الوليد بن عقبة بن أبي معيط
واسمه أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس أبو وهب الأموي له صحبة، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس كان سخياً شاعراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، وسكن الجزيرة بعد قتل عثمان، ولم يشهد شيئاً من الحروب التي جرت بين علي ومعاوية.
روى الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أناساً من أهل الجنة يتطلعون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل " كان الوليد من رجال قريش وشعرائهم.
وخرج يرتاد منزلاً حتى أتى الرقة، فأعجبته؛ فنزل على البليخ، وقال: منك المحشر، فمات بها. وأخوه عمارة بن عقبة، نزل الكوفة. وأبوهما عقبة بن أبي معيط، قتله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر صبراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، فرفعوا عليه أنه شرب الخمر؛ فعزله عثمان، وجلده الحد. وقال فيه الحطيئة يعذره: " من الكامل "
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت ولو ... خلوا عنانك لم تزل تجري
فزادوا فيها من غير قول الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم ثملاً وما يدري
ليزيدهم جزءاً ولو فعلوا ... لأتت صلاتهم على العشر
أسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات بني المصطلق. وولاه
عمر بن الخطاب صدقات بني تغلب. وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، ثم عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة، فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية. ومات بالرقة، وقبره بعين الرومية على خمسة عشر ميلاً من الرقة، وكانت ضيعة له.
وأم أروى أمه أم حكيم البيضاء عمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان عقبة أبوه من شياطين قريش، أسره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، وضرب عنقه. وهو الفاسق الذي ذكره الله عز وجل بقوله: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال الوليد: لما فتحت مكة جعل أناس من أهلها يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأولادهم؛ فيمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة، قال: فلم يمنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمسح رأسي ويدعو إلي بالبركة إلا أن أمي خلقتني بخلوق.
وعن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز
وجل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت. فانطلقوا فنأتي رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة.
لما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي.
فضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البعث إلى الحارث.
وأقبل الحارث بأصحابه، إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث.
فلما غشيتهم قال لهم: إلى من يعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله. فقال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي. قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله.
قال: فنزلت الحجرات: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " إلى هذا المكان: " فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم ".
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق بعد وقعة المريسيع.
قالوا: حتى إذا كان قريباً منا رجع، قال: فركبنا في أثره، وسقنا طائفة من صدقاتنا، يطلبونه بها وبنفقات يحملونها، فقدم قبلهم، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله أتيت قوماً في جاهليتهم، جدوا للقتال، ومنعوا الصدقة. فلم يغير ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ".
قال: وأتى المصطلقيون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إثر الوليد بطائفة من فرائضهم يسوقونها، ما اتبعهم منها، ونفقات يحملونها، فذكروا ذلك له، وأنهم خرجوا يطلبون الوليد بصدقاتهم، فلم يجدوه، فدفعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان معهم، فقالوا: يا نبي الله، بلغنا فخرج رسولك؛ فسررنا بذلك، وقلنا: نتلقاه، فبلغنا رجعته، فخفنا أن يكون ذلك عن سخطة علينا.
وعرضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشتروا منه بقية ما تبقى.
قال: فقبل منهم الفرائض، وقال: ارجعوا بنفقاتكم؛ فإنا لا نبيع شيئاً من الصدقات حتى نقبضه.
وعن علي: أن امرأة الوليد بن عقبة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الوليد يضربها، قال: قولي له: قد أجارني.
قال علي: فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت، فقالت: ما زادني إلا ضرباً.
فأخذ هدبة من ثوبه فدفعها، فقال: قولي له: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أجارني.
فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت فقالت: ما زادني إلا ضرباً، فرفع يديه وقال: " اللهم عليك الوليد، أثم بي مرتين ".
وفي رواية: " اللهم عليك الوليد مرتين أو ثلاثاً ".
وعن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سناناً وأبسط منك لساناً وأملأ للكتيبة منك. فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال: يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
وقيل: إنها نزلت في أبيه.
ولما ولي الوليد الكوفة بعد سعد، وقدم على سعد، قال له سعد: يا أبا وهب، والله ما أدري، أكست بعدي أم استحمقت أنا بعدك؟ فقال الوليد: ما كسنا بعدك ولا حمقت، ولكن القوم استأمروا عليك بسلطانهم. قال: صدقت: وخرج سعد، وأقام الوليد على الكوفة خمس سنين.
كان لبيد قد جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، فألحت عليه زمن الوليد بن عقبة.
فصعد الوليد المنبر، فقال: أعينوا أخاكم، وبعث إليه بثلاثين جزوراً.
وكان لبيد قد ترك الشعر في الإسلام، فقال لابنته: أجيبي الأمير، فقالت: من الوافر
إذا هبت رياح أبي عقيل ... ذكرنا عند هبتها الوليدا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
طويل الباع أبيض عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني يا بن أروى أن تعودا
فقال لبيد: أحسنت لولا أنك سألت، قالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم، قال: وأنت في هذا أشعر.
قال علقمة: كنا في جيش بالروم، ومعنا حذيفة، وعلينا الوليد، فشرب الوليد الخمر؛ فأردنا أن نحده. فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم؛ فيطمعوا فيكم؟ فبلغه، فقال: لأشربن وإن كانت محرمة، ولأشربن على رغم أنف من رغم.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيلي أموركم من بعدي رجال، يطعنون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها "، فقلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركتهم؟ فقال: " سألني ابن أم عبد "، ثم رفع يديه حتى إني لأرى بياض إبطيه، فقال: " لا طاعة لمن عصى الله " ثلاث مرار حسبت.
فلما كان الوليد بن عقبة بالكوفة أخر الصلاة يوماً، فقام ابن مسعود، فأقام الصلاة، وصلى بالناس.
فأرسل إليه الوليد: ما حملك على ما صنعت اليوم؟ أجاءك عهد من أمير المؤمنين؟ فسمع وطاعة، أم ابتدعت؟ فقال: ما جاءني من صاحبك أمر، ولم أبتدع، ولكن أبى الله ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا، وأنت في حاجتك ".
قال حضين بن المنذر: صلى الوليد بن عقبة بالناس الفجر أربعاً، وهو سكران، ثم انفتل، فالتفت إليهم، فقال: أزيدكم؟ فرفع ذلك إلى عثمان ... الحديث.
وعن زر بن حبيش قال: لما أنكر الناس شرة الوليد بن عقبة فزع الناس إلى عبد الله بن مسعود، فقال لهم عبد الله بن مسعود: اصبروا، فإن جور إمام خمسين عاماً خير من هرج شهر، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا بد للناس من إمارة برة أو فاجرة، فأما البرة فتعدل في القسم، وتقسم بينكم فيكم بالسوية، وأما الفاجرة فيبتلي فيها المؤمنين، والإمارة الفاجرة خير من الهرج "، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل والكذب.
كان عمر بن الخطاب استعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فنزل في تغلب، وكان أبو زبيدة في الجاهلية والإسلام في بني تغلب حتى أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله ديناً له، فأخذ له الوليد بحقه، فشكرها له أبو زبيد وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة.
فلما ولي الوليد الكوفة أتاه مسلماً ومعظماً على مثل ما كان يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وتلك آخر قدمة قدمها أبو زبيد على الوليد، وقد كان ينتجعه ويرجع.
وكان نصرانياً، فأسلم في آخر إمارة الوليد، وحسن إسلامه، فاستدخله الوليد، وكان عربياً شاعراً، حتى أقام على الإسلام.
فأتى آت زينب وأبا مورع وجندباً وهم يحفرون له مذ قتل أبناءهم، ويصنعون له العيوب، فقال لهم: هل لكم في الوليد يشارب أبا زبيد، فثاروا في ذلك، فقال
أبو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من أهل الكوفة: هذا أميركم وأبو زبيد خيرته وهما عاكفان على الخمر.
فقاموا معهم، ومنزل الوليد في الرحبة مع عمارة بن عقبة، ليس عليه باب.
فاقتحموا عليه من المسجد، وبابه إلى المسجد، فلم يفجأ الوليد إلا وهم ... فنحى شيئاً، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده، فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق، عليه تفاريق عنب، وإنما نحاها استحياء أن يروا طبقه وليس عليه إلا تفاريق.
فقاموا فخرجوا على الناس، وأقبل بعضهم يلوم بعضاً، وسمع الناس بذلك؛ فأقبلوا عليهم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب بعضهم لعمله، وبعضهم أرغمهم الكتاب، فدعاهم ذلك إلى التجسس والخبث.
فستر عنهم الوليد ذلك، وطواه عن عثمان، ولم يدخل بين الناس في ذلك شيء، وكره أن يفسد بينهم، وسكت عن ذلك، وصبر.
وفي حديث آخر: أن جندباً ورهطاً معه جاؤوا إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعكف على الخمر، وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استتر منا بشيء لم نتبع عورته، ولم نهتك ستره.
فأرسل إلى ابن مسعود: فأتاه، فعاتبه في ذلك، وقال: يرضى من مثلك بأن تجيب أقواماً موتورين؟ على أي شيء أستتر به؟ إنما يقال هذا للملجلج، فتلاحنا، وافترقا على تغاضب، ولم يكن بينهما أكثر من ذلك.
قال محمد وطلحة: أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، قال: وما يدريك أنه ساحر؟ قال: زعم هؤلاء النفر أنه ساحر، فقالوا: أساحر أنت؟ قال:
نعم، قالوا: وتدري ما السحر؟ قال: نعم. وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قبل ذنبه وينزل من قبل رأسه، ومن قبل رأسه فينزل من قبل ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فيه واسته. فقال ابن مسعود: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أن رجلاً يلعب بالسحر عند الوليد، فأقبلوا، وأقبل جندب، واغتنمها، يقول: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه، فضربه.
وأجمع عبد الله والوليد على حبسه حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أن: استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه، وأنه لصادق لقوله فيما ظن من تعطيل حده، وعزروه وخلوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألا يعملوا بالظنون، أو يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطئ، ونؤدب المصيب. ففعل ذلك به، وترك، لأنه أصاب حداً.
وغضب لجندب أصحابه؛ فخرجوا إلى المدينة، فاستعفوا من الوليد، فقال لهم عثمان: تعملون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن، ارجعوا.
فرجعوا إلى الكوفة، فلم يبق موتور في نفسه إلا آتاهم، فاجتمعوا على رأي فأصدروه، فتغفلوا الوليد، وكان ليس عليه حجاب. فدخل عليه أبو زينب الأزدي وأبو مورع الأسدي، فسلا خاتمه، ثم خرجا إلى عثمان، فشهدا عليه، ومعهما نفر.
فبعث إليه عثمان، فلما قدم أمر به سعيد بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله، فوالله أنهما لخصمان موتوران، فقال: لا يضرك ذلك، إنما نعمل بما ينتهي إلينا، فمن ظلم فالله ولي انتقامه، ومن ظلم فالله ولي جزائه.
وقيل: إنهم لما غشوا الوليد، وله امرأتان في المخدع، بينهما وبين القوم ستر، إحداهما بنت ذي الخمار، والأخرى بنت أبي عقيل. فنام الوليد، وتفرق القوم وثبت أبو زينب أبو مورع، فتناول أحدهما خاتمه، وخرجا.
فاستيقظ الوليد، وامرأتاه عند رأسه فلم ير خاتمه، فسألهما عنه، فلم
يجد عندهما منه علماً، قال: فأي القوم تخلف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب، قال: حلياهما. قالتا: على أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف. صاحب المطرف أبعدهما منك، قال: الطوال؟ قالتا: نعم. وصاحب الخميصة أقربهما إليك، قال: القصير؟ قالتا: نعم، وقد رأيناه يده على يدك، قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورع، وقد أرادا داهية، فليت شعري ما يريدان؟ فطلبهما فلم يقدر عليهما وكان وجههما إلى المدينة فقدما على عثمان، ومعهما نفر ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له: فقال: من يشهد منكم؟ قالوا: أبو زينب أبو مورع، وكاع الآخرون.
فقال: كيف رأيتماه؟ قالا: كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال: ما يقيء الخمر إلا شاربها.
وفي حديث آخر قال:
أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرنا من لحيته وهو يقيء الخمر.
فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثلاً: من البسيط
مهما خشيت على أمر خلوت به ... فلم أخفك على أمثالها جار
فحلف له الوليد، وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي.
فأمر سعيد بن العاص، فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولدهما حتى اليوم.
وكان على الوليد يوم أمر به أن يجلد خميصة، فنزعها عنه علي بن أبي طالب.
وفي حديث: فكلمه في ذلك علي، فقال له عثمان: دونك ابن عمك فأقم عليه الحد.
قال: قم يا حسن فاجلده، قال: فيم أنت من هذا؟ ول هذا غيرك. قال: بل ضعفت ووهنت. قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده.
فجعل يجلده، ويعد علي حتى بلغ أربعين، فقال: كف أو أمسك أو أرسله. جلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين، وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة.
كان الناس في الوليد فرقتين: العامة معه، والخاصة عليه، فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفين، فولي معاوية، فجعلوا يقولون: عنته عثمان بالباطل، فقال لهم علي: إنكم وما تعيرون بع عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، وما ذنب عثمان من رجل قد ضربه بقولكم، وعزله؟! وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟.
وكان الوليد أدخل على الناس خيراً حتى كان يقسم للولائد والعبيد، ولقد تفجع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهن الجرار يقلن: من الرجز
يا ويلنا قد عزل الوليد ... وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ... قد جوع الإماء والعبيد
والوليد بن عقبة هو الذي يقول: من الطويل
بني هاشم إنا وما كان بيننا ... كصدع الصفا لا يرأب الدهر شاعبه
بني هاشم كيف التعذر عندنا ... وبر ابن أروى عندكم وحرائبه
بني هاشم أدوا سلاح ابن أختكم ... ولا تهبوه لا تحل مواهبه
فإلا تؤدوه إلينا فإنه ... سواء علينا قاتلاه وسالبه
وأخوه عمارة بن عقبة، وله يقول الوليد: من الطويل
وإن يك ظني يا بن أمي صادقاً ... عمارة لا تدرك بذحل ولا وتر
تلاعب أقتال ابن عفان لاهياً ... كأنك لم تسمع بموت أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
لقي الوليد بن عقبة بجاداً مولى عثمان بن عفان بالمراض صادراً عن المدينة، والوليد قادم، فسأله عن أمر عثمان، فأخبره أنه قد قتل، فقال: من الخفيف
ليت أني هلكت قبل حديث ... سل جسمي وريع منه فؤادي
يوم لاقيت بالمراض بجاداً ... ليت أني هلكت قبل بجاد
قدم معاوية الكوفة، فصعد المنبر، وقال: أين هو وهب؟ فقام إليه الوليد، فقال: أنشدني قولك: من الوافر
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق وما تريم
يمنيك الخلافة كل ركب ... لأنضاء العراق بهم رسوم
فإنك والكتاب إلي علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
لك الخيرات فاحملنا عليهم ... فإن الطالب الترة الغشوم
وقومك بالمدينة قد أنيخوا ... فهم صرعى كأنهم هشيم
فلما فرغ من إنشادها قال معاوية: من الطويل
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ولما حضر الموت الوليد بن عقبة قال: اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا علي فلا تبارك لي فيما أقدم عليه، واجعل مردي شر مرد، وإن كانوا كذبوا علي فاجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي.
مر مسلمة بن عبد الملك بقبر الوليد بن عقبة بالرقة، فقال: قبر من هذا؟ قيل:
قبر الوليد بن عقبة، قال: رحم الله أبا وهب، وأثنى عليه، فقيل: قبلا من هذا الآخر؟ قيل: قبر أبي زبيد الطائي الشاعر، قال: وهذا فيرحمه الله. فقيل: إنه كان نصرانياً، قال: إنه كان كريماً.
واسمه أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس أبو وهب الأموي له صحبة، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس كان سخياً شاعراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، وسكن الجزيرة بعد قتل عثمان، ولم يشهد شيئاً من الحروب التي جرت بين علي ومعاوية.
روى الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أناساً من أهل الجنة يتطلعون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل " كان الوليد من رجال قريش وشعرائهم.
وخرج يرتاد منزلاً حتى أتى الرقة، فأعجبته؛ فنزل على البليخ، وقال: منك المحشر، فمات بها. وأخوه عمارة بن عقبة، نزل الكوفة. وأبوهما عقبة بن أبي معيط، قتله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر صبراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، فرفعوا عليه أنه شرب الخمر؛ فعزله عثمان، وجلده الحد. وقال فيه الحطيئة يعذره: " من الكامل "
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت ولو ... خلوا عنانك لم تزل تجري
فزادوا فيها من غير قول الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم ثملاً وما يدري
ليزيدهم جزءاً ولو فعلوا ... لأتت صلاتهم على العشر
أسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات بني المصطلق. وولاه
عمر بن الخطاب صدقات بني تغلب. وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، ثم عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة، فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية. ومات بالرقة، وقبره بعين الرومية على خمسة عشر ميلاً من الرقة، وكانت ضيعة له.
وأم أروى أمه أم حكيم البيضاء عمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان عقبة أبوه من شياطين قريش، أسره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، وضرب عنقه. وهو الفاسق الذي ذكره الله عز وجل بقوله: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال الوليد: لما فتحت مكة جعل أناس من أهلها يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأولادهم؛ فيمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة، قال: فلم يمنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمسح رأسي ويدعو إلي بالبركة إلا أن أمي خلقتني بخلوق.
وعن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز
وجل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت. فانطلقوا فنأتي رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة.
لما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي.
فضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البعث إلى الحارث.
وأقبل الحارث بأصحابه، إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث.
فلما غشيتهم قال لهم: إلى من يعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله. فقال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي. قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله.
قال: فنزلت الحجرات: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " إلى هذا المكان: " فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم ".
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق بعد وقعة المريسيع.
قالوا: حتى إذا كان قريباً منا رجع، قال: فركبنا في أثره، وسقنا طائفة من صدقاتنا، يطلبونه بها وبنفقات يحملونها، فقدم قبلهم، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله أتيت قوماً في جاهليتهم، جدوا للقتال، ومنعوا الصدقة. فلم يغير ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ".
قال: وأتى المصطلقيون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إثر الوليد بطائفة من فرائضهم يسوقونها، ما اتبعهم منها، ونفقات يحملونها، فذكروا ذلك له، وأنهم خرجوا يطلبون الوليد بصدقاتهم، فلم يجدوه، فدفعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان معهم، فقالوا: يا نبي الله، بلغنا فخرج رسولك؛ فسررنا بذلك، وقلنا: نتلقاه، فبلغنا رجعته، فخفنا أن يكون ذلك عن سخطة علينا.
وعرضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشتروا منه بقية ما تبقى.
قال: فقبل منهم الفرائض، وقال: ارجعوا بنفقاتكم؛ فإنا لا نبيع شيئاً من الصدقات حتى نقبضه.
وعن علي: أن امرأة الوليد بن عقبة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الوليد يضربها، قال: قولي له: قد أجارني.
قال علي: فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت، فقالت: ما زادني إلا ضرباً.
فأخذ هدبة من ثوبه فدفعها، فقال: قولي له: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أجارني.
فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت فقالت: ما زادني إلا ضرباً، فرفع يديه وقال: " اللهم عليك الوليد، أثم بي مرتين ".
وفي رواية: " اللهم عليك الوليد مرتين أو ثلاثاً ".
وعن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سناناً وأبسط منك لساناً وأملأ للكتيبة منك. فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال: يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
وقيل: إنها نزلت في أبيه.
ولما ولي الوليد الكوفة بعد سعد، وقدم على سعد، قال له سعد: يا أبا وهب، والله ما أدري، أكست بعدي أم استحمقت أنا بعدك؟ فقال الوليد: ما كسنا بعدك ولا حمقت، ولكن القوم استأمروا عليك بسلطانهم. قال: صدقت: وخرج سعد، وأقام الوليد على الكوفة خمس سنين.
كان لبيد قد جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، فألحت عليه زمن الوليد بن عقبة.
فصعد الوليد المنبر، فقال: أعينوا أخاكم، وبعث إليه بثلاثين جزوراً.
وكان لبيد قد ترك الشعر في الإسلام، فقال لابنته: أجيبي الأمير، فقالت: من الوافر
إذا هبت رياح أبي عقيل ... ذكرنا عند هبتها الوليدا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
طويل الباع أبيض عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني يا بن أروى أن تعودا
فقال لبيد: أحسنت لولا أنك سألت، قالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم، قال: وأنت في هذا أشعر.
قال علقمة: كنا في جيش بالروم، ومعنا حذيفة، وعلينا الوليد، فشرب الوليد الخمر؛ فأردنا أن نحده. فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم؛ فيطمعوا فيكم؟ فبلغه، فقال: لأشربن وإن كانت محرمة، ولأشربن على رغم أنف من رغم.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيلي أموركم من بعدي رجال، يطعنون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها "، فقلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركتهم؟ فقال: " سألني ابن أم عبد "، ثم رفع يديه حتى إني لأرى بياض إبطيه، فقال: " لا طاعة لمن عصى الله " ثلاث مرار حسبت.
فلما كان الوليد بن عقبة بالكوفة أخر الصلاة يوماً، فقام ابن مسعود، فأقام الصلاة، وصلى بالناس.
فأرسل إليه الوليد: ما حملك على ما صنعت اليوم؟ أجاءك عهد من أمير المؤمنين؟ فسمع وطاعة، أم ابتدعت؟ فقال: ما جاءني من صاحبك أمر، ولم أبتدع، ولكن أبى الله ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا، وأنت في حاجتك ".
قال حضين بن المنذر: صلى الوليد بن عقبة بالناس الفجر أربعاً، وهو سكران، ثم انفتل، فالتفت إليهم، فقال: أزيدكم؟ فرفع ذلك إلى عثمان ... الحديث.
وعن زر بن حبيش قال: لما أنكر الناس شرة الوليد بن عقبة فزع الناس إلى عبد الله بن مسعود، فقال لهم عبد الله بن مسعود: اصبروا، فإن جور إمام خمسين عاماً خير من هرج شهر، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا بد للناس من إمارة برة أو فاجرة، فأما البرة فتعدل في القسم، وتقسم بينكم فيكم بالسوية، وأما الفاجرة فيبتلي فيها المؤمنين، والإمارة الفاجرة خير من الهرج "، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل والكذب.
كان عمر بن الخطاب استعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فنزل في تغلب، وكان أبو زبيدة في الجاهلية والإسلام في بني تغلب حتى أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله ديناً له، فأخذ له الوليد بحقه، فشكرها له أبو زبيد وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة.
فلما ولي الوليد الكوفة أتاه مسلماً ومعظماً على مثل ما كان يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وتلك آخر قدمة قدمها أبو زبيد على الوليد، وقد كان ينتجعه ويرجع.
وكان نصرانياً، فأسلم في آخر إمارة الوليد، وحسن إسلامه، فاستدخله الوليد، وكان عربياً شاعراً، حتى أقام على الإسلام.
فأتى آت زينب وأبا مورع وجندباً وهم يحفرون له مذ قتل أبناءهم، ويصنعون له العيوب، فقال لهم: هل لكم في الوليد يشارب أبا زبيد، فثاروا في ذلك، فقال
أبو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من أهل الكوفة: هذا أميركم وأبو زبيد خيرته وهما عاكفان على الخمر.
فقاموا معهم، ومنزل الوليد في الرحبة مع عمارة بن عقبة، ليس عليه باب.
فاقتحموا عليه من المسجد، وبابه إلى المسجد، فلم يفجأ الوليد إلا وهم ... فنحى شيئاً، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده، فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق، عليه تفاريق عنب، وإنما نحاها استحياء أن يروا طبقه وليس عليه إلا تفاريق.
فقاموا فخرجوا على الناس، وأقبل بعضهم يلوم بعضاً، وسمع الناس بذلك؛ فأقبلوا عليهم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب بعضهم لعمله، وبعضهم أرغمهم الكتاب، فدعاهم ذلك إلى التجسس والخبث.
فستر عنهم الوليد ذلك، وطواه عن عثمان، ولم يدخل بين الناس في ذلك شيء، وكره أن يفسد بينهم، وسكت عن ذلك، وصبر.
وفي حديث آخر: أن جندباً ورهطاً معه جاؤوا إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعكف على الخمر، وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استتر منا بشيء لم نتبع عورته، ولم نهتك ستره.
فأرسل إلى ابن مسعود: فأتاه، فعاتبه في ذلك، وقال: يرضى من مثلك بأن تجيب أقواماً موتورين؟ على أي شيء أستتر به؟ إنما يقال هذا للملجلج، فتلاحنا، وافترقا على تغاضب، ولم يكن بينهما أكثر من ذلك.
قال محمد وطلحة: أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، قال: وما يدريك أنه ساحر؟ قال: زعم هؤلاء النفر أنه ساحر، فقالوا: أساحر أنت؟ قال:
نعم، قالوا: وتدري ما السحر؟ قال: نعم. وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قبل ذنبه وينزل من قبل رأسه، ومن قبل رأسه فينزل من قبل ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فيه واسته. فقال ابن مسعود: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أن رجلاً يلعب بالسحر عند الوليد، فأقبلوا، وأقبل جندب، واغتنمها، يقول: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه، فضربه.
وأجمع عبد الله والوليد على حبسه حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أن: استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه، وأنه لصادق لقوله فيما ظن من تعطيل حده، وعزروه وخلوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألا يعملوا بالظنون، أو يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطئ، ونؤدب المصيب. ففعل ذلك به، وترك، لأنه أصاب حداً.
وغضب لجندب أصحابه؛ فخرجوا إلى المدينة، فاستعفوا من الوليد، فقال لهم عثمان: تعملون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن، ارجعوا.
فرجعوا إلى الكوفة، فلم يبق موتور في نفسه إلا آتاهم، فاجتمعوا على رأي فأصدروه، فتغفلوا الوليد، وكان ليس عليه حجاب. فدخل عليه أبو زينب الأزدي وأبو مورع الأسدي، فسلا خاتمه، ثم خرجا إلى عثمان، فشهدا عليه، ومعهما نفر.
فبعث إليه عثمان، فلما قدم أمر به سعيد بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله، فوالله أنهما لخصمان موتوران، فقال: لا يضرك ذلك، إنما نعمل بما ينتهي إلينا، فمن ظلم فالله ولي انتقامه، ومن ظلم فالله ولي جزائه.
وقيل: إنهم لما غشوا الوليد، وله امرأتان في المخدع، بينهما وبين القوم ستر، إحداهما بنت ذي الخمار، والأخرى بنت أبي عقيل. فنام الوليد، وتفرق القوم وثبت أبو زينب أبو مورع، فتناول أحدهما خاتمه، وخرجا.
فاستيقظ الوليد، وامرأتاه عند رأسه فلم ير خاتمه، فسألهما عنه، فلم
يجد عندهما منه علماً، قال: فأي القوم تخلف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب، قال: حلياهما. قالتا: على أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف. صاحب المطرف أبعدهما منك، قال: الطوال؟ قالتا: نعم. وصاحب الخميصة أقربهما إليك، قال: القصير؟ قالتا: نعم، وقد رأيناه يده على يدك، قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورع، وقد أرادا داهية، فليت شعري ما يريدان؟ فطلبهما فلم يقدر عليهما وكان وجههما إلى المدينة فقدما على عثمان، ومعهما نفر ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له: فقال: من يشهد منكم؟ قالوا: أبو زينب أبو مورع، وكاع الآخرون.
فقال: كيف رأيتماه؟ قالا: كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال: ما يقيء الخمر إلا شاربها.
وفي حديث آخر قال:
أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرنا من لحيته وهو يقيء الخمر.
فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثلاً: من البسيط
مهما خشيت على أمر خلوت به ... فلم أخفك على أمثالها جار
فحلف له الوليد، وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي.
فأمر سعيد بن العاص، فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولدهما حتى اليوم.
وكان على الوليد يوم أمر به أن يجلد خميصة، فنزعها عنه علي بن أبي طالب.
وفي حديث: فكلمه في ذلك علي، فقال له عثمان: دونك ابن عمك فأقم عليه الحد.
قال: قم يا حسن فاجلده، قال: فيم أنت من هذا؟ ول هذا غيرك. قال: بل ضعفت ووهنت. قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده.
فجعل يجلده، ويعد علي حتى بلغ أربعين، فقال: كف أو أمسك أو أرسله. جلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين، وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة.
كان الناس في الوليد فرقتين: العامة معه، والخاصة عليه، فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفين، فولي معاوية، فجعلوا يقولون: عنته عثمان بالباطل، فقال لهم علي: إنكم وما تعيرون بع عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، وما ذنب عثمان من رجل قد ضربه بقولكم، وعزله؟! وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟.
وكان الوليد أدخل على الناس خيراً حتى كان يقسم للولائد والعبيد، ولقد تفجع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهن الجرار يقلن: من الرجز
يا ويلنا قد عزل الوليد ... وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ... قد جوع الإماء والعبيد
والوليد بن عقبة هو الذي يقول: من الطويل
بني هاشم إنا وما كان بيننا ... كصدع الصفا لا يرأب الدهر شاعبه
بني هاشم كيف التعذر عندنا ... وبر ابن أروى عندكم وحرائبه
بني هاشم أدوا سلاح ابن أختكم ... ولا تهبوه لا تحل مواهبه
فإلا تؤدوه إلينا فإنه ... سواء علينا قاتلاه وسالبه
وأخوه عمارة بن عقبة، وله يقول الوليد: من الطويل
وإن يك ظني يا بن أمي صادقاً ... عمارة لا تدرك بذحل ولا وتر
تلاعب أقتال ابن عفان لاهياً ... كأنك لم تسمع بموت أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
لقي الوليد بن عقبة بجاداً مولى عثمان بن عفان بالمراض صادراً عن المدينة، والوليد قادم، فسأله عن أمر عثمان، فأخبره أنه قد قتل، فقال: من الخفيف
ليت أني هلكت قبل حديث ... سل جسمي وريع منه فؤادي
يوم لاقيت بالمراض بجاداً ... ليت أني هلكت قبل بجاد
قدم معاوية الكوفة، فصعد المنبر، وقال: أين هو وهب؟ فقام إليه الوليد، فقال: أنشدني قولك: من الوافر
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق وما تريم
يمنيك الخلافة كل ركب ... لأنضاء العراق بهم رسوم
فإنك والكتاب إلي علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
لك الخيرات فاحملنا عليهم ... فإن الطالب الترة الغشوم
وقومك بالمدينة قد أنيخوا ... فهم صرعى كأنهم هشيم
فلما فرغ من إنشادها قال معاوية: من الطويل
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ولما حضر الموت الوليد بن عقبة قال: اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا علي فلا تبارك لي فيما أقدم عليه، واجعل مردي شر مرد، وإن كانوا كذبوا علي فاجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي.
مر مسلمة بن عبد الملك بقبر الوليد بن عقبة بالرقة، فقال: قبر من هذا؟ قيل:
قبر الوليد بن عقبة، قال: رحم الله أبا وهب، وأثنى عليه، فقيل: قبلا من هذا الآخر؟ قيل: قبر أبي زبيد الطائي الشاعر، قال: وهذا فيرحمه الله. فقيل: إنه كان نصرانياً، قال: إنه كان كريماً.