جعفر بن يَحْيَى بن خالد، أَبُو الفضل البرمكي .
كان من علو القدر، ونفاذ الأمر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يُشَارَكْ فِيهَا، وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه ظاهر البشر، فأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وأبين من أن يظهر، وكان أيضا من ذوي الفصاحة، والمذكورين باللسن والبلاغة، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة عَلَى ألف توقيع، ونظر في جميعها فلم يخرج شيء منها عَنْ موجب الفقه. وكان أبوه يَحْيَى بن خالد قد ضمه إِلَى أبي يوسف القاضي حتى علمه وفقهه، وغضب الرشيد عليه فِي آخر أمره فقتله، ونكب البرامكة لأجله.
أخبرنا الحسين بن عَلِيّ الصيمري حدّثنا محمّد بن عمران بن موسى أخبرني محمّد بن الأزهر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يزيد النحوي قَالَ: زعم الجاحظ أن ثمامة بن أشرس النميري قَالَ: ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
أخبرنا الحسين بن العبّاس النّعاليّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الذارع حدّثنا
زكريّا- يعنى ابن جعفر- حَدَّثَنَا العباس بن الفضل قَالَ: اعتذر رجل إِلَى جعفر بن يَحْيَى البرمكي، فَقَالَ له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منا عَنِ الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عَنْ سوء الظن بك.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سلامة بْن الْحُسَيْن المقرئ حدّثنا على بن عمر الحافظ القاضي [حدّثنا ] الحسين بن إسماعيل حدّثنا عبد الله بن أبي سعد حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طهمان حَدَّثَنِي أبي قَالَ كان أَبُو علقمة الثقفي- صاحب الغريب- عند جعفر بن يَحْيَى فِي بعض لياليه التي يسمر فيها، فأقبلت خنفساء إِلَى أبي علقمة، فَقَالَ: أليس يقال إن الخنفساء إذا أقبلت إِلَى رجل أصاب خيرا، قالوا: بلى؟ قال جعفر ابن يَحْيَى: يا غلام أعطه ألف دينار، قَالَ فنحوها عنه، فعادت إليه فَقَالَ يا غلام، أعطه ألف دينار فأعطاه ألفي دينار، قَالَ: وأنشد جعفرا مرثية ابن أبي حفصة لِمَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ التي يقول فيها:
كَأَنَّ الشَّمْسَ يَوْمَ أُصِيبَ مَعْنٌ ... مِنَ الإِظْلامِ مُلْبَسَةً جِلالا
فاستجادها جعفر فوهب له عشرة آلاف درهم.
أخبرنا علي بن أبي علي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن موسى الكاتب حدّثنا علي بن سليمان الأخفش حَدَّثَنِي بعض أصحابنا قَالَ خرج عبد الملك بن صالح مشيعا لجعفر ابن يَحْيَى البرمكي، فعرض عليه حاجاته فَقَالَ له: قصارى كل مشيع الرجوع وأريد أعز الله الأمير أن يكون لي كما قال بظحاء العذري:
وكوني عَلَى الواشين لداء شغبة ... فإني عَلَى الواشي ألد شغوب
فَقَالَ جعفر: بل أكون لك كما قَالَ جميل:
وإذا الواشي وشى يوما بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد الخصيبي قَالَ سمعت عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن عبد الأعلى الإسكافي يحدث. قَالَ: كان أحمد بن الجنيد الإسكافي أخص الناس بجعفر بن يحيى ابن خالد البرمكي، فكان الناس يقصدونه فِي حوائجهم إِلَى جعفر. قَالَ: وإن رقاع الناس كثرت فِي خف أحمد بن الجنيد، فلم يزل كذلك إِلَى أن تهيأ له الخلوة بجعفر فقال له: يا جعفر جعلني الله فداك، قد كثرت رقاع الناس معي، وأشغالك كثيرة
وأنت اليوم خال، فإن رأيت أن تنظر فيها؟ فَقَالَ له جعفر: عَلَى أن تقيم عندي اليوم، فَقَالَ له أحمد: نعم! فصرف دوابه وأقام فلما تغدوا جاءه بالرقاع فَقَالَ له جعفر: هذا وقت ذا؟ دعنا اليوم، فأمسك عنه أحمد وانصرف فِي ذلك اليوم ولم ينظر فِي الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به فذاكره الرقاع، فَقَالَ: نعم عَلَى أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده ففعل به مثل الفعل الأول حتى فعل به ذلك ثلاثا، فلما كان فِي آخر يوم أذكره فَقَالَ: دعني الساعة وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد فَقَالَ لخادم له: اذهب إِلَى خف أحمد بن الجنيد فجئني بكل رقعة فيه. وانظر لا يعلم أحمد، فذهب الغلام وجاء بالرقاع، فوقع جعفر فيها عَنْ آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك، ثم أمر الخادم أن يردها فِي الخف، فردها، وانتبه أحمد وأخذوا فِي شأنهم، ولم يقل له فيها شيئا، وانصرف أحمد، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياما، ثم قَالَ لكاتب له: ويحك هذه الرقاع قد أخلقت فِي خفي، وهذا- يعني جعفرا- ليس ينظر فيها، فخذها تصفحها وجدد ما خلق منها فأخذها الكاتب فنظر فيها فوجد الرقاع موقعا فيها بما سأل أهلها وأكثر، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه، ومن أنه قد قضى حاجته ولم يعلمه بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
أخبرني أَبُو الْقَاسِمِ الأزهرى حدّثنا محمّد بن العبّاس الخزاز حدّثنا محمّد بن خلف بن المرزبان حدّثنا أبو يعقوب النّخعيّ حَدَّثَنَا عَلِيّ بن زيد- كاتب العباس بن المأمون- حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي حَدَّثَنِي أبي. قَالَ: حج الرشيد ومعه جعفر بن يَحْيَى البرمكي، قَالَ: وكنت معهم، فلما صرنا إِلَى مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لي جعفر بن يَحْيَى: أحب أن تنظر لي جارية، ولا تُبْقِي غَايَةً فِي حَذَاقَتِهَا بِالْغِنَاءِ وَالضَّرْبِ، وَالْكَمَالِ فِي الظِّرْفِ وُالأَدَبِ، وجنبني قولهم صفراء، قَالَ فوضعتها عَلَى يد من يعرف، قَالَ فَأُرْشِدْتُ إِلَى جَارِيَةٍ لِرَجُلٍ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ رُسُومَ النِّعْمَةِ، وأخرجها فلم أر أجمل منها، ولا أصبح ولا آدب، قال ثم تغنت إلى أصواتا وأجادتها، قَالَ فقلت لصاحبها: قل ما شئت، قَالَ أقول لك قولا لا أنقص منه درهما، قَالَ قُلْتُ قل، قَالَ أربعين ألف دينار، قال قلت قد أخذتها واشترطت نظرة، قَالَ ذاك لك، قَالَ فأتيت جعفر بن يَحْيَى فقلت قد أصبت حاجتك عَلَى غاية الكمال، والظرف والأدب والجمال، ونقاء اللون، وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة، فاحمل المال ومر بنا، قَالَ فحملنا المال عَلَى حمالين وجاء جعفر مستخفيا فدخلنا عَلَى الرجل فأخرجها، فلما رآها جعفر عجب بها، وعرف أن قد صدقته، ثم غنته فازداد بها عجبا، فَقَالَ
لي: اقطع أمرها قال، قلت لمولاها هذا المال قد نقدناه ووزناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينقد. فَقَالَ: لا بل أقنع بما قلتم قَالَ فَقَالَتِ الجارية: يا مولاي فِي أي شيء أنت؟ فَقَالَ: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، وما كنت فيه انبساط اليد، وقد انقبضت عَنْ ذلك لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إِلَى هذا الملك فتنبسطي فِي شهواتك وإرادتك، فَقَالَتِ الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد فاذكر العهد، وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمنا، قَالَ فتغرغرت عين المولى وَقَالَ: اشهدوا أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها وأمهرتها داري. فَقَالَ لي جعفر: انهض بنا، قَالَ فدعوت الحمالين ليحملوا المال، قَالَ فَقَالَ جعفر: لا والله لا يصحبنا منه درهم، قَالَ: ثم أقبل على مولاها فقال: هو لك مبارك لك فيه، أنفقه عليها وعليك، قَالَ: وقمنا فخرجنا.
أخبرنا سلامة بن الحسين المقرئ أخبرنا علي بن عمر الحافظ حدّثنا إبراهيم بن حمّاد حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي سعد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ المبارك العبدي حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ- أَبُو مُحَمَّد- قَالَ: لما غضب عَلَى البرامكة أصيب فِي خزانة لجعفر بن يَحْيَى فِي جرة ألف دينار، فِي كل دينار مائة دينار، عَلَى أحد جانبي كل دينار منها:
وأصفر من ضرب دار الملو ... ك يلوح عَلَى وجهه جعفر
يزيد عَلَى مائة واحدا ... متى تعطه معسرا يوسر
أخبرنا سلامة بن الحسين وعمر بْن مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَ اللَّه المؤدب قالا: حدّثنا علي ابن عمر حَدَّثَنَا إبراهيم بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سعد حدّثني مثنى بن محمّد المذحجي حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مؤدب مُحَمَّد بن عمران بن يَحْيَى بن خالد قَالَ: أمر جعفر بن يحيى بن خالد أن تضرب دنانير، في كل دينار ثلاثمائة مثقال، ويصور عليها صورة وجهه، فضربت فبلغ أبا العتاهية، فأخذ طبقا فوضع عليه بعض الألطاف فوجه به إِلَى جعفر، وكتب إليه رقعة فِي آخرها:
وأصفر من ضرب دار الملو ... ك يلوح عَلَى وجهه جعفر
ثلاث مئين يكن وزنه ... متى يلقه معسر يوسر
فأمر بقبض ما عَلَى الطبق، وصير عليه دينارا من تلك الدنانير ورده إليه.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيّ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن محمّد الجازري حدّثنا المعافي بن زكريّا الجريري- إملاء- حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الضرير- وجه الهرة- قَالَ: حَدَّثَنِي غسان بن مُحَمَّد القاضي عَنْ مُحَمَّد بن عَبْد الرَّحْمَنِ الهاشمي- صاحب صلاة الكوفة- قَالَ دخلت عَلَى أمي فِي يوم عيد أضحى، وعندها امرأة برزة فِي أثواب دنسة رثة، فَقَالَتْ لي: أتعرف هذه؟ قُلْتُ لا، قَالَتْ: هذه عبادة أم جعفر بن يَحْيَى بن خالد، فسلمت عليها ورحبت بها، وقلت لها: يا فلانة حدثيني ببعض أمركم. قَالَتْ أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن أعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم عَلِيّ مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن جعفرا ابني عاق بي، وقد أتيتكم فِي هذا اليوم، والذي يقنعني جلدا شاتين، أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا.
أخبرنا عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ حدّثنا أبي حَدَّثَنَا عمر بن الحسن بن عَلِيّ الشيباني أخبرنا الحارث بن محمّد حَدَّثَنِي العباس بن الفضل عَنْ إسماعيل بن عَلِيّ قَالَ: قَالَ أَبُو قابوس النصراني: دخلت عَلَى جعفر بن يَحْيَى البرمكي فِي يوم بارد، فأصابني البرد، فَقَالَ: يا غلام اطرح عليه كساء من أكسية النصارى، فطرح عَلِيّ كساء خز قيمته ألف. قَالَ فانصرفت إِلَى منزلي فأردت أن ألبسه في يوم عيد، فلم أصب له فِي منزلي ثوبا يشاكله، فَقَالَتْ لي بنية لي: اكتب إِلَى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب، فكتبت إليه:
أَبَا الْفَضْلِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا يَوْمَ عِيدِنَا ... رَأَيْتَ مباهَاةً لَنَا فِي الْكَنَائِسِ
وَلَوْ كَانَ ذَاكَ الْمِطْرَفُ الْخَزِّ جُبَّةً ... لَبَاهَيْتُ أَصْحَابِي بِهَا فِي الْمَجَالِسِ
فَلا بُدَّ لِي مِنْ جُبَّةٍ مِنْ جِبَابِكُمْ ... ومن طيلسان من جياد الطيالس
ومن ثوب قوهي وثوب غلالة ... ولا بأس إن أتبعت ذاك بخامس
إذا تمت الأثواب فِي العيد خمسة ... كفتك فلم تحتج إِلَى لبس سادس
لعمرك ما أفرطت فيما سألته ... وما كنت لو أفرطت فيه بآيس
وذاك لأن الشعر يزداد حدة ... إذا ما البلا أبلى جديد الملابس
قَالَ فبعث إليه حين قرأ شعره بتخوت خمسة، من كل نوع تختا. قال: فو الله ما أنقضت الأيام حتى قتل جعفر بن يَحْيَى وصلب، فرأينا أبا قابوس قائما تحت جذعه يزمزم، فأخذه صاحب الخبر وأدخله عَلَى الرشيد، فَقَالَ له ما كنت قائلا تحت جذع
جعفر؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو قابوس: أينجيني منك الصدق؟ قَالَ نعم، قَالَ ترحمت والله عليه، وقلت فِي ذلك:
أمين الله هب فضل بن يَحْيَى ... لنفسك أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة بنا وقاموا
أرى سبب الرضى فيه قويا ... عَلَى الله الزيادة والتمام
نذرت على فيه صيام حول ... وإن وجب الرضى وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت إليه نصبا ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالركن استلام
قَالَ: فاطرق هارون مليا، ثم قَالَ: رجل أولى جميلا فَقَالَ فيه جميلا. يا غلام ناد بأمان أبي قابوس وأن لا يعرض له. ثم قَالَ لحاجبه: إياك أن تحجبه عنى، صرمتى شئت إلينا في مهمك.
أخبرني الأزهري حدّثنا محمّد بن العبّاس أخبرنا أبو بكر محمّد بن خلف أخبرني أَبُو النضر هاشم بن سعيد بن علي البلديّ أخبرني أبي، قَالَ لما صلب الرشيد جعفر بن يَحْيَى، وقف الرقاشي الشاعر فَقَالَ:
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يَحْيَى ... حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللذات والدنيا جميعا ... لِدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلامُ
فقيل للرشيد، فأمر به فأحضر، فَقَالَ له: ما حملك عَلَى ما فعلت؟ قَالَ تحركت نعمته فِي قلبي فلم أصبر. قَالَ: كم كان عطاؤك؟ قَالَ: كان يعطيني فِي كل سنة ألف دينار، فأمر له بألفي دينار.
أَخْبَرَنَا أَبُو يعلى أَحْمَد بن عبد الواحد أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل حدّثنا الحسين بن القاسم أخبرني الحسن بن سعيد العنبري حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه. قال: قَالَ أَبُو يزيد الرياحي: كنت قائما عند خشبة جعفر بن يَحْيَى البرمكي أتفكر فِي زوال ملكه، وحاله التي صار إليها، إذ أقبلت امرأة راكبة، لها رواء وهيئة،
فوقفت على جعفر فبكت فأحزنت وتكلمت فأبلغت، فَقَالَتْ: أما والله لئن أصبحت للناس آية، لقد بلغت فيهم الغاية، ولئن زال ملكك، وخانك دهرك، ولم يطل عمرك، لقد كنت المغبوط حالا، الناعم بالا، يحسن بك الملك، وينفس بك الهلك، أن تصير إِلَى حالك هذه، ولقد كنت الملك بحقه، فِي جلالته ونطقه، فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك، فنسأل الله الصبر عَلَى عظيم الفجيعة، وجليل الرزية التي لا تستعاض بغيرك والسلام عليك وداع غير قَالٍ ولا نَاسٍ لذكرك، ثم أنشأت تقول:
العيش بعدك مر غير محبوب ... ومذ صلبت ومقنا كل مصلوب
أرجو لك الله ذا الإحسان إن له ... فضلا علينا وعفوا غير محسوب
ثم سكتت ساعة وتأملته، ثم أنشأت تقول:
عليك من الأحبة كل يوم ... سلام الله، ما ذكر السلام
لئن أمسى صداك برأي عين ... عَلَى خشب حباك بها الإمام
فمن ملك إِلَى ملك برغم ... من الأملاك أسلمك الهمام
أخبرنا أَبُو عَلِيّ بن الحسين بن محمّد الجازري أخبرنا المعافى بن زكريّا حدّثنا محمّد بن مزيد حَدَّثَنَا الزبير بْنُ بَكَّارٍ.
وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَاحِدِ بْن عَلِيّ البزاز- واللفظ له- قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيد الْحَسَن بْن عَبْد الله السيرافي حدّثنا محمّد بن أبي الأزهر النّحويّ حدّثنا الزبير بن بكّار حَدَّثَنِي عمي مصعب بن عبد اللَّه. قَالَ: لما قتل جعفر بن يَحْيَى، وصلب بباب الجسر رأسه، وفي الجانب الآخر جسده، وقفت امرأة عَلَى حمار فاره، فنظرت إِلَى رأسه، فَقَالَتْ بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آية، لقد كنت فِي المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:
ولما رأيت السيف خالط جعفرا ... ونادى مناد للخليفة فِي يَحْيَى
بكيت عَلَى الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت ذا إِلَى الغاية القصوى
ثم إنها حركت الحمار الذي كان تحتها، فكأنها كانت ريحا لم يعرف لها أثر.
حدّثنا أَبُو طَالِبٍ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الفقيه أخبرنا محمّد بن العبّاس الخزاز أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ خَلَفِ المرزبان قَالَ أنشدونا للعباس بن الأحنف:
ولما رأيت السيف خالط جعفرا
وذكر هذه الأبيات الأربعة كما سقناها سواء.
أخبرنا محمّد بن أحمد بن رزق حَدَّثَنَا عمر بن جعفر بن محمد بن سلم الختلي حَدَّثَنَا الحارث بن أَبِي أسامة قَالَ حَدَّثَنِي إسماعيل بن مُحَمَّد- ثقة- قَالَ: لما بلغ سُفْيَان بن عيينة قتل جعفر بن يَحْيَى، وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إِلَى الكعبة وَقَالَ: اللهم إنه كان قد كفاني مئونة الدنيا، فاكفه مئونة الآخرة.
أَخْبَرَنِي الحسن بن أبي بكر قَالَ كتب إلي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الجوري- من شيراز- يذكر أن أحمد بن حمدان بن الخضر أخبره، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن يونس الضبي حدَّثَنِي أَبُو حسان الزيادي. قَالَ سنة سبع وثمانين ومائة فيها قتل جعفر بن يَحْيَى بن خالد، فِي أول يوم من صفر، بالغمر من أرض الأنبار.
أخبرنا إبراهيم بن مخلد- إجازة- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ البغوي. وأخبرنا الأزهرى- قراءة- أخبرنا على بن عمر الحافظ أخبرنا عبد الله بن إسحاق أخبرنا الحارث بن محمّد حدّثنا مُحَمَّد بْن سعد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمر الواقدي: سنة سبع وثمانين ومائة فيها نزل هارون بن مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله الغمر بناحية الأنبار منصرفا من مكة، وغضب عَلَى البرامكة، وقتل جعفر بن يَحْيَى بن خالد فِي أول يوم من صفر، وصلبه عَلَى الجسر ببغداد.
كان من علو القدر، ونفاذ الأمر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يُشَارَكْ فِيهَا، وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه ظاهر البشر، فأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وأبين من أن يظهر، وكان أيضا من ذوي الفصاحة، والمذكورين باللسن والبلاغة، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة عَلَى ألف توقيع، ونظر في جميعها فلم يخرج شيء منها عَنْ موجب الفقه. وكان أبوه يَحْيَى بن خالد قد ضمه إِلَى أبي يوسف القاضي حتى علمه وفقهه، وغضب الرشيد عليه فِي آخر أمره فقتله، ونكب البرامكة لأجله.
أخبرنا الحسين بن عَلِيّ الصيمري حدّثنا محمّد بن عمران بن موسى أخبرني محمّد بن الأزهر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يزيد النحوي قَالَ: زعم الجاحظ أن ثمامة بن أشرس النميري قَالَ: ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
أخبرنا الحسين بن العبّاس النّعاليّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الذارع حدّثنا
زكريّا- يعنى ابن جعفر- حَدَّثَنَا العباس بن الفضل قَالَ: اعتذر رجل إِلَى جعفر بن يَحْيَى البرمكي، فَقَالَ له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منا عَنِ الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عَنْ سوء الظن بك.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سلامة بْن الْحُسَيْن المقرئ حدّثنا على بن عمر الحافظ القاضي [حدّثنا ] الحسين بن إسماعيل حدّثنا عبد الله بن أبي سعد حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طهمان حَدَّثَنِي أبي قَالَ كان أَبُو علقمة الثقفي- صاحب الغريب- عند جعفر بن يَحْيَى فِي بعض لياليه التي يسمر فيها، فأقبلت خنفساء إِلَى أبي علقمة، فَقَالَ: أليس يقال إن الخنفساء إذا أقبلت إِلَى رجل أصاب خيرا، قالوا: بلى؟ قال جعفر ابن يَحْيَى: يا غلام أعطه ألف دينار، قَالَ فنحوها عنه، فعادت إليه فَقَالَ يا غلام، أعطه ألف دينار فأعطاه ألفي دينار، قَالَ: وأنشد جعفرا مرثية ابن أبي حفصة لِمَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ التي يقول فيها:
كَأَنَّ الشَّمْسَ يَوْمَ أُصِيبَ مَعْنٌ ... مِنَ الإِظْلامِ مُلْبَسَةً جِلالا
فاستجادها جعفر فوهب له عشرة آلاف درهم.
أخبرنا علي بن أبي علي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن موسى الكاتب حدّثنا علي بن سليمان الأخفش حَدَّثَنِي بعض أصحابنا قَالَ خرج عبد الملك بن صالح مشيعا لجعفر ابن يَحْيَى البرمكي، فعرض عليه حاجاته فَقَالَ له: قصارى كل مشيع الرجوع وأريد أعز الله الأمير أن يكون لي كما قال بظحاء العذري:
وكوني عَلَى الواشين لداء شغبة ... فإني عَلَى الواشي ألد شغوب
فَقَالَ جعفر: بل أكون لك كما قَالَ جميل:
وإذا الواشي وشى يوما بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد الخصيبي قَالَ سمعت عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن عبد الأعلى الإسكافي يحدث. قَالَ: كان أحمد بن الجنيد الإسكافي أخص الناس بجعفر بن يحيى ابن خالد البرمكي، فكان الناس يقصدونه فِي حوائجهم إِلَى جعفر. قَالَ: وإن رقاع الناس كثرت فِي خف أحمد بن الجنيد، فلم يزل كذلك إِلَى أن تهيأ له الخلوة بجعفر فقال له: يا جعفر جعلني الله فداك، قد كثرت رقاع الناس معي، وأشغالك كثيرة
وأنت اليوم خال، فإن رأيت أن تنظر فيها؟ فَقَالَ له جعفر: عَلَى أن تقيم عندي اليوم، فَقَالَ له أحمد: نعم! فصرف دوابه وأقام فلما تغدوا جاءه بالرقاع فَقَالَ له جعفر: هذا وقت ذا؟ دعنا اليوم، فأمسك عنه أحمد وانصرف فِي ذلك اليوم ولم ينظر فِي الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به فذاكره الرقاع، فَقَالَ: نعم عَلَى أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده ففعل به مثل الفعل الأول حتى فعل به ذلك ثلاثا، فلما كان فِي آخر يوم أذكره فَقَالَ: دعني الساعة وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد فَقَالَ لخادم له: اذهب إِلَى خف أحمد بن الجنيد فجئني بكل رقعة فيه. وانظر لا يعلم أحمد، فذهب الغلام وجاء بالرقاع، فوقع جعفر فيها عَنْ آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك، ثم أمر الخادم أن يردها فِي الخف، فردها، وانتبه أحمد وأخذوا فِي شأنهم، ولم يقل له فيها شيئا، وانصرف أحمد، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياما، ثم قَالَ لكاتب له: ويحك هذه الرقاع قد أخلقت فِي خفي، وهذا- يعني جعفرا- ليس ينظر فيها، فخذها تصفحها وجدد ما خلق منها فأخذها الكاتب فنظر فيها فوجد الرقاع موقعا فيها بما سأل أهلها وأكثر، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه، ومن أنه قد قضى حاجته ولم يعلمه بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
أخبرني أَبُو الْقَاسِمِ الأزهرى حدّثنا محمّد بن العبّاس الخزاز حدّثنا محمّد بن خلف بن المرزبان حدّثنا أبو يعقوب النّخعيّ حَدَّثَنَا عَلِيّ بن زيد- كاتب العباس بن المأمون- حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي حَدَّثَنِي أبي. قَالَ: حج الرشيد ومعه جعفر بن يَحْيَى البرمكي، قَالَ: وكنت معهم، فلما صرنا إِلَى مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لي جعفر بن يَحْيَى: أحب أن تنظر لي جارية، ولا تُبْقِي غَايَةً فِي حَذَاقَتِهَا بِالْغِنَاءِ وَالضَّرْبِ، وَالْكَمَالِ فِي الظِّرْفِ وُالأَدَبِ، وجنبني قولهم صفراء، قَالَ فوضعتها عَلَى يد من يعرف، قَالَ فَأُرْشِدْتُ إِلَى جَارِيَةٍ لِرَجُلٍ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ رُسُومَ النِّعْمَةِ، وأخرجها فلم أر أجمل منها، ولا أصبح ولا آدب، قال ثم تغنت إلى أصواتا وأجادتها، قَالَ فقلت لصاحبها: قل ما شئت، قَالَ أقول لك قولا لا أنقص منه درهما، قَالَ قُلْتُ قل، قَالَ أربعين ألف دينار، قال قلت قد أخذتها واشترطت نظرة، قَالَ ذاك لك، قَالَ فأتيت جعفر بن يَحْيَى فقلت قد أصبت حاجتك عَلَى غاية الكمال، والظرف والأدب والجمال، ونقاء اللون، وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة، فاحمل المال ومر بنا، قَالَ فحملنا المال عَلَى حمالين وجاء جعفر مستخفيا فدخلنا عَلَى الرجل فأخرجها، فلما رآها جعفر عجب بها، وعرف أن قد صدقته، ثم غنته فازداد بها عجبا، فَقَالَ
لي: اقطع أمرها قال، قلت لمولاها هذا المال قد نقدناه ووزناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينقد. فَقَالَ: لا بل أقنع بما قلتم قَالَ فَقَالَتِ الجارية: يا مولاي فِي أي شيء أنت؟ فَقَالَ: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، وما كنت فيه انبساط اليد، وقد انقبضت عَنْ ذلك لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إِلَى هذا الملك فتنبسطي فِي شهواتك وإرادتك، فَقَالَتِ الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد فاذكر العهد، وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمنا، قَالَ فتغرغرت عين المولى وَقَالَ: اشهدوا أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها وأمهرتها داري. فَقَالَ لي جعفر: انهض بنا، قَالَ فدعوت الحمالين ليحملوا المال، قَالَ فَقَالَ جعفر: لا والله لا يصحبنا منه درهم، قَالَ: ثم أقبل على مولاها فقال: هو لك مبارك لك فيه، أنفقه عليها وعليك، قَالَ: وقمنا فخرجنا.
أخبرنا سلامة بن الحسين المقرئ أخبرنا علي بن عمر الحافظ حدّثنا إبراهيم بن حمّاد حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي سعد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ المبارك العبدي حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ- أَبُو مُحَمَّد- قَالَ: لما غضب عَلَى البرامكة أصيب فِي خزانة لجعفر بن يَحْيَى فِي جرة ألف دينار، فِي كل دينار مائة دينار، عَلَى أحد جانبي كل دينار منها:
وأصفر من ضرب دار الملو ... ك يلوح عَلَى وجهه جعفر
يزيد عَلَى مائة واحدا ... متى تعطه معسرا يوسر
أخبرنا سلامة بن الحسين وعمر بْن مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَ اللَّه المؤدب قالا: حدّثنا علي ابن عمر حَدَّثَنَا إبراهيم بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سعد حدّثني مثنى بن محمّد المذحجي حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مؤدب مُحَمَّد بن عمران بن يَحْيَى بن خالد قَالَ: أمر جعفر بن يحيى بن خالد أن تضرب دنانير، في كل دينار ثلاثمائة مثقال، ويصور عليها صورة وجهه، فضربت فبلغ أبا العتاهية، فأخذ طبقا فوضع عليه بعض الألطاف فوجه به إِلَى جعفر، وكتب إليه رقعة فِي آخرها:
وأصفر من ضرب دار الملو ... ك يلوح عَلَى وجهه جعفر
ثلاث مئين يكن وزنه ... متى يلقه معسر يوسر
فأمر بقبض ما عَلَى الطبق، وصير عليه دينارا من تلك الدنانير ورده إليه.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيّ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن محمّد الجازري حدّثنا المعافي بن زكريّا الجريري- إملاء- حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الضرير- وجه الهرة- قَالَ: حَدَّثَنِي غسان بن مُحَمَّد القاضي عَنْ مُحَمَّد بن عَبْد الرَّحْمَنِ الهاشمي- صاحب صلاة الكوفة- قَالَ دخلت عَلَى أمي فِي يوم عيد أضحى، وعندها امرأة برزة فِي أثواب دنسة رثة، فَقَالَتْ لي: أتعرف هذه؟ قُلْتُ لا، قَالَتْ: هذه عبادة أم جعفر بن يَحْيَى بن خالد، فسلمت عليها ورحبت بها، وقلت لها: يا فلانة حدثيني ببعض أمركم. قَالَتْ أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن أعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم عَلِيّ مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن جعفرا ابني عاق بي، وقد أتيتكم فِي هذا اليوم، والذي يقنعني جلدا شاتين، أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا.
أخبرنا عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ حدّثنا أبي حَدَّثَنَا عمر بن الحسن بن عَلِيّ الشيباني أخبرنا الحارث بن محمّد حَدَّثَنِي العباس بن الفضل عَنْ إسماعيل بن عَلِيّ قَالَ: قَالَ أَبُو قابوس النصراني: دخلت عَلَى جعفر بن يَحْيَى البرمكي فِي يوم بارد، فأصابني البرد، فَقَالَ: يا غلام اطرح عليه كساء من أكسية النصارى، فطرح عَلِيّ كساء خز قيمته ألف. قَالَ فانصرفت إِلَى منزلي فأردت أن ألبسه في يوم عيد، فلم أصب له فِي منزلي ثوبا يشاكله، فَقَالَتْ لي بنية لي: اكتب إِلَى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب، فكتبت إليه:
أَبَا الْفَضْلِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا يَوْمَ عِيدِنَا ... رَأَيْتَ مباهَاةً لَنَا فِي الْكَنَائِسِ
وَلَوْ كَانَ ذَاكَ الْمِطْرَفُ الْخَزِّ جُبَّةً ... لَبَاهَيْتُ أَصْحَابِي بِهَا فِي الْمَجَالِسِ
فَلا بُدَّ لِي مِنْ جُبَّةٍ مِنْ جِبَابِكُمْ ... ومن طيلسان من جياد الطيالس
ومن ثوب قوهي وثوب غلالة ... ولا بأس إن أتبعت ذاك بخامس
إذا تمت الأثواب فِي العيد خمسة ... كفتك فلم تحتج إِلَى لبس سادس
لعمرك ما أفرطت فيما سألته ... وما كنت لو أفرطت فيه بآيس
وذاك لأن الشعر يزداد حدة ... إذا ما البلا أبلى جديد الملابس
قَالَ فبعث إليه حين قرأ شعره بتخوت خمسة، من كل نوع تختا. قال: فو الله ما أنقضت الأيام حتى قتل جعفر بن يَحْيَى وصلب، فرأينا أبا قابوس قائما تحت جذعه يزمزم، فأخذه صاحب الخبر وأدخله عَلَى الرشيد، فَقَالَ له ما كنت قائلا تحت جذع
جعفر؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو قابوس: أينجيني منك الصدق؟ قَالَ نعم، قَالَ ترحمت والله عليه، وقلت فِي ذلك:
أمين الله هب فضل بن يَحْيَى ... لنفسك أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة بنا وقاموا
أرى سبب الرضى فيه قويا ... عَلَى الله الزيادة والتمام
نذرت على فيه صيام حول ... وإن وجب الرضى وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت إليه نصبا ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالركن استلام
قَالَ: فاطرق هارون مليا، ثم قَالَ: رجل أولى جميلا فَقَالَ فيه جميلا. يا غلام ناد بأمان أبي قابوس وأن لا يعرض له. ثم قَالَ لحاجبه: إياك أن تحجبه عنى، صرمتى شئت إلينا في مهمك.
أخبرني الأزهري حدّثنا محمّد بن العبّاس أخبرنا أبو بكر محمّد بن خلف أخبرني أَبُو النضر هاشم بن سعيد بن علي البلديّ أخبرني أبي، قَالَ لما صلب الرشيد جعفر بن يَحْيَى، وقف الرقاشي الشاعر فَقَالَ:
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يَحْيَى ... حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللذات والدنيا جميعا ... لِدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلامُ
فقيل للرشيد، فأمر به فأحضر، فَقَالَ له: ما حملك عَلَى ما فعلت؟ قَالَ تحركت نعمته فِي قلبي فلم أصبر. قَالَ: كم كان عطاؤك؟ قَالَ: كان يعطيني فِي كل سنة ألف دينار، فأمر له بألفي دينار.
أَخْبَرَنَا أَبُو يعلى أَحْمَد بن عبد الواحد أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل حدّثنا الحسين بن القاسم أخبرني الحسن بن سعيد العنبري حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه. قال: قَالَ أَبُو يزيد الرياحي: كنت قائما عند خشبة جعفر بن يَحْيَى البرمكي أتفكر فِي زوال ملكه، وحاله التي صار إليها، إذ أقبلت امرأة راكبة، لها رواء وهيئة،
فوقفت على جعفر فبكت فأحزنت وتكلمت فأبلغت، فَقَالَتْ: أما والله لئن أصبحت للناس آية، لقد بلغت فيهم الغاية، ولئن زال ملكك، وخانك دهرك، ولم يطل عمرك، لقد كنت المغبوط حالا، الناعم بالا، يحسن بك الملك، وينفس بك الهلك، أن تصير إِلَى حالك هذه، ولقد كنت الملك بحقه، فِي جلالته ونطقه، فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك، فنسأل الله الصبر عَلَى عظيم الفجيعة، وجليل الرزية التي لا تستعاض بغيرك والسلام عليك وداع غير قَالٍ ولا نَاسٍ لذكرك، ثم أنشأت تقول:
العيش بعدك مر غير محبوب ... ومذ صلبت ومقنا كل مصلوب
أرجو لك الله ذا الإحسان إن له ... فضلا علينا وعفوا غير محسوب
ثم سكتت ساعة وتأملته، ثم أنشأت تقول:
عليك من الأحبة كل يوم ... سلام الله، ما ذكر السلام
لئن أمسى صداك برأي عين ... عَلَى خشب حباك بها الإمام
فمن ملك إِلَى ملك برغم ... من الأملاك أسلمك الهمام
أخبرنا أَبُو عَلِيّ بن الحسين بن محمّد الجازري أخبرنا المعافى بن زكريّا حدّثنا محمّد بن مزيد حَدَّثَنَا الزبير بْنُ بَكَّارٍ.
وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَاحِدِ بْن عَلِيّ البزاز- واللفظ له- قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيد الْحَسَن بْن عَبْد الله السيرافي حدّثنا محمّد بن أبي الأزهر النّحويّ حدّثنا الزبير بن بكّار حَدَّثَنِي عمي مصعب بن عبد اللَّه. قَالَ: لما قتل جعفر بن يَحْيَى، وصلب بباب الجسر رأسه، وفي الجانب الآخر جسده، وقفت امرأة عَلَى حمار فاره، فنظرت إِلَى رأسه، فَقَالَتْ بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آية، لقد كنت فِي المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:
ولما رأيت السيف خالط جعفرا ... ونادى مناد للخليفة فِي يَحْيَى
بكيت عَلَى الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت ذا إِلَى الغاية القصوى
ثم إنها حركت الحمار الذي كان تحتها، فكأنها كانت ريحا لم يعرف لها أثر.
حدّثنا أَبُو طَالِبٍ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الفقيه أخبرنا محمّد بن العبّاس الخزاز أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ خَلَفِ المرزبان قَالَ أنشدونا للعباس بن الأحنف:
ولما رأيت السيف خالط جعفرا
وذكر هذه الأبيات الأربعة كما سقناها سواء.
أخبرنا محمّد بن أحمد بن رزق حَدَّثَنَا عمر بن جعفر بن محمد بن سلم الختلي حَدَّثَنَا الحارث بن أَبِي أسامة قَالَ حَدَّثَنِي إسماعيل بن مُحَمَّد- ثقة- قَالَ: لما بلغ سُفْيَان بن عيينة قتل جعفر بن يَحْيَى، وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إِلَى الكعبة وَقَالَ: اللهم إنه كان قد كفاني مئونة الدنيا، فاكفه مئونة الآخرة.
أَخْبَرَنِي الحسن بن أبي بكر قَالَ كتب إلي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الجوري- من شيراز- يذكر أن أحمد بن حمدان بن الخضر أخبره، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن يونس الضبي حدَّثَنِي أَبُو حسان الزيادي. قَالَ سنة سبع وثمانين ومائة فيها قتل جعفر بن يَحْيَى بن خالد، فِي أول يوم من صفر، بالغمر من أرض الأنبار.
أخبرنا إبراهيم بن مخلد- إجازة- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ البغوي. وأخبرنا الأزهرى- قراءة- أخبرنا على بن عمر الحافظ أخبرنا عبد الله بن إسحاق أخبرنا الحارث بن محمّد حدّثنا مُحَمَّد بْن سعد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمر الواقدي: سنة سبع وثمانين ومائة فيها نزل هارون بن مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله الغمر بناحية الأنبار منصرفا من مكة، وغضب عَلَى البرامكة، وقتل جعفر بن يَحْيَى بن خالد فِي أول يوم من صفر، وصلبه عَلَى الجسر ببغداد.