عمر بن هبيرة بن معيّة
ابن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك ويقال: ابن حممة بدل مالك، بن سعد بن عديّ بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ابن سعد بن قيس عيلان أبو المثّنى الفزاريّ وأمّ عمر بسرة بنت حسّان بن شريك بن نعيم بن ثعلبة العدويّ، وكان أمير العراقين من قبل يزيد بن عبد الملك، فلّما ولي هشام بن عبد الملك عزله بخالد القسريّ، فأخذه خالد وسجنه مدّةً، ثم هرب من السّجن ولحق بهشام بدمشق، واستجار بمسلمة بن عبد الملك فأجاره، وأمنّه هشام.
عن الشّعبيّ، قال: شهدت الحسن في جنازة وهو يحدّث عمر بن هبيرة، يقول: سمعت عبد الرّحمن بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من عبد استرعاه الله رعيّةً فلم يحطها بالنّصيحة إلاّحرّم الله عليه الجنّة ".
وعن عبد الله بن بكر السّهميّ، قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: أرسل عمر بن هبيرة وهو على العراق إلى فقهاء من فقهاء البصرة وفقهاء من فقهاء الكوفة، وكان ممّن أتاه من أهل البصرة الحسن، ومن أهل الكوفة الشّعبيّ؛ فدخلوا عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إليّ في أمور أعمل
بها، فما تريان؟ فقال الشّعبيّ: أصلح الله الأمير، أنت مأمور والتّبعة على من أمرك. فأقبل على الحسن فقال: ما تقول؟ قال: قد قال هذا. قال: قل أنت. قال: اتّق الله يا عمر، فكأنك بملك قد أتاك فاستنزلك عن سريرك هذا، وأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؛ فإن الله ينجيك من يزيد وإن يزيد لا ينجيك من الله، فإيّاك أن تعرّض لله بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصيةً الخالق. ثم قام، فاتّبعه الآذن فقال: أيّها الشّيخ، ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟ قال: حملني عليه ما أخذ الله على العلماء من الميثاق في علمهم؛ ثم تلا " وإذ أخذ الله ميثاق الذّين أوتو الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه ". قال: فخرج عطاؤهم، وفضّل الحسن.
قال ابن دريد: دخل الشّعبيّ على ابن هبيرة وبين يديه رجل يريد قتله، فقال له: أصلح الله الأمير، إنك على ردّ ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت. فقال: صدقت يا شعبيّ، ردّوه إلى محبسه.
عن ابن عون، قال: أرسل ابن هبيرة إلى ابن سيرين فأتاه، فقال له: كيف تركت أهل مصرك؟ قال: تركتهم والظّلم فيهم فاش.
قال ابن عون: كان محمد يرى أنها شهادة سئل عنها فكره أن يكتمها.
عن ابن فضيل، قال: كان عمر بن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة، اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قرب من أجلي.
قال عبد الرّحمن بن يزيد: بينما أنا واقف على رأس ابن هبيرة وبين يديه سماطان من وجوه النّاس، إذ أقبل شاب لم
أر في مثل جماله وكماله حتى دنا من ابن هبيرة، فسلّم عليه بالإمرة، فقال: أصلح الله الأمير، امرؤ فدحته كربة وأوحشته كربة، ونأت به الدّار وحلّ به عظيم، خذله أخلاّؤه وشمت به أعداؤه، وأسلمه البعيد وجفاه القريب، فقمت مقاماً لا أرى فيه معوّلاً ولا جاذباً إلاّ الرّجاء لله تعالى، وحسن عائدة الأمير، وأنا أصلح الله الأمير ممّن لا تجهل أسرته، ولا تضيع حرمته، فإن رأى الأمير أصلحه الله أن يسدّ خلّتي ويجبر خصاصتي يفعل. فقال ابن هبيرة: ممّن الرّجل؟ قال: من الذين يقول لهم الشّاعر: من الطويل
فزارة بيت العزّ والعزّ فيهم ... فزارة قيس حسب قيس فعالها
لها العزّة القصوى مع الشّرف الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها
وهل أحد إن مدّ يوماً بكفّه ... إلى الشّمس في مجرى النّجوم ينالها
لهيهات ما أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها
فقال ابن هبيرة: إن هذا الأدب لحسن مع ما أرى من حداثة سنّك، فكم أتى لك من السّنّ؟ قال: تسع وعشرين سنة. فلحن الفتى وأطرق ابن هبيرة كالشّامت به، ثم قال: أولحّان أيضاً، مع جميل ما أتى عليه منطقك؟ شنته والله بأقبح العيب. قال: فأبصر الفتى ما وقع فيه فقال: إن الأمير أصلحه الله عظم في عيني، وملأت هيبته صدري، فنطق لساني بما لم يعرفه قلبي، فوالله ما أقالني الأمير عثرتي عندما كان من زلّتي. فقال ابن هبيرة: وما على أحدكم أن يتعلّم العربيّة فيقيم بها أوده، ويحضر بها سلطانه، ويزين بها مشهده، وينوء بها على خصمه؟ أو يرضى أحدكم أن يكون لسانه مثل لسان عبده وأكّاره؟ قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، فإن كان سقط لسانك وإلاّ فاستعن ببعض ما أوصلناه إليك، ولا يستحي أحدكم من التّعلّم، فإنه لولا هذا الّلسان كان الإنسان كالبهيمة المهملة؛ قاتل الله الشّاعر حيث يقول: من الطويل
ألم ترى مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة الّلحم والدّم
قال سلم بن قتيلة: كنت عند ابن هبيرة الأكبر، فجرى الحديث حتى جرى ذكر العربيّة، فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد وحسبهما واحد ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن؛ إن أفضلهما في الدّنيا والآخرة الذي لا يلحن. قلت: أصلح الله الأمير، هذا أفضل في الدّنيا لفضل فصاحته وعربيّته، أرأيت الآخرة ما باله أفضل فيها؟ قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، وإن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه ويخرج منه ما هو فيه. قال: قلت: صدق الأمير وبرّ.
قال عمر بن هبيرة: عليكم بمباكرة الغداء فإن في مباكرته ثلاث خصال؛ يطيّب النّكهة، ويطفئ المرّة، ويعين على المروءة. فقيل: وما يعين على المروءة؟ قال: لا تتوق نفسه إلى طعام غيره.
عن ابن عائشة، قال: ألقى ابن هبيرة إلى مثجور بن غيلان بن خرشة الضّبّيّ فصّاً أزرق وقال له: اجعله على خاتمك فإنه حسن؛ يريد قول الشّاعر: من الطويل
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كلّ ضبّيّ من اللّوم أزرق
فأخذ الفصّ مثجور، فشدّه بسير، وردّه عليه؛ يريد قول سالم: من البسيط
لا تأمننّ فزاريّاً خلوت به ... على قلوصك واشددها بأسيار
عن سليمان بن زياد، قال: كان عمر بن هبيرة والياً على العراق، ولاّه يزيد بن عبد الملك؛ فلمّا مات يزيد بن عبد الملك واستخلف هشام قال عمر بن هبيرة: يولّي هشام العراق أحد الرّجلين سعيد الحرشيّ أو خالد بن عبد الله القسريّ، فإن ولّى ابن النّصرانيّة خالداً فهو البلاء. فولّى هشام خالداً العراق، فدخل واسطاً وقد أوذن عمر بن هبيرة بالصّلاة، فهو يتهيّأ قد اعتمّ والمرآة في يده يسوّي عمّته إذ قيل: هذا خالد قد دخل. فقال عمر بن هبيرة: هكذا تقوم السّاعة، تأتي بغتةً. فقدم خالد فأخذ عمر بن هبيرة فقيّده وألبسه مدرعة صوف؛ فقال عمر: بئس ما سننت على أهل العراق، أما تخاف أن تؤخذ بمثل هذا؟.
عن عبد الرّحمن بن جبلة عن أبيه قال: كنت مع عمر بن هبيرة في حبس خال بن عبد الله القسريّ، وكان عمر بن هبيرة قد ضربني قبل ذلك، فقال لي: يا جبلة إن الحفيظة تذهب الحقد، وقد أمرت مواليّ يحفرون، وهم منتهون إليّ اللّيلة، فهل لك في الخروج؟ فقلت: لا. قال: فأشر عليّ. فقلت: لا تخرجنّ في دار قوم. فقال: نعم. وكان قد أمر مواليه فاستأجروا داراً إلى جنب السّجن، واتّخذوا فيها ألف نعجة، فكان يحفرون باللّيل ثم يفرشونه في الدّار فتصبح الشّاء قد وطئته بأبوالها؛ فأفضوا بنقبهم إلى جبلة، فقال لهم: لست بصاحبكم. فأتوا عمر بن هبيرة فقام حتى دخل النّقب، وخرج منه.
وكان جبلة أشار عليه أن يقدّم بين يديه رسولاً بكتابه إلى هشام بن عبد الملك.
قال الأصمعيّ: فحدّثني يونس بن حبيب النّحوي، قال: قال لي أبو الفوارس الأعرج الباهليّ: وجّهني عمر بن هبيرة بكتابه إلى هشام، فقدمت غدوة، وقدم ابن هبيرة عشيّة، فمرّ ابن هبيرة في طريقه فسمع امرأةً من قيس تقول: لا والّذي ينجّي ابن هبيرة. فقال: يا غلام، أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.
رجع: فلمّا فقد الحرس ابن هبيرة وجّه خالد في أثره سعيد بن عمرو الحرشيّ، وذاك أن ابن
هبيرة عزل سعيداً عن خراسان، فقدم به عليه واسطاًفحسبه وعذّبه، حتى قدم خالد فأكرمه. فلم يقدر سعيد أن يلحقه، فلم يزل في أثره حتى بلغ الشّام وقد قدم ابن هبيرة، واجتمع إليه قيس، فقال: أشيروا عليّ، من أستجير؟ فقيل له: أمّ حكيم بنت يحيى امرأة هشام. فقال: امرأةً! لو اغتسلت رضيت. فقالوا: عليك بأبي شاكر مسلمة مع ما بينك وبينه، فإنه لا يسلمك أبداً. قال: نعم. فتوجّه إليه ومعه القيسيّة؛ فلمّا رآهم مسلمة وسمع كلامهم انطلق إلى هشام فكلّمه فيه فأمّنه على أن يؤدّي كلّ ما اختانه. فأدّاه.
قال خليفة: مات ابن هبيرة وهو ابن نيف وخمسين سنة.
ابن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك ويقال: ابن حممة بدل مالك، بن سعد بن عديّ بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ابن سعد بن قيس عيلان أبو المثّنى الفزاريّ وأمّ عمر بسرة بنت حسّان بن شريك بن نعيم بن ثعلبة العدويّ، وكان أمير العراقين من قبل يزيد بن عبد الملك، فلّما ولي هشام بن عبد الملك عزله بخالد القسريّ، فأخذه خالد وسجنه مدّةً، ثم هرب من السّجن ولحق بهشام بدمشق، واستجار بمسلمة بن عبد الملك فأجاره، وأمنّه هشام.
عن الشّعبيّ، قال: شهدت الحسن في جنازة وهو يحدّث عمر بن هبيرة، يقول: سمعت عبد الرّحمن بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من عبد استرعاه الله رعيّةً فلم يحطها بالنّصيحة إلاّحرّم الله عليه الجنّة ".
وعن عبد الله بن بكر السّهميّ، قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: أرسل عمر بن هبيرة وهو على العراق إلى فقهاء من فقهاء البصرة وفقهاء من فقهاء الكوفة، وكان ممّن أتاه من أهل البصرة الحسن، ومن أهل الكوفة الشّعبيّ؛ فدخلوا عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إليّ في أمور أعمل
بها، فما تريان؟ فقال الشّعبيّ: أصلح الله الأمير، أنت مأمور والتّبعة على من أمرك. فأقبل على الحسن فقال: ما تقول؟ قال: قد قال هذا. قال: قل أنت. قال: اتّق الله يا عمر، فكأنك بملك قد أتاك فاستنزلك عن سريرك هذا، وأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؛ فإن الله ينجيك من يزيد وإن يزيد لا ينجيك من الله، فإيّاك أن تعرّض لله بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصيةً الخالق. ثم قام، فاتّبعه الآذن فقال: أيّها الشّيخ، ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟ قال: حملني عليه ما أخذ الله على العلماء من الميثاق في علمهم؛ ثم تلا " وإذ أخذ الله ميثاق الذّين أوتو الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه ". قال: فخرج عطاؤهم، وفضّل الحسن.
قال ابن دريد: دخل الشّعبيّ على ابن هبيرة وبين يديه رجل يريد قتله، فقال له: أصلح الله الأمير، إنك على ردّ ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت. فقال: صدقت يا شعبيّ، ردّوه إلى محبسه.
عن ابن عون، قال: أرسل ابن هبيرة إلى ابن سيرين فأتاه، فقال له: كيف تركت أهل مصرك؟ قال: تركتهم والظّلم فيهم فاش.
قال ابن عون: كان محمد يرى أنها شهادة سئل عنها فكره أن يكتمها.
عن ابن فضيل، قال: كان عمر بن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة، اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قرب من أجلي.
قال عبد الرّحمن بن يزيد: بينما أنا واقف على رأس ابن هبيرة وبين يديه سماطان من وجوه النّاس، إذ أقبل شاب لم
أر في مثل جماله وكماله حتى دنا من ابن هبيرة، فسلّم عليه بالإمرة، فقال: أصلح الله الأمير، امرؤ فدحته كربة وأوحشته كربة، ونأت به الدّار وحلّ به عظيم، خذله أخلاّؤه وشمت به أعداؤه، وأسلمه البعيد وجفاه القريب، فقمت مقاماً لا أرى فيه معوّلاً ولا جاذباً إلاّ الرّجاء لله تعالى، وحسن عائدة الأمير، وأنا أصلح الله الأمير ممّن لا تجهل أسرته، ولا تضيع حرمته، فإن رأى الأمير أصلحه الله أن يسدّ خلّتي ويجبر خصاصتي يفعل. فقال ابن هبيرة: ممّن الرّجل؟ قال: من الذين يقول لهم الشّاعر: من الطويل
فزارة بيت العزّ والعزّ فيهم ... فزارة قيس حسب قيس فعالها
لها العزّة القصوى مع الشّرف الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها
وهل أحد إن مدّ يوماً بكفّه ... إلى الشّمس في مجرى النّجوم ينالها
لهيهات ما أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها
فقال ابن هبيرة: إن هذا الأدب لحسن مع ما أرى من حداثة سنّك، فكم أتى لك من السّنّ؟ قال: تسع وعشرين سنة. فلحن الفتى وأطرق ابن هبيرة كالشّامت به، ثم قال: أولحّان أيضاً، مع جميل ما أتى عليه منطقك؟ شنته والله بأقبح العيب. قال: فأبصر الفتى ما وقع فيه فقال: إن الأمير أصلحه الله عظم في عيني، وملأت هيبته صدري، فنطق لساني بما لم يعرفه قلبي، فوالله ما أقالني الأمير عثرتي عندما كان من زلّتي. فقال ابن هبيرة: وما على أحدكم أن يتعلّم العربيّة فيقيم بها أوده، ويحضر بها سلطانه، ويزين بها مشهده، وينوء بها على خصمه؟ أو يرضى أحدكم أن يكون لسانه مثل لسان عبده وأكّاره؟ قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، فإن كان سقط لسانك وإلاّ فاستعن ببعض ما أوصلناه إليك، ولا يستحي أحدكم من التّعلّم، فإنه لولا هذا الّلسان كان الإنسان كالبهيمة المهملة؛ قاتل الله الشّاعر حيث يقول: من الطويل
ألم ترى مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة الّلحم والدّم
قال سلم بن قتيلة: كنت عند ابن هبيرة الأكبر، فجرى الحديث حتى جرى ذكر العربيّة، فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد وحسبهما واحد ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن؛ إن أفضلهما في الدّنيا والآخرة الذي لا يلحن. قلت: أصلح الله الأمير، هذا أفضل في الدّنيا لفضل فصاحته وعربيّته، أرأيت الآخرة ما باله أفضل فيها؟ قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، وإن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه ويخرج منه ما هو فيه. قال: قلت: صدق الأمير وبرّ.
قال عمر بن هبيرة: عليكم بمباكرة الغداء فإن في مباكرته ثلاث خصال؛ يطيّب النّكهة، ويطفئ المرّة، ويعين على المروءة. فقيل: وما يعين على المروءة؟ قال: لا تتوق نفسه إلى طعام غيره.
عن ابن عائشة، قال: ألقى ابن هبيرة إلى مثجور بن غيلان بن خرشة الضّبّيّ فصّاً أزرق وقال له: اجعله على خاتمك فإنه حسن؛ يريد قول الشّاعر: من الطويل
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كلّ ضبّيّ من اللّوم أزرق
فأخذ الفصّ مثجور، فشدّه بسير، وردّه عليه؛ يريد قول سالم: من البسيط
لا تأمننّ فزاريّاً خلوت به ... على قلوصك واشددها بأسيار
عن سليمان بن زياد، قال: كان عمر بن هبيرة والياً على العراق، ولاّه يزيد بن عبد الملك؛ فلمّا مات يزيد بن عبد الملك واستخلف هشام قال عمر بن هبيرة: يولّي هشام العراق أحد الرّجلين سعيد الحرشيّ أو خالد بن عبد الله القسريّ، فإن ولّى ابن النّصرانيّة خالداً فهو البلاء. فولّى هشام خالداً العراق، فدخل واسطاً وقد أوذن عمر بن هبيرة بالصّلاة، فهو يتهيّأ قد اعتمّ والمرآة في يده يسوّي عمّته إذ قيل: هذا خالد قد دخل. فقال عمر بن هبيرة: هكذا تقوم السّاعة، تأتي بغتةً. فقدم خالد فأخذ عمر بن هبيرة فقيّده وألبسه مدرعة صوف؛ فقال عمر: بئس ما سننت على أهل العراق، أما تخاف أن تؤخذ بمثل هذا؟.
عن عبد الرّحمن بن جبلة عن أبيه قال: كنت مع عمر بن هبيرة في حبس خال بن عبد الله القسريّ، وكان عمر بن هبيرة قد ضربني قبل ذلك، فقال لي: يا جبلة إن الحفيظة تذهب الحقد، وقد أمرت مواليّ يحفرون، وهم منتهون إليّ اللّيلة، فهل لك في الخروج؟ فقلت: لا. قال: فأشر عليّ. فقلت: لا تخرجنّ في دار قوم. فقال: نعم. وكان قد أمر مواليه فاستأجروا داراً إلى جنب السّجن، واتّخذوا فيها ألف نعجة، فكان يحفرون باللّيل ثم يفرشونه في الدّار فتصبح الشّاء قد وطئته بأبوالها؛ فأفضوا بنقبهم إلى جبلة، فقال لهم: لست بصاحبكم. فأتوا عمر بن هبيرة فقام حتى دخل النّقب، وخرج منه.
وكان جبلة أشار عليه أن يقدّم بين يديه رسولاً بكتابه إلى هشام بن عبد الملك.
قال الأصمعيّ: فحدّثني يونس بن حبيب النّحوي، قال: قال لي أبو الفوارس الأعرج الباهليّ: وجّهني عمر بن هبيرة بكتابه إلى هشام، فقدمت غدوة، وقدم ابن هبيرة عشيّة، فمرّ ابن هبيرة في طريقه فسمع امرأةً من قيس تقول: لا والّذي ينجّي ابن هبيرة. فقال: يا غلام، أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.
رجع: فلمّا فقد الحرس ابن هبيرة وجّه خالد في أثره سعيد بن عمرو الحرشيّ، وذاك أن ابن
هبيرة عزل سعيداً عن خراسان، فقدم به عليه واسطاًفحسبه وعذّبه، حتى قدم خالد فأكرمه. فلم يقدر سعيد أن يلحقه، فلم يزل في أثره حتى بلغ الشّام وقد قدم ابن هبيرة، واجتمع إليه قيس، فقال: أشيروا عليّ، من أستجير؟ فقيل له: أمّ حكيم بنت يحيى امرأة هشام. فقال: امرأةً! لو اغتسلت رضيت. فقالوا: عليك بأبي شاكر مسلمة مع ما بينك وبينه، فإنه لا يسلمك أبداً. قال: نعم. فتوجّه إليه ومعه القيسيّة؛ فلمّا رآهم مسلمة وسمع كلامهم انطلق إلى هشام فكلّمه فيه فأمّنه على أن يؤدّي كلّ ما اختانه. فأدّاه.
قال خليفة: مات ابن هبيرة وهو ابن نيف وخمسين سنة.