثيابنا، فلو بنينا لها بناءً حتى نرفعها؛ فبنوا لها بناءً، فلما فعلوا ذلك أنزلها الله عليهم ذلك اليوم، فجاء أشرافهم وأصحاب الثياب، فارتفعوا على غيرهم، فأكلوا ذلك منها ثم رفعها الله عنهم حين بدلوا أمر الله عز وجل.
وعن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزلت المائدة من السماء خبز ولحم، وأمروا أن لا يخبؤوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادخروا وخبؤوا، فمسخوا قردةً وخنازير.
وعن سلمان
أنه قال في المائدة التي أنزلها الله على عيسى قال: لما سأل الحواريون عيسى - وذلك أنهم حين سألوه - قالوا: تريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا للذي رأينا من العجائب، ونكون عليها من الشاهدين. قال: فقام عيسى فألقى عنه الصوف ولبس جبة من شعر ولحافاً من شعر، ثم وضع يمينه على شماله وصف قدميه، وألصق كعب قدميه مع الآخر، وسى بين إبهاميه، وطأطأ رأسه خاشعاً لله عز وجل، فأرسل عينيه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته وصدره وهو يدعو الله ويتضرع، ثم قال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " يعني تكون لنا عظة " وآية منك " يقول: علامة بيننا وبينك " وارزقنا " عليها طعاماً نأكله وارزقنا " وأنت خير الرازقين " فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وأخرى من تحتها، توهي منقضة في الهواء والناس ينظرون إليها! فأوحى الله تعالى: يا عيسى هذه المائدة، فمن كفر بعد ذلك " منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ". فبلغ عيسى قومه فقالوا: نعم، فقال الله: يا عيسى إن كفروا أخذتهم بالشرط. ونزلت المائدة وعيسى يبكي ويقول: إلهي اجعل رحمةً ولا تجعلها عذاباً! كم أسألك من العجائب " فتعطني، إلهي، أعوذ بك أن يكون نزولها عذاباً ورجزاً، وأسألك أن تجعلها عافيةً وسلامةً، ولا تجعلها مثلة ولا فتنة. فما زال " يدعو ويتضرع حتى استقرت بين يدي عيسى، والناس حوله " يجدون ريح " طيبها، لم يجدوا ريحاً قط أطيب منها، فخر عيسى ساجداً، وسجد الحواريون معه.
وبلغ ذلك اليهود. فأقبلوا مغمومين مكروبين، فنظروا إلى أمرٍ معجب، فإذا سفرة مغطاة بمنديل، فرفع عيسى راسه واستوى قاعداً، فقال: لننظر من كان خيرنا وأوثقنا بنفسه، وأحسننا عملاً عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر إليها ونأكل منها ونحمد الله عليها؛ فقال الحواريون: أنت أولانا وأحقنا يا روح الله! فقام عيسى فتوضأ وضوءاً حسناً وصلى صلاة حسنة، ودعا دعاءً كثيراً وبكى بكاءً طويلاً، ثم جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين وكشف المنديل، فإذا سمكة مشوية وليس عليها فلوس ولا فيها شوك، يسيل السمن منها سيلاناً وقد نذد حولها من ألوان البقول إلا الكراث، وخل عند رأسها وملح عند ذنبها، وخمسة أرغفة على كل رغيف زيتون وخمس رمانات وتميرات، فقال شمعون وهو رأس الحواريين: يا روح الله وكلمته! أمن طعام الدنيا أو من طعتم الآخرة؟ فقال عيسى: ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا! فقال: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بما سألتك عنه سوءاً، فقال عيسى: نزلت وما عليها من السماء، وليس شيء منها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، وهي مما ابتدعه الله بالقدرة البالغة، فقال: كن فكان، فقال: كلوا مما سألتم واذكروا اسم الله عليه واحمدوا إلهكم واشكروه يزدكم، فإنه القادر على ما يشاء إذا يشاء، فقال الحواريون: يا روح الله! كن أنت أول من يأكل منها ثم نأكل منها، فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها الذي سألها وطلبها.
وفرق الحواريون أن يكون " نزولها سخطة ومثلة، فلم يأكلو منها، فدعا عيسى لها أهل الفاقة والزمانة من العميان والمجذمين والمجانين والمخبلين، وهذا الضرب من أنواع البلاء من الناس، فقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، وآية من ربكم، فليكن مهناها لكم وبلاؤها لغيركم " فأكلوا، فصدر عن تلك السمكة والطعام " ألف وثلاث مئة من بين رجل وامرأة شباعاً " يتجشؤون من بين فقيرٍ جائع، وزمنٍ ناقهٍ رغيب، ثم نظر عيسى إلى السفرة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثم رفعت إلى السماء وهم ينظرون
إليها صاعدة، وينظرون إلى ظلها حتى توارت، فاستغنى كل فقير أكل منها حتى مات، وبرأ كل مبتلى يومئذٍ فلم يزل صحيحاً غنياً حتى مات، وندم الحواريون وندم سائر الناس ندامةً شابت حواجبهم وأشفار أعينهم، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان يسعون، يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل صغير ضعيف ومريض، يركب بعضهم بعضاً، حتى جعلها عيسى نوائب فيما بينهم، ثم كانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، كناقة ثمود، ترعى يوماً وترد يوماً فلبثوا بذلك أربعين صباحاً، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، فإذا فاء الفيء ارتفعت صاعدةُ في السماء؛ ثم أوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي ورزقي لليتامى والزمنى والفقراء دون الأغنياء، فتعاظم ذلك عند الأغنياء، وأذاعوا القبيح وارتابوا وشكوا فيها، ووقعت الفتنة في قلوب المرتابين حتى قال قائلهم: يا روح الله وكلمته! إن المائدة بحق أنها تنزل من عند ربنا؟ فقال: عيسى ويلك هلطتم! العذاب نازلٌ بكم إلا أن يعفو الله ويرحمكم.
فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بالشرط الذي اشترطت، إني معذب منهم من كفر بعد نزولها بعذاب " لا أعذبه أحداً من العالمين " فقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وخبرهم بنزول العذاب عليهم، فمسخ الله منهم ثلاثةً وثلاثين رجلاً خنازير، وأصبحوا يأكلون العذرة في الحشوش ويتبعون الزبل في الطرق، وكانوا باتوا أول الليل على فرشهم مع نسائهم آمنين في دورهم، في أحسن صورةٍ وأوسع رزق فأصبحوا خنازير، وأصبح الناس - من بقي - خائفين من عقوبة الله، وعيسى يبكي ويتضرع وأهلوهم يبكون معه عليهم. وجاءت الخنازير تسعى إلى عيسى حين أبصرته، فطفقوا وعيسى يدعوهم: يا فلان يا فلان، فيقول برأسه: نعم، فيقول: ألم أنذركم عقوبة الله؟ فيقولون برؤوسهم: أي نعم، وأحذركم وأخوفكم عذابه! وكأني كنت انظر إليكم في غير صوركم؛ وذلك قوله تعالى: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وأنزل الله على
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات " ثم إن عيسى سأل ربه أن يميتهم، فأماتهم بعد ثلاثة أيام؛ فما رأى أحدٌ من الناس لهم جيفةٌ في الأرض لأن العقوبة إذا نزلت من الله استأصلت، فنعوذ بالله من غضبه.
قالوا: وكان ذلك بين إيلياء وبين أرض الروم.
وفي رواية: فأكلوا، فصدر عنها سبعة آلاف شباعاً - وفي رواية اثنا هشر ألفاً - فكانت المائدة تنزل عليهم أربعين صباحاً، فعمد قومٌ منهم فخبنوا منه، فقال لهم الحواريون: لا تفعلوا فإنكم إن فعلتم عذبتم. وكان قومٌ منهم مداهنين فقال: دعوهم وما الذي يتخوفون عليهم، إنكاراً لما قالوا لهم، فقال الذين جهلوا: ما سمعتهم بساحرٍ يخرج في آخر الزمان يزرع من يومه ويحصد من يومه، ويطعم الناس من يومه فغضب الحواريون وغيروا عليهم، وسكت المداهنون؛ فانطلق الحواريون إلى عيسى فأخبروه بذلك، فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بشرطي. فاعتزل عيسى والحواريون عن عسكرهم، فلما كان عند وجه الصبح بعث الله عز وجل جبريل عليه السلام فصاح عليهم صيحةً فزعوا فحولوا عن صورهم خنازير، فلما أصبحوا نادى منادي عيسى بالرحيل، وكان يرتحل بفلس، فلم يخرج من عسكر القوم، فأقام عيسى حتى أسفر، فنظر الناس إليهم فقالوا: يا عجباً خنازير لها أذناب يسمع لها وحاوح! فلما رأى ذلك عيسى بكى بكاءً شديداً. قال: فجعلوا يومون برؤوسهم إلى عيسى أن ادع ربك، وعيسى يدعوهم بأسمائهم ويقول: ألم أنهكم؟ فيومون برؤوسهم أن نعم، فمضى عيسى عليه السلام، فأوحى الله عز وجل إليه أن يقيم بمكانه ثلاثة أيام، فأقام عيسى، فاجتمع الناس ينظرون إليهم، ثم ارتحل عنهم، فأخذت الخنازير على إثر عيسى، فأوحى الله إلى الأرض أن خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم على المحجة أربعة أيام، ينظر الناس إليهم ثم أماتهم بعد سبعة أيام، ثم أوحى الله إلى الأرض أن اخسفي بهم، فخسفت بهم فطهر الله الأرض من خسيفتهم، فانكسرت اليهود أعداء الله، فقطعت
السنتهم عن عيسى بن مريم فذلك قول الله عز وجل: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " فأما الخنازير على لسان عيسى، وأما القردة فهم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت وهم على لسان داود.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: عندما قال لهم: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها شيء ابتدعه الله تعالى بالقدرة الغالبة، إنما قال كن فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمدكم ويردكم فإنه القادر البديع لما يشاء، إذا شاء يقول له كن فيكون. قالوا: يا روح الله وكلمته! إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة، فقال عيسى: يا سمكة أحيي بإذن الله! فاضطربت السمكة طرية تدور عيناها، لها بصيص تلمظ بفيها كما يتلمظ السبع، وعاد عليها فلوسها، ففزع القوم! فقال عيسى: ما لكم تسألون الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه! ما أخوفني أن يعبدوا هذه السمكة! قال: عودي كما كنت بإذن الله. قال: فعادت مشويةً في حالها. قال: كن يا روح الله أول من يأكل ثم نأكل بعد، قال عيسى: معاذ الله بل يأكل من طلبها وسألها ... الحديث.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: كان وزير لعيسى ركب يوماً فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: أي رب! وزيري في ينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبك فأكله، قال: نعم، كانت له عندي منزلةٌ رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مر ثلاثة نفرٍ على عيسى بن مريم فقال: يموت أحد هؤلاء اليوم إن شاء الله؛ فراحوا عليه بالعشي عليهم حزم الحطب، فقال لهم: ألقوا، فألقوا، فإذا حيةٌ سوداء في حزمة الذي قال يموت إن شاء الله، فقال: ما عملت اليوم؟ قال: ما علمت شيئاً! قال لتخبرني،
قال: ما عملت شيئاً إلا أنه كانت معي فدرةً من خبز كانت بيدي، فمر علي مسكين، فأعطيته بعضها، فقال: بهذه منعت. أو قال: نجوت.
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم، فانطلقوا يطلبونه، فإذا هو قد انطلق نحو البحر، وإذا هو يمشي على الماء، فقال له رجل منهم: يا نبي الله! أجيء إليك؟ قال: نعم، فذهب يرفع رجلاً ويضع أخرى فإذا هو في الماء، فقال له عيسى: ناولني يدك يا قصير اليقين، فلو أن لابن آدم من اليقين قدر ذرةٍ لمشى على الماء.
وعن فضيل بن عياض قال:
قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذاً، قال: فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: مالكم، قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج! قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر أو حصى، فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب قال فإنهما عندي سواء.
وعن ابن عباس قال: خرج عيسى بن مريم يستسقي بالناس، فأوحى الله عز وجل إليه: لا يستسقي معك خطاء. فأخبرهم بذلك فقال: من كان من أهل الخطايا فليعتزل، فاعتزل الناس كلهم إلا رجلاً مصاباً بعينه اليمنى، فقال له عيسى: مالك لا تعتزل؟ قال: يا روح الله! ما عصيت الله طرفة عين، ولقد التفت فنظرت بعيني هذه إلى قدم امرأةٍ من غير أن كنت أردت النظر إليها فقلعتها، ولو كنت نظرت إليها باليسرى لقلعتها. قال: فبكى عيسى حتى ابتلت لحيته بدموعه، ثم قال: فادع فأنت أحق بالدعاء مني، فإني معصومٌ بالوحي، وأنت لم تعصم ولم تعص. فتقدم الرجل فرفع يديه وقال: اللهم إنك خلقتنا وقد علمت ما نعمل من قبل أن تخلقنا، فلم يمنعك ذلك ألا تخلقنا، فكما خلقتنا وتكلفت
بأرزاقنا فأرسل السماء علينا مدرارا. فو الذي نفس عيسى بيده ما خرجت الكلمة تامةٌ من فيه حتى أرخت السماء عزاليها، وسقي الحاضر والباد.
وفي رواية: فقال له عيسى: ادع وأنا أؤمن. فدعا وأمن عيسى، فسقاهم الله.
وفي رواية: قال بل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا عيسى صلى الله على نبينا وعليه، وأمن الرجل، فما رجعوا حتى كادوا أن يدركهم الغرق.
قال الشعبي: كان عيسى بن مريم إذا ذكر عنده الساعة صاح، ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة فيسكت.
وكان عيسى إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: كيف أصبحت يا روح الله؟ قال أصبحت وربي من فوقي، والنار أمامي، والموت في طلبي، لا أملك ما أرجو، ولا أطيق دفع ما أكره، فأي فقيرٍ أفقر مني.
وعن جعفر بن برقان أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بعمل، فلا فقير أفقر مني! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط علي من لا يرحمني.
وعن يونس بن عبيد قال: كان عيسى بن مريم يقول: لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا.
وقال الفضل: قال عيسى: فكرت في الخلق، فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق.
وقوله عز وجل: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " قال: ذاك عيسى بن مريم كان يأكل من غزل أمه.
وكان عيسى بن مريم عليه السلام يأكل الشجر ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسى، لم يكن له ولد فيموت، ولا بيت يخرب ولا يخبأ غداءلٌ لعشاء، ولا عشاء لغداء؛ وكان يقول: كل يومٍ يجيء معه رزقه.
وعن سعيد بن عبد العزيز أن عيسى نظر إلى إبليس فقال: هذا آثر كون الدنيا، إليها خرج وإياها سأل، لا أشركه في شيءٍ منها ولا حجراً أضعه تحت رأسي فلا أكشر فيها ضاحكاً حتى أخرج منها.
وعن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة، قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
قال: وقال الحسن: إن عيسى بن مريم مر به إبليس يوماً وهو متوسد حجراً وقد وجد لذة النوم، فقال له إبليس: يا عيسى، أليس تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا، فقام عيسى غضبان، ثم أخذ الحجر فرمى به فقال: هذا لك مع الدنيا يا إبليس! فلعمري إن الدنيا مزرعةً لك، وإن أهلها لك عمال.
قال الحسن: كان عيسى يمشي على الماء، فقال له الحواريون: يا روح الله إنك لتمشي على الماء! قال: نعم، ذلك باليقين بالله، قالوا: إنا بالله لموقنون، قال لهم عيسى: تقولون لو عرض لكم في الطريق در وحجر أيما كنتم تأخذون؟ قالوا: الدر، قال: لا والله حتى يكون الدر والياقوت مثل الحجارة عندكم سواء.
وقال الحسن: إن عيسى بن مريم أصابه الحر وهو صائم حتى اشتد به، فقالوا: يا روح الله وكلمته! لو بنينا لك بيتاً تسكنه ويكنك من الحر والبرد، قال: لا حاجة لي به فألحوا عليه، فأذن لهم فبنوا عريشاً، فلما دخله فنظر إليه قال: سبحان الله! أعادي أنا!؟ إنما أردت بيتاً إذا جلست أصاب رأسي سقفه، وإذا اضطجعت أصاب جنبي حائطه، ولا حاجة لي بهذا. فلم يسكن بعدها ظل بيتٍ حتى رفع.
قال: وقال الحسن: فوالله لو لم يعذبنا الله إلا بحبنا الدنيا لعذبنا، لأن الله يقول: أحببت شيئاً أبغضه ولقول الله تعالى: " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ".
وحدث مكحول عن كعب أن عيسى بن مريم كان يأكل الشعير ويمشي على رجليه، ولا يركب الدواب ولا يسكن البيوت ولا يصطحب السراج، ولا يلبس الكراسف - يعني القطن - ولم يمس النساء، ولم يمس الطيب، ولم يمزج شرابه بشيءٍ قط، ولم يبرده، ولم يدهن رأسه قط، ولم يقرب رأسه ولحيته غسولٌ قط، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئاً قط إلا لباسه، ولم يهتم لغداءٍ قط ولا لعشاء قط، ولا اشتهى شيئاً من شهوات الدنيا؛ وكان يجالس الضعفاء والمنى والمساكين. وكان إذا قرب إليه طعام على شيءٍ وضعه على الأرض، ولم يأكل مع الطعام إداماً قط؛ وكان يجتزئ من الدنيا بالقوت القليل ويقول: هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير.
قيل لعيسى بن مريم: تزوج، قال: وما أصنع بالتزويج؟ قالوا: تلد لك الأولاد، قال: الأولاد إن عاشوا أفتنوا، وإن ماتوا أحزنوا.
وعن ثابت البناني قال: قيل لعيسى بن مريم: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك، قال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه.
أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى لو رأت عيناك ما أعددت لعبادي الصالحين لذاب قلبك، وزهقت نفسك اشتياقاً إليه.
قال مالك بن دينار: قالوا لعيسى بن مريم: يا روح الله! ألا نبني لك بيتاً؟ قال: ابنوه على شاطئ البحر، قالوا: إذن يجيء الماء فيذهب به! قال: أين تريدون؟ تبنون لي على القنطرة؟.
قيل لعيسى: لو اتخذت بيتاً، قال: يكفينا خلقان من كان قبلنا.
قال ميسرة: ما بنى عيسى بيتاً، فقيل له: ألا تبني؟ فقال: لا أترك بعدي شيئاً من الدنيا أذكر به.
وعن أبي سلمان قال: بينما عيسى يمشي في يومٍ صائف، وقد مشه الحر والشمس والعطش، فجلس في ظل خيمة، فخرج إليه صاحب الخيمة فقال: يا عبد الله، قم من ظلنا، فقام عيسى فجلس في الشمس وقال: ليس أنت الذي أقمتني، إنما أقامني الذي لم يرد أن أصيب من الدنيا شيئاً.
دخل عيسى بن مريم ذات يوم خربةً فمطرت السماء، فنظر إلى ثعلب قد أقبل مستذفراً بذنبه حتى دخل جحره فقال: الحمد لله الذي جعل لكل شيءٍ مأوى إلا عيسى بن مريم لا مأوى له، فإذا هو بصوت: يا بن مريم، ادخل الفج، فدخل الفج فإذا هو برجلٍ قائمٍ يصلي، فأقام عنده ثمانية عشر يوماً ينتظره لينفتل من صلاته فيكلمه، فلما انفتل قال له: يا عبد الله! ما الذي أذنبت؟ فأقبل العابد على البكاء وقال: يا روح الله، أذنبت ذنباً عظيماً، قال: وما هو؟ قال: قلت يوماً لشيءٍ كان: يا ليته لم يكن.
قال المعتمر بن سليمان التيمي: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبةٌ من صوف وكساءٌ وتبان حافياً باكياً شعثاً،
مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس، غني مكثر، فمن أغنى مني وأربح!؟.
قال محمد بن سباع النميري:
بينما عيسى بن مريم يسيح في بعض بلاد الشام إذ اشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه، فرفعت له خيمةٌ من بعيد، فأتاها، فإذا فيها امرأة! فحاد عنها، فإذا هو بكهفٍ في جبل، فأتاه فإذا في الكهف أسد، فوضع يده عليه ثم قال: إلهي! جعلت لكل شيءٍ مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأجابه الجليل تعالى: مأواك عندي في مشتقر من رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مئة حوراء خلقاء بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، يومٌ منها كعمر الدنيا، وآمرن منادياً ينادري: أين الزهاد في دار الدنيا زوروا عرس الزاهد عيسى بن مريم.
وعن أبي رافع قال: رفع عيسى بن مريم وعليه مدرعة وخفا راعٍ، وخذافةٌ يخذف بها الطير.
وفي رواية: ما ترك عيسى بن مريم حين رفع إلا مدرعة صوف، وخفي راعٍ، وقذافةٌ يقذف بها الطير.
وعن سفيان بن عيينة قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك اتركوا لهم الدنيا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: معاشر الحواريين إن خشية الله وحب الفردوس تورثان الصبر على المشقة، وتباعدان من زهرة الدنيا، وفي رواية: وتبعدان العبد من راحة الدنيا.
وعن ابن عمر قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كلوا الخبز الشعير، واشربوا ماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، لحق ما أقول لكم: إن حلاوة الدنيا مارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين؛ لحق ما أقول لكم: إن شركم عالمٌ يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله، ما أحب إلى عبيد الدنيا أن يجدوا معذرة وأبعدهم منها لو كانوا يعلمون!.
وعن أب يهريرة قال: كان عيسى بن مريم يقول لأصحابه: اتخذوا المساجد مساكن والبيوت منازل، وكلوا من بقل البرية، وانجوا من الدنيا بسلام، واشربوا من الماء القراح.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، عليكم بالماء القراح والبقل البري، والخبز الشعير، وإياكم وخبز البر، فإنكم لن تقوموا بشكره.
قال أنس بن مالك: كان طعام عيسى القاقلى حتى رفع؛ ولم يأكل عيسى عليه السلام شيئاً غيرته النار حتى رفع.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، اتخذوا مساجد الله بيوتاً، واتخذوا بيوتكم كمنازل الأضياف، مالكم في العالم من منزل، إن أنتم إلا عابري سبيل.
وعن عتبة بن يزيد قال: قال عيسى بن مريم: ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكل كسرتك من حلال، واتخذ المسجد بيتاً، وكن في الدنيا ضيفاً، وعود نفسك البكاء، وقلبك التفكير، وجسدك الصبر، ولا تهتم برزق غدٍ، فإنها خطيئةٌ تكتب عليك.
قال وهيب المكي: بلغني أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين أنى كتبت لكم الدنيا فلا
تنعشوها، فإنه لا خير في دارٍ قد عصي الله فيها، ولا خير في دارٍ لا تدرك الآخرة إلا بتركها؛ فاعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئةٍ حب الدنيا، ورب شهوةٍ أورثت أهلها حزناً طويلاً.
وعن وهيب قال: قال عيسى بن مريم: أربع لا تجتمع في أحدٍ من الناس إلا يعجب: الصمت، وهو أول العبادة؛ والتواضع لله؛ والزهادة في الدنيا؛ وقلة الشيء.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: إنما تطلب الدنيا لتبر، فتركها أبر! روي أن ملكاً من الملوك بدمشق يقال له: هداد بن هداد صنع طعاماً ودعا إليه الناس، وكان فيمن دعا عيسى وحواريه، فقال المسيح لحواريه: لا تذهبوا. وخرج بهم فأتى بهم شاطئ بردى فأخرجوا كسراً لهم، فجعلوا يبلونها في الماء ويأكلون، فقال المسيح: يا معشر الحواريين! عجباً للملوك وما أوتوا في هذه الدنيا، وما يصنع بهم يوم القيامة! يا معشر الحواريين! إن الله قد بطح لكم الدنيا على وجهها، وأجلسكم على ظهرها، فليس يشارككم فيها إلا الشياطين والملوك، فأما الشياطين فاستعينوا عليهم بالصوم والصلاة، وأما الملوك فدعوهم والدنيا يدعوكم والآخرة.
كان عيسى يقول لأصحابه: بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وبالنظرة تزرع الشهوة في القلب، وكفى بها خطيئة.
كان عيسى يقول: حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كبير، قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله.
وعن شعيب بن صالح قال:
قال عيسى بن مريم: ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث: شغلٍ
لا ينفك عناه؛ وفقرٍ لا يدرك منتهاه. الدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ؛ فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنق.
وعن زرعة بن إبراهيم قال: قال المسيح: بحق أقول: كما لا يستطيع أحدكم أن يبني على موج البحر داراً، كذاكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً.
وعن سفيان الثوري قال: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن، كما لايستقيم الماء والنار في إناء.
قال ابن شوذب: مر عيسى صلوات الله عليه على نبينا وعليه وسلم بقومٍ يبكون على ذنوبهم فقال لهم: ارتكوها يغفر لكم.
وعن أبي عبد الله الصوفي قال: قال عيسى بن مريم: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى تقتله.
قال عيسى: إن الشيطان مع الدنيا، ومكره مع المال، وتزيينه عند الهوى، واتمكانه عند الشهوات.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: كن وسطاً وامش جانباً.
وعن يزيد بن ميسرة قال: قال عيسى بن مريم: بحق أقول لكم: كما تواضعون، كذلك ترفعون، وكما ترحمون كذلك ترحمون، وكما تقضون من حوائج الناس، كذلك يقضي الله من حوائجكم.
وعن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم إذا صنع الطعام فدعا القراء قام عليهم ثم قال: هكذا فافعلوا بالقراء.
وعن ابن شابور قال: قال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوةٌ حاضرة لموعودٍ لم يره.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته.
وعن خيثمة قال: مرت بعيسى امرأة فقالت: طوبى لحجرٍ حملك، ولثديٍ رضعت منه! فقال: بل طوبى لمن قرأ القرآن ثم عمل به.
وعن بشر بن صالح قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لعينٍ نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: كان عيسى يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما. وكان يقول: اعملوا، الليل لما خلق له، واعملوا، النهار لما خلق له.
وعن خالد الربعي قال: نبئت أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أرأيتم لو مررتم على رجلٍ وهو نائم، وقد كشفت الريح عنه ثوبه؟ قالوا: كنا نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قالوا: سبحان الله! نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قال: مثل ضربه للقوم، يسمعون عن الرجل بالسيئة، فيزيدون عليه ويذكرون أكثر منها.
وعن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما ذاك مكافأةٌ بالمعروف، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
قال يزيد بن المهلب: من البسيط
خير الخليلين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً منه لانتصرا
فإن قدرت فكن للعفو مغتنماً ... فإنما يحمد العافي إذا قدرا
واللؤم أن تبخس الأكفاء حقهم ... بالجاه إن زاد أو بالمال إن كثرا
ولا تقولن لي دنيا أصول بها ... فإنما لك منها حسن ما ذكرا
وعن المبارك قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام مر بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومر بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين: كلما زادوا شراً زدتهم خيراً! كأنك تغريهم بنفسك، قال عيسى: كل إنسان يعطي ما عنده.
قال مالك بن أنس: مر بعيسى بن مريم خنزير فقال: مر بسلام، فقالوا له: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟ قال: أكره أن أعود لساني الشر.
قال مالك بن دينار: مر عيسى بن مريم والحواريين على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا! فقال عيسى: ما أشد بياض أسنانه! يعظهم ينهاهم عن الغيبة.
قال عيسى بن مريم: دع الناس فليكونوا منك في راحة، ولتكن نفسك منهم في شغل، دعهم فلا تلتمس محامدهم ولا تكتسب مذامهم، وعليك بما وكلت به.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم من حديث: الأيام ثلاثة: فيوم مضى وعظمت به؛ ويومك الذي أنت فيه لك منه زادك؛ وغداً لا تدري ما لك فيه.
وعن سفيان قال: قالوا لعيسى بن مريم: دلنا على عملٍ ندخل به الجنة؟ قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك! قال: فلا تنطقوا إلا بخير.
وعن عيسى بن مريم أنه قال: لقد دخلت أعمال العباد عند الله في ثلاثة أحرف الذين يرجون بها الخير: في المنطق؛ والصمت؛ والنظر؛ فما كان من منطقٍ ليس فيه ذكر فهو لغو؛ وما كان من صمتٍ ليس فيه تفكير فهو سهو، وما كان من نظرٍ ليس فيه عبرةٌ فهو غفاة. فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، وصمته تفكيراً، ونظره عبراً؛ وملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وأمن الناس من شره. يا بن آدم، كن وديعاً يحبك الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، ولا تؤذي جارك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإنه يميت القلب.
وعن عبد العزيز بن حصين قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: من ساء خلقه عذب نفسه، ومن كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت كرامته - وفي رواية: سقطت مروءته - ومن كثر همه سقم بدنه.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق؛ كونوا منتقدي الكلام، لكيما لا يجوز عليكم الزيوف.
وعن زكريا بن عدي قال: قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا.
وفي ذلك يقول الشاعر: من البسيط
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن باللله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وعن عمرو بن قيس قال: قال عيسى بن مريم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله، ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوب أنفسكم كهيئة العبيد؛ فإنما الناس اثنان: مبتلى ومعافى، فاحمدوه على العافية، وارحموا المبتلى.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى لأصحابه: بحق أقول لكم: إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطوناً من الطير فانظروا إلى هذه الأنافر من الوحش والحمير، فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها. اتقوا فضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله رجز.
وعن أنس بن مالك: أن عيسى بن مريم كان يقول: لا يطيق عبدٌ أن يكون له ربان إن أرضى أحدهما أسخط الآخر، وإن أسخط أحدهما أرضى الآخر، وكذلك لا يطيق عبد أن يكون خادماً للدنيا، يعمل عمل الآخرة؛ بحق أقول لكم، لا تهتموا بما لا تأكلون ولا
ما تشربون فإن الله عز وجل لم يخلق نفساً أعظم من رزقها، ولا جسداً أعظم من كسوته، فاعتبروا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: لو أن ابن آدم عمل بأعمال البر كلها وحب في الله ليس، وبغض في الله ليس، ما أغنى ذلك عنه شيئاً.
قال المقبري: كان عيسى عليه السلام يقول: يا بن آدم، إذا عملت الحسنة فاله عنها، فإنها عند من لا يضيعها. ثم تلا هذه الآية: " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " وإذا عملت سيئة فاجعلها نصب عينيك.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: جاء رجلٌ إلى عيسى بن مريم فقال: يا معلم الخير! علمني شيئاً تعلمه وأجهله، ينفعني ولا يضرك. قال: وما هو؟ قال: كيف يكون العبد لله تقياً؟ قال: بيسيرٍ من الأمر؛ تحب الله حقاً من قلبك، وتعمل لله بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم بني جنسك رحمتك نفسك. فقال: يا معلم الخير! من بنو جنسي؟ فقال: ولد آدم كلهم، وما تحب أن لا تؤتاه فلا تأته إلى غيرك وأنت تقي لله حقاً.
كان عيسى بن مريم يقول: من كان يظن أن حرصاً يزيد في رزقه فليزد في طوله أو في عرضه أو في عدد بنانه أو ليغير لونه! ألا فإن الله خلق الخلق، فمضى الخلق لما خلق، ثم قسم الرزق فمضى الرزق لما قسم، فليست الدنيا بمعطيةٍ أحداً شيئاً ليس له، ولا بمانعةٍ أحداً شيئاً هو له، فعلسكم بعبادة ربكم فإنكم خلقتم لها.
وعن فضيل قال:
قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، إن ابن آدم خلق في الدنيا في أربع منازل، هو في ثلاث منهن بالله واثق، حسن ظنه فيهن بربه، وهو في الرابع سيئ ظنه
بربه، يخاف خذلان الله إياه؛ أما المنزلة الأولى فإنه خلق في بطن أمه خلقاً من بعد خلق، في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ينزل الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن فإذا خرج من البطن وقع في اللبن، لا يخطو إليه بقدم، ولا يتناوله بيد، ولا ينهض إليه بقوة، ولا يأخذه بحرفةٍ يكره عليه إكراهاً ويؤجر ايجاراً، حتى ينبت عليه عظمه ولحمه ودمه، فإذا ارتفع عن اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام من أبويه يكسبان عليه من حلالٍ أو حرام، فإن مات أبواه عن عير شيء تركاه عطف عليه الناس، هذا يطعمه وهذا يسقيه وهذا يؤويه؛ فإذا وقع في المنزلة الرابعة، فاشتد واستوى واجتمع وكان رجلاً، خشي أن لا يرزقه الله، فوثب على الناس يخون أماناتهم ويسرق أمتعاتهم، ويذبحهم على أموالهم مخافة خذلان الله إياه.
كان عيسى عليه السلام يقول: إن الذي يصلي ويصوم ولا يترك الخطايا مكتوبٌ في الملكوت كذاباً.
قال الحواريون لعيسى بن مريم: مال الخالص من العمل؟ قال: مالا تحب أن يحمدك الناس عليه، قال: فما النصوح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حقوق الناس، وإن عرض لك أمران، أحدهما لله عز وجل، وألاخر للدنيا، بدأت بحق الله تبارك وتعالى.
وفي غيره: من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل ... الحديث، وفي آخره: وإذا عرض له أمران، أمر الدنيا وأمر الآخرة، بدأ بأمر الآخرة ثم تفرغ لأمر الدنيا بعد.
وقال عيسى: العمل الصالح الذي لا تحب أن يحمك الناس عليه.
وقال عيسى علسه السلام: لا يجد أحدٌ حقيقة الإيمان حتى لا يحب أن يحمد على طاعة الله عز وجل.
وعن هلال بن يساف قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إذا كان يوم يصوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه ويخرج إلى الناس حتى كأنه ليس بصائم، وإذا أعطى بيمينه فليخفه من شماله، وإذا صلى أحدكم فليدل ستر بابه - يعني يرخيه - فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.
وعن ابن حلبس قال: قال عيسى بن مريم: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزاً بغير حق أورثه الله ذلاً بحق، ومن أخذ مالاً بظلم أورثه الله فقراً بغير ظلم.
قال سعيد المقبري: سأل رجلٌ عيسى بن مريم: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال: أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم.
وعن وهيب بن الورد قال: قال يحيى لعيسى عليهما السلام: يا روح الله، ما أشد خلق الله؟ قال: غضب الله، قال: فأخبرني بشيءٍ أتقي به غضب الله؟ قال: لا تغضب.
وعن عمار بن سعد قال: لقي يحيى بن زكريا عيسى بن مريم، فقال يحيى لعيسى: يا روح الله وكلمته حدثني، فقال عيسى: بل أنت فحدثني أنت خيرٌ مني جعلك الله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، فقال له يحيى: أنت خيرٌ مني أنت روح الله وكلمته، تصعد مع الروح فحدثني بم يبعد من غضب الله؟ قال له عيسى: لا تغضب، قال: يا روح الله ما يبدي الغضب ويثنيه أو يعيده؟ قال: التعزز والفخر والحمية والعظمة، قال: يا روح الله! هؤلاء شدادٌ كلهن، فكيف لي بهن؟ قال: سكن الروح واكظم الغيظ، ثم قال له: وإياك واللهو غبسخط الله عليك، وإياك والزنى فإنه من غضب الرب، قال: يا روح الله! ما يبدي الزنى ويعيده أو يثنيه؟ قال: النظر والشهوة وأتباعهما، لا تكن حديد النظر إلى ما ليس لك، فإنه لن يزني فرجك ما حفظت عينيك، فإن استطعت أن لا تنظر إلى ثوب المرأة التي لا تحل لك، ولن تستطيع ذلك إلا بالله.
وعن عمران بن سليمان قال: بلغني أن عيسى قال لأصحابه: إن كنتم إخواني وأصحابي فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون
ما تحبون إلا بالصبر على نا تكرهون؛ طوبى لمن كان بصره في قلبه، ولم يكن قلبه في بصره.
وعن عثمان بن الأسود قال: قال عيسى بن مريم: أي رب! أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي.
وعن مالك بن مغول قال:
بلغنا أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين، تحببوا إلى الله ببغضكم أهل المعاصي، وتقربوا إليه بما يباعدكم منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. قال: لا أدري بأيتهن بدأ، قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ومن يزيد في عملكم منطقه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله.
وعن معتمر بن سلمان قال: قال عيسى بن مريم: كانت الدنيا قبل أن أكون فيها، وهي كائنةٌ بعدي، وإنما لي فيها أيامٌ معدودة، فإذا لم أسعد في أيامي فمتى أسعد؟! وعن يزيد بن ميسرة قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله! انظر إلى مسجد الله ما أحسنه! قال: آمين آمين، بحق أقول لكم: لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئاً، إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة، وبها يعمر الله الأرض وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك.
قال مالك بن مغول: بلغنا أن عيسى مر بخربة فقال: يا خربة الخربين - أو قال: يا خربة خربت - أين أهلك؟ فأجابه منها شيء فقال: يا روح الله! بادوا فاجتهد. أو قال: فإن أمر الله جد، فجد.
وعن ابن عباد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مر عيسى على مدينة خربة فأعجبه البنيان فقال: أي رب! مر هذه المدينة أن تجيبني، فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى. قال: فنادت
الملائكة: عيسى حبيبي وما تريد مني؟ قال: ما فعل أشجارك؟ وما فعل أنهارك؟ وما فعل قصورك؟ وأين سكانك؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري ويبست أنهاري، وخربت قصوري، ومات سكاني؛ قال: فأين أموالهم؟ قالت: جمعوها من الحلال والحرام، موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والأرض. قال: فنادى عيسى: تعجبت من ثلاثة أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه؛ وباني القصور والقبر منزله؛ ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه. ابن آدم لا بالكثير تسبع ولا بالقليل تقنع! تجمع مالك لمن لا يحمدك! وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما يملأ بطنك إذا دخلت قبرك؛ وأنت يا بن آدم ترى حسد مالك في ميزان غيرك.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وعن عطارد - وكان بكى حتى ترح - قال: قال عيسى بن مريم: إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين وأنتم مقيمون مع المتحرين؟ إنما يبتغى من العلم القليل ومن العمل الكثير.
وعن عبد العزيز بن ظبيان وغيره قال: قال المسيح: من تعلم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء.
كان عيسى بن مريم يقول: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي.
ولمحمد بن يسير في هذا المعنى: من الرجز
ليس بعلمٍ ما يعي القمطر ... لا خير فيما لا يعيه الصدر
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكمة غير
أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم؛ والأمور ثلاثةٌ: بينٌ رشده فاتبعوه، وأمرٌ تبين لكم غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم غيه فردوا علمه إلى عز وجل.
وعن أبي فروة أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تمنع العلم من أهله فتأثم، ولا تنشره عن غير أهله فتجهل، وكن طبيباً رفيقاً يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع.
وفي رواية: إن منعت الحكمة أهلها جهلت، وإن أتحتها غير أهلها جهلت؛ كن كالطبيب المداوي إن رأى موضعاً للدواء وإلا أمسك.
وعن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئاً، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خيرٌ من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير.
وعن عمران الكوفي قال: قال عيسى بن مريم للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمون من الأجر إلا مثل الذي أعطيتموني، ويا ملح الأرض لا تفسدوا، فإن كل شيءٍ إذا فسد فإنما يداوى بالملح، وإن الملح إذا فسد فليس له دواء، واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر.
قيل لعيسى بن مريم: يا روح الله! من أشد الناس فتنةٌ؟ قال: زلة العالم، إذا زل العالم زل بزلته عالمٌ كثير.
وعن سفيان بن عيينة قال:
قال المسيح: ويلكم يا علماء السوء، لا تكونوا كالمنخل، يخرج منه الدقيق الطيب فيمر ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ ويحكم! إن الذي يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه الماء، وإن جهد أن لا يصيبه؛ كذلك من يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا.
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جعلتم الدنيا على رؤسكم والآخرة تحت أقدامكم ... الحديث.
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: ويلكم يا عبيد الدنيا! ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها! كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به. ما أكثر ثمار الشجر وليس كلها ينفع ولا يؤكل؟ وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم؟ فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف منكسين رؤوسهم إلى الأرض يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب، قولهم مخالفٌ فعلهم، من يجتني من الشوك العنب؟ ومن الحنظل التين؟ كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وخلا منه وعطله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل، ويلكم يا عبيد الدنيا؟ إن لكل شيءٍ علامةٌ يعرف بها وتشهد له أو عليه، وإن للدين ثلاث علاماتٍ يعرف بهن: الإيمان، والعلم، والعمل.
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جلستم على أبواب الجنة، فلا أنتم تدخلون الجنة، ولا تدعون المساكين يدخلونها؟ إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وعن عيسى المرادي قال: قال عيسى عليه السلام: إن كنتم أصحابي وإخواني فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لم تفعلوا فلستم لي بإخوان، إني إنما أعلمكم لتعلموا لا لتعجبوا، إنكم لا تبلغون ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، ولا تنالون ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون؛ إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصر عينه، ما أبعد ما فات، وما أدنى ما هو آت؟ ويل لصاحب الدنيا؟ كيف يموت وتتركه؟ ويثق بها وتغره؟ ويأمنها وتمكر به؟ ويل للمغترين؟ قد أزفهم ما يكرهون، وجاءهم ما يوعدون وفارقوا ما يجنون في طول
الليل والنهار؛ فويلٌ لمن كانت الدنيا همه، والخطايا عمله، كيف يقتضي غداٌ بربه؟ ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله ولكن لا تعلمون؛ لا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فاحمدوا الله على العافية وارحموا أهل البلاء؛ متى نزل الماء على جبل، ألا يلين له؟ ومذ متى درسون الحكمة ولا تلين لها قلوبكم؟ بقدر ما تواشعون كذلك ترحمون، وبقدر ما تحرثون كذلك تحصدون، علماء السوء مثلهم كمثل شجرة الدفلى تعجب من نظر إليها وتقتل من يأكلها، كلامكم شفاء يبرئ الداء وأعمالكم داءٌ لا يبرئه شفاء! جعلتم العلم تحت أدامكم مثل عبيد السوء؛ بحق أقول لكم: وكيف أرجو أن تنتفعوا بما أقول وأنتم الحكمة تخرج من أفواهكم ولا تدخل آذانكم، وإنما بينهما أربع أصابع، ولا تعيها قلوبكم، فلا أحرار كرام، ولا عبيد أتقياء.
ومن كلام عيسى بن مريم: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، ويلكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضيعون! يوشك رب العمل أن يطلب عمله، ويوشك أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه؛ الله نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصيام والصلاة؛ كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته؟ كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئاً أصابه؟ كيف يكون من أهل العلم من دنياه عنده آثر من آخرته، وهو في الدنيا أفضل رغبةٌ؟ كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى الآخرة وهو مقبلٌ على دنياه، وما يضره أشهى إليه مما ينفعه؟ كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخزنه ولا يطلبه ليعمل به؟! قال عبد الله بن المبارك:
قال عيسى بن مريم: يوشك أن يفضي بالصابر البلاء إلى الرضا، وبالفاجر الرخاء إلى البلاء.
وعنه قال: سيأتي على الناس زمان يفضي بالصابر فيه الصبر إلى البلاء ويفضي بالفاجر الفجور إلى الرخاء.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، زعمتم أن موسى نهاكم عن الزنى وصدقتم، وأنا أنهاكم عنه وأحدثكم أن مثل حديث النفس بالخطيئة كمثل الدخان في البيت، لا يحرقه، فإنه ينتن ريحه ويغير لونه، ومثل القادح بالخشبة، إلا يكسرها فإنه يعجزها ويضعفها.
قال عيسى عليه السلام لرجل: كن لربك كالحمام الألوف لأهله تذبح فراخه ولا يطير عنهم.
وعن وهب بن منبه قال: قال الحواريون لعيسى: من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى أجل الآخرة حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها أمر الحق وضعوه؛ خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، ونظروا إلى أهلها ضرعى قد خلت فيهم المثلات، فأحبوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة؛ يحبون الله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره؛ لهم خيرٌ عجيب، وعندهم الخبر العجيب؛ بهم قام الكتاب، وبه - يعني - قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه علموا؛ ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أمماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون.
وعن مكحول قال: التقى يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فضحك عيسى في وجه يحيى وصافحه، فقال له يحيى: يا بن خالتي! مالي أراك ضاحكاً كأنك قد أمنت؟ فقال له عيسى: يا بن خالتي! مالي أراك عابساً كأنك قد يئست؟ قال: فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وعن شهر بن حوشب قال: بينما عيسى جالس مع بني إسرائيل إذ أقبل طير منظوم الجناحين بالدر والياقوت كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين أيديهم، فقال عيسى: دعوه لا تنفروه، فإنما بعث إليكم، فحول مسلاخه، فخرج أحمر أقرع كأقبح ما يكون، ثم أتى بركةٌ فتلوث في حمأتها فخرج أسود، ثم استقبل جرية الماء فاغتسل، ثم عاد إلى مسلاخه ولبسه، فعاد إليه حسنه وجماله، فقال عيسى: إنما بعث هذا إليكم، مثل هذا المؤمن إذا وقع في الذنوب والخطايا، ذهب عنه حسنه وجماله، فإذا تاب وراجع عاد عليه حسنه وجماله.
بينما عيسى جالس وشيخ يعمل بمسحاته يثير بها الأرض فقال عيسى: اللهم انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعةٌ، فقال عيسى: اللهم اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فقال له عيسى: مالك بينما أنت تعمل ألقيت مسحاتك واضطجعن ساعةٌ، ثم إنك قمت بعد تعمل؟ فقال الشيخ: بينا أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخٌ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، قم قالت لي نفسي: والله ما بذلك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي.
قال إبراهيم التيمي: لقي عيسى بن مريم رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال أخي، فقال: أخوك أعبد منك.
وعن وهب بن منبه قال: كان عيسى واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلي فيه، وذكروا القبر ووحشته وظلمته وضيقه، فقال عيسى: كنتم في أضيق منه في أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين، ادعوا الله أن يهون علي هذه السكرة - يعني الموت - ثم قال: لقد خفت الموت خوفاً وقفني، مخافتي من الموت على الموت.
وعن عبد الجبار بن عبيد الله بن سليمان قال: أقبل عيسى بن مريم على أصحابه ليلة رفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله عز وجل، فإنكم لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر، الحجر منها خيرٌ من الدنيا وما فيها.
قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر " ورفع عليه السلام.
وعن الحسن قال:
لم يكن نبي كانت العجائب في زمانه أكثر من عيسى بن مريم إلى أن رفعه الله، ومن بعده في أصحابه، وكان من سبب رفعه أن ملكاً جباراً - وكان ملك بني إسرائيل - وهو الذي يقال له داود بن بوذا هو الذي بعث في طلبه ليقتله، وكان الله أنزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة ورفع وهو ابن أربعٍ وثلاثين سنة من ميلاده، وكان في نبوته عشرين سنة، فأحدث الله له الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فأوحى الله إليه " إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " يعني ومخلصك من اليهود فلا يصلون إلى قتلك.
قال وهب: قال كعب: متوفيك، أي مذيقك الموت ثم أرفعك. قال وهب: فأماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه الله ورفعه.
وقال ابن عباس: " إني متوفيك ورافعك " يعني رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان.
وعن الحسن: " إني متوفيك " قال: متوفيك من الأرض.
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم لما أعلمه الله عز وجل أنه خارجٌ من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاماً وقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم بيده ويوضئهم ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه وقال: ألا من رد علي الليلة شيئاً مما أصنع فليس مني ولا أنا منه؛ فأقروه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنت بكم عليها فتدعون الله وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاءٌ، ثم يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلةً واحدةً تعينوني فيها! قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمراً ولا نريد دعاءً إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلامٍ نحو هذا يبغي به نفسه، فقال: الحق أقول لكم: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك - ثلاث مرات - وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني. فخرجوا فتفرقوا.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما اجتمعت اليهود على أخي عيسى بن مريم ليقتلوه بزعمهم أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن أدرك عبدي، فهبط جبريل فإذا هو بسطرٍ في جناح جبريل فيه مكتوب لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، قال: يا عيسى قل، قال: وما أقول يا جبريل؟ قال قل: اللهم إني أسألك باسمك الواحد الأحد، أدعوك اللهم باسمك الصمد، أدعوك اللهم باسمك العظيم الوتر، الذي ملأ الأركان كلها إلا فرجت عني ما أمسيت فيه وأصبحت فيه؛ فدعا بها عيسى، فأوحى الله إلى جبريل أن ارفع إلي عبدي. ثم التفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، ادعوا بهؤلاء الكلمات، والذي بعثني بالحق نبياً، ما دعا قومٌ قط إلا اهتز له العرش والسماوات السبع، والأرضون السبع.
وعن عاشئة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر فقال: هل سمعت دعاءً علمنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: وما هو؟ قال: كان عيسى بن مريم يعلم أصحابه: يا فارج الهم وكاشف الغم! مجيب دعوة المضطرين! رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما! ارحمنا رحمةً تغنينا بها عن رحمة من سواك. أو كما قال.
وعن وهب أنه كان إذا قدم مكة تعلق بأستار الكعبة، فدعا بهذه الدعوات؛ وذكر وهب أنه دعاء عيسى عليه السلام وقت رفعه الله إليه، وهو دعاءٌ مستجاب: اللهم أنت القريب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك وحسرت الأبصار دون النظر إليك وغشيت دونك، وسبح بها الفلق في النور، أنت الذي جليت الظلم بنورك، فتباركت اللهم خالق الخلق بقدرتك، ومقدر الأمور بحكمتك، مبتدع الخلق بعظمتك، القاضي في كل شيء بعلمك، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات الطباق مذعنات لطاعتك، سما بهن العلو بسلطانك فأجبن وهن دخانٌ من خوفك، فأتين طائعاتٍ بأمرك، فيهن الملائكة يسبحونك ويقدسونك، وجعلت فيهن نوراً يجلو الظلام، وضياءً أضوأ الشمس، وجعلت فيهن مصابيح يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ورجوماً للشياطين؛ فتباركت اللهم في مفطور سماواتك، وفيما دحوت من أرضك، دحوتها على الماء فأذللت لها الماء المتظاهر، فذل لطاعتك وأذعن لأمرك، وخضع لقوتك أمواج البحار ففجرت فيها بعد البحار الأنهار، وبعد الأنهار العيون الغزار والينابيع، ثم أخرجت منها الأشجار والثمار، ثم جعلت على ظهرها الجبال أوتادا، فأطاعتك أطوادها، فتباركت اللهم صفتك، فمن يبلغ صفة قدرتك! ومن ينعت نعتك! تنزل الغيث وتثني السحاب، وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين، ل إلع إلا أنت، إنما يخشاك من عبادك العلماء الأكياس، أشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان لك شركاء يقضون معك فتدعوهم ويدعونك، ولا أعانك أحدٌ على خلقك فنشك فيك، أشهد أنك أحدٌ صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. قال وهب: فلما تم الدعاء رفعه الله إليه.
قال وهب: وهو للشقيقة من هذا الموضع: أشهد أنك لست بإلهٍ استحدثناك ... إلى آخرها.
وعن الفراء في قوله عز وجل: " ومكروا ومكر الله " معنى هذه الآية: أن عيسى غاب عن خالته زماناً فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي، فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس الجالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره، ومعه سيفٌ مسلول، فقالوا: إنه أنت عيسى. ألقى الله شبه عيسى عليه، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فقال جل جلاله: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ألقى شبهه عليه، ثم قال عز وجل: " ومكروا ومكر الله ".
وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً من عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماء؛ قال: فقال: إن منكم من سيكفر اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: نعم أنت ذاك. فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنةٍ في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتقرقوا ثلاث فرق؛ قالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه إليه وهم النسطورية؛ وقالت فرقة: كان عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في
زمان عيسى، والطائفة التي آمنت في زمان عيسى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " في إظهار محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينهم على دين الكفار فأصبحوا ظاهرين.
وعن ابن عباس قال:
لما فرغ عيسى من وصيته واستخلف ضمعون وقتلت اليهود بوذا وقالوا هو عيسى يقول الله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ... وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً ". فأما اليهود والنصارى فيقولون قد قتلوه؛ وأما الحواريون فعلموا أنه لم يقتل، وأنكروا قول النصارى واليهود، وخلص الله عيسى انزل اله سحابة من السماء، سحابةٌ لاستقلال عيسى، فوضع عيسى على السحابة، فلزمته أمه وبكت، فقالت السحابة: دعيه فإن الله يرفعه إلى السماء، ثم يشرف على أهل الأرض عند أوان الساعة، ثم يهبط إلى الأرض فيكون فيهم ما شاء الله، ويبدل الله به الأرض أمناً وعدلاً. فكفت عنه مريم تنظر إليه وتشير بإصبعها إليه، ثم ألقى إليها بردائه فقال: هذا علامةٌ ما بيني وبينك يوم القيامة.
وقال ابن عباس: إن عيسى لما حمل على السحابة وودع أمه والحواريين ثم أصعدت به السحابة، فذهبت أمه لتتناول رجله فقال: لا تفعلي يا أمه؟ وألقى عمامته إلى شمعون، وأمه تمس السحاب حتى فاتها السحاب، وأخذ شمعون العمامة فجعلها في عنقه وهم ينظرون إلى عيسى ويشيرون بأيديهم حتى توارى عنهم.
وعن مجاهد: أن اليهود لما أرادوا عيسى وطلبوه ليقتلوه، فألجؤوه إلى غارٍ في الجبل، ومعه أمه والحواريون، فعهد إليهم عهده وقال: إني مرفوع. وأنزلت الغمامة حتى حملت عيسى، واليهود يحرسونه، فانصدع الجبل وارتفعت السحابة بعيسى، ثم دخلوا الغار فأخذوا الذي دل على عيسى فعدوا عليه فصلبوه، وأخذوا أصحاب عيسى فحبسوهم وعذبوهم؛ فبلغ ذلك
صاحب الروم، وكان اليهود تحت يديه، فقيل له: إنه كان في مملكتك رجلٌ عدا عليه بنو إسرائيل فصلبوه، وهم يعذبون أصحابه، وكان يخبرهم أنه رسول الله قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير. فبعث ملك الروم إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن دين عيسى فأخبروه، فبايعهم على دينه، واستنزل الذي صلب فغيبه، وأخذ خشبه الذي كان صلب عليها فأكرمها وطيبها، وعدا على اليهود فقتل منهم مقتلةٌ عظيمة، فمن هنالك يعظم النصارى الصلبان، ومن هنالك صار جل أهل النصرانية بالروم، وملك الحواريون بعد ذلك وذلت اليهود وظهرت النصرانية، وملك يحيى بن زكريا وشمعون والحواريون ومن بايعهم. وكان يقال لشمعون: صخرة الإيمان، وكان رجلاً بكاءً إذا جلس مجلساً فإنما هو باك وجلساؤه يبكون، وكان يحيى بن زكريا رجلاً صحاكاً بساماً، إذا جلس لم يزل ضاحكاً وأصحابه يضحكون فقال لهم يوماً شمعون: سبحان الله يا بن زكريا؟ ما أكثر ضحكك في الحق والباطل! فقال يحيى: سبحان الله يا شمعون! ما أكثر بكاءك في الحق والباطل! لقد عنيت نفسك وعنيت جلساءك! قال: فجاء من الله أن أحب سيرة الرجلين إلى سيرة يحيى بن زكريا.
وعن وهب بن منبه أن عيسى لما رفع اجتمعت بنو إسرائيل من آمن منهم بعيسى فقالوا: ننظر في أمرنا؛ فانطلق إبليس فدعا عفاريته، فاجتمعوا إليه فأخبرهم بالذي يريد بنو إسرائيل فقال: إنا وجدنا منهم فرصة، قال: فاختار عفريتين فأمرهما بما يريد، ثم انطلقوا حتى دخلوا على بني إسرائيل في مجمعهم الذي اجتمعوا فيه، فأمر صاحبيه فجلس كل واحدٍ منهما ناحية، وجلس إبليس ناحية، فلما فرغ بنو إسرائيل من بعض ما هم فيه قام أحد صاحبيه بهيئة حسنة في هيئة عبادهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أكرمكم واختاركم على خلقه بأن نزل من السماء، فكان بين أظهركم ما شاء أن يكون، ثم عاد إلى سماواته، فاشكروه بما صنع إليكم. ثم جلس، فقام الآخر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلم! لا أعلم متكلماً يتكلم بكلامٍ أحسن من كلامك! ولا أرفق ولا أوفق ولا أقرب من كل خير! غير أنك زعمت أن عيسى هو الله وأنه نزل من السماء بين أظهرنا، وإن الله لا يزول من مكانه ولكن
عيسى هو ابنه، فأهبطه إلينا وأكرمنا به، ثم جلس، فقام إبليس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلمان! لا عهد لنا بمتكلمين أقرب من كل خير وأبعد من كل شر منكما إلا ما زعم الأول أن الله هبط إلينا، وإن الله لا يهبط من سماواته؛ وما ذكر الآخر أن عيسى هو ابن الله، وإن الله ليس له ولد، ولكن الله إله السماوات ومن فيهن، وعيسى إله الأرض ومن فيهن. قال: فتفرقت من ذلك العباد والصالحون، فاختلفوا.
قال ابن عابس: اختلفوا على هذا القول بعد إحدى وثمانين سنة.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: أن عيسى صعد وهم ينظرون إليه، حتى إذا بلغ من الكو خرج من الكو لا يستوسع الكو ولا يستصغر على عيسى في بدنه؛ قال: وهم ينظرون إليه حتى توارى عنهم ... الحدي.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال علي: غ، خليلي حدثني أن أضرب لسبع عشرة مضى من رمضان، وهي الليلة التي مات فيها موسى وأموت لاثنتين وعشرين تمضي من رمضان، وهي الليلة التي رفع فيها عيسى عليه السلام.
وعن أبي زرعة أن عيسى بن مرسم عليه السلام رفع من طور زيتا، بعث الله عز وجل ريحاً فخفقت به حتى هرول، ثم رفع الله عز وجل إلى السماء.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي قبض فيه قال: يا فاطمة يابنتي أحني علي.
فأحنت عليه فناجاها ساعةٌ ثم انكشفت عنه وهي تبكي، وعائشة حاضرة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بساعة: أحني علي. فأحنت عليه، فناجاها ساعة ثم انكشفت عنه تضحك، فقالت عائشة: يا بنت رسول الله! أخبريني ماذا ناجك أبوك؟ قالت:
أوشكت، رأيته ناجاني على حال سر، ثم ظننت أني أخبر بسره وهو حي! فشق ذلك على عائشة أن يكون سر دونها؛ فلما قبضه الله عز وجل إليه قالت عائشة لفاطمة: ألا تخبريني ذلك الخبر؟ قالت: أما الآن فنعم، ناجاني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل عامٍ مرة، وأنه عارضه القرآن العام مرتين، وأنه أخبره أنه لم يكن نبي بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى عاش عشرين ومئة سنة ولا أراني إلا ذاهب. وهو على رأس الستين، فأبكاني ذلك، وقال: يا بنية، إنه ليس من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى من امرأةٍ صبراً. ثم ناجاني في المرة الأخرى فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به، وقال: إنك سيدة نساء أهل الجنة.
وفي روايةٍ أخرى بمثله أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضوان الله عليها من حديثٍ بمعناه، وأنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر أخيه الذي كان قبله، عاش عيسى مئة وخمساً وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة. ومات في نصف السنة.
قال: هكذا وقع، والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر وإنما أراد به مدة مقامه في أمته.
وعن فاطمة بنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة.
وفي حديثٍ عن فاطمة عليها السلام بمعناه قالت: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الله لم يبعث نبياً إلا وقد عمر الذي بعده نصف عمره وإن عيسى لبث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذه توفي لي عشرين سنة، ولا أراني إلا ميت في مرضي هذا ... الحديث.
وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، ومات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وعن سلمان قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست مئة سنة.
وعن أنس بن مالك قال: بينا نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ رأينا برداً ويداً، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه؟ قلنا: نعم، قال: ذاك عيسى بن مريم سلم علي.
وعن أنس بن مالك قال: كنت أطوف مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئاً ولا نراه! قلنا: يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئاً ولا يراه أحد! قال: ذاك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه.
وعن ابن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري عن ابن عباس قال:
لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجلٌ قط، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها؟ ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها فقلت أنا لها إذا راح غداً، فلما راح الغد قلت: يا بن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجلٌ قط، ولا تدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها، فقلت: أخبرني عنها وعن اللائي قرأت قبلها؟ قال: نعم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقريش، يا معشر قريش! إنه ليس أحدٌ يصد دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم وما تقول في محمد. فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً، فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم لكما يقولون. قال فأنزل الله عز وجل: " ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون " قال: قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون " وإنه لعلم للساعة " قال: وهو خروج عيسى بن مريم قبل القيامة.
وعن الحسن بن صالح قال: لما قيل لعيسى " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " تزايلت مفاصله. ولما قال لقمان لابنه: " يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " تفطر فمات.
وعن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ". قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلقاه الله عز وجل " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إن عيسى بن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من بعدي، ألا إنه يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها، ألا فمن أدركه منكم فليقرأ عليه السلام.
زاد في رواية: ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وفي آخر: ولتصلحن ذات البين.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهبطن الله عز وجل عيسى بن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فليسلكن فج الروحاء حاجاً أو معتمراً وليقفن على فبري، فليسلمن علي، ولأردن عليه.
وفي رواية: ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأحبيبنه.
وفي رواية: فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب وتكون الدعوة واحدة فأقرئوه السلام من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلما حضرته الوفاة قال أقرئوه مني السلام. زاد في آخر: وتجمع له الصلاة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينزل ابن مريم إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويرجع السلم، وتتخذ السيوف مناجل، وتذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره، فتراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها.
وفي رواية حتى يقتل الخنزير والقردة، ويكسر الصليب، وتكون السجدة لله رب العالمين.
وعن سمرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الدجال خارج، وإنه أعور عين الشمال عليها ظفرة غليظة وإنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى، ويقول للناس: إني ربكم. فمن قال أنت ربي فقد افتتن، ومن قال ربي الله، حتى يموت على ذلك فقد عصم من فتنة الدجال، ولا فتنة عليه ولا عذاب، فيمكث في الأرض ما شاء الله، ثم ينزل عيسى بن مريم من قبل المغرب مصدقاً لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعل ملته فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة.
وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله ذكرت الدجال فبكيت فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يخرج الدجال وأنا حي كفيتكموه، وإن يخرج بعدي فإن ربكم ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان حتى يأتي المدينة فينزل ناحيتها،
ولها يومئذ سبعة أبواب، على كل نقب منها ملكان، فيخرج إليه شرار أهلها، حتى يأتي الشام مدينة بفلسطين بباب لد - وف يرواية: يأتي فلسطين باب لد - فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماماً عدلاً وحكماً مقسطاً.
وعن زيد بن أسلم قال:
يهبط المسيح عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ الإمارة، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء، حتى يتدفق من جوانبه كلها، وتعود الأرض كفاثور الورق، وترفع العداوة والبغضاء والشحناء، وتنزع من كل ذي حمةٍ حمتها، فيومئذ يطأ الصبي على رأس الحية فلا تضره وتفر الجارية الأسد كما تفر جري الكلب الصغير، ويقوم الفرس بعشرين درهماً، وتقوم البقرة بكذا وكذا، كأنه يرفع ثمنها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف بكم إذا نزل بكم ابن مريم فأمكم - أو قال: إمامكم منكم.
وعن جابر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعضٍ أمراء. فتكرمة الله لهذه الأمة. وفي رواية: أنتم أحق، بعضكم أمراء بعض، أمر أكرم الله به هذه الأمة.
وعن عبد الله أن المسيح بن مريم خارجٌ قبل يوم القيامة وليستغن به الناس عمن سواه.
وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم عدلاً في الأرض مقسطاً؛ وإني لأرجو أن لا أموت حتى ألقاه، ويمسح عن وجهي، وأحدثه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصدقني.
وعن أبي هريرة قال: ينزل عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ في الإمارة، وتضع كل ذات حملٍ حملها حتى إن الرجل ليضع قدمه على رأس الحية فما تضره، وحتى إن الذئب ليكون في الغنم ككلبها، وحتى إن السبع ليكون في الخيل كراعيها وحتى إن الصبي ليدخل يده في الذئب فما يضره، وحتى إن الملأ ليأكلون التفاحة، وحتى إن العصابة ليأكلون من العنبة، ثم يقولون: يا ليت إخواننا أدركوا هذا العيش.
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال: سمعت أبا هريرة يقول: يهبط المسيح عيسى بن مريم، فيصلي الصوات، ويجمع الجمع، ويزيد في الحلال قلت: يا أبا هريرة! ما أراه يزيد إلا في النساء. فضحك وقال: كأني به تجد به رواحله ببطن الروحاء حاجاً أو معتمراً، فمن لقيه منكم فليقل إن أخاك أبا هريرة يقرئك السلام. قال أبو الأشعث: ثم نظر إلي فقال: قد أشفقت أني لا أموت حتى أدركه.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا الساعة متى هي؟ فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، وسألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فردوا الحديث إلى عيسى فقال: عهد الله إلي فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل - فذكر من خروج الدجال - ما ما يعيط ما قبله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ
ينسلون، لا يمرون بماءٍ إلا شربوه، ولا شيءٍ إلا أفسدوه فيجأرون إلي، وأدعو الله فيميتهم، فتجيف الأرض من ريحهم، فيجأرون إلي، فأدعو الله، فيرسل السماء بالماء فتحملهم فتقذف أجسادهم في البحر ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم؛ فعهد الله إلي أنه إذا كان ذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلاً أم نهاراً! قال العوام: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ثم قرأ: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون، ةاقترب الوعد الحق ".
وعن ابن عباس أنه قال:
أول من يتبعه سبعون ألفاً من اليهود عليهم السيجان - وهي الألبسة من صوف أخضر، يعني به الطيالبسة - ومعه سحرة اليهود يعملون العجائب ويرونها للناس فيضلونهم بها وهو أعور ممسوح العين اليمنى، يسلطه الله على رجلٍ من هذه الأمة فيقتله، ثم يضربه فيحييه، ثم لا يصل إلى قتله ولا يسلط على غيره، ويكون آية خروجه تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاوناً بالدماء، وضيعوا الحكم، وأكلوا الربا، وشيدوا البناء، وشربوا الخمر، واتخذوا القيان، ولبسوا الحرير وأظهروا بزة آلا فرعون، ونقضوا العهد وتفقهوا لغير الدين، وزينوا المساجد، وخربوا القلوب، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء، وقلت الفهاء وعطلت الحدو، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فتكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء، بعث الله عليهم الدجال فتسلط عليهم، حتى ينتقم منهم، وينحاز المؤمنون إلى بيت المقدس. قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فعند
ذلك ينزل أخي عيسى بن مريم من المساء على جبل أفيق إماماً هادياً وحكماً عدلاً، عليه برنس له، مربوع الخلق أصلب، سبط الشعر، بيده حربة، يقتل الدجال، فإذا اقتل الدجال تضع الحرب أوزارها وكان السلم، فبلقى الرجل الأسد فلا يهيجه، ويأخذ الحية فلا تضره وتنبت الأرض كنباتها على عهد آدم، ويؤمن به أهل الأرض، ويكون الناس أهل ملةٍ واحدة.
وعن عبد الله بن همرو أنه سأل أحد الرجلين فقال: أنت عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، قال: أنت الذي تزعم أن الساعة تقوم إلى مئة سنة؟ قال سبحان الله! وأنا أقول ذلك! قال: ومن يعلم قيام الساعة إلا الله! إنكم يا أهل العراق لتروون أشياء ليست كذلك، وإنما قلت: ما كانت رأس مئةٍ للخلق - يعني منذ خلقت الدنيا - إلا كان عند رأس المئة، قال: ثم يوشك أن يخرج ابن حمل الضان، قال: قلت: وما ابن حمل الضان؟ قال: رومي، أحد أبويه شيطان، يسير إلى المسلمين في خمس مئة ألف براً، وخمسة مئة ألف بحراً حتى ينزل بين عكا وصور ثم يقول: يا أهل السفن! اخرجوا منها. ثم أمر بها فأحرقت. قال: ثم يقول لهم: لا قسطنطينية لكم ولا لا رومية حتى يفصل بيننا وبين المغرب. قال: فيستمد أهل الإسلام بعضهم بعضاً حتى تمدهم عدن أبين على قلصانهم، قال فيجتمعون فيقتتلون؛ قال: فيكاتبهم النصارى الذين بالشام ويخبرونهم بعورات المسلمين، فيقول المسلمون: الحقوا، فكلكم لنا عدو حتى يقضي الله بيننا وبينكم. فيقتتلون شهراً لا يكل لهم سلاح ولا لكم، ويقذف الصبر عليكم وعليهم.
قال: وبلغنا - والله أعلم - أنه إذا كان رأس الشهر قال ربكم: اليوم أسل سيفي فأنتقم من أعدائي وأنصر أوليائي. قال: فيقتتلون مقتلة ما أرى مثلها قط، حتى ما تسير الخيل إلا على الخيل وما يسير الرجل إلا على الرجل وما يجدون خلقاً لله يحول بينهم وبين القسطنطينية ولا رومية، فيقول أميرهم يومئذ: لا غلول اليوم، من أخذ شيئاً فهو له. فيأخذون ما خف عليهم ويذبحون ما ثقل عليهم؛ فبينما هم كذلك إذ جاءهم أن الدجال قد خلفكم في ذراريكم، قال: فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون؛ قال: وتصيب الناس مجاعةٌ شديدة حتى إن الرجل ليحرق وتر قوسه فيأكله، وحتى إن الرجل ليحرق حجفته فيأكلها، حتى إن الرجل ليكلم أخاه فما يسمعه الصوت من الجهد؛ قال: فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً من السماء: أبشروا فقد أتاكم الغوث. فيقولون: نزل عيسى بن مريم. قال: فيستبشرون ويستبشر بهم ويقولون: صل يا روح الله! فيقول: إن الله أكرم هذه الأمة ولا ينبغي لأحدٍ أن يؤمهم إلا منهم. قال: فيصلي أمير المؤمنين بالناس، قال: فأمير الناس يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان؟ قال: لا، فيصلي عيسى خلفه، قال: فإذا انصرف عيسى دعا بحربته، فأتى الدجال فقال: رويدك يا دجال يا كذاب! قال: فإذا رأى عيسى عرف صوته ذاب كما يذوب الرصاص إذا أصابته النار، وكما تذوب الألية إذا أصابتها الشمس. قال: ولولا أنه يقول رويداً لذاب حتى لا يبقى منه شيء، قال: فيحمل عليه عيسى فيطعن بحربته بين ثدييه فيقتله.
قال: وتفرق جنده تحت الحجارة والشجر، قال: وعامة جنده اليهود والمنافقون، فينادي الحجر يا روح الله هذا تحتي كافر فاقتله؛ قال: فيأمر عيسى بالصليب فيكسر وبالخنزير فيقتل، وتضع الحرب أوزارها حتى إن الذئب ليربض إلى جنبه.... ما يغمز بها، وحتى إن الصبيان ليلعبون بالحيات ما تنهشهم، ويملأ الأرض عدلاً؛ فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً، قال: فتحت يأجوج ومأجوج، وهو كما قال الله عز وجل " وهم من كل حدبٍ ينسلون " فيفسدون الأرض كلها، حتى إن أوائلهم لتأتي النهر العجاج
فيشربونه كله، وإن آخرهم ليقول: قد كان ها هنا نهر، ويحاصون عيسى ومن معه ببيت المقدس ويقول: ما نعلم في الأرض - يعني أحداً - إلا قد أنخناه، هلموا نرمي من في السماء، فيرمون حتى ترجع إليهم سهامهم في نصولها الدم للبلاء، فيقولون: ما بقي في الأرض ولا في السماء، فيقول المؤمنون: يا روح الله! نموت من النتن! فيدعو الله، فيبعث وابلاً من المطر فجعله سيلاً، فيقذفهم كلهم في البحر؛ قال: ثم يسمعون صوتاً فيقال: مه! قيل: غزا البيت الحصين، قال: فيبعثون جيشاً فيجدون أوائل ذلك الجيش.
ويقبض عيسى بن مريم، ووليه المسلمون وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلوا عليه وحفروا له ودفنوه؛ فيرجع أوائل الجيش والمسلمون ينفضون أيديهم من تراب قبره، فلا يلبثون بعد ذلك إلا يسيراً حتى يبعث الله الريح اليمانية، قال: قلنا: وما الريح اليمانية؟ قال: ريح من قبل اليمن، ليس على الأرض مؤمن يجد نسيمها إلا قبضت روحه، قال: ويسري على القرآن في ليلةٍ واحدة، ولا يترك في صدور بني آدم ولا في بيوتهم منه شيء إلا رفعه الله، قال: فيبقى الناس ليس فيهم نبي، وليس فيهم قرآن وليس فيهم مؤمن.
قال عبد الله بن عمرو: فعندهم أخفي علينا قيام الساعة، فلا يدري كم يتركون، كذلك تكون الصيحة. قال: ولم تكن صيحةٌ قط إلا بغضبٍ من الله على أهل الأرض، قال: فقال الله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " قال: فلا أدري كم يتركون كذلك.
وعن مجمع بن جارية قال: ذكر عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال فقال: يقتله عيسى بن مريم بباب لد.
زاد في رواية: أو إلى جانب لد.
وعن عبد الله بن عباس أنه قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم على ذروة أفيق، بيده حربة يقتل الدجال.
وعن جابر بن عبد الله في قوله: " ليظهره على الدين كله " قال: خروج عيسى بن مريم.
وعن ابن أبي نجيج عن مجاهد في قوله " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " قال: إذا نزل عيسى بن مريم لم يكن في الأرض دينٌ إلا الإسلام، فذلك قوله: " ليظهره على الدين كله ".
وعن مجاهد في قوله: " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني حتى ينزل عيسى بن مريم، فيسلم كل يهودي وكل نصراني، وكل صاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله.
وفي رواية: فيطمئن كل شيء ولا يكون عداوة بين اثنين.
وعن ابن عباس في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال خروج عيسى بن مريم.
وفي رواية: قال: قبل موت عيسى.
وعن مجاهد قال: ليس من أهل الكتاب أحدٌ يموت حتى يشهد أن عيسى رسول الله. قال: وإن وقع من فوق البيت؟ قال: وإن وقع من فوق البيت.
وعن الحسن البصري في قوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى بن مريم.
قال شهر بن حوشب: كنت مستخفياً من الحجاج بن يوسف، فجعل لي الأمان، فخرجت فمررت به ذات يوم وهو يقسم جروزاً له في أصحابه، فقال لي: يا شهر! فلعلك تكره لباس هذه الجروز؟ قلت: ما أهكرهها أصلح الله الأمير، فكساني منها شقة فارتديت بها، فلما قفيت أتاني نداء: يا شهر! فقلت في نفسي: ها ها، فانصرفت إليه فقال: يا شهر، إني أقرأ القرآن فآتي منه على آي، فلا تزال حرارةٌ في قلبي ألا أكون علمتها، قلت: وما هي؟ قال: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قلت: ذاك في اليهود، لا يقبض ملك الموت روح أحدهم حتى يجيئه ملك ومعه شعلةٌ من نار جهنم فيضرب وجهه ودبره فيقول له: أتقر أن عيسى عبد الله ورسوله؟ فلا يزال به حتى يقر به؛ فإذا أقر به قبض ملك الموت روحه، ففيهم نزلت هذه الآية.
وروى الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا الناس إلا شحا؛ ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم.
قالوا: تفرد بهذا الحديث الشافعي، ولا نعلم حدث به غيره، ولا عنه إلا يونس بن عبد الأعلى، وهو حديثٌ غريب الإسناد، مشهور المتن إلا قوله: ولا مهدي إلا عيسى بن مريم. فما قاله أحدٌ غيره، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسناداً، وفيها بيان كونه من عترة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو الحسن علي بن عبد الله الواسطي: رأيت محمد بن إدريس الشافعي في المنام، فسمعته يقول: كذب علي يونس في ديث الجندي، حديث الحسن عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهدي. قال الشافعي: ما هذا من حديثي ولا حدثت به، كذب علي يونس.
وعن مجاهد قال: المهدي عيسى بن مريم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمراً أو ليثنينهما.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني أرى أن أعيش من بعدك، أفتأذن لي أن أدفن إلى جنبك؟ فقال: وأنى لك بذلك الموضع! ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وقبر عمر، وقبر عيسى بن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن عبد الله بن سلام قال: وجدت في الكتب أن عيسى بن مريم يدفن مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر وقد بقي في البيت موضع قبر.
وعنه قال: نظرت في التوراة صفه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيسى بن مريم عليه السلام يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر.
وعنه قال: ليدفنن عيسى بن مريم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
قال البخاري: هذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه.