عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج
أبو الحسن التركي وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق، وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومئتين، وعاد إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، واستوزره المعتمد سنة ست وخمسين ومئتين.
حدث عبيد الله عن أبيه قال: حضرت الحسن بن سهل، وجاءه رجل يستشفع يبغي حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل: علاما تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة، كما أن للمال زكاة، ثم أنشأ الحسن يقول: من الكامل
فرضت علي الزكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
اعتل عبيد الله بن يحيى بن خاقان فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال: إن أمير المؤمنين يسأل عن علتك؟ فقال عبيد الله: من الهزج
عليل من مكانين ... من الأسقام والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فأمر المتوكل بألف ألف درهم.
قال محمد بن أحمد بن الخصيب:
كانت في والدي رقدة لا أحتملها، فضويت إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقبلني بأحسن قبول، وحللت منه محل والده، فقال لي يوماً: اخرج إلى شيخ يقف كثيراً على الباب، ولا يترجل إذا رآني، فقل له: قد ألححت علي وأنت ثقيل على قلبي، فليس لك عندي عمل ولا عائد، فانصرف عني وإلا حبستك سنة، وقرن بي من يرتئيه من غلمانه، فخرجت فأديت إليه الرسالة فقال: والله ما أدري ممن أتعجب، أمن المرسل بهذه الرسالة أم من المرسل؟ قل له: أما تبرمك بي، واستثقالك لي، فوالله ما أتيت قصداً لك، ولا رغبة إليك في سواد ليل ولا ضوء نهار، ولكنك أجلست في طريق أرزاقنا فلا بد من الاجتياز بك، وإن كان رجاء العاقل منوطاً بالله دونك، وليس لك إعطاء ما منع الله، ولا منع ما أعطى. ثم تضاحك، وقال: وأعجب ما في رسالتك تواعدك إياي بحسبي سنة، فيا ويحك، من ملكك الزمان المستقبل حتى تتحكم في هذا التحكم؟ وتتوعد به هذا التوعد؟ ولعله يجري عليك فيه من المكروه أكثر مما نويته لي.
وكانت إشارته، وفحوى كلامه يدلان على استصغار موارد أمورنا ومصادرها، فدخلت إليه فقال لي: ما أجابك به؟ فقلت: هو مجنون، فقال: لا تغالطني فيه، هو يعقل إلا أنه حسن الكلام، فبحياتي لما قصصت لي جوابه، فقابلت جهة من الدار، وأعدت عليه جميع ما تكلم به، فقال: قد والله ابتليت به. وركب، فتلقاه بمثل ما كان تلقاه، ودخل عبيد الله إلى أمير المؤمنين، فما أطال حتى خرج إلي غلام له، كان يدخل بدخوله، فقال: الشيخ الذي كلمته اليوم وأجابك، فبعثت إليه من جاء به، فسار به مسرعاً حتى أدخله إلى أمير المؤمنين، وقام مقدار ساعة ثم خرج ومعه ثلاث توقيعات بين أصابعه، فقال لي: يشكر الله عز وجل ولأمير المؤمنين. ومضى.
وانتظرت الوزير على عادتي حتى خرج، فوالله ما صبر إلى دخول داره حتى حدثني بحديثه في الطريق، قال: دخلت وقد غلب علي الغيظ من رسالة هذا الشيخ لأنه خلط فيها التأله وما بنيت عليه الدنيا من سر تقلبها، فبعض الرسالة يحركني على مساءته،
وبعضها يقفني عنه، فوقفت بين يدي أمير المؤمنين، فألقى إلي كتاب عامل بريد الثغر يخبر بوفاة عامل الخراج به، وقال: من ترى أن ينقل إلى العمل؟ وكان هذا العمل في أيام المتوكل غزير الإنفاق كثير المال لما يحمله المتوكل من الأموال للغزاة ومصالح الثغر، ففكرت ساعة، فقال: ما ظننتك على هذا التخلف، ولقد توهمت أن في خاطرك الساعة مئة يصلحون لمثله، فقلت له: على الباب شيخ يصلح إن قبلته عين أمير المؤمنين، فاستحضره، فلما تأمله قال: ما أحسن ما اخترت! قد قبلته نفسي، فعلمت أن الأمر على ما ذكره لي في رسالته معك، فقال له المتوكل: كيف بك إذا ندبناك لموضع يهمنا، قال: أستفرغ جهدي، والجهد عاذر، قال: صدقت، وقع له الساعة بتقليده، وأخذ الرزق المرسوم فيه له، ففعلت، فقال: يا أمير المؤمنين! قد أخلقت حالي بعطلتي، فإن رأى أن ينهضني بمعونة. فقال: وقع له بألف دينار معونة. ففعلت، فقال له أمير المؤمنين: بادر إلى الناحية، فقال: يكتب لي بإزاحة علة من يتوجه معي في أرزاقهم؟ قال: اكتب له، فخرج بثلاث توقيعات، وما رأيت في نفسه انخفاضاً ولا تذللاً، وكأن أمير المؤمنين قضاه ديناً يجب له الخروج إليه منه.
قال أحمد بن إسرائيل: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً طهره باب مجلسه فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: ادخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً، قال: لا، ولكني كنت مفكراً، قلت: في ماذا؟ في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستوائها، ودرور الأموال، وأمن السبل وعز الخلافة، فعلمت أنها أمكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد. فدعوت له وانصرفت، فما مضت أربعون ليلة حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين، ونفي في وقت النكبة إلى برقة، فاجتاز بدمشق وعيسى بن الشيخ يتقلدها، فلقيه عيسى وترجل له، وأعظمه وبره وحدثه، حتى كان عبيد الله يسير بالليل في قبة، وعيسى يسير بين يديه الليل كله على ظهر دابته، فأصبح عبيد الله ووجه إلى عيسى بن الشيخ يسأله عن خبره ومبيته، وهو
لا يشك أنه أيضاً في قبة، فقيل له: إنه كان بين يديه يسير على ظهر دابته منذ أول الليل إلى الساعة، فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية، حفظ له ذلك، وقلده الديار البكرية وإرمينية.
قال محمد بن علي القنبري الهمذاني من ولد قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه السلام يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان: من البسيط
إلى الوزير عبيد الله مقصدها ... أعني ابن يحيى حياة الدين والكرم
إذا رميت برحلي في ذراه فلا ... نلت المنى منه إن لم تشرقي بدم
وليس ذاك لجرم منك أعلمه ... ولا لجهل بما أسديت من نعم
لكنه فعل شماخ بناقته ... لدى عرابة إذ أدته للأطم
قال المبرد: أنشدني عاصم بن وهب البرجمي: من الطويل
نظرت إلى يحيى بن خاقان مقبلاً ... فشبهته في الملك يحيى بن خالد.
ومر عبيد الله يشبه جعفراً ... فأكرم بمولود وأكرم بوالد
جمعت بذا المعنى معان كثيرة ... ولم أفسد المعنى بطول القصائد
قيل: إن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لعب في الميدان مع خاتم له يقال له: رشيق، فصدمه فسقط عبيد الله عن فرسه، ومات من يومه، وصلى عليه الموفق، ومشى في جنازته في ذي القعدة سنة ثلاث وستين ومئتين، وقيل توفي سنة ست وستين ومئتين.
أبو الحسن التركي وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق، وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومئتين، وعاد إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، واستوزره المعتمد سنة ست وخمسين ومئتين.
حدث عبيد الله عن أبيه قال: حضرت الحسن بن سهل، وجاءه رجل يستشفع يبغي حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل: علاما تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة، كما أن للمال زكاة، ثم أنشأ الحسن يقول: من الكامل
فرضت علي الزكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
اعتل عبيد الله بن يحيى بن خاقان فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال: إن أمير المؤمنين يسأل عن علتك؟ فقال عبيد الله: من الهزج
عليل من مكانين ... من الأسقام والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فأمر المتوكل بألف ألف درهم.
قال محمد بن أحمد بن الخصيب:
كانت في والدي رقدة لا أحتملها، فضويت إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقبلني بأحسن قبول، وحللت منه محل والده، فقال لي يوماً: اخرج إلى شيخ يقف كثيراً على الباب، ولا يترجل إذا رآني، فقل له: قد ألححت علي وأنت ثقيل على قلبي، فليس لك عندي عمل ولا عائد، فانصرف عني وإلا حبستك سنة، وقرن بي من يرتئيه من غلمانه، فخرجت فأديت إليه الرسالة فقال: والله ما أدري ممن أتعجب، أمن المرسل بهذه الرسالة أم من المرسل؟ قل له: أما تبرمك بي، واستثقالك لي، فوالله ما أتيت قصداً لك، ولا رغبة إليك في سواد ليل ولا ضوء نهار، ولكنك أجلست في طريق أرزاقنا فلا بد من الاجتياز بك، وإن كان رجاء العاقل منوطاً بالله دونك، وليس لك إعطاء ما منع الله، ولا منع ما أعطى. ثم تضاحك، وقال: وأعجب ما في رسالتك تواعدك إياي بحسبي سنة، فيا ويحك، من ملكك الزمان المستقبل حتى تتحكم في هذا التحكم؟ وتتوعد به هذا التوعد؟ ولعله يجري عليك فيه من المكروه أكثر مما نويته لي.
وكانت إشارته، وفحوى كلامه يدلان على استصغار موارد أمورنا ومصادرها، فدخلت إليه فقال لي: ما أجابك به؟ فقلت: هو مجنون، فقال: لا تغالطني فيه، هو يعقل إلا أنه حسن الكلام، فبحياتي لما قصصت لي جوابه، فقابلت جهة من الدار، وأعدت عليه جميع ما تكلم به، فقال: قد والله ابتليت به. وركب، فتلقاه بمثل ما كان تلقاه، ودخل عبيد الله إلى أمير المؤمنين، فما أطال حتى خرج إلي غلام له، كان يدخل بدخوله، فقال: الشيخ الذي كلمته اليوم وأجابك، فبعثت إليه من جاء به، فسار به مسرعاً حتى أدخله إلى أمير المؤمنين، وقام مقدار ساعة ثم خرج ومعه ثلاث توقيعات بين أصابعه، فقال لي: يشكر الله عز وجل ولأمير المؤمنين. ومضى.
وانتظرت الوزير على عادتي حتى خرج، فوالله ما صبر إلى دخول داره حتى حدثني بحديثه في الطريق، قال: دخلت وقد غلب علي الغيظ من رسالة هذا الشيخ لأنه خلط فيها التأله وما بنيت عليه الدنيا من سر تقلبها، فبعض الرسالة يحركني على مساءته،
وبعضها يقفني عنه، فوقفت بين يدي أمير المؤمنين، فألقى إلي كتاب عامل بريد الثغر يخبر بوفاة عامل الخراج به، وقال: من ترى أن ينقل إلى العمل؟ وكان هذا العمل في أيام المتوكل غزير الإنفاق كثير المال لما يحمله المتوكل من الأموال للغزاة ومصالح الثغر، ففكرت ساعة، فقال: ما ظننتك على هذا التخلف، ولقد توهمت أن في خاطرك الساعة مئة يصلحون لمثله، فقلت له: على الباب شيخ يصلح إن قبلته عين أمير المؤمنين، فاستحضره، فلما تأمله قال: ما أحسن ما اخترت! قد قبلته نفسي، فعلمت أن الأمر على ما ذكره لي في رسالته معك، فقال له المتوكل: كيف بك إذا ندبناك لموضع يهمنا، قال: أستفرغ جهدي، والجهد عاذر، قال: صدقت، وقع له الساعة بتقليده، وأخذ الرزق المرسوم فيه له، ففعلت، فقال: يا أمير المؤمنين! قد أخلقت حالي بعطلتي، فإن رأى أن ينهضني بمعونة. فقال: وقع له بألف دينار معونة. ففعلت، فقال له أمير المؤمنين: بادر إلى الناحية، فقال: يكتب لي بإزاحة علة من يتوجه معي في أرزاقهم؟ قال: اكتب له، فخرج بثلاث توقيعات، وما رأيت في نفسه انخفاضاً ولا تذللاً، وكأن أمير المؤمنين قضاه ديناً يجب له الخروج إليه منه.
قال أحمد بن إسرائيل: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً طهره باب مجلسه فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: ادخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً، قال: لا، ولكني كنت مفكراً، قلت: في ماذا؟ في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستوائها، ودرور الأموال، وأمن السبل وعز الخلافة، فعلمت أنها أمكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد. فدعوت له وانصرفت، فما مضت أربعون ليلة حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين، ونفي في وقت النكبة إلى برقة، فاجتاز بدمشق وعيسى بن الشيخ يتقلدها، فلقيه عيسى وترجل له، وأعظمه وبره وحدثه، حتى كان عبيد الله يسير بالليل في قبة، وعيسى يسير بين يديه الليل كله على ظهر دابته، فأصبح عبيد الله ووجه إلى عيسى بن الشيخ يسأله عن خبره ومبيته، وهو
لا يشك أنه أيضاً في قبة، فقيل له: إنه كان بين يديه يسير على ظهر دابته منذ أول الليل إلى الساعة، فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية، حفظ له ذلك، وقلده الديار البكرية وإرمينية.
قال محمد بن علي القنبري الهمذاني من ولد قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه السلام يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان: من البسيط
إلى الوزير عبيد الله مقصدها ... أعني ابن يحيى حياة الدين والكرم
إذا رميت برحلي في ذراه فلا ... نلت المنى منه إن لم تشرقي بدم
وليس ذاك لجرم منك أعلمه ... ولا لجهل بما أسديت من نعم
لكنه فعل شماخ بناقته ... لدى عرابة إذ أدته للأطم
قال المبرد: أنشدني عاصم بن وهب البرجمي: من الطويل
نظرت إلى يحيى بن خاقان مقبلاً ... فشبهته في الملك يحيى بن خالد.
ومر عبيد الله يشبه جعفراً ... فأكرم بمولود وأكرم بوالد
جمعت بذا المعنى معان كثيرة ... ولم أفسد المعنى بطول القصائد
قيل: إن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لعب في الميدان مع خاتم له يقال له: رشيق، فصدمه فسقط عبيد الله عن فرسه، ومات من يومه، وصلى عليه الموفق، ومشى في جنازته في ذي القعدة سنة ثلاث وستين ومئتين، وقيل توفي سنة ست وستين ومئتين.