Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=132937#845e29
الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج، يكنى أبا مغيث، وقيل: أبا عَبْد اللَّهِ :
وكان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس. نشأ الْحُسَيْن بواسط، وقيل بتستر وقدم بَغْدَاد، فخالط الصوفية وصحب من مشيختهم الجنيد بن مُحَمَّد، وأبا الحسين النوري، وعمرا المكي.
والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى الحلاج أن يكون منهم، وأبَى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أَبُو الْعَبَّاس بن عطاء الْبَغْدَادِيّ، ومحمّد بن حنيف الشيرازي، وإبراهيم بن مُحَمَّد النصراباذي النَّيْسَابُورِيّ. وصححوا لَهُ حاله، ودونوا كلامه، حتى قَالَ ابن حفيف: الْحُسَيْن بن مَنْصُور عالم رباني. ومن نفاه عَنِ الصوفية نسبه إِلَى الشعبذة فِي فعله، وإلى الزندقة فِي عقده. وله إِلَى الآن أصحاب ينسبون إليه، ويغلون فيه. وكان للحلاج حسن عبارة، وحلاوة منطق، وشعر عَلَى طريقة التصوف، وأنا أسوق أخباره عَلَى تفاوت اختلاف القول فيه.
حَدَّثَنِي أَبُو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني، أنبأنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بن باكوا الشّيرازيّ- بنيسابور- أخبرني أحمد بن الحسين ابن مَنْصُور بتستر قَالَ: مولد والدي الْحُسَيْن بن مَنْصُور بالبيضاء فِي موضع يقال لَهُ الطور، ونشأ بتستر، وتلمذ لسهل بن عَبْد اللَّهِ التستري سنتين، ثم صعد إِلَى بَغْدَاد وكان بالأوقات يلبس المسوح، وبالأوقات يمشي بخرقتين مصبغ، ويلبس بالأوقات الدراعة والعمامة، ويمشي بالقباء أيضا عَلَى زي الجند، وأول ما سافر من تستر إِلَى البصرة كَانَ لَهُ ثمان عشرة سنة، ثم خرج بخرقتين إِلَى عمرو بن عُثْمَان المكي، وإلى الجنيد بن مُحَمَّد، وأقام مع عمرو المكي ثمانية عشر شهرا، ثم تزوج بوالدتي أم الْحُسَيْن بنت أَبِي يَعْقُوب الأقطع، وتعير عمرو بن عُثْمَان من تزويجه، وجرى بين عمرو وبين أَبِي يَعْقُوب وحشة عظيمة بذلك السبب. ثم اختلف والدي إِلَى الجنيد بن مُحَمَّد وعرض عليه ما فيه من الأذية لأجل ما يجري بين أَبِي يَعْقُوب وبين عمرو، فأمره بالسكون والمراعاة، فصبر عَلَى ذلك مدة. ثم خرج إِلَى مكة وجاور سنة ورجع
إِلَى بَغْدَاد مع جماعة من الفقراء الصوفية، فقصد الجنيد بن مُحَمَّد وسأله عَنْ مسألة فلم يجبه، ونسبه إِلَى أَنَّهُ مدع فيما يسأله، فاستوحش وأخذ والدتي ورجع إِلَى تستر، وأقام نحوا من سنة، ووقع لَهُ عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع من فِي وقته، ولم يزل عمرو بن عُثْمَان يكتب الكتب فِي بابه إِلَى خوزستان، ويتكلم فيه بالعظائم حتى جرد ورمى بثياب الصوفية، ولبس قباء وأخذ فِي صحبة أبناء الدنيا، ثم خرج وغاب عنا خمس سنين بلغ إِلَى خراسان، وما وراء النهر، ودخل إِلَى سجستان، وكرمان، ثم رجع إِلَى فارس. فأخذ يتكلم عَلَى الناس، ويتخذ المجلس، ويدعو الخلق إِلَى اللَّه.
وكان يعرف بفارس بأبي عَبْد اللَّهِ الزاهد، وصنف لهم تصانيف، ثم صعد من فارس إِلَى الأهواز وأنفذ من حملني إِلَى عنده، وتكلم عَلَى الناس، وقبله الخاص والعام، وكان يتكلم عَلَى أسرار الناس وما فِي قلوبهم، ويخبر عنها فسمي بذلك حلاج الأسرار، فصار الحلاج لقبه، ثم خرج إِلَى البصرة وأقام مدة يسيرة وخلفني بالأهواز عند أصحابه، وخرج ثانيا إِلَى مكة، ولبس المرقعة والفوطة، وخرج معه فِي تلك السفرة خلق كثير، وحسده أَبُو يَعْقُوب النهرجوري فتكلم فيه بما تكلم، فرجع إِلَى البصرة وأقام شهرا واحدا، وجاء إِلَى الأهواز وحمل والدتي وحمل جماعة من كبار الأهواز إِلَى بَغْدَاد، وأقام بِبَغْدَادَ سنة واحدة، ثم قَالَ لبعض أصحابه: احفظ ولدي حمد إِلَى أن أعود أنا، فإني قد وقع لِي أن أدخل إِلَى بلاد الشرك وأدعو الخلق إلى الله عز وجل وخرج. فسمعت بخبره أَنَّهُ قصد إِلَى الهند ثم قصد خراسان ثانيا ودخل ما وراء النهر، وتركستان، وإلى ماصين، ودعا الخلق إِلَى اللَّه تعالى، وصنف لهم كتبا لم تقع إلي، إِلا أَنَّهُ لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند، بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان، بالمقيت، ومن خراسان، بالمميز، ومن فارس، بأبي عَبْد اللَّهِ الزاهد، ومن خوزستان، بالشيخ حلاج الأسرار، وكان بِبَغْدَادَ قوم يسمونه المصطلم، وبالبصرة قوم يسمونه المحير، ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السفرة، فقام وحج ثالثا وجاور سنتين ثم رجع وتغير عما كَانَ عليه فِي الأول، واقتنى العقار بِبَغْدَادَ، وبنَى دارا ودعا الناس إِلَى معنى لم أقف إِلا عَلَى شطر منه حتى خرج عليه مُحَمَّد بن داود، وجماعة من أهل العلم، وقبحوا صورته، ووقع بين عَلِيّ بن عِيسَى وبينه لأجل نصر القشوري، ووقع بينه وبين الشبلي، وغيره من مشايخ الصوفية، فكان يَقُولُ قوم: إِنَّهُ ساحر. وقوم يقولون: مجنون، وقوم يقولون: لَهُ الكرامات وإجابة السؤال، واختلفت الألسن في أمره حتى أخذه السلطان وحبسه.
حدّثنا إسماعيل بن أحمد الحيرى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي قَالَ: الْحُسَيْن بن مَنْصُور قيل: إنما سمي الحلاج لأنه دخل واسطا فتقدم إِلَى حلاج وبعثه فِي شغل لَهُ، فَقَالَ لَهُ الحلاج: أنا مشغول بصنعتي. فَقَالَ: اذهب أنت فِي شغلي حتى أعينك فِي شغلك، فذهب الرجل فلما رجع وجد كل قطن فِي حانوته محلوجا، فسمي بذلك الحلاج! وقيل: إِنَّهُ كَانَ يتكلم في ابتداء أمره من قبل أن ينسب إِلَى ما نسب إليه، عَلَى الأسرار، ويكشف عَنْ أسرار المريدين ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار، فغلب عليه اسم الحلاج. وقيل إن أباه كَانَ حلاجا فنسب إليه.
أَخْبَرَنِي أَبُو عَليّ عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أحمد بن فضالة النيسابوري- بالري- أنبأنا أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ عَلِيّ النهاوندي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بن سلامة المروزي قَالَ: سمعت فارسا الْبَغْدَادِيّ يَقُولُ: قَالَ رجل للحسين بن مَنْصُور أوصني قَالَ: عليك بنفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك عَنِ الحق. وَقَالَ لَهُ آخر:
عظني، فَقَالَ لَهُ: كن مع الحق بحكم ما أوجب.
أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَزَّارُ- بهمذان- حَدَّثَنَا علي بن الحسن الصيقلي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرُّخَانِ يَقُولُ: سمعت الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج يَقُولُ: علم الأولين والآخرين مرجعه إِلَى أربع كلمات: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل.
حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جهم يَقُولُ:
كتب الْحُسَيْن بن مَنْصُور إِلَى أَحْمَد بن عطاء: أطال اللَّه لِي حياتك، وأعدمني وفاتك، على أحسن ما جرى به قدر، أو نطق به خبر، مع ما أن لك في قلبي من لواعج أسرار محبتك، وأفانين ذخائر مودتك، مالا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب، وفي ذلك أقول:
كتبت ولم أكتب إليك وإنما ... كتبت إِلَى روحي بغير كتاب
وذلك أن الروح لا فرق بينها ... وبين محبيها بفضل خطاب
فكل كتاب صادر منك وارد ... إليك بما رد الجواب جواب
أنشدنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن أَحْمَد الأهوازي قَالَ: أنشدنا أَبُو حاتم الطبري للحسين بن مَنْصُور:
جبلت روحك فِي روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفنق
فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا لا نفترق
قَالَ: وأنشدنا أَبُو حاتم الطبري أيضا للحسين بن مَنْصُور:
مزجت روحك فِي روحي كما ... تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا فِي كل حال
أنبأنا رضوان بن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَن الدينوري قَالَ: أنشدني أَبُو عَبْد اللَّه الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَحْمَد الصيدلاني الْمُقْرِئ قَالَ: أنشدني أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ عمران الْبَغْدَادِيّ قَالَ: أنشدني الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج لنفسه بالبصرة:
قد تحققتك في س ... رى فخاطبك لساني
فاجتمعنا لمعان ... وافترقنا لمعان
إن يكن غيبك التعظي ... م عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوج ... د من الأحشاء دان
أنبأنا الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس الخزاز قَالَ: أنشدنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّد بْن عُبَيْد اللَّهِ الكاتب قَالَ: أنشدني أَبُو مَنْصُور أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ مطر قَالَ: أنشدني أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج لنفسه- وحبست معه فِي المطبق-:
دلال يا مُحَمَّد مستعار ... دلال بعد أن شاب العذار
ملكت وحرمة الخلوات قلبا ... لعبت به وقربه القرار
فلا عين يؤرقها اشتياق ... ولا قلب يقلقله ادكار
نزلت بمنزل الأعداء مني ... وبنت فلا تزور ولا تزار
كما ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
أنبأنا رضوان بن محمد الدينوري قَالَ: سمعت معروف بن مُحَمَّد الصوفي بالري يَقُولُ: سمعت الخلدي يَقُولُ: أنشد عند ابن عطاء البيتان اللذان للحسين بن مَنْصُور وهما:
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
فلما سمع بذلك ابن عطاء قَالَ: هذا مما يتزايد به عذاب الشغف، وهيام الكلف، واحتراق الأسف، وشغف الحب، فإذا صفا ووفا علا إِلَى مشرب عذب، وهطل من الحق دائم سكب.
أنبأنا مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن عَبْد العزيز الهمذاني قَالَ: أنشدني أَبُو الفتح الإسكندري قَالَ: أنشدني القناد قَالَ: أنشدني الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج:
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فَلا أعطيت ما منيت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فَلا رعت ... رياض المنى من وجنتيك وجنت
أنبأنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله الأردستاني- بمكة- أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي- بنيسابور- قَالَ: سمعت أبا الفضل بن حفص يَقُولُ: سمعت القناد يَقُولُ: لقيت الحلاج يوما فِي حالة رثة، فقلت لَهُ: كيف حالك؟ فأنشأ يَقُولُ:
لئن أمسيت فِي ثوبي عديم ... لقد بليا عَلَى حر كريم
فَلا يحزنك أن أبصرت حالا ... مغيرة عَنِ الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك بي إِلَى أمر جسيم!
حَدَّثَنِي أَبُو النجيب عَبْد الغفار بْن عَبْد الواحد الأرموي قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد الْقَاضِي يَقُولُ: سمعت أَحْمَد بن العلاء الصوفي قَالَ: سمعت عليّ ابن عبد الرحيم القناد قَالَ: رأيت الحلاج ثلاث مرات فِي ثلاث سنين، فأول ما رأيته أني كنت أطلبه لأصحبه، وآخذ عنه، فقيل لِي إِنَّهُ بأصفهان فسألت عنه فقيل لِي كَانَ هاهنا وخرج فخرجت من وقتي وأخذت الطريق فرأيته على بعض جبال أصفهان وعليه مرقعة وبيده ركوة وعكاز، فلما رآني قَالَ: عَلِيّ التوري ؟ ثم أنشا يَقُولُ:
لئن أمسيت فِي ثوبي عديم ... لقد بليا عَلَى حر كريم
فَلا يغررك أن أبصرت حالا ... مغيرة عَنِ الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك بي إِلَى أمر جسيم!
ثم فارقني وَقَالَ لِي: نلتقي إن شاء اللَّه، وملأ كفي دنينيرات، فلما كَانَ بعد سنة أخرى سألت عنه أصحابه بِبَغْدَادَ، فقالوا: هو بالجبانة، فقصدت الجبانة فسألت عنه فقيل لِي: إِنَّهُ فِي الخان، فدخلت الخان فرأيته وعليه صوف أبيض، فلما رآني قَالَ:
عَلِيّ التوري؟ قلت: نعم، فقلت: الصحبة الصحبة، فأنشدني:
دنبا تغالطني كأني ... لست أعرف حالها
حظر المليك حرامها ... وأنا احتميت حلالها
فوجدتها محتاجة ... فوهبت لذتها لها
ثم أخذ بيدي وخرجنا من الخان فَقَالَ: أريد أن أمضي إِلَى قوم لا تحملهم ولا يحملونك، ولكن نلتقي. وملأ كفي دنينيرات ثم غاب عني، فقيل لِي إِنَّهُ بِبَغْدَادَ بعد سنة فجئته، فقيل لِي: السلطان يطلبه، فبينا أنا فِي الكرخ بين السورين فِي يوم حار، فإذا به من بعيد عليه فوطة رملية متخفيا فيها، فلما رآني بكى وأنشأ يَقُولُ:
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فَلا بلغت ما أملت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فَلا رعت ... رياض المنى من وجنتيك وجنت
ثم قَالَ: يا عَلِيّ، النجاء، أرجو أن يجمع الله بيننا إن شاء الله.
أنبأنا محمّد بن عليّ بن الفتح، أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن بْن مُوسَى النيسابوري قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شاذان يَقُولُ: سمعت مُحَمَّد بن عَلِيّ الكتاني يَقُولُ: دخل الْحُسَيْن بن مَنْصُور مكة فِي ابتداء أمره، فجهدنا حتى أخذنا مرقعته، قَالَ السوسي: أخذنا منها قملة فوزناها فإذا فيها نصف دانق من كثرة رياضته، وشدة مجاهدته.
حَدَّثَنِي مسعود بن ناصر، أنبأنا ابن باكوا الشيرازي قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد المراري يَقُولُ: سمعت أبا يَعْقُوب النهرجوري يَقُولُ: دخل الحسين ابن مَنْصُور إِلَى مكة وكان أول دخلته، فجلس فِي صحن المسجد سنة لا يبرح من موضعه إِلا للطهارة أو للطواف، ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر، وكان يحمل إليه كل عشية كوز ماء للشرب، وقرص من أقراص مكة، فيأخذ القرص ويعض أربع عضات من جوانبه، ويشرب شربتين من الماء: شربة قبل الطعام، وشربة بعده، ثم يضع باقي القرص عَلَى رأس الكوز فيحمل من عنده.
وَقَالَ ابن باكوا: حدّثنا أبو الفوارس الجوزقاني، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن شيبان. قَالَ:
سلم أستاذي- يعني أبا عَبْد اللَّهِ المغربي- عَلَى عمرو بن عُثْمَان المكي، فجاراه فِي مسألة فجرى فِي عرض الكلام أن قَالَ عمرو بن عُثْمَان: هاهنا شاب عَلَى أَبِي قبيس، فلما خرجنا من عند عمرو صعدنا إليه وكان وقت الهاجرة، فدخلنا عليه وإذا هو جالس عَلَى صخرة من أَبِي قبيس فِي الشمس، والعرق يسيل منه عَلَى تلك الصخرة، فلما نظر إليه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المغربي رجع وأشار إلي بيده: ارجع، فخرجنا ونزلنا الوادي ودخلنا المسجد، فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إن عشت ترى ما يلقى هذا، لأن اللَّه يبتليه بلاء لا يطيقه، قعد بحمقه يتصبر مع اللَّه! فسألنا عنه وإذا هو الحلاج.
أنبأنا عليّ بن أبي علي البصريّ، أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن عُمَرَ الْقَاضِي قَالَ: حملني خالي معه إِلَى الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج، وهو إذ ذاك فِي جامع البصرة يتعبد ويتصوف ويقرأ قبل أن يدعي تلك الجهالات، ويدخل فِي ذلك وكان أمره إذ ذاك مستورا، إِلا أن الصوفية تدعي لَهُ المعجزات من طريق التصوف وما يسمونه مغوثات، لا من طريق المذاهب. قَالَ: فأخذ خالي يحادثه وأنا صبي جالس معهما أسمع ما يجري، فَقَالَ لخالي: قد عملت عَلَى الخروج من البصرة، فَقَالَ لَهُ خالي: لم؟ قَالَ: قد صير لِي أهل هذا البلد حديثا، فقد ضاق صدري وأريد أبعد منهم، فَقَالَ لَهُ مثل ماذا؟ قَالَ: يروني أفعل أشياء فَلا يسألوني عنها، ولا يكشفونها، فيعلمون أنها ليست كما وقع لهم، ويخرجون فيقولون: الحلاج مجاب الدعوة وله مغوثات، قد تمت عَلَى يده ألطاف ومن أنا حتى يكون لِي هذا؟ بحسبك أن رجلا حمل إلي منذ أيام دراهم وَقَالَ لِي اصرفها إِلَى الفقراء فلم يكن بحضرتي فِي الحال أحد، فجعلتها تحت بارية من بواري الجامع إِلَى جنب أسطوانة عرفتها، وجلست طويلا فلم يجئني أحد، فانصرفت إِلَى منزلي وبت ليلتي، فلما كَانَ من غد جئت إِلَى الأسطوانة وجعلت أصلي. فاحتف بي قوم من الفقراء، فقطعت الصلاة وشلت البارية فأعطيتهم تلك الدراهم، فشنعوا عَلَيَّ بأن قالوا: إني إذا ضربت يدي إِلَى التراب صار فِي يدي دراهم. قَالَ: وأخذ يعدد مثل هذا، فقام خالي عنه وودعه ولم يعد إليه وَقَالَ: هذا منمس وسيكون لَهُ بعد هذا شأن، فما مضى إِلا قليل حتى خرج من البصرة وظهر أمره.
حَدَّثَنِي أَبُو سعيد السجزي، أنبأنا مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ الصوفي الشيرازي قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن بن أبي توبة يقول: سمعت عليّ بن أَحْمَد الحاسب قَالَ: سمعت والدي يَقُولُ: وجهني المعتضد إِلَى الهند لأمور أتعرفها ليقف عليها، وكان معي فِي السفينة رجل يعرف بالحسين بن مَنْصُور، وكان حسن العشرة طيب الصحبة، فلما خرجنا من المركب ونحن عَلَى الساحل والحمالون ينقلون الثياب من المركب إِلَى الشط فقلت لَهُ: أيش جئت إِلَى هاهنا؟ قَالَ: جئت لأتعلم السحر، وأدعو الخلق إِلَى اللَّه تعالى، قَالَ: وكان عَلَى الشط كوخ وفيه شيخ كبير، فسأله الْحُسَيْن بن مَنْصُور: هل عندكم من يعرف شيئا من السحر؟ قَالَ: فأخرج الشيخ كبة غزل وناول طرفه الْحُسَيْن بن مَنْصُور، ثم رمى الكبة فِي الهواء فصارت طاقة واحدة، ثم
صعد عليها ونزل! وَقَالَ للحسين بن مَنْصُور: مثل هذا تريد؟ ثم فارقني ولم أره بعد ذلك إلّا ببغداد.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد الحيرى، أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: قَالَ المزين:
رأيت الْحُسَيْن بن مَنْصُور فِي بعض أسفاره قلت لَهُ: إِلَى أين؟ فَقَالَ: إِلَى الهند أتعلم السحر أدعو به الخلق إِلَى اللَّه عَزَّ وجل.
وقال أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: سمعت أبا عَلِيّ الهمذاني يَقُولُ: سألت إِبْرَاهِيم بن شيبان عَنِ الحلاج فَقَالَ: من أحب أن ينظر إِلَى ثمرات الدعاوى الفاسدة، فلينظر إِلَى الحلاج، وإلى ما صار إليه! قَالَ: وَقَالَ إِبْرَاهِيم: ما زالت الدعاوى والمعارضات مشئومة عَلَى أربابها مذ قَالَ إبليس أنا خير منه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ بن الفتح، أنبأنا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن النيسابوري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاس الرزاز يَقُولُ: قَالَ لِي بعض أصحابنا قُلْتُ لأبي الْعَبَّاس بن عطاء: ما تقول فِي الْحُسَيْن بن مَنْصُور؟ فَقَالَ: ذاك مخدوم من الجن، قَالَ: فلما كَانَ بعد سنة سألته عنه فقال: ذاك من حق. فقلت: قد سألتك عنه قبل هذا فقلت مخدوم من الجن، وأنت الآن تقول هذا! فَقَالَ: نعم، ليس كل من صحبنا يبقى معنا فيمكننا أن نشرفه عَلَى الأحوال، وسألت عنه وأنت فِي بدء أمرك، وأما الآن وقد تأكد الحال بيننا، فالأمر فيه ما سمعت.
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سمعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد النصراباذي، وعوتب فِي شيء حكى عنه- يعني عَنِ الحلاج فِي الروح- فَقَالَ لمن عاتبه: إن كَانَ بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج.
أنبأنا ابن الفتح، أنبأنا محمّد بن الحسين قال: سمعت المنصور بن عَبْد اللَّهِ يَقُولُ:
سمعت الشبلي يَقُولُ: كنت أنا والحسين بن مَنْصُور شيئا واحدا، إلا أَنَّهُ أظهر وكتمت. قَالَ: وسمعت منصورا يَقُولُ: سمعت بعض أصحابنا يَقُولُ: وقف الشبلي عليه وهو مصلوب، فنظر إليه وَقَالَ: ألم ننهك عن العالمين؟
أنبأنا إسماعيل الحيرى، أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت جَعْفَر بن أَحْمَد يَقُولُ: سمعت أبا بكر بن أَبِي سعدان يَقُولُ: الْحُسَيْن بن مَنْصُور مموه ممخرق.
قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: وحكي عَنْ عمرو المكي أَنَّهُ قَالَ: كنت أماشيه فِي بعض أزقة مكة، وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فَقَالَ: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته.
حدّثني مسعود بن ناصر، أنبأنا ابن باكوا الشيرازي قَالَ: سمعت أبا زرعة الطبري يَقُولُ: الناس فيه- يعني فِي الْحُسَيْن بن مَنْصُور- بين قبول ورد، ولكن سمعت محمّد ابن يَحْيَى الرَّازِيّ يَقُولُ: سمعت عمرو بن عُثْمَان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت أيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قَالَ: قرأت آية من كتاب اللَّه فَقَالَ:
يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
قَالَ: وسمعت أبا زرعة الطبري يَقُولُ: سمعت أبا يَعْقُوب الأقطع يقول: زوجت ابنتي من الْحُسَيْن بن مَنْصُور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لِي بعد مدة يسيرة أَنَّهُ ساحر محتال، خبيث كافر.
ذكر بعض ما حكي عن الحلاج من الحيل:
أنبأنا عَلِيّ بن أَبِي عَلِيّ الْمُعَدَّل عَنْ أَبِي الْحَسَن أَحْمَد بن يوسف الأزرق قَالَ:
حَدَّثَنِي غير واحد من الثقات من أصحابنا أن الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج كَانَ قد أنفذ أحد أصحابه إِلَى بلد من بلدان الجبل، ووافقه عَلَى حيلة يعملها، فخرج الرجل فأقام عندهم سنين يظهر النسك والعبادة، ويقرأ القرآن ويصوم، فغلب عَلَى البلد، حتى إذا علم أَنَّهُ قد تمكن أظهر أَنَّهُ قد عمي، فكان يقاد إِلَى مسجده، ويتعامى عَلَى كل أحد شهورا، ثم أظهر أَنَّهُ قد زمن، فكان يحبو ويحمل إِلَى المسجد حتى مضت سنة عَلَى ذلك، وتقرر فِي النفوس زمانته وعماه، فَقَالَ لهم بعد ذلك: إني رأيت فِي النوم كأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِي: إِنَّهُ يطرق هذا البلد عبد لله صالح مجاب الدعوة، يكون عافيتك عَلَى يده وبدعائه، فاطلبوا لِي كل من يجتاز من الفقراء، أو من الصوفية، فلعل اللَّه أن يفرج عني عَلَى يد ذلك العبد وبدعائه، كما وعدني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعلقت النفوس إِلَى ورود العبد الصالح، وتطلعته القلوب، ومضى الأجل الذي كَانَ بينه وبين الحلاج فقدم البلد فلبس الثياب الصوف الرقاق، وتفرد فِي الجامع بالدعاء والصلاة، وتنبهوا عَلَى خبره، فقالوا للأعمى، فَقَالَ احملوني إليه، فلما حصل عنده وعلم أَنَّهُ الحلاج قَالَ لَهُ: يا عَبْد اللَّهِ إني رأيت فِي المنام كيت وكيت، فتدعو اللَّه لِي، فَقَالَ: ومن أنا وما محلي؟ فما زال به حتى دعا لَهُ ثم مسح يده عليه، فقام المتزامن صحيحا مبصرا! فانقلب البلد، وكثر الناس عَلَى الحلاج فتركهم وخرج من البلد، وأقام المتعامي المتزامن فيه شهورا. ثم قَالَ لهم إن من حق نعمة اللَّه عندي، ورده جوارحي عليّ أن أنفرد بالعبادة إفرادا أكثر من هذا، وأن يكون مقامي فِي الثغر، وقد عملت عَلَى
الخروج إِلَى طرسوس، فمن كانت لَهُ حاجة تحملتها، وإلا فأنا أستودعكم اللَّه، قَالَ:
فأخرج هذا ألف درهم فأعطاه وَقَالَ اغز بها عني وأعطاه هذا مائة دينار، وَقَالَ:
أخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه هذا مالا، وهذا مالا حتى اجتمع ألوف دنانير ودراهم، فلحق بالحلاج فقاسمه عليها.
حدّثنا عليّ بن أبي علي، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الشاهد الأهوازي قَالَ: أَخْبَرَنِي فلان المنجم، وأسماه ووصفه بالحذق والفراهة- قَالَ: بلغني خبر الحلاج وما كَانَ يفعله من إظهار تلك العجائب التي يدعي أنها معجزات. فقلت: أمضي وأنظر من أي جنس هي من المخاريق، فجئته كأني مسترشد فِي الدين، فخاطبني وخاطبته ثم قَالَ لِي: تشه الساعة ما شئت حتى أجيئك به، وكنا فِي بعض بلدان الجبل التي لا يكون فيها الأنهار، فقلت لَهُ: أريد سمكا طريا فِي الحياة الساعة، فَقَالَ: أفعل، اجلس مكانك فجلست، وقام فَقَالَ: أدخل البيت وأدعو اللَّه أن يبعث لك به. قَالَ: فدخل بيتا حيالي، وغلق بابه وأبطأ ساعة طويلة، ثم جاءني وقد خاض وحلا إِلَى ركبته وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة، فقلت لَهُ: ما هذا؟ فَقَالَ:
دعوت اللَّه فأمرني أن أقصد البطائح وأجيئك بهذه، فمضيت إِلَى البطائح فخضت الأهواز، فهذا الطين منها حتى أخذت هذه، فعلمت أن هذه حيلة، فقلت لَهُ: تدعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لِي حيلة فيه آمنت بك. فَقَالَ: شأنك، فدخلت البيت وغلقته عَلَى نفسي فلم أجد فيه طريقا ولا حيلة، فندمت، وقلت إن وجدت فيه حيلة فكشفتها؛ لم آمن أن يقتلني فِي الدار، وإن لم أجد طالبني بتصديقه، كيف أعمل؟
قَالَ: وفكرت فِي البيت فرفعت تأزيرة- وكان مؤزرا بإزار ساج- فإذا بعض التأزير فارغا، فحركت جسرية منه خمنت عليها فإذا هي قد انفلقت، فدخلت فيها فإذا هي باب ممر، فولجت فيه إِلَى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار والثمار، والريحان، والأنوار التي هي وقتها وما ليس هو وقته مما قد غطي وعتق، واحتيل فِي بقائه. وإذا الخزائن مفتوحة فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها والحوائج لما يعمل فِي الحال إذا طلب، وإذا بركة كبيرة فِي الدار فخضتها فإذا هي مملوءة سمكا كبارا وصغارا فاصطدت واحدة كبيرة وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل والماء إِلَى حد ما رأيت رجله، فقلت: الآن إن خرجت ورأى هذا معي قتلني فقلت: أحتال عليه فِي الخروج، فلما رجعت إِلَى البيت أقبلت أقول: آمنت وصدقت، فقال لي: ما لك؟
قُلْتُ: ما هاهنا حيلة، وليس إِلا التصديق بك. قَالَ: فاخرج فخرجت وقد بعد عَنِ
الباب، وتموه عليه قولي. فحين خرجت أقبلت أعدو أطلب باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني وعلم أني قد عرفت حيلته فأقبل يعدو خلفي فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، وقلت لَهُ: أتعبتني حتى مضيت إِلَى البحر، فاستخرجت لك هذه منه! قَالَ: واشتغل بصدره وبعينه وما لحقهما من السمكة وخرجت. فلما صرت خارج الدار طرحت نفسي مستلقيا لما لحقني من الجزع والفزع. فخرج إلي وضاحكني وَقَالَ: ادخل. فقلت: هيهات والله لئن دخلت لا تركتني أخرج أبدا.
فَقَالَ: اسمع، والله لئن شئت قتلك عَلَى فراشك لأفعلن، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك، ولو كنت فِي تخوم الأرض وما دام خبرها مستورا فأنت آمن عَلَى نفسك، امض الآن حيث شئت. وتركني ودخل فعلمت أَنَّهُ يقدر عَلَى ذلك بأن يدس أحد من يطيعه، ويعتقد فيه ما يعتقده فيقتلني، فما حكيت الحكاية إِلَى أن قتل.
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بن أَبِي عَلِيّ عن ابن الْحَسَن أَحْمَد بن يوسف الأزرق أن الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج لما قدم بَغْدَاد يدعو، استغوى كثيرا من الناس والرؤساء، وكان طمعه فِي الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم، فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه، وكان أَبُو سهل من بينهم مثقفا فهما فطنا، فَقَالَ أَبُو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل ولا لذة لِي أكبر من النساء وخلوتي بهن، وأنا مبتلي بالصلع حتى إني أطول قحفي وآخذ به إِلَى جبيني وأشده بالعمامة واحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب لستر المشيب، فإن جعل لِي شعرا ورد لحيتي سوداء بلا خضاب آمنت بما يدعوني إليه كائنا ما كَانَ، إن شاء قُلْتُ إِنَّهُ باب الإمام، وإن شاء الإمام، وإن شاء قُلْتُ إِنَّهُ النَّبِيّ، وإن شاء قُلْتُ إِنَّهُ اللَّه! قَالَ: فلما سمع الحلاج جوابه أيس منه، وكف عنه. قَالَ أَبُو الْحَسَن: وكان الحلاج يدعو كل قوم إِلَى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أَبُو سهل عَلَى حسب ما يستبله طائفة طائفة. وأَخْبَرَنِي جماعة من أصحابنا أَنَّهُ لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلاج وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة فِي غير حينها، والدراهم التي سماها دراهم القدرة حدث أَبُو عَلِيّ الجبائي بذلك، فَقَالَ لهم: هذه الأشياء محفوظة فِي منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتا من بيوتكم لا من منزله هو، وكلفوه أن يخرج منه جرزتين شوكا فإن فعل فصدقوه، فبلغ الحلاج قوله وأن قوما قد عملوا عَلَى ذلك فخرج عَنِ الأهواز.
حَدَّثَنِي مسعود بن ناصر، أنبأنا أبو عبد الله بن باكوا الشيرازي قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن حفيف- وقد سأله أَبُو الْحَسَن بن أَبِي توبة عَنِ الْحُسَيْن بن مَنْصُور- فَقَالَ:
سمعت أبا يَعْقُوب النهرجوري يَقُولُ: دخل الْحُسَيْن بن منصور مكة ومعه أربعمائة رجل، فأخذ كل شيخ من شيوخ الصوفية جماعة، قَالَ: وكان فِي سفرته الأولى كنت آمر من يخدمه. قَالَ: ففي هذه الكرة أمرت المشايخ وتشفعت إليهم ليحملوا عنه الجمع العظيم، قَالَ: فلما كَانَ وقت المغرب جئت إليه وقلت لَهُ: قد أمسينا فقم بنا حتى نفطر، فَقَالَ: نأكل عَلَى أَبِي قبيس، فأخذنا ما أردنا من الطعام وصعدنا إِلَى أَبِي قبيس، وقعدنا للأكل، فلما فرغنا من الأكل قَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور: لم نأكل شيئا حلوا. فقلت: أليس قد أكلنا التمر؟ فَقَالَ: أريد شيئا قد مسته النار، فقام وأخذ ركوته وغاب عنا ساعة ثم رجع ومعه جام حلواء فوضعه بين أيدينا وَقَالَ: بسم الله، فأخذ القوم يأكلون وأنا أقول مع نفسي قد أخذ فِي الصنعة التي نسبها إليه عمرو بن عُثْمَان. قَالَ: فأخذت منه قطعة ونزلت الوادي، ودرت عَلَى الحلاويين أريهم ذلك الحلواء وأسألهم هل يعرفون من يتخذ هذا بمكة؟ فما عرفوه حتى حمل إِلَى جارية طباخة فعرفته، وَقَالَتْ: لا يعمل هذا إِلا بزبيد، فذهبت إِلَى حاج زبيد- وكان لِي فيه صديق- وأريته الحلواء فعرفه وَقَالَ: يعمل هذا عندنا إِلا أَنَّهُ لا يمكن حمله فَلا أدري كيف حمل. وأمرت حتى حمل إليه الجام وتشفعت إليه ليتعرف الخبر بزبيد هل ضاع لأحد من الحلاويين جام علامته كذا وكذا، فرجع الزبيدي إِلَى زبيد، وإذا أَنَّهُ حمل من دكان إنسان حلاوي، فصح عندي أن الرجل مخدوم.
وقال ابن باكوا: حدّثنا أبو عبد الله بن مفلح، حَدَّثَنَا طاهر بن أَحْمَد التستري.
قَالَ: تعجبت من أمر الحلاج فلم أزل أتتبع وأطلب الحيل، وأتعلم النيرنجات لأقف عَلَى ما هو عليه، فدخلت عليه يوما من الأيام، وسلمت وجلست ساعة ثم قَالَ لِي:
يا طاهر لا تتعن، فإن الذي تراه وتسمعه من فعل الأشخاص لا من فعلي، لا تظن أنه كرامة أو شعوذة، فصح عندي أَنَّهُ كما يَقُولُ.
حَدَّثَنِي أَبُو سعيد السجزي، أنبأنا مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ الصوفي الشيرازي قَالَ: سمعت عَلِيّ بن الْحَسَن الفارسي بالموصل يَقُولُ: سمعت أبا بكر بن سعدان يَقُولُ: قَالَ لِي الْحُسَيْن بن مَنْصُور: تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفورة تطرح من ذرقها وزن حبة عَلَى كذا منا من نحاس فيصير ذهبا؟! قَالَ: فقلت لَهُ: بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيل يستلقي فتصير قوائمه فِي السماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته فِي إحدى عينيك؟ قَالَ: فبهت وسكت.
أنبأنا إبراهيم بن مخلد، أنبأنا إِسْمَاعِيل بن عَلِيّ الخطبي- فِي تاريخه- قَالَ: وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج يقال لَهُ: الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وكان فِي حبس السلطان بسعاية وقعت به فِي وزارة عَلِيّ بن عِيسَى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة، ووضع الحيل عَلَى تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه عَلِيّ بن عِيسَى عند قبضه عليه، وأنهى خبره إِلَى السلطان- يعني المقتدر بالله- فلم يقر بما رمي به من ذلك، وعاقبه وصلبه حيا أياما متوالية فِي رحبة الجسر فِي كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس، فأقام فِي الحبس سنين كثيرة، ينقل من حبس إِلَى حبس حتى حبس بأخرة فِي دار السلطان فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيله حتى صاروا يحمونه، ويدفعون عنه، ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم بِبَغْدَادَ وغيرها، فاستجابوا لَهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية، وَسُعِيَ بجماعة من أصحابه إِلَى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتبا لَهُ تدل عَلَى تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بلسانه بذلك، وانتشر خبره، وتكلم الناس فِي قتله، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إِلَى حامد بن الْعَبَّاس، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى فِي ذلك خطوب طوال ثم استيقن السلطان أمره، ووقف عَلَى ما ذكر لَهُ عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار. فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، وحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس عَلَى سور السجن الجديد، وعلقت يداه ورجلاه إِلَى جانب رأسه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أَبِي الْحَسَن الساحلي عَنْ أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد النسوي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحَافِظ يَقُولُ: سمعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْوَاعِظ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّازِيّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حمشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كَانَ يفارقها بالليل ولا بالنهار، ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إِلَى فلان بن فلان، فوجه إِلَى بَغْدَاد قَالَ: فأحضر وعرض عليه فَقَالَ: هذا خطي وأنا كتبته، فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية؟ فَقَالَ: ما أدعي الربوبية ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إِلا اللَّه، وأنا واليد فيه آلة. فقيل: هل معك أحد؟ فَقَالَ: نعم، ابن عطاء، وأبو محمّد الحريريّ، وأبو بكر الشبلي. وأبو محمّد الحريريّ يستتر، والشبلي يستتر، فإن كَانَ
فابن عطاء. فأحضر الحريريّ فسئل فَقَالَ: هذا كافر يقتل، ومن يَقُولُ هذا؟ وسئل الشبلي فَقَالَ: من يَقُولُ هذا يمنع. ثم سئل ابن عطاء عَنْ مقالة الحلاج فَقَالَ بمقالته، فكان سبب قتله.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد الحيرى، أنبأنا أبو عبد الرّحمن الشبلي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يقول: كان الوزير حين أحضر الْحُسَيْن بن مَنْصُور للقتل، حامد بن الْعَبَّاس فأمره أن يكتب اعتقاده، فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير عَلَى الفقهاء بِبَغْدَادَ فأنكروا ذلك، فقيل للوزير: إن أبا الْعَبَّاس بن عطاء يصوب قوله، فأمر أن يعرض ذلك عَلَى أَبِي الْعَبَّاس بن عطاء، فعرض عليه فَقَالَ: هذا اعتقاد صحيح، وأنا أعتقد هذا الاعتقاد، ومن لا يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد. فأمر الوزير بإحضاره فأحضر، وأدخل عليه فجلس فِي صدر المجلس فغاظ الوزير ذلك، ثم أخرج ذلك الخط فَقَالَ:
هذا خطك؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: تصوب مثل هذا الاعتقاد؟ فَقَالَ: ما لك ولهذا، عليك بما نصبت لَهُ من أخذ أموال الناس، وظلمهم، وقتلهم، مالك ولكلام هؤلاء السادة. فَقَالَ الوزير: فكيه، فضرب فكاه، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس اللَّهُمَّ إنك سلطت هذا عَلِيّ عقوبة لدخولي عليه. فَقَالَ الوزير: خفه يا غلام، فنزع خفه فَقَالَ: دماغه، فما زال يضرب رأسه حتى سال الدم من منخريه، ثم قَالَ: الحبس، فقيل أيها الوزير يتشوش العامة لذلك، فحمل إِلَى منزله. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ اقتله أخبث قتلة، واقطع يديه ورجليه. فمات أَبُو الْعَبَّاس بعد ذلك بسبعة أيام، وقتل حامد بن العبّاس أفظع قتلة وأوحشها، بعد أن قطعت يداه ورجلاه، وأحرق داره، وكانوا يقولون:
أدركته دعوة أَبِي الْعَبَّاس بن عطاء.
أنبأنا محمّد بن عليّ بن أبي الفتح، أنبأنا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن النيسابوري قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا بكر بن غالب يَقُولُ: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما أرادوا قتل الحسين ابن مَنْصُور أحضر لذلك الفقهاء، والعلماء، وأخرجوه، وقدموه بحضرة السلطان، فسألوه فقالوا مسألة، فَقَالَ هاتوا، فقالوا لَهُ: ما البرهان؟ فَقَالَ: البرهان شواهد يلبسها الحق أهل الإخلاص يجذب النفوس إليها جاذب القبول. فقالوا بأجمعهم: هذا كلام أهل الزندقة!! وأشاروا عَلَى السلطان بقتله.
قُلْتُ: قد أحال هذا الحاكي عَنِ الفقهاء بأن هذا كلام أهل الزندقة، وهو رجل مجهول، وقوله غير مقبول، وإنما أوجب الفقهاء قتله بأمر آخر. حَدَّثَنِي مسعود بن
ناصر، أنبأنا محمّد بن عبد الله بن باكوا الشّيرازي. قال: سمعت ابن بزول القزويني- وقد سأل أبا عَبْد اللَّهِ بْن حفيف عَنْ معنى هذه الأبيات-:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا فِي خلقه ظاهرا ... فِي صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
فَقَالَ الشيخ: عَلَى قائلها لعنه اللَّه. فَقَالَ عيسى بن بزول: هذا الحسين بن مَنْصُور.
فَقَالَ: إن كَانَ هذا اعتقاده فهو كافر. إِلا أَنَّهُ لم يصح أَنَّهُ لَهُ، ربما يكون مقولا عليه.
قَالَ ابن باكوا: سمعت أبا الْقَاسِم يوسف بن يَعْقُوبَ النعماني يَقُولُ: سمعت والدي يَقُولُ: سمعت أبا بكر مُحَمَّد بن داود الفقيه الأصبهاني يَقُولُ: إن كَانَ ما أنزل اللَّه عَلَى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقا، وما جاء به حقّا، فما يَقُولُ الحلاج باطل. وكان شديدا عليه.
أنبأنا ابن الفتح، أنبأنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: سمعت أبا بكر الشاشي يَقُولُ: قَالَ أَبُو الجديد- يعني المصري- لما كَانَ الليلة التي قتل فِي صبيحتها الْحُسَيْن بن مَنْصُور قام من الليل فصلى ما شاء اللَّه، فلما كَانَ آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه، ومد يديه نحو القبلة فتكلم بكلام جائز الحفظ، وكان مما حفظت أن قَالَ: نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدي ما شئت من شانك ومشيئتك، وأنت الذي في السماء إليه وفي الأرض إله. تتجلى لما تشاء مثل تجليك فِي مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة ثم أوعزت إليّ شاهدك، لأني فِي ذاتك الهوى، كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند عقيب كراتي، ودعوت إِلَى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا فِي معارجي إِلَى عروش أزلياتي، عند القول من برياتي، إني احتضرت وقتلت، وصلبت، وأحرقت، واحتملت سافياتي الذاريات، ونجحت في الجاريات، وإن ذرة من ينجوج مكان هاكول متجلياتي، لأعظم من الراسيات. ثم أنشأ يَقُولُ:
أنعي إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث أو فِي شاهد القدم
أنعي إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعي إليك لسان الحق منك ومن ... أودى وتذكاره فِي الوهم كالعدم
أنعي إليك بيانا يستكين لَهُ ... أقوال كل فصيح مقول فهم
أنعي إليك إشارات العقول معا ... لم يبق منهن إلّا دارس العدم
أنعي- وحبك- أخلاقا لطائفة ... كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فَلا عين ولا أثر ... مضى عاد وفقدان الألى إرم
وخلفوا معشرا يحذون لبستهم ... أعمى من البهم بل أعمى من النعم
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَلِيّ الصوري قَالَ: سمعت إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر بن أَبِي الكرام الْبَزَّاز- بمصر- يَقُولُ: سمعت أبا مُحَمَّد الياقوتي يَقُولُ: رأيت الحلاج عند الجسر وهو عَلَى بقرة ووجهه إلى عجزها، فسمعته يَقُولُ: ما أنا بالحلاج، ألقى عَلَى شبهه وغاب، فلما أدنى إِلَى الخشبة ليصلب عليها سمعته يقول: يا معين الفنا عليّ، أعني عليّ الفنا. أنبأنا الْقَاضِي أَبُو العلاء الواسطي قَالَ: لما أخرج الحسين بن منصور ليقتل أنشد:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لِي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا
أنبأنا إسماعيل الحيرى، أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَن الْوَرَّاق يَقُولُ: سمعت أبا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد القلانسي الرَّازِيّ يَقُولُ: لما صلب الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وقفت عليه وهو مصلوب فقال: إلهي إلهي أصبحت فِي دار الرغائب أنظر إِلَى العجائب، إلهي إنك تتودد إِلَى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إِلَى من يؤذى فيك.
وَقَالَ السلمي: سمعت عبد الواحد بن عَلِيّ يَقُولُ: سمعت فارسا الْبَغْدَادِيّ يَقُولُ:
لما حبس الحلاج قيد من كعبه إِلَى ركبته بثلاثة عشر قيدا، وكان يصلي مع ذلك فِي كل يوم وليله ألف ركعة! قَالَ: وسمعت فارسا يَقُولُ: قطعت أعضاؤه يوم قتل عضوا عضوا وما تغير لونه.
وَقَالَ السلمي: سمعتُ أَبَا عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يَقُولُ: سمعتُ أبا بكر العطوفي يَقُولُ:
كنت أقرب الناس من الحلاج، فضرب كذا وكذا سوطا، وقطعت يداه ورجلاه فما نطق! أنبأنا أبو الفتح، أنبأنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: سمعت الْحُسَيْن بن أَحْمَد- يعني الرَّازِيّ- يَقُولُ: سمعت أبا الْعَبَّاس بن عبد العزيز يَقُولُ: كنت أقرب الناس من الحلاج حين ضرب وكان يَقُولُ مع كل صوت: أحد، أحد.
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَان الصيرفي قَالَ: قَالَ لنا أَبُو عُمَرَ بْن حيويه: لما أخرج حسين الحلاج ليقتل مضيت فِي جملة الناس ولم أزل أزاحم حتى رأيته فَقَالَ لأصحابه: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ثم قتل.
أنبأنا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْنِ عَبْد اللَّهِ الأردستاني- بمكة- أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي- بنيسابور- قَالَ: سمعت أبا الْعَبَّاس الرزاز يَقُولُ: كَانَ أخي خادما للحسين بن مَنْصُور، فسمعته يَقُولُ: لما كانت الليلة التي وعد من الغد قتله، قُلْتُ لَهُ: يا سيدي أوصني، فَقَالَ لِي: عليك نفسك إن لم تشغلها شغلتك قَالَ:
فلما كَانَ من الغد فأخرج للقتل قال: حسب الواحد أفراد الواحد لَهُ. ثم خرج يتبختر فِي قيده ويقول:
نديمي غير منسوب ... إِلَى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر ... ب فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح ... مع التنين فِي الصيف
ثم قَالَ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ
[الشورى 18] ثم ما نطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.
أنبأنا ابن الفتح، أنبأنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: سمعتُ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُولُ:
سمعت عِيسَى القصار يَقُولُ: آخر كلمة تكلم بها الْحُسَيْن بن مَنْصُور عند قتله وصلبه أن قال: حسب الواحد أفراد الواحد لَهُ. فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إِلا رق لَهُ واستحسن هذا الكلام منه.
أنبأنا إسماعيل الحيرى، أنبأنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت أبا بكر البجلي يَقُولُ: سمعت أبا الفاتك الْبَغْدَادِيّ- وكان صاحب الحلاج- قَالَ: رأيت فِي النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج، كأني واقف بين يدي ربي تعالى فأقول يا رب ما فعل الْحُسَيْن بن مَنْصُور؟ فَقَالَ: كاشفته بمعنى فدعا الخلق إِلَى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
ذكر أخبار الحلاج بعد حصوله فِي يد حامد بن الْعَبَّاس وشرحها عَلَى التفصيل إِلَى حين مقتله:
قد ذكرنا ما انتهى إلينا من أخبار الحلاج المنثورة وأنا أسوق هاهنا قصته بِبَغْدَادَ مفصلة، وسبب القبض عليه، وشرح ما بعد ذلك إِلَى أن قتل:
فبلغنا أَنَّهُ أقام بِبَغْدَادَ فِي أيام المقتدر بالله زمانا يصحب الصوفية وينتسب إليهم، والوزير إذ ذاك حامد بن الْعَبَّاس فانتهى إليه أن الحلاج قد موه عَلَى جماعة من الحشم والحجاب فِي دار السلطان، وعلى غلمان نصر القشوري الحاجب وأسبابه، بأنه يُحْيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون ما يختاره ويشتهيه، وأظهر أَنَّهُ قد أحيا عدة من الطير. وأظهر أَبُو عَلِيّ الأوارجي لعلي بن عِيسَى أن مُحَمَّد بن عَلي القنائي- وكان أحد الكتاب- يعبد الحلاج، ويدعو الناس إِلَى طاعته، فوجه عَلِيّ بن عِيسَى إلى محمّد ابن عَلِيّ القنائي من كبس منزله وقبض عليه، وقرره عَلِيّ بن عِيسَى فأقر أَنَّهُ من أصحاب الحلاج، وحمل من داره إِلَى عَلِيّ بن عِيسَى دفاتر ورقاعا بخط الحلاج، فالتمس حامد بن الْعَبَّاس من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج ومن وجد من دعاته، فدفع عنه نصر الحاجب، وكان يذكر عنه الميل إِلَى الحلاج، فجرد حامد فِي المسأله، فأمر المقتدر بالله أن يدفع إليه، فقبضه واحتفظ به، وكان يخرجه كل يوم إِلَى مجلسه ويتسقطه ليتعلق عليه بشيء يكون سبيلا لَهُ إِلَى قتله، فكان الحلاج لا يزيد عَلَى إظهار الشهادتين والتوحيد، وشرائع الإسلام، وكان حامد قد سعى إليه بقوم أنهم يعتقدون فِي الحلاج الإلهيه، فقبض حامد عليهم وناظرهم فاعترفوا أنهم من أصحاب الحلاج ودعاته، وذكروا لحامد أنهم قد صح عندهم أَنَّهُ إله، وأنه يُحْيِي الموتى، وكاشفوا الحلاج بذلك فجحده وكذبهم، وَقَالَ: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية، أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد اللَّه، وأكثر الصوم، والصلاة، وفعل الخير، ولا أعرف غير ذلك .
حدّثنا عَلِيّ بن المحسن القاضي، عَنْ أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّدِ بْنِ زنجي الكاتب عَنْ أبيه- وهو المعروف بزنجي- بما أسوقه من أخبار الحلاج إِلَى حين مقتله، وكان زنجي يلازم مجلس حامد بن الْعَبَّاس ويرى الحلاج، ويسمع مناظرات أصحابه.
قَالَ زنجي: أول ما انكشف من أمره فِي أيام وزارة حامد بن الْعَبَّاس، أن رجلا شيخا حسن السمت يعرف بالدباس، تنصح فيه، وذكر انتشار أصحابه، وتفرق دعاته فِي النواحي، وأنه كان ممن استجاب له ثم تبين له مخرقته، ففارقه وخرج عَنْ جملته، وتقرب إِلَى اللَّه بكشف أمره، واجتمع معه عَلَى هذه الحال أَبُو عَلِيّ هَارُون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب الأنباري وكان قد عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلاج،
والحيلة فيها، والحلاج حينئذ مقيم عند نصر القشوري، فِي بعض حجره، موسع عليه، مأذون لمن يدخل إليه، وللحلاج اسمان أحدهما الْحُسَيْن بن منصور، والآخر محمّد ابن أَحْمَد الفارسي. وكان قد استغوى نصرا وجاز تمويهه عليه، حتى كَانَ يسميه العبد الصالح، ويحدث الناس أن علة عرضت للمقتدر بالله فِي جوفه، وقف نصر عَلَى خبرها، فوصفه لَهُ واستأذنه فِي إدخاله إليه فأذن لَهُ، ووضع يده عَلَى الموضع الذي كانت العلة فيه وقرأ عليه، فاتفق أن زالت العلة، ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة، وفعل بها مثل ذلك فزال ما وجدته، فقام للحلاج بذلك سوق فِي الدار، وعند والدة المقتدر والخدم والحاشية وأسباب نصر خاصة، ولما انتشر كلام الدباس وأبي عَلي الأوارجي فِي الحلاج بعث به المقتدر بالله إِلَى أبي الحسن عليّ بن عِيسَى ليناظره فأحضره مجلسه وخاطبه خطابا فيه غلظة، فحكي فِي ذلك الوقت أَنَّهُ تقدم إليه وَقَالَ لَهُ فيما بينه [وبينه] : قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا، وإلا قلبت الأرض عليك، أو كلاما فِي هذا المعنى فتهيب عليّ بن عبيس مناظرته واستعفى منه، ونقل حينئذ إِلَى حامد، وكانت بنت السمري صاحب الحلاج قد أدخلت إليه، وأقامت عنده فِي دار السلطان مدة، وبعث بها إِلَى حامد ليسألها عما وقفت عليه، وشاهدته من أحواله، فدخلت إِلَى حامد فِي يوم شات بارد، وهذه المرأة بحضرته- وكانت حسنة العبارة، عذبة الألفاظ، مقبولة الصورة، فسألها عَنْ أمره فذكرت أن أباها السمري حملها إليه، وأنها لما دخلت عليه وهب لها أشياء كثيرة، عددت أصنافها منها ريطة خضراء وَقَالَ لها: قد زوجتك من ابني سُلَيْمَان، وهو أعز ولدي عَلِيّ، وهو مقيم بنيسابور فِي موضع قد ذكرته وأنسيته، وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، أو تنكر منه حالا من الأحوال، وقد أوصيته بك، فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إِلَى السطح وقومي عَلَى الرماد واجعلي فطرك عليه وعلى ملح جريش، واستقبليني بوجهك، واذكري لِي ما أنكرتيه منه فإني أسمع وأرى. قَالَتْ: وكنت ليلة نائمة فِي السطح وابنة الحلاج معي فِي دار السلطان، وهو معنا، فلما كَانَ فِي الليل أحسست به وقد غشيني فانتبهت مذعورة منكرة لما كَانَ منه. فَقَالَ: إنما جئتك لأوقظك للصلاة ولما أصبحنا نزلت إِلَى الدار ومعي بنته ونزل هو، فلما صار عَلَى الدرجة بحيث يرانا ونراه قَالَتْ بنته: اسجدي لَهُ، فقلت لها: أو يسجد أحد لغير اللَّه؟! وسمع كلامي لها فَقَالَ: نعم، إله فِي السماء
وإله فِي الأرض، قَالَتْ: ودعاني إليه وأدخل يده فِي كمه وأخرجها مملوءة مسكا فدفعه إلي وفعل هذا مرات، ثم قَالَ: اجعلي هذا فِي طيبك فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إِلَى الطيب، قَالَتْ: ثم دعاني وهو جالس فِي بيت البواري فَقَالَ:
ارفعي جانب البارية وخذي من تحته ما تريدين، وأومأ إِلَى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت فبهرني ما رأيت من ذلك.
قَالَ زنجي: وأقامت هذه المرأة معتقلة فِي دار حامد إِلَى أن قتل الحلاج. ولما حصل الحلاج فِي يد حامد جد فِي طلب أصحابه، وأذكى العيون عليهم، وحصل فِي يده منهم، حيدرة، والسمري، ومحمد بن عَلِيّ القنائي، والمعروف بأبي المغيث الهاشمي، واستتر المعروف بابن حَمَّاد وكبس منزله وأخذت منه دفاتر كثيرة، وكذلك من منزل مُحَمَّد بن عَلِيّ القنائي، فِي ورق صيني، وبعضها مكتوب بماء الذهب، مبطنة بالديباج والحرير، مجلدة بالأديم الجيد، وكان فيما خاطبه به حامد- أول ما حمل إليه: ألست تعلم أني قبضت عليك بدور الراسبي وأحضرتك إلى واسط، فذكرت في دفعة أنك المهدي، وذكرت فِي دفعة أخرى أنك رجل صالح، تدعو إِلَى عبادة اللَّه والأمر بالمعروف، فكيف ادعيت بعد الإلهية؟! وكان فِي الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إِلَى النواحي وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه وما يأمرهم به من نقلهم من حال إِلَى أخرى، ومرتبة إِلَى مرتبة، حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم عَلَى حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إِلا من كتبها ومن كتبت إليه، ومدارج فيها ما يجري هذا المجرى، وفي بعضها صورة فيها اسم اللَّه تعالى مكتوب عَلَى تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب عَلِيّ عليه السلام! كتابة لا يقف عليها إِلا من تأملها. وحضرت مجلس حامد- وقد أحضر السمري صاحب الحلاج وسأله عَنْ أشياء من أمر الحلاج- وَقَالَ لَهُ: حَدَّثَنِي بما شاهدته منه، فَقَالَ لَهُ: إن رأى الوزير أن يعفيني فعل، فأعلمه أَنَّهُ لا يعفيه، وعاود مسألته عما شاهده، فعاود استعفاءه وألح عليه فِي السؤال فلما تردد القول بينهما قَالَ: أعلم أني إن حدثتك كذبتني ولم آمن مكروها يحلقني، فوعده أن لا يلحقه مكروه. فَقَالَ: كنت معه بفارس فخرجنا نريد اصطخر فِي زمان شات، فلما صرنا فِي بعض الطريق أعلمته بأني قد اشتهيت خيارا، فَقَالَ لِي: فِي هذا المكان، وفي مثل هذا الوقت من الزمان؟ فقلت: هو شيء عرض لِي، ولما كَانَ بعد ساعات قَالَ لِي: أنت عَلَى تلك الشهوة؟ فقلت: نعم. قَالَ: وسرنا
إِلَى سفح جبل ثلج فأدخل يده فيه وأخرج إلي منه خيارة خضراء ودفعها إلي. فَقَالَ لَهُ حامد: فأكلتها؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ له: كذبت يا ابن مائة ألف زانية فِي مائة ألف زانية، أوجعوا فكه، فأسرع الغلمان إليه فامتثلوا ما أمرهم به وهو يصيح: أليس من هذا خفنا؟ ثم أمر به فأقيم من المجلس، وأقبل حامد يتحدث عَنْ قوم من أصحاب النيرنجات كانوا يعدون بإخراج التين، وما يجرى مجراه من الفواكه، فإذا حصل ذلك فِي يد الإنسان وأراد أن يأكله صار بعرا. وحضرت مجلس حامد وقد أحضر سفط خيازر لطيف حمل من دار مُحَمَّد بن عَلِيّ القنائي- أكبر ظني- فتقدم بفتحه ففتح فإذا فيه قدر جافة خضر، وقوارير فيها شيء لون الزئبق، وكسر خبز جافة، وكان السمري حاضرا جالسا بالقرب من أَبِي، فعجب من تلك القدر وتصييرها فِي سفط مختوم، ومن تلك القوارير- وعندنا أنها أدهان- ومن كسر الخبز، وسأل حامد السمري عَنْ ذلك فدافعه عَنِ الجواب واستعفاه منه، وألح عليه فِي السؤال، فعرفه أن تلك القدر رجيع الحلاج، وأنه يستشفي به، وأن الذي فِي القوارير بوله! فعرف حامد ما قاله فعجب منه من كَانَ فِي المجلس، واتصل القول فِي الطعن عَلَى الحلاج، وأقبل أَبِي يعيد ذكر تلك الكسر ويتعجب منها وفي احتفاظهم بها حتى غاظ السمري ذلك فَقَالَ لَهُ: هو ذا أسمع ما تقول، وأرى تعجبك من هذه الكسر وهي بين يديك فكل منها ما شئت ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج بعد أكلك ما تأكله منها فتهيب أَبِي أن يأكلها، وتخوف أن يكون فيها سم، وأحضر حامد الحلاج وسأله عما كَانَ فِي السفط، وعن احتفاظ أصحابه برجيعه وبوله؟ فذكر أَنَّهُ شيء ما علم به ولا عرفه، وكان يتفق فِي كثير من الأيام جلوس الحلاج فِي مجلس حامد إِلَى جنبي فأسمعه يَقُولُ دائما: سبحانك لا إله إِلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لِي إِنَّهُ لا يغفر الذنوب إِلا أنت، وكانت عليه مدرعة سوداء من صوف، وكنت يوما وأبي بين يدي حامد، ثم نهض عَنْ مجلسه وخرجنا إِلَى دار العامة وجلسنا فِي رواقها، وحضر هَارُون بن عمران الجهبذ فجلس بين يدي أَبِي ولم يحادثه فهو فِي ذاك إذ جاء غلام حامد الذي كَانَ موكلا بالحلاج، وأومأ إِلَى هَارُون بن عمران أن يخرج إليه، فنهض عَنِ المجلس مسرعا ونحن لا ندري ما السبب، فغاب عنا قليلا ثم عاد وهو متغير اللون جدا، فأنكر أَبِي ما رآه منه وسأله عنه فَقَالَ: دعاني الغلام الموكل بالحلاج فخرجت إليه فأعلمني أَنَّهُ دخل إليه ومعه الطبق الذي رسم أن يقدمه إليه فِي كل يوم، فوجده ملأ البيت من سقفه إِلَى أرضه، وملأ جوانبه فهاله ما رأى من ذلك ورمى بالطبق من
يده وخرج من البيت مسرعا، وأن الغلام ارتعد وانتفض وحم!، وبقي هَارُون يتعجب من ذلك. وبلغ حامدا عَنْ بعض أصحاب الحلاج أَنَّهُ ذكر أَنَّهُ دخل إليه إِلَى الموضع الذي هو فيه وخاطبه بما أراده، فأنكر ذلك كل الإنكار، وتقدم بمسألة الحجاب والبوابين عنه وقد كَانَ رسم أن لا يدخل إليه أحد، وضرب بعض البوابين فحلفوا بالإيمان المغلظة أنهم ما أدخلوا أحدا من أصحاب الحلاج إليه ولا اجتاز بهم، وتقدم بافتقاد السطوح وجوانب الحيطان فافتقدوا ذلك أجمع، ولم يوجد لَهُ أثر ولا خلل، فسأل الحلاج عَنْ دخول من دخل إليه فقال: من القدرة نزل، ومن الموضع الذي وصل إِلَي منه خرج. وكان يخرج إِلَى حامد فِي كل يوم دفاتر مما حمل من دور أصحاب الحلاج، ويجعل بين يديه فيدفعها إِلَى أبي ويتقدم إليه بأن يقرأها عليه، فكان يفعل ذلك دائما، فقرأ عليه فِي بعض الأيام من كتب الحلاج والقاضي أَبُو عُمَرَ حاضر والقاضي أَبُو الْحُسَيْنِ بن الأشناني- كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد فِي داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت الحرام فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضى بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيما وعمل لهم أمرأ ما يمكنه من الطعام وأحضرهم إِلَى ذلك البيت، وقدم إليهم ذلك الطعام وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم كسا كل واحد منهم قميصا ودفع إليه سبعة دراهم، أو ثلاثة- الشك مني- فإذا فعل ذلك قام لَهُ مقام الحج. فلما قرأ أَبِي هذا الفصل التفت أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي إِلَى الحلاج وَقَالَ لَهُ: من أين لك هذا؟ قَالَ: من كتاب الإخلاص للحسن البصري، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُمَرَ: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة وليس فيه شيء مما ذكرته، فلما قَالَ أَبُو عُمَرَ كذبت يا حلال الدم، قَالَ لَهُ حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أَبُو عُمَرَ بخطاب الحلاج، فأقبل حامد يطالبه بالكتاب بما قاله، وهو يدافع ويتشاغل إِلَى أن مد حامد الدواة من بين يديه إِلَى أَبِي عُمَر، ودعا بدرج فدفعه إليه وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتاب إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس، ولما تبين الحلاج الصورة قَالَ: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكلم أن تتأولوا عَلَى بما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة وتفضيل أَبِي بَكْرٍ وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعَبْد الرَّحْمَنِ بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب فِي السنة موجودة فِي الوراقين، فاللَّه اللَّه فِي دمي، ولم يزل يردد هذا القول
والقوم يكتبون خطوطهم إِلَى أن استكملوا ما احتاجوا إليه، ونهضوا عَنِ المجلس.
ورد الحلاج إِلَى موضعه الذي كَانَ فيه، ودفع حامد ذلك المحضر إِلَى والدي وتقدم إليه أن يكتب إِلَى المقتدر بالله بخبر المجلس وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها، فكتب الرقعتين وأنفذ الفتوى درج الرقعة إِلَى المقتدر بالله، وأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك عَلَى حامد ولحقه ندم عَلَى ما كتب به، وتخوف أن يكون قد وقع غير موقعه، ولم يجد بدا من نصرة ما عمله فكتب بخط والدي رقعة إِلَى المقتدر بالله فِي اليوم الثالث يقتضى فيها ما تضمنته الأولى ويقول: إن ما جرى فِي المجلس قد شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به، ولم يختلف عليه اثنان، ويستأذن فِي ذلك، وأنفذ الرقعة إلى مفلح، وسأله إيصالها وتنجيز الجواب عنها وإنفاذه إليه، فعاد الجواب من المقتدر بالله من غد ذلك اليوم من جهة مفلح؛ بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله، وأباحوا دمه، فلتحضر مُحَمَّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بتسلمه وضربه ألف سوط، فإن تلف تحت الضرب وإلا ضرب عنقه فسر حامد بهذا الجواب، وزال ما كَانَ عليه من الإضطراب، وأحضر مُحَمَّد بن عبد الصمد وأقرأه إياه، وتقدم إليه بتسلم الحلاج، فامتنع من ذلك وذكر أَنَّهُ يتخوف أن ينتزع، فأعلمه حامد أَنَّهُ يبعث معه غلمانه حتى يصيروا به إِلَى مجلس الشرطة فِي الجانب الغربي، ووقع الاتفاق عَلَى أن يحضر بعد عشاء الآخرة ومعه جماعة من أصحابه، وقوم على بغال موكفة يجرون مجرى الساسة، ليجعل عَلَى واحد منها ويدخل فِي غمار القوم، وأوصاه بأن يضربه ألف سوط فإن تلف حز رأسه واحتفظ به، وأحرق جثته، وَقَالَ لَهُ حامد: إن قَالَ لك أجري لك الفرات ذهبا وفضة فَلا تقبل منه! ولا ترفع الضرب عنه، فلما كَانَ بعد عشاء الآخرة وافى مُحَمَّد بن عبد الصمد إِلَى حامد ومعه رجاله والبغال المؤكفة، فتقدم إِلَى غلمانه بالركوب معه حتى يصل إِلَى مجلس الشرطة، وتقدم إِلَى الغلام الموكل به بإخراجه من الموضع الذي هو فيه، وتسليمه إلى أصحاب محمّد ابن عبد الصمد، فحكى الغلام أَنَّهُ لما فتح الباب عنه وأمره بالخروج، وهو وقت لم يكن يفتح عنه فِي مثله، قَالَ لَهُ: من عند الوزير؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الصمد، فَقَالَ:
ذهبنا والله. وأخرج وأركب بعض تلك البغال الموكفة واختلط بجملة الساسة، وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إِلَى الجسر ثم انصرفوا، وبات هناك مُحَمَّد بن عبد الصمد، ورجاله مجتمعون حول المجلس فلما أصبح يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعده أخرج الحلاج إِلَى رحبة المجلس، وأمر الجلاد بضربه بالسوط، واجتمع من
العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، فضرب إلى تمام الألف السوط وما استعفى ولا تأوه، بل لما بلغ ستمائة سوط. قَالَ لمحمد بن عبد الصمد: ادع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: قد قيل لِي إنك ستقول هذا وما هو أكثر منه! وليس إِلَى رفع الضرب عنك سبيل. ولما بلغ ألف سوط قطعت يده، ثم رجله، ثم يده، ثم رجله، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وحضرت فِي هذا الوقت وكنت واقفا عَلَى ظهر دابتي خارج المجلس، والجثة تقلب عَلَى الجمر، والنيران تتوقد، ولما صارت رمادا ألقيت فِي دجلة، ونصب الرأس يومين بِبَغْدَادَ عَلَى الجسر ثم حمل إِلَى خراسان وطيف به فِي النواحي، وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما، واتفق أن زادت دجلة فِي تلك السنة زيادة فيها فضل، فادعى أصحابه أن ذلك بسببه، ولأن الرماد خالط الماء، وزعم بعض أصحاب الحلاج أن المضروب عدو الحلاج ألقى شبهه عليه، وادعى بعضهم أنهم رأوه فِي ذلك اليوم بعد الذي عاينوه من أمره، والحال الذي جرت عليه، وهو راكب حمارا فِي طريق النهروان ففرحوا به، وَقَالَ: لعلكم مثل هؤلاء البقر الذي ظنوا أني أنا المضروب والمقتول. وزعم بعضهم أن دابة حولت فِي صورته، وكان نصر الحاجب بعد ذلك يظهر الترثي لَهُ ويقول: إِنَّهُ مظلوم، وإنه رجل من العباد. وأحضر جماعة من الوراقين وأحلفوا عَلَى أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلاج ولا يشتروها.