القاسم بن عيسى بن إدريس
ابن معقل بن سيار بن شمخ بن سيار بن عبد العزى بن دلف ابن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب أبو دلف العجلي ولي دمشق في أيام المعتصم. وكان من الأجواد الممدحين. تولى محاربة الخرمية فأفناهم. وكان شاعراً أديباً وبطلاً شجاعاً.
ذكر محمد بن داود بن الجراح البغدادي: أن المعتصم بالله كان قد غضب على أبي دلف، واعتزم على قبض ماله، فاحتال له عبد الله بن طاهر حتى ولي دمشق، ونحاه عن الجبل حتى سكن أمره. فهجا أبو السري أحمد بن يزيد الشاعر ابنه عجل بن أبي دلف، فقال: " من البسيط "
يا عجل أنت غراب البين والصرد ... في الشؤم منك لحاك الواحد الصمد
أنت البسوس التي أفنت بناقتها ... بكراً وتغلب حتى أقفر البلد
قد كان شؤمك نحى قاسماً فمضى ... إلى دمشق ودمع العين يطرد
لولا المهذب عبد الله ما رفعت ... يوماً إلى قاسم كأس المدام يد
يريد عبد الله بن طاهر.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن أبيه: كنت في مجلس الرشيد، إذ دخل عليه غلام أمرد له ذؤابة، فسلم بالخلافة، فقال الرشيد: لا سلم الله على الآخر، أفسدت علينا بالجبل، يا غلام، قال: فأنا أصلحه يا أمير المؤمنين، قال: وكيف تصلحه؟ قال: أفسدته يا أمير المؤمنين وأنت علي، وأعجز عن إصلاحه وأنت معي؟ فأمر الرشيد، فخلع عليه، وعقد له على الجبل. فلما خرج الغلام قلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو دلف العجلي.
قال إبراهيم: فسمعت الرشيد وقد ولى الغلام خارجاً من عنده يقول: إني أرى غلاماً يرمي من وراء همة بعيدة! قال المأمون يوماً وهو مقطب لأبي دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... عند مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وقول غرور، وملق معتف، وطالب عرف، وأصدق منه ابن أخت لي حيث يقول: " من الطويل "
دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
فضحك المأمون وسكن غضبه.
وأبو دلف القائل: " مجزوء الكامل "
طلب المعاش مفرق ... بين الأحبة والوطن
ومصير جلد الرجا ... ل إلى الضراعة والوهن
قال إبراهيم بن الحسن بن سهل: كنا في موكب المأمون، فترجل له أبو دلف، فقال له المأمون: ما أخرك عنا؟ فقال: علة عرضت لي، فقال: شفاك الله وعافاك، اركب، فوثب من الأرض على الفرس، فقال له المأمون: ما هذه وثبة عليل؟! فقال: بدعاء أمير المؤمنين شفيت.
قال عيسى بن عبد العزيز الحارثي: خرجت رفقةً إلى مكة فيها القاسم بن عيسى، فلما تجاوزت الكوفة حضرت الأعراب، وكثرت تريد اغتيال الرفقة، فتسرع قوم إليهم، فزجهم أبو دلف، وقال: مالكم ولهذا! ثم اتصل بأصحابه، فعبأ عسكره ميمنة وميسرة وقلباً. فلما سمع الأعراب أن أبا دلف حاضر انهزموا من غير حرب. ثم مضى بالناس حتى حج، فلما رجعوا أخبرت القافلة بأن الأعراب قد احتشدوا احتشاداً عظيماً، وهم قاصدون القافلة.
وكان في القافلة رجل أديب شاعر في ناحبة طاهر بن الحسين وآله، فكتب إلى أبي دلف بهذا الشعر: " من الوافر "
جرت بدموعها العين الذروف ... وظل من البكاء له حليف
بلاد تنوفة ومحل قفر ... وبعد أحبة ونوى قذوف
نبادر أول القطرات نرجو ... بذلك أن تخطانا الحتوف
أبا دلف وأنت عميد بكر ... وحيث العز والشرف المنيف
تلاف عصابةً هلكت فما إن ... بها إلا تداركها خفوف
فلما قرأ أبو دلف الأبيات أجاب عنها بغير إطالة فكر، ولا روية، فقال:
رجال لا تهولهم المنايا ... ولا يشجيهم الأمر المخوف
وطعن بالقنا الخطي حتى ... تحل بمن أخافكم الحتوف
ونصر الله عصمتنا جميعاً ... وبالرحمن ينتصر اللهيف
قال ابن النطاح في أبي دلف: " من الكامل "
وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا
وإذا تلذذ بالعمود ولينه ... خلت العمود بكفه منديلا
وإذا تناول صخرة ليرضها ... عادت كثيباً في يديه مهيلا
قال أبو بكر الصولي: تذاكرنا يوماً عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث لا يحتسبون، قال: هذا يقع كثيراً، فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها لمعنى أراده: " من البسيط "
مالي ومالك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف
تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها بارز الكتف
أم هل حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي في جنب أبي دلف
فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجه بأربعة آلاف درهم جاءته على غفلة.
قال العتابي: كنا على باب أبي دلف خلق كثير من الشعراء يعدنا بأمواله من الكرج وأعمالها، فلما أتته الأموال أمر بصبها على الأنطاع، وأجلسنا حوله، ثم تقلد سيفه وخرج علينا، فسلم
علينا فقمنا إليه، فأقسم علينا بالجلوس، فجلسنا، ثم اتكأ على قائم سيفه، ثم أنشأ يقول: " من الطويل "
ألا أيها الزوار لا يد عندكم ... أياديكم عندي أجل وأكبر
وإن كنتم أفردتموني للرجا ... فشكري لكم من شكركم لي أكثر
كفاني من مال دلاص وسابح ... وأبيض مت صافي الحديد ومغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذ كل واحد منا على قدر طاقته.
عن إدريس بن معقل قال: اجتمع على باب أبي دلف جماعة من الشعراء، فمدحوه، وتعذر عليهم الوصول إليه، وحجبهم حياء لضيقة نزلت به، فأرسل إليهم خادماً له، يعتذر إليهم، ويقول: انصرفوا في هذه السنة، وعودوا في القابلة، فإني أضعف لكم العطية، وأبلغكم الأمنية. فكتبوا إليه: " من الخفيف "
أيهذا العزيز قد مسنا الده ... ر بضر وأهلنا أشتات
وأبونا شيخ كبير فقير ... ولدينا بضاعة مزجاة
قل طلابها فبارت علينا ... وبضاعاتنا بها الترهات
فاغتنم شكرنا وأوف لنا الكي ... ل وصدق فإننا أموات
فلما وصل إليه الشعر ضحك وقال: علي بهم. فلما دخلوا قال: أبيتم إلا " أن " تضربوا
وجهي بسورة يوسف! والله إني لمضيق، ولكني أقول كما قال الشاعر: " من الوافر "
لقد خبرت أن عليك ديناً ... فزد في رقم دينك واقض ديني
يا غلام، اقترض لي عشرين ألفاً بأربعين ألفاً، وفرقها فيهم.
قال أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي: أنشد بكر بن النطاح أبا دلف: " من المتقارب "
مثال أبي دلف أمة ... وخلق أبي دلف عسكر
وإن المنايا إلى الدارعين ... بعيني أبي دلف تنظر
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فمضى فاشترى بها بستاناً بنهر الأبلة، ثم عاد من قابل، فأنشده: " من الطويل "
بك ابتعت في نهر الأبلة جنةً ... عليها قصير بالرخام مشيد
إلى لزقها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد
فقال أبو دلف: بكم الأخرى؟ قال: بعشرة آلاف، قال: ادفعوها إليه. ثم قال له: لا تجئني قابل، فتقول: بلزقها أخرى! فإنك تعلم أن لزق كل أخرى أخرى متصلة إلى ما لا نهاية.
قال بعضهم: دخل بعض الشعراء على أبي دلف القاسم بن عيسى، فأنشده: " من الطويل "
أبا دلف إن المكارم لم تزل ... مغلغلةً تشكو إلى الله غلها
فبشرها منه بميلاد قاسم ... فأرسل جبريلاً إليها فحلها
فأمر له بمال، فقال الخازن: ما هذا في بيت المال، فأمر له بضعفه، فقال الخازن:
ما يحضر، فأمر له بضعفه. فلما حمل المال مع الشاعر أنشأ أبو دلف يقول: " من الوافر "
أتعجب أن رأيت عي ديناً ... وأن ذهب الطريف مع التلاد
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في اقتصادي
وما وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على جواد
حدث سماعة بن سعيد قال: أتى جعيفران أبا دلف يستأذن عليه، وعنده أحمد بن يوسف، فقال الحاجب: جعيفران الموسوس بالباب، فقال أبو دلف: ما لنا وللمجانين؟! فقال له أحمد بن يوسف: أدخله. فلما دخل قال: " من السريع "
يا بن أعز الناس مفقودا ... وأكرم الأمة موجودا
لما سألت الناس عن واحد ... أصبح في الأمة محمودا
قالوا جميعاً إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا
قال: أحسنت والله؛ يا غلام، اكسه، وادفع إليه مائة درهم، فقال: مره - أعزك الله - أن يدفع إلي منها خمسةً، ويحفظ الباقي لي، قال: ولم؟ قال: لئلا تسرق مني ويشتغل قلبي بحفظها، قال: يا غلام، ادفع إليه كلما جاء خمسة دراهم إلى أن يفرق بيننا الموت. قال: فبكى جعيفران. فقال له أحمد بن يوسف: ما يبكيك؟ فقال: " على البسيط "
يموت هذا الذي تراه ... وكل شيء له نفاذ
لو كان شيء له خلود ... عمر ذا المفضل الجواد
قال أبو عبد الرحمن التوزي: استهدى المعتصم من أبي دلف كلباً كان عنده، فجعل في عنقه قلادة كيمخت أخضر وكتب عليها: " من المنسرح "
أوصيك خيراً به فإن له ... خلائقاً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في ظلم الليل ... إذا النار نام موقدها
كان أبو دلف يشتو بالعراق، ويصيف بالجبال، فقال في ذلك: " من المتقارب "
إني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
وألبس للحرب أثوابها ... وأعتنق الدارعين اعتناقا
فاختار بفضل رأيه وحزمه، وصحة قريحته أن يصيف في الجبال ليسلم من هوام العراق وذبابه، وغلظ هوائه، وسخونة مائه. ويشتو بالعراق ليسلم من زمهرير الجبال وأنديتها وثلوجها ورياحها، ولأن العراق في فصل الخريف والشتاء أفضل منه في الربيع والصيف.
قال أبو هفان: كان لأبي دلف العجلي جارية تسمى جنان، وكان يتعشقها، وكان لفرط فتونه وظرفه يسميها صديقتي، فمن قوله فيها: " من الوافر "
أحبك يا جنان وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل كرت ... وهاب كماتها حر الطعان
ثم ماتت، فرثاها بمراث حسان.
قال أبو دلف: " من الخفيف "
عاقني عن وداعك الأشغال ... وهموم أتت علي طوال
حيث لا تدفع عن الضيم بالسي ... ف وما للحروب فيه مجال
ومقام العزيز في بلد الذل ... ل إذا أمكن الرحيل محال
فعليك السلام يا ظبية الكر ... خ أقمتم وحان مني ارتحال
أنشد علي بن القاسم النحوي لأبي دلف في اللحية الطويلة: " من الكامل "
لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
يهوي بها عصف الريا ... ح كأنها ذنب الفتيلة
قال سعيد بن حميد: كان ابن أبي دؤاد قد اصطنع أبا دلف واختلسه بحيلة، واختلسه من يد الإفشين، وقد دعا بالسيف ليقتله، فكان أبو دلف يصير إليه كل يوم ليشكره، وكان ابن أبي دؤاد يقول به، ويصفه. فقال له المعتصم: إن أبا دلف حسن الغناء، جيد الضرب بالعود، فقال: يا أمير المؤمنين، القاسم في شجاعته وبيته في العرب يفعل هذا؟؟؟! قال: نعم، وما هو هذا؟ هو أدب زائد فيه. فكأن ابن أبي دؤاد عجب من ذاك، فأحب المعتصم أن يسمعه ابن أبي دؤاد، فقال له: يا قاسم غنني، فقال: والله ما أستطيع ذلك، وأنا أنظر إلى أمير المؤمنين هيبة له وإجلالاً، فقال: لابد من ذلك. وأجلس من وراء ستارة، فكان ذلك أسهل عليه، فضربت ستارة، وجلس أبو دلف خلفها يغني. ووجه المعتصم إلى ابن أبي دؤاد، فحضر، واستدناه وجعل أبو دلف يغني، وأحمد يسمع، ولا يدري من يغني. فقال له المعتصم: كيف تسمع هذا الغناء يا أبا عبد الله؟ قال: أمير المؤمنين أعلم مني، ولكني أسمع حسناً. فغمز المعتصم غلاماً، فهتك الستارة، وإذا أبو دلف. فلما رأى المعتصم، وابن أبي دؤاد وثب قائماً، وأقبل على ابن أبي دؤاد فقال: إني أجبرت على هذا، فقال: لولا دربتك في هذا من أين كنت تأتي بمثل هذا؟! هبك أجبرت على أن تغني من أجبرك على أن تحسن؟!
مات القاسم بن عيسى أبو دلف العجلي ببغداد في سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال دلف بن أبي دلف: رأيت كأن آتياً أتى بعد موت أبي، فقال: أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وحشة، وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير.
فأنشأ يقول: " من الخفيف "
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخناق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت؟ قلت: نعم. ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... فنسأل بعده عن كل شيء
انصرف. قال: فانتبهت
ابن معقل بن سيار بن شمخ بن سيار بن عبد العزى بن دلف ابن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب أبو دلف العجلي ولي دمشق في أيام المعتصم. وكان من الأجواد الممدحين. تولى محاربة الخرمية فأفناهم. وكان شاعراً أديباً وبطلاً شجاعاً.
ذكر محمد بن داود بن الجراح البغدادي: أن المعتصم بالله كان قد غضب على أبي دلف، واعتزم على قبض ماله، فاحتال له عبد الله بن طاهر حتى ولي دمشق، ونحاه عن الجبل حتى سكن أمره. فهجا أبو السري أحمد بن يزيد الشاعر ابنه عجل بن أبي دلف، فقال: " من البسيط "
يا عجل أنت غراب البين والصرد ... في الشؤم منك لحاك الواحد الصمد
أنت البسوس التي أفنت بناقتها ... بكراً وتغلب حتى أقفر البلد
قد كان شؤمك نحى قاسماً فمضى ... إلى دمشق ودمع العين يطرد
لولا المهذب عبد الله ما رفعت ... يوماً إلى قاسم كأس المدام يد
يريد عبد الله بن طاهر.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن أبيه: كنت في مجلس الرشيد، إذ دخل عليه غلام أمرد له ذؤابة، فسلم بالخلافة، فقال الرشيد: لا سلم الله على الآخر، أفسدت علينا بالجبل، يا غلام، قال: فأنا أصلحه يا أمير المؤمنين، قال: وكيف تصلحه؟ قال: أفسدته يا أمير المؤمنين وأنت علي، وأعجز عن إصلاحه وأنت معي؟ فأمر الرشيد، فخلع عليه، وعقد له على الجبل. فلما خرج الغلام قلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو دلف العجلي.
قال إبراهيم: فسمعت الرشيد وقد ولى الغلام خارجاً من عنده يقول: إني أرى غلاماً يرمي من وراء همة بعيدة! قال المأمون يوماً وهو مقطب لأبي دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... عند مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وقول غرور، وملق معتف، وطالب عرف، وأصدق منه ابن أخت لي حيث يقول: " من الطويل "
دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
فضحك المأمون وسكن غضبه.
وأبو دلف القائل: " مجزوء الكامل "
طلب المعاش مفرق ... بين الأحبة والوطن
ومصير جلد الرجا ... ل إلى الضراعة والوهن
قال إبراهيم بن الحسن بن سهل: كنا في موكب المأمون، فترجل له أبو دلف، فقال له المأمون: ما أخرك عنا؟ فقال: علة عرضت لي، فقال: شفاك الله وعافاك، اركب، فوثب من الأرض على الفرس، فقال له المأمون: ما هذه وثبة عليل؟! فقال: بدعاء أمير المؤمنين شفيت.
قال عيسى بن عبد العزيز الحارثي: خرجت رفقةً إلى مكة فيها القاسم بن عيسى، فلما تجاوزت الكوفة حضرت الأعراب، وكثرت تريد اغتيال الرفقة، فتسرع قوم إليهم، فزجهم أبو دلف، وقال: مالكم ولهذا! ثم اتصل بأصحابه، فعبأ عسكره ميمنة وميسرة وقلباً. فلما سمع الأعراب أن أبا دلف حاضر انهزموا من غير حرب. ثم مضى بالناس حتى حج، فلما رجعوا أخبرت القافلة بأن الأعراب قد احتشدوا احتشاداً عظيماً، وهم قاصدون القافلة.
وكان في القافلة رجل أديب شاعر في ناحبة طاهر بن الحسين وآله، فكتب إلى أبي دلف بهذا الشعر: " من الوافر "
جرت بدموعها العين الذروف ... وظل من البكاء له حليف
بلاد تنوفة ومحل قفر ... وبعد أحبة ونوى قذوف
نبادر أول القطرات نرجو ... بذلك أن تخطانا الحتوف
أبا دلف وأنت عميد بكر ... وحيث العز والشرف المنيف
تلاف عصابةً هلكت فما إن ... بها إلا تداركها خفوف
فلما قرأ أبو دلف الأبيات أجاب عنها بغير إطالة فكر، ولا روية، فقال:
رجال لا تهولهم المنايا ... ولا يشجيهم الأمر المخوف
وطعن بالقنا الخطي حتى ... تحل بمن أخافكم الحتوف
ونصر الله عصمتنا جميعاً ... وبالرحمن ينتصر اللهيف
قال ابن النطاح في أبي دلف: " من الكامل "
وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا
وإذا تلذذ بالعمود ولينه ... خلت العمود بكفه منديلا
وإذا تناول صخرة ليرضها ... عادت كثيباً في يديه مهيلا
قال أبو بكر الصولي: تذاكرنا يوماً عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث لا يحتسبون، قال: هذا يقع كثيراً، فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها لمعنى أراده: " من البسيط "
مالي ومالك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف
تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها بارز الكتف
أم هل حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي في جنب أبي دلف
فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجه بأربعة آلاف درهم جاءته على غفلة.
قال العتابي: كنا على باب أبي دلف خلق كثير من الشعراء يعدنا بأمواله من الكرج وأعمالها، فلما أتته الأموال أمر بصبها على الأنطاع، وأجلسنا حوله، ثم تقلد سيفه وخرج علينا، فسلم
علينا فقمنا إليه، فأقسم علينا بالجلوس، فجلسنا، ثم اتكأ على قائم سيفه، ثم أنشأ يقول: " من الطويل "
ألا أيها الزوار لا يد عندكم ... أياديكم عندي أجل وأكبر
وإن كنتم أفردتموني للرجا ... فشكري لكم من شكركم لي أكثر
كفاني من مال دلاص وسابح ... وأبيض مت صافي الحديد ومغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذ كل واحد منا على قدر طاقته.
عن إدريس بن معقل قال: اجتمع على باب أبي دلف جماعة من الشعراء، فمدحوه، وتعذر عليهم الوصول إليه، وحجبهم حياء لضيقة نزلت به، فأرسل إليهم خادماً له، يعتذر إليهم، ويقول: انصرفوا في هذه السنة، وعودوا في القابلة، فإني أضعف لكم العطية، وأبلغكم الأمنية. فكتبوا إليه: " من الخفيف "
أيهذا العزيز قد مسنا الده ... ر بضر وأهلنا أشتات
وأبونا شيخ كبير فقير ... ولدينا بضاعة مزجاة
قل طلابها فبارت علينا ... وبضاعاتنا بها الترهات
فاغتنم شكرنا وأوف لنا الكي ... ل وصدق فإننا أموات
فلما وصل إليه الشعر ضحك وقال: علي بهم. فلما دخلوا قال: أبيتم إلا " أن " تضربوا
وجهي بسورة يوسف! والله إني لمضيق، ولكني أقول كما قال الشاعر: " من الوافر "
لقد خبرت أن عليك ديناً ... فزد في رقم دينك واقض ديني
يا غلام، اقترض لي عشرين ألفاً بأربعين ألفاً، وفرقها فيهم.
قال أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي: أنشد بكر بن النطاح أبا دلف: " من المتقارب "
مثال أبي دلف أمة ... وخلق أبي دلف عسكر
وإن المنايا إلى الدارعين ... بعيني أبي دلف تنظر
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فمضى فاشترى بها بستاناً بنهر الأبلة، ثم عاد من قابل، فأنشده: " من الطويل "
بك ابتعت في نهر الأبلة جنةً ... عليها قصير بالرخام مشيد
إلى لزقها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد
فقال أبو دلف: بكم الأخرى؟ قال: بعشرة آلاف، قال: ادفعوها إليه. ثم قال له: لا تجئني قابل، فتقول: بلزقها أخرى! فإنك تعلم أن لزق كل أخرى أخرى متصلة إلى ما لا نهاية.
قال بعضهم: دخل بعض الشعراء على أبي دلف القاسم بن عيسى، فأنشده: " من الطويل "
أبا دلف إن المكارم لم تزل ... مغلغلةً تشكو إلى الله غلها
فبشرها منه بميلاد قاسم ... فأرسل جبريلاً إليها فحلها
فأمر له بمال، فقال الخازن: ما هذا في بيت المال، فأمر له بضعفه، فقال الخازن:
ما يحضر، فأمر له بضعفه. فلما حمل المال مع الشاعر أنشأ أبو دلف يقول: " من الوافر "
أتعجب أن رأيت عي ديناً ... وأن ذهب الطريف مع التلاد
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في اقتصادي
وما وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على جواد
حدث سماعة بن سعيد قال: أتى جعيفران أبا دلف يستأذن عليه، وعنده أحمد بن يوسف، فقال الحاجب: جعيفران الموسوس بالباب، فقال أبو دلف: ما لنا وللمجانين؟! فقال له أحمد بن يوسف: أدخله. فلما دخل قال: " من السريع "
يا بن أعز الناس مفقودا ... وأكرم الأمة موجودا
لما سألت الناس عن واحد ... أصبح في الأمة محمودا
قالوا جميعاً إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا
قال: أحسنت والله؛ يا غلام، اكسه، وادفع إليه مائة درهم، فقال: مره - أعزك الله - أن يدفع إلي منها خمسةً، ويحفظ الباقي لي، قال: ولم؟ قال: لئلا تسرق مني ويشتغل قلبي بحفظها، قال: يا غلام، ادفع إليه كلما جاء خمسة دراهم إلى أن يفرق بيننا الموت. قال: فبكى جعيفران. فقال له أحمد بن يوسف: ما يبكيك؟ فقال: " على البسيط "
يموت هذا الذي تراه ... وكل شيء له نفاذ
لو كان شيء له خلود ... عمر ذا المفضل الجواد
قال أبو عبد الرحمن التوزي: استهدى المعتصم من أبي دلف كلباً كان عنده، فجعل في عنقه قلادة كيمخت أخضر وكتب عليها: " من المنسرح "
أوصيك خيراً به فإن له ... خلائقاً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في ظلم الليل ... إذا النار نام موقدها
كان أبو دلف يشتو بالعراق، ويصيف بالجبال، فقال في ذلك: " من المتقارب "
إني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
وألبس للحرب أثوابها ... وأعتنق الدارعين اعتناقا
فاختار بفضل رأيه وحزمه، وصحة قريحته أن يصيف في الجبال ليسلم من هوام العراق وذبابه، وغلظ هوائه، وسخونة مائه. ويشتو بالعراق ليسلم من زمهرير الجبال وأنديتها وثلوجها ورياحها، ولأن العراق في فصل الخريف والشتاء أفضل منه في الربيع والصيف.
قال أبو هفان: كان لأبي دلف العجلي جارية تسمى جنان، وكان يتعشقها، وكان لفرط فتونه وظرفه يسميها صديقتي، فمن قوله فيها: " من الوافر "
أحبك يا جنان وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل كرت ... وهاب كماتها حر الطعان
ثم ماتت، فرثاها بمراث حسان.
قال أبو دلف: " من الخفيف "
عاقني عن وداعك الأشغال ... وهموم أتت علي طوال
حيث لا تدفع عن الضيم بالسي ... ف وما للحروب فيه مجال
ومقام العزيز في بلد الذل ... ل إذا أمكن الرحيل محال
فعليك السلام يا ظبية الكر ... خ أقمتم وحان مني ارتحال
أنشد علي بن القاسم النحوي لأبي دلف في اللحية الطويلة: " من الكامل "
لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
يهوي بها عصف الريا ... ح كأنها ذنب الفتيلة
قال سعيد بن حميد: كان ابن أبي دؤاد قد اصطنع أبا دلف واختلسه بحيلة، واختلسه من يد الإفشين، وقد دعا بالسيف ليقتله، فكان أبو دلف يصير إليه كل يوم ليشكره، وكان ابن أبي دؤاد يقول به، ويصفه. فقال له المعتصم: إن أبا دلف حسن الغناء، جيد الضرب بالعود، فقال: يا أمير المؤمنين، القاسم في شجاعته وبيته في العرب يفعل هذا؟؟؟! قال: نعم، وما هو هذا؟ هو أدب زائد فيه. فكأن ابن أبي دؤاد عجب من ذاك، فأحب المعتصم أن يسمعه ابن أبي دؤاد، فقال له: يا قاسم غنني، فقال: والله ما أستطيع ذلك، وأنا أنظر إلى أمير المؤمنين هيبة له وإجلالاً، فقال: لابد من ذلك. وأجلس من وراء ستارة، فكان ذلك أسهل عليه، فضربت ستارة، وجلس أبو دلف خلفها يغني. ووجه المعتصم إلى ابن أبي دؤاد، فحضر، واستدناه وجعل أبو دلف يغني، وأحمد يسمع، ولا يدري من يغني. فقال له المعتصم: كيف تسمع هذا الغناء يا أبا عبد الله؟ قال: أمير المؤمنين أعلم مني، ولكني أسمع حسناً. فغمز المعتصم غلاماً، فهتك الستارة، وإذا أبو دلف. فلما رأى المعتصم، وابن أبي دؤاد وثب قائماً، وأقبل على ابن أبي دؤاد فقال: إني أجبرت على هذا، فقال: لولا دربتك في هذا من أين كنت تأتي بمثل هذا؟! هبك أجبرت على أن تغني من أجبرك على أن تحسن؟!
مات القاسم بن عيسى أبو دلف العجلي ببغداد في سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال دلف بن أبي دلف: رأيت كأن آتياً أتى بعد موت أبي، فقال: أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وحشة، وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير.
فأنشأ يقول: " من الخفيف "
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخناق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت؟ قلت: نعم. ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... فنسأل بعده عن كل شيء
انصرف. قال: فانتبهت