Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=153849#8a8d52
محمد الأمين بن هارون بن محمد
ابن عبد الله بن عباس أبو عبد الله؛ ويقال: أبو موسى الأمين؛ ابن الرشيد بن المهدي بن المنصور بويع له بالخلافة بعد أبيه الرشيد بعهدٍ منه، وقام ببيعته الفضل بن الربيع، وقد ببيعته رجاء الخادم، وكان قدم دمشق في خلافة أبيه سنة تسعٍ وثمانين ومئة، وجهه أبوه هارون إلى دمشق لإشخاص سليمان بن المنصور.
قال المغيرة بن محمد المهلبي: رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعةً من بني هاشم، فيهم بعض أولاد المتوكل، فسألوه عن الأمين وأدبه، فوصف الحسين أدباً كثيراً؛ فقيل له: فالفقه؟ فإن المأمون كان فقيهاً؛ فقال: ما سمعت فقهاً ولا حديثاً إلا مرةً واحدةً فإنه نعي غلام له بمكة، فقال: حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من مات محرماً حشر ملبياً ".
ولد الأمين سنة سبعين ومئة برصافة بغداد، وقيل: سنة إحدى وسبعين ومئة؛ وكان الرشيد بايع لولديه محمد وأمه زبيدة أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور؛ وعبد الله وهو المأمون، ثم القاسم؛ فملك محمد أربع سنين وسبعة أشهر وعشرين ليلةً، وولي سنة ثلاثٍ وتسعين، وقيل: سنة ثمانٍ وتسعين ومئة؛ قتله قريش الدنداني، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين، فنصبه على رمح وتلا " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " وكان طويلاً سميناً أبيض، وكان محمد الأمين خلع نفسه في سنة ست وتسعين ومئة حين وثب به الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وبويع للمأمون يومئذٍ، وقام ببيعته إسحاق بن عيسى، ومكث مخلوعاً محبوساً إلى أن قتله طاهر بن الحسين بن مصعب ببغداد، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة؛ وقيل: ثمان وعشرين سنة.
لما أتت الخلافة محمد بن هارون خطب ببغداد، فقال: أيها الناس إن المنون تراصد ذوي الأنفاس حتماً من الله، لا يدفع حلولها، ولا ينكر نزولها، فاسترجعوا قلوبكم عن الجزع على الماضي إلى البهج الباقي تعطوا أجور الصابرين وجزاء الشاكرين.
قال أحمد بن حنبل: لما دخل إسماعيل بن علية على محمد بن زبيدة أمير المؤمنين، قال له: يا بن الفاعلة أنت الذي تقول: كلام الله مخلوق؟ قال: فوقف إسماعيل ينادي: يا أمير المؤمنين زلةٌ من عالمٍ؛ قال أبو عبد الله: إني لأرجو أن يرحم الله محمداً بإنكاره على إسماعيل هذا الشأن.
ركب الرشيد يوماً بكراً فنظر إلى محمد الأمين يميل في سرجه؛ فقال: ما أصارك إلى هذا يا محمد؟ قال: أصارني إليه البارحة: من الخفيف
عللاني بعاتقات الكروم ... واسقياني بكأس أم حكيم
قال: فانصرف يا محمد؛ فلما رجع الرشيد وجه إليه بخادمٍ معه كأس أم حكيم، وكان كأساً كبيراً فرعونياً، قد جعل فيه طوق ذهبٍ، ومقبضٌ من ذهبٍ، فإذا هو مملوءٌ دنانير؛ وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: بعثت إليك بالذي أسهرك لتشرب فيه وتنتفع بما يصل معه؛ قال: فأعطى الخادم قبضةً من الدنانير، وفرق نصف ما فيه على جلسائه، وأعطى النصف جاريةً، وشرب في القدح ثلاثة أرطالٍ، رطلاً بعد رطل؛ ورده؛ فكان مبلغ الدنانير عشرة آلاف دينار.
ومن شعر محمد الأمين: من المتقارب
رأيت الهلال على وجهكا ... فما زلت أدعو إلهي لكا
ولا زلت تحيا وأحيا معاً ... وأمنني الله من فقدكا
ومن شعره قوله في خادمه كوثر، وقد أخبر بأن الناس يلومونه فيه، وفي تركه النظر في أمور الناس: من مجزوء الرمل
ما يريد الناس من صب ... بٍ بمن يهوى كئيب
ليس إن قيس خلياً ... قلبه مثل القلوب
كوثرٌ ديني ودنيا ... ي وسقمي وطبيبي
أعجز الناس الذي يل ... حى محباً في حبيب
خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب فأصابته رجمةٌ في وجهه، فجلس يبكي فوجه محمد من جاء به، وجعل يمسح الدم عن وجهه، ثم قال: من مجزوء الرمل
ضربوا قرة عيني ... ومن اجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناسٍ أحرقوه
وأراد زيادةً في الأبيات فلم يواته طبعه، فقال للفضل بن الربيع: من ها هنا من الشعراء؟ قال: الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي، فطلبه، وأنشد البيتين وقال: قل عليهما؛ فقال:
ما لمن أهوى شبيةٌ ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلوٌ ولكن ... هجره مر كريهٌ
من رأى الناس له ال ... فضل عليهم حسدوه
مثلما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه
فقال محمد: أحسنت، هذا خيرٌ مما أردت، بحياتي يا عباسي انظر فإن كان جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم، وإن كان جاء في زورقٍ ملأته له؛ فأوقر له ثلاثة أبغلٍ دراهم.
لما قتل الأمين، خرج أبو محمد التيمي إلى المأمون، وامتدحه، فلم يأذن له، فلجأ إلى الفضل بن سهل، وامتدحه فأوصله إلى المأمون، فلما سلم عليه قال له: يا تيمي:
مثلما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه؟
فقال أبو محمد التيمي:
نصر المأمون عبد الل ... هـ لما ظلموه
نقض العهد الذي كا ... نوا قديماً أكدوه
لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه
ثم أنشده قصيدةً امتدحه بها أولها: من الطويل
جزعت ابن تيمٍ أن علاك مشيب ... زربان الشباب والشباب حبيب؟
فلما فرغ منها، قال له المأمون: قد وهبتك لله ولأخي أبي العباس، يعني: الفضل بن سهل، وأمرت لك بعشرة آلاف درهم.
قال أبو محمد عبد الله بن أيوب الشاعر: أنشدت الأمين أول ما ولي الخلافة: من المنسرح
لا بد من سكرةٍ على طربٍ ... لعل روحاً تذال من كرب
فعاطنيها صفراء صافيةً ... تضحك من لؤلؤٍ على ذهب
خليفة الله أنت منتخبٌ ... لخير أم من هاشمٍ وأب
فأمر لي بمئتي ألف درهم، صالحوني منها على مئة ألف درهم.
دخل الحسن بن هانئ على الأمين، وبين يديه رمانة؛ فقال: صفها، ولك بكل حبةٍ دينارٌ؛ فأنشأ يقول: من الطويل
ورمانةٍ شبهتها إذ رأيتها ... بثدي كعابٍ أو بحقة مرمر
ململمةٍ حمراء نضد جوفها ... يواقيت حمر في ملاء معصفر
لها قشر عقبانٍ ورأس مشرق ... وأوراق خيري وأغصان عنبر
وفيها شفاءٌ للمريض وصحةٌ ... وفيها حديثٌ للنبي المطهر
وفيها يقول الله جل ثناؤه ... فواكه رمانٍ ونخلٍ مسطر
فقال الأمين: شق الرمانة واحص حبها، فإذا فيها سبع مئة حبة؛ فأعطاه بكل حبةٍ ديناراً.
دخل سليمان بن المنصور على محمد الأمين، فرفع إليه أن أبا نواس هجاه، وأنه
زنديقٌ كافرٌ، حلال الدم، وأنشده من أشعاره المنكرة أبياتاً؛ فقال: يا عم أأقتله بعد قوله: من الكامل
أهدي الثناء إلى الأمين محمدٍ ... ما بعده بتجارةٍ تتربص
صدق الثناء على الأمين محمدٍ ... ومن الثناء تكذب وتخرص
قد ينقص القمر المنير إذا استوى ... وبهاء نور محمدٍ ما ينقص
وإذا بنو المنصور عد حصاهم ... فمحمدٌ ياقوتها المتخلص
فغضب سليمان وقال: لو شكوت من عبد الله يعني ابن الأمين ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن تعاقبه، فكيف منه؛ فقال: يا عم كيف أعمل بقوله: من المنسرح
قد أصبح الملك بالمنى ظفرا ... كأنما كان عاشقاً قدرا
قيد أشطانه إلى ملكٍ ... ما عشق الملك قبله بشرا
حسبك وجه الأمين من قمر ... إذا طوى الليل دونك القمرا
خليفةٌ يعتني بأمته ... وإن أتته ذنوبها اغتفرا
حتى لو اسطاع من تحننه ... دافع عنها القضاء والقدرا
فازداد سليمان غضباً؛ فقال: يا عم فكيف أعمل بقوله: من مجزوء المديد
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن
منها:
تضحك الدنيا إلى ملكٍ ... قام بالآثار والسنن
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
سن للناس الندى فندوا ... فكأن البخل لم يكن
فانقطع سليمان عن الركوب، فأمر الأمين بحبس أبي نواس؛ فلما طال حبسه، كتب إليه هذه الأبيات، واجتهد حتى وصلت إلى الأمين: من الطويل
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك بالدر يا در هاشمٍ ... فيا من رأى دراً على الدر ينثر
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل منصوريك منصور هاشمٍ ... ومنصور قحطانٍ إذا عد مفخر
فمن الذي يرمي بسهميك في العلا ... وعبد منافٍ والداك وحمير
تحسنت الدنيا بحسن خليفةٍ ... هو الصبح إلا أنه الدهر مسفر
أمينٌ يسوس الناس تسعين حجةً ... عليه له منه رداءٌ ومئزر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حيث ينظر
مضت لي شهورٌ مذ حبست ثلاثةٌ ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن أك لم أذنب ففيم عقوبتي؟ ... وإن أك ذا ذنبٍ فعفوك أكبر
قال إبراهيم بن المهدي: وجه إلي محمد الأمين بعد محاصرة طاهر بن الحسين بغداد، فصرت إليه، وهو بقصرٍ مشرفٍ منه على دجلة ليلة أربع عشرة، فقال لي: يا عم، أما ترى طيب هذه الليلة، وصفاء الجو فيها وحسن القمر في دجلة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين طيب الله عيشك وأعز دولتك وكبت عدوك؛ واندفعت أغنيه لما أعرف من سوء خلقه؛ فقال لي: يا عم هل لك فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أكره ذلك؛ فأحضر جاريةً تسمى صعب، فتطيرت من اسمها للحال التي كان عليها؛ فقال لها: غني؛ فكان أول ما غنت: من الطويل
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فاقشعر منه، واقشعررت؛ فقال لها: غني غيره؛ فاندفعت تغني: من الطويل
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
بني هاشمٍ ردوا سلاح ابن أختكم ... فلا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشمٍ إلا تردوا فإننا ... سواءٌ علينا قاتلاه وسالبه
بني هاشمٍ كيف الهوادة بيننا ... وعند فلانٍ سيفه ونجائبه
فاندفعت تغني؛ فقال لها: ويحك، إنما أحضرتك لأسر بك مع عمي، فقد زدتني غماً وهماً؛ فاندفعت تغني: من المنسرح
أما ورب السكون والحك ... إن المنايا سريعة الدرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل النعيم من ملكٍ ... قد انقضى ملكه إلى ملك
وملك ذي العرش دائمٌ أبداً ... ليس بفانٍ ولا بمشترك
فقال لها: أما تحسنين غير هذا؟ فقالت: والله يا سيدي ما أطلب إلا مسرتك، ولكن لساني ما يجري عليه غير هذا فقال لها: ويحك أبيني؛ فغنت: من البسيط
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: ويلك أبيني؛ فغنت:
هذا مقام مطردٍ ... هدمت منازله ودوره
فرماها بعودٍ كان بين يديه، فوقع على قدح بلور كان محمد معجباً به، وكان يسميه
باسمه محمداً لاستحسانه إياه، فانكسر؛ ونهضت الجارية فانصرفت، فقال لي: يا عم فنيت الأيام وانقضت المدة؛ فإذا هاتفٌ يهتف من وراء دجلة " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " فقال: سمعت يا عم؟ فقلت: يا سيدي ما سمعت شيئاً؛ ثم قمت فجلست في بعض الحجر؛ فعاد صوت الهاتف " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " فما خرجت الجمعة حتى قتل محمد الأمين.
وأدركت أمه خلافته، وكانت لها آثارٌ جميلةٌ في طريق مكة، وفي مكة، وبقيت بعده؛ وكان الرشيد عقد له العهد في أول خلافته في سنة خمسٍ وسبعين ومئة، بعدما عقد لمحمد سنين وصفى الأمر لمحمد الأمين سنتين وأشهراً، وكانت الفتنة والحرب بينه وبين المأمون سنتين وخمسة أشهرٍ، أول ذلك عند تسيير الجيوش مع علي بن عيسى بن ماهان من جهة محمدٍ من بغداد إلى خراسان لحرب المأمون، عند فساد الأمر بينه وبينه، وخلعه إياه من العهد الذي كان له بعد، وتوجيه المأمون بطاهر بن الحسين في الجيش ليلقى علي بن عيسى، ومحاربته، فوصل علي بن عيسى بمن معه إلى الري ووافاه طاهر بن الحسين بمن معه فالتقوا بأكناف الري، فقتل علي بن عيسى وانفض عسكره في سنة خمسٍ وتسعين ومئة، فقوي أمر المأمون عند ذلك بخراسان، وسلم عليه بالخلافة، وضعف أمر محمد؛ ولم يزل في إدبارٍ، وجيوش المأمون تدق أصحابه في البلاد وتنفيهم عنها وتغلب المأمون عليها، ويدعى له إلى أنصار طاهر بن الحسين صاحب جيش المأمون وهرثمة الأعين من الجانب الشرقي، إلى أن قتل محمد ببغداد سنة ثمانٍ وتسعين ومئة؛ وكان بين ورود طاهر إلى أكناف بغداد وإحاطته لمحمد وحصره إياه في مدينة أبي جعفر إلى يوم قتله أربعة عشر شهراً وتسعة عشر يوماً؛ ولم يبق في يد محمد من الدنيا شيءٌ في وقت قتله، غير الموضع الذي هو محصورٌ فيه، يخاطبه من معه فيه بالخلافة ويسلم عليه بإمرة المؤمنين؛ وسائر المواضع في يدي المأمون، قد غلب له عليها يدعى له بها؛ وكان محمد قد خلع بمدينة السلام قبل ورود طاهرٍ إليها على يدي الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان سنة ست وتسعين ومئة، وحبسه الحسين في قصر أبي جعفرٍ، وحبس معه أمه وولده، وأقام في محبسه يومين،
وأخذ الحسين البيعة على جميع من حضره للمأمون بالخلافة، فبايعوا له، وطلبوا الحسين بوضع العطاء وإخراج الأموال، ولم يكن معه مالٌ فوعدهم ومناهم، ودافعهم فشغبوا عليه، وأخرجوا محمداً من محبسه فأعادوه إلى مجلسه وبايعوه بيعةً مجددةً سنة ست وتسعين، وقيل: سنة ثمانٍ وتسعين ومئة؛ وكان طويلاً جميلاً، حسن الوجه، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، أشعر سبطه، صغير العينين، به أثر جدري.