موسى بن نصير
أبو عبد الرحمن مولى امرأة من لخم، وقيل: إنه مولى لبني أمية، وأصله من عين التمر. ويقال: هو من إراشة من بلي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في زمن أبي بكر، واسمه نصر، فصغر، وأعتقه بعض بني أمية، فرجع إلى الشام، وولد له موسى بقرية يقال لها: كفر مثرى.
وهو صاحب فتوح الأندلس، وكان أعرج، وولاه معاوية البحر، وشهد مرج راهط، وغزا قبرس. وبنى هنالك حصوناً ومثابات منها حسن " يابس وال ... عوصه ".
وقيل: إن موسى كان يقرأ الكتب، فوجد أمر بني أمية، فانقطع إلى مروان بالمدينة، وترقت أحواله حتى ولي الأندلس.
وقدم دمشق على الوليد بن عبد الملك، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود التي أصابها بالأندلس.
وكان أميراً بإفريقية والمغرب، وليها سنة تسع وسبعين.
وكان معاوية بعث لابتناء يابس من قبرس رجلين من الموالي أحدهما: موسى بن
نصير، والآخر المهاجر بن دعلج مولى خولان، وولى أبا الأعور السلمي البعث، فلما قدما عليه رأى موسى أجسم من المهاجر، فقال: ما ينبغي للسلطان أن يستعين إلا بالجسيم لهيبته.
كان موسى بن نصير ممن بايع لابن الزبير، وحضر يوم المرج مع الضحاك، فلما قتل الضحاك لحق موسى بفلسطين، فكان مع نائل بن قيس يدعو إلى ابن الزبير، فأهدر مروان دمه، فاستجار موسى بعبد العزيز بن مروان، فوهبه له مروان وخرج به معه إلى مصر، وهم في طاعة ابن الزبير، وعليهم ابن جحدم، فلما بلغ أهل مصر مسير مروان خندقوا على الفسطاط خندقاً واستعدوا لحربه، وواجهوا مراكب مصر إلى سواحل الشام لتخالف إلى ذراريهم وعيالهم، وكان على تلك المراكب الأكدر بن حمام اللخمي، فبلغ مروان في العريش أن مراكب أهل مصر سارت إلى عيالات أهل الشام؛ فراعه ذلك، واستشار موسى بن نصير فقال له موسى: إن كان قد خرجوا في هذه الأيام فقد كفيتهم، فقال مروان: أزبيرية هذه يا موسى؟ قال: سيعلم أمير المؤمنين، أزبيرية هي أم مروانية، إني عالم بهذا البحر.
فعقد له مروان على خيل ووجهه، فسار حتى إذا كان ببعض الأيام رأى تكدراً من النجوم ليلة، فقال: لا يبقى الله في البحر مركب إلا تكسر وذهب، فأجاز إلى عكا ويافا، فألفى مراكب أهل مصر ألقاها الريح وتكسرت، فأخذهم موسى أسرى، وهي ست مئة رجل من لخم.
وجعل مروان يتلبث انتظاراً لما يأتيه من قبل موسى، وأقبل موسى بالقوم يغذ السير، فأدرك مروان بخربة القتيل بين الفرما والجفار، وأتاه بالأسرى، فأجازه مروان بألف دينار.
وسار مروان، فلما كان بجرجير بلغه ما استعد به أهل مصر، فبعث إلى وجوه من
معه من أهل الشام وأهل بيته: أشيروا علي في هؤلاء الأسرى، فقال كل برأيه وموسى ساكت، فقال له مروان: ما لك يا بن نصير لا تتكلم؟! قال: أخاف يا أمير المؤمنين من الكلمة التي كانت بالأمس، قال: قل، فلست عندنا ظنيناً اليوم، قال: أرى أن تفك عانيهم، وتحسن صفادهم، وتبلغهم مأمنهم، وأن تعف عنهم، فيأتي الرجل قومه فيقول قيل ما لا يستطيعون رده من النبأ عليك، فقبل مروان مشورة موسى وفك عنهم، فقال رجل من مصر من مراد: " من الوافر "
جزاك الله يا بن نصير خيراً ... فقد أحييت من قتل وأسر
عشية قال مروان أشيروا ... علي برأيكم في أهل مصر
فقلت بما تراه الحط نصحاً ... ولم تك مثل نعمان وعمرو
فمن يكن كافراً نعماك يوماً ... فإني شاكر لك طول دهري
ثم صالح مروان أهل مصر، ودخلها صلحاً سنة خمس وستين، وخرج مروان راجعاً إلى الشام، واستخلف على مصر ابنه عبد العزيز وخلف معه بشر بن مروان.
وتوفي مروان بالشام، واستخلف عبد الملك، فكتب إلى أخيه بشر بن مروان وهو بمصر يوليه العراق، وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز أن أشخص مع بشر موسى بن نصير وزيراً.
فخرج بشر ومعه موسى، فكان موسى على أمره كله إلى أن توفي بشر بن مروان، ورجع موسى بن نصير إلى مصر، فكان من آثر الناس عند عبد العزيز بن مروان.
وفي سنة تسع وسبعين غزا موسى بن نصير المغرب فقتل وسبى، حتى انتهى إلى طبنة وطنجة، فبلغ سبيهم عشرين ألفاً، وذلك سنة إحدى وثمانين، وفي سنة اثنتين وثمانين أغزى موسى بن نصير المغيرة بن أبي بردة العبدري إلى صنهاجة.
وفي سنة ست وثمانين وجه موسى المغيرة في مراكب فافتتح أولية، وهي أول مدائن سقلية من الغرب.
وفي سنة سبع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله بن موسى سردانية فافتتح، وأغزى أيضاً عبد الله بن حذيفة سردانية فأصاب سبياً وغنائم، وأغزى ابن أخيه أيوب، وهو ابن حبيب، ممطورة فبلغ سبيهم ثلاثين ألفاً.
وفي سنة تسع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله ميورقة وسورانية، جزيرتين بين سقلية والأندلس، ففتحهما الله تعالى.
وهذه الغزو تسمى غزوة الأشراف، كان معه أشراف الناس، وفيها أغزى موسى ابنه مروان السوس الأقصى فبلغ السبي أربعين ألفاً.
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا موسى بلاد المغرب، فأتى طنجة، وسار لا يأتي على مدينة فيبرحها حتى يفتحها أو ينزلون على حكمه، وسار إلى قرطبة وغرب فافتتح مدينة باجة مما يلي البحر، وافتتح مدينة البيضاء، ووجه الجيوش فجعلوا يفتحون ويغنمون.
وقدم من الأندلس سنة أربع وتسعين، وأوفد وفداً إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله على يديه، وما معه من الأموال والتيجان، وبعث إليه بالخمس. وفي سنة تسع وسبعين أمر موسى بن نصير على إفريقية قال الليث: ولما غزا موسى بن نصير المغرب بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مئة ألف، وبعث ابن أخيه أيوب في جيش فأصاب مئة ألف،
قيل لليث: من هم؟ قال: البربر، فلما جاء كتابه بذلك قال الناس: ابن نصير أحمق، من أين له عشرون ألفاً يبعثهم إلى أمير المؤمنين مع الخمس؟ فبلغ ذلك موسى بن نصير، فقال: ابتعثوا من يقبض لهم عشرين ألفاً.
فلما فتحوا الأندلس جاء إنسان فقال: ابعث معي أدلكم على كنز فبعث معه فقال انزعوا ههنا؟ فنزعوا فسال عليهم من الزبرجد والياقوت شيء لم يروا مثله قط، فلما رأوه بهتوا وقالوا: لا يصدقنا موسى بن نصير أبداً، فأرسلوا إليه فجاء، ونظر إليه، وكانت الطنفسة توجد منسوجة بقضبان الذهب، تنظم السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، فكان البربريان ربما وجداها فلا يستطيعان حملها، حتى يأتيا بالفأس فيضربان وسطها، فيأخذ أحدهما نصفها، والآخر نصفها.
قال الليث: وسمع يومئذ مناد ينادي لا يعرفونه ولا يرونه: أيها الناس إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم.
ولما دخل موسى إفريقية أقام بها أشهراً يغزو أطرافها، فلما كان من عامه ذاك في رمضان ودنا العيد، لم يشعر الناس به إلا وقد صعد المنبر، فأمر بالأبواب فأخذت على الناس فارتاعوا لذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس فإنكم قد أصبحتم في نحور عدوكم، وبأقصى ثغر من ثغوركم، أبعده شقة، وأشده انتياطاً بدار قد شحطت عن دياركم، ومصر قد نأى عن أمصاركم، بين عدو كلب عليكم، قد قربت داره منكم. وأنتم منه بمرأى ومسمع، وكفى بالله نصيراً، وقد رأيت ضعفاً من قوتكم، ورثاثة من عدوكم، وقد عزمت على قسم فيئكم بينكم، فأن يمضه أمير المؤمنين فحقكم، وإن يكن له رأي غير ذلك أكن لديه كفيلاً، وقد أمرت لكم من مال بمعونة وهي مني لكم في كل عام، إن شاء الله.
وفي ذلك يقول زائدة بن الصلت الغساني من فرسان العرب المعدودين من أبيات: " من الرجز "
قد سن موسى سنة وأثرا ... مآثراً محمودة لن تنكرا
بالقيروان فاق فيها البشرا ... ما سنه من قبله فيؤثرا
في سالف الدهر ولا من غبرا ... من كان ذا ملك ومن تأمرا
إلا أبا بكر وإلا عمرا ... سن الذي شأى وقص الأثرا
أعطى الغني حظه والأفقرا ... وسن أخرى بعدها ليذكرا
سن لنا في عيده إذ أفطرا ... في كل عام سنة لن تكفرا
معونة أطابها وأكثرا ... لما علا في العيد منا المنبرا
كأنه البدر إذا ما أبدرا ... واحتضر الناس فجاؤوا زمرا
أنهب فينا بدراً فبدرا ... فوارد أنهله وأصدرا
وصادر يحمد منه الخبرا
وفي سنة أربع وثمانين غزا موسى بن نصير سلوما من أرض إفريقية، فنزل على أوربة، فقاتلوه، ثم فتح الله عليه، فقتل وسبى، وبلغ السبي خمسين ومئة ألف رأس.
وفي سنة خمس وتسعين، قفل موسى من إفريقية، واستخلف ابنه عبد الله، وحمل الأموال على العجل والظهر، ومعه ثلاثون ألف رأس " و" قدم على الوليد.
ولما سار موسى إلى طنجة وافتتح الأندلس وأصاب فيها المائدة التي يتحدث أهل الكتاب أنها مائدة سليمان بن داود، على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قيل: إنه أخذ مع المائدة التاج الذي نزل من السماء!
وأوغل موسى في بلاد الأندلس، لم يزل يفتح مدينة حتى سرقسطة فعظم على الجند مبلغه وخافوا أن يجاوز إلى غرة، فمشوا إلى حنش بن عبد الله السبئي، فشكوا إليه أنهم يخافون أن يجتمع العدو عليهم فيهلكهم، فقام إليه حنش بعد صلاة الصبح فقال: أيها الأمير، أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم أبا رشدين، قال: كنت سمعتك بإفريقية تذكر عقبة بن نافع وتقول: لقد غرر بنفسه إذ وغل في بلاد البربر حتى قتل، وتقول: أما كان له ناصح؟ وأنا ناصحك اليوم أيها الأمير، أتلتمس غنيمة افضل مما غنمت؟ أو تريد أن تطأ من أرض المشركين أكثر مما قد وطئت؟، لقد بلغك الله أن جعلك أبعد المسلمين أثراً في الجهاد، وفتح عليك ما لم يفتحه على أحد من المسلمين، وقد أحب جندك السلامة واشتاقوا إلى الأهل والولد، فانصرف راشداً أيها الأمير.
فقال موسى: قد قبلت النصيحة وشكرت عليها، فأمر بالتجهز للرجوع، ورجع من هناك إلى الأندلس.
سأل عمر بن عبد العزيز موسى بن نصير - وكانت بنو أمية تبعثه على الجيوش - عن أعجب شيء رآه في البحر. قال:
انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة خضراء مختومة بخاتم سليمان بن داود، فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فثقبت، فإذا شيطان رأسه وهو يقول: والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها افسد في الأرض، ثم نظر فقال: ما أرى بها سليمان وملكه، فانساح في الأرض فذهب، فأمرت بالثلاث البواقي فردت إلى مكانها.
وفي سنة ثلاث وتسعين أجدب أهل إفريقية جدباً شديداً، فخرج موسى بن نصير بالناس، وأمرهم بالصيام، وأمر بالولدان فجعلوا على حدة، والنساء على حدة، وأخرج الإبل والبقر والغنم، وخرج بأهل الذمة على حدة، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار، وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ قال: ليس هذا يوم ذاك، فسقوا سقياً كفاهم حيناً.
قدم قيم عمر بن عبد العزيز بعلبة، وسمع أهله بذلك، فأرسلوا ابناً له صغيراً، ثم أقبل يؤم الدنانير، فقال: امسكوا يديه، ثم رفع يديه فقال: اللهم بغضها إليه كما حببتها إلى موسى بن نصير، ثم قال: خلوه فكأنما رأى بها عقارب.
وقيل: عن موسى قال: والله لو انقادوا لقدتهم حتى أوقفهم على رومية، ثم ليفتحنها الله على يدي - إن شاء الله -.
ودخل موسى إلى مصر سنة خمس وتسعين، وكانت أول عيره بالجيزة وآخرها بثرنوط.
وسار متوجهاً إلى الشام حتى قدم على الوليد بن عبد الملك وتحين يوم الجمعة، فلما جلس الوليد على المنبر أتى موسى بن نصير وقد ألبس ثلاثين رجلاً تيجاناً على كل رجل منهم تاج وثياب ملك ملك التاج، ثم دخلوا المسجد في هيئة الملوك، وأمر بملوك الجزائر أكابر الروم فهبوا وأبناء ملوك البربر وملك الإسبان، وأقبل موسى بن نصير بالثلاثين الذين ألبسهم التيجان حتى دخل بهم مسجد دمشق، والوليد يخطب، فلما رآهم هب إليهم فأقبل حتى سلم على الوليد، ووقف الثلاثون عن يمين المنبر وشماله بالتيجان، فأخذ الوليد في حمد الله والثناء عليه والشكر بما أيده وفتح عليه ونصره، فأطال حتى فات وقت الجمعة، فصلى وانصرف، وأجاز موسى بجائزة عظيمة، وأقام موسى بدمشق حتى مات الوليد، واستخلف سليمان، وكان عاتباً على موسى فحبسه وطالبه بأموال عظيمة.
ولم يزل في يده حتى حج سليمان سنة سبع وتسعين، وحج معه موسى، فمات موسى بالمدينة في هذه السنة، وقيل: توفي بوادي القرى.
أبو عبد الرحمن مولى امرأة من لخم، وقيل: إنه مولى لبني أمية، وأصله من عين التمر. ويقال: هو من إراشة من بلي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في زمن أبي بكر، واسمه نصر، فصغر، وأعتقه بعض بني أمية، فرجع إلى الشام، وولد له موسى بقرية يقال لها: كفر مثرى.
وهو صاحب فتوح الأندلس، وكان أعرج، وولاه معاوية البحر، وشهد مرج راهط، وغزا قبرس. وبنى هنالك حصوناً ومثابات منها حسن " يابس وال ... عوصه ".
وقيل: إن موسى كان يقرأ الكتب، فوجد أمر بني أمية، فانقطع إلى مروان بالمدينة، وترقت أحواله حتى ولي الأندلس.
وقدم دمشق على الوليد بن عبد الملك، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود التي أصابها بالأندلس.
وكان أميراً بإفريقية والمغرب، وليها سنة تسع وسبعين.
وكان معاوية بعث لابتناء يابس من قبرس رجلين من الموالي أحدهما: موسى بن
نصير، والآخر المهاجر بن دعلج مولى خولان، وولى أبا الأعور السلمي البعث، فلما قدما عليه رأى موسى أجسم من المهاجر، فقال: ما ينبغي للسلطان أن يستعين إلا بالجسيم لهيبته.
كان موسى بن نصير ممن بايع لابن الزبير، وحضر يوم المرج مع الضحاك، فلما قتل الضحاك لحق موسى بفلسطين، فكان مع نائل بن قيس يدعو إلى ابن الزبير، فأهدر مروان دمه، فاستجار موسى بعبد العزيز بن مروان، فوهبه له مروان وخرج به معه إلى مصر، وهم في طاعة ابن الزبير، وعليهم ابن جحدم، فلما بلغ أهل مصر مسير مروان خندقوا على الفسطاط خندقاً واستعدوا لحربه، وواجهوا مراكب مصر إلى سواحل الشام لتخالف إلى ذراريهم وعيالهم، وكان على تلك المراكب الأكدر بن حمام اللخمي، فبلغ مروان في العريش أن مراكب أهل مصر سارت إلى عيالات أهل الشام؛ فراعه ذلك، واستشار موسى بن نصير فقال له موسى: إن كان قد خرجوا في هذه الأيام فقد كفيتهم، فقال مروان: أزبيرية هذه يا موسى؟ قال: سيعلم أمير المؤمنين، أزبيرية هي أم مروانية، إني عالم بهذا البحر.
فعقد له مروان على خيل ووجهه، فسار حتى إذا كان ببعض الأيام رأى تكدراً من النجوم ليلة، فقال: لا يبقى الله في البحر مركب إلا تكسر وذهب، فأجاز إلى عكا ويافا، فألفى مراكب أهل مصر ألقاها الريح وتكسرت، فأخذهم موسى أسرى، وهي ست مئة رجل من لخم.
وجعل مروان يتلبث انتظاراً لما يأتيه من قبل موسى، وأقبل موسى بالقوم يغذ السير، فأدرك مروان بخربة القتيل بين الفرما والجفار، وأتاه بالأسرى، فأجازه مروان بألف دينار.
وسار مروان، فلما كان بجرجير بلغه ما استعد به أهل مصر، فبعث إلى وجوه من
معه من أهل الشام وأهل بيته: أشيروا علي في هؤلاء الأسرى، فقال كل برأيه وموسى ساكت، فقال له مروان: ما لك يا بن نصير لا تتكلم؟! قال: أخاف يا أمير المؤمنين من الكلمة التي كانت بالأمس، قال: قل، فلست عندنا ظنيناً اليوم، قال: أرى أن تفك عانيهم، وتحسن صفادهم، وتبلغهم مأمنهم، وأن تعف عنهم، فيأتي الرجل قومه فيقول قيل ما لا يستطيعون رده من النبأ عليك، فقبل مروان مشورة موسى وفك عنهم، فقال رجل من مصر من مراد: " من الوافر "
جزاك الله يا بن نصير خيراً ... فقد أحييت من قتل وأسر
عشية قال مروان أشيروا ... علي برأيكم في أهل مصر
فقلت بما تراه الحط نصحاً ... ولم تك مثل نعمان وعمرو
فمن يكن كافراً نعماك يوماً ... فإني شاكر لك طول دهري
ثم صالح مروان أهل مصر، ودخلها صلحاً سنة خمس وستين، وخرج مروان راجعاً إلى الشام، واستخلف على مصر ابنه عبد العزيز وخلف معه بشر بن مروان.
وتوفي مروان بالشام، واستخلف عبد الملك، فكتب إلى أخيه بشر بن مروان وهو بمصر يوليه العراق، وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز أن أشخص مع بشر موسى بن نصير وزيراً.
فخرج بشر ومعه موسى، فكان موسى على أمره كله إلى أن توفي بشر بن مروان، ورجع موسى بن نصير إلى مصر، فكان من آثر الناس عند عبد العزيز بن مروان.
وفي سنة تسع وسبعين غزا موسى بن نصير المغرب فقتل وسبى، حتى انتهى إلى طبنة وطنجة، فبلغ سبيهم عشرين ألفاً، وذلك سنة إحدى وثمانين، وفي سنة اثنتين وثمانين أغزى موسى بن نصير المغيرة بن أبي بردة العبدري إلى صنهاجة.
وفي سنة ست وثمانين وجه موسى المغيرة في مراكب فافتتح أولية، وهي أول مدائن سقلية من الغرب.
وفي سنة سبع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله بن موسى سردانية فافتتح، وأغزى أيضاً عبد الله بن حذيفة سردانية فأصاب سبياً وغنائم، وأغزى ابن أخيه أيوب، وهو ابن حبيب، ممطورة فبلغ سبيهم ثلاثين ألفاً.
وفي سنة تسع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله ميورقة وسورانية، جزيرتين بين سقلية والأندلس، ففتحهما الله تعالى.
وهذه الغزو تسمى غزوة الأشراف، كان معه أشراف الناس، وفيها أغزى موسى ابنه مروان السوس الأقصى فبلغ السبي أربعين ألفاً.
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا موسى بلاد المغرب، فأتى طنجة، وسار لا يأتي على مدينة فيبرحها حتى يفتحها أو ينزلون على حكمه، وسار إلى قرطبة وغرب فافتتح مدينة باجة مما يلي البحر، وافتتح مدينة البيضاء، ووجه الجيوش فجعلوا يفتحون ويغنمون.
وقدم من الأندلس سنة أربع وتسعين، وأوفد وفداً إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله على يديه، وما معه من الأموال والتيجان، وبعث إليه بالخمس. وفي سنة تسع وسبعين أمر موسى بن نصير على إفريقية قال الليث: ولما غزا موسى بن نصير المغرب بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مئة ألف، وبعث ابن أخيه أيوب في جيش فأصاب مئة ألف،
قيل لليث: من هم؟ قال: البربر، فلما جاء كتابه بذلك قال الناس: ابن نصير أحمق، من أين له عشرون ألفاً يبعثهم إلى أمير المؤمنين مع الخمس؟ فبلغ ذلك موسى بن نصير، فقال: ابتعثوا من يقبض لهم عشرين ألفاً.
فلما فتحوا الأندلس جاء إنسان فقال: ابعث معي أدلكم على كنز فبعث معه فقال انزعوا ههنا؟ فنزعوا فسال عليهم من الزبرجد والياقوت شيء لم يروا مثله قط، فلما رأوه بهتوا وقالوا: لا يصدقنا موسى بن نصير أبداً، فأرسلوا إليه فجاء، ونظر إليه، وكانت الطنفسة توجد منسوجة بقضبان الذهب، تنظم السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، فكان البربريان ربما وجداها فلا يستطيعان حملها، حتى يأتيا بالفأس فيضربان وسطها، فيأخذ أحدهما نصفها، والآخر نصفها.
قال الليث: وسمع يومئذ مناد ينادي لا يعرفونه ولا يرونه: أيها الناس إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم.
ولما دخل موسى إفريقية أقام بها أشهراً يغزو أطرافها، فلما كان من عامه ذاك في رمضان ودنا العيد، لم يشعر الناس به إلا وقد صعد المنبر، فأمر بالأبواب فأخذت على الناس فارتاعوا لذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس فإنكم قد أصبحتم في نحور عدوكم، وبأقصى ثغر من ثغوركم، أبعده شقة، وأشده انتياطاً بدار قد شحطت عن دياركم، ومصر قد نأى عن أمصاركم، بين عدو كلب عليكم، قد قربت داره منكم. وأنتم منه بمرأى ومسمع، وكفى بالله نصيراً، وقد رأيت ضعفاً من قوتكم، ورثاثة من عدوكم، وقد عزمت على قسم فيئكم بينكم، فأن يمضه أمير المؤمنين فحقكم، وإن يكن له رأي غير ذلك أكن لديه كفيلاً، وقد أمرت لكم من مال بمعونة وهي مني لكم في كل عام، إن شاء الله.
وفي ذلك يقول زائدة بن الصلت الغساني من فرسان العرب المعدودين من أبيات: " من الرجز "
قد سن موسى سنة وأثرا ... مآثراً محمودة لن تنكرا
بالقيروان فاق فيها البشرا ... ما سنه من قبله فيؤثرا
في سالف الدهر ولا من غبرا ... من كان ذا ملك ومن تأمرا
إلا أبا بكر وإلا عمرا ... سن الذي شأى وقص الأثرا
أعطى الغني حظه والأفقرا ... وسن أخرى بعدها ليذكرا
سن لنا في عيده إذ أفطرا ... في كل عام سنة لن تكفرا
معونة أطابها وأكثرا ... لما علا في العيد منا المنبرا
كأنه البدر إذا ما أبدرا ... واحتضر الناس فجاؤوا زمرا
أنهب فينا بدراً فبدرا ... فوارد أنهله وأصدرا
وصادر يحمد منه الخبرا
وفي سنة أربع وثمانين غزا موسى بن نصير سلوما من أرض إفريقية، فنزل على أوربة، فقاتلوه، ثم فتح الله عليه، فقتل وسبى، وبلغ السبي خمسين ومئة ألف رأس.
وفي سنة خمس وتسعين، قفل موسى من إفريقية، واستخلف ابنه عبد الله، وحمل الأموال على العجل والظهر، ومعه ثلاثون ألف رأس " و" قدم على الوليد.
ولما سار موسى إلى طنجة وافتتح الأندلس وأصاب فيها المائدة التي يتحدث أهل الكتاب أنها مائدة سليمان بن داود، على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قيل: إنه أخذ مع المائدة التاج الذي نزل من السماء!
وأوغل موسى في بلاد الأندلس، لم يزل يفتح مدينة حتى سرقسطة فعظم على الجند مبلغه وخافوا أن يجاوز إلى غرة، فمشوا إلى حنش بن عبد الله السبئي، فشكوا إليه أنهم يخافون أن يجتمع العدو عليهم فيهلكهم، فقام إليه حنش بعد صلاة الصبح فقال: أيها الأمير، أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم أبا رشدين، قال: كنت سمعتك بإفريقية تذكر عقبة بن نافع وتقول: لقد غرر بنفسه إذ وغل في بلاد البربر حتى قتل، وتقول: أما كان له ناصح؟ وأنا ناصحك اليوم أيها الأمير، أتلتمس غنيمة افضل مما غنمت؟ أو تريد أن تطأ من أرض المشركين أكثر مما قد وطئت؟، لقد بلغك الله أن جعلك أبعد المسلمين أثراً في الجهاد، وفتح عليك ما لم يفتحه على أحد من المسلمين، وقد أحب جندك السلامة واشتاقوا إلى الأهل والولد، فانصرف راشداً أيها الأمير.
فقال موسى: قد قبلت النصيحة وشكرت عليها، فأمر بالتجهز للرجوع، ورجع من هناك إلى الأندلس.
سأل عمر بن عبد العزيز موسى بن نصير - وكانت بنو أمية تبعثه على الجيوش - عن أعجب شيء رآه في البحر. قال:
انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة خضراء مختومة بخاتم سليمان بن داود، فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فثقبت، فإذا شيطان رأسه وهو يقول: والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها افسد في الأرض، ثم نظر فقال: ما أرى بها سليمان وملكه، فانساح في الأرض فذهب، فأمرت بالثلاث البواقي فردت إلى مكانها.
وفي سنة ثلاث وتسعين أجدب أهل إفريقية جدباً شديداً، فخرج موسى بن نصير بالناس، وأمرهم بالصيام، وأمر بالولدان فجعلوا على حدة، والنساء على حدة، وأخرج الإبل والبقر والغنم، وخرج بأهل الذمة على حدة، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار، وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ قال: ليس هذا يوم ذاك، فسقوا سقياً كفاهم حيناً.
قدم قيم عمر بن عبد العزيز بعلبة، وسمع أهله بذلك، فأرسلوا ابناً له صغيراً، ثم أقبل يؤم الدنانير، فقال: امسكوا يديه، ثم رفع يديه فقال: اللهم بغضها إليه كما حببتها إلى موسى بن نصير، ثم قال: خلوه فكأنما رأى بها عقارب.
وقيل: عن موسى قال: والله لو انقادوا لقدتهم حتى أوقفهم على رومية، ثم ليفتحنها الله على يدي - إن شاء الله -.
ودخل موسى إلى مصر سنة خمس وتسعين، وكانت أول عيره بالجيزة وآخرها بثرنوط.
وسار متوجهاً إلى الشام حتى قدم على الوليد بن عبد الملك وتحين يوم الجمعة، فلما جلس الوليد على المنبر أتى موسى بن نصير وقد ألبس ثلاثين رجلاً تيجاناً على كل رجل منهم تاج وثياب ملك ملك التاج، ثم دخلوا المسجد في هيئة الملوك، وأمر بملوك الجزائر أكابر الروم فهبوا وأبناء ملوك البربر وملك الإسبان، وأقبل موسى بن نصير بالثلاثين الذين ألبسهم التيجان حتى دخل بهم مسجد دمشق، والوليد يخطب، فلما رآهم هب إليهم فأقبل حتى سلم على الوليد، ووقف الثلاثون عن يمين المنبر وشماله بالتيجان، فأخذ الوليد في حمد الله والثناء عليه والشكر بما أيده وفتح عليه ونصره، فأطال حتى فات وقت الجمعة، فصلى وانصرف، وأجاز موسى بجائزة عظيمة، وأقام موسى بدمشق حتى مات الوليد، واستخلف سليمان، وكان عاتباً على موسى فحبسه وطالبه بأموال عظيمة.
ولم يزل في يده حتى حج سليمان سنة سبع وتسعين، وحج معه موسى، فمات موسى بالمدينة في هذه السنة، وقيل: توفي بوادي القرى.