أحمد بن مسلمة بن جبلة بن مسلمة
ابن أوفى بن خارجة بن حمزة بن النعمان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو العباس العذري حدث عن أحمد بن عبد الله الدمشقي بسنده عن السليط بن سبيع وكان من بني عامر قال: كنت تاجراً، وكان أكثر تجارتي في البحر، فركبت من ذلك إلى بلاد الصين فأتيت على راهب من رهبان الصين كان على دين عيسى بن مريم وكان مؤمناً فناديته: يا راهب، فأشرف من صومعته فقال: ما تشاء؟ قلت: من تعبد؟ قال: الذي هو خلقني وخلقك، قلت: يا راهب فعظيمٌ هو؟ قال: نعم يا فتى، عظيم في المنزلة، قد حوت عظمته كل شيء، لم يحلل بنفسه في الأشياء فيقال منها، ولم يعتزل فيقال ناءٍ عنها. قلت: يا راهب، فأين الله من محل قلوب العارفين؟ قال: يا فتى، إن قلوب العارفين لا تعزب عن الله بعد إذ علم أنها إليه مشتاقة. قلت: يا راهب، فما الذي قطع بالخلق عن الله؟ قال: حب الدنيا، لأنها أصل المعاصي ومنها تفجرت، ولم تصل بهم إلى إبطال تركها قلة معرفة. ولتركها ثلاث منازل: فأولها منزلة ترك الحرام من القول والفعل والعزائم، والرضا بما جل من ذلك أو دق حتى تطيع الله فيمن عصاه فيك، وتعتزل الصديق والعدو فعند ذلك تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك، وتدع الهوى بنور الإيمان عليك.
والمنزلة الثانية: ترك الفضول من القول والمقال والمنال حتى ترحم من ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، فعند ذلك تقاد بحلاوة طاعة الله عز وجل وبعزم الإرادة، وترتبط بحبل الطاعة.
والمنزلة الثالثة: ترك العلو والرئاسة، واختيار التواضع والذلة، حتى تصير مثل مملوك لسيده، وبامراج النظر تطلعت النفس إلى فضول الشهوات فأظلم القلب فلم ير جميلاً فيرغب فيه، ولا قبيحاً فيأنف منه، وبضبط النظر ذلت النفس عن فضول الشهوات فانفتح القلب فأبصر جميلاً يرغب فيه، وانكشف العقل فأبصر.
قلت: يا راهب، فأيما العقل؟ قال: أوله المعرفة، وفرعه العلم، وثمرته السنة. قلت: يا راهب، متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بالله؟ قال: إذا صفا الود، وجادت المعاملة. قلت: يا راهب، متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت في الطاعة. قلت: يا راهب، متى تخلص المعاملة؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت واحدة.
قلت: يا راهب، عظني وأوجز. قال: لا يراك الله حيث يكره. قلت: زدني من الشرح لأفهم. قال: كل حلالاً،، وارقد حيث شئت. قلت: يا راهب، لقد تحليت بالوحدة! قال: يا فتى، لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة. ومؤنسها الفكرة. قلت: يا راهب، فما أشد ما يصيبك في صومعتك من هذه الوحدة؟ قال: يا فتى، ليس في الوحدة شدة. الوحدة أنس المريدين قلت: يا راهب، ما أشد ذلك عليك؟ قال: تواتر الرياح العواصف في الليل الشاتي. قلت: تخاف أن تسقط فتموت؟ فتبسم تبسماً لم يفتح فاه ولكن أشرق وجهه وقال: يا فتى هل العيش إلا في السقوط، وما أشبهه من أسباب الموت! قلت: فلم يشتد ذلك عليك إن كان ذلك؟ قال: يا فتى، أما والله، إذا اشتدت علي الريح وعصفت ذكرت عند ذلك عصوف الخلق في الموقف مقبلين ومدبرين لا يدرون ما يراد بهم، حتى يحكم الله بين عباده، وهو خير الحاكمين. فصاح صيحة أفزعتني من شدتها: يا طول موقفاه! قلت: يا راهب بم يقطع الطريق إلى الآخرة؟ قال: بالسهر الدائم، والظمأ في الهواجر. قلت: يا راهب فأين طريق الراحة؟ قال: في خلاف الهوى. قلت: يا راهب، متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. قلت: يا راهب، لقد تخليت من الدنيا، وتعلقت في هذه الصومعة؟ قال: يا فتى، إنه من مشى على الأرض عثر، ففرت فرار الأكياس من فخ الدنيا، وخفت اللصوص على رحلي، فتعلقت في هذه الصومعة، وتحصنت بمن في السماء من فتنة من في الأرض، لأنهم سراقون للعقول، فتخوفت أن يسرقوا عقلي، وذلك أن القلب إذا صافى صديقه ضاقت به الأرض، وإذا أنا تفكرت في الدنيا تفكرت في الآخرة وقرب الأجل، فأحببت الرحيل إلى رب لم يزل. قلت: يا راهب، فمن أين تأكل؟ قال: من زرعٍ لم أتول بذاره، من بيدر اللطيف الخبير، ثم قال: يا فتى، إن الذي خلق الرحا هو يأتيها بالطحين، ثم أشار بيده إلى رحا ضرسه. قلت: يا راهب،
كيف حالك في هذه الدنيا؟ قال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد، ويسكن قبراً بلا مؤنس، ويقف بين يدي حكم عدل؟.
ثم أرخى عينيه فبكى. قلت: يا راهب، ما يبكيك؟ قال: يا بني حقاً أقول لك، ذكرت يوماً مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي، أبكاني قلة الزاد وبعد المعاد، وعقبة هبوط إلى جنةٍ أو إلى نارٍ قلت: يا راهب فلو تحولت من هذه الصومعة وخالطتنا، فإن عندنا رهباناً يخالطونا ويعاشرونا. قال: هيهات، يا فتى، كم من متعبدٍ لله بلسانه معانه له بقلبه، يقاد إلى عذاب السعير، ذلك زاهد في الظاهر، راغب في الباطن، حسن القول، خبيث المعاملة، مشارك لأبناء الدنيا لا أو يفر من جوار إبليس. قلت: أستغفر الله قال: يا فتى، سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ توبة الكذابين، ولو علم اللسان مما يستغفر الله لجف في الحنك. يا فتى، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تقر بها عين كلما تزوجت الدنيا بزوج طلقها الموت، فالدنيا من الموت طالقة لم تقض عدتها بعد فمثلها مثل الحية لينٌ مسها والسم في جوفها، يحذرها رجال ذوو عقول، ويهوي إليها الصبيان لقلة عقولهم وتضرعهم بمرارة عيشهم وكدر صفوها. يا فتى، كم من طالب للدناي لا ينال حاجته، ولم يبلغ أمله، ولم يدركها، ومدرك لها إدراكاً فيه مرارة عيشها وكدر صفوها.
واعلم يا فتى أن شدة الحساب ومعاينة الأهوال مع الحمل الثقيل سيثقل اليوم على المسرفين بما عملوا ومرحوا في الأرض بغير ما أمروا. يا فتى، اجتناب المحارم رأس العبادة وسيعلم المتقون بما صبروا على سجع الطريق والظمأ في الهواجر والقيام على الأقدام في ظلم الدجى وإجاعة الأكباد وعري الأجساد، وذلك أن الله عدل في قضائه سابق في مقاله، لا يضيع أجر المحسين قلت: يا راهب، إني لأريد لنفسي شيئاً من المطعم والمشرب فلا يكفيني حتى تتوق نفسي إلى أكثر من ذلك. قال: يا فتى، إن نواصي العباد في يد الله عز وجل وقبضته فلا يجوزون من ذلك إلى غيره، قد قسم أرزاقهم وفرغ من آجالهم، تدبير
الله عز وجل له في مطعمه ومشربه أحرى أن لا يجريه تدبيره لنفسه. قلت: اوه، ضربت فأوجعت وشددت فأوثقت. قال: بل أطعمت فأشبعت، ووعظت فنفعت. قلت: يا راهب، بم يستعان على الزهد في الدنيا؟ قال: بتقصير الأمل، وذكر الموت، والمداومة على العمل. قلت: يا راهب، فمتى ترحل الدنيا عن القلب، وتسكن الحكمة الصدر؟
فصاح صيحة خر مغشياً عليه، ومكث ساعة كذلك، ثم أفاق من غشيته فقال لي: كيف قلت؟ قال: فأعدت عليه القول. فقال: لا والله، لا ترحل الدنيا عن القلب وأنت نمكب على القراريط والفلوس تتلذذ بالنظر إلى كثرتها، وتستعين بكسب الحرام على جمعها، وأنت تحب النظر إلى هؤلاء وأشار بيده إلى الخلائق، ثم قال: لا أوترد موارد السباع الضارية المنقطعة عن الخلائق في الكهوف وأطراف الجبال الشواهق الصم الصلاب. يقول عيسى بن مريم: لا ينال العبد منال الصديقين ودرجة المقربين، ويعرف في الملكوت الأعلى حتى يترك امرأته أرملة عن غير طلاق، وصبيانه يتامى من غير موت، ويأوي إلى مرابض الكلاب، فعند ذلك يعرف في الملكوت الأعلى وينال الدرجة الخامسة من درجات العارفين. وأما قولك متى تسكن الحكمة الصدر؟ حتى يراك الله وقد أعتقت رقبتك من أن تكون مملوكاً لامرأتك وأجيراً لولدك. قلت: يا راهب، فما أول قيادة القلب إلى الزهد في الدنيا والرضا بالقسم؟ قال: بإماتة الحرص وبذبح حنجرة المطعم، فإن كثرة المطعم تميت القلب كما يموت البدن. قلت: يا راهب، فأكون معك وأقيم عليك؟! قال: وما أصنع بك؟ وأي أنس لي فيك؟ ومعي عاطي الأرزاق، وقابض الأرواح يسوق إلي رزقي في وقته، ولم يكلفني حمله ولا يقدر على ذلك أحد غيره. ثم قال لي: يا فتى، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره، كما لا يجوز فيكم الشريف كذا لا يجوز كلامكم إلا بنور الإخلاص، كم من صلاة قد زخرفتموها بآية من كتاب الله كما تزخرف الفضة البيضاء بالسوداء للناظرين إليها حتى ينظروا بنور الإخلاص لا فساد لها، عند إصلاح الضمائر تكفير الكبائر ثم قال: يا فتى، إن العبد إذا أضمر على ترك الآثام أتاه القنوع. ثم قال: يا فتى، ربما استطربني الفرح من مجلسي إلى الصلاة، ولربما رأيت القلب
يضحك ضحكاً وأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يا فتى، همة العاقل النجاة والهرب، وهمة الأحمق اللهو والطرب. ثم قال: يا فتى، إذا أضمر العبد على الزهد في الدنيا تعلق قلبه في الملكوت الأعلى، نظر إلى الدنيا بعين القلة فنظره إلى ما فيها عبرة وسكوته عن القول مغنم وذلك عندما ينال الدرجة السادسة. قلت: يا راهب. فما أول الدرجات التي يقطع فيها المريدون وهي باب الإرادة؟ قال: رد المظالم إلى أهلها، وخفة الظهر من التبعات، فإن العبد لا تقضى له حاجة وعليه مظلمة ولا تبعة. قلت: يا راهب، ما أفضل الدرجات؟ قال: الصبر على البلاء، والشكر على الرخاء، وليس فوق الرضا درجة وهي درجة المقربين. ثم عاد بالكلام على نفسه فأقبل يعاتبها وهو يقول: ويحك يا نفس، ما إن أراك في تقلبك ومثواك أثبت إلا الفرار من الحق والموت يقفوك، فأين تقرين ممن أنت له عاصية وهو إليك محسن؟! ثم قال: إلهي وسيدي أنت الذي سترت عيوبي وأظهرت محاسني حتى كأني لم أزل أعمل بطاعتك. إلهي أنا الذي أرضيت عبادك بسخطك، فلم تكلني إليهم وأمددتني بقوتك، إليه وسيدي إليك انقطع المريدون في ظلم الدجى وباكروا الدلج في ظلم الأسحار يرجون رحمتك وسعة مغفرتك. اللهم أسكني في درجة المقربين واحشرني في زمرة العارفين، فإنك أود الأجودين وأكرم الأكرمين يا مالك يوم الدين.
ابن أوفى بن خارجة بن حمزة بن النعمان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو العباس العذري حدث عن أحمد بن عبد الله الدمشقي بسنده عن السليط بن سبيع وكان من بني عامر قال: كنت تاجراً، وكان أكثر تجارتي في البحر، فركبت من ذلك إلى بلاد الصين فأتيت على راهب من رهبان الصين كان على دين عيسى بن مريم وكان مؤمناً فناديته: يا راهب، فأشرف من صومعته فقال: ما تشاء؟ قلت: من تعبد؟ قال: الذي هو خلقني وخلقك، قلت: يا راهب فعظيمٌ هو؟ قال: نعم يا فتى، عظيم في المنزلة، قد حوت عظمته كل شيء، لم يحلل بنفسه في الأشياء فيقال منها، ولم يعتزل فيقال ناءٍ عنها. قلت: يا راهب، فأين الله من محل قلوب العارفين؟ قال: يا فتى، إن قلوب العارفين لا تعزب عن الله بعد إذ علم أنها إليه مشتاقة. قلت: يا راهب، فما الذي قطع بالخلق عن الله؟ قال: حب الدنيا، لأنها أصل المعاصي ومنها تفجرت، ولم تصل بهم إلى إبطال تركها قلة معرفة. ولتركها ثلاث منازل: فأولها منزلة ترك الحرام من القول والفعل والعزائم، والرضا بما جل من ذلك أو دق حتى تطيع الله فيمن عصاه فيك، وتعتزل الصديق والعدو فعند ذلك تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك، وتدع الهوى بنور الإيمان عليك.
والمنزلة الثانية: ترك الفضول من القول والمقال والمنال حتى ترحم من ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، فعند ذلك تقاد بحلاوة طاعة الله عز وجل وبعزم الإرادة، وترتبط بحبل الطاعة.
والمنزلة الثالثة: ترك العلو والرئاسة، واختيار التواضع والذلة، حتى تصير مثل مملوك لسيده، وبامراج النظر تطلعت النفس إلى فضول الشهوات فأظلم القلب فلم ير جميلاً فيرغب فيه، ولا قبيحاً فيأنف منه، وبضبط النظر ذلت النفس عن فضول الشهوات فانفتح القلب فأبصر جميلاً يرغب فيه، وانكشف العقل فأبصر.
قلت: يا راهب، فأيما العقل؟ قال: أوله المعرفة، وفرعه العلم، وثمرته السنة. قلت: يا راهب، متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بالله؟ قال: إذا صفا الود، وجادت المعاملة. قلت: يا راهب، متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت في الطاعة. قلت: يا راهب، متى تخلص المعاملة؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت واحدة.
قلت: يا راهب، عظني وأوجز. قال: لا يراك الله حيث يكره. قلت: زدني من الشرح لأفهم. قال: كل حلالاً،، وارقد حيث شئت. قلت: يا راهب، لقد تحليت بالوحدة! قال: يا فتى، لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة. ومؤنسها الفكرة. قلت: يا راهب، فما أشد ما يصيبك في صومعتك من هذه الوحدة؟ قال: يا فتى، ليس في الوحدة شدة. الوحدة أنس المريدين قلت: يا راهب، ما أشد ذلك عليك؟ قال: تواتر الرياح العواصف في الليل الشاتي. قلت: تخاف أن تسقط فتموت؟ فتبسم تبسماً لم يفتح فاه ولكن أشرق وجهه وقال: يا فتى هل العيش إلا في السقوط، وما أشبهه من أسباب الموت! قلت: فلم يشتد ذلك عليك إن كان ذلك؟ قال: يا فتى، أما والله، إذا اشتدت علي الريح وعصفت ذكرت عند ذلك عصوف الخلق في الموقف مقبلين ومدبرين لا يدرون ما يراد بهم، حتى يحكم الله بين عباده، وهو خير الحاكمين. فصاح صيحة أفزعتني من شدتها: يا طول موقفاه! قلت: يا راهب بم يقطع الطريق إلى الآخرة؟ قال: بالسهر الدائم، والظمأ في الهواجر. قلت: يا راهب فأين طريق الراحة؟ قال: في خلاف الهوى. قلت: يا راهب، متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. قلت: يا راهب، لقد تخليت من الدنيا، وتعلقت في هذه الصومعة؟ قال: يا فتى، إنه من مشى على الأرض عثر، ففرت فرار الأكياس من فخ الدنيا، وخفت اللصوص على رحلي، فتعلقت في هذه الصومعة، وتحصنت بمن في السماء من فتنة من في الأرض، لأنهم سراقون للعقول، فتخوفت أن يسرقوا عقلي، وذلك أن القلب إذا صافى صديقه ضاقت به الأرض، وإذا أنا تفكرت في الدنيا تفكرت في الآخرة وقرب الأجل، فأحببت الرحيل إلى رب لم يزل. قلت: يا راهب، فمن أين تأكل؟ قال: من زرعٍ لم أتول بذاره، من بيدر اللطيف الخبير، ثم قال: يا فتى، إن الذي خلق الرحا هو يأتيها بالطحين، ثم أشار بيده إلى رحا ضرسه. قلت: يا راهب،
كيف حالك في هذه الدنيا؟ قال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد، ويسكن قبراً بلا مؤنس، ويقف بين يدي حكم عدل؟.
ثم أرخى عينيه فبكى. قلت: يا راهب، ما يبكيك؟ قال: يا بني حقاً أقول لك، ذكرت يوماً مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي، أبكاني قلة الزاد وبعد المعاد، وعقبة هبوط إلى جنةٍ أو إلى نارٍ قلت: يا راهب فلو تحولت من هذه الصومعة وخالطتنا، فإن عندنا رهباناً يخالطونا ويعاشرونا. قال: هيهات، يا فتى، كم من متعبدٍ لله بلسانه معانه له بقلبه، يقاد إلى عذاب السعير، ذلك زاهد في الظاهر، راغب في الباطن، حسن القول، خبيث المعاملة، مشارك لأبناء الدنيا لا أو يفر من جوار إبليس. قلت: أستغفر الله قال: يا فتى، سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ توبة الكذابين، ولو علم اللسان مما يستغفر الله لجف في الحنك. يا فتى، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تقر بها عين كلما تزوجت الدنيا بزوج طلقها الموت، فالدنيا من الموت طالقة لم تقض عدتها بعد فمثلها مثل الحية لينٌ مسها والسم في جوفها، يحذرها رجال ذوو عقول، ويهوي إليها الصبيان لقلة عقولهم وتضرعهم بمرارة عيشهم وكدر صفوها. يا فتى، كم من طالب للدناي لا ينال حاجته، ولم يبلغ أمله، ولم يدركها، ومدرك لها إدراكاً فيه مرارة عيشها وكدر صفوها.
واعلم يا فتى أن شدة الحساب ومعاينة الأهوال مع الحمل الثقيل سيثقل اليوم على المسرفين بما عملوا ومرحوا في الأرض بغير ما أمروا. يا فتى، اجتناب المحارم رأس العبادة وسيعلم المتقون بما صبروا على سجع الطريق والظمأ في الهواجر والقيام على الأقدام في ظلم الدجى وإجاعة الأكباد وعري الأجساد، وذلك أن الله عدل في قضائه سابق في مقاله، لا يضيع أجر المحسين قلت: يا راهب، إني لأريد لنفسي شيئاً من المطعم والمشرب فلا يكفيني حتى تتوق نفسي إلى أكثر من ذلك. قال: يا فتى، إن نواصي العباد في يد الله عز وجل وقبضته فلا يجوزون من ذلك إلى غيره، قد قسم أرزاقهم وفرغ من آجالهم، تدبير
الله عز وجل له في مطعمه ومشربه أحرى أن لا يجريه تدبيره لنفسه. قلت: اوه، ضربت فأوجعت وشددت فأوثقت. قال: بل أطعمت فأشبعت، ووعظت فنفعت. قلت: يا راهب، بم يستعان على الزهد في الدنيا؟ قال: بتقصير الأمل، وذكر الموت، والمداومة على العمل. قلت: يا راهب، فمتى ترحل الدنيا عن القلب، وتسكن الحكمة الصدر؟
فصاح صيحة خر مغشياً عليه، ومكث ساعة كذلك، ثم أفاق من غشيته فقال لي: كيف قلت؟ قال: فأعدت عليه القول. فقال: لا والله، لا ترحل الدنيا عن القلب وأنت نمكب على القراريط والفلوس تتلذذ بالنظر إلى كثرتها، وتستعين بكسب الحرام على جمعها، وأنت تحب النظر إلى هؤلاء وأشار بيده إلى الخلائق، ثم قال: لا أوترد موارد السباع الضارية المنقطعة عن الخلائق في الكهوف وأطراف الجبال الشواهق الصم الصلاب. يقول عيسى بن مريم: لا ينال العبد منال الصديقين ودرجة المقربين، ويعرف في الملكوت الأعلى حتى يترك امرأته أرملة عن غير طلاق، وصبيانه يتامى من غير موت، ويأوي إلى مرابض الكلاب، فعند ذلك يعرف في الملكوت الأعلى وينال الدرجة الخامسة من درجات العارفين. وأما قولك متى تسكن الحكمة الصدر؟ حتى يراك الله وقد أعتقت رقبتك من أن تكون مملوكاً لامرأتك وأجيراً لولدك. قلت: يا راهب، فما أول قيادة القلب إلى الزهد في الدنيا والرضا بالقسم؟ قال: بإماتة الحرص وبذبح حنجرة المطعم، فإن كثرة المطعم تميت القلب كما يموت البدن. قلت: يا راهب، فأكون معك وأقيم عليك؟! قال: وما أصنع بك؟ وأي أنس لي فيك؟ ومعي عاطي الأرزاق، وقابض الأرواح يسوق إلي رزقي في وقته، ولم يكلفني حمله ولا يقدر على ذلك أحد غيره. ثم قال لي: يا فتى، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره، كما لا يجوز فيكم الشريف كذا لا يجوز كلامكم إلا بنور الإخلاص، كم من صلاة قد زخرفتموها بآية من كتاب الله كما تزخرف الفضة البيضاء بالسوداء للناظرين إليها حتى ينظروا بنور الإخلاص لا فساد لها، عند إصلاح الضمائر تكفير الكبائر ثم قال: يا فتى، إن العبد إذا أضمر على ترك الآثام أتاه القنوع. ثم قال: يا فتى، ربما استطربني الفرح من مجلسي إلى الصلاة، ولربما رأيت القلب
يضحك ضحكاً وأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. يا فتى، همة العاقل النجاة والهرب، وهمة الأحمق اللهو والطرب. ثم قال: يا فتى، إذا أضمر العبد على الزهد في الدنيا تعلق قلبه في الملكوت الأعلى، نظر إلى الدنيا بعين القلة فنظره إلى ما فيها عبرة وسكوته عن القول مغنم وذلك عندما ينال الدرجة السادسة. قلت: يا راهب. فما أول الدرجات التي يقطع فيها المريدون وهي باب الإرادة؟ قال: رد المظالم إلى أهلها، وخفة الظهر من التبعات، فإن العبد لا تقضى له حاجة وعليه مظلمة ولا تبعة. قلت: يا راهب، ما أفضل الدرجات؟ قال: الصبر على البلاء، والشكر على الرخاء، وليس فوق الرضا درجة وهي درجة المقربين. ثم عاد بالكلام على نفسه فأقبل يعاتبها وهو يقول: ويحك يا نفس، ما إن أراك في تقلبك ومثواك أثبت إلا الفرار من الحق والموت يقفوك، فأين تقرين ممن أنت له عاصية وهو إليك محسن؟! ثم قال: إلهي وسيدي أنت الذي سترت عيوبي وأظهرت محاسني حتى كأني لم أزل أعمل بطاعتك. إلهي أنا الذي أرضيت عبادك بسخطك، فلم تكلني إليهم وأمددتني بقوتك، إليه وسيدي إليك انقطع المريدون في ظلم الدجى وباكروا الدلج في ظلم الأسحار يرجون رحمتك وسعة مغفرتك. اللهم أسكني في درجة المقربين واحشرني في زمرة العارفين، فإنك أود الأجودين وأكرم الأكرمين يا مالك يوم الدين.