رفيع بن مهران
أبو العالية الرياحي البصري مولى امرأة من بني رياح، ثم من بني تميم، أعتقته سائبه. أدرك عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم بعد سنين من وفاته.
حدث أبو العالية الرياحي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو عند الكرب: لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم.
قال أبو العالية: كنا بالشام مع أبي ذر، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أول رجل يغير سنتي رجل من بني فلان، فقال يزيد: أنا هو؟ قال: لا.
قال أبو العالية: شهدت عمر بن عبد العزيز ليلةً فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما يبقي منك تعب النهار مع سهر الليل؟! قال: لا تفعل يا أبا العالية، فإن لقاء الرجال للرجال تلقيح لألبابها.
قالوا: هذا وهم، وأبو العالية لم يبق إلى خلافة عمر، والحكاية محفوظة لميمون بن مهران.
كان أبو العالية تابعياً ثقة، من كبار التابعين. مات أبو العالية سنة ثلاث وتسعين.
قال قتادة: سمعت أبا العالية وكان أدرك علياً قال: قال علي: القضاة ثلاثة.
كان أبو العالية مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام؛ وقيل: إنه كان حميلاً، والحميل الذي ولد بأرض العدو، وكان يتكلم بالفارسية.
حدث أبو خلدة عن أبي العالية قال: ما تركت من ذهب أو فضة أو مال، فثلثه في سبيل الله، وثلثه في أهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثلثه في فقراء المسلمين، وأعطوا حق امرأتي. قال أبو خلدة: فقلت له: يسعك هذا، فأين مواليك؟ فقال: سأحدثك حديثي، إني كنت مملوكاً لأعرابية مذكرة، فاستقبلتني يوم جمعة فقالت: أين تنطلق يا لكع؟ قلت: انطلق إلى المسجد، قالت: أي المساجد؟ قلت: المسجد الجامع، قالت: انطلق يا لكع. قال: فذهبت أتبعها حتى دخلت المسجد، فوافقنا الأمير على المنبر، فقبضت على يدي فقالت: اللهم اذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد، إنه سائبة لله، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. قال: فتركتني وذهبت. قال: فما تراءينا بعد.
قال أبو العالية: والسائبة يضع نفسه حيث شاء.
وحدث عنه أيضاً قال: كنا عبيداً مملوكين، منا من يؤدي الضرائب، ومنا من يخدم أهله، فكنا نختم كل ليلة، فشق ذلك علينا، فجعلنا نختم كل ليلتين مرة، فشق علينا، فجعلنا نختم كل ثلاث ليال مرة فشق علينا، حتى شكا بعضنا إلى بعض؛ فلقينا أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلمونا أن نختم كل جمعة أو قال: كل سبع فصلينا ونمنا ولم يشق علينا.
وعن عاصم الأحول عن أبي العالية في قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " قال: هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه. قال: فذكرنا ذلك للحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح.
وعنه قال: قال لنا أبو العالية وهو يعلمنا: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، لا تحرفوا الصراط يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا ما فعلوا، فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا بخمس عشرة سنة.
قال عاصم: فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح.
وفي حديث بمعناه: وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع بينكم العداوة والبغضاء، وعليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا، فإنا قد قرأنا القرآن قبل أن يقتل صاحبهم يعني عثمان بخمس عشرة سنة.
العالية: تعلمت الكتاب والقرآن، فما شعر بي أهلي، ولا رئي في ثوبي مداد قط.
قال شعيب بن الحبحاب: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما تقرأ؛ ويقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا. فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: أظن صاحبك سمع انه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله.
قال أبو العالية: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رضينا حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم.
قال أبو العالية: إن كنت لأسمع بالرجل يذكر بالعلم فآتيه ولا أسأله عن شيء حتى أنظر إلى صلاته، فإن كان يحسن، وإلا قلت: إذ كنت جاهلاً فأنت بغيره أجهل وأجهل، فأذهب فلا أسأله عن شيء.
قال أبو العالية: سألت ابن عباس عن شيء فقال: يا أبا العالية، أتريد أن تكون مفتياً؟! فقلت: لا، ولكن لا آمن أن تذهبوا ونبقى. فقال: صدق أبو العالية.
قال أو العالية: كنت آتي ابن عباس، وقريش حوله، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامزت قريش، ففطن بهم ابن عباس فقال: هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً، ويجلس المملوك على الأسرة. قال: ثم أنشد محمد بن الحارث في إثره:
رأيت رفيع الناس من كان عالماً ... وإن لم يكن في قسومه بحسيب
إذا حل أرضاً عاش فيها بعلمه ... وما عالم في بلدة بغريب
قال أبو العالية: كان ابن العباس يعلمنا اللحن يعني الإعراب لأن به يجتنب اللحن.
قال مهاجر مولى ثقيف: كان أبو العالية جاراً لي، وكان يقول لي: سلني واكتب مني قبل أن تلتمس العلم عند غيري فلا تجده.
وكان أبو العالية يقول: ما أدري أي النعمتين علي أفضل: نعمة أن هداني الله عز وجل للإسلام؛ ونعمة إذ لم يجعلني حرورياً؛ فقد أنعم الله علي نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: أن هداني للإسلام، ثم لم يجعلني حرورياً.
وقال أبو العالية: نعمتان عظيمتان أعتد لنا، لا أدري أيتهما أفضل: إذ أنقذني من الشرك أو إذ عافاني من أن أكون من أهل هذه البدع.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " " إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ".
قال شعيب بن الحبحاب: حابيت أبا العالية في ثوب، فأبى أن يشتريه مني، قال: أول ما جرى بيني وبينه أنه جاء إلى السوق، فطلب ثوباً بضاعة كانت عنده، فأتاني، فأخرجت له ثوباً صالحاً وأخذت
الدراهم، قال: فذهب فأراه فقالوا: هذا خير من دراهمك؛ قال: فجاء فقال: رد علينا دراهمنا بارك الله فيك، فرددت عليه الدراهم وأخذت الثوب.
قال حماد بن سلمة: أراد أبو العالية سفراً، فسمع رجلاً يقول: يا متوكل؛ فأقام.
حكى أبو عبد الله بن خفيف، عن أبي العالية قال: وقع في رجله الإكلة فقالوا تحتاج تقطع، فأبى عليهم، فارتفع إلى ساقه، فقيل له: إن لم تقطعه ارتفع إلى فخذك ومت فتكون قاتل نفسك، فقال: إن كان ولابد فأحضروا لي قارئاً، فإذا رأيتموني قد احمر لوني وحددت بصري فافعلوا ما بدا لكم. فأحضر له قارئ فقرأ، فحدد بصره واحمر لونه، فقاموا فوضعوا على رجله المنشار فقطعوه وهو على حاله؛ فلما أفاق سألوه: هل ألمت؟ فقال: شغلني برد محبة الله عن حرارة سكينه؛ ثم أخذ رجله فقال: إن سألني الله يوم القيامة: هل مشيت بها منذ أربعين سنةً في شيء لم أرضه؟ لقلت: لا، وأنا صادق.
وعن أبي العالية قال: سيأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن وتبلى كما تبلى ثيابهم، ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا ما نهوا عنه قالوا: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " أمرهم كله طمع ليس معه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم الماهن.
قال أبو العالية: لما كان زمن علي ومعاوية وإني لشاب، القتال أحب إلي من الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان ما يرى طرفاهما، إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء، وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء؛ قال: فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أنزله كافراً، وأي الفريقين أنزله مؤمناً، أو من أكرهني على هذا؟ فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم.
وفي رواية: فتلوت " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم " قال: فرجعت وتركتهم.
قال أبو خلدة سمعت أبا العالية يقول: حدثوا القوم ما حملوا، قال: قلت: ما معنى ما حملوا؟ قال: ما نشطوا. وكان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام.
دفع أنس بن مالك إلى أبي العالية تفاحةً كانت في يده، فجعل يقلبها ويقول: تفاحة مستها كف مستها كف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو العالية: ما مسست ذكري منذ ستين سنة أو سبعين سنةً بيميني.
قال مغيرة: أول من أذن وراء نهر بلخ أبو العالية، لما قطعوا النهر تغفل الناس فأذن.
قال عاصم بن الأحول: سمعت أبا العالية يقول: أنتم أكثر صياماً وصلاةً ممن كان قبلكم، ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم.
وعن ثابت قال: قال رفيع أبو العالية: إني لأرجو أن لا يهلك عبد بين نعمتين: نعمة يحمد الله عليها؛ وذنب يستغفر الله منه.
وكان أبو العالية إذا دخل عليه أصحابه يرحب بهم ثم يقرأ: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " الآية.
وعن أبي العالية قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتابه: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: " ومن
يتوكل على الله فهو حسبه " ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له " ومن استجاره من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله " واعتصموا بحبل الله جميعاً " والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ".
قال عاصم: قال لي ابن سيرين: لا تحدثني عن أبي العالية والحسن، فإنهما كانا لا يباليان عمن أخذا يعني لسلامتهما وحسن ظنهما بالناس.
قال أبو خلدة: كان كفن أبي العالية عند بكر بن عبد الله قميصاً مكفوفاً مزروراً، وكان يلبسه كل ليلة أربع وعشرين، ومن الغد من رمضان، ثم يرده.
توفي أبو العالية سنة تسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة ست ومئة، وقيل: سنة إحدى عشرة ومئة، وقيل: سنة اثنتين ومئة.
أبو العالية الرياحي البصري مولى امرأة من بني رياح، ثم من بني تميم، أعتقته سائبه. أدرك عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم بعد سنين من وفاته.
حدث أبو العالية الرياحي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو عند الكرب: لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم.
قال أبو العالية: كنا بالشام مع أبي ذر، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أول رجل يغير سنتي رجل من بني فلان، فقال يزيد: أنا هو؟ قال: لا.
قال أبو العالية: شهدت عمر بن عبد العزيز ليلةً فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما يبقي منك تعب النهار مع سهر الليل؟! قال: لا تفعل يا أبا العالية، فإن لقاء الرجال للرجال تلقيح لألبابها.
قالوا: هذا وهم، وأبو العالية لم يبق إلى خلافة عمر، والحكاية محفوظة لميمون بن مهران.
كان أبو العالية تابعياً ثقة، من كبار التابعين. مات أبو العالية سنة ثلاث وتسعين.
قال قتادة: سمعت أبا العالية وكان أدرك علياً قال: قال علي: القضاة ثلاثة.
كان أبو العالية مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام؛ وقيل: إنه كان حميلاً، والحميل الذي ولد بأرض العدو، وكان يتكلم بالفارسية.
حدث أبو خلدة عن أبي العالية قال: ما تركت من ذهب أو فضة أو مال، فثلثه في سبيل الله، وثلثه في أهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثلثه في فقراء المسلمين، وأعطوا حق امرأتي. قال أبو خلدة: فقلت له: يسعك هذا، فأين مواليك؟ فقال: سأحدثك حديثي، إني كنت مملوكاً لأعرابية مذكرة، فاستقبلتني يوم جمعة فقالت: أين تنطلق يا لكع؟ قلت: انطلق إلى المسجد، قالت: أي المساجد؟ قلت: المسجد الجامع، قالت: انطلق يا لكع. قال: فذهبت أتبعها حتى دخلت المسجد، فوافقنا الأمير على المنبر، فقبضت على يدي فقالت: اللهم اذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد، إنه سائبة لله، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. قال: فتركتني وذهبت. قال: فما تراءينا بعد.
قال أبو العالية: والسائبة يضع نفسه حيث شاء.
وحدث عنه أيضاً قال: كنا عبيداً مملوكين، منا من يؤدي الضرائب، ومنا من يخدم أهله، فكنا نختم كل ليلة، فشق ذلك علينا، فجعلنا نختم كل ليلتين مرة، فشق علينا، فجعلنا نختم كل ثلاث ليال مرة فشق علينا، حتى شكا بعضنا إلى بعض؛ فلقينا أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلمونا أن نختم كل جمعة أو قال: كل سبع فصلينا ونمنا ولم يشق علينا.
وعن عاصم الأحول عن أبي العالية في قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " قال: هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه. قال: فذكرنا ذلك للحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح.
وعنه قال: قال لنا أبو العالية وهو يعلمنا: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، لا تحرفوا الصراط يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا ما فعلوا، فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا بخمس عشرة سنة.
قال عاصم: فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح.
وفي حديث بمعناه: وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع بينكم العداوة والبغضاء، وعليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا، فإنا قد قرأنا القرآن قبل أن يقتل صاحبهم يعني عثمان بخمس عشرة سنة.
العالية: تعلمت الكتاب والقرآن، فما شعر بي أهلي، ولا رئي في ثوبي مداد قط.
قال شعيب بن الحبحاب: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما تقرأ؛ ويقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا. فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: أظن صاحبك سمع انه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله.
قال أبو العالية: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رضينا حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم.
قال أبو العالية: إن كنت لأسمع بالرجل يذكر بالعلم فآتيه ولا أسأله عن شيء حتى أنظر إلى صلاته، فإن كان يحسن، وإلا قلت: إذ كنت جاهلاً فأنت بغيره أجهل وأجهل، فأذهب فلا أسأله عن شيء.
قال أبو العالية: سألت ابن عباس عن شيء فقال: يا أبا العالية، أتريد أن تكون مفتياً؟! فقلت: لا، ولكن لا آمن أن تذهبوا ونبقى. فقال: صدق أبو العالية.
قال أو العالية: كنت آتي ابن عباس، وقريش حوله، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامزت قريش، ففطن بهم ابن عباس فقال: هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً، ويجلس المملوك على الأسرة. قال: ثم أنشد محمد بن الحارث في إثره:
رأيت رفيع الناس من كان عالماً ... وإن لم يكن في قسومه بحسيب
إذا حل أرضاً عاش فيها بعلمه ... وما عالم في بلدة بغريب
قال أبو العالية: كان ابن العباس يعلمنا اللحن يعني الإعراب لأن به يجتنب اللحن.
قال مهاجر مولى ثقيف: كان أبو العالية جاراً لي، وكان يقول لي: سلني واكتب مني قبل أن تلتمس العلم عند غيري فلا تجده.
وكان أبو العالية يقول: ما أدري أي النعمتين علي أفضل: نعمة أن هداني الله عز وجل للإسلام؛ ونعمة إذ لم يجعلني حرورياً؛ فقد أنعم الله علي نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: أن هداني للإسلام، ثم لم يجعلني حرورياً.
وقال أبو العالية: نعمتان عظيمتان أعتد لنا، لا أدري أيتهما أفضل: إذ أنقذني من الشرك أو إذ عافاني من أن أكون من أهل هذه البدع.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " " إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ".
قال شعيب بن الحبحاب: حابيت أبا العالية في ثوب، فأبى أن يشتريه مني، قال: أول ما جرى بيني وبينه أنه جاء إلى السوق، فطلب ثوباً بضاعة كانت عنده، فأتاني، فأخرجت له ثوباً صالحاً وأخذت
الدراهم، قال: فذهب فأراه فقالوا: هذا خير من دراهمك؛ قال: فجاء فقال: رد علينا دراهمنا بارك الله فيك، فرددت عليه الدراهم وأخذت الثوب.
قال حماد بن سلمة: أراد أبو العالية سفراً، فسمع رجلاً يقول: يا متوكل؛ فأقام.
حكى أبو عبد الله بن خفيف، عن أبي العالية قال: وقع في رجله الإكلة فقالوا تحتاج تقطع، فأبى عليهم، فارتفع إلى ساقه، فقيل له: إن لم تقطعه ارتفع إلى فخذك ومت فتكون قاتل نفسك، فقال: إن كان ولابد فأحضروا لي قارئاً، فإذا رأيتموني قد احمر لوني وحددت بصري فافعلوا ما بدا لكم. فأحضر له قارئ فقرأ، فحدد بصره واحمر لونه، فقاموا فوضعوا على رجله المنشار فقطعوه وهو على حاله؛ فلما أفاق سألوه: هل ألمت؟ فقال: شغلني برد محبة الله عن حرارة سكينه؛ ثم أخذ رجله فقال: إن سألني الله يوم القيامة: هل مشيت بها منذ أربعين سنةً في شيء لم أرضه؟ لقلت: لا، وأنا صادق.
وعن أبي العالية قال: سيأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن وتبلى كما تبلى ثيابهم، ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا ما نهوا عنه قالوا: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " أمرهم كله طمع ليس معه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم الماهن.
قال أبو العالية: لما كان زمن علي ومعاوية وإني لشاب، القتال أحب إلي من الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان ما يرى طرفاهما، إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء، وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء؛ قال: فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أنزله كافراً، وأي الفريقين أنزله مؤمناً، أو من أكرهني على هذا؟ فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم.
وفي رواية: فتلوت " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم " قال: فرجعت وتركتهم.
قال أبو خلدة سمعت أبا العالية يقول: حدثوا القوم ما حملوا، قال: قلت: ما معنى ما حملوا؟ قال: ما نشطوا. وكان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام.
دفع أنس بن مالك إلى أبي العالية تفاحةً كانت في يده، فجعل يقلبها ويقول: تفاحة مستها كف مستها كف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو العالية: ما مسست ذكري منذ ستين سنة أو سبعين سنةً بيميني.
قال مغيرة: أول من أذن وراء نهر بلخ أبو العالية، لما قطعوا النهر تغفل الناس فأذن.
قال عاصم بن الأحول: سمعت أبا العالية يقول: أنتم أكثر صياماً وصلاةً ممن كان قبلكم، ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم.
وعن ثابت قال: قال رفيع أبو العالية: إني لأرجو أن لا يهلك عبد بين نعمتين: نعمة يحمد الله عليها؛ وذنب يستغفر الله منه.
وكان أبو العالية إذا دخل عليه أصحابه يرحب بهم ثم يقرأ: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " الآية.
وعن أبي العالية قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتابه: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: " ومن
يتوكل على الله فهو حسبه " ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له " ومن استجاره من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله " واعتصموا بحبل الله جميعاً " والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ".
قال عاصم: قال لي ابن سيرين: لا تحدثني عن أبي العالية والحسن، فإنهما كانا لا يباليان عمن أخذا يعني لسلامتهما وحسن ظنهما بالناس.
قال أبو خلدة: كان كفن أبي العالية عند بكر بن عبد الله قميصاً مكفوفاً مزروراً، وكان يلبسه كل ليلة أربع وعشرين، ومن الغد من رمضان، ثم يرده.
توفي أبو العالية سنة تسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة ست ومئة، وقيل: سنة إحدى عشرة ومئة، وقيل: سنة اثنتين ومئة.