عبد الله بن رواحة بن ثعلبة
ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك وفي نسبه خلاف أبو محمد ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو الأنصاري شهد بدراً، والعقبة، وهو أحد النقباء، وأحد الأمراء في غزوة مؤته واستشهد بها.
حدث عبد الله بن رواحة قال: كنت في غزاة، فتعجلت فانتهيت إلى الباب فإذا المصباح يتأجج، وإذا أنا بشيء أبيض، فاخترطت سيفي، ثم حركتها فأتيت المرأة، فقالت: إليك إليك، فلانة كانت عندي فمشطتني، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً.
وحدث عبد الله بن رواحة قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب.
وكانت أم عبد الله بن رواحة كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة. وكان عبد الله بن رواحة يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً. وشهد عبد الله العقبة مع السبعين من الأنصار، وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضية. وقدمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر يبشر أهل العالية بما فتح الله عليه، والعالية: بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل. واستخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة حين خرج إلى غزوة بدر الوعد، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية في ثلاثين راكباً إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر خارصاً، فلم يزل يخرص عليهم إلى أن قتل بمؤته مع جعفر بن أبي طالب في قتال الروم سنة ثمان، وله في الإسلام مناقب وأيام.
قال قتيبة: ابن رواحة وأبو الدرداء أخوان لأم.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ.
وعن أنس قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأصابتنا مطر ورداغ، فأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي على ظهور رواحلنا. قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول الله، أمرت الناس يصلون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي حجته. قال: فأتاه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أمرت الناس أن يصلوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض! قال: فقال: يا رسول الله، لأنك تسعى في رقبة قد فكها الله، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أقل لكم إنه سيلقى حجته.
وحدث ضمرة ومهاجر ابنا حبيب قالا: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فأدركته الصلاة وهو على ظهر، فصلى رسول الله على ظهر، ونزل ابن رواحة فصلى بالأرض، ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أرغبت عن صلاتي؟! قال: لست مثلك، إنك تسعى في عتق ونحن نسعى في رق، فلم يعب عليه ما صنع. قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية فصلى بأصحابه على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض فقال: خالف خالف الله به، فما مات الرجل حتى خرج من الإسلام.
وعن أنس بن مالك قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة عليهم السلام.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عبد الله بن رواحة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: " اجلسوا " فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله.
وحدث عمر بن ذر عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبد الله بن رواحة يذكرهم بالله. فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذكر أصحابك فقال: يا رسول الله، أنت أحق مني. قال: أما إنكم الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معهم، ثم تلا عليهم: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " الآية إلى آخرها، قال: وما قعد عدتكم قط يذكرون الله إلا قعد معهم عددهم من الملائكة. فإن حمدوا الله حمدوه، وإن سبحوا الله سبحوه، وإن كبروا الله كبروه، وإن استغفروا الله أمنوا، ثم عرجوا إلى ربهم
فسألهم وهو أعلم منهم فقال: أين ومن أين؟ قالوا: ربنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك. قال: ويقولون: ماذا؟ قالوا: ربنا حمدوك فقال: أول من عبد وآخر من حمد. قالوا: وسبحوك قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري. قالوا: ربنا كبروك قال: لي الكبرياء في السموات والأرض وأنا العزيز الحكيم. قالوا: ربنا استغفروك قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم. قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وعن أبي عمران الجوني: أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه فأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم إن كان قد حضر أجله فيسر عليه، وإن لم يكن حضر أجله فاشفه. فوجد خفة فقال: يا رسول الله، أمي تقول: واجبلاه واظهراه، وملك قد رفع مرزبة من حديد ويقول: أنت كذا؟ فلو قلت نعم لقمعني بها.
وعن أبي الدرداء قال: إن كنا لنكون مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر في اليوم الحار الذي يضع أحدنا على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وفي حديث آخر مثله: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر رمضان.
وعن مجاهد قال: قوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون " إلى قوله: " صفاً كأنهم نيان مرصوص " في نفر من الأنصار، منهم عبد الله بن رواحة. قالوا في مجلس: لو تعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيساً في سبيل الله عز وجل حتى أموت، فقتل شهيداً، رحمة الله عليه.
وعن ابن عباس: في هذه الآية، يعني " ولأمة مؤمنة خير من مشركة " قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وإنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره خبرها، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هي يا عبد الله؟ قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله تعالى فيهم: " ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " الآية.
حدث معمر عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: تزوج، يعني: رجل امرأة عبد الله بن رواحة فقال لها: تدرين لم تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله بن رواحة في بيته، فذكرت له شيئاً لا أحفظه، غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل داره صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبداً، وكان ثابت لا يدع ذلك فيما ذكر لنا بعض من يخالط أهله، وفيما رأينا منه.
وعن ابن عباس قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة. قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال: فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم. قال: فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غدوتهم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى مؤته. فاستعمل زيداً فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل
جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآه فقال: ما خلفك؟ فقال: أجمع معك. قال: لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
وفي حديث بمعناه: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. فراح عبد الله منطلقاً.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " حتى ختم الآية.
وعن ابن عباس: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة.
وعن محمد بن سيرين قال: كان شعراء أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك.
وعن حسن بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: ما الشعر؟ قال: شيء يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه شعراً. قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن، فنظر في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: نعم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
قال عبد الله بن رواحة: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في نفر من أصحابه فأضب القوم: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، فعرفت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاني، فانطلقت إليهم مسرعاً، فسلمت فقال: ها هنا، فجلست بين يديه. فقال - كأنه يتعجب من شعري - فقال: كيف تقول الشعر إذا قلت؟ قلت: أنظر في ذلك ثم أقول فقال: فعليك بالمشركين. قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما قلت:
فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر
قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكراهية أن جعلت قومه أثمان العباء فقلت:
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن غزوا وإن كثروا
يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلاً ماله غير
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فأقبل علي بوجهه متبسماً ثم قال: وإياك فثبت الله.
قال: وأرسله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مؤتة ثالث ثلاثة أمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب. فلما قتل صاحباه كره الإقدام فقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعةً أو لا لتكرهنه
وطالما قد كنت مطمئنه
ما لي أراك تكرهين الجنه
فقتل يومئذ.
وهجا سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثلاثة من كفار قريش أبو سفيان: ابن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبعري. فقال قائل لعلي: أهج عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا فقال علي: إن أذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلت. فقال الرجل: يا رسول الله، أتأذن لعلي كيما يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟ فقال: ليس هناك - أو: ليس عنده ذلك - ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله وأخذ بطرف لسانه فقال: والله ما يسرني به مقولاً بين بصرى وصنعاء. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب، وكان ابن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر. قال: وكانوا في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبد الله بن رواحة. فلما أسلموا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة.
وعن أنس قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في عمرة القضاء وابن رواحة بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا بن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول هذا الشعر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل.
وعن ابن عباس: أن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بالبيت على بعير يستلم الركن بمحجن وعبد الله بن رواحة آخذ بغرزة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير مع رسوله
وفي أخر الأبيات:
يا رب إني مؤمن بقيله
فقال عمر بن الخطاب: أو ها هنا يا بن رواحة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما تعلمن أو لا تسمع ما قال؟ قال: فمكث ما شاء الله ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هيه، يا بن رواحة، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وقيل: إن ذلك خطأ، وإن ابن رواحة لم يحضر فتح مكة. قتل ابن رواحة بمؤته مع جعفر بن أبي طالب.
وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه. قالوا: وهذا أصح عند بعض أهل العلم لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤته.
وعن البراء قال: رأيت رسول الله يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وهو
يرتجز برجز عبد الله بن رواحة، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث قيس بن أبي حازم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: انزل فحرك بنا التراب، فقال: يا رسول الله، لقد تركت قولي، فقال له عمر: اسمع وأطع قال: فنزل فقال هذا الرجز.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعناه، وبعد الشعر: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارحمه، فقال عمر: وجبت.
وعن أبي هريرة أنه قال في قصصه، وهو يذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أخاً لكم لا يقول الرفث، يعني: ابن رواحة قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
ولما نزلت هذه الآية " وإن منكم إلا واردها " ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى فجاءت امرأته فبكت وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون. فلما انقطعت عبرته قال: يا أهلاه، ما الذي أبكاكم؟ قالوا: لا ندري، ولكن رأيناك بكيت فبكينا قال: إنه أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية ينبئني فيها ربي عز وجل أني وارد النار ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن سيف بن ذي يزن: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد. من محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن ذي يزن: إذا أتاكم رسلي فآمركم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وابن رواحة، ومالك بن عبادة، وعتبة بن نيار.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فذكر الحديث، وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله، تطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي وأنتم أبغض لي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وفي حديث آخر: أنهم جمعوا حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما الذي عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها. قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وعن أبي الدرداء أنه قال:
أعوذ بالله أن يأتي علي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب
بين ثديي، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفي ثم يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذا لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذا نزعته يا عويمر، للقلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت علياً.
كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرها سراً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك فجاحدها ذلك: فقالت: فإن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن - وفي رواية: وقد عهدته لا يقرأ القرآن وهو جنب - فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
قالت: فزدني آية أخرى، فقال:
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
فقالت: زدني آية أخرى، فقال:
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر، فأتى ابن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغير عليه - زاد في رواية أخرى: بمعناه، فقالت له: أما إذ قرأت القرآن فإني قد عرفت أنه مكذوب عليك.
فافتقدته ذات ليلة فلم تجده على فراشها فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني؛ فجحدها فقالت: اقرأ الآيات من القرآن إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... له موقنات أن ما قال واقع
وأعلم علماً ليس بالظن أنني ... إلى الله محشور هناك وراجع
فحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فاستضحك حتى رد يده على فيه وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر لك يا بن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم. فأخبرني ما الذي ردت عليك حيث قلت ما قلت؟ قال: قالت لي: الله بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد وجدتها ذات فقه في الدين.
قال شريح: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر عبد الله بن رواحة ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
كان زيد بن أرقم يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة قال: فلم أر والي يتيم خيراً منه. خرج معه إلى مؤتة فحمله على حقيبة رحله وخرج به غازياً إلى مؤتة فسمعه زيد وهو يتمثل أبياته التي قال:
إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المؤمنون وغادروني ... بأرض الشام مشتهر الثواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن وانقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل ... ولا بغل أسافلها رواء
فلما سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة،
وترجع بين شعبتي الرحل، ولزيد بن أرقم يقول عبد الله بن رواحة:
يا زيد زيد اليعملات الذبل
تطاول الليل هديت فانزل
يرتجز. يقول: انزل، فسق بالقوم.
وفي حديث بمعناه: ثم نزله من الليل فصلى ركعتين ثم دعا فيهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام، فقلت: لبيك، قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى قوله: هنالك لا أبالي طلع نخل البيت. يقول: إذا استشهدت لم أبال ما تركت من عذي النخل وسقيه.
وعن عطاء بن أبي مسلم قال:
لما ودع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك قال: إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود. قال عبد الله بن رواحة: زدني يا رسول الله، قال: اذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب، فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر، قال: يا بن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة، فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.
وعن ابن إسحاق قال: فلما أصيب قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغني: أخذ زيد بن حارثة الراية فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم صممت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً. ثم، لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير
عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى.
وقال عبد الله بن رواحة عند ذلك:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعة أولا لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم نزل فقاتل حتى قتل. قال: وقد قال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
يريد جعفراً وزيداً، ونزل. فلما نزل أتاه ابن عمله بعرق لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذه منه فنهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال: وأنت في الدنيا؟؟؟؟؟؟، فألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.
وعن الوليد قال: سمعت أنهم ساروا حتى إذا كانوا بناحية معان من أرض الشراة أخبروا أن الروم قد نذروا وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، وعبد اله بن رواحة ساكت فسأله زيد عن رأيه فقال: إنا لم نسر إلى هذه البلاد ونحن نريد الغنائم ولكنا نريد لقاءهم ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة، فالرأي المسير إليهم، فقبل زيد رأيه وسار إليهم.
فروي أن الراية لمل انتهت إلى عبد الله بن رواحة جاءه الشيطان فرغبه بالحياة وكره إليه الموت ثم تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس الذي بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتلا عليهم " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " أين ما كنتم عاهدتم الله عليه، قد جاء مصداقه. اصدقوا الله يصدقكم، قال: فجاوؤه يخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه وأوتي ابن رواحة بلوح من ضلع وقد التاث جوعاً فرده وقال: هذا أدعه فيما أدعه من الدنيا، فشد عليهم وشدوا حتى شدخوا جميعأ.
وعن عروة بن الزبير من حديث قال: فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم، فتجهز الناس وتهيؤوا للخروج، فودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلموا عليه، فلما ودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وودعوا عبد الله بن رواحة بكى قالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " فلست أدري كيف لي
بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين، ودفع عنكم، فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
ثم أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فودعه ثم قال:
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم حتى نزلوا بمعان فبلغهم أن هرقل قد نزل بمآب في مئة ألف من الروم ومئة ألف من المستعربة فأقاموا بمعان يومين، فقالوا: نبعث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره بكثرة عدونا، فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا أمراً. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إليها تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فإن يظهرنا الله فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس: والله لقد صدق ابن رواحة، فانشمر الناس وهم ثلاثة آلاف حتى لقوا جموع الروم وهم بقرية من قرى البلقاء يقال لها شراف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤته: قرية فوق أحساء ابن مؤت.
ولما قتل جعفر بن أبي طالب دعا الناس: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، وهو في جانب العسكر ومعه ضلع حمل ينهسه ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا؟، ثم تقدم فأصيب اصبعه فارتجز فجعل يقول:
هل أنت إلا اصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قال: يا نفس، إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة؟ فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان له، وإلى معجف: حائط له، فهو لله ولرسوله:
يا نفس مالك تكرهين الجنه
أقسم بالله لتنزلنه
طائعةً أو لتكرهنه
فطالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
قد أجلب الناس وشدوا الرنه
قال مصعب بن شيبة: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه ثم صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال بعضهم حين بلغه قتل ابن رواحة: كان أولنا فصولاً وآخرنا قفولاً. كان يصلي الصلاة لوقتها.
وعن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعى إلى الناس - أو إلينا - جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان.
ولما قتل جعفر بمؤته أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة فاستشهد. قال: ثم دخل الجنة معترضاً، فشق ذلك على الأنصار فقالوا: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة، فسري عن قومه.
وكانت مؤته في جمادى الأول سنة ثمان من الهجرة.
ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك وفي نسبه خلاف أبو محمد ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو الأنصاري شهد بدراً، والعقبة، وهو أحد النقباء، وأحد الأمراء في غزوة مؤته واستشهد بها.
حدث عبد الله بن رواحة قال: كنت في غزاة، فتعجلت فانتهيت إلى الباب فإذا المصباح يتأجج، وإذا أنا بشيء أبيض، فاخترطت سيفي، ثم حركتها فأتيت المرأة، فقالت: إليك إليك، فلانة كانت عندي فمشطتني، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً.
وحدث عبد الله بن رواحة قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب.
وكانت أم عبد الله بن رواحة كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة. وكان عبد الله بن رواحة يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً. وشهد عبد الله العقبة مع السبعين من الأنصار، وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضية. وقدمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر يبشر أهل العالية بما فتح الله عليه، والعالية: بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل. واستخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة حين خرج إلى غزوة بدر الوعد، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية في ثلاثين راكباً إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر خارصاً، فلم يزل يخرص عليهم إلى أن قتل بمؤته مع جعفر بن أبي طالب في قتال الروم سنة ثمان، وله في الإسلام مناقب وأيام.
قال قتيبة: ابن رواحة وأبو الدرداء أخوان لأم.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ.
وعن أنس قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأصابتنا مطر ورداغ، فأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي على ظهور رواحلنا. قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول الله، أمرت الناس يصلون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي حجته. قال: فأتاه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أمرت الناس أن يصلوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض! قال: فقال: يا رسول الله، لأنك تسعى في رقبة قد فكها الله، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أقل لكم إنه سيلقى حجته.
وحدث ضمرة ومهاجر ابنا حبيب قالا: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فأدركته الصلاة وهو على ظهر، فصلى رسول الله على ظهر، ونزل ابن رواحة فصلى بالأرض، ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أرغبت عن صلاتي؟! قال: لست مثلك، إنك تسعى في عتق ونحن نسعى في رق، فلم يعب عليه ما صنع. قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية فصلى بأصحابه على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض فقال: خالف خالف الله به، فما مات الرجل حتى خرج من الإسلام.
وعن أنس بن مالك قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة عليهم السلام.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عبد الله بن رواحة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: " اجلسوا " فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله.
وحدث عمر بن ذر عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبد الله بن رواحة يذكرهم بالله. فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذكر أصحابك فقال: يا رسول الله، أنت أحق مني. قال: أما إنكم الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معهم، ثم تلا عليهم: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " الآية إلى آخرها، قال: وما قعد عدتكم قط يذكرون الله إلا قعد معهم عددهم من الملائكة. فإن حمدوا الله حمدوه، وإن سبحوا الله سبحوه، وإن كبروا الله كبروه، وإن استغفروا الله أمنوا، ثم عرجوا إلى ربهم
فسألهم وهو أعلم منهم فقال: أين ومن أين؟ قالوا: ربنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك. قال: ويقولون: ماذا؟ قالوا: ربنا حمدوك فقال: أول من عبد وآخر من حمد. قالوا: وسبحوك قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري. قالوا: ربنا كبروك قال: لي الكبرياء في السموات والأرض وأنا العزيز الحكيم. قالوا: ربنا استغفروك قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم. قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وعن أبي عمران الجوني: أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه فأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم إن كان قد حضر أجله فيسر عليه، وإن لم يكن حضر أجله فاشفه. فوجد خفة فقال: يا رسول الله، أمي تقول: واجبلاه واظهراه، وملك قد رفع مرزبة من حديد ويقول: أنت كذا؟ فلو قلت نعم لقمعني بها.
وعن أبي الدرداء قال: إن كنا لنكون مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر في اليوم الحار الذي يضع أحدنا على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وفي حديث آخر مثله: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر رمضان.
وعن مجاهد قال: قوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون " إلى قوله: " صفاً كأنهم نيان مرصوص " في نفر من الأنصار، منهم عبد الله بن رواحة. قالوا في مجلس: لو تعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيساً في سبيل الله عز وجل حتى أموت، فقتل شهيداً، رحمة الله عليه.
وعن ابن عباس: في هذه الآية، يعني " ولأمة مؤمنة خير من مشركة " قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وإنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره خبرها، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هي يا عبد الله؟ قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله تعالى فيهم: " ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " الآية.
حدث معمر عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: تزوج، يعني: رجل امرأة عبد الله بن رواحة فقال لها: تدرين لم تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله بن رواحة في بيته، فذكرت له شيئاً لا أحفظه، غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل داره صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبداً، وكان ثابت لا يدع ذلك فيما ذكر لنا بعض من يخالط أهله، وفيما رأينا منه.
وعن ابن عباس قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة. قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال: فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم. قال: فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غدوتهم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى مؤته. فاستعمل زيداً فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل
جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآه فقال: ما خلفك؟ فقال: أجمع معك. قال: لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
وفي حديث بمعناه: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. فراح عبد الله منطلقاً.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " حتى ختم الآية.
وعن ابن عباس: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة.
وعن محمد بن سيرين قال: كان شعراء أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك.
وعن حسن بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: ما الشعر؟ قال: شيء يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه شعراً. قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن، فنظر في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: نعم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
قال عبد الله بن رواحة: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في نفر من أصحابه فأضب القوم: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، فعرفت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاني، فانطلقت إليهم مسرعاً، فسلمت فقال: ها هنا، فجلست بين يديه. فقال - كأنه يتعجب من شعري - فقال: كيف تقول الشعر إذا قلت؟ قلت: أنظر في ذلك ثم أقول فقال: فعليك بالمشركين. قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما قلت:
فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر
قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكراهية أن جعلت قومه أثمان العباء فقلت:
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن غزوا وإن كثروا
يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلاً ماله غير
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فأقبل علي بوجهه متبسماً ثم قال: وإياك فثبت الله.
قال: وأرسله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مؤتة ثالث ثلاثة أمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب. فلما قتل صاحباه كره الإقدام فقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعةً أو لا لتكرهنه
وطالما قد كنت مطمئنه
ما لي أراك تكرهين الجنه
فقتل يومئذ.
وهجا سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثلاثة من كفار قريش أبو سفيان: ابن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبعري. فقال قائل لعلي: أهج عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا فقال علي: إن أذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلت. فقال الرجل: يا رسول الله، أتأذن لعلي كيما يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟ فقال: ليس هناك - أو: ليس عنده ذلك - ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله وأخذ بطرف لسانه فقال: والله ما يسرني به مقولاً بين بصرى وصنعاء. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب، وكان ابن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر. قال: وكانوا في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبد الله بن رواحة. فلما أسلموا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة.
وعن أنس قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في عمرة القضاء وابن رواحة بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا بن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول هذا الشعر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل.
وعن ابن عباس: أن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بالبيت على بعير يستلم الركن بمحجن وعبد الله بن رواحة آخذ بغرزة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير مع رسوله
وفي أخر الأبيات:
يا رب إني مؤمن بقيله
فقال عمر بن الخطاب: أو ها هنا يا بن رواحة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما تعلمن أو لا تسمع ما قال؟ قال: فمكث ما شاء الله ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هيه، يا بن رواحة، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وقيل: إن ذلك خطأ، وإن ابن رواحة لم يحضر فتح مكة. قتل ابن رواحة بمؤته مع جعفر بن أبي طالب.
وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه. قالوا: وهذا أصح عند بعض أهل العلم لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤته.
وعن البراء قال: رأيت رسول الله يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وهو
يرتجز برجز عبد الله بن رواحة، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث قيس بن أبي حازم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: انزل فحرك بنا التراب، فقال: يا رسول الله، لقد تركت قولي، فقال له عمر: اسمع وأطع قال: فنزل فقال هذا الرجز.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعناه، وبعد الشعر: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارحمه، فقال عمر: وجبت.
وعن أبي هريرة أنه قال في قصصه، وهو يذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أخاً لكم لا يقول الرفث، يعني: ابن رواحة قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
ولما نزلت هذه الآية " وإن منكم إلا واردها " ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى فجاءت امرأته فبكت وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون. فلما انقطعت عبرته قال: يا أهلاه، ما الذي أبكاكم؟ قالوا: لا ندري، ولكن رأيناك بكيت فبكينا قال: إنه أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية ينبئني فيها ربي عز وجل أني وارد النار ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن سيف بن ذي يزن: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد. من محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن ذي يزن: إذا أتاكم رسلي فآمركم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وابن رواحة، ومالك بن عبادة، وعتبة بن نيار.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فذكر الحديث، وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله، تطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي وأنتم أبغض لي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وفي حديث آخر: أنهم جمعوا حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما الذي عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها. قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وعن أبي الدرداء أنه قال:
أعوذ بالله أن يأتي علي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب
بين ثديي، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفي ثم يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذا لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذا نزعته يا عويمر، للقلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت علياً.
كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرها سراً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك فجاحدها ذلك: فقالت: فإن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن - وفي رواية: وقد عهدته لا يقرأ القرآن وهو جنب - فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
قالت: فزدني آية أخرى، فقال:
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
فقالت: زدني آية أخرى، فقال:
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر، فأتى ابن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغير عليه - زاد في رواية أخرى: بمعناه، فقالت له: أما إذ قرأت القرآن فإني قد عرفت أنه مكذوب عليك.
فافتقدته ذات ليلة فلم تجده على فراشها فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني؛ فجحدها فقالت: اقرأ الآيات من القرآن إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... له موقنات أن ما قال واقع
وأعلم علماً ليس بالظن أنني ... إلى الله محشور هناك وراجع
فحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فاستضحك حتى رد يده على فيه وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر لك يا بن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم. فأخبرني ما الذي ردت عليك حيث قلت ما قلت؟ قال: قالت لي: الله بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد وجدتها ذات فقه في الدين.
قال شريح: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر عبد الله بن رواحة ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
كان زيد بن أرقم يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة قال: فلم أر والي يتيم خيراً منه. خرج معه إلى مؤتة فحمله على حقيبة رحله وخرج به غازياً إلى مؤتة فسمعه زيد وهو يتمثل أبياته التي قال:
إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المؤمنون وغادروني ... بأرض الشام مشتهر الثواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن وانقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل ... ولا بغل أسافلها رواء
فلما سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة،
وترجع بين شعبتي الرحل، ولزيد بن أرقم يقول عبد الله بن رواحة:
يا زيد زيد اليعملات الذبل
تطاول الليل هديت فانزل
يرتجز. يقول: انزل، فسق بالقوم.
وفي حديث بمعناه: ثم نزله من الليل فصلى ركعتين ثم دعا فيهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام، فقلت: لبيك، قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى قوله: هنالك لا أبالي طلع نخل البيت. يقول: إذا استشهدت لم أبال ما تركت من عذي النخل وسقيه.
وعن عطاء بن أبي مسلم قال:
لما ودع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك قال: إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود. قال عبد الله بن رواحة: زدني يا رسول الله، قال: اذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب، فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر، قال: يا بن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة، فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.
وعن ابن إسحاق قال: فلما أصيب قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغني: أخذ زيد بن حارثة الراية فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم صممت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً. ثم، لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير
عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى.
وقال عبد الله بن رواحة عند ذلك:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعة أولا لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم نزل فقاتل حتى قتل. قال: وقد قال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
يريد جعفراً وزيداً، ونزل. فلما نزل أتاه ابن عمله بعرق لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذه منه فنهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال: وأنت في الدنيا؟؟؟؟؟؟، فألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.
وعن الوليد قال: سمعت أنهم ساروا حتى إذا كانوا بناحية معان من أرض الشراة أخبروا أن الروم قد نذروا وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، وعبد اله بن رواحة ساكت فسأله زيد عن رأيه فقال: إنا لم نسر إلى هذه البلاد ونحن نريد الغنائم ولكنا نريد لقاءهم ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة، فالرأي المسير إليهم، فقبل زيد رأيه وسار إليهم.
فروي أن الراية لمل انتهت إلى عبد الله بن رواحة جاءه الشيطان فرغبه بالحياة وكره إليه الموت ثم تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس الذي بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتلا عليهم " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " أين ما كنتم عاهدتم الله عليه، قد جاء مصداقه. اصدقوا الله يصدقكم، قال: فجاوؤه يخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه وأوتي ابن رواحة بلوح من ضلع وقد التاث جوعاً فرده وقال: هذا أدعه فيما أدعه من الدنيا، فشد عليهم وشدوا حتى شدخوا جميعأ.
وعن عروة بن الزبير من حديث قال: فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم، فتجهز الناس وتهيؤوا للخروج، فودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلموا عليه، فلما ودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وودعوا عبد الله بن رواحة بكى قالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " فلست أدري كيف لي
بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين، ودفع عنكم، فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
ثم أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فودعه ثم قال:
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم حتى نزلوا بمعان فبلغهم أن هرقل قد نزل بمآب في مئة ألف من الروم ومئة ألف من المستعربة فأقاموا بمعان يومين، فقالوا: نبعث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره بكثرة عدونا، فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا أمراً. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إليها تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فإن يظهرنا الله فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس: والله لقد صدق ابن رواحة، فانشمر الناس وهم ثلاثة آلاف حتى لقوا جموع الروم وهم بقرية من قرى البلقاء يقال لها شراف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤته: قرية فوق أحساء ابن مؤت.
ولما قتل جعفر بن أبي طالب دعا الناس: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، وهو في جانب العسكر ومعه ضلع حمل ينهسه ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا؟، ثم تقدم فأصيب اصبعه فارتجز فجعل يقول:
هل أنت إلا اصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قال: يا نفس، إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة؟ فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان له، وإلى معجف: حائط له، فهو لله ولرسوله:
يا نفس مالك تكرهين الجنه
أقسم بالله لتنزلنه
طائعةً أو لتكرهنه
فطالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
قد أجلب الناس وشدوا الرنه
قال مصعب بن شيبة: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه ثم صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال بعضهم حين بلغه قتل ابن رواحة: كان أولنا فصولاً وآخرنا قفولاً. كان يصلي الصلاة لوقتها.
وعن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعى إلى الناس - أو إلينا - جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان.
ولما قتل جعفر بمؤته أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة فاستشهد. قال: ثم دخل الجنة معترضاً، فشق ذلك على الأنصار فقالوا: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة، فسري عن قومه.
وكانت مؤته في جمادى الأول سنة ثمان من الهجرة.