الليث بن سعد بن عبد الرحمن
أبو الحارث الفهمي المصري الفقيه روى عن الزهري، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب بسنده عن معاذ بن جبل: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ - وفي رواية: قبل أن تزيغ - الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها العشاء، فإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب.
خرج الليث إلى العراق سنة إحدى وستين، وقدم دمشق، فجالس سعيد بن عبد العزيز.
قال ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر: الليث بن سعد، مولى لقيس، يكنى أبا الحارث. مات يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وستين ومائة. وكان قد استقل بالفتوى في زمانه بمصر. ولد سنة ثلاث - أو أربع - وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان سرياً من الرجال، نبيلاً سخياً، له ضيافة.
وقال خليفة: مات سنة خمس وسبعين ومائة.
قال أبو صالح كاتب الليث: سمعت الليث يقول: أنا أكبر من أبي لهيعة بسنتين، ومات عمر بن عبد العزيز ولي سبع سنين.
قال ابن زغبة: سمعت الليث بن سعد يقول: نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً. وقال لأصحاب الحديث: تعلموا الحلم قبل العلم.
قال يحيى بن بكير: سعد أبو الليث بن سعد مولى لقريش، وإنما افترض أبوه سعد، وجده، والليث في فهم، كان ديوانه فيهم، فنسب إلى فهم، وأصلهم من أصبهان.
قال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة وأنا عشرين سنة.
قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فلما صرت بمكة رأيت نافعاً، فأقعدته في دكان علاف، قال: فمر بي ابن لهيعة، فقال: من هذا الذي رأيته معك؟ قلت: مولى لنا. فلما قدمنا مصر قلت: حدثني نافع، فوثب إلي ابن لهيعة، فقال: يا سبحان الله! فقلت: ألم ترى الأسود معي في دكان العلاف بمكة؟ فقال لي: نعم، فقلت: ذاك نافع. فحج قابل فوجده قد توفي. وقدم الأعرج يريد الإسكندرية، فرآه ابن لهيعة، فأخذه، فأخذه، فما زال عنده يحدثه حتى اكترى له سفينة وأحدره إلى الإسكندرية، فخرج إلى الإسكندرية، فقعد يحدث، فقال: حدثني الأعرج، عن أبي هريرة. فقلت: الأعرج، متى رأيته؟! قال: إن أردته، هو بالإسكندرية، فخرج الليث إلى الإسكندرية، فوجده قد مات، فذكر أنه صلى عليه.
قال الليث بن سعد: كنا بمكة سنة ثلاث عشرة " ومائة " وعلى الموسم سليمان بن هشام، وبها: ابن شهاب، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وعمرو بن شعيب، وقتادة بن دعامة، وعكرمة بن خالد، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، فكسفت الشمس بعد العصر، فقاموا قياماً يدعون في المسجد، فسألت أيوب بن موسى، فقلت: ما يمنعهم أن يصلوا صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي صلاها في الكسوف؟ فقال أيوب بن موسى: نهى " رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عن الصلاة بعد العصر، والنهي يقطع الأمر.
قال الليث: كتبت من علم ابن شهاب علماً كثيراً، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت ألا يكون ذلك لله، فتركت ذاك.
وقال: دخلت على نافع، فسألني، فقلت: أنا رجل من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس، فقال لي: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين سنة، قال: أما لحيتك فلحية " ابن " أربعين! قال عمر بن خالد الحراني: قلت لليث: يا أبا الحارث، بلغني أنك أخذت بركاب الزهري؟ قال: للعلم، فأما غير ذلك فلا والله، ما أخذت بركاب والدي الذي ولدني.
قال عبد العزيز بن محمد:
رأيت الليث بن سعد عند ربيعة يناظرهم في المسائل، وقد فرفر أهل الحلقة.
قال شرحبيل بن حميد بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة: أدركت الناس أيام هشام، وكان الليث بن سعد حديث السن، وكان بمصر: عبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة وغيرهم من أهل مصر، ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة وإنهم ليعرفون لليث فضله، وورعه، وحسن إسلامه على حداثه سنه.
قال ابن بكير: ورأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، وما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالاً جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة - لم أر مثله.
قال شعيب بن الليث: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أوكلما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب! عن يعقوب بن داود وزير المهدي قال: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد العراق: الزم هذا الشيخ؛ فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه.
قال يحيى بن معين: هذه رسالة مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: حدثنا عبد الله بن صالح - فذكرها وذكر فيها: - وأنت في أمانتك، وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك - وذكرها.
قال ابن بكير: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك.
وقال: أخبرت عن سعيد بن أيوب قال: لو أن مالكاً والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يزيد - قال: وهو يضرب يده على الأخرى، يرينا ذلك ابن بكير.
قال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس، ولولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل به.
قال الشافعي: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس.
قال سعد بن أبي مريم: قال يحيى بن معين: الليث عندي أرفع من محمد بن إسحاق، قلت له: فالليث أو مالك؟ قال لي: مالك.
وقال أبو عبد الله: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث، ولا أحد. وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكيرز وقال: ليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث.
قال أحمد بن صالح: - وذكر الليث بن سعد فقال: - إمام قد أوجب الله علينا حقه.
قال زيد بن الحباب: رأيت الليث بن سعد عند معاوية بن صالح نائماً في ناحية المسجد، ومعاوية يحدث، فلما فرغ معاوية من الحديث قال الليث لغلامه: انظر ما حدث معاوية فاكتب لي، فكتبه له، وذهب به.
قال الليث بن سعد: لما ودعت أبا جعفر ببيت المقدس قال: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك. وكان يقول: لا تخبروا بهذا ما دمت حياً.
قال عثمان ابن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك. مكان أهل حمص ينتقصون علياً حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائله، فكفوا عن ذلك.
قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، وإني رجل من المالي. فقال: ما بك من ضعف معي، ولكن ضعف نيتك في العمل لي عن ذلك. تريد قوة أقوى مني ومن عملي؟ فأما إذا أبيت فدلني على رجل أقلده أمر مصر، قلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة. قال: فبلغه ذلك فعاهد الله ألا يكلم الليث بن سعد.
قال قتيبة بن سعيد: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وكان إذا حضرته الصلاة يخرج إلى الشط، فيصلي، وكان ابنه شعيب إمامه. فخرجنا لصلاة المغرب، فقال: أين شعيب؟ فقالوا: حم، فقام الليث، فأذن، وأقام، ثم تقدم، فقرأ: " والشمس وضحاها "، فقرأ: " فلا تخاف عقباها "، وكذلك في مصاحف أهل المدينة، يقولون: هو
غلط من الكاتب عند أهل العراق - ويجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويسلم تسليمة تلقاء وجهه.
قال أشهب بن عبد العزيز:
كان الليث له كل يوم أربعة مجالس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه القرار، ويجلس لأصحاب الحديث. وكان يقول: نحوا أصحاب الحوانيت؛ فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل؛ يغشاه الناس، فيسألونه ويجلس لحوائج الناس؛ لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت. قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل، وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.
قال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى، ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.
قال يحيى بن إسحاق السيلحيني: جاءت امرأة بسكرجة إلى الليث بن سعد، فطلبت منه فيها عسلاً - أحسبه قال لمريض - قال: فأمر من يحمل معها زقاً من عسل، فجعلت المرأة تأبى، قال: وجعل
الليث يأبى إلا أن يحمل معها زقاً من عسل، قال: نعطيك على قدرنا - أو على ما عندنا.
قال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجاً، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب. قال: فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.
عن أبي صالح قال: كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث، فقلنا: ما يشبه هذا صاحبنا! قال: فسمع مالك كلامنا، فأدخلنا عليه، فقال: من صاحبكم؟ قلنا: الليث. فقال مالك: تشبهوننا برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثياب صبياننا، وصبيان جيراننا، وبعنا الفضلة بألف دينار.
قال ابن وهب: كتب مالك إلى الليث بن سعد: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث إلي بشيء من عصفر. فبعث إليه الليث بثلاثين حملاً عصفراً، فصبغ لابنته، وباع بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.
قال محمد بن صالح الأشج: سئل قتيبة بن سعيد: من أخرج لكم هذه الأحاديث من عند الليث؟ فقال: شيخ كان يقال له زيد بن الحباب.
وقدم منصور بن عمار على الليث بن سعد فوصله بألف دينار، واحترق بيت عبد الله بن لهيعة فوصله بألف دينار، ووصل مالك بن أنس بألف دينار. قال: وكساني قميص سندس، فهو عندي.
قال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية، فيقتلهم، فلما دخلت مصر دخلت في هيئة رثة، فدخلت على الليث بن سعد، فلما فرغت من مجلسه خرجت، فتبعني خادم له في دهليزه، فقال: اجلس حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إلي، وأنا وحدي، دفع إلي صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولم من شعثك.
وكان في حوزتي هميان فيه ألف دينار، فأخرجت الهميان، فقلت: أنا عنها في غنى استأذن لي على الشيخ، فاستأذن لي، فدخلت، فأخبرته بنسبي؛ واعتذرت إليه من ردها، وأخبرته بما معي. فقال: هذه صلة، وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي عادة وأنا في غنى، فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقاً لها. فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعة.
قال سعيد الآدم: مررت بالليث بن سعد، فتنحنح لي، فرجعت إليه، فقال لي: يا سعيد، خذ هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له، ولا غلة. قال: فقلت: جزاك الله خيراً يا أبا الحارث. وأخذت منه القنادق، ثم صرت إلى المنزل، فلنا صليت أوقدت السراج، وكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قلت: فلان بن فلان. قال: فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت، فقال: هاالله يا سعيد، تأتي إلى قوم عاملوا الله سراً، فتكشفهم لآدمي؟ مات الليث، ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه! قال: فقمت، ولم أكتب شيئاً. فلما أصبحت أتيت الليث بن سعد، فلما رآني تهلل وجهه، فناولته القنادق، فنشره، فأصاب
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ذهب ينشره، فقلت: ما فيه غير ما كتبت. فقال لي: يا سعيد، وما الخبر؟ فأخبرته بصدق عما كان، فصاح صيحة فاجتمع عليه الناس من الخلق، فقالوا: يا أبا الحارث، إلا خيراً! فقال: ليس إلا خيراً. ثم أقبل علي، فقال: يا سعيد، بينتها، وحرمتها، صدقت، مات الليث، أليس مرجعهم إلى الله!؟ قال شعيب بن الليث: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألف دينار، تأتي عليه السنة وعليه دين.
حدثني خالد بن عبد السلام الصدفي قال:
جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ورأيت الناس كلهم في جنازته عليهم الحزن، والناس يعزي بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت لأبي: يا أبه، كأن كل واحد من الناس صاحب الجنازة! فقال لي: يا بني، كان عالماً كريماً حسن العقل كثير الإفضال، يا بني، لا يرى مثله أبداً! قال ابن بكير: ولد الليث بن سعد سنة أربع وتسعين، وتوفي يوم النصف من شعبان يوم الجمعة سنة خمس وسبعين ومائة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن بعد الجمعة.
أبو الحارث الفهمي المصري الفقيه روى عن الزهري، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب بسنده عن معاذ بن جبل: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ - وفي رواية: قبل أن تزيغ - الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها العشاء، فإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب.
خرج الليث إلى العراق سنة إحدى وستين، وقدم دمشق، فجالس سعيد بن عبد العزيز.
قال ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر: الليث بن سعد، مولى لقيس، يكنى أبا الحارث. مات يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وستين ومائة. وكان قد استقل بالفتوى في زمانه بمصر. ولد سنة ثلاث - أو أربع - وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان سرياً من الرجال، نبيلاً سخياً، له ضيافة.
وقال خليفة: مات سنة خمس وسبعين ومائة.
قال أبو صالح كاتب الليث: سمعت الليث يقول: أنا أكبر من أبي لهيعة بسنتين، ومات عمر بن عبد العزيز ولي سبع سنين.
قال ابن زغبة: سمعت الليث بن سعد يقول: نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً. وقال لأصحاب الحديث: تعلموا الحلم قبل العلم.
قال يحيى بن بكير: سعد أبو الليث بن سعد مولى لقريش، وإنما افترض أبوه سعد، وجده، والليث في فهم، كان ديوانه فيهم، فنسب إلى فهم، وأصلهم من أصبهان.
قال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة وأنا عشرين سنة.
قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فلما صرت بمكة رأيت نافعاً، فأقعدته في دكان علاف، قال: فمر بي ابن لهيعة، فقال: من هذا الذي رأيته معك؟ قلت: مولى لنا. فلما قدمنا مصر قلت: حدثني نافع، فوثب إلي ابن لهيعة، فقال: يا سبحان الله! فقلت: ألم ترى الأسود معي في دكان العلاف بمكة؟ فقال لي: نعم، فقلت: ذاك نافع. فحج قابل فوجده قد توفي. وقدم الأعرج يريد الإسكندرية، فرآه ابن لهيعة، فأخذه، فأخذه، فما زال عنده يحدثه حتى اكترى له سفينة وأحدره إلى الإسكندرية، فخرج إلى الإسكندرية، فقعد يحدث، فقال: حدثني الأعرج، عن أبي هريرة. فقلت: الأعرج، متى رأيته؟! قال: إن أردته، هو بالإسكندرية، فخرج الليث إلى الإسكندرية، فوجده قد مات، فذكر أنه صلى عليه.
قال الليث بن سعد: كنا بمكة سنة ثلاث عشرة " ومائة " وعلى الموسم سليمان بن هشام، وبها: ابن شهاب، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وعمرو بن شعيب، وقتادة بن دعامة، وعكرمة بن خالد، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، فكسفت الشمس بعد العصر، فقاموا قياماً يدعون في المسجد، فسألت أيوب بن موسى، فقلت: ما يمنعهم أن يصلوا صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي صلاها في الكسوف؟ فقال أيوب بن موسى: نهى " رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عن الصلاة بعد العصر، والنهي يقطع الأمر.
قال الليث: كتبت من علم ابن شهاب علماً كثيراً، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت ألا يكون ذلك لله، فتركت ذاك.
وقال: دخلت على نافع، فسألني، فقلت: أنا رجل من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس، فقال لي: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين سنة، قال: أما لحيتك فلحية " ابن " أربعين! قال عمر بن خالد الحراني: قلت لليث: يا أبا الحارث، بلغني أنك أخذت بركاب الزهري؟ قال: للعلم، فأما غير ذلك فلا والله، ما أخذت بركاب والدي الذي ولدني.
قال عبد العزيز بن محمد:
رأيت الليث بن سعد عند ربيعة يناظرهم في المسائل، وقد فرفر أهل الحلقة.
قال شرحبيل بن حميد بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة: أدركت الناس أيام هشام، وكان الليث بن سعد حديث السن، وكان بمصر: عبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة وغيرهم من أهل مصر، ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة وإنهم ليعرفون لليث فضله، وورعه، وحسن إسلامه على حداثه سنه.
قال ابن بكير: ورأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، وما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالاً جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة - لم أر مثله.
قال شعيب بن الليث: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أوكلما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب! عن يعقوب بن داود وزير المهدي قال: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد العراق: الزم هذا الشيخ؛ فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه.
قال يحيى بن معين: هذه رسالة مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: حدثنا عبد الله بن صالح - فذكرها وذكر فيها: - وأنت في أمانتك، وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك - وذكرها.
قال ابن بكير: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك.
وقال: أخبرت عن سعيد بن أيوب قال: لو أن مالكاً والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يزيد - قال: وهو يضرب يده على الأخرى، يرينا ذلك ابن بكير.
قال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس، ولولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل به.
قال الشافعي: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس.
قال سعد بن أبي مريم: قال يحيى بن معين: الليث عندي أرفع من محمد بن إسحاق، قلت له: فالليث أو مالك؟ قال لي: مالك.
وقال أبو عبد الله: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث، ولا أحد. وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكيرز وقال: ليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث.
قال أحمد بن صالح: - وذكر الليث بن سعد فقال: - إمام قد أوجب الله علينا حقه.
قال زيد بن الحباب: رأيت الليث بن سعد عند معاوية بن صالح نائماً في ناحية المسجد، ومعاوية يحدث، فلما فرغ معاوية من الحديث قال الليث لغلامه: انظر ما حدث معاوية فاكتب لي، فكتبه له، وذهب به.
قال الليث بن سعد: لما ودعت أبا جعفر ببيت المقدس قال: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك. وكان يقول: لا تخبروا بهذا ما دمت حياً.
قال عثمان ابن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك. مكان أهل حمص ينتقصون علياً حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائله، فكفوا عن ذلك.
قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، وإني رجل من المالي. فقال: ما بك من ضعف معي، ولكن ضعف نيتك في العمل لي عن ذلك. تريد قوة أقوى مني ومن عملي؟ فأما إذا أبيت فدلني على رجل أقلده أمر مصر، قلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة. قال: فبلغه ذلك فعاهد الله ألا يكلم الليث بن سعد.
قال قتيبة بن سعيد: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وكان إذا حضرته الصلاة يخرج إلى الشط، فيصلي، وكان ابنه شعيب إمامه. فخرجنا لصلاة المغرب، فقال: أين شعيب؟ فقالوا: حم، فقام الليث، فأذن، وأقام، ثم تقدم، فقرأ: " والشمس وضحاها "، فقرأ: " فلا تخاف عقباها "، وكذلك في مصاحف أهل المدينة، يقولون: هو
غلط من الكاتب عند أهل العراق - ويجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويسلم تسليمة تلقاء وجهه.
قال أشهب بن عبد العزيز:
كان الليث له كل يوم أربعة مجالس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه القرار، ويجلس لأصحاب الحديث. وكان يقول: نحوا أصحاب الحوانيت؛ فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل؛ يغشاه الناس، فيسألونه ويجلس لحوائج الناس؛ لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت. قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل، وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.
قال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى، ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.
قال يحيى بن إسحاق السيلحيني: جاءت امرأة بسكرجة إلى الليث بن سعد، فطلبت منه فيها عسلاً - أحسبه قال لمريض - قال: فأمر من يحمل معها زقاً من عسل، فجعلت المرأة تأبى، قال: وجعل
الليث يأبى إلا أن يحمل معها زقاً من عسل، قال: نعطيك على قدرنا - أو على ما عندنا.
قال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجاً، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب. قال: فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.
عن أبي صالح قال: كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث، فقلنا: ما يشبه هذا صاحبنا! قال: فسمع مالك كلامنا، فأدخلنا عليه، فقال: من صاحبكم؟ قلنا: الليث. فقال مالك: تشبهوننا برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثياب صبياننا، وصبيان جيراننا، وبعنا الفضلة بألف دينار.
قال ابن وهب: كتب مالك إلى الليث بن سعد: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث إلي بشيء من عصفر. فبعث إليه الليث بثلاثين حملاً عصفراً، فصبغ لابنته، وباع بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.
قال محمد بن صالح الأشج: سئل قتيبة بن سعيد: من أخرج لكم هذه الأحاديث من عند الليث؟ فقال: شيخ كان يقال له زيد بن الحباب.
وقدم منصور بن عمار على الليث بن سعد فوصله بألف دينار، واحترق بيت عبد الله بن لهيعة فوصله بألف دينار، ووصل مالك بن أنس بألف دينار. قال: وكساني قميص سندس، فهو عندي.
قال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية، فيقتلهم، فلما دخلت مصر دخلت في هيئة رثة، فدخلت على الليث بن سعد، فلما فرغت من مجلسه خرجت، فتبعني خادم له في دهليزه، فقال: اجلس حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إلي، وأنا وحدي، دفع إلي صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولم من شعثك.
وكان في حوزتي هميان فيه ألف دينار، فأخرجت الهميان، فقلت: أنا عنها في غنى استأذن لي على الشيخ، فاستأذن لي، فدخلت، فأخبرته بنسبي؛ واعتذرت إليه من ردها، وأخبرته بما معي. فقال: هذه صلة، وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي عادة وأنا في غنى، فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقاً لها. فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعة.
قال سعيد الآدم: مررت بالليث بن سعد، فتنحنح لي، فرجعت إليه، فقال لي: يا سعيد، خذ هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له، ولا غلة. قال: فقلت: جزاك الله خيراً يا أبا الحارث. وأخذت منه القنادق، ثم صرت إلى المنزل، فلنا صليت أوقدت السراج، وكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قلت: فلان بن فلان. قال: فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت، فقال: هاالله يا سعيد، تأتي إلى قوم عاملوا الله سراً، فتكشفهم لآدمي؟ مات الليث، ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه! قال: فقمت، ولم أكتب شيئاً. فلما أصبحت أتيت الليث بن سعد، فلما رآني تهلل وجهه، فناولته القنادق، فنشره، فأصاب
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ذهب ينشره، فقلت: ما فيه غير ما كتبت. فقال لي: يا سعيد، وما الخبر؟ فأخبرته بصدق عما كان، فصاح صيحة فاجتمع عليه الناس من الخلق، فقالوا: يا أبا الحارث، إلا خيراً! فقال: ليس إلا خيراً. ثم أقبل علي، فقال: يا سعيد، بينتها، وحرمتها، صدقت، مات الليث، أليس مرجعهم إلى الله!؟ قال شعيب بن الليث: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألف دينار، تأتي عليه السنة وعليه دين.
حدثني خالد بن عبد السلام الصدفي قال:
جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ورأيت الناس كلهم في جنازته عليهم الحزن، والناس يعزي بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت لأبي: يا أبه، كأن كل واحد من الناس صاحب الجنازة! فقال لي: يا بني، كان عالماً كريماً حسن العقل كثير الإفضال، يا بني، لا يرى مثله أبداً! قال ابن بكير: ولد الليث بن سعد سنة أربع وتسعين، وتوفي يوم النصف من شعبان يوم الجمعة سنة خمس وسبعين ومائة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن بعد الجمعة.