عَبْدُ الْقَوِيِّ يروي عَن مَكْحُول روى عَنهُ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ قَالَ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يَاسِينَ عَنْ عَبْدِ الْقَوِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا عبد الله بِمثل الْفِقْه
I pay $140/month to host my websites. If you wish to help, please use the following button (secure payments with Stripe).
Jump to entry:الذهاب إلى موضوع رقم:
500100015002000250030003500400045005000550060006500700075008000850090009500100001050011000115001200012500130001350014000145001500015500160001650017000175001800018500190001950020000205002100021500220002250023000235002400024500250002550026000265002700027500280002850029000295003000030500310003150032000325003300033500340003450035000355003600036500370003750038000385003900039500400004050041000415004200042500430004350044000445004500045500460004650047000475004800048500490004950050000505005100051500520005250053000535005400054500550005550056000565005700057500580005850059000595006000060500610006150062000625006300063500640006450065000655006600066500670006750068000685006900069500700007050071000715007200072500730007350074000745007500075500760007650077000775007800078500790007950080000805008100081500820008250083000835008400084500850008550086000865008700087500880008850089000895009000090500910009150092000925009300093500940009450095000955009600096500970009750098000985009900099500100000100500Similar and related entries:
مواضيع متعلقة أو مشابهة بهذا الموضوع
عَبْدُ العَظِيْمِ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ عَبْدِ القَوِيِّ بنِ عَبْدِ اللهِ المُنْذِرِيُّ
الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ، المُحَقِّقُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، زَكِيّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
العَظِيْمِ بن عَبْدِ القوِيّ بن عَبْدِ اللهِ بنِ سَلاَمَةَ بنِ سَعْدٍ المُنْذِرِيّ، الشَّامِيّ الأَصْل، المِصْرِيّ، الشَّافِعِيّ.وُلِدَ: فِي غُرَة شَعْبَان، سَنَة إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدٍ الأَرتَاحِي، وَهُوَ أَوّل شَيْخٍ لَقِيَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ، وَمِنْ عُمَرَ بنِ طَبَرْزَذَ، وَهُوَ أَعْلَى شَيْخ لَهُ، وَمِنْ أَبِي الجُوْدِ غِيَاث المُقْرِئ، وَسِتّ الكَتَبَةِ بِنْت عَلِيِّ ابنِ الطّرَاح، وَمَنْ يُوْنُس بن يَحْيَى الهَاشِمِيّ لقِيه بِمَكَّةَ، وَجَعْفَر بن مُحَمَّدِ بنِ آمُوسَانَ، أَملَى عَلَيْهِ بِالمَدِيْنَةِ، وَعَلِيِّ بنِ المُفَضَّلِ الحَافِظ، وَلاَزَمَهُ مُدَّةً، وَبِهِ تَخرَّجَ، وَعَبْدِ المُجِيْبِ بنِ زُهَيْرٍ الحَرْبِيّ، وَإِبْرَاهِيْم بن البُتَيتِ، وَأَبِي رَوحٍ البَيْهَقِيّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ ابْنِ البَنَّاءِ الصُّوْفِيِّ، وَعَلِيّ بن أَبِي الكَرَمِ ابْن البَنَّاء الخَلاَّل، وَأَبِي المَعَالِي مُحَمَّد بن الزَّنْفِ، وَأَبِي اليُمْنِ زَيْدِ بنِ الحَسَنِ الكِنْدِيِّ، وَأَبِي الفُتُوْح ابْن الجَلاَجُلِيّ، وَأَبِي المَعَالِي أَسَعْد بن المُنَجَّى مُصَنِّفِ (الخلاَصَة) ، وَأَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَيِّدِهِم الأَنْصَارِيّ، وَأَحْمَد بن عَبْدِ اللهِ السُّلَمِيّ العَطَّار، وَالشَّيْخ أَبِي عُمَرَ بن قُدَامَةَ، وَدَاوُد بن مُلاَعِبَ، وَأَبِي نَزَارٍ رَبِيْعَة بن الحَسَنِ الحَضْرَمِيّ، وَالإِمَام مُوَفَّق الدِّيْنِ ابْنِ قُدَامَةَ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن عَبْدِ الجَبَّارِ العُثْمَانِيّ، وَمُوْسَى بن عَبْدِ القَادِرِ الجِيْلِيّ، وَالعَلاَّمَة أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن نَجْم بن شَاس المَالِكِيِّ،
وَالقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُجَلِّي، وَعَبْد الجَلِيْل بن مَنْدَوَيْه الأَصْبَهَانِيّ، وَالوَاعِظ عَلِيّ بن إِبْرَاهِيْمَ بنِ نَجَا الأَنْصَارِيّ - سَمِعَهُ يَعظ - وَنَجِيْب بن بِشَارَة السَّعْدِيّ، سَمِعَ مِنْ كِتَابِ(العُنوَان) ، وَعَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَاقَا، وَمُحَمَّد بن عِمَادٍ، وَأَبِي المَحَاسِن بن شَدَّادٍ، وَأَبِي طَالِبٍ بنِ حَدِيد، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ لَقِيَهُم بِالحَرَمَيْنِ وَمِصْر وَالشَّام وَالجَزِيْرَة.
وَعَمِلَ (المُعْجَم) فِي مُجَلَّد، وَ (المُوَافِقَاتِ) فِي مُجَلَّد، وَاختصرَ (صَحِيْح مُسْلِم) وَ (سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ) ، وَتَكلَّمَ عَلَى رِجَالِهِ، وَعَزَاهُ إِلَى (الصَّحِيْحَيْنِ) أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ لَيَّنَهُ، وَصَنَّفَ شَرحاً كَبِيْراً (لِلتَّنبِيهِ) فِي الفِقْهِ، وَصَنَّفَ (الأَرْبَعِيْنَ) ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ القِرَاءاتِ عَلَى: أَبِي الثَّنَاءِ حَامِدِ بنِ أَحْمَدَ الأَتَارحِيِّ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الإِمَامِ أَبِي القَاسِمِ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدٍ القُرَشِيّ الشَّافِعِيّ، وَأَخَذَ العَرَبِيَّة عَنْ: أَبِي الحُسَيْنِ يَحْيَى بن عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيّ.
قَالَ الحَافِظُ عِزّ الدِّيْنِ الحُسَيْنِيّ : درس شَيْخنَا بِالجَامِع الظَّافرِي، ثُمَّ وَلِي مَشْيَخَة الدَّار الكَامِليَّة، وَانقطع بِهَا عَاكفاً عَلَى العِلْم، وَكَانَ عَدِيْم النَّظِيْر فِي علم الحَدِيْث عَلَى اخْتِلاَف فُنُونه، ثَبْتاً، حُجَّة، وَرِعاً، مُتحرِّياً، قَرَأْت عَلَيْهِ قِطعَة حَسَنَة مِنْ حَدِيْثِهِ، وَانتفعتُ بِهِ كَثِيْراً.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو الحُسَيْنِ اليُوْنِيْنِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيّ، وَالشَّرَف المَيْدُوْمِي، وَالتَّقِيّ عبيد، وَالشَّيْخ مُحَمَّد القَزَّاز، وَالفَخْر ابْن عَسَاكِرَ، وَعَلَم الدِّيْنِ الدوَادَارِي، وَقَاضِي القُضَاةِ ابْن دَقِيق العِيْد، وَعَبْد القَادِرِ بن مُحَمَّدٍ الصَّعْبِي، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيْمَ الوزِيْرِي، وَالحُسَيْن بن أَسَدِ ابْن الأَثِيْرِ، وَعَلِيّ بن إِسْمَاعِيْلَ بن قُرَيْش المَخْزُوْمِيّ، وَالعِمَادُ ابْن الجرَائِدِيِّ، وَأَبُو العَبَّاسِ ابْن الدُّفوفِي، وَيُوْسُف بن عُمَرَ الخُتَنِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.وَدرَّس بِالجَامِعِ الظَّافرِي مُدَّة قَبْل مَشْيَخَة الكَامِليَّة، وَكَانَ يَقُوْلُ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَلَمْ نَظفر بِذَلِكَ، وَأَجَاز لَهُ مَرْوِيَّاتِه، وَكَانَ مَتِينَ الدّيَانَةِ، ذَا نُسكٍ وَورعٍ وَسَمْتٍ وَجَلاَلَةٍ.
قَالَ شَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ شَيْخِي وَمُخَرِّجِي، أَتيتُه مُبتدِئاً، وَفَارَقْتُهُ مُعِيداً لَهُ فِي الحَدِيْثِ.
ثُمَّ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي رَابعِ ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَرَثَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِقَصَائِدَ حَسَنَةٍ.
وَقَالَ الشَّرِيْف عِزّ الدِّيْنِ أَيْضاً: كَانَ شَيْخنَا زَكِيّ الدِّيْنِ عَالِماً بِصَحِيْحِ الحَدِيْثِ وَسَقِيمِهِ، وَمَعلُولِهِ وَطُرُقِهِ، مُتبحِّراً فِي مَعْرِفَةِ أَحكَامِهِ وَمَعَانِيْهِ وَمُشكِلِهِ، قَيِّماً بِمَعْرِفَةِ غَرِيبِهِ وَإِعرَابِهِ وَاخْتِلاَفِ أَلْفَاظِهِ، إِمَاماً، حُجَّة.
قُلْتُ: وَمَاتَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السّنَة: أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ المُسْتَعْصِم بِاللهِ أَبُو أَحْمَدَ مَقْتُولاً شهيداً عِنْد أَخْذِ بَغْدَاد، وَابْنَاهُ؛ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَعمَامُه؛ عَلِيٌّ وَحسنٌ وَسُلَيْمَان وَيُوْسُف وَحَبِيْبٌ بَنُوْ الخَلِيْفَة الظَّاهِر، وَابْنَا عَمّه؛ حُسَيْن وَيَحْيَى وَلَدَا عَلِيٍّ، وَملك الأُمَرَاء مُجَاهِد الدِّيْنِ أَيبك الدويدَار، وَسُلَيْمَان
شَاه، وَفتح الدِّيْنِ ابْن كرّ، وَعِدَّة أُمَرَاء كِبَارِ، وَالمُحْتَسِب عَبْد الرَّحْمَنِ ابْن الجَوْزِيّ، وَأَخُوْهُ؛ تَاج الدِّيْنِ عَبْد الكَرِيْمِ، وَالقَاضِي أَبُو المَنَاقِب مَحْمُوْد بن أَحْمَدَ الزَّنْجَانِيّ عَالِم الوَقْت، وَشَرَف الدِّيْنِ مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ سُكَيْنَة قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَنَقِيْب العَلَوِيَّة أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ النَسَّابَة، وَشَيْخ الشُّيُوْخ صَدْر الدِّيْنِ ابْن النَّيَّار، وَابْن أَخِيْهِ عَبْد اللهِ، وَمُهَذَّب الدِّيْنِ عَبْد اللهِ بن عَسْكَر البعقوبِي، وَالقَاضِي بُرْهَان الدِّيْنِ القَزْوِيْنِيّ، وَالقَاضِي إِبْرَاهِيْم النَّهْرفصلِيُّ، وَالخَطِيْب عَبْد اللهِ بن عَبَّاسٍ الرَّشِيْدِيّ، وَشَيْخ التَّجْوِيد عَلِيٌّ ابنُ الكُتُبِيِّ، وَتَقِيّ الدِّيْنِ المُوْسَوِيّ نَقيب المَشْهَد، وَشَرَف الدِّيْنِ مُحَمَّد بن طَاوس العَلَوِيّ، وَخَلْقٌ مِنَ الصُّدُوْرِ قُتِلُوا صَبْراً، وَأُسْتَاذ الدَّار مُحْيِي الدِّيْنِ يُوْسُف ابْن الجَوْزِيِّ، وَسَيِّد الشُّعَرَاء جَمَال الدِّيْنِ يَحْيَى بن يُوْسُفَ الصَّرصرِيُّ، وَشَيْخ القُرَّاء عَفِيْف الدِّيْنِ المُرَجَّى بن الحَسَنِ بنِ شُقَيْرَاءَ الوَاسِطِيّ السَّفَّار، وَعَالِم الإِسْكَنْدَرِيَّة أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ القُرْطُبِيّ، وَالحَافِظ صَدْر الدِّيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الحَسَنُبنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ ابنِ البَكْرِيِّ، وَشَيْخ اللُّغَة شَرَف الدِّيْنِ الحُسَيْن بن إِبْرَاهِيْمَ الإِرْبِلِيّ، وَالصَّاحب بَهَاء الدِّيْنِ زُهَيْر بن مُحَمَّدٍ المُهَلَّبِيُّ المِصْرِيُّ الشَّاعِر، وَصَاحِب الكَرَك الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن المُعَظَّم عِيْسَى ابْن العَادل، وَخَطِيْب بَيْت الأَبَّارِ عِمَاد الدِّيْنِ دَاوُد بن عُمَرَ المَقْدِسِيّ خَطِيْب دِمَشْق، وَالشَّيْخ الزَّاهِد أَبُو الحَسَنِ الشَّاذلِي عَلِيّ بن عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ المَغْرِبِيّ بِعيذَابَ، وَشَيْخ القُرَّاء أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الفَاسِي بِحَلَبَ، وَمُقْرِئ المَوْصِل الإِمَام مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الحَنْبَلِيّ شُعْلَة شَابّاً، وَخَطِيْب مَرْدَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ المَقْدِسِيّ الحَنْبَلِيّ، وَالمُسْنِدُ ابْن خَطِيْب القَرَافَةِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَان بن عَلِيٍّ القُرَشِيّ، وَالمُحَدِّث شَمْس الدِّيْنِ عَلِيّ بن مُظَفَّر النُّشْبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم فِي (تَارِيخِي الكَبِيْرِ) .
أَخْبَرْنَا إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ المُؤَدِّبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ العَظِيْمِ الحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَمْدٍ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ المَوْصِلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ قُسَيْمٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ القَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ المَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوْبُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ:أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ، يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ البَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ.
أَخْرَجَهُ: النَّسَائِيُّ، عَنْ يَعْقُوْبَ الدَّوْرَقِيِّ.
الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ، المُحَقِّقُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، زَكِيّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
العَظِيْمِ بن عَبْدِ القوِيّ بن عَبْدِ اللهِ بنِ سَلاَمَةَ بنِ سَعْدٍ المُنْذِرِيّ، الشَّامِيّ الأَصْل، المِصْرِيّ، الشَّافِعِيّ.وُلِدَ: فِي غُرَة شَعْبَان، سَنَة إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدٍ الأَرتَاحِي، وَهُوَ أَوّل شَيْخٍ لَقِيَهُ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ، وَمِنْ عُمَرَ بنِ طَبَرْزَذَ، وَهُوَ أَعْلَى شَيْخ لَهُ، وَمِنْ أَبِي الجُوْدِ غِيَاث المُقْرِئ، وَسِتّ الكَتَبَةِ بِنْت عَلِيِّ ابنِ الطّرَاح، وَمَنْ يُوْنُس بن يَحْيَى الهَاشِمِيّ لقِيه بِمَكَّةَ، وَجَعْفَر بن مُحَمَّدِ بنِ آمُوسَانَ، أَملَى عَلَيْهِ بِالمَدِيْنَةِ، وَعَلِيِّ بنِ المُفَضَّلِ الحَافِظ، وَلاَزَمَهُ مُدَّةً، وَبِهِ تَخرَّجَ، وَعَبْدِ المُجِيْبِ بنِ زُهَيْرٍ الحَرْبِيّ، وَإِبْرَاهِيْم بن البُتَيتِ، وَأَبِي رَوحٍ البَيْهَقِيّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ ابْنِ البَنَّاءِ الصُّوْفِيِّ، وَعَلِيّ بن أَبِي الكَرَمِ ابْن البَنَّاء الخَلاَّل، وَأَبِي المَعَالِي مُحَمَّد بن الزَّنْفِ، وَأَبِي اليُمْنِ زَيْدِ بنِ الحَسَنِ الكِنْدِيِّ، وَأَبِي الفُتُوْح ابْن الجَلاَجُلِيّ، وَأَبِي المَعَالِي أَسَعْد بن المُنَجَّى مُصَنِّفِ (الخلاَصَة) ، وَأَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَيِّدِهِم الأَنْصَارِيّ، وَأَحْمَد بن عَبْدِ اللهِ السُّلَمِيّ العَطَّار، وَالشَّيْخ أَبِي عُمَرَ بن قُدَامَةَ، وَدَاوُد بن مُلاَعِبَ، وَأَبِي نَزَارٍ رَبِيْعَة بن الحَسَنِ الحَضْرَمِيّ، وَالإِمَام مُوَفَّق الدِّيْنِ ابْنِ قُدَامَةَ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن عَبْدِ الجَبَّارِ العُثْمَانِيّ، وَمُوْسَى بن عَبْدِ القَادِرِ الجِيْلِيّ، وَالعَلاَّمَة أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن نَجْم بن شَاس المَالِكِيِّ،
وَالقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُجَلِّي، وَعَبْد الجَلِيْل بن مَنْدَوَيْه الأَصْبَهَانِيّ، وَالوَاعِظ عَلِيّ بن إِبْرَاهِيْمَ بنِ نَجَا الأَنْصَارِيّ - سَمِعَهُ يَعظ - وَنَجِيْب بن بِشَارَة السَّعْدِيّ، سَمِعَ مِنْ كِتَابِ(العُنوَان) ، وَعَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَاقَا، وَمُحَمَّد بن عِمَادٍ، وَأَبِي المَحَاسِن بن شَدَّادٍ، وَأَبِي طَالِبٍ بنِ حَدِيد، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ لَقِيَهُم بِالحَرَمَيْنِ وَمِصْر وَالشَّام وَالجَزِيْرَة.
وَعَمِلَ (المُعْجَم) فِي مُجَلَّد، وَ (المُوَافِقَاتِ) فِي مُجَلَّد، وَاختصرَ (صَحِيْح مُسْلِم) وَ (سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ) ، وَتَكلَّمَ عَلَى رِجَالِهِ، وَعَزَاهُ إِلَى (الصَّحِيْحَيْنِ) أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ لَيَّنَهُ، وَصَنَّفَ شَرحاً كَبِيْراً (لِلتَّنبِيهِ) فِي الفِقْهِ، وَصَنَّفَ (الأَرْبَعِيْنَ) ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ القِرَاءاتِ عَلَى: أَبِي الثَّنَاءِ حَامِدِ بنِ أَحْمَدَ الأَتَارحِيِّ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الإِمَامِ أَبِي القَاسِمِ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدٍ القُرَشِيّ الشَّافِعِيّ، وَأَخَذَ العَرَبِيَّة عَنْ: أَبِي الحُسَيْنِ يَحْيَى بن عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيّ.
قَالَ الحَافِظُ عِزّ الدِّيْنِ الحُسَيْنِيّ : درس شَيْخنَا بِالجَامِع الظَّافرِي، ثُمَّ وَلِي مَشْيَخَة الدَّار الكَامِليَّة، وَانقطع بِهَا عَاكفاً عَلَى العِلْم، وَكَانَ عَدِيْم النَّظِيْر فِي علم الحَدِيْث عَلَى اخْتِلاَف فُنُونه، ثَبْتاً، حُجَّة، وَرِعاً، مُتحرِّياً، قَرَأْت عَلَيْهِ قِطعَة حَسَنَة مِنْ حَدِيْثِهِ، وَانتفعتُ بِهِ كَثِيْراً.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو الحُسَيْنِ اليُوْنِيْنِيّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيّ، وَالشَّرَف المَيْدُوْمِي، وَالتَّقِيّ عبيد، وَالشَّيْخ مُحَمَّد القَزَّاز، وَالفَخْر ابْن عَسَاكِرَ، وَعَلَم الدِّيْنِ الدوَادَارِي، وَقَاضِي القُضَاةِ ابْن دَقِيق العِيْد، وَعَبْد القَادِرِ بن مُحَمَّدٍ الصَّعْبِي، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيْمَ الوزِيْرِي، وَالحُسَيْن بن أَسَدِ ابْن الأَثِيْرِ، وَعَلِيّ بن إِسْمَاعِيْلَ بن قُرَيْش المَخْزُوْمِيّ، وَالعِمَادُ ابْن الجرَائِدِيِّ، وَأَبُو العَبَّاسِ ابْن الدُّفوفِي، وَيُوْسُف بن عُمَرَ الخُتَنِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.وَدرَّس بِالجَامِعِ الظَّافرِي مُدَّة قَبْل مَشْيَخَة الكَامِليَّة، وَكَانَ يَقُوْلُ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَلَمْ نَظفر بِذَلِكَ، وَأَجَاز لَهُ مَرْوِيَّاتِه، وَكَانَ مَتِينَ الدّيَانَةِ، ذَا نُسكٍ وَورعٍ وَسَمْتٍ وَجَلاَلَةٍ.
قَالَ شَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ شَيْخِي وَمُخَرِّجِي، أَتيتُه مُبتدِئاً، وَفَارَقْتُهُ مُعِيداً لَهُ فِي الحَدِيْثِ.
ثُمَّ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي رَابعِ ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَرَثَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِقَصَائِدَ حَسَنَةٍ.
وَقَالَ الشَّرِيْف عِزّ الدِّيْنِ أَيْضاً: كَانَ شَيْخنَا زَكِيّ الدِّيْنِ عَالِماً بِصَحِيْحِ الحَدِيْثِ وَسَقِيمِهِ، وَمَعلُولِهِ وَطُرُقِهِ، مُتبحِّراً فِي مَعْرِفَةِ أَحكَامِهِ وَمَعَانِيْهِ وَمُشكِلِهِ، قَيِّماً بِمَعْرِفَةِ غَرِيبِهِ وَإِعرَابِهِ وَاخْتِلاَفِ أَلْفَاظِهِ، إِمَاماً، حُجَّة.
قُلْتُ: وَمَاتَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السّنَة: أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ المُسْتَعْصِم بِاللهِ أَبُو أَحْمَدَ مَقْتُولاً شهيداً عِنْد أَخْذِ بَغْدَاد، وَابْنَاهُ؛ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَعمَامُه؛ عَلِيٌّ وَحسنٌ وَسُلَيْمَان وَيُوْسُف وَحَبِيْبٌ بَنُوْ الخَلِيْفَة الظَّاهِر، وَابْنَا عَمّه؛ حُسَيْن وَيَحْيَى وَلَدَا عَلِيٍّ، وَملك الأُمَرَاء مُجَاهِد الدِّيْنِ أَيبك الدويدَار، وَسُلَيْمَان
شَاه، وَفتح الدِّيْنِ ابْن كرّ، وَعِدَّة أُمَرَاء كِبَارِ، وَالمُحْتَسِب عَبْد الرَّحْمَنِ ابْن الجَوْزِيّ، وَأَخُوْهُ؛ تَاج الدِّيْنِ عَبْد الكَرِيْمِ، وَالقَاضِي أَبُو المَنَاقِب مَحْمُوْد بن أَحْمَدَ الزَّنْجَانِيّ عَالِم الوَقْت، وَشَرَف الدِّيْنِ مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ سُكَيْنَة قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَنَقِيْب العَلَوِيَّة أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ النَسَّابَة، وَشَيْخ الشُّيُوْخ صَدْر الدِّيْنِ ابْن النَّيَّار، وَابْن أَخِيْهِ عَبْد اللهِ، وَمُهَذَّب الدِّيْنِ عَبْد اللهِ بن عَسْكَر البعقوبِي، وَالقَاضِي بُرْهَان الدِّيْنِ القَزْوِيْنِيّ، وَالقَاضِي إِبْرَاهِيْم النَّهْرفصلِيُّ، وَالخَطِيْب عَبْد اللهِ بن عَبَّاسٍ الرَّشِيْدِيّ، وَشَيْخ التَّجْوِيد عَلِيٌّ ابنُ الكُتُبِيِّ، وَتَقِيّ الدِّيْنِ المُوْسَوِيّ نَقيب المَشْهَد، وَشَرَف الدِّيْنِ مُحَمَّد بن طَاوس العَلَوِيّ، وَخَلْقٌ مِنَ الصُّدُوْرِ قُتِلُوا صَبْراً، وَأُسْتَاذ الدَّار مُحْيِي الدِّيْنِ يُوْسُف ابْن الجَوْزِيِّ، وَسَيِّد الشُّعَرَاء جَمَال الدِّيْنِ يَحْيَى بن يُوْسُفَ الصَّرصرِيُّ، وَشَيْخ القُرَّاء عَفِيْف الدِّيْنِ المُرَجَّى بن الحَسَنِ بنِ شُقَيْرَاءَ الوَاسِطِيّ السَّفَّار، وَعَالِم الإِسْكَنْدَرِيَّة أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ القُرْطُبِيّ، وَالحَافِظ صَدْر الدِّيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الحَسَنُبنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ ابنِ البَكْرِيِّ، وَشَيْخ اللُّغَة شَرَف الدِّيْنِ الحُسَيْن بن إِبْرَاهِيْمَ الإِرْبِلِيّ، وَالصَّاحب بَهَاء الدِّيْنِ زُهَيْر بن مُحَمَّدٍ المُهَلَّبِيُّ المِصْرِيُّ الشَّاعِر، وَصَاحِب الكَرَك الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن المُعَظَّم عِيْسَى ابْن العَادل، وَخَطِيْب بَيْت الأَبَّارِ عِمَاد الدِّيْنِ دَاوُد بن عُمَرَ المَقْدِسِيّ خَطِيْب دِمَشْق، وَالشَّيْخ الزَّاهِد أَبُو الحَسَنِ الشَّاذلِي عَلِيّ بن عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ المَغْرِبِيّ بِعيذَابَ، وَشَيْخ القُرَّاء أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الفَاسِي بِحَلَبَ، وَمُقْرِئ المَوْصِل الإِمَام مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الحَنْبَلِيّ شُعْلَة شَابّاً، وَخَطِيْب مَرْدَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ المَقْدِسِيّ الحَنْبَلِيّ، وَالمُسْنِدُ ابْن خَطِيْب القَرَافَةِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَان بن عَلِيٍّ القُرَشِيّ، وَالمُحَدِّث شَمْس الدِّيْنِ عَلِيّ بن مُظَفَّر النُّشْبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم فِي (تَارِيخِي الكَبِيْرِ) .
أَخْبَرْنَا إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ المُؤَدِّبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ العَظِيْمِ الحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَمْدٍ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ المَوْصِلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ قُسَيْمٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ القَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ المَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوْبُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ:أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ، يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ البَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ.
أَخْرَجَهُ: النَّسَائِيُّ، عَنْ يَعْقُوْبَ الدَّوْرَقِيِّ.
عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب
قال عبد اللَّه: سمعت أبي يقول: من كنيته من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو عبد الرحمن: عبد اللَّه بن مسعود أبو عبد الرحمن، ومعاذ بن جبل أبو عبد الرحمن، وعبد اللَّه بن عمر أبو عبد الرحمن.
"العلل" رواية عبد اللَّه (393)، (1761)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان قال: كان ابن عمر ابن عشرين سنة يوم دخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكعبة.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1551)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا أبو داود قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا سلمة يقول: مات ابن عمر وهو مثل عمر يوم قتل. قال عبد اللَّه: يعني في الفضل.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1827)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا هشام بن عروة قال: رأيت جابر بن عبد اللَّه وابن عمر ولكل واحد منهما جمة.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1969)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر قال: لم يبايع ابن الزبير، ولا حسين، ولا ابن عمر يزيد بن معاوية في حياة معاوية، قال: فتركهم معاوية.
"العلل" رواية عبد اللَّه (4748)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا الحارث بن عمير، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: كانوا يرون أنه ليس أحد أعلم بالمناسك بعد ابن عفان من ابن عمر. وقال مرة: كان ابن عمر أعلم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمناسك بعد ابن عفان.
"العلل" رواية عبد اللَّه (5886)
قال عبد اللَّه: سمعت أبي يقول: من كنيته من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو عبد الرحمن: عبد اللَّه بن مسعود أبو عبد الرحمن، ومعاذ بن جبل أبو عبد الرحمن، وعبد اللَّه بن عمر أبو عبد الرحمن.
"العلل" رواية عبد اللَّه (393)، (1761)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان قال: كان ابن عمر ابن عشرين سنة يوم دخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكعبة.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1551)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا أبو داود قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا سلمة يقول: مات ابن عمر وهو مثل عمر يوم قتل. قال عبد اللَّه: يعني في الفضل.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1827)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا هشام بن عروة قال: رأيت جابر بن عبد اللَّه وابن عمر ولكل واحد منهما جمة.
"العلل" رواية عبد اللَّه (1969)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر قال: لم يبايع ابن الزبير، ولا حسين، ولا ابن عمر يزيد بن معاوية في حياة معاوية، قال: فتركهم معاوية.
"العلل" رواية عبد اللَّه (4748)
قال عبد اللَّه: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا الحارث بن عمير، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: كانوا يرون أنه ليس أحد أعلم بالمناسك بعد ابن عفان من ابن عمر. وقال مرة: كان ابن عمر أعلم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمناسك بعد ابن عفان.
"العلل" رواية عبد اللَّه (5886)
عبد الله بن عمر بن الخطاب
ب د ع: عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب الْقُرَشِيّ العدوي، يرد نسبه عند ذكر أَبِيهِ إن شاء اللَّه تَعَالى أمه، وأم أخته حفصة: زينب بِنْت مظعون بْن حبيب الجمحية.
أسلم مَعَ أَبِيهِ وهو صغير لم يبلغ الحلم، وَقَدْ قيل: إن إسلامه قبل إسلام أَبِيهِ، ولا يصح، وَإِنما كانت هجرته قبل هجرة أَبِيهِ، فظن بعضُ النَّاس، أن إسلامه قبل إسلامه أَبِيهِ، وأجمعوا عَلَى أَنَّهُ لم يشهد بدرًا، استصغره النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردَّه، واختلفوا فِي شهوده أحدًا، فقيل: شهدها، وقيل: رده رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غيره ممن لم يبلغ الحلمُ.
(850) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: أَيُّ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟، قَالُوا: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَخَرَجَ عُمَرُ، وَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ، وَأَنَا غُلَيْمٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا جَمِيلُ، أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ؟، فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ الْكَلامَ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَخَرَجَ عُمَرُ يَتْبَعُهُ، وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ ...
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ والصحيح أن أول مشاهدة الخندق، وشهد غزوة مؤتة مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب رَضِي اللَّه عَنْهُمْ أجمعين، وشهد اليرموك، وفتح مصر، وَإِفريقية، وكان كَثِير الأتباع لآثار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى إنه ينزل منازله، ويصلي فِي كل مكان صلى فِيهِ، وحتى إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تحت شجرة، فكان ابْنُ عُمَر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس.
(851) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِمْ إِلَى أَبِي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّمَا بِيَدِي قِطْعَةُ إِسْتَبْرَقٍ، وَلا أُشِيرُ بِهَا إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ "، أَوْ " إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ "
(852) أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلَيَّ، إِجَازَةً، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْخُنَيْسِيُّ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ، وَوَضَعُوا السُّفْرَةَ لَهُ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ فَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَلُمَّ يَا رَاعِي، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ الشَّدِيدِ سَمُومُهُ، وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَرْعَى هَذِهِ الْغَنَمَ؟، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أُبَادِرُ أَيَّامِي هَذِهِ الْخَالِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتَبِرَ وَرَعَهُ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا وَنُعْطِيَكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ؟، قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا يَفْعَلُ سَيِّدُكَ إِذَا فَقَدَهَا؟، فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ، وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ قَوْلَ الرَّاعِي، يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللَّهُ؟، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلاهُ، فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمِ وَالرَّاعِي، فَأَعْتَقَ الرَّاعِي، وَوَهَبَ مِنْهُ الْغَنَمَ
(853) قال: وأَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو المعالي مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر البيهقي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الحافظ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سهل الفقيه، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن معقل، حَدَّثَنَا حرملة، حَدَّثَنَا ابْنُ وهب، قَالَ: قَالَ مَالِك: " قَدْ أقام ابْنُ عُمَر بعد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستين سنة يفتي النَّاس فِي الموسم، وغير ذَلِكَ، قَالَ مَالِك: وكان ابْنُ عُمَر من أئمة المسلمين "
(854) قَالَ: وأَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن عَبْد الباقي، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الجوهري، وأَخْبَرَنَا أَبُو عُمَر بْن حيوية، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن معروف، حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القهم، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قَالَ: أخبرت عَنْ مجالد، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَر جيد الحديث، ولم يكن جيد الفقه.
وكان ابْنُ عُمَر شديد الاحتياط، والتوقي لدينه فِي الفتوى، وكل ما تأخذ بِهِ نفسه، حتَّى إنه ترك المنازعة فِي الخلافة مَعَ كثرة ميل أهل الشام إِلَيْه ومحبتهم لَهُ، ولم يقاتل فِي شيء من الفتن، ولم يشهد مَعَ عليّ شيئًا من حروبه، حين أشكلت عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ بعد ذَلِكَ يندم عَلَى ترك القتال معه.
(855) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو غَانِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ، أَخْبَرَنَا عَمِّي أَبُو الْمَجْدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّمِرِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ رَغْبَانَ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: " مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي مِنَ الدُّنْيَا، إِلا أَنِّي لَمْ أُقَاتِلِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ ".
أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: مَعَ عَلِيٍّ.
وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَا مِنَّا إِلا مَنْ مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ بِهَا، مَا خَلا عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وقَالَ لَهُ مروان بْن الحكم ليبايع لَهُ بالخلافة، وقَالَ لَهُ: إن أهل الشام يريدونك، قَالَ: فكيف أصنع بأهل العراق؟ قَالَ: نقاتلهم، قَالَ: والله لو أطاعني النَّاس كلهم إلا أهل فدك، فإن قاتلتهم يقتل منهم رَجُل واحد، لم أفعل، فتركه.
وكان بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر الحج، وكان كَثِير الصدقة، وربما تصدق فِي المجلس الواحد بثلاثين ألفًا.
قَالَ نافع: كَانَ ابْنُ عُمَر إِذَا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه قَدْ عرفوا ذَلِكَ مِنْهُ، فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابْنُ عُمَر عَلَى تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول لَهُ أصحابه: يا أبا عَبْد الرَّحْمَن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابْنُ عُمَر: من خدعنا بالله انخدعنا لَهُ.
قَالَ نافع: ولقد رأيتنا ذات عشية، وراح ابْنُ عُمَر عَلَى نجيب لَهُ قَدْ أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه بمكانه، ثُمَّ نزل عَنْهُ، فَقَالَ: يا نافع، انزعوا عَنْهُ زمامه، ورحله وأشعروه وجللوه وأدخلوه فِي البدن.
وقَالَ نافع: دخل ابْنُ عُمَر الكعبة، فسمعته وهو ساجد، يَقُولُ: قَدْ تعلم يا ربي ما يمنعني من مزاحمة قريش عَلَى الدنيا إلا خوفك.
وقَالَ نافع: كَانَ ابْنُ عُمَر إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} بكى حتَّى يغلبه البكاء.
وقَالَ ابْنُ عُمَر: البرّ شيء هين، وجه طلق، وكلام لين.
وروى ابْنُ عُمَر، عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكثر.
وروى عَنْ: أَبِي بَكْر، وعمر، وعثمان، وأبي ذر، ومعاذ ابْنُ جبل، ورافع بْن خديج، وأبي هُرَيْرَةَ، وعائشة.
روى عَنْهُ: ابْنُ عَبَّاس، وجابر، والأغر المزني من الصحابة.
وروى عَنْهُ من التابعين بنوه: سالم، وعبد اللَّه، وحمزة، وَأَبُو سَلَمة، وحُميد ابنا عَبْد الرَّحْمَن، ومصعب بْن سعد، وسعيد المسيب، وأسلم مَوْلَى عُمَر، ونافع مولاه، وخلق كَثِير.
(856) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَدْرَانَ الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَفَرْجَلٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ، قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا مَاتَ، وَهُوَ مُدْمِنُهَا، لَمْ يَشْرَبْ مِنْهَا فِي الآخِرَةِ "
(857) وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُسْلِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَمِيسٍ الْجُهَنِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ طَوْقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْمَرْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْمَرْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِبَعْضِ جَسَدِي، وَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ "، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنَّما هِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، جَزَاءٌ بِجَزَاءٍ، وَقِصَاصٌ بِقِصَاصٍ، وَلا تَتَبَرَّأْ مِنْ وَلَدِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَتَبَرَّإِ اللَّهُ مِنْكَ فِي الآخِرَةِ، فَيَفْضَحْكَ عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ، وَمَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " توفي عَبْد اللَّه بْن عُمَر سنة ثلاث وسبعين، بعد قتل ابْنُ الزُّبَيْر بثلاثة أشهر، وكان سبب قتله أن الحجاج أمر رجلًا فسم زج رمح وزحمه فِي الطريق، ووضع الزج فِي ظهر قدامه، وَإِنما فعل الحجاج ذَلِكَ، لأنَّه خطب يومًا وأخر الصلاة، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَر: إن الشمس لا تنتظرك، فَقَالَ لَهُ الحجاج: لقد هممت أن أضرب الَّذِي فِيهِ عيناك، قَالَ: إن تفعل فإنك سفيه مسلط.
وقيل: إن الحجاج حج مَعَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، فأمره عَبْد الملك بْن مروان، أن يقتدي بابن عُمَر، فكان ابْنُ عُمر يتقدم الحجاج فِي المواقف بعرفه وغيرها، فكان ذَلِكَ يشق عَلَى الحجاج، فأمر رجلًا معه حربة مسمومة، فلصق بابن عُمَر عند دفع النَّاس، فوضع الحربة عَلَى ظهر قدمه، فمرض منها أيامًا، فأتاه الحجاج يعوده، فَقَالَ لَهُ: من فعل بك؟ قَالَ: وما تصنع؟ قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتله، قَالَ: ما أراك فاعلًا، أنت أمرت الذي نخسني بالحرية، فَقَالَ: لا تفعل يا أبا عَبْد الرَّحْمَن، وخرج عَنْهُ، ولبث أيامًا، ومات وصلى عَلَيْهِ الحجاج.
ومات وهو ابْنُ ست وثمانين سنة، وقيل: أربع وثمانين سنة، وقيل: توفي سنة أربع وسبعين، ودفن بالمحصب، وقيل بذي طوي، وقيل: بفج، وقيل: بسرف.
قيل: كَانَ مولده قبل المبعث بسنة، وهذا يستقيم عَلَى قول من يجهل مقام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة بعد المبعث عشر سنين، لأنه توفي سنة ثلاث وسبعين، وعمره أربع وثمانون سنة، فيكون لَهُ فِي الهجرة إحدى عشرة سنة، فيكون مولده قبل المبعث بسنة، وأمَّا عَلَى قول من ذهب إِلَى أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُجزه يَوْم أُحد، وكان لَهُ أربع عشرة سنة، وكانت أُحد فِي السنة الثالثة، فيكون لَهُ فِي الهجرة إحدى عشرة سنة، وأمَّا عَلَى قول من يَقُولُ: إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بعد المبعث بمكة ثلاث عشرة سنة، وأن عُمَر عَبْد اللَّه أربع وثمانون سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين، وأمَّا عَلَى قول من يجعل عمره ستًا وثمانين سنة، فيكون مولده وقت المبعث، والله أعلم
ب د ع: عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب الْقُرَشِيّ العدوي، يرد نسبه عند ذكر أَبِيهِ إن شاء اللَّه تَعَالى أمه، وأم أخته حفصة: زينب بِنْت مظعون بْن حبيب الجمحية.
أسلم مَعَ أَبِيهِ وهو صغير لم يبلغ الحلم، وَقَدْ قيل: إن إسلامه قبل إسلام أَبِيهِ، ولا يصح، وَإِنما كانت هجرته قبل هجرة أَبِيهِ، فظن بعضُ النَّاس، أن إسلامه قبل إسلامه أَبِيهِ، وأجمعوا عَلَى أَنَّهُ لم يشهد بدرًا، استصغره النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردَّه، واختلفوا فِي شهوده أحدًا، فقيل: شهدها، وقيل: رده رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غيره ممن لم يبلغ الحلمُ.
(850) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: أَيُّ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟، قَالُوا: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَخَرَجَ عُمَرُ، وَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ، وَأَنَا غُلَيْمٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا جَمِيلُ، أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ؟، فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ الْكَلامَ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَخَرَجَ عُمَرُ يَتْبَعُهُ، وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ ...
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ والصحيح أن أول مشاهدة الخندق، وشهد غزوة مؤتة مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب رَضِي اللَّه عَنْهُمْ أجمعين، وشهد اليرموك، وفتح مصر، وَإِفريقية، وكان كَثِير الأتباع لآثار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى إنه ينزل منازله، ويصلي فِي كل مكان صلى فِيهِ، وحتى إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تحت شجرة، فكان ابْنُ عُمَر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس.
(851) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِمْ إِلَى أَبِي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّمَا بِيَدِي قِطْعَةُ إِسْتَبْرَقٍ، وَلا أُشِيرُ بِهَا إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ "، أَوْ " إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ "
(852) أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلَيَّ، إِجَازَةً، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْخُنَيْسِيُّ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ، وَوَضَعُوا السُّفْرَةَ لَهُ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ فَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَلُمَّ يَا رَاعِي، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ الشَّدِيدِ سَمُومُهُ، وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَرْعَى هَذِهِ الْغَنَمَ؟، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أُبَادِرُ أَيَّامِي هَذِهِ الْخَالِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتَبِرَ وَرَعَهُ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا وَنُعْطِيَكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ؟، قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا يَفْعَلُ سَيِّدُكَ إِذَا فَقَدَهَا؟، فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ، وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ قَوْلَ الرَّاعِي، يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللَّهُ؟، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلاهُ، فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمِ وَالرَّاعِي، فَأَعْتَقَ الرَّاعِي، وَوَهَبَ مِنْهُ الْغَنَمَ
(853) قال: وأَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو المعالي مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر البيهقي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الحافظ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سهل الفقيه، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن معقل، حَدَّثَنَا حرملة، حَدَّثَنَا ابْنُ وهب، قَالَ: قَالَ مَالِك: " قَدْ أقام ابْنُ عُمَر بعد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستين سنة يفتي النَّاس فِي الموسم، وغير ذَلِكَ، قَالَ مَالِك: وكان ابْنُ عُمَر من أئمة المسلمين "
(854) قَالَ: وأَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن عَبْد الباقي، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الجوهري، وأَخْبَرَنَا أَبُو عُمَر بْن حيوية، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن معروف، حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القهم، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قَالَ: أخبرت عَنْ مجالد، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَر جيد الحديث، ولم يكن جيد الفقه.
وكان ابْنُ عُمَر شديد الاحتياط، والتوقي لدينه فِي الفتوى، وكل ما تأخذ بِهِ نفسه، حتَّى إنه ترك المنازعة فِي الخلافة مَعَ كثرة ميل أهل الشام إِلَيْه ومحبتهم لَهُ، ولم يقاتل فِي شيء من الفتن، ولم يشهد مَعَ عليّ شيئًا من حروبه، حين أشكلت عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ بعد ذَلِكَ يندم عَلَى ترك القتال معه.
(855) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو غَانِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ، أَخْبَرَنَا عَمِّي أَبُو الْمَجْدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّمِرِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ رَغْبَانَ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: " مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي مِنَ الدُّنْيَا، إِلا أَنِّي لَمْ أُقَاتِلِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ ".
أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: مَعَ عَلِيٍّ.
وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَا مِنَّا إِلا مَنْ مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ بِهَا، مَا خَلا عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وقَالَ لَهُ مروان بْن الحكم ليبايع لَهُ بالخلافة، وقَالَ لَهُ: إن أهل الشام يريدونك، قَالَ: فكيف أصنع بأهل العراق؟ قَالَ: نقاتلهم، قَالَ: والله لو أطاعني النَّاس كلهم إلا أهل فدك، فإن قاتلتهم يقتل منهم رَجُل واحد، لم أفعل، فتركه.
وكان بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر الحج، وكان كَثِير الصدقة، وربما تصدق فِي المجلس الواحد بثلاثين ألفًا.
قَالَ نافع: كَانَ ابْنُ عُمَر إِذَا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه قَدْ عرفوا ذَلِكَ مِنْهُ، فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابْنُ عُمَر عَلَى تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول لَهُ أصحابه: يا أبا عَبْد الرَّحْمَن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابْنُ عُمَر: من خدعنا بالله انخدعنا لَهُ.
قَالَ نافع: ولقد رأيتنا ذات عشية، وراح ابْنُ عُمَر عَلَى نجيب لَهُ قَدْ أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه بمكانه، ثُمَّ نزل عَنْهُ، فَقَالَ: يا نافع، انزعوا عَنْهُ زمامه، ورحله وأشعروه وجللوه وأدخلوه فِي البدن.
وقَالَ نافع: دخل ابْنُ عُمَر الكعبة، فسمعته وهو ساجد، يَقُولُ: قَدْ تعلم يا ربي ما يمنعني من مزاحمة قريش عَلَى الدنيا إلا خوفك.
وقَالَ نافع: كَانَ ابْنُ عُمَر إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} بكى حتَّى يغلبه البكاء.
وقَالَ ابْنُ عُمَر: البرّ شيء هين، وجه طلق، وكلام لين.
وروى ابْنُ عُمَر، عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكثر.
وروى عَنْ: أَبِي بَكْر، وعمر، وعثمان، وأبي ذر، ومعاذ ابْنُ جبل، ورافع بْن خديج، وأبي هُرَيْرَةَ، وعائشة.
روى عَنْهُ: ابْنُ عَبَّاس، وجابر، والأغر المزني من الصحابة.
وروى عَنْهُ من التابعين بنوه: سالم، وعبد اللَّه، وحمزة، وَأَبُو سَلَمة، وحُميد ابنا عَبْد الرَّحْمَن، ومصعب بْن سعد، وسعيد المسيب، وأسلم مَوْلَى عُمَر، ونافع مولاه، وخلق كَثِير.
(856) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَدْرَانَ الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَفَرْجَلٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ، قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا مَاتَ، وَهُوَ مُدْمِنُهَا، لَمْ يَشْرَبْ مِنْهَا فِي الآخِرَةِ "
(857) وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُسْلِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَمِيسٍ الْجُهَنِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ طَوْقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْمَرْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْمَرْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِبَعْضِ جَسَدِي، وَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ "، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنَّما هِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، جَزَاءٌ بِجَزَاءٍ، وَقِصَاصٌ بِقِصَاصٍ، وَلا تَتَبَرَّأْ مِنْ وَلَدِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَتَبَرَّإِ اللَّهُ مِنْكَ فِي الآخِرَةِ، فَيَفْضَحْكَ عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ، وَمَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " توفي عَبْد اللَّه بْن عُمَر سنة ثلاث وسبعين، بعد قتل ابْنُ الزُّبَيْر بثلاثة أشهر، وكان سبب قتله أن الحجاج أمر رجلًا فسم زج رمح وزحمه فِي الطريق، ووضع الزج فِي ظهر قدامه، وَإِنما فعل الحجاج ذَلِكَ، لأنَّه خطب يومًا وأخر الصلاة، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَر: إن الشمس لا تنتظرك، فَقَالَ لَهُ الحجاج: لقد هممت أن أضرب الَّذِي فِيهِ عيناك، قَالَ: إن تفعل فإنك سفيه مسلط.
وقيل: إن الحجاج حج مَعَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، فأمره عَبْد الملك بْن مروان، أن يقتدي بابن عُمَر، فكان ابْنُ عُمر يتقدم الحجاج فِي المواقف بعرفه وغيرها، فكان ذَلِكَ يشق عَلَى الحجاج، فأمر رجلًا معه حربة مسمومة، فلصق بابن عُمَر عند دفع النَّاس، فوضع الحربة عَلَى ظهر قدمه، فمرض منها أيامًا، فأتاه الحجاج يعوده، فَقَالَ لَهُ: من فعل بك؟ قَالَ: وما تصنع؟ قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتله، قَالَ: ما أراك فاعلًا، أنت أمرت الذي نخسني بالحرية، فَقَالَ: لا تفعل يا أبا عَبْد الرَّحْمَن، وخرج عَنْهُ، ولبث أيامًا، ومات وصلى عَلَيْهِ الحجاج.
ومات وهو ابْنُ ست وثمانين سنة، وقيل: أربع وثمانين سنة، وقيل: توفي سنة أربع وسبعين، ودفن بالمحصب، وقيل بذي طوي، وقيل: بفج، وقيل: بسرف.
قيل: كَانَ مولده قبل المبعث بسنة، وهذا يستقيم عَلَى قول من يجهل مقام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة بعد المبعث عشر سنين، لأنه توفي سنة ثلاث وسبعين، وعمره أربع وثمانون سنة، فيكون لَهُ فِي الهجرة إحدى عشرة سنة، فيكون مولده قبل المبعث بسنة، وأمَّا عَلَى قول من ذهب إِلَى أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُجزه يَوْم أُحد، وكان لَهُ أربع عشرة سنة، وكانت أُحد فِي السنة الثالثة، فيكون لَهُ فِي الهجرة إحدى عشرة سنة، وأمَّا عَلَى قول من يَقُولُ: إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بعد المبعث بمكة ثلاث عشرة سنة، وأن عُمَر عَبْد اللَّه أربع وثمانون سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين، وأمَّا عَلَى قول من يجعل عمره ستًا وثمانين سنة، فيكون مولده وقت المبعث، والله أعلم
عبد الله بن عمر بن الخطاب، أحد حفّاظ هذه الأمّة، وقدوة الحفّاظ، أحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفان ومئتان وعشرة.
عبد الله بن عمر بن الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤى القرشى العدوىّ : يكنى أبا عبد الرحمن. شهد فتح مصر ، واختط بها . روى عنه أكثر من أربعين رجلا من أهل مصر .
عبد الله بن عمر بن الخطاب كنيته أبو عبد الرحمن كان مولده قبل الوحي بسنة لم يشهد بدرا وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو بن أربع عشرة سنة فلم يجزه ولم يره بلغ ثم عرض عليه يوم الخندق وهو بن خمس عشرة فأجازه وكان من صالحي الصحابة وقرائهم وزهادهم ولم يشتغل في هذه الدنيا بالصفراء ولا بالتمتع بالبيضاء ولا ضم درهما إلى درهم وكان من أكثرهم تتبعا لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم استعمالا لها اعتزل الفتن وقعد في البيت عن الناس إلا أن يخرج حاجا أو معتمرا أو غازيا إلا أن أدركته المنية على حالته تلك بمكة وهو حاج سنة ثلاث وسبعين وبها دفن رضه
عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن
قال محمد بن عمر: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب وأمه زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.
وكان إسلام عبد الله بمكة مع إسلام أبيه ولم يكن بلغ يومئذ وهاجر مع أبيه إلى المدينة.
حدثني ابن زنجويه قال: سمعت يعلى بن عبيد يذكر عن الأعمش عن عطية بن سعد: أن عبد الله بن عمر يكنى أبا عبد الرحمن.
- حدثني محمد بن عبد الملك بن زنجويه نا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب
قال: كان عبد الله بن عمر يشبه أباه عمر بن الخطاب وكان سالم أشبه أباه عبد الله بن عمر.
- حدثني زهير بن محمد نا حسين بن محمد نا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: رأيت ابن عمر في السعي بين الصفا والمروة فإذا هو رجل ضخم آدم.
- حدثني جدي نا ابن زنجويه نا هشام بن عروة قال: رأيت بن عمر له جمة.
- حدثنا علي بن الجعد نا شريك عن محمد بن قيس قال: رأيت ابن عمر يصفر لحيته.
- حدثنا عبد الأعلى بن حماد نا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن زيد قال: رأيت ابن عمر يصفر لحيته بالخلوق والزعفران.
- حدثنا [محرز] بن عون نا خالد بن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي حكيم قال: رأيت ابن عمر ////يخضب بالورس.
- حدثني ابن المقرىء نا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: شهد ابن عمر فتح مكة وهو ابن عشرين سنة.
- حدثني علي بن مسلم الطوسي نا عبد الصمد عن عبد الوارث نا حماد - يعني ابن سلمة - عن علي بن زيد عن أنس وسعيد بن المسيب قالا: ابن عمر شهد بدرا.
- حدثني إسماعيل بن إسحاق نا محمد بن أبي بكر نا حماد بن زيد عن عبيد الله بن نافع عن ابن عمر: أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فلم يقبله.
قال أبو القاسم: وهذا وهم وقد رواه عن عبيد الله جماعة لم يقولوا يوم بدر وقالوا: يوم أحد.
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس وعبد الرحيم ح
وثني سويد بن سعيد نا علي بن مسهر ح
وحدثني يعقوب بن إبراهيم نا يحيى بن سعيد القطان ح
وحدثني علي بن مسلم نا ابن نمير ح
وحدثني علي بن مسلم نا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج كلهم عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
قال أبو القاسم: ورواه مسدد عن حماد بن زيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قبلنا النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورافع بن خديج يوم الخندق وأنا وهو ابنا خمس عشرة.
- حدثنيه إسماعيل عن مسدد.
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا ابن إدريس عن مطرف عن أبي إسحاق عن البراء قال: عرضت أنا وابن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغرنا وشهدنا أحدا.
- حدثني عمي عن الزبير قال: هاجر عبد الله بن عمر مع أبيه
وأمه إلى المدينة وهو ابن عشر سنين.
- حدثنا علي بن الجعد أخبرنا شريك عن محمد بن قيس قال: رأيت ابن عمر محلل أزرار القميص.
- حدثنا شجاع نا أبو معاوية وابن نمير ح
وحدثني زياد بن المبارك نا عبدة كلهم عن الأعمش عن ثابت بن عبيد قال: ما رأيت ابن عمر ولا ابن عباس زرا قميصا قط.
- حدثني جدي نا يزيد أنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر متوسدا مرفقه من أدم حشوها ليف.
- حدثنا أبو الربيع الزهراني نا حماد بن زيد ح
وحدثني جدي وزياد بن أيوب قالا: نا إسماعيل بن إبراهيم ح
ونا عبد الأعلى نا وهيب قالوا: نا أيوب عن نافع عن ابن عمر
قال: رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير لا أهوى بها إلى مكان من الجنة غلا طار بي إليه فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن ////أخاك رجل صالح أو إن عبد الله رجل صالح.
واللفظ لحديث [عبد الأعلى]
- حسين بن محمد الذراع نا عبد الأعلى بن عباد نا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى عبد الله بن عمر فقال: " الحمد لله الذي هدى من الضلالة ويلبس الضلالة على من يحب ".
- حدثنا خلف بن هشام البزار نا خالد بن عبد الله ح
وحدثني جدي نا عباد بن العوام جميعا عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها إلا ابن عمر.
- حدثنا ابن فروخ نا أبو هلال نا قتادة عن سعيد بن المسيب قال: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
قال الزبير: وكان عبد الله بن عمر يحفظ ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يحضر يسأل من حضر عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل، وكان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مسجد صلى فيه وكان يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له في ذلك فيقول: أتحرى أن تقع أخفاف راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- حدثنا أحمد بن حنبل وجدي قالا: نا إسماعيل بن إبراهيم ح ونا أبو الربيع الزهراني نا حماد بن زيد نا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خطب ونزل عن منبره. قال حماد في حديثه: فقلت لأصحابي وفي حديث إسماعيل: فقلت: ما قام به
رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم؟ قالوا: نهى عن الدباء والمزفت.
- حدثنا محمد بن أبي عبد الرحمن نا سفيان عن عمر عن محمد بن علي قال: كان ابن عمر إذا سمع الحديث لم يزد فيه ولم ينقص منه ولم يجاوزه ولم يقصر عنه.
- حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القطان نا محمد بن بشر قال: سمعت خالد عن سعيد يذكر عن أبيه قال: ما رأيت أحدا كان أشد اتقاء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عمر.
- حدثنا عمرو الناقد نا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا.
- حدثنا هدبة نا مهدي بن ميمون قال: سمعت غيلان بن جرير قال: جعل رجل يقول لابن عمر: أرأيت أرأيت؟ فقال ابن عمر: اجعل أرأيت عند الثريا.
- حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع نا عمر بن عبد الواحد العمري عن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد.
- حدثني عيسى بن سالم أبو سعيد الشاشي نا أبو المليح عن ميمون ////قال: بعث عبد الله بن عامر حين حضرته الوفاة إلى مشيخة من أهل المدينة وفيهم ابن عمر فقال: أخبروني كيف كانت سيرتي؟ قالوا: كنت تصدق وتعتق وتصل رحمك. قال: وابن عمر ساكت فقال: يا أبا عبد الرحمن مالك ما منعك أن تتكلم؟ قال: قد تكلم القوم. قال: عزمت عليك لتكلمن. قال: فقال: إذا طابت المكسبة زكت النفقة وستقدم فترى.
- حدثنا شيبان نا سلام بن مسكين قال: سمعت الحسن قال: لما كان من اختلاف الناس ما كان أتوا عبد الله بن عمر فقالوا: أنت سيد الناس وابن سيدهم أخرج يبايعك الناس فكلهم بك راض فقال: والله لا تراق محجمة من دم في سببي ما كان في الروح ثم أتى فقيل له: لتخرجن او لتقتلن على فراشك، فقال مثلها، فوالله ما استقلوا منه شيئا حتى
لحق بالله تعالى.
- حدثنا عيسى بن سالم نا أبو المليح عن ميمون قال: دخلت على ابن عمر فقومت كل شيء في بيته فما وجدته يساوي طيلساني، قال: ودخلت على سالم من بعده فوجدته على مثل حاله.
- حدثنا محمد بن بكار نا أبو معشر عن عبد الرحمن بن يسار قال: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كلام الله فقال ابن عمر: كذبت ليس تبديل كلام الله بيدك ولا بيد ابن الزبير كتاب الله أعز من أن يبدل قال: فقال الناس لابن عمر: أخرج أخرج فأبا أن يخرج حتى صلى معه.
حدثنا أحمد بن إبراهيم العبدي قال: سمعت أبا نعيم يقول: توفي ابن عمر سنة ثلاث وسبعين.
وقال محمد بن عمر: حدثني خالد بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: مات ابن عمر ودفن بفخ سنة أربع وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان وكان يوم مات ابن أربع وثمانين سنة.
وقال ابن عمر: حدثني معمر عن الزهري عن سالم قال: أوصاني أبي أن أدفنه خارجا من الحرم فلم نقدر فدفناه في الحرم بفخ في مقبرة المهاجرين.
حدثنا أحمد بن منصور نا يحيى بن بكير قال: توفي عبد الله بن عمر بمكة بعد الحج ودفن بالمحصب وبعض الناس يقول: بفخ وسنة يوم توفي أربع وثمانون.
حدثني أحمد بن منصور نا عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم أنا ابن وهب عن ابن القاسم عن مالك قال: أقام ابن عمر
بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة تقدم عليه وفود الناس.
قال ابن عبد الحكم وأخبرني أبي عن ابن القاسم عن مالك قال: سن ابن عمر سبع وثمانون سنة.
وقال ابن عمر: أخبرنا مالك بن أنس قال: قال أبو جعفر أمير المؤمنين: كيف أخذتم بقول ابن عمر من بين الأقاويل؟ قلت: لأنه تقي يا أمير المؤمنين وكان له فضل//// عند الناس ووجدنا من تقدمنا أخذ به فأخذنا به قال: فخذ بقوله وإن خالف عا [] وابن عباس رضي الله عنهم.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت سفيان بن [عيينة] يقول: قال عمر: ما منكم إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه
راجعون خلا [عبد الله] فإني أحب أن يبقى ليأخذ به الناس.
[عن قتادة قال: سمعت ابن المسيب يقول: كان ابن عمر يوم مات خير من بقي].
قال محمد بن عمر: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب وأمه زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.
وكان إسلام عبد الله بمكة مع إسلام أبيه ولم يكن بلغ يومئذ وهاجر مع أبيه إلى المدينة.
حدثني ابن زنجويه قال: سمعت يعلى بن عبيد يذكر عن الأعمش عن عطية بن سعد: أن عبد الله بن عمر يكنى أبا عبد الرحمن.
- حدثني محمد بن عبد الملك بن زنجويه نا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب
قال: كان عبد الله بن عمر يشبه أباه عمر بن الخطاب وكان سالم أشبه أباه عبد الله بن عمر.
- حدثني زهير بن محمد نا حسين بن محمد نا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: رأيت ابن عمر في السعي بين الصفا والمروة فإذا هو رجل ضخم آدم.
- حدثني جدي نا ابن زنجويه نا هشام بن عروة قال: رأيت بن عمر له جمة.
- حدثنا علي بن الجعد نا شريك عن محمد بن قيس قال: رأيت ابن عمر يصفر لحيته.
- حدثنا عبد الأعلى بن حماد نا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن زيد قال: رأيت ابن عمر يصفر لحيته بالخلوق والزعفران.
- حدثنا [محرز] بن عون نا خالد بن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي حكيم قال: رأيت ابن عمر ////يخضب بالورس.
- حدثني ابن المقرىء نا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: شهد ابن عمر فتح مكة وهو ابن عشرين سنة.
- حدثني علي بن مسلم الطوسي نا عبد الصمد عن عبد الوارث نا حماد - يعني ابن سلمة - عن علي بن زيد عن أنس وسعيد بن المسيب قالا: ابن عمر شهد بدرا.
- حدثني إسماعيل بن إسحاق نا محمد بن أبي بكر نا حماد بن زيد عن عبيد الله بن نافع عن ابن عمر: أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فلم يقبله.
قال أبو القاسم: وهذا وهم وقد رواه عن عبيد الله جماعة لم يقولوا يوم بدر وقالوا: يوم أحد.
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس وعبد الرحيم ح
وثني سويد بن سعيد نا علي بن مسهر ح
وحدثني يعقوب بن إبراهيم نا يحيى بن سعيد القطان ح
وحدثني علي بن مسلم نا ابن نمير ح
وحدثني علي بن مسلم نا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج كلهم عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
قال أبو القاسم: ورواه مسدد عن حماد بن زيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قبلنا النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورافع بن خديج يوم الخندق وأنا وهو ابنا خمس عشرة.
- حدثنيه إسماعيل عن مسدد.
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا ابن إدريس عن مطرف عن أبي إسحاق عن البراء قال: عرضت أنا وابن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغرنا وشهدنا أحدا.
- حدثني عمي عن الزبير قال: هاجر عبد الله بن عمر مع أبيه
وأمه إلى المدينة وهو ابن عشر سنين.
- حدثنا علي بن الجعد أخبرنا شريك عن محمد بن قيس قال: رأيت ابن عمر محلل أزرار القميص.
- حدثنا شجاع نا أبو معاوية وابن نمير ح
وحدثني زياد بن المبارك نا عبدة كلهم عن الأعمش عن ثابت بن عبيد قال: ما رأيت ابن عمر ولا ابن عباس زرا قميصا قط.
- حدثني جدي نا يزيد أنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر متوسدا مرفقه من أدم حشوها ليف.
- حدثنا أبو الربيع الزهراني نا حماد بن زيد ح
وحدثني جدي وزياد بن أيوب قالا: نا إسماعيل بن إبراهيم ح
ونا عبد الأعلى نا وهيب قالوا: نا أيوب عن نافع عن ابن عمر
قال: رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير لا أهوى بها إلى مكان من الجنة غلا طار بي إليه فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن ////أخاك رجل صالح أو إن عبد الله رجل صالح.
واللفظ لحديث [عبد الأعلى]
- حسين بن محمد الذراع نا عبد الأعلى بن عباد نا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى عبد الله بن عمر فقال: " الحمد لله الذي هدى من الضلالة ويلبس الضلالة على من يحب ".
- حدثنا خلف بن هشام البزار نا خالد بن عبد الله ح
وحدثني جدي نا عباد بن العوام جميعا عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها إلا ابن عمر.
- حدثنا ابن فروخ نا أبو هلال نا قتادة عن سعيد بن المسيب قال: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
قال الزبير: وكان عبد الله بن عمر يحفظ ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يحضر يسأل من حضر عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل، وكان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مسجد صلى فيه وكان يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له في ذلك فيقول: أتحرى أن تقع أخفاف راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- حدثنا أحمد بن حنبل وجدي قالا: نا إسماعيل بن إبراهيم ح ونا أبو الربيع الزهراني نا حماد بن زيد نا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خطب ونزل عن منبره. قال حماد في حديثه: فقلت لأصحابي وفي حديث إسماعيل: فقلت: ما قام به
رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم؟ قالوا: نهى عن الدباء والمزفت.
- حدثنا محمد بن أبي عبد الرحمن نا سفيان عن عمر عن محمد بن علي قال: كان ابن عمر إذا سمع الحديث لم يزد فيه ولم ينقص منه ولم يجاوزه ولم يقصر عنه.
- حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القطان نا محمد بن بشر قال: سمعت خالد عن سعيد يذكر عن أبيه قال: ما رأيت أحدا كان أشد اتقاء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عمر.
- حدثنا عمرو الناقد نا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا.
- حدثنا هدبة نا مهدي بن ميمون قال: سمعت غيلان بن جرير قال: جعل رجل يقول لابن عمر: أرأيت أرأيت؟ فقال ابن عمر: اجعل أرأيت عند الثريا.
- حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع نا عمر بن عبد الواحد العمري عن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد.
- حدثني عيسى بن سالم أبو سعيد الشاشي نا أبو المليح عن ميمون ////قال: بعث عبد الله بن عامر حين حضرته الوفاة إلى مشيخة من أهل المدينة وفيهم ابن عمر فقال: أخبروني كيف كانت سيرتي؟ قالوا: كنت تصدق وتعتق وتصل رحمك. قال: وابن عمر ساكت فقال: يا أبا عبد الرحمن مالك ما منعك أن تتكلم؟ قال: قد تكلم القوم. قال: عزمت عليك لتكلمن. قال: فقال: إذا طابت المكسبة زكت النفقة وستقدم فترى.
- حدثنا شيبان نا سلام بن مسكين قال: سمعت الحسن قال: لما كان من اختلاف الناس ما كان أتوا عبد الله بن عمر فقالوا: أنت سيد الناس وابن سيدهم أخرج يبايعك الناس فكلهم بك راض فقال: والله لا تراق محجمة من دم في سببي ما كان في الروح ثم أتى فقيل له: لتخرجن او لتقتلن على فراشك، فقال مثلها، فوالله ما استقلوا منه شيئا حتى
لحق بالله تعالى.
- حدثنا عيسى بن سالم نا أبو المليح عن ميمون قال: دخلت على ابن عمر فقومت كل شيء في بيته فما وجدته يساوي طيلساني، قال: ودخلت على سالم من بعده فوجدته على مثل حاله.
- حدثنا محمد بن بكار نا أبو معشر عن عبد الرحمن بن يسار قال: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كلام الله فقال ابن عمر: كذبت ليس تبديل كلام الله بيدك ولا بيد ابن الزبير كتاب الله أعز من أن يبدل قال: فقال الناس لابن عمر: أخرج أخرج فأبا أن يخرج حتى صلى معه.
حدثنا أحمد بن إبراهيم العبدي قال: سمعت أبا نعيم يقول: توفي ابن عمر سنة ثلاث وسبعين.
وقال محمد بن عمر: حدثني خالد بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: مات ابن عمر ودفن بفخ سنة أربع وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان وكان يوم مات ابن أربع وثمانين سنة.
وقال ابن عمر: حدثني معمر عن الزهري عن سالم قال: أوصاني أبي أن أدفنه خارجا من الحرم فلم نقدر فدفناه في الحرم بفخ في مقبرة المهاجرين.
حدثنا أحمد بن منصور نا يحيى بن بكير قال: توفي عبد الله بن عمر بمكة بعد الحج ودفن بالمحصب وبعض الناس يقول: بفخ وسنة يوم توفي أربع وثمانون.
حدثني أحمد بن منصور نا عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم أنا ابن وهب عن ابن القاسم عن مالك قال: أقام ابن عمر
بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة تقدم عليه وفود الناس.
قال ابن عبد الحكم وأخبرني أبي عن ابن القاسم عن مالك قال: سن ابن عمر سبع وثمانون سنة.
وقال ابن عمر: أخبرنا مالك بن أنس قال: قال أبو جعفر أمير المؤمنين: كيف أخذتم بقول ابن عمر من بين الأقاويل؟ قلت: لأنه تقي يا أمير المؤمنين وكان له فضل//// عند الناس ووجدنا من تقدمنا أخذ به فأخذنا به قال: فخذ بقوله وإن خالف عا [] وابن عباس رضي الله عنهم.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت سفيان بن [عيينة] يقول: قال عمر: ما منكم إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه
راجعون خلا [عبد الله] فإني أحب أن يبقى ليأخذ به الناس.
[عن قتادة قال: سمعت ابن المسيب يقول: كان ابن عمر يوم مات خير من بقي].
عبد الله بن عمر بن الخطاب
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح أبو عبد الرحمن القرشي العدوي من المهاجرين، شهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق وما بعده من المشاهد، وشهد غزوة مؤتة مع زيد وجعفر، وشهد يوم اليرموك.
عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين - زاد في رواية: في بيته - وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته.
عن ابن عمر قال: بينا الناس في مسجد قباء، في صلاة الصبح إذ جاء رجل فقال: أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرآن، فأمر أن يتحول إلى الكعبة، فقال: هكذا يوصف أنهم استداروا إلى القبلة.
عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية، قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقامي، فسلم، فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل يبتدئ بالشهادة قبل أن يُسألها، وباليمين قبل أن يُسألها، فمن أراد بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون أحدكم بامرأةٍ، فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن ".
عن ابن عمر قال: أَصَبنا يوم اليرموك طعاماً وعلفاً فلم يقسم.
قال الزبير بن بكار:
فمن ولد عمر بن الخطاب: عبد الله بن عمر، استُصغر يوم أحد، وشهد الخندق مع رسول الله، وهاجر مع أبيه إلى المدينة، وهو ابن عشر سنين، وبقي حتى مات سنة ثلاثٍ وسبعين، وأخته لأبيه وأمه حفصة بنت عمر، زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الرحمن الأكبر؛ وأمهم: زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، كانت من المهاجرات وكان عبد الله بن عمر يتوجه في السرايا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان إسلام عبد الله بمكة مع إسلام أبيه، ولم يكن بلغ يومئذٍ، وكان ربعةً يخضب بالصفرة، وتوفي بمكة، ودفن بذي طوى، ويقال: دفن بفخ مقبرة المهاجرين، وكان لابن عمر مَقْدَم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة إحدى عشر سنةً.
قال أبو نعيم الحافظ: خال المؤمنين، من أملك شباب قريش عن الدنيا، كان آدم طالاً، له جمة مفروقة تضرب قريباً من منكبيه، يقص شاربه، ويصفر لحيته ويشمر إزاره، أعطي القوة في العبادة، وفي الجماع، كان من التمسك بآثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسبيل المبين، وأعطي المعرفة بالآخرة، والإيثار لها، لم تغيره الدنيا، ولم تفتنه كان من البكّائين الخاشعين، وعدّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصالحين، نقش خاتمه عبد الله لله، أصاب رجله زج رمحٍ، فورمت رجلاه، فتوفي منها بمكة سنة أربع - وقيل: سنة ثلاث - وسبعين، ودفن بالمُحصِّب، وقيل: بذي طوى، وقيل: بفخ، وقيل: بسرف، مات وهو ابن ست وثمانين.
قال الخطيب: خرج إلى العراق، فشهد يوم القادسية، ويوم جلولاء، وما بينهما من وقائع الفرس، وورد المدائن غير مرة.
عن الحارث بن جزء الزبيدي قال: توفي صاحب لي، فكنا على قبره أنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكان اسمي العاص، واسم ابن عمر العاص، واسم ابن عمرو العاص، فقال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انزلوا واقبروه، وأنتم عبيد الله " قال: فنزلنا فقبرنا أخانا، وصعدنا من القبر وقد بدلت أسماؤنا.
قال أبو إسحاق: رأيت ابن عمر رجلاً آدم جسيماً ضخماً في إزارٍ إلى نصف الساقين.
قال ابن عمر: إنما جاءتنا الأُدمة من قبل أخوالي، والخال أنزع شيءٍ، وجاءني البُضْع من
أخوالي؛ فهاتان الخصلتان لم تكونا في أبي، رحمه الله؛ كان أبي أبيض، لا يتزوج النساء شهوةً إلا لطلب الولد - وفي رواية: لشهوة.
وقال: عُرضْتُ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ وأنا ابن ثلاث عشرة فردني، ثم عرضت عليه يوم أحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر فأجازني.
قال يزيد بن هارون: وهو في الخندق ينبغي أن يكون ابن ست عشرة سنةً؛ لأن بين أحدٍ والخندق بدراً الصغرى.
عن البراء قال: عرضت أنا وابن عمر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ، فاستصغرنا، وشهدنا أحداً.
قال ابن عمر: شهدت الفتح وأنا ابن عشرين سنةً.
وكان ابن عمر يوم مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن اثنتين وعشرين سنةً.
عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لابن عمر: أشهدت بيعة الرضوان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قلت: فما كان عليه؟ قال: قميص من قطنٍ، وجبة محشوة، ورداء وسيف، ورأيت النعمان بن مقرن المزني قائماً على رأسه، قد رفع أغصان الشجرة عن رأسه، والناس يبايعونه.
عن ابن عمر قال: كان الرجل في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت غلاماً عزباً شاباً، وكنت أنام في
المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فرأيت في المنام كأن ملكين أتياني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، فإذا لها قرنان كقرني - وفي رواية: قرن كقرن - البئر، قال: فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك، فقال: لن تراع، قال: فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل " قال: فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
وفي رواية أخرى قال:
رأيت في المنام كأن في يدي سَرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصَّتها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إن أخاكِ رجل صالح، أو قال: إن عبد الله رجل صالح ".
وفي رواية أخرى قال: رأيت في المنام كأن بيدي قطعة إستبرق، ولا أشير بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارت بي إليه.
قال ابن عمر: كنت شاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط نخلٍ، فاستأذن أبو بكرٍ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائذنوا له، وبشروه بالجنة " ثم استأذن عمر، فقال: " ائذنوا له، وبشروه بالجنة " ثم استأذن عثمان، فقال: " ائذنوا له وبشروه بالجنة على بلوى تصيبه " قال: فدخل يبكي ويضحك.
قال عبد الله: فأنا يا نبي الله، قال: " أنت مع أبيك ".
عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب المهاجرين على خمسة آلاف، والأنصار على أربعة آلاف، ومن لم يشهد بدراً من أبناء المهاجرين على أربعة آلاف؛ وكان منهم: عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسدي المخزومي، وأسامة بن زيد، ومحمد بن عبد الله بن جحش الأسدي، وعبد الله بن عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: إن ابن عمر ليس من هؤلاء؛ إنه وإنه! فقال ابن عمر: إن كان لي حق فأعطنيه، وإلا فلا تعطني، فقال عمر لابن عوف: اكتبه على خمسة آلاف، واكتبني على أربعة آلاف، فقال عبد الله: لا أريد هذا، فقال عمر: والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف!.
قال عبد الله بن عمر: كساني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلة من حلل السير أهداها له فيروز، فلبست الإزار، فأغرقني طولاً وعرضاً، فسجبته، ولبست الرداء، فتقنعت به، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعاتقي، فقال: " يا عبد الله بن عمر، ارفع الإزار، فإن ما مست الأرض من الإزار إلى ما أسفل من الكعبين في النار "، فلم يُرَ أشد تشميراً من عبد الله بن عمر.
قال حذيفة: ما منا أحد يفتش إلا فُتّش عن جانفةٍ أو مثقلةٍ إلا عمر وابنه.
قال جابر بن عبد الله: من سره أن ينظر إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين مضوا قبله وبعده، ولم يغيروا، ولم يبدلوا فلينظر إلى هذا - يعني عبد الله بن عمر - وفي رواية: ما أحد منا أدرك الدنيا إلا مالت به، ومال بها إلا ابن عمر.
قالت عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر.
وقالت عائشة لابن عمر: ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد استولى على أمرك، وظننت أنك لن تخالفيه - يعني ابن الزبير - قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت، قال: وكانت تقول: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فإذا مر قيل لها: هذا ابن عمر، فلا تزال تنظر إليه.
عن السدي قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر، كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عبد الله بن عمر.
قال أبو سلمة: مات ابن عمر، وهو مثل عمر في الفضل.
وقال: إن عمر كان في زمَانٍ له فيه نظراء، وإن ابن عمر كان في زمان ليس له فيه نظير.
وقال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحدٍ أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وسئل عن العلم يكون في العمامة، فقال: كان عبد الله بن عمر يكرهه، وسئل عن الحرير، فقال: كان ابن عمر يوم مات خير من بقي، وكان يقول: إنه ثياب من لا خلاق له، وقال: مات ابن عمر يوم مات وما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه، وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: كان ابن عمر لا يصومه، قلت له: فغيره؟ قال: حسبك به شيخاً.
عن سالم قال: كان عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر لا يُعرف فيهما البِرُّ حتى يقولا أو يفعلا - يعني أنهما لم يكونا مؤنثين ولا متماوتين.
قال طاوس: ما رأيت رجلاً أورغ من ابن عمر.
قال بعض الخلفاء لمالك - يظن أنه هارون -: يا أبا عبد الله، ما لكم أقبلتم على عبد الله بن عمر، وتركتم ابن عباس؟ قال: لا على أمير المؤمنين ألا يسأل عن هذا، قال: فإن أمير المؤمنين يريد أن يعلم ذلك، قال: كان أورع الرجلين.
كان يقال: ما رجل أضل بعيره بأرض فلاةٍ؛ فهو في طلبه بأتبع له من عبد الله بن عمر لعمر.
عن القاسم بن محمد قال: كان ابن عمر قد أتعب أصحابه، فكيف من بعدهم؟! عن ابن عمر قال:
ما وضعت لبنةً على لبنةٍ ولا غرست نخلةً منذ توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي جعفر قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً أجدر ألا يزيد فيه، ولا ينقص منه، ولا، ولا، من عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وعن نافع: أن ابن عمر كان يتبع آثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مكان صلى فيه، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تحت شجرةٍ، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو تركنا هذا الباب للنساء " فلم يدخل فيه ابن عمر حتى مات.
قال الزبير بن بكار: كان عبد الله بن عمر يتحفظ ما سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويسأل إذا لم يحضر من حضر عما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو فعل، وكان يتبع آثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مسجد صلى فيه، وكان يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقال له في
ذلك، فيقول: إني أتحرى أن تقع أخفاف راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد شهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، فوقف معه بالموقف بعرفة، فكان يقف في ذلك الموقف كلما حج، وكان كثير الحج، حج عام قتل ابن الزبير مع الحجاج، وكان عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف يأمره ألا يخالف ابن عمر في الحج، فأتى ابن عمر حين زالت الشمس يوم عرفة، ومعه ابنه سالم، فصاح به عند سرادقه: الرواح، فخرج عليه الحجاج في معصفرةٍ، فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأمهلني أصب علي ماءً، فدخل ثم خرج، قال سالم: فسار بيني وبين أبي، فقلت له: إن كنت تحب أن تصيب السنة فعجل الصلاة، وأوجز الخطبة، فنظر إلى عبد الله ليسمع ذلك منه، فقال عبد الله: صدق، ثم انطلق حتى وقف في موقفه الذي كان يقف فيه، فكان ذلك الموقف بين يدي الحجاج، فأمر من نخس به حتى نفرت به ناقته فسكنها ابن عمر حتى سكنت، ثم ردها إلى ذلك الموقف، فوقف فيه، فأمر الحجاج أيضاً بناقته، فنخست، فنفرت بابن عمر، فسكّنها ابن عمر حتى سكنت، ثم ردها إلى ذلك الموقف، فثقل على الحجاج أمره، فأمر رجلاً معه حربة، يقال إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق به ذلك الرجل، فأَمَرَّ الحربة على قدمه، وهي في غرز رحله، فمرض منها أياماً، ثم مات بمكة، فدفن بها وصلى عليه الحجاج.
عن الشعبي قال: صحبت ابن عمر سنة، ما رأيته يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا حديثاً واحداً.
وفي رواية: جالست ابن عمر قريباً من سنتين، فما سمعته يحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ، غير أنه قال يوماً: كان ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلون ضباً فيهم سعد بن مالك، فنادتهم امرأة من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ضب، فأمسكوا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلوا فإنه حلال، ولا بأس به، ولكنه ليس من طعام قومي ".
وعن زيد بن عبد الله بن عمر: ما ذكر ابن عمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بكى، وما مر على ربعهم إلا غمض عينيه.
عن يوسف بن ماهك قال: رأيت ابن عمر وهو عند عبيد بن عمير، وعمير يقص، فرأيت ابن عمر عيناه تُهراقان دمعاً.
وعن عبيد بن عمير: أنه قرأ: " فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ " حتى ختم الآية، فجعل ابن عمر يبكي حتى لثقت لحيته وجيبه من دموعه، قال الذي كان إلى جنب ابن عمر: لقد أردت أن أقوم إلى عبيد بن عمير، فأقول له: أقصر عليك، فإنك قد آذيت هذا الشيخ!.
عن نافعٍ قال: وكان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " بكى حتى يغلبه البكاء.
عن القاسم بن أبي بزة، حدثني من سمع ابن عمر قرأ: " ويل للمطففين " فلما بلغ " يوم يقوم الناس لرب العالمين " بكى حتى خر، وامتنع من قراءة ما بعده.
عن ابن أبي مليكة قال: مر رجل على عبد الله بن عمر وهو ساجد في الحجر، وهو يبكي، فقال: أتعجب أن أبكي من خشية الله وهذا القمر يبكي من خشية الله! ونظر إلى القمر حين شفَّ أن يغيب.
قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا يطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
وعن نافع:
أن ابن عمر كان يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم قعد يستغفر الله، ويدعو حتى يصبح.
وكان ابن عمر إذا فاتته صلاةً في جماعة صلى إلى الصلاة الأخرى، فإذا فاتته العصر سبَّح إلى المغرب، ولقد فاتته صلاة عشاء الآخرة في جماعة فصلى حتى طلع الفجر.
قال: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر؛ إلا أن يمرض، أو أيام يَقْدَم؛ فإنه كان رجلاً كريماً يحب أن يؤكل عنده، قال: وكان يقول: ولأن أفطر في السفر، وآخذ برخصة الله أحب إلي من أن أصوم.
وعن سالم قال: ما لعن ابن عمر خادماً قط إلا مرة فأعتقه.
وعن نافع: أن عبد الله بن عمر كانت له جارية، فلما اشتد عجبه بها أعتقها وزوجها مولى له، فولدت غلاماً؛ فلقد رأيت عبد الله بن عمر يأخذ ذلك الصبي، فيقبِّله، ثم يقول: واهاً لريح فلانة - يعني الجارية التي أعتق.
قال زيد بن أسلم: مر عبد الله بن عمر براعٍ، فقال: يا راعي الغنم، هل من جزرةٍ؟ قال الراعي: ليس ها هنا ربها، فقال له ابن عمر: تقول إنه أكلها الذئب، قال: فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله! فاشترى ابن عمر الراعي، واشترى الغنم، فأعتقه، وأعطاه الغنم.
عن نافع قال: خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له، فوضعوا له سفرة له، فمر بهم راعي غنمٍ، قال: فسلم، فقال له ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأصب من هذه السُّفرة، فقال له: إني صائم، فقال له ابن عمر: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار الشديد سمومه، وأنت في هذه الحال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إني والله أبادر أيامي هذه الخالية، فقال له ابن عمر وهو يريد يختبر ورعه: فهل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها، فتفطر عليه - وساق الخبر.
وقال: كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيءٍ من ماله قربه لربه عز وجل وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم، ولزم المسجد، إذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك! فيقول ابن عمر: فمن خدعنا بالله انخدعنا له.
قال ميمون بن مهران: مر أصحاب نجدة الحروري على إبلٍ لعبد الله بن عمر، فاستاقوها، فجاء راعيها، فقال: يا أبا عبد الرحمن، احتسب الإبل، قال: ما لها؟ قال: مر بها أصحاب نجدة، فذهبوا بها، قال: كيف ذهبوا بالإبل وتركوك؟ قال: قد كانوا ذهبوا بي معها، لكني انفلت منهم، فما حملك على أن تركتهم وجئتني؟ قال: أنت أحب إلي منهم، قال: الله الذي لا إله إلا هو لأنا أحب إليك منهم؟ قال: فحلف له، قال: فإني أحتسبك معها؛ فأعتقه، فمكث ما مكث، ثم أتاه آتٍ، فقال: هل لك في ناقتك الفلانية؟ - سماها باسمها - ها هي بالسوق تباع، قال: أرني ردائي، فلما وضعه على منكبه وقام جلس، فوضع رداءه، ثم قال: كنت احتسبتها، فلِمَ أطلبها؟ وكاتب غلاماً له، ونجّمها عليه نجوماً، فلما حل أول النجم أتاه المكاتب به، فسأله ابن عمر: من أين أصبت هذا؟ قال: كنت أعمل وأسأل، قال: فجئتني بأوساخ الناس تريد أن تطعمنيها؟! أنت حر، ولك ما جئت به.
عن زاذان قال: كنت عند ابن عمر، فدعا غلاماً له، فأعتقه، ثم قال: ما لي فيه من أجرٍ ما يسوى هذا، أو يزن هذا - وتناول شيئاً من الأرض - سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ضرب عبداً له حداً لم يأته، أو ظلمه - أو لطمه، شك الراوي - فإن كفارته أن يعتقه ".
عن محمد العمري قال: أعطى عبد الله بن جعفر عبد الله بن عمر بنافعٍ عشرة آلاف درهم إلى ألف دينار، فدخل عبد الله على صفية امرأته، فقال: إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، فما تنتظرنّ؟! تبيع! قال: فهلا ما هو خير من ذلك؛ هو حر لوجه الله تعالى، قال: فكان يخيل إلي أن ابن عمر كان ينوي قول الله عز وجل " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ".
وروى سالم أنه لم يسمع عبد الله يلعن خادماً له قط، غير مرة واحدة غضب فيها على بعض خدمه، فقال له: لعنة الله عليك، كلمة لم أكن أحب أن أقولها.
عن نافع قال:
أُتي ابن عمر ببضعةٍ وعشرين ألفاً، فما قام من مجلسه حتى أعطاها، وزاد عليها، ولم يزل يعطي حتى أنفد ما كان عنده، فجاءه بعض من كان يعطيه، فاستقرض من بعض من كان أعطاه، فأعطاه.
وقال: عن ابن عمر أنه ربما تصدق في الشهر بثلاثين ألف درهم، وما يأكل فيه أكلة لحم، واشترى سمكة طرية بدرهم ونصف، فأتاه سائل، فتصدق بها عليها، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أيما امرئٍ اشتهى شهوةً، فرد شهوته، وآثر على نفسه غفر الله له ".
واشتكى ابن عمر فاشتهى العنب في غير زمانه، فطلبوه، فلم يجدوه له إلا عند رجلٍ سبع حباتٍ بدرهم، فأُشتري له، فجاء سائل، فأمر له به، ولم يذقه.
عن أبي بكر بن حفص قال: كان ابن عمر لا يحبس عن طعامه بين مكة والمدينة مجذوماً، ولا أبرص، ولا مبتلى حتى يقعدوا معه على مائدته؛ فبينما هو يوماً قاعداً على مائدته أقبل موليان من موالي أهل المدينة، فسلما، فرحبوا بهما، وحيوهما، وأوسعوا لهما، فضحك عبد الله بن عمر، فأنكر الموليان ضحكه، فقالا: يا أبا عبد الرحمن، ضحكت، أضحك الله سنك، فما الذي أضحكك؟ قال: عجباً من بنيّ هؤلاء، يجيء هؤلاء الذين تدمى أفواههم من الجوع، فيضيقون عليهم، حتى لو أن أحدهم يأخذ مكان اثنين فعل، جئتما أنتما قد أوقرتما الزاد، فأوسعوا لكما، وحيوكما؛ يطعمون طعامهم من لا يريده، ويمنعونه من يريده.
دخل سائل إلى ابن عمر، فقال لابنه: أعطه ديناراً، فأعطاه فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، تدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
عن ميمون بن مهران: أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: ما تلطفين بهذا الشيخ، قالت: وما أصنع به؟ لا نصنع له طعاماً إلا ما دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قومٍ من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد، فأطعمتهم وقالت: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته قد أرسلت إليهم بطعام، وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال: أردتم ألا أتعشى الليلة، فلم يتعش تلك الليلة.
عن نافع: أن ابن عمر أُتي بجوارشٍ، فكرهه، وقال: ما شبعت من كذا وكذا.
عن ميمون بن مهران: دخلت منزل عبد الله بن عمر، فما كان فيه ما يسوى طيلساني هذا.
وسئل عبد الله بن دينار: كيف كان طعام ابن عمر؟ قال: كان يطعمنا ثريداً، فإن لم نشبع زادنا آخر، فقيل: كيف كان لباس ابن عمر؟ قال: كان يلبس ثوبين ثمن عشرين درهماً، وكان يلبس ثوبين قطريين ثمن عشرة دراهم.
عن ميمون بن مهران: أن رجلاً من بني عيد الله بن عمر استكساه إزاراً، وقال: تخرق إزاري، فقال له: اقطع إزارك، ثم انكسه، فكره الفتى ذلك، فقال له عبد الله بن عمر: ويحك! اتق الله، ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم، وعلى ظهورهم.
كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر قال: ارفع إلي حاجتك، قال: فكتب إليه ابن عمر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " إن اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول " ولست أسألك شيئاً، ولا أرد رزقاً رزقنيه الله منك.
عن نافع قال: نزل ابن عمر بقومٍ، فلما مضت ثلاثة أيامٍ قال: يا نافع، أنفق علينا من مالنا، لا حاجة لنا أن يُتصدَّق علينا.
وقال: عن ابن عمر أنه كان ليلةً على الصفا، فقال: اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطاعة رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستعملني بسنة نبيك، وتوفني على ملته، وأعذني من شر مضلات الفتن.
وقال: لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا انتقص من درجاته عند الله، وإن كان على الله كريماً.
وعن وهب: أن ابن عمر حماراً، فقيل له: لو أمسكته، قال: لقد كان لنا موافقاً ولكنه أذهب شُعبةً من قلبي، فكرهت أن أشغل قلبي بشيء.
عن نافع قال: سمع ابن عمر شيئاً، فضحك، وهو عند قبر ابنه يوم مات، وكان أحب الناس إليه، فقال: إنما نفرح بهم، ونحزن عليهم ما داموا معنا، فإذا انقرضوا، وصاروا إلى الله انقطعوا منا.
ومرض ابن له، فجزع جزعاً شديداً، فلما مات خرج على أصحابه مكتحلاً، مدهناً، فقالوا: لقد أشفقنا عليك يا أبا عبد الرحمن! فقال: إذا وقع القضاء فليس إلا التسليم.
قال خالد بن أسلم مولى عمر:
آذى رجل من قريش عبد الله بن عمر، فأبى عبد الله أن يقول له شيئاً، فجئت، فقلت: أبا عبد الرحمن، بلغني أن فلاناً آذاك، فإما أن تنصر وإما أن ننتصر لك منه، فقال عبد الله: إني وأخي عاصماً لا نُسابُّ الناس.
عن نافع أو غيره: أن رجلاً قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابن خير الناس، فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
قال وبرة: أتى رجل ابن عمر، فقال: أيصلح أن أطوف بالبيت وأنا محرم؟ قال: ما يمنعك
من ذلك؟ قال: إن فلاناً ينهانا عن ذلك، حتى ترجع الناس من الموقف، ورأيته كأنه مالت به الدنيا أعجب إلينا منه، قال ابن عمر: حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وسنة الله ورسوله أحق أن تتبع من سنة ابن فلان، إن كنت صادقاً.
قيل لابن عمر: لا يزال الناس بخيرٍ ما أبقاك الله لهم، فغضب ابن عمر وقال: إني لأحسبك عراقياً، وما يدريك علام يغلق عليه ابن أمك بابه - وفي رواية: وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه؟! عن حصين قال: قال ابن عمر: إني لأخرج، وما لي أن أسلم على الناس، ويسلموا عليَّ.
عن أبي بردة عن أبيه قال: صليت إلى جانب ابن عمر، فسمعته حين سجد يقول: اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخوفك أخوف الأشياء عندي، وسمعته حين سجد يقول: " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين " وقال: ما صليت صلاة مذ أسلمت إلا وأنا أرجو أن تكون كفارةً.
وقال لأبي بردة: علمت أن أبي لقي أباك فقال له: يا أبا موسى، أيسرك أن عملك الذي كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلص لك، لا عليك، ولا لك؟ قال: لا؛ قرأت القرآن، وعلَّمت الناس، قال: قال عمر: ليت أن علمي خلص لي كفافاً لا عليَّ، ولا لي.
قال أبو بردة: إن أباك أفقه من أبي.
عن عبد الجبار بن موسى، عن أبيه: أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله، فألقى إليه عمامته، فقال له بعض القوم: لو أعطيته درهماً لأجزأه، فقال ابن عمر: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من أبر البِر أن يصل الرجل أهل ود أبيه " وإن هذا كان من أهل ود عمر.
قال نافع: دخلت مع ابن عمر الكعبة وهو يومئذ مُضَيَّق، فسمعته وهو ساجد يتضرع إلى ربه، يقول: يا رب، وقد تعلُم، لولا خوفك لزاحمنا قريشاً على هذه الدنيا.
قال عبد الله بن عمر: ساعة للدنيا، وساعة للآخرة، وبين ذلك؛ اللهم اغفر لنا.
ومكث عبد الله بن عمر على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها.
وقال: لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تعلَّمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجلاً لا يرى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، وما يدري ما آمره، ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثر نثر الدقل.
قال عمر: ما منكم أحد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون خلا عبد الله؛ فإني أحب أن يبقى ليأخذ به الناس.
وكانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك ابن عفان، وبعده ابن عمر.
قال مجاهد: ترك الناس أن يقتدوا بابن عمر وهو شاب، فلما كبُر اقتدوا به.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان العلماء بعد معاذ بن جبل: عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وسلمان، وعبد الله بن سلام، ثم كان العلماء بعد هؤلاء: زيد، ثم كان بعد زيد بن ثابت: ابن عمر، وابن عباس، وكان بعد هذين سعيد بن المسيب.
قال مسعود بن سليمان: أتينا معاوية بالأبطح مجلساً، فجلس عليه، ومعه ابنه قرظة، فإذا هو بجماعة على رحالٍ لهم، وإذا شاب قد رفع عقيرته يغني: من الرمل
من يساجلني يساجل ماجداً ... أخضر الجلدة في بيت العربْ
فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلوا له الطريق فليذهب، قال: ثم إذا هو بجماعةٍ فيهم غلام يغني: من الرمل
بينما يذكرنني أبصرنني ... عند قيد الميل يسعى بي الأغرّ
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم ... قد عرفناه، وهل يخفى القمرْ؟
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: خلوا له الطريق، فليذهب، ثم إذا هو بجماعةٍ، فإذا رجل منهم يُسأل، فقال له: رميت قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمي؛ لأشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج: فقال: من هذا؟
فقالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنة قرظة، فقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة.
قال مالك بن أنس: لا يعدلن برأي ابن عمر، فإنه أقام بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستين سنةً، فلم يذهب عنه من أمره، ولا من أمور أصحابه شيء.
قال ابن سيرين: قال رجل: اللهم أبقني ما أبقيت ابن عمر أقتدي به، وقال رجل: لقد رأيت هذه الفتنة وما فينا أحد إلا فيه غير عبد الله بن عمر.
عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس يجلسان للناس عند قدوم الحاج، فكنت أجلس إلى هذا يوماً وإلى هذا يوماً، وكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما قال عنه، وكان ابن عمر ما يرد أكثر مما يفتي.
وسأل رجل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه، ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته: قال: فقال له: يرحمك الله، أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا، يرحمك الله، حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به.
عن عقبة بن مسلم: أن ابن عمر سئل عن شيءٍ فقال: لا أدري، ثم أتبعها فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر؟ وعن نافع عن ابن عمر: انه سئل عن أمرٍ فقال: لا أعلمه، ثم قال: نِعْمَ ما قال ابن عمر، سئل عن أمرٍ لا يعلمه، فقال: لا أعلمه.
عن الشعبي قال: كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه.
عن الليث قال: كتب رجل إلى ابن عمر: اكتب إليّ بالعلم كله، فكتب إليه ابن عمر: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافاً لسانك عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعلِ، والسلام.
عن أبي عبد الرحمن القرشي قال: بعثت أم ولدٍ لعبد الملك بن مروان إلى وكيلٍ لها بالمدينة تستهديه غلاماً وقالت له: يكون على هذه الصفة: عالماً بالسنة، قارئاً لكتاب الله، فصيح اللسان، حسن البيان، عفيف الفرج، كثير الحياء، قليل المراء، قال: فكتب إليها: قد طلبت الغلام الذي استهديتني على ما وصفت، فلم أجد غلاماً بهذه الصفة إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقد ساومت به أهله فأبوا أن يبعوه!! عن نافع قال: كنا مع ابن عمر - في سفر -، فقيل: إن السبع في الطريق قد حبس الناس، فاستخف ابن عمر راحلته، فلما بلغ إليه نزل، فعرك أذنه وقعّده، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم يسلط عليه غيره، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله لم يكله إلى سواه ".
عن الشعبي قال:
لقد رأيت عجباً؛ كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم
كل رجلٍ منكم، فليأخذ بالركن اليماني، ويسأل الله حاجته؛ فإنه يعطى من ساعته. قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولودٍ ولد في الهجرة، فقام، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم، ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك، وحرمة عرشك، وحرمة نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم عليّ بالخلافة، وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا مصعب بن الزبير، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم إنك رب كل شيءٍ، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني سكينة بنت الحسين، وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الملك بن مروان، فقام، فأخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرضين ذات النبت بعد الفقر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول عرشك ألا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك ألا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.
قال الشعبي: فما ذهبت عيناي حتى رأيت كل رجلٍ منهم قد أعطي ما سأل.
قال مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير: خطب عروة بن الزبير إلى عبد الله بن عمر ابنته سودة بنت عبد الله، وهو بمكة، فلم يرد عليه شيئاً، فلما قدم المدينة أتاه عروة وهو في المسجد، فسلم عليه، فقال له عبد الله بن عمر: أرأيت ما ذكرت لي بمكة، أهو من شأنك اليوم؟ قال له عروة: نعم، ولقد عجبت من سكاتك عني بمكة! فقال: إني خرجت حاجاً، فكرهت أن أخلط حجي بشيءٍ، فتشهد عبد الله بن عمر، ثم زوجه.
عن عبد الله بن واقد قال: رأيت ابن عمر يفت المسك في الدهن يدَّهِن به.
قال زيد بن عبد الله الشيباني: رأيت ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة دب دبيباً، لو أن نملة مشت معه قلت: لا يسبقها.
عن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر بخربةٍ، فقال: يا مجاهد، ناد، يا خربة أين أهلك، أو قال: ما فعل أهلك؟ قال: فناديت، فقال ابن عمر: ذهبوا، وبقيت أعمالهم.
قال إبراهيم بن أدهم: مر عبد الله بن عمر على قومٍ مجتمعين، وعليه بردة حسناء، فقال رجل من القوم: إن أنا سلبته بردته فما لي عندكم؟ فجعلوا له شيئاً، فأتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، بردتك هذه هي لي. قال: فقال: فإني اشتريتها بالأمس! قال: قد أعلمتك وأنت في حرج من لبسها، قال: فهتكتها ليدفعها إليه، قال: فضحك القوم، فقال: ما لكم؟ فقالوا له: هذا رجل بطال، قال: فالتفت إليه فقال: يا أخي أما علمت أن الموت أمامك لا تدري متى يأتيك صباحاً أو مساءً، ليلاً أو نهاراً؟! ثم القبر، وهول المطلع، ومنكر ونكير، وبعد ذلك القيامة، يوم يخسر فيه المبطلون!؟ فأبكاهم ومضى.
قال أبو عبد الله بن الأعرابي: أراد رجل أن يعتزل الناس، فقال له عبد الله بن عمر: إنه لا بد لك من الناس، ولا بد للناس منك، ولكن كن كأصم يسمع، وأعمى يبصر، وسكوت ينطق.
عن ابن سيرين: أن ابن عمر كان إذا خرج في سفرٍ أخرج معه سفيهاً، فإن جاءه سفيه رده عنه.
عن قتادة قال: كان ابن عمر يقول: إن الحليم ليس من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج، ولكن الحليم من قدر ثم عفا، وإن الوصول ليس من وصل - يعني من وصله - فتلك مجازاة، ولكن الوصول من قطع ثم وصل، وعطف على من لم يصله.
عن حميد الطويل قال: قال ابن عمر: البِر شيء هين، وجه طليق وكلام لين.
قال ابن عمر: ما حمل الرجال حملاً أثقل من المروءة، فقال له أصحابه: أصلحك الله، صف لنا المروءة، فقال: ما لذلك عندي حد أعرفه، فألح عليه رجل منهم، فقال: ما أدري ما أقول: إلا أني ما استحييت من شيءٍ علانيةً إلا استحييت منه سراً.
عن مالكٍ قال:
اشترى ابن عمر جاريةً رومية، فأحبها حباً شديداً، فوقعت يوماً عن بغلةٍ كانت عليها، فجعل ابن عمر يمسح التراب عنها، ويفديها، فكانت تقول له: - أي رجل صالح - ثم هربت منه، فقال ابن عمر: من البسيط
قد كنت أحسبني قالون، فانطلقت ... فاليوم أعلم أني غير قالون
قال المغيرة بن شعبة لعمر: ألا أدلك على القوي الأمين؟ قال: بلى، قال: عبد الله بن عمر، قال: ما أردت بقولك هذا؟ ولأن يموت فأكفِّنه بيدي أحب إلي من أوليه وأنا أعلم أن في الناس من هو خير منه.
عن عبد الله بن موهب: أن عثمان قال لابن عمر: اذهب قاضياً، قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: عزمت عليك إلا ذهبت، فقضيت، قال: لا تعجل، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من عاذ بالله فقد عاذ بمَعَاذٍ " قال: نعم، قال: إني أعوذ بالله أن أكون قاضياً، قال: ما يمنعك، وقد كان أبوك يقضي؟ قال: لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كان قاضياً فقضى بجهلٍ كان من أهل النار، ومن كان قاضياً عالماً فقضى بحقٍ أو بعدلٍ سأل الله أن ينقلب كفافاً " فما أرجو منه بعد؟!
قال مصعب بن عبد الله: جاءت جماعة من بني عدي إلى عبد الله بن عمر، وهو عند عثمان في الدار يوم قتل عثمان، قبل قتله فاحتملوا عبد الله بن عمر من الدار، فخرجوا به.
قال نافع: لما قتل عثمان جاء علي ابن عمر، فقال: إنك محبوب إلى الناس؛ فسر إلى الشام، فقال ابن عمر: بقرابتي وصحبتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرابة التي بيننا، فلم يعاوده.
قال مصعب بن عبد الله: لما قتل عثمان، وبويع علي أُتي بعبد الله بن عمر، فقيل: بايع، فأبى، فشد به أصحاب علي، فقال عبد الله بن عمر لعلي: ما تصنع بهذا، لا والله؟ لا أبسط يدي ببيعة في فرقةٍ، ولا أقبضها في جماعة أبداً، فقال علي: خلوه، وأنا كفيله، وخرج بعد قتل عثمان إلى مكة ليلاً، فلما أصبح علي فقده، وظنه خرج إلى الشام، فنهض إلى سوق الظهر، وقال: عليَّ بالإبل، فأمر بجمعها ليرسل في طلبه، فأرسلت إليه ابنته أم كلثوم: لا تعن بطلبه، فلم يخرج إلى الشام وإنما خرج إلى مكة، وأنا عذيرتك منه، فوقف عن طلبه.
قال ابن عمر: دخلت علي حفصة ونوساتها تنطف، فقلت: قد كان من الناس ما ترين، ولم يجعل لي من الأمر شيء، قالت: فالحق بهم، فإنهم ينتظرونك، وإني أخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الحكمان خطب معاوية، فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع إلي قرنه، فلنحن أحق بذلك منه ومن أبيه - يعرض بابن عمر - فحلَلْتُ حبوتي، فهممت أن أقول: أحق بذلك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجمع، ويسفك فيها الدم، وأحمل فيها على غير رأيي؛ فذكرت ما أعد الله في الجنان.
قال معاوية لعبد الله بن جعفر: بلغني أن ابن عمر يريد هذا الأمر، وفيه ثلاث خصالٍ لا يصلحن في خليفة: هو
رجل غيور، وهو رجل عييٍّ وهو رجل بخيل، قال: فذهب ابن جعفر فأخبر ابن عمر، فقال ابن عمر: أما قوله: إني رجل غيور، فإني كنت أغلق بابي على أهلي، فما حاجة الناس إلى ما وراء ذلك؟ وأما قوله: إني لرجل عييٍّ فإني كنت أعلم الناس بكتاب الله، ولا كلام أبلغ منه، وأما قوله: إني رجل بخيل؛ فإني كنت أقسم على الناس فيئهم بكتاب الله، فإذا فعلت ذلك فما حاجة الناس إلى ما أورثني ابن الخطاب؟ فأخبر ابن جعفر معاوية بها، فقال معاوية: عزمت عليك ألا يسمع هذا منك أحد.
وقد روي نحو هذه المقالة عن الحجاج.
عن قطن قال: أتى رجل ابن عمر، فقال: ما أحد شر لأمة محمد منك، فقال: لمَ؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم! قال: إنك لو شئت ما اختلف فيك اثنان، قال: ما أحب أنها أتتني ورجل يقول: لا، وآخر يقول: بلى.
وعن ميمون قال:
دس معاوية عمرو بن العاص، وهو يريد ما في نفس ابن عمر: يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نفر يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهَجَرَ لم يكن لي فيها حاجة، قال: فعلم أنه لا يريد القتال، قال: فهل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرضين، ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفٍّ لك اخرج من عندي ثم لا تدخل عليّ، ويحكّ! إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني لأرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.
وعن نافع عن ابن عمر: أنه أتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عمر، وصاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر مناقبه - فما يمنعك من هذا الأمر؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم المسلمين، قال: فإن الله تعالى يقول: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله "؟ قال: قد فعلنا، قد قاتلناهم حتى كان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم حتى يكون الدين لغير الله.
عن أبي العالية: أن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان كانا ذات يوم قاعدين في الحِجر، فمر بهما ابن عمر، وهو يطوف بالبيت، فقال أحدهما لصاحبه: أتراه بقي أحد خير من هذا؟ ثم قالا لرجل: ادعه لنا إذا قضى طوافه، فلما قضى طوافه، وصلى ركعتين أتاه رسولهما، فقال: هذا عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن صفوان يدعوانك إليهما؛ فقال عبد الله بن صفوان: أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين؟ - يعني ابن الزبير - فقد بايع له أهل العروض، وأهل العراق، وعامة أهل الشام، فقال: والله لا أبايعكم وأنتم واضعون سيوفكم على عواتقكم، تصيب أيديكم من دماء المسلمين! عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً أتاه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما الذي يحملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا بن أخي، بُني الإسلام على خمسة: إيمان بالله ورسوله، وصلاة الخمس، وصيام شهر رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت، فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتبه: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " فما يمنعك أن تقاتل الفئة الباغية
كما أمرك الله عز وجل في كتابه؟ فقال: يا بن أخي لأن أعتبر بهذه الآية فلا أقاتل أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم " قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال ابن عمر: قولي في علي وعثمان؛ أما عثمان فكان الله عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله، وأما علي فابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وختنه، وأشار بيده: هذا بيته حيث ترون! عن نافع قال: دخل ابن عمر الكعبة، فسمعته وهو ساجد يقول: قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريشٍ على هذه الدنيا إلا خوفك.
وكتب إلى عبد الله بن الزبير: إنك انبريت على رقاب الناس بغير شورى، فدع ما أنت فيه، فإنك لست في شيءٍ.
عن الأوزاعي: أن ابن عمر قال: لقد بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما نكثت، ولا بدلت إلى يومي هذا، ولا بايعت صاحب فتنة، ولا أيقظت مؤمناً من مرقده.
قال حبيب بن أبي مرزوق: بلغني أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو يومئذٍ خليفة: من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان، فقال مَنْ حول عبد الملك: بدأ باسمه قبل اسمك! فقال عبد الملك: هذا من أبي عبد الرحمن كثير.
عن عبد الرحمن بن يسار قال: سمعت الحجاج وهو يقول: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كلام الله، فقال
ابن عمر: كذبت، ليس تبديل كلام الله بيدك، ولا بيد ابن الزبير، كتاب الله أعز من أن يبدَّل، قال: فقال الناس لابن عمر: اخرج، فأبى أن يخرج حتى صلى معه.
عن محمد بن سيرين قال: كان ابن عمر يأتي العمال، ثم قعد عنهم، فقيل له: لو أتيتهم، فلعلهم يجدون في أنفسهم، فقال: أرهب إن تكلمت أن يروا أن الدين غير الذي بي، وإن سكت رهبت أن آثم.
سئل نافع عن بدء مرض ابن عمر وموته، فقال: أصابته عارضة محمل بمكة بين إصبعين من أصابعه عند الجمرة، فمرض، فدخل عليه الحجاج، فلما رآه ابن عمر غمّض عينيه، فكلمه الحجاج، فلم يكلمه، قال: فغضب الحجاج وقال: إن هذا يقول: إني على الضرب الأول.
وقال سعيد بن عمرو: قدم ابن عمر حاجاً، فدخل عليه الحجاج وقد أصابه زج رمحٍ، فقال: من أصابك؟ فقال: أصابني من أمرتموه بحمل السلاح في مكانٍ لا يحل فيه حمله.
عن نافع قال: ذكرت الوصية لابن عمر في مرضه، فقال ابن عمر: أما مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه، وأما رباعي وأرضي فإني لا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد.
عن سعيد بن جبير قال: لما حضر ابن عمر الموت قال: ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقتل هذه الفئة التي نزلت بنا - يعني الحجاج.
قال ابن عمر عند الموت لسالم: يا بني، إن أنا مت فادفني خارجاً من الحرم؛ فإني أكره أن أدفن فيه بعد أن
خرجت منه مهاجراً، فقال: يا أبه، إن قدرنا على ذلك، فقال: تسمعني أقول لك، وتقول: إن قدرنا؟! قال: أقول: الحجاج يغلبنا يصلي عليك، قال: فسكت ابن عمر.
وكان آخر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موتاً بمكة عبد الله بن عمر، مات سنة أربع وسبعين، وبلغ من السن سبعاً وثمانين، وقيل: أربعاً وثمانين، ودفن بالمحصب، وبعض الناس يقول: بفخ، وقيل بذي طوى.
وقيل إنه توفي سنة ثلاث وسبعين بعد ابن الزبير بشهرين أو ثلاثة أشهر.
عن رجاء بن حيوة قال: نعي إلينا ابن عمر في مجلس ابن محيريز، فقال ابن محيريز: إن كنت لأعد بقاء عبد الله بن عمر أماناً لأهل الأرض.
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح أبو عبد الرحمن القرشي العدوي من المهاجرين، شهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق وما بعده من المشاهد، وشهد غزوة مؤتة مع زيد وجعفر، وشهد يوم اليرموك.
عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين - زاد في رواية: في بيته - وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته.
عن ابن عمر قال: بينا الناس في مسجد قباء، في صلاة الصبح إذ جاء رجل فقال: أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرآن، فأمر أن يتحول إلى الكعبة، فقال: هكذا يوصف أنهم استداروا إلى القبلة.
عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية، قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقامي، فسلم، فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل يبتدئ بالشهادة قبل أن يُسألها، وباليمين قبل أن يُسألها، فمن أراد بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون أحدكم بامرأةٍ، فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن ".
عن ابن عمر قال: أَصَبنا يوم اليرموك طعاماً وعلفاً فلم يقسم.
قال الزبير بن بكار:
فمن ولد عمر بن الخطاب: عبد الله بن عمر، استُصغر يوم أحد، وشهد الخندق مع رسول الله، وهاجر مع أبيه إلى المدينة، وهو ابن عشر سنين، وبقي حتى مات سنة ثلاثٍ وسبعين، وأخته لأبيه وأمه حفصة بنت عمر، زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الرحمن الأكبر؛ وأمهم: زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، كانت من المهاجرات وكان عبد الله بن عمر يتوجه في السرايا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان إسلام عبد الله بمكة مع إسلام أبيه، ولم يكن بلغ يومئذٍ، وكان ربعةً يخضب بالصفرة، وتوفي بمكة، ودفن بذي طوى، ويقال: دفن بفخ مقبرة المهاجرين، وكان لابن عمر مَقْدَم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة إحدى عشر سنةً.
قال أبو نعيم الحافظ: خال المؤمنين، من أملك شباب قريش عن الدنيا، كان آدم طالاً، له جمة مفروقة تضرب قريباً من منكبيه، يقص شاربه، ويصفر لحيته ويشمر إزاره، أعطي القوة في العبادة، وفي الجماع، كان من التمسك بآثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسبيل المبين، وأعطي المعرفة بالآخرة، والإيثار لها، لم تغيره الدنيا، ولم تفتنه كان من البكّائين الخاشعين، وعدّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصالحين، نقش خاتمه عبد الله لله، أصاب رجله زج رمحٍ، فورمت رجلاه، فتوفي منها بمكة سنة أربع - وقيل: سنة ثلاث - وسبعين، ودفن بالمُحصِّب، وقيل: بذي طوى، وقيل: بفخ، وقيل: بسرف، مات وهو ابن ست وثمانين.
قال الخطيب: خرج إلى العراق، فشهد يوم القادسية، ويوم جلولاء، وما بينهما من وقائع الفرس، وورد المدائن غير مرة.
عن الحارث بن جزء الزبيدي قال: توفي صاحب لي، فكنا على قبره أنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكان اسمي العاص، واسم ابن عمر العاص، واسم ابن عمرو العاص، فقال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انزلوا واقبروه، وأنتم عبيد الله " قال: فنزلنا فقبرنا أخانا، وصعدنا من القبر وقد بدلت أسماؤنا.
قال أبو إسحاق: رأيت ابن عمر رجلاً آدم جسيماً ضخماً في إزارٍ إلى نصف الساقين.
قال ابن عمر: إنما جاءتنا الأُدمة من قبل أخوالي، والخال أنزع شيءٍ، وجاءني البُضْع من
أخوالي؛ فهاتان الخصلتان لم تكونا في أبي، رحمه الله؛ كان أبي أبيض، لا يتزوج النساء شهوةً إلا لطلب الولد - وفي رواية: لشهوة.
وقال: عُرضْتُ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ وأنا ابن ثلاث عشرة فردني، ثم عرضت عليه يوم أحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر فأجازني.
قال يزيد بن هارون: وهو في الخندق ينبغي أن يكون ابن ست عشرة سنةً؛ لأن بين أحدٍ والخندق بدراً الصغرى.
عن البراء قال: عرضت أنا وابن عمر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ، فاستصغرنا، وشهدنا أحداً.
قال ابن عمر: شهدت الفتح وأنا ابن عشرين سنةً.
وكان ابن عمر يوم مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن اثنتين وعشرين سنةً.
عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لابن عمر: أشهدت بيعة الرضوان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قلت: فما كان عليه؟ قال: قميص من قطنٍ، وجبة محشوة، ورداء وسيف، ورأيت النعمان بن مقرن المزني قائماً على رأسه، قد رفع أغصان الشجرة عن رأسه، والناس يبايعونه.
عن ابن عمر قال: كان الرجل في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت غلاماً عزباً شاباً، وكنت أنام في
المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فرأيت في المنام كأن ملكين أتياني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، فإذا لها قرنان كقرني - وفي رواية: قرن كقرن - البئر، قال: فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك، فقال: لن تراع، قال: فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل " قال: فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
وفي رواية أخرى قال:
رأيت في المنام كأن في يدي سَرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصَّتها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إن أخاكِ رجل صالح، أو قال: إن عبد الله رجل صالح ".
وفي رواية أخرى قال: رأيت في المنام كأن بيدي قطعة إستبرق، ولا أشير بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارت بي إليه.
قال ابن عمر: كنت شاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط نخلٍ، فاستأذن أبو بكرٍ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائذنوا له، وبشروه بالجنة " ثم استأذن عمر، فقال: " ائذنوا له، وبشروه بالجنة " ثم استأذن عثمان، فقال: " ائذنوا له وبشروه بالجنة على بلوى تصيبه " قال: فدخل يبكي ويضحك.
قال عبد الله: فأنا يا نبي الله، قال: " أنت مع أبيك ".
عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب المهاجرين على خمسة آلاف، والأنصار على أربعة آلاف، ومن لم يشهد بدراً من أبناء المهاجرين على أربعة آلاف؛ وكان منهم: عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسدي المخزومي، وأسامة بن زيد، ومحمد بن عبد الله بن جحش الأسدي، وعبد الله بن عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: إن ابن عمر ليس من هؤلاء؛ إنه وإنه! فقال ابن عمر: إن كان لي حق فأعطنيه، وإلا فلا تعطني، فقال عمر لابن عوف: اكتبه على خمسة آلاف، واكتبني على أربعة آلاف، فقال عبد الله: لا أريد هذا، فقال عمر: والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف!.
قال عبد الله بن عمر: كساني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلة من حلل السير أهداها له فيروز، فلبست الإزار، فأغرقني طولاً وعرضاً، فسجبته، ولبست الرداء، فتقنعت به، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعاتقي، فقال: " يا عبد الله بن عمر، ارفع الإزار، فإن ما مست الأرض من الإزار إلى ما أسفل من الكعبين في النار "، فلم يُرَ أشد تشميراً من عبد الله بن عمر.
قال حذيفة: ما منا أحد يفتش إلا فُتّش عن جانفةٍ أو مثقلةٍ إلا عمر وابنه.
قال جابر بن عبد الله: من سره أن ينظر إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين مضوا قبله وبعده، ولم يغيروا، ولم يبدلوا فلينظر إلى هذا - يعني عبد الله بن عمر - وفي رواية: ما أحد منا أدرك الدنيا إلا مالت به، ومال بها إلا ابن عمر.
قالت عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر.
وقالت عائشة لابن عمر: ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد استولى على أمرك، وظننت أنك لن تخالفيه - يعني ابن الزبير - قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت، قال: وكانت تقول: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فإذا مر قيل لها: هذا ابن عمر، فلا تزال تنظر إليه.
عن السدي قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر، كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عبد الله بن عمر.
قال أبو سلمة: مات ابن عمر، وهو مثل عمر في الفضل.
وقال: إن عمر كان في زمَانٍ له فيه نظراء، وإن ابن عمر كان في زمان ليس له فيه نظير.
وقال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحدٍ أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وسئل عن العلم يكون في العمامة، فقال: كان عبد الله بن عمر يكرهه، وسئل عن الحرير، فقال: كان ابن عمر يوم مات خير من بقي، وكان يقول: إنه ثياب من لا خلاق له، وقال: مات ابن عمر يوم مات وما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه، وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: كان ابن عمر لا يصومه، قلت له: فغيره؟ قال: حسبك به شيخاً.
عن سالم قال: كان عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر لا يُعرف فيهما البِرُّ حتى يقولا أو يفعلا - يعني أنهما لم يكونا مؤنثين ولا متماوتين.
قال طاوس: ما رأيت رجلاً أورغ من ابن عمر.
قال بعض الخلفاء لمالك - يظن أنه هارون -: يا أبا عبد الله، ما لكم أقبلتم على عبد الله بن عمر، وتركتم ابن عباس؟ قال: لا على أمير المؤمنين ألا يسأل عن هذا، قال: فإن أمير المؤمنين يريد أن يعلم ذلك، قال: كان أورع الرجلين.
كان يقال: ما رجل أضل بعيره بأرض فلاةٍ؛ فهو في طلبه بأتبع له من عبد الله بن عمر لعمر.
عن القاسم بن محمد قال: كان ابن عمر قد أتعب أصحابه، فكيف من بعدهم؟! عن ابن عمر قال:
ما وضعت لبنةً على لبنةٍ ولا غرست نخلةً منذ توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي جعفر قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً أجدر ألا يزيد فيه، ولا ينقص منه، ولا، ولا، من عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وعن نافع: أن ابن عمر كان يتبع آثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مكان صلى فيه، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تحت شجرةٍ، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو تركنا هذا الباب للنساء " فلم يدخل فيه ابن عمر حتى مات.
قال الزبير بن بكار: كان عبد الله بن عمر يتحفظ ما سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويسأل إذا لم يحضر من حضر عما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو فعل، وكان يتبع آثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مسجد صلى فيه، وكان يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقال له في
ذلك، فيقول: إني أتحرى أن تقع أخفاف راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد شهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، فوقف معه بالموقف بعرفة، فكان يقف في ذلك الموقف كلما حج، وكان كثير الحج، حج عام قتل ابن الزبير مع الحجاج، وكان عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف يأمره ألا يخالف ابن عمر في الحج، فأتى ابن عمر حين زالت الشمس يوم عرفة، ومعه ابنه سالم، فصاح به عند سرادقه: الرواح، فخرج عليه الحجاج في معصفرةٍ، فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأمهلني أصب علي ماءً، فدخل ثم خرج، قال سالم: فسار بيني وبين أبي، فقلت له: إن كنت تحب أن تصيب السنة فعجل الصلاة، وأوجز الخطبة، فنظر إلى عبد الله ليسمع ذلك منه، فقال عبد الله: صدق، ثم انطلق حتى وقف في موقفه الذي كان يقف فيه، فكان ذلك الموقف بين يدي الحجاج، فأمر من نخس به حتى نفرت به ناقته فسكنها ابن عمر حتى سكنت، ثم ردها إلى ذلك الموقف، فوقف فيه، فأمر الحجاج أيضاً بناقته، فنخست، فنفرت بابن عمر، فسكّنها ابن عمر حتى سكنت، ثم ردها إلى ذلك الموقف، فثقل على الحجاج أمره، فأمر رجلاً معه حربة، يقال إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق به ذلك الرجل، فأَمَرَّ الحربة على قدمه، وهي في غرز رحله، فمرض منها أياماً، ثم مات بمكة، فدفن بها وصلى عليه الحجاج.
عن الشعبي قال: صحبت ابن عمر سنة، ما رأيته يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا حديثاً واحداً.
وفي رواية: جالست ابن عمر قريباً من سنتين، فما سمعته يحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ، غير أنه قال يوماً: كان ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلون ضباً فيهم سعد بن مالك، فنادتهم امرأة من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ضب، فأمسكوا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلوا فإنه حلال، ولا بأس به، ولكنه ليس من طعام قومي ".
وعن زيد بن عبد الله بن عمر: ما ذكر ابن عمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بكى، وما مر على ربعهم إلا غمض عينيه.
عن يوسف بن ماهك قال: رأيت ابن عمر وهو عند عبيد بن عمير، وعمير يقص، فرأيت ابن عمر عيناه تُهراقان دمعاً.
وعن عبيد بن عمير: أنه قرأ: " فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ " حتى ختم الآية، فجعل ابن عمر يبكي حتى لثقت لحيته وجيبه من دموعه، قال الذي كان إلى جنب ابن عمر: لقد أردت أن أقوم إلى عبيد بن عمير، فأقول له: أقصر عليك، فإنك قد آذيت هذا الشيخ!.
عن نافعٍ قال: وكان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " بكى حتى يغلبه البكاء.
عن القاسم بن أبي بزة، حدثني من سمع ابن عمر قرأ: " ويل للمطففين " فلما بلغ " يوم يقوم الناس لرب العالمين " بكى حتى خر، وامتنع من قراءة ما بعده.
عن ابن أبي مليكة قال: مر رجل على عبد الله بن عمر وهو ساجد في الحجر، وهو يبكي، فقال: أتعجب أن أبكي من خشية الله وهذا القمر يبكي من خشية الله! ونظر إلى القمر حين شفَّ أن يغيب.
قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا يطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
وعن نافع:
أن ابن عمر كان يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم قعد يستغفر الله، ويدعو حتى يصبح.
وكان ابن عمر إذا فاتته صلاةً في جماعة صلى إلى الصلاة الأخرى، فإذا فاتته العصر سبَّح إلى المغرب، ولقد فاتته صلاة عشاء الآخرة في جماعة فصلى حتى طلع الفجر.
قال: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر؛ إلا أن يمرض، أو أيام يَقْدَم؛ فإنه كان رجلاً كريماً يحب أن يؤكل عنده، قال: وكان يقول: ولأن أفطر في السفر، وآخذ برخصة الله أحب إلي من أن أصوم.
وعن سالم قال: ما لعن ابن عمر خادماً قط إلا مرة فأعتقه.
وعن نافع: أن عبد الله بن عمر كانت له جارية، فلما اشتد عجبه بها أعتقها وزوجها مولى له، فولدت غلاماً؛ فلقد رأيت عبد الله بن عمر يأخذ ذلك الصبي، فيقبِّله، ثم يقول: واهاً لريح فلانة - يعني الجارية التي أعتق.
قال زيد بن أسلم: مر عبد الله بن عمر براعٍ، فقال: يا راعي الغنم، هل من جزرةٍ؟ قال الراعي: ليس ها هنا ربها، فقال له ابن عمر: تقول إنه أكلها الذئب، قال: فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله! فاشترى ابن عمر الراعي، واشترى الغنم، فأعتقه، وأعطاه الغنم.
عن نافع قال: خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له، فوضعوا له سفرة له، فمر بهم راعي غنمٍ، قال: فسلم، فقال له ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأصب من هذه السُّفرة، فقال له: إني صائم، فقال له ابن عمر: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار الشديد سمومه، وأنت في هذه الحال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إني والله أبادر أيامي هذه الخالية، فقال له ابن عمر وهو يريد يختبر ورعه: فهل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها، فتفطر عليه - وساق الخبر.
وقال: كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيءٍ من ماله قربه لربه عز وجل وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم، ولزم المسجد، إذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك! فيقول ابن عمر: فمن خدعنا بالله انخدعنا له.
قال ميمون بن مهران: مر أصحاب نجدة الحروري على إبلٍ لعبد الله بن عمر، فاستاقوها، فجاء راعيها، فقال: يا أبا عبد الرحمن، احتسب الإبل، قال: ما لها؟ قال: مر بها أصحاب نجدة، فذهبوا بها، قال: كيف ذهبوا بالإبل وتركوك؟ قال: قد كانوا ذهبوا بي معها، لكني انفلت منهم، فما حملك على أن تركتهم وجئتني؟ قال: أنت أحب إلي منهم، قال: الله الذي لا إله إلا هو لأنا أحب إليك منهم؟ قال: فحلف له، قال: فإني أحتسبك معها؛ فأعتقه، فمكث ما مكث، ثم أتاه آتٍ، فقال: هل لك في ناقتك الفلانية؟ - سماها باسمها - ها هي بالسوق تباع، قال: أرني ردائي، فلما وضعه على منكبه وقام جلس، فوضع رداءه، ثم قال: كنت احتسبتها، فلِمَ أطلبها؟ وكاتب غلاماً له، ونجّمها عليه نجوماً، فلما حل أول النجم أتاه المكاتب به، فسأله ابن عمر: من أين أصبت هذا؟ قال: كنت أعمل وأسأل، قال: فجئتني بأوساخ الناس تريد أن تطعمنيها؟! أنت حر، ولك ما جئت به.
عن زاذان قال: كنت عند ابن عمر، فدعا غلاماً له، فأعتقه، ثم قال: ما لي فيه من أجرٍ ما يسوى هذا، أو يزن هذا - وتناول شيئاً من الأرض - سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ضرب عبداً له حداً لم يأته، أو ظلمه - أو لطمه، شك الراوي - فإن كفارته أن يعتقه ".
عن محمد العمري قال: أعطى عبد الله بن جعفر عبد الله بن عمر بنافعٍ عشرة آلاف درهم إلى ألف دينار، فدخل عبد الله على صفية امرأته، فقال: إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، فما تنتظرنّ؟! تبيع! قال: فهلا ما هو خير من ذلك؛ هو حر لوجه الله تعالى، قال: فكان يخيل إلي أن ابن عمر كان ينوي قول الله عز وجل " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ".
وروى سالم أنه لم يسمع عبد الله يلعن خادماً له قط، غير مرة واحدة غضب فيها على بعض خدمه، فقال له: لعنة الله عليك، كلمة لم أكن أحب أن أقولها.
عن نافع قال:
أُتي ابن عمر ببضعةٍ وعشرين ألفاً، فما قام من مجلسه حتى أعطاها، وزاد عليها، ولم يزل يعطي حتى أنفد ما كان عنده، فجاءه بعض من كان يعطيه، فاستقرض من بعض من كان أعطاه، فأعطاه.
وقال: عن ابن عمر أنه ربما تصدق في الشهر بثلاثين ألف درهم، وما يأكل فيه أكلة لحم، واشترى سمكة طرية بدرهم ونصف، فأتاه سائل، فتصدق بها عليها، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أيما امرئٍ اشتهى شهوةً، فرد شهوته، وآثر على نفسه غفر الله له ".
واشتكى ابن عمر فاشتهى العنب في غير زمانه، فطلبوه، فلم يجدوه له إلا عند رجلٍ سبع حباتٍ بدرهم، فأُشتري له، فجاء سائل، فأمر له به، ولم يذقه.
عن أبي بكر بن حفص قال: كان ابن عمر لا يحبس عن طعامه بين مكة والمدينة مجذوماً، ولا أبرص، ولا مبتلى حتى يقعدوا معه على مائدته؛ فبينما هو يوماً قاعداً على مائدته أقبل موليان من موالي أهل المدينة، فسلما، فرحبوا بهما، وحيوهما، وأوسعوا لهما، فضحك عبد الله بن عمر، فأنكر الموليان ضحكه، فقالا: يا أبا عبد الرحمن، ضحكت، أضحك الله سنك، فما الذي أضحكك؟ قال: عجباً من بنيّ هؤلاء، يجيء هؤلاء الذين تدمى أفواههم من الجوع، فيضيقون عليهم، حتى لو أن أحدهم يأخذ مكان اثنين فعل، جئتما أنتما قد أوقرتما الزاد، فأوسعوا لكما، وحيوكما؛ يطعمون طعامهم من لا يريده، ويمنعونه من يريده.
دخل سائل إلى ابن عمر، فقال لابنه: أعطه ديناراً، فأعطاه فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، تدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
عن ميمون بن مهران: أن امرأة ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: ما تلطفين بهذا الشيخ، قالت: وما أصنع به؟ لا نصنع له طعاماً إلا ما دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قومٍ من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد، فأطعمتهم وقالت: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت امرأته قد أرسلت إليهم بطعام، وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال: أردتم ألا أتعشى الليلة، فلم يتعش تلك الليلة.
عن نافع: أن ابن عمر أُتي بجوارشٍ، فكرهه، وقال: ما شبعت من كذا وكذا.
عن ميمون بن مهران: دخلت منزل عبد الله بن عمر، فما كان فيه ما يسوى طيلساني هذا.
وسئل عبد الله بن دينار: كيف كان طعام ابن عمر؟ قال: كان يطعمنا ثريداً، فإن لم نشبع زادنا آخر، فقيل: كيف كان لباس ابن عمر؟ قال: كان يلبس ثوبين ثمن عشرين درهماً، وكان يلبس ثوبين قطريين ثمن عشرة دراهم.
عن ميمون بن مهران: أن رجلاً من بني عيد الله بن عمر استكساه إزاراً، وقال: تخرق إزاري، فقال له: اقطع إزارك، ثم انكسه، فكره الفتى ذلك، فقال له عبد الله بن عمر: ويحك! اتق الله، ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم، وعلى ظهورهم.
كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر قال: ارفع إلي حاجتك، قال: فكتب إليه ابن عمر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " إن اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول " ولست أسألك شيئاً، ولا أرد رزقاً رزقنيه الله منك.
عن نافع قال: نزل ابن عمر بقومٍ، فلما مضت ثلاثة أيامٍ قال: يا نافع، أنفق علينا من مالنا، لا حاجة لنا أن يُتصدَّق علينا.
وقال: عن ابن عمر أنه كان ليلةً على الصفا، فقال: اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطاعة رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستعملني بسنة نبيك، وتوفني على ملته، وأعذني من شر مضلات الفتن.
وقال: لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا انتقص من درجاته عند الله، وإن كان على الله كريماً.
وعن وهب: أن ابن عمر حماراً، فقيل له: لو أمسكته، قال: لقد كان لنا موافقاً ولكنه أذهب شُعبةً من قلبي، فكرهت أن أشغل قلبي بشيء.
عن نافع قال: سمع ابن عمر شيئاً، فضحك، وهو عند قبر ابنه يوم مات، وكان أحب الناس إليه، فقال: إنما نفرح بهم، ونحزن عليهم ما داموا معنا، فإذا انقرضوا، وصاروا إلى الله انقطعوا منا.
ومرض ابن له، فجزع جزعاً شديداً، فلما مات خرج على أصحابه مكتحلاً، مدهناً، فقالوا: لقد أشفقنا عليك يا أبا عبد الرحمن! فقال: إذا وقع القضاء فليس إلا التسليم.
قال خالد بن أسلم مولى عمر:
آذى رجل من قريش عبد الله بن عمر، فأبى عبد الله أن يقول له شيئاً، فجئت، فقلت: أبا عبد الرحمن، بلغني أن فلاناً آذاك، فإما أن تنصر وإما أن ننتصر لك منه، فقال عبد الله: إني وأخي عاصماً لا نُسابُّ الناس.
عن نافع أو غيره: أن رجلاً قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابن خير الناس، فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
قال وبرة: أتى رجل ابن عمر، فقال: أيصلح أن أطوف بالبيت وأنا محرم؟ قال: ما يمنعك
من ذلك؟ قال: إن فلاناً ينهانا عن ذلك، حتى ترجع الناس من الموقف، ورأيته كأنه مالت به الدنيا أعجب إلينا منه، قال ابن عمر: حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وسنة الله ورسوله أحق أن تتبع من سنة ابن فلان، إن كنت صادقاً.
قيل لابن عمر: لا يزال الناس بخيرٍ ما أبقاك الله لهم، فغضب ابن عمر وقال: إني لأحسبك عراقياً، وما يدريك علام يغلق عليه ابن أمك بابه - وفي رواية: وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه؟! عن حصين قال: قال ابن عمر: إني لأخرج، وما لي أن أسلم على الناس، ويسلموا عليَّ.
عن أبي بردة عن أبيه قال: صليت إلى جانب ابن عمر، فسمعته حين سجد يقول: اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخوفك أخوف الأشياء عندي، وسمعته حين سجد يقول: " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين " وقال: ما صليت صلاة مذ أسلمت إلا وأنا أرجو أن تكون كفارةً.
وقال لأبي بردة: علمت أن أبي لقي أباك فقال له: يا أبا موسى، أيسرك أن عملك الذي كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلص لك، لا عليك، ولا لك؟ قال: لا؛ قرأت القرآن، وعلَّمت الناس، قال: قال عمر: ليت أن علمي خلص لي كفافاً لا عليَّ، ولا لي.
قال أبو بردة: إن أباك أفقه من أبي.
عن عبد الجبار بن موسى، عن أبيه: أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله، فألقى إليه عمامته، فقال له بعض القوم: لو أعطيته درهماً لأجزأه، فقال ابن عمر: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من أبر البِر أن يصل الرجل أهل ود أبيه " وإن هذا كان من أهل ود عمر.
قال نافع: دخلت مع ابن عمر الكعبة وهو يومئذ مُضَيَّق، فسمعته وهو ساجد يتضرع إلى ربه، يقول: يا رب، وقد تعلُم، لولا خوفك لزاحمنا قريشاً على هذه الدنيا.
قال عبد الله بن عمر: ساعة للدنيا، وساعة للآخرة، وبين ذلك؛ اللهم اغفر لنا.
ومكث عبد الله بن عمر على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها.
وقال: لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تعلَّمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجلاً لا يرى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، وما يدري ما آمره، ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثر نثر الدقل.
قال عمر: ما منكم أحد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون خلا عبد الله؛ فإني أحب أن يبقى ليأخذ به الناس.
وكانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك ابن عفان، وبعده ابن عمر.
قال مجاهد: ترك الناس أن يقتدوا بابن عمر وهو شاب، فلما كبُر اقتدوا به.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان العلماء بعد معاذ بن جبل: عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وسلمان، وعبد الله بن سلام، ثم كان العلماء بعد هؤلاء: زيد، ثم كان بعد زيد بن ثابت: ابن عمر، وابن عباس، وكان بعد هذين سعيد بن المسيب.
قال مسعود بن سليمان: أتينا معاوية بالأبطح مجلساً، فجلس عليه، ومعه ابنه قرظة، فإذا هو بجماعة على رحالٍ لهم، وإذا شاب قد رفع عقيرته يغني: من الرمل
من يساجلني يساجل ماجداً ... أخضر الجلدة في بيت العربْ
فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلوا له الطريق فليذهب، قال: ثم إذا هو بجماعةٍ فيهم غلام يغني: من الرمل
بينما يذكرنني أبصرنني ... عند قيد الميل يسعى بي الأغرّ
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم ... قد عرفناه، وهل يخفى القمرْ؟
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: خلوا له الطريق، فليذهب، ثم إذا هو بجماعةٍ، فإذا رجل منهم يُسأل، فقال له: رميت قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمي؛ لأشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج: فقال: من هذا؟
فقالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنة قرظة، فقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة.
قال مالك بن أنس: لا يعدلن برأي ابن عمر، فإنه أقام بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستين سنةً، فلم يذهب عنه من أمره، ولا من أمور أصحابه شيء.
قال ابن سيرين: قال رجل: اللهم أبقني ما أبقيت ابن عمر أقتدي به، وقال رجل: لقد رأيت هذه الفتنة وما فينا أحد إلا فيه غير عبد الله بن عمر.
عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس يجلسان للناس عند قدوم الحاج، فكنت أجلس إلى هذا يوماً وإلى هذا يوماً، وكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما قال عنه، وكان ابن عمر ما يرد أكثر مما يفتي.
وسأل رجل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه، ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته: قال: فقال له: يرحمك الله، أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا، يرحمك الله، حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به.
عن عقبة بن مسلم: أن ابن عمر سئل عن شيءٍ فقال: لا أدري، ثم أتبعها فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر؟ وعن نافع عن ابن عمر: انه سئل عن أمرٍ فقال: لا أعلمه، ثم قال: نِعْمَ ما قال ابن عمر، سئل عن أمرٍ لا يعلمه، فقال: لا أعلمه.
عن الشعبي قال: كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه.
عن الليث قال: كتب رجل إلى ابن عمر: اكتب إليّ بالعلم كله، فكتب إليه ابن عمر: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافاً لسانك عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعلِ، والسلام.
عن أبي عبد الرحمن القرشي قال: بعثت أم ولدٍ لعبد الملك بن مروان إلى وكيلٍ لها بالمدينة تستهديه غلاماً وقالت له: يكون على هذه الصفة: عالماً بالسنة، قارئاً لكتاب الله، فصيح اللسان، حسن البيان، عفيف الفرج، كثير الحياء، قليل المراء، قال: فكتب إليها: قد طلبت الغلام الذي استهديتني على ما وصفت، فلم أجد غلاماً بهذه الصفة إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقد ساومت به أهله فأبوا أن يبعوه!! عن نافع قال: كنا مع ابن عمر - في سفر -، فقيل: إن السبع في الطريق قد حبس الناس، فاستخف ابن عمر راحلته، فلما بلغ إليه نزل، فعرك أذنه وقعّده، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم يسلط عليه غيره، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله لم يكله إلى سواه ".
عن الشعبي قال:
لقد رأيت عجباً؛ كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم
كل رجلٍ منكم، فليأخذ بالركن اليماني، ويسأل الله حاجته؛ فإنه يعطى من ساعته. قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولودٍ ولد في الهجرة، فقام، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم، ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك، وحرمة عرشك، وحرمة نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم عليّ بالخلافة، وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا مصعب بن الزبير، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم إنك رب كل شيءٍ، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني سكينة بنت الحسين، وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الملك بن مروان، فقام، فأخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرضين ذات النبت بعد الفقر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول عرشك ألا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك ألا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.
قال الشعبي: فما ذهبت عيناي حتى رأيت كل رجلٍ منهم قد أعطي ما سأل.
قال مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير: خطب عروة بن الزبير إلى عبد الله بن عمر ابنته سودة بنت عبد الله، وهو بمكة، فلم يرد عليه شيئاً، فلما قدم المدينة أتاه عروة وهو في المسجد، فسلم عليه، فقال له عبد الله بن عمر: أرأيت ما ذكرت لي بمكة، أهو من شأنك اليوم؟ قال له عروة: نعم، ولقد عجبت من سكاتك عني بمكة! فقال: إني خرجت حاجاً، فكرهت أن أخلط حجي بشيءٍ، فتشهد عبد الله بن عمر، ثم زوجه.
عن عبد الله بن واقد قال: رأيت ابن عمر يفت المسك في الدهن يدَّهِن به.
قال زيد بن عبد الله الشيباني: رأيت ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة دب دبيباً، لو أن نملة مشت معه قلت: لا يسبقها.
عن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر بخربةٍ، فقال: يا مجاهد، ناد، يا خربة أين أهلك، أو قال: ما فعل أهلك؟ قال: فناديت، فقال ابن عمر: ذهبوا، وبقيت أعمالهم.
قال إبراهيم بن أدهم: مر عبد الله بن عمر على قومٍ مجتمعين، وعليه بردة حسناء، فقال رجل من القوم: إن أنا سلبته بردته فما لي عندكم؟ فجعلوا له شيئاً، فأتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، بردتك هذه هي لي. قال: فقال: فإني اشتريتها بالأمس! قال: قد أعلمتك وأنت في حرج من لبسها، قال: فهتكتها ليدفعها إليه، قال: فضحك القوم، فقال: ما لكم؟ فقالوا له: هذا رجل بطال، قال: فالتفت إليه فقال: يا أخي أما علمت أن الموت أمامك لا تدري متى يأتيك صباحاً أو مساءً، ليلاً أو نهاراً؟! ثم القبر، وهول المطلع، ومنكر ونكير، وبعد ذلك القيامة، يوم يخسر فيه المبطلون!؟ فأبكاهم ومضى.
قال أبو عبد الله بن الأعرابي: أراد رجل أن يعتزل الناس، فقال له عبد الله بن عمر: إنه لا بد لك من الناس، ولا بد للناس منك، ولكن كن كأصم يسمع، وأعمى يبصر، وسكوت ينطق.
عن ابن سيرين: أن ابن عمر كان إذا خرج في سفرٍ أخرج معه سفيهاً، فإن جاءه سفيه رده عنه.
عن قتادة قال: كان ابن عمر يقول: إن الحليم ليس من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج، ولكن الحليم من قدر ثم عفا، وإن الوصول ليس من وصل - يعني من وصله - فتلك مجازاة، ولكن الوصول من قطع ثم وصل، وعطف على من لم يصله.
عن حميد الطويل قال: قال ابن عمر: البِر شيء هين، وجه طليق وكلام لين.
قال ابن عمر: ما حمل الرجال حملاً أثقل من المروءة، فقال له أصحابه: أصلحك الله، صف لنا المروءة، فقال: ما لذلك عندي حد أعرفه، فألح عليه رجل منهم، فقال: ما أدري ما أقول: إلا أني ما استحييت من شيءٍ علانيةً إلا استحييت منه سراً.
عن مالكٍ قال:
اشترى ابن عمر جاريةً رومية، فأحبها حباً شديداً، فوقعت يوماً عن بغلةٍ كانت عليها، فجعل ابن عمر يمسح التراب عنها، ويفديها، فكانت تقول له: - أي رجل صالح - ثم هربت منه، فقال ابن عمر: من البسيط
قد كنت أحسبني قالون، فانطلقت ... فاليوم أعلم أني غير قالون
قال المغيرة بن شعبة لعمر: ألا أدلك على القوي الأمين؟ قال: بلى، قال: عبد الله بن عمر، قال: ما أردت بقولك هذا؟ ولأن يموت فأكفِّنه بيدي أحب إلي من أوليه وأنا أعلم أن في الناس من هو خير منه.
عن عبد الله بن موهب: أن عثمان قال لابن عمر: اذهب قاضياً، قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: عزمت عليك إلا ذهبت، فقضيت، قال: لا تعجل، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من عاذ بالله فقد عاذ بمَعَاذٍ " قال: نعم، قال: إني أعوذ بالله أن أكون قاضياً، قال: ما يمنعك، وقد كان أبوك يقضي؟ قال: لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كان قاضياً فقضى بجهلٍ كان من أهل النار، ومن كان قاضياً عالماً فقضى بحقٍ أو بعدلٍ سأل الله أن ينقلب كفافاً " فما أرجو منه بعد؟!
قال مصعب بن عبد الله: جاءت جماعة من بني عدي إلى عبد الله بن عمر، وهو عند عثمان في الدار يوم قتل عثمان، قبل قتله فاحتملوا عبد الله بن عمر من الدار، فخرجوا به.
قال نافع: لما قتل عثمان جاء علي ابن عمر، فقال: إنك محبوب إلى الناس؛ فسر إلى الشام، فقال ابن عمر: بقرابتي وصحبتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرابة التي بيننا، فلم يعاوده.
قال مصعب بن عبد الله: لما قتل عثمان، وبويع علي أُتي بعبد الله بن عمر، فقيل: بايع، فأبى، فشد به أصحاب علي، فقال عبد الله بن عمر لعلي: ما تصنع بهذا، لا والله؟ لا أبسط يدي ببيعة في فرقةٍ، ولا أقبضها في جماعة أبداً، فقال علي: خلوه، وأنا كفيله، وخرج بعد قتل عثمان إلى مكة ليلاً، فلما أصبح علي فقده، وظنه خرج إلى الشام، فنهض إلى سوق الظهر، وقال: عليَّ بالإبل، فأمر بجمعها ليرسل في طلبه، فأرسلت إليه ابنته أم كلثوم: لا تعن بطلبه، فلم يخرج إلى الشام وإنما خرج إلى مكة، وأنا عذيرتك منه، فوقف عن طلبه.
قال ابن عمر: دخلت علي حفصة ونوساتها تنطف، فقلت: قد كان من الناس ما ترين، ولم يجعل لي من الأمر شيء، قالت: فالحق بهم، فإنهم ينتظرونك، وإني أخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الحكمان خطب معاوية، فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع إلي قرنه، فلنحن أحق بذلك منه ومن أبيه - يعرض بابن عمر - فحلَلْتُ حبوتي، فهممت أن أقول: أحق بذلك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجمع، ويسفك فيها الدم، وأحمل فيها على غير رأيي؛ فذكرت ما أعد الله في الجنان.
قال معاوية لعبد الله بن جعفر: بلغني أن ابن عمر يريد هذا الأمر، وفيه ثلاث خصالٍ لا يصلحن في خليفة: هو
رجل غيور، وهو رجل عييٍّ وهو رجل بخيل، قال: فذهب ابن جعفر فأخبر ابن عمر، فقال ابن عمر: أما قوله: إني رجل غيور، فإني كنت أغلق بابي على أهلي، فما حاجة الناس إلى ما وراء ذلك؟ وأما قوله: إني لرجل عييٍّ فإني كنت أعلم الناس بكتاب الله، ولا كلام أبلغ منه، وأما قوله: إني رجل بخيل؛ فإني كنت أقسم على الناس فيئهم بكتاب الله، فإذا فعلت ذلك فما حاجة الناس إلى ما أورثني ابن الخطاب؟ فأخبر ابن جعفر معاوية بها، فقال معاوية: عزمت عليك ألا يسمع هذا منك أحد.
وقد روي نحو هذه المقالة عن الحجاج.
عن قطن قال: أتى رجل ابن عمر، فقال: ما أحد شر لأمة محمد منك، فقال: لمَ؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم! قال: إنك لو شئت ما اختلف فيك اثنان، قال: ما أحب أنها أتتني ورجل يقول: لا، وآخر يقول: بلى.
وعن ميمون قال:
دس معاوية عمرو بن العاص، وهو يريد ما في نفس ابن عمر: يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نفر يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهَجَرَ لم يكن لي فيها حاجة، قال: فعلم أنه لا يريد القتال، قال: فهل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرضين، ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفٍّ لك اخرج من عندي ثم لا تدخل عليّ، ويحكّ! إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني لأرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.
وعن نافع عن ابن عمر: أنه أتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عمر، وصاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر مناقبه - فما يمنعك من هذا الأمر؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم المسلمين، قال: فإن الله تعالى يقول: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله "؟ قال: قد فعلنا، قد قاتلناهم حتى كان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم حتى يكون الدين لغير الله.
عن أبي العالية: أن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان كانا ذات يوم قاعدين في الحِجر، فمر بهما ابن عمر، وهو يطوف بالبيت، فقال أحدهما لصاحبه: أتراه بقي أحد خير من هذا؟ ثم قالا لرجل: ادعه لنا إذا قضى طوافه، فلما قضى طوافه، وصلى ركعتين أتاه رسولهما، فقال: هذا عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن صفوان يدعوانك إليهما؛ فقال عبد الله بن صفوان: أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين؟ - يعني ابن الزبير - فقد بايع له أهل العروض، وأهل العراق، وعامة أهل الشام، فقال: والله لا أبايعكم وأنتم واضعون سيوفكم على عواتقكم، تصيب أيديكم من دماء المسلمين! عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً أتاه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما الذي يحملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا بن أخي، بُني الإسلام على خمسة: إيمان بالله ورسوله، وصلاة الخمس، وصيام شهر رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت، فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتبه: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " فما يمنعك أن تقاتل الفئة الباغية
كما أمرك الله عز وجل في كتابه؟ فقال: يا بن أخي لأن أعتبر بهذه الآية فلا أقاتل أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم " قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال ابن عمر: قولي في علي وعثمان؛ أما عثمان فكان الله عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله، وأما علي فابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وختنه، وأشار بيده: هذا بيته حيث ترون! عن نافع قال: دخل ابن عمر الكعبة، فسمعته وهو ساجد يقول: قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريشٍ على هذه الدنيا إلا خوفك.
وكتب إلى عبد الله بن الزبير: إنك انبريت على رقاب الناس بغير شورى، فدع ما أنت فيه، فإنك لست في شيءٍ.
عن الأوزاعي: أن ابن عمر قال: لقد بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما نكثت، ولا بدلت إلى يومي هذا، ولا بايعت صاحب فتنة، ولا أيقظت مؤمناً من مرقده.
قال حبيب بن أبي مرزوق: بلغني أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو يومئذٍ خليفة: من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان، فقال مَنْ حول عبد الملك: بدأ باسمه قبل اسمك! فقال عبد الملك: هذا من أبي عبد الرحمن كثير.
عن عبد الرحمن بن يسار قال: سمعت الحجاج وهو يقول: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كلام الله، فقال
ابن عمر: كذبت، ليس تبديل كلام الله بيدك، ولا بيد ابن الزبير، كتاب الله أعز من أن يبدَّل، قال: فقال الناس لابن عمر: اخرج، فأبى أن يخرج حتى صلى معه.
عن محمد بن سيرين قال: كان ابن عمر يأتي العمال، ثم قعد عنهم، فقيل له: لو أتيتهم، فلعلهم يجدون في أنفسهم، فقال: أرهب إن تكلمت أن يروا أن الدين غير الذي بي، وإن سكت رهبت أن آثم.
سئل نافع عن بدء مرض ابن عمر وموته، فقال: أصابته عارضة محمل بمكة بين إصبعين من أصابعه عند الجمرة، فمرض، فدخل عليه الحجاج، فلما رآه ابن عمر غمّض عينيه، فكلمه الحجاج، فلم يكلمه، قال: فغضب الحجاج وقال: إن هذا يقول: إني على الضرب الأول.
وقال سعيد بن عمرو: قدم ابن عمر حاجاً، فدخل عليه الحجاج وقد أصابه زج رمحٍ، فقال: من أصابك؟ فقال: أصابني من أمرتموه بحمل السلاح في مكانٍ لا يحل فيه حمله.
عن نافع قال: ذكرت الوصية لابن عمر في مرضه، فقال ابن عمر: أما مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه، وأما رباعي وأرضي فإني لا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد.
عن سعيد بن جبير قال: لما حضر ابن عمر الموت قال: ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقتل هذه الفئة التي نزلت بنا - يعني الحجاج.
قال ابن عمر عند الموت لسالم: يا بني، إن أنا مت فادفني خارجاً من الحرم؛ فإني أكره أن أدفن فيه بعد أن
خرجت منه مهاجراً، فقال: يا أبه، إن قدرنا على ذلك، فقال: تسمعني أقول لك، وتقول: إن قدرنا؟! قال: أقول: الحجاج يغلبنا يصلي عليك، قال: فسكت ابن عمر.
وكان آخر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موتاً بمكة عبد الله بن عمر، مات سنة أربع وسبعين، وبلغ من السن سبعاً وثمانين، وقيل: أربعاً وثمانين، ودفن بالمحصب، وبعض الناس يقول: بفخ، وقيل بذي طوى.
وقيل إنه توفي سنة ثلاث وسبعين بعد ابن الزبير بشهرين أو ثلاثة أشهر.
عن رجاء بن حيوة قال: نعي إلينا ابن عمر في مجلس ابن محيريز، فقال ابن محيريز: إن كنت لأعد بقاء عبد الله بن عمر أماناً لأهل الأرض.
عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وكان قد عمر.
عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْقُرَشِيّ ثم العدوي.
قَالَ الْحَسَن بْن واقع (4) عَنْ ضمرة: مات سنة ثلاث وسبعين،
وَقَالَ عَبْد العزيز عَنْ مالك بْن أنس: بلغ ابن عُمَر سبعا وثمانين سنة.
وَقَالَ هشام بْن عَبْد الملك حَدَّثَنَا علي بْن سحيم عَنِ ابْن عون قَالَ: كتبت إلى نافع أسألَهُ عَنِ الدعوة قبل القتال فكتب أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغار على بني المصطلق وهم غارون فِي (1) أنعامهم تسقى على الماء فقتل (2) المقاتلة وسبى الذرية وسبى يومئذ جويرية بنت الحارث، حَدَّثَنِي بذلك عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَكَانَ فِي ذلك الجيش.
قَالَ الْحَسَن بْن واقع (4) عَنْ ضمرة: مات سنة ثلاث وسبعين،
وَقَالَ عَبْد العزيز عَنْ مالك بْن أنس: بلغ ابن عُمَر سبعا وثمانين سنة.
وَقَالَ هشام بْن عَبْد الملك حَدَّثَنَا علي بْن سحيم عَنِ ابْن عون قَالَ: كتبت إلى نافع أسألَهُ عَنِ الدعوة قبل القتال فكتب أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغار على بني المصطلق وهم غارون فِي (1) أنعامهم تسقى على الماء فقتل (2) المقاتلة وسبى الذرية وسبى يومئذ جويرية بنت الحارث، حَدَّثَنِي بذلك عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَكَانَ فِي ذلك الجيش.
عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيٍّ المَقْدِسِيُّ
الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الصَّادِقُ، القُدْوَةُ، العَابِدُ، الأَثَرِيُّ، المُتَّبَعُ،
عَالِمُ الحُفَّاظِ، تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرِ بنِ رَافِعِ بنِ حَسَنِ بنِ جَعْفَرٍ المَقْدِسِيُّ، الجَمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ المَنْشَأ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ (الأَحكَامِ الكُبْرَى) ، وَ (الصُّغْرَى) .قَرَأْتُ سِيرتَهُ فِي جُزْءيْنِ، جَمْعِ الحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ المَقْدِسِيِّ، عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ أَحْمَدَ البَنَّاءِ، بِسَمَاعِهِ عَامَ سِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ مِنَ المُؤلّفِ، فَعَامَّةُ مَا أَوْرَدَهُ فَمِنْهَا.
قَالَ: وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ بِجُمَّاعِيلَ، أَظنُّهُ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، قَالَتْ وَالِدتِي : هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيْهَا الشَّيْخِ المُوَفَّقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالمُوَفَّقُ وُلِدَ فِي شَعْبَان.
سَمِعَ الكَثِيْرَ بِدِمَشْقَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبَيْتَ المَقْدِسِ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَحَرَّانَ، وَالمَوْصِلَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَمَذَانَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ.
سَمِعَ: أَبَا الفَتْحِ ابْنَ البَطِّيِّ، وَأَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ رَبَاحٍ الفَرَّاءَ، وَالشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ الجِيْلِيَّ، وَهِبَةَ اللهِ بنَ هِلاَلٍ الدَّقَّاقَ، وَأَبَا زُرْعَةَ المَقْدِسِيَّ، وَمَعْمَرَ بنَ الفَاخِرِ، وَأَحْمَدَ بنَ المُقَرَّبِ، وَيَحْيَى بنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا بَكْرٍ بنَ
النَّقُّوْرِ، وَأَحْمَدَ بنَ عَبْدِ الغَنِيِّ البَاجِسْرَائِيَّ، وَعِدَّةً بِبَغْدَادَ، وَالحَافِظَ أَبَا طَاهِرٍ السِّلَفِيَّ، فَكَتَبَ عَنْهُ نَحْواً مِنْ أَلفِ جزءٍ.وَبِدِمَشْقَ: أَبَا المَكَارِمِ بنَ هِلاَلٍ، وَسَلْمَانَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَأَبَا المَعَالِي بنَ صَابرٍ، وَعِدَّةً.
وَبِمِصْرَ: مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ بَرِّيٍّ، وَطَائِفَةً.
وَبِأَصْبَهَانَ: الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى المَدِيْنِيَّ، وَأَبَا الوَفَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ حَمَكَا، وَأَبَا الفَتْحِ الخِرَقِيَّ، وَابْنَ يَنَال التُّرْك، وَمُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغَ، وَحَبِيْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْفِيَّ.
وَبِالمَوْصِلِ: أَبَا الفَضْلِ الطُّوْسِيَّ، وَطَائِفَةً.
وَلَمْ يَزَلْ يَطلبُ، وَيَسْمَع، وَيَكْتُبُ، وَيسهَرُ، وَيدأَبُ، وَيَأْمرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنَهى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتقِي اللهَ، وَيَتعبَّدُ، وَيَصُوْمُ، وَيَتهجَّدُ، وَيَنشرُ العِلْمَ، إِلَى أَنْ مَاتَ.
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مرَّتينِ، وَإِلَى مِصْرَ مرَّتينِ، سَافرَ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ خَالِهِ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ مَعاً، وَيَذْهَبُ أَحدُهُمَا فِي صُحْبَة رفِيقِهِ إِلَى دَرْسِهِ وَسَمَاعِهِ، كَانَا شَابَّيْنِ مُخْتَطّين، وَخوَّفَهُمَا النَّاسُ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَكَانَ الحَافِظُ مَيْلُهُ إِلَى الحَدِيْثِ، وَالمُوَفَّقُ يُرِيْدُ الفِقْهَ، فَتفقَّهَ الحَافِظُ، وَسَمِعَ المُوَفَّقُ مَعَهُ الكَثِيْرَ، فَلَمَّا رَآهُمَا العُقَلاَءُ عَلَى التَّصَوُّنِ وَقِلَّةِ المُخَالَطَةِ أَحَبُّوهُمَا، وَأَحْسَنُوا إِلَيهُمَا، وَحصَّلاَ عِلْماً جمّاً، فَأَقَامَا بِبَغْدَادَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِيْنَ، وَنَزَلاَ أَوَّلاً عِنْد الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَأَحْسَنَ إِلَيهِمَا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ قُدُومِهِمَا بخَمْسِيْنَ لَيْلَةً، ثُمَّ اشْتَغَلاَ بِالفِقْهِ وَالخِلاَفَةِ عَلَى ابْنِ المنِّي.
وَرَحَلَ الحَافِظُ إِلَى السِّلَفِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّيْنَ، فَأَقَامَ مُدَّةً، ثُمَّ رحلَ أَيْضاً إِلَى السِّلَفِيِّ سَنَةَ
سَبْعِيْنَ، ثُمَّ سَافرَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَسَبْعِيْنَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَحَصَّلَ الكتُبَ الجيِّدَةَ.قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ لَيْسَ بِالأَبيضِ الأَمهَقِ، بَلْ يَمِيْلُ إِلَى السُّمرَةِ، حسن الشَّعْرِ، كَثّ اللِّحْيَةِ، وَاسِع الجبينِ، عَظِيْم الخَلْقِ، تَامّ القَامَةِ، كَأَنَّ النُّوْر يَخْرُجُ مِنْ وَجهِهِ، وَكَانَ قَدْ ضعُفَ بصرُهُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّسْخِ وَالمُطَالَعَةِ.
قُلْتُ : حَدَّثَ عَنْهُ: الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ، وَالحَافِظُ عِزُّ الدِّيْنِ مُحَمَّدٌ، وَالحَافِظُ أَبُو مُوْسَى عَبْدُ اللهِ، والفَقِيْهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَوْلاَدُهُ، وَالحَافِظُ الضِّيَاءُ، وَالخَطِيْبُ سُلَيْمَانُ بنُ رَحْمَةَ الأَسْعَرْدِيُّ، وَالبَهَاءُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ، وَالشَّيْخُ الفَقِيْهُ مُحَمَّدُ اليُوْنِيْنِيُّ، وَالزَّيْنُ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَأَبُو الحَجَّاجِ بنُ خَلِيْلٍ، وَالتَّقِيُّ اليَلْدَانِيُّ، وَالشِّهَابُ القُوْصِيُّ، وَعَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ القَلاَنسِيُّ، وَالوَاعِظُ عُثْمَانُ بنُ مَكِّيٍّ الشَّارعِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ حَامِدٍ الأَرْتَاحِيُّ، وَإِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ القوِيِّ بنِ عَزُّوْنَ، وَأَبُو عِيْسَى عَبْدُ اللهِ بنُ عَلاَّقٍ الرَّزَّازُ، وَخَلْقٌ، آخِرُهُم مَوْتاً سَعْدُ الدِّيْنِ مُحَمَّدُ بنُ مُهَلْهَلٍ الجينِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: شَيْخُنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ الحَدَّادُ.
تَصَانِيْفُهُ:
كِتَابُ (المِصْبَاح فِي عُيونِ الأَحَادِيْثِ الصِّحَاحِ) مشتملٌ عَلَى أَحَادِيْثِ (
الصَّحِيْحَيْنِ) ، فَهُوَ مُسْتخرَجٌ عَلَيْهِمَا بِأَسَانِيْدِهِ، فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءاً، كِتَابُ (نِهَايَة المُرَادِ ) فِي السُّنَنِ نَحْوُ مائَتَيْ جزءٍ لَمْ يَبَيِّضْهُ، كِتَابُ (اليَواقيت) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (تُحْفَة الطَّالبينَ فِي الجِهَادِ وَالمُجَاهِدِيْنَ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (فَضَائِل خَيْرِ البرِيَّةِ ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، كِتَابُ (الرَّوْضَة) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (التَّهجُّد) جُزْآنِ، كِتَابُ (الفَرَج) جزآنِ، كِتَابُ (الصِّلاَت إِلَى الأَمْوَاتِ ) جزآنِ، (الصِّفَات) جزآنِ، (مِحْنَة الإِمَامِ أَحْمَدَ) جُزْآنِ، (ذَمّ الرِّيَاءِ) جُزْء، (ذَمّ الغِيبَةِ) جُزْء، (التَّرغِيب فِي الدُّعَاءِ) جُزْء، (فَضَائِل مَكَّةَ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، (الأَمْر بِالمَعْرُوفِ) جزءٌ، (فَضل رَمَضَانَ) جُزْء، (فَضل الصَّدَقَةِ) جُزْء، (فَضل عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ) جزءٌ، (فَضَائِل الحَجِّ) جزءٌ، (فَضل رَجَب) ، (وَفَاة النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جزءٌ، (الأَقسَام الَّتِي أَقسمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ ) بِسندٍ وَاحِدٍ، (أَرْبَعِيْنَ مِنْ كَلاَمِ رَبِّ العَالِمِينَ) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) آخرُ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) رَابعُ، (اعْتِقَاد الشَّافِعِيِّ) جزءٌ، كِتَابُ (الحِكَايَاتِ) سَبْعَةُ أَجزَاءٍ، (تَحَقِيْق مُشْكِلِ الأَلْفَاظِ ) مجلَّدَيْنِ، (الجَامِعُ الصَّغِيْرِ فِي الأَحكَامِ ) لَمْ يَتِمَّ، (ذِكْر القُبُوْرِ) جزءٌ، (الأَحَادِيْث وَالحِكَايَات) كَانَ
يَقرؤهَا لِلْعَامَّةِ، مائَة جزءٍ، (مَنَاقِب عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ) جزءٌ، وَعِدَّةُ أَجزَاءٍ فِي (مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ) ، وَأَشيَاءَ كَثِيْرَةً جِدّاً مَا تَمَّتْ، وَالجَمِيْعُبِأَسَانِيْدِهِ، بِخَطِّهِ المَلِيْحِ الشَّدِيدِ السُّرعَةِ، وَ (أَحكَامه الكُبْرَى) مُجَلَّدٌ، وَ (الصَّغرَى) مُجَيْلِيْدٌ، كِتَابُ (دُرَر الأَثرِ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (السَّيرَة) جزءٌ كَبِيْرٌ، (الأَدعيَة الصَّحيحَة) جزءٌ، (تَبيين الإِصَابَةِ لأَوهَامٍ حصلَتْ لأَبِي نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ) جُزْآنِ، تَدُلُّ عَلَى برَاعتِهِ وَحفظِهِ، كِتَابُ (الكَمَال فِي مَعْرِفَةِ رِجَالِ الكُتُبِ السِّتَّةِ ) فِي أَرْبَعَةِ أَسفَارٍ، يَرْوِي فِيْهِ بِأَسَانِيْدِهِ.
فِي حِفْظِهِ:
قَالَ ضِيَاءُ الدِّيْنِ: كَانَ شَيْخُنَا الحَافِظُ لاَ يَكَادُ يُسْأَلُ عَنْ حَدِيْثٍ إِلاَّ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَهُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ أَوْ سقمَهُ، وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ إِلاَّ قَالَ: هُوَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ الفُلاَنِيُّ، وَيذكرُ نسبَهُ، فَكَانَ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظِ أَبِي مُوْسَى، فَجرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ منَازعَةً فِي حَدِيْثٍ، فَقَالَ: هُوَ فِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) .
فَقُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِيْهِ.
قَالَ: فَكَتَبَهُ فِي رُقْعَةٍ، وَرفعهَا إِلَى أَبِي مُوْسَى يَسْأَلُهُ، قَالَ: فَنَاوَلَنِي أَبُو مُوْسَى الرُّقْعَةَ وَقَالَ: مَا تَقُوْلُ؟
فَقُلْتُ: مَا هُوَ فِي (البُخَارِيِّ) ، فَخجِلَ الرَّجُلُ.
قَالَ الضِّيَاءُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بِمَرْوَ كَأَنَّ البُخَارِيَّ بَيْنَ يَدَي الحافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ يَقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جزءٍ، وَكَانَ الحَافِظُ يَردُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ.
وَسَمِعْتُ إِسْمَاعِيْلَ بنَ ظَفَرٍ يَقُوْلُ:
قَالَ رَجُلٌ لِلْحَافِظ عَبْدِ الغَنِيِّ:
رَجُلٌ حلفَ بِالطَّلاَقِ أَنَّكَ تَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ.فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَكْثَرَ لصدَقَ!
وَرَأَيْتُ الحَافِظَ عَلَى المِنْبَرِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُوْلُوْنَ لَهُ: اقرَأْ لَنَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فِيقرَأُ أَحَادِيْثَ بِأَسَانِيْدِهِ مِنْ حِفْظِهِ.
وَسَمِعْتُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظَ سُئِلَ: لِمَ لاَ تَقرَأُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ؟
قَالَ: أَخَافُ العُجْبَ.
وَسَمِعْتُ خَالِي أَبَا عُمَرَ أَوْ وَالِدِي، قَالَ: كَانَ الملِكُ نُوْرُ الدِّيْنِ بنُ زَنْكِي يَأْتِي إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَسْمَعُ الحَدِيْثَ، فَإِذَا أَشْكَلَ شَيْءٌ عَلَى القَارِئ قَالَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى السِّلَفِيِّ، فَكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْنَ ذَاكَ الشَّابُّ؟
فَقُلْنَا: سَافرَ.
وَسَمِعْتُ عَبْدَ العَزِيْزِ بنَ عَبْدِ المَلِكِ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ التَّاجَ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ:
لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ.
وَسَمِعْتُ أَبَا الثَّنَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ: لَمْ يَرَ الحَافِظُ مِثْلَ نَفْسِهِ.
شَاهَدْتُ بِخَطِّ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيِّ عَلَى كِتَابِ (تَبيينِ الإِصَابَةِ) الَّذِي أَملاَهُ عَبْدُ الغَنِيِّ- وَقَدْ سَمِعَهُ أَبُو مُوْسَى، وَالحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ الصَّائِغُ، وَأَبُو العَبَّاسِ التّرك-:
يَقُوْلُ أَبُو مُوْسَى عفَا اللهُ عَنْهُ: قَلَّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا يَفهَمُ هَذَا الشَّأْنَ كفَهْمِ الشَّيْخِ الإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ، وَقَدْ وُفِّقَ لِتبيينِ هَذِهِ الغلطَات، وَلَوْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمثَالُهُ فِي الأَحْيَاءِ لَصَوَّبُوا فَعلَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَفهَمُ فِي زَمَانِنَا مَا فَهِمَ زَادَهُ اللهُ عِلْماً وَتوفِيقاً.
قَالَ أَبُو نِزَارٍ رَبِيْعةُ الصَّنْعَانِيُّ: قَدْ حضَرْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى، وَهَذَا الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فَرَأَيْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ أَحْفَظَ مِنْهُ.سَمِعْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ الجَوْزِيِّ فَقَالَ: وُرَيْرَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الغَسَّانِيُّ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ وَزِيْرَةُ.
فَقَالَ: أَنْتُم أَعْرفُ بِأَهْلِ بلدِكُم.
فِي إِفَادَتِهِ وَاشتِغَالِهِ:
قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ- رحمَهُ اللهُ- مُجْتَهِداً عَلَى الطَّلَبِ، يُكرِمُ الطَّلبَةَ، وَيُحسِنُ إِلَيْهِم، وَإِذَا صَارَ عِنْدَهُ طَالبٌ يَفهَمُ أَمرَهُ بِالرِّحلَةِ، وَيَفرحُ لَهُم بِسَمَاعِ مَا يَحصِّلُونَهُ، وَبسَبَبه سَمِعَ أَصْحَابُنَا الكَثِيْرَ.
سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدٍ الحَافِظَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ الحَدِيْثَ فِي الشَّامِ كُلِّهِ إِلاَّ بِبركَةِ الحَافِظِ، فَإِنَّنِي كُلَّ مَنْ سَأَلتُهُ يَقُوْلُ: أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ عَلَى الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّضَنِي.
وَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ يَقُوْلُ عِنْدَ مَوْتِهِ: لاَ تُضَيِّعُوا هَذَا العِلْمَ الَّذِي قَدْ تَعِبْنَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ : هُوَ رَحَّلَ ابْنَ خَلِيْلٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَرَحَّلَ ابْنَيْهِ العِزَّ مُحَمَّداً، وَعَبْدَ اللهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ صغِيراً، وَسَفَّرَ ابْنَ أُخْتِهِ مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ بنِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ عَمِّهِ عَلِيَّ بنَ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ الضِّيَاءُ: وَحرَّضَنِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَسَافَرَ مَعَنَا ابْنُهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ ابْنُ عشرٍ، فَبَعَثَ مَعَنَا (المُعْجَمَ الكَبِيْرَ) لِلطَّبَرَانِيِّ، وَكِتَابَ (البُخَارِيِّ) ، وَ (السِّيرَةَ) ، وَكَتَبَ إِلَى زَيْنِ الدِّيْنِ عَلِيِّ بن نجَا يُوصِيهِ بِنَا، وَسَفَّرَ ابْنَ ظَفَرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَزوَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا.قَالَ الضِّيَاءُ: لَمَّا دخلنَا أَصْبَهَانَ فِي سفرتِي الثَّانِيَةِ كُنَّا سَبْعَةً، أَحَدُنَا الفَقِيْهُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَافِظِ، وَكَانَ طِفْلاً، فَسمِعنَا عَلَى المَشَايِخِ، وَكَانَ المُؤَيَّدُ ابْنُ الإِخْوَةِ عِنْدَهُ جُمْلَةٌ مِنَ المَسْمُوْعَاتِ، وَكَانَ يَتشدَّدُ عَلَيْنَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَحَزِنْتُ كَثِيْراً، وَأَكْثَرَ مَا ضَاقَ صَدْرِي لثَلاَثَةِ كُتُبٍ: (مُسْنَدِ العَدَنِيِّ) ، وَ (مُعْجَمِ ابْنِ المُقْرِئ) ، وَ (مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى) ، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ عَلَيْهِ فِي النَّوبَةِ الأُوْلَى (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) لَكِنْ لأَجْلِ رِفْقَتِي، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ الحَافِظَ عَبْدَ الغَنِيِّ قَدْ أَمسَكَ رَجُلاً وَهُوَ يَقُوْلُ لِي: أُمَّ هَذَا، أُمَّ هَذَا، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَائِشَةَ بِنْتِ مَعْمَرٍ.
فَلَمَّا استيقظْتُ قُلْتُ: مَا هَذَا إِلاَّ لأَجْلِ شَيْءٍ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ يُرِيْدُ الحَدِيْثَ، فَمضيتُ إِلَى دَارِ بَنِي مَعْمَرٍ، وَفتَّشْتُ الكُتُبَ، فَوَجَدْتُ (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) سَمَاع عَائِشَةَ مِثْلَ ابْنِ الإِخْوَةِ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُ عَلَيْهَا قَالَ لِي بَعْضُ الحَاضِرِيْنَ: إِنَّهَا سَمِعَتْ (مُعْجَمَ ابْنِ المُقْرِئ) فَأَخذنَا النُّسْخَةَ مِنْ خَبَّازٍ، وَسَمِعنَاهُ، وَبعدَ أَيَّامٍ نَاولنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ (مُسْنَدَ أَبِي يَعْلَى) سَمَاعهَا، فَسمِعنَاهُ.
مَجَالِسُهُ:كَانَ -رَحِمَهُ الله- يَقرَأُ الحَدِيْثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَليلَة الخَمِيْسِ، وَيَجْتَمِع خلق، وَكَانَ يَقرَأُ وَيَبْكِي وَيُبْكِي النَّاسَ كَثِيْراً، حَتَّى إِنَّ مَنْ حَضَرَه مَرّة لاَ يَكَاد يَتركه، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ دَعَا دُعَاءً كَثِيْراً.
سَمِعْتُ شَيْخَنَا ابْنَ نَجَا الوَاعِظ بِالقَرَافَةِ يَقُوْلُ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ جَاءَ الإِمَامُ الحَافِظُ، وَهُوَ يُرِيْد أَنْ يَقرَأَ الحَدِيْثَ، فَاشْتَهَى أَنْ تَحضرُوا مَجْلِسه ثَلاَث مَرَّات، وَبعدهَا أَنْتُم تَعرفُوْنَهُ وَتحصل لَكُم الرّغبَة، فَجَلَسَ أَوّل يَوْم، وَحَضَرتُ، فَقَرَأَ أَحَادِيْث بِأَسَانِيْدهَا حِفْظاً، وَقرَأَ جُزْءاً، فَفَرح النَّاس بِهِ، فَسَمِعْتُ ابْنَ نَجَا يَقُوْلُ: حَصَلَ الَّذِي كُنْت أُرِيْده فِي أَوَّلِ مَجْلِس.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ حضَر يَقُوْلُ: بَكَى النَّاس حَتَّى غُشِي عَلَى بَعْضهِم، وَكَانَ يَجلسُ بِمِصْرَ بِأَمَاكن.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ الفَقِيْهَ نَجْمَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ الحَنْبَلِيَّ يَقُوْلُ وَقَدْ حضَر مَجْلِس الحَافِظ:
يَا تَقِيّ الدِّيْنِ، وَاللهِ لَقَدْ حَملتَ الإِسْلاَم، وَلَوْ أَمكننِي مَا فَارقتُ مَجْلِسك.
أَوْقَاتُهُ:
كَانَ لاَ يُضيِّع شَيْئاً مِنْ زَمَانه بِلاَ فَائِدَة، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الفَجْر، وَيلقّن القُرْآن، وَرُبَّمَا أَقرَأَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْثِ تلقيناً، ثُمَّ يَقوم فَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَلاَث مائَة رَكْعَة بِالفَاتِحَة وَالمعوّذتين إِلَى قَبْل الظُّهْر، وَيَنَام نَوْمَة، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْر، وَيَشتغل إِمَّا بِالتّسمِيْع، أَوْ بِالنّسخ إِلَى المَغْرِب، فَإِنْ كَانَ صَائِماً، أَفطر، وَإِلاَّ صَلَّى مِنَ المَغْرِب إِلَى العشَاء، وَيُصَلِّي العشَاء، وَيَنَام إِلَى نِصْف اللَّيْل أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَامَ كَأَنَّ إِنْسَاناً يُوقظه، فَيُصَلِّي لَحْظَةً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إِلَى قُرب
الفَجْر، رُبَّمَا تَوضَأَ سَبْع مَرَّاتٍ أَوْ ثَمَانِياً فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ:مَا تَطِيبُ لِي الصَّلاَة إِلاَّ مَا دَامت أَعضَائِي رطبَة، ثُمَّ يَنَام نَوْمَة يَسِيْرَة إِلَى الفَجْر، وَهَذَا دَأْبُهُ.
أَخْبَرَنِي خَالِي مُوَفَّق الدِّيْنِ، قَالَ :
كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ جَامِعاً لِلْعِلْمِ وَالعمل، وَكَانَ رفِيقِي فِي الصِّبَا، وَكَانَ رفِيقِي فِي طَلَبِ العِلْمِ، وَمَا كُنَّا نَسْتَبِق إِلَى خَيْر إِلاَّ سبقنِي إِلَيْهِ إِلاَّ القَلِيْل، وَكمّل الله فَضِيْلته بَابتلاَئِه بِأَذَى أَهْل البدعَة وَعدَاوتهِم، وَرِزْقِ العِلْم، وَتحصيل الكُتُب الكَثِيْرَة، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُعمَّر.
قَالَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشدّ محَافِظَة عَلَى وَقته مِنْ أَخِي.
قَالَ الضِّيَاء: وَكَانَ يَسْتَعْمَل السّوَاك كَثِيْراً حَتَّى كَأَنَّ أَسْنَانه البَرَدُ.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ سَلاَمَةَ التَّاجِر الحَرَّانِيّ يَقُوْلُ:
كَانَ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ نَازلاً عِنْدِي بِأَصْبَهَانَ، وَمَا كَانَ يَنَام مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ يُصَلِّي وَيَقرَأُ وَيَبْكِي.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: أَضَافَنِي رَجُلٌ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا تَعَشَّينَا، كَانَ عِنْدَهُ رَجُل أَكل مَعَنَا، فَلَمَّا قُمْنَا إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ يصل، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟
قَالُوا: هَذَا رَجُل شَمْسِيّ.
فَضَاق صَدْرِي، وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا أَضفتَنِي إِلاَّ مَعَ كَافِر!
قَالَ: إِنَّهُ كَاتِب، وَلَنَا عِنْدَهُ رَاحَة، ثُمَّ قُمْت بِاللَّيْلِ أُصَلِّي، وَذَاكَ
يَسْتَمع، فَلَمَّا سَمِعَ القُرْآن تَزَفَّر، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْد أَيَّام، وَقَالَ: لَمَّا سَمِعتك تَقرَأُ، وَقَعَ الإِسْلاَم فِي قَلْبِي.وَسَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً عَلَى سِيرَةِ الحَافِظ، كَانَ مُشْتَغِلاً طول زَمَانه.
قِيَامُهُ فِي المُنْكَرِ:
كَانَ لاَ يَرَى مُنْكراً إِلاَّ غَيَّرَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَكَانَ لاَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لَوْمَة لاَئِم.
قَدْ رَأَيْتُهُ مرَّة يهرِيق خمراً، فَجبذ صَاحِبُهُ السَّيْف فَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَأَخَذَهُ مَنْ يَدِهِ، وَكَانَ قَوِيّاً فِي بَدَنِهِ، وَكَثِيْراً مَا كَانَ بِدِمَشْقَ يُنكِرُ وَيَكسر الطَّنَابِيرَ وَالشَّبابَات.
قَالَ خَالِي المُوَفَّق: كَانَ الحَافِظ لاَ يَصبر عَنْ إِنْكَار المُنْكَر إِذَا رَآهُ، وَكُنَّا مرَّة أَنْكَرنَا عَلَى قَوْم، وَأَرقنَا خمرهُم، وَتضَارَبْنَا، فَسَمِعَ خَالِي أَبُو عُمَرَ، فَضَاق صَدْره، وَخَاصمنَا، فَلَمَّا جِئْنَا إِلَى الحَافِظِ طَيَّبَ قُلُوْبنَا، وَصوّب فِعلنَا، وَتَلاَ: {وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } .
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَحْمَدَ الطَّحَّان، قَالَ: كَانَ بَعْض أَوْلاَد صَلاَح الدِّيْنِ قَدْ عُملت لَهُم طنَابِير، وَكَانُوا فِي بُستَان يَشربُوْنَ، فَلقِي الحَافِظ الطّنَابِير، فَكسرهَا.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحَافِظ، قَالَ: فَلَمَّا كُنْت أنَا وَعَبْد الهَادِي عِنْد حمَّام كَافُوْر، إِذَا قَوْم كَثِيْر مَعَهُم عصيّ، فَخففت المشِي، وَجَعَلت أَقُوْل: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَلَمَّا صرت عَلَى الجِسْر، لحقُوا صَاحِبِي، فَقَالَ: أَنَا مَا كسرت لَكُم شَيْئاً، هَذَا هُوَ الَّذِي كسر.
قَالَ: فَإِذَا فَارِس يَركض،
فَترَجَّل، وَقبَّل يَدِي، وَقَالَ: الصِّبْيَان مَا عَرَفُوك.وَكَانَ قَدْ وَضَع الله لَهُ هَيْبَة فِي النُّفُوْس.
سَمِعْتُ فَضَائِلَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرٍ المَقْدِسِيَّ يَقُوْلُ:
سمِعتهُم يَتحدثُونَ بِمِصْرَ: أَنَّ الحَافِظ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَى العَادل، فَقَامَ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّانِي، جَاءَ الأُمَرَاء إِلَى الحَافِظ مِثْل سركس وَأُزكش، فَقَالُوا: آمنَّا بِكَرَامَاتك يَا حَافِظ.
وذكرُوا أَنَّ العَادل قَالَ: مَا خفتُ مِنْ أَحَد مَا خفت مِنْ هَذَا.
فَقُلْنَا: أَيُّهَا الْملك، هَذَا رَجُل فَقِيْه.
قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مَا خُيّل إِلَي إِلاَّ أَنَّهُ سَبعٌ.
قَالَ الضِّيَاء: رَأَيْت بِخَطِّ الحَافِظ: وَالملك العَادل اجْتَمَعت بِهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ إِلاَّ الجَمِيْل، فَأَقْبَل عَلَيّ، وَقَامَ لِي، وَالتزَمَنِي، وَدعوت لَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: عِنْدنَا قصُوْر هُوَ الَّذِي يُوجب التَّقْصِير.
فَقَالَ: مَا عِنْدَك لاَ تَقصِيْر وَلاَ قصُوْر، وَذَكَرَ أَمر السّنَّة، فَقَالَ: مَا عِنْدَك شَيْء تُعَاب بِهِ لاَ فِي الدِّيْنِ وَلاَ الدُّنْيَا، وَلاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاسدين.
وَبَلَغَنِي بَعْد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ بِالشَّامِ وَلاَ مصر مِثْل فُلاَن، دَخَلَ عليّ، فَخُيّل إِلَيَّ أَنَّهُ أَسد، وَهَذَا بِبركَة دعَائِكم وَدُعَاء الأَصْحَاب.
قَالَ الضِّيَاء: كَانُوا قَدْ وَغَروا عَلَيْهِ صدر العَادل، وَتَكلّمُوا فِيْهِ، وَكَانَ بَعْضهُم أَرْسَل إِلَى العَادل يَبذل فِي قتل الحَافِظ خَمْسَة آلاَف دِيْنَار.
قُلْتُ: جرّ هَذِهِ الفِتْنَة نَشْر الحَافِظ أَحَادِيْث النُّزَول وَالصِّفَات، فَقَامُوا عَلَيْهِ، وَرَمَوْهُ بِالتّجسيم، فَمَا دَارَى كَمَا كَانَ يُدَارِيهِم الشَّيْخ المُوَفَّق.
سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَحكِي عَنِ الأَمِيْر دِرباس: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الحَافِظ
إِلَى الْملك العَادل، فَلَمَّا قضَى الْملك كَلاَمه مَعَ الحَافِظ، جَعَلَ يَتَكَلَّم فِي أَمر مَارْدِيْن وَحصَارهَا، فَسَمِعَ الحَافِظ، فَقَالَ: أَيش هَذَا، وَأَنْت بَعْدُ تُرِيْد قِتَال المُسْلِمِيْنَ، مَا تَشكر الله فِيمَا أَعْطَاك، أَمَا ... أَمَا ؟!قَالَ: فَمَا أَعَاد وَلاَ أَبدَى.
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ وَقُمْت مَعَهُ، فَقُلْتُ: أَيش هَذَا؟ نَحْنُ كُنَّا نخَاف عَلَيْك مِنْ هَذَا، ثُمَّ تَعْمَل هَذَا الْعَمَل؟
قَالَ: أَنَا إِذَا رَأَيْت شَيْئاً لاَ أَقدر أَن أَصْبِر، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ ابْنَ الطَّحَّانِ، قَالَ:
كَانَ فِي دَوْلَةِ الأَفْضَلِ جَعَلُوا المَلاَهِي عِنْد الدَّرَجِ، فَجَاءَ الحَافِظ فَكسّر شَيْئاً كَثِيْراً، ثُمَّ صعد يَقرَأُ الحَدِيْث، فَجَاءَ رَسُوْل القَاضِي يَأْمره بِالمشِي إِلَيْهِ لينَاظره فِي الدُّفّ وَالشَّبَّابَة، فَقَالَ: ذَاكَ عِنْدِي حَرَام، وَلاَ أَمْشِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قرَأَ الحَدِيْث.
فَعَاد الرَّسُول، فَقَالَ: لاَ بُدَّ مِنَ المشِي إِلَيْهِ، أَنْتَ قَدْ بطّلت هَذِهِ الأَشيَاء عَلَى السُّلْطَان.
فَقَالَ الحَافِظُ: ضَرَبَ الله رقبته وَرقبَة السُّلْطَان.
فَمَضَى الرَّسُول وَخفنَا، فَمَا جَاءَ أَحَد.
وَمِنْ شَمَائِله:
قَالَ الضِّيَاء: مَا أَعْرف أَحَداً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رَآهُ إِلاَّ أَحَبّه وَمَدَحَهُ كَثِيْراً؛ سَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ الحَرَّانِيّ بِأَصْبَهَانَ، قَالَ:
كَانَ الحَافِظ يَصطف النَّاس
فِي السُّوق يَنظُرُوْنَ إِلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ بِأَصْبَهَانَ مُدَّة وَأَرَادَ أَنْ يَملكهَا، لملكهَا.قَالَ الضِّيَاء: وَلَمَّا وَصل إِلَى مِصْرَ، كُنَّا بِهَا، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلْجمعَة لاَ نَقدر نَمْشِي مَعَهُ مِنْ كَثْرَة الْخلق، يَتبركُوْن بِهِ، وَيَجْتَمِعُوْنَ حَوْلَهُ، وَكُنَّا أَحَدَاثاً نَكْتُب الحَدِيْث حَوْلَهُ، فَضحكنَا مِنْ شَيْءٍ، وَطَال الضحك، فَتبسَّم وَلَمْ يَحْرَد عَلَيْنَا، وَكَانَ سخيّاً، جَوَاداً، لاَ يَدّخر دِيْنَاراً وَلاَ دِرْهَماً مهمَا حصَّل أَخْرَجَهُ، لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُج فِي اللَّيْلِ بِقفَاف الدّقيق إِلَى بيُوت مُتَنَكِّراً فِي الظّلمَة، فَيُعْطِيهم وَلاَ يُعرَف، وَكَانَ يُفتح عَلَيْهِ بِالثِّيَاب، فَيُعْطِي النَّاس وَثَوْبه مرقّع.
قَالَ خَالِي الشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ: كَانَ الحَافِظ يُؤثر بِمَا تَصل يَده إِلَيْهِ سِرّاً وَعَلاَنِيَّة ... ، ثُمَّ سرد حِكَايَات فِي إِعطَائِهِ جُمْلَةَ دَرَاهِمَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ بدر بن مُحَمَّدٍ الجَزَرِيّ يَقُوْلُ:
مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكرم مِنَ الحَافِظ؛ كُنْت أَسْتدين يَعْنِي لِأطْعم بِهِ الفُقَرَاء، فَبقِي لِرَجُلٍ عِنْدِي ثَمَانِيَة وَتِسْعُوْنَ دِرْهَماً، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الوَفَاء، أَتَيْتُ الرَّجُل، فَقُلْتُ: كَمْ لَكَ؟
قَالَ: مَا لِي عِنْدَك شَيْء!
قُلْتُ: مَنْ أَوَفَاهُ؟
قَالَ: قَدْ أُوفِي عَنْكَ، فَكَانَ وَفَّاهُ الحَافِظُ وَأَمره أَنْ يَكتم عَلَيْهِ.
وَسَمِعْتُ سُلَيْمَان الأَسْعَرْدِيّ يَقُوْلُ:
بعثَ الأَفْضَل ابْن صَلاَح الدِّيْنِ إِلَى الحَافِظ بنفقَة وَقمح كَثِيْر، فَفَرَّقه كُلّه.
وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ العِرَاقِيّ؛ حَدَّثَنِي مَنْصُوْرٌ الغَضَارِيُّ، قَالَ:
شَاهَدْتُ الحَافِظَ فِي الغَلاَءِ بِمِصْرَ وَهُوَ ثَلاَث لَيَالٍ يُؤثر بعشَائِهِ وَيطوِي.
رَأَيْت يَوْماً قَدْ أُهدِيَ إِلَى بَيْت الحَافِظ مشْمش فَكَانُوا يفرقُون، فَقَالَ مِنْ حِينه: فَرِّقُوا {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّوْنَ } .وَقَدْ فُتح لَهُ بِكَثِيْر مِنَ الذَّهب وَغَيْرِهِ، فَمَا كَانَ يَترك شَيْئاً حَتَّى قَالَ لِي ابْنه أَبُو الفَتْحِ: وَالِدِي يُعطِي النَّاس الكَثِيْر، وَنَحْنُ لاَ يَبعثَ إِلَيْنَا شَيْئاً، وَكُنَّا بِبَغْدَادَ.
مَا ابْتُلِيَ الحَافِظُ بِهِ:
قَالَ الضِّيَاء: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْد الرَّحْمَانِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ، سَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ:
سَأَلت الله أَنْ يَرْزُقنِي مِثْل حَال الإِمَام أَحْمَد، فَقَدْ رزقنِي صلاَته قَالَ: ثُمَّ ابْتُلِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُوذِي.
سَمِعْتُ الإِمَام عَبْد اللهِ بن أَبِي الحَسَنِ الجُبَّائِيّ بِأَصْبَهَانَ يَقُوْلُ:
أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَى ابْنِ مَنْدَةَ أَشيَاء فِي كِتَابِ (الصَّحَابَة) ، فَكَانَ الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى يَشتهِي أَنْ يَأْخذ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي فِي الصَّحَابَة، فَمَا كَانَ يَجسر، فَلَمَّا قَدِمَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، أَشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَأَخَذَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ نَحْواً مِنْ مائَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ مَوْضِعاً، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ الصَّدْر الخُجَنْدِيّ،
طلب عَبْد الغَنِيِّ، وَأَرَادَ هَلاَكه، فَاخْتَفَى.وَسَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ يَقُوْلُ: مَا أَخرجنَا الحَافِظ مِنْ أَصْبَهَان إِلاَّ فِي إِزَار، وَذَلِكَ أَن بَيْت الخُجَنْدِيّ أَشَاعِرَة، كَانُوا يَتعصّبُوْنَ لأَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانُوا رُؤسَاء البَلَد.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: كُنَّا بِالمَوْصِل نَسْمَع (الضُّعَفَاء) لِلْعُقَيْلِيّ، فَأَخذنِي أَهْل المَوْصِل وَحَبَسُونِي، وَأَرَادُوا قتلِي مِنْ أَجْل ذكر شَيْء فِيْهِ، فَجَاءنِي رَجُلٌ طَوِيْل وَمَعَهُ سَيْف، فَقُلْتُ: يَقتلنِي وَأَسْترِيح.
قَالَ: فَلَمْ يَصنع شَيْئاً، ثُمَّ أَطلقونِي، وَكَانَ يَسْمَع مَعَهُ ابْنُ البَرْنِيِّ الوَاعِظ، فَقلع الْكرَّاس الَّذِي فِيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء، فَأَرْسَلُوا، وَفتشُوا الكِتَاب، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَهَذَا سَبَب خَلاَصه.
وَقَالَ: كَانَ الحَافِظ يَقرَأُ الحَدِيْث بِدِمَشْقَ، وَيَجْتَمِع عَلَيْهِ الْخلق، فَوَقَعَ الْحَسَد، فَشرعُوا عَملُوا لَهُم وَقتاً لقِرَاءة الحَدِيْث، وَجَمَعُوا النَّاس، فَكَانَ هَذَا يَنَام وَهَذَا بِلاَ قَلْب، فَمَا اشتفَوْا، فَأَمرُوا النَّاصِح ابْن الحَنْبَلِيِّ
بِأَنْ يَعظ تَحْت النّسر يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقت جُلُوْس الحَافِظ.فَأَوّل ذَلِكَ: أَنَّ النَّاصح وَالحَافِظ أَرَادَا أَنْ يَخْتلفَا الوَقْت، فَاتفقَا أَنَّ النَّاصح يَجْلِس بَعْد الصَّلاَة، وَأَنْ يَجْلِس الحَافِظ الْعَصْر، فَدسُّوا إِلَى النَّاصح رَجُلاً نَاقص العَقْل مِنْ بَنِي عَسَاكِر، فَقَالَ لِلنَّاصح فِي المَجْلِسِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّك تَقُوْلُ الْكَذِب عَلَى المِنْبَرِ.
فَضُرِبَ، وَهَرَبَ، فَتمت مكيدتهُم، وَمَشَوا إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: هَؤُلاَءِ الحَنَابِلَة قصدهُم الفِتْنَة، وَاعْتِقَادهُم يُخَالِف اعْتِقَادنَا ... ، وَنَحْو هَذَا.
ثُمَّ جَمعُوا كبرَاءهُم، وَمضُوا إِلَى القَلْعَة إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: نشتهِي أَنْ تحضر عَبْد الغَنِيِّ، فَانحدر إِلَى المَدِيْنَةِ خَالِي المُوَفَّق، وَأَخِي الشَّمْس البُخَارِيّ، وَجَمَاعَة، وَقَالُوا: نَحْنُ ننَاظرهُم.
وَقَالُوا لِلْحَافِظ: لاَ تَجِئْ، فَإِنَّك حدّ، نَحْنُ نَكفِيك.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُم أَخذُوا الحَافِظ وَحْدَه، وَلَمْ يَدر أَصْحَابنَا، فَنَاظروهُ، وَاحتدّ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا شَيْئاً مِنَ الاعْتِقَاد، وَكتبُوا خُطُوطهُم فِيْهِ، وَقَالُوا لَهُ: اكْتُبْ خطّك.
فَأَبَى، فَقَالُوا لِلوَالِي: الفُقَهَاء كلّهُم قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يُخَالِفهُم.
وَاسْتَأَذنوهُ فِي رفع مِنْبَره، فَبَعَثَ الأَسرَى، فَرفعُوا مَا فِي جَامِع دِمَشْق مِنْ مِنْبَر وَخزَانَة وَدَرَابزِين، وَقَالُوا: نُرِيْد أَنْ لاَ تَجعل فِي الجَامِع إِلاَّ صَلاَة الشَّافِعِيَّة.
وَكسّرُوا مِنْبَر الحَافِظ، وَمَنَعونَا مِنَ الصَّلاَةِ، فَفَاتتنَا صَلاَة الظُّهْر.
ثُمَّ إِنَّ النَّاصح جمع البَنَويَّة، وَغَيْرهُم، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يخلونَا نُصَلِّي بِاخْتِيَارهِم، صلّينَا بِغَيْرِ اخْتيَارهِم.فَبَلَغَ ذَلِكَ القَاضِي، وَكَانَ صَاحِبَ الفِتْنَة، فَأَذن لَهُم، وَحمَى الحَنَفِيَّة مقصُوْرتهُم بِأَجنَاد، ثُمَّ إِنَّ الحَافِظ ضَاق صَدْره وَمَضَى إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّة، فَقَالَ لَهُ أَهْلهَا: إِنِ اشْتهيت جِئْنَا مَعَكَ إِلَى دِمَشْقَ نؤذِي مَنْ آذَاكَ، فَقَالَ: لاَ.
وَتوجّه إِلَى مِصْرَ، فَبقِي بِنَابُلُسَ مُدَّة يقرأُ الحَدِيْث، وَكُنْتُ أَنَا بِمِصْرَ، فَجَاءَ شَابّ مِنْ دِمَشْقَ بِفَتَاو إِلَى صَاحِب مِصْر الْملك العَزِيْز وَمَعَهُ كتب أَنَّ الحَنَابِلَة يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا يُشنِّعُوْنَ بِهِ عَلَيْهِم.
فَقَالَ -وَكَانَ يَتصيد-: إِذَا رَجَعنَا أَخرجنَا مِنْ بلاَدنَا مَنْ يَقُوْلُ بِهَذِهِ المَقَالَة.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عدَا بِهِ الْفرس، فَشب بِهِ، فَسَقَطَ، فَخُسِف صَدْره، كَذَلِكَ حَدَّثَنِي يُوْسُفُ بنُ الطُّفَيْل شَيْخنَا وَهُوَ الَّذِي غسّله، فَأُقيم ابْنه صَبِيّ، فَجَاءَ الأَفْضَل مِنْ صَرْخَدُ، وَأَخَذَ مِصْر، وَعَسْكَر، وَكرّ إِلَى دِمَشْقَ، فَلقِي الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ فِي الطَّرِيْق، فَأَكْرَمَه إِكرَاماً كَثِيْراً، وَنفّذ يُوصي بِهِ بِمِصْرَ، فَتُلُقِّي الحَافِظ بِالإِكرَام، وَأَقَامَ بِهَا يُسْمِع الحَدِيْث بِموَاضِع، وَكَانَ بِهَا كَثِيْر مِنَ المخَالفِيْن، وَحصر الأَفْضَل دِمَشْق حصراً شدِيداً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِصْرَ، فَسَافر العَادل عَمُّه خَلفه، فَتملّك مِصْر، وَأَقَامَ، وَكثر المخَالفُوْنَ عَلَى الحَافِظ، فَاسْتُدعِي، وَأَكْرَمَهُ العَادل، ثُمَّ سَافر العَادل إِلَى دِمَشْقَ، وَبَقِيَ الحَافِظ بِمِصْرَ، وَهُم يَنَالُوْنَ مِنْهُ، حَتَّى عزم الْملك الكَامِل عَلَى إِخرَاجه، وَاعْتُقِل فِي دَار أُسْبُوْعاً، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:
مَا وَجَدْت رَاحَة فِي مِصْر مِثْل تِلْكَ اللَّيَالِي.
قَالَ: وَكَانَتِ امرَأَة فِي دَار إِلَى جَانب تِلْكَ الدَّار، فَسمِعتهَا تَبْكِي، وَتَقُوْلُ:
بِالسِّرِّ الَّذِي أَودعته قَلْبَ مُوْسَى حَتَّى قَوِيَ
عَلَى حمل كَلاَمك.قَالَ: فَدعوت بِهِ، فَخلصتُ تِلْكَ اللَّيْلَة.
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ، حَدَّثَنِي الشُّجَاع بن أَبِي زكرِي الأَمِيْر، قَالَ:
قَالَ لِي الْملك الكَامِل يَوْماً: هَا هُنَا فَقِيْه قَالُوا إِنَّهُ كَافِر.
قُلْتُ: لاَ أَعْرفه.
قَالَ: بَلَى، هُوَ مُحَدِّث.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: هَذَا هُوَ.
فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْملك، العُلَمَاء أَحَدهُم يَطلب الآخِرَة، وَآخر يَطلب الدُّنْيَا، وَأَنْت هُنَا بَاب الدُّنْيَا، فَهَذَا الرَّجُل جَاءَ إِلَيْك أَو تَشَفَّع يطْلب شَيْئاً ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: وَاللهِ هَؤُلاَءِ يَحسدُوْنَهُ، فَهَلْ فِي هَذِهِ البِلاَد أَرْفَع مِنْكَ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: هَذَا الرَّجُل أَرْفَع العُلَمَاء كَمَا أَنْتَ أَرْفَع النَّاس.
فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً كَمَا عَرَّفْتَنِي، ثُمَّ بعثَتُ رقعَة إِلَيْهِ أُوصيه بِهِ، فَطَلبنِي، فَجِئْت، وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْخ الشُّيُوْخِ ابْن حَمُّوَيْه، وَعِزّ الدِّيْنِ الزّنجَارِيّ، فَقَالَ لِي السُّلْطَان: نَحْنُ فِي أَمر الحَافِظ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الْملك، القَوْم يَحسدُوْنَهُ، وَهَذَا الشَّيْخ بَيْنَنَا -يَعْنِي: شَيْخ الشُّيُوْخِ- وَحلفته هَلْ سَمِعْتَ مِنَ الحَافِظ كَلاَماً يُخْرِج عَنِ الإِسْلاَم؟
فَقَالَ: لاَ وَاللهِ، وَمَا سَمِعْتُ عَنْهُ إِلاَّ كُلَّ جَمِيْلٍ، وَمَا رَأَيْتهُ.
وَتَكلّم ابْن الزّنجَارِيّ، فَمدح الحَافِظ كَثِيْراً وَتَلاَمِذته، وَقَالَ: أَنَا أَعْرفهُم، مَا رَأَيْتُ مِثْلهُم.
فَقُلْتُ: وَأَنَا أَقُوْل شَيْئاً آخر: لاَ يَصل إِلَيْهِ مكروهٌ حَتَّى يُقْتَل مِنَ الأَكرَاد ثَلاَثَة آلاَف.
قَالَ: فَقَالَ: لاَ يُؤذَى الحَافِظ.
فَقُلْتُ: اكْتُبْ خطّك بِذَلِكَ، فَكَتَبَ.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظ أُمِر أَنْ يَكتبَ اعْتِقَادَه، فَكَتَبَ: أَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا، وَأَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا ولِقَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَا، حَتَّى فَرغ مِنَ المَسَائِل الَّتِي يُخَالِفُوْنَ فِيْهَا.فَلَمَّا رَآهَا الكَامِل، قَالَ: أَيش أَقُوْل فِي هَذَا يَقُوْلُ بقول الله وَقول رَسُوْله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!
قُلْتُ : وَذَكَرَ أَبُو المُظَفَّرِ الوَاعِظ فِي (مِرَآة الزَّمَانِ) ، قَالَ: كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ يَقرَأُ الحَدِيْث بَعْد الجُمُعَة، قَالَ: فَاجْتَمَعَ القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ، وَالخَطِيْب ضِيَاء الدِّيْنِ، وَجَمَاعَة، فَصعدُوا إِلَى القَلْعَة، وَقَالُوا لوَالِيهَا: هَذَا قَدْ أَضلّ النَّاس، وَيَقُوْلُ بالتّشبيه.
فَعقدُوا لَهُ مَجْلِساً، فَنَاظرهُم، فَأَخذُوا عَلَيْهِ موَاضِع، مِنْهَا: قَوْلُهُ: لاَ أُنزهه تَنزِيهاً يَنفِي حَقِيْقَة النُّزَول، وَمِنْهَا: كَانَ اللهُ وَلاَ مَكَان، وَلَيْسَ هُوَ اليَوْم عَلَى مَا كَانَ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصّوت، فَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ، فَقَدْ أَثْبَت لَهُ المَكَان، وَإِذَا لَمْ تنَزهه عَنْ حقِيْقَة النُّزَول، فَقَدْ جوزت عَلَيْهِ الانتقَالَ، وَأَمَّا الْحَرْف وَالصّوت فَلَمْ يَصحَّ عَنْ إِمَامك، وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُ كَلاَم اللهِ، يَعْنِي غَيْر مَخْلُوْق.
وَارتفعت الأَصوَات، فَقَالَ وَالِي القَلْعَة الصَّارم برغش: كُلّ هَؤُلاَءِ عَلَى ضلاَلَة وَأَنْت عَلَى الحَقِّ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَمر بِكسّر مِنْبَره.
قَالَ: وَخَرَجَ الحَافِظ إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَافر إِلَى مِصْرَ ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَأَفتَى فُقَهَاء مِصْر بِإِباحَة دَمه، وَقَالُوا: يُفسد عقَائِد النَّاس، وَيذَكَرَ التّجسيم.
فَكَتَبَ الوَزِيْر بنفِيه إِلَى المَغْرِب، فَمَاتَ الحَافِظ قَبْل وُصُوْل الكِتَاب.
قَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي كُلّ يَوْم وَليلَة ثَلاَث مائَة رَكْعَة، وَيَقوم اللَّيْل، وَيَحْمِل مَا أَمكنه إِلَى بيُوت الأَرَامل وَاليتَامَى سرّاً، وَضَعف بَصَره مِنْ كَثْرَة البُكَاء وَالمُطَالَعَة، وَكَانَ أَوحد زَمَانه فِي علم الحَدِيْث.وَقَالَ أَيْضاً: وَفِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ كَانَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَمر الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَإِصرَاره عَلَى مَا ظهر مِنِ اعْتِقَاده، وَإِجمَاع الفُقَهَاء عَلَى الفُتْيَا بتكفِيره، وَأَنَّهُ مُبْتَدِع لاَ يَجُوْزُ أَنْ يُترك بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فَسَأَلَ أَنْ يُمهل ثَلاَثَة أَيَّام لِيَنْفَصِل عَنِ البَلَد، فَأُجيب.
قُلْتُ: قَدْ بلوتُ عَلَى أَبِي المُظَفَّرِ المجَازفَة وَقِلَّة الوَرَع فِيمَا يُؤرّخه -وَاللهُ الموعدُ -وَكَانَ يَترفّض، رَأَيْت لَهُ مُصَنّفاً فِي ذَلِكَ فِيْهِ دَوَاهٍ، وَلَوْ أَجْمَعت الفُقَهَاء عَلَى تَكفِيره -كَمَا زَعَم- لَمَا وَسعهُم إِبقَاؤُه حيّاً، فَقَدْ كَانَ عَلَى مقَالَته بِدِمَشْقَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد وَالشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ، وَأَخُوْهُ القُدْوَةُ الشَّيْخ أَبُو عُمَرَ، وَالعَلاَّمَة شَمْس الدِّيْنِ البُخَارِيّ، وَسَائِر الحَنَابِلَة، وَعِدَّة مِنْ أَهْلِ الأَثر، وَكَانَ بِالبَلَدِ أَيْضاً خلق مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يُكفّرُوْنَهُ، نَعم، وَلاَ يُصرّحُوْنَ بِمَا أَطْلَقَهُ مِنَ العبَارَة لَمَّا ضَايقوهُ، وَلَوْ كَفّ عَنْ تِلْكَ العبَارَات، وَقَالَ بِمَا وَردت بِهِ النّصوص لأَجَاد وَلسلم، فَهُوَ الأَوْلَى، فَمَا فِي تَوسيع العبَارَات المُوهِمَة خَيْر، وَأَسوَأ شَيْء قَالَهُ: أَنَّهُ ضللَ العُلَمَاء الحَاضِرِيْنَ، وَأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ، فَقَالَ كلمَة فِيْهَا شَرّ وَفسَاد وَإِثَارَة لِلبلاَء، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْع وَغفر لَهُم، فَمَا قصدهُم إِلاَّ تَعَظِيْم البَارِي- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الطّرفِيْن، وَلَكِنَّ الأَكمل فِي التعَظِيْم وَالتنزِيه الوُقُوْف مَعَ أَلْفَاظ الكِتَاب وَالسّنَّة، وَهَذَا هُوَ مَذْهَب السَّلَف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.
وَبِكُلِّ حَال: فَالحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْم وَالتَأَلّه وَالصّدع بِالْحَقِّ، وَمَحَاسِنه كَثِيْرَة، فَنَعُوذ بِاللهِ مِنَ الهَوَى وَالمِرَاء وَالعصبيَّة وَالافترَاء، وَنبرَأُ مِنْ كُلِّ مُجَسِّم وَمُعطِّل.مِنْ فِرَاسَةِ الحَافِظِ وَكَرَامَاتِهِ:
قَالَ الحَافِظُ الضِّيَاء: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى بن عَبْدِ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ وَالِدِي بِمِصْرَ وَهُوَ يذكر فَضَائِل سُفْيَان الثَّوْرِيّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِن وَالِدِي مِثْله.
فَالْتَفَت إِلَيَّ، وَقَالَ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ أَولئك؟
سَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: كَانَ مِنْبَر الحَافِظ فِيْهِ قِصَر، وَكَانَ النَّاسُ يُشرفُوْنَ إِلَيْهِ، فَخطر لِي لَوْ كَانَ يُعَلَّى قَلِيْلاً، فَترك الحَافِظ القِرَاءة مِنَ الجُزْء، وَقَالَ:
بَعْضُ الإِخْوَان يَشتهِي أَنْ يُعَلَّى هَذَا المِنْبَر قَلِيْلاً، فَزَادُوا فِي رِجْلَيْهِ.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَخُو اليَاسَمِيْنِيّ، قَالَ:كُنْتُ يَوْماً عِنْد وَالِدك، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَشتهِي لَوْ أَنَّ الحَافِظ يُعْطِينِي ثَوْبه حَتَّى أُكفَّن فِيْهِ.
فَلَمَّا أَردت القِيَام، خلع ثَوْبه الَّذِي يَلِي جَسَده وَأَعْطَانِيه، وَبَقِيَ الثَّوْب عِنْدنَا، كُلُّ مَنْ مَرِضَ تَرَكَوهُ عَلَيْهِ، فَيُعَافَى.
سَمِعْتُ الرَّضِيّ عَبْد الرَّحْمَانِ المَقْدِسِيّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظ بِالقَاهِرَةِ، فَدَخَلَ رَجُل، فَسَلَّمَ، وَدفعَ إِلَى الحَافِظ دِيْنَارَيْنِ، فَدَفَعهُمَا الحَافِظ إِلَيَّ، وَقَالَ: مَا كَأَنَّ قَلْبِي يَطيب بِهِمَا.
فَسَأَلت الرَّجُل: أَيش شغلك؟
قَالَ: كَاتِب عَلَى النّطرُوْنَ -يَعْنِي: وَعَلَيْهِ ضمَان-.
حَدَّثَنِي فَضَائِل بن مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْر بِجَمَّاعِيْل، حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّي بَدْرَان بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ الحَافِظ -يَعْنِي فِي الدَّار الَّتِي وَقفهَا عَلَيْهِ يُوْسُف المسجّف -وَكَانَ المَاء مَقْطُوْعاً، فَقَامَ فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ: امْلأْ لِي الإِبرِيق.
فَقضَى الحَاجَة، وَجَاءَ فَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا كُنْت أَشتهِي الوُضُوْء إِلاَّ مِنَ البركَةِ.
ثُمَّ صَبَر قَلِيْلاً، فَإِذَا المَاء قَدْ جرَى، فَانْتظر حَتَّى فَاضت البركَة، ثُمَّ انْقَطَع المَاء، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ كرَامَة لَكَ.
فَقَالَ لِي: قل: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَعَلَّ المَاء كَانَ محتبساً، لاَ تَقُلْ هَذَا!
وَسَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ:
كَانَ رَجُل قَدْ أَعْطَى الحَافِظ جَامُوْساً فِي البَحْرَةِ، فَقَالَ لِي: جِئْ بِهِ،
وَبِعْهُ.فَمضيت، فَأَخَذتهُ، فَنفر كَثِيْراً، وَبَقِيَ جَمَاعَة يَضحكُوْن مِنْهُ.
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ بِبركَة الحَافِظ سهّل أَمره، فَسُقته مَعَ جَامُوْسَيْنِ، فَسهُل أَمره، وَمَشَى فَبعته بقَرْيَة.
وَفَاتُهُ:
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ : مَرِضَ أَبِي فِي رَبِيْع الأَوَّلِ مرضاً شدِيداً مَنعه مِنَ الكَلاَم وَالقِيَام، وَاشتدَّ سِتَّةَ عشرَ يَوْماً، وَكُنْت أَسْأَلُهُ كَثِيْراً: مَا يَشتهِي؟ فَيَقُوْلُ: أَشتهِي الجَنَّة، أَشتهِي رَحْمَة الله.
لاَ يَزِيْد عَلَى ذَلِكَ، فَجِئْته بِمَاء حَارّ، فَمدَّ يَده، فَوضأته وَقت الفَجْر، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! قُمْ صلّ بِنَا، وَخفّف.
فَصَلَّيْت بِالجَمَاعَة، وَصَلَّى جَالِساً، ثُمَّ جلَسْت عِنْد رَأْسه، فَقَالَ: اقْرَأْ يَس.
فَقرَأتهَا، وَجَعَلَ يَدعُوا وَأَنَا أُؤمّن، فَقُلْتُ: هُنَا دَوَاء تَشْرَبُهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ! مَا بَقِيَ إِلاَّ المَوْت.
فَقُلْتُ: مَا تَشتهِي شَيْئاً؟
قَالَ: أَشتهِي النَّظَر إِلَى وَجه الله- سُبْحَانه-.
فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ عَنِّي رَاض؟
قَالَ: بَلَى وَاللهِ.
فَقُلْتُ: مَا تُوصي بِشَيْءٍ؟
قَالَ: مَا لِي عَلَى أَحَد شَيْء، وَلاَ لأَحدٍ عَلَيَّ شَيْء.
قُلْتُ: تُوصينِي؟
قَالَ: أُوصيك بتَقْوَى الله، وَالمحَافِظَة عَلَى طَاعته، فَجَاءَ جَمَاعَة يَعُوْدُوْنَهُ، فَسلّمُوا، فَردّ عَلَيْهِم، وَجَعَلُوا يَتحدثُونَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ اذكرُوا الله، قَوْلُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله.
فَلَمَّا قَامُوا، جَعَلَ يذَكَرَ الله بِشفتيه، وَيُشِيْر بِعَيْنَيْهِ، فَقُمْت لأنَاول رَجُلاً كِتَاباً مِنْ جَانب المَسْجَد، فَرَجَعت وَقَدْ خَرَجت روحه -رَحِمَهُ الله- وَذَلِكَ يَوْم الاثْنَيْنِ، الثَّالِث وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ سِتِّ
مائَةٍ، وَبَقِيَ لَيْلَة الثُّلاَثَاء فِي المَسْجَدِ، وَاجْتَمَعَ الْخلق مِنَ الغَدِ، فَدَفَنَّاهُ بِالقرَافَة.قَالَ الضِّيَاء: تَزَوَّجَ الحَافِظ بِخَالتِي رَابِعَة ابْنَة خَاله الشَّيْخ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَة، فَهِيَ أُمّ أَوْلاَده مُحَمَّد وَعَبْد اللهِ وَعَبْد الرَّحْمَانِ وَفَاطِمَة، ثُمَّ تسرَّى بِمِصْرَ.
قُلْتُ: أَوْلاَده عُلَمَاء:
فَمُحَمَّدٌ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الإِمَام الرَّحَّال عِزّ الدِّيْنِ أَبُو الفَتْحِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ كَهْلاً، وَكَانَ كَبِيْرَ القَدْرِ.
وَعَبْد اللهِ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ المُصَنِّف جَمَال الدِّيْنِ أَبُو مُوْسَى، رَحل وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ كُلَيْبٍ، وَخَلِيْلٍ الرَّارَانِيِّ، مَاتَ كَهْلاً، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ.
وَعَبْد الرَّحْمَانِ: هُوَ المُفْتِي أَبُو سُلَيْمَانَ ابْنُ الحَافِظِ، سَمِعَ مِنَ البُوْصِيْرِيّ وَابْن الجَوْزِيِّ، عَاشَ بِضْعاً وَخَمْسِيْنَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
مِن المَنَامَاتِ:
أَوْرَد لَهُ الشَّيْخ الضِّيَاء عِدَّة مَنَامَات، مِنْهَا:
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ يُوْنُسَ المَقْدِسِيّ الأَمِيْن يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنِّيْ بِمسجد الدَّيْرِ، وَفِيْهِ رِجَال عَلَيْهِم ثِيَابٌ بِيْضٌ، وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُم مَلاَئِكَةٌ، فَدَخَلَ
الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقَالُوا بِأَجْمَعهِم: نشْهد بِاللهِ إِنَّك مِنْ أَهْلِ اليَمِين، مرَّتين أَوْ ثَلاَثاً.سَمِعْتُ الحَافِظَ عَبْد الغَنِيِّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ وَأَنَا أَمْشِي خَلفه إِلاَّ أَنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلاً.
سَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: جَاءَ الحَافِظ مِنْ مِصْرَ، فَمضيتُ أَنَا وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرٍو العِزّ ابْن الحَافِظِ إِلَيْهِ، فَجِئْنَا إِلَى دَار، فَفُتِحَ البَاب، فَإِذَا الحَافِظ عَلَى وَجهه عَمُود مِنْ نور إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا وَالِدته فِي تِلْكَ الدَّار.
سَمِعْتُ الشَّيْخ الصَّالِح غشيم بن نَاصِر المِصْرِيّ، قَالَ:
لَمَّا مَاتَ الحَافِظ، كُنْت بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدمتُ، قُلْتُ: أَيْنَ دُفِنَ؟
قِيْلَ: شرقِي قَبْر الشَّافِعِيّ، فَخَرَجت، فَلقيت رَجُلاً، فَقُلْتُ: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: لاَ تسَأَلنِي عَنْهُ، مَا أَنَا عَلَى مَذْهَبه، وَلاَ أُحبّه.
فَتركته، وَمشيت، وَأَتيت قَبْر الحَافِظ، وَترددت إِلَيْهِ، فَأَنَا بَعْضُ الأَيَّام فِي الطَّرِيْق، فَإِذَا الرَّجُل، فَسَلَّمَ عليّ، وَقَالَ: أَمَا تَعرفنِي؟ أَنَا الَّذِي لَقِيتك مِنْ مُدَّة، وَقُلْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، مَضَيْت تِلْكَ اللَّيْلَة، فَرَأَيْت قَائِلاً يَقُوْلُ لِي: يَقُوْلُ لَكَ فُلاَن وَسَمَّانِي: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟ فَتَقُوْلُ: مَا قُلْت؟! وَكرّر القَوْل عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الله بِك خَيراً فَأَنْت تَكُوْن عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَو كُنْت أَعْرف مَنْزِلك، لأَتيتك.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي صنِيعَة الْملك هِبَة اللهِ بن حَيْدَرَةَ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجت لِلصَّلاَة عَلَى الحَافِظ، لَقِيَنِي هَذَا المَغْرِبِيُّ، فَقَالَ: أَنَا غَرِيْب، رَأَيْت البَارِحَة كَأَنِّيْ فِي أَرْض بِهَا قَوْم عَلَيْهِم ثِيَاب بيض، فَقُلْتُ: مَا
هَؤُلاَءِ؟ قِيْلَ: مَلاَئِكَة السَّمَاء نَزلُوا لِمَوتِ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَقِيْلَ لِي: اقعدْ عِنْد الجَامِع حَتَّى يَخْرُج صنِيعَة الْملك، فَامض مَعَهُ.قَالَ: فَلقيته وَاقفاً عِنْد الجَامِع.
سَمِعْتُ الفَقِيْه أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ سَنَة اثْنَتَيْ عَشْرَةَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ أَخَاك الكَمَال عَبْد الرَّحِيْمِ -وَكَانَ تُوُفِّيَ تِلْكَ السّنَة- فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ: يَا فُلاَنُ، أَيْنَ أَنْتَ؟
قَالَ: فِي جَنَّة عدن.
فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الحَافِظُ أَوِ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ.
فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَأَمَّا الحَافِظ فُكُلُّ لَيْلَة جُمُعَة يُنْصب لَهُ كُرْسِيّ تَحْت الْعَرْش، وَيُقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْث، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ الدُّرُّ وَالجَوْهَر، وَهَذَا نَصِيْبِي مِنْهُ، وَكَانَ فِي كُمِّه شَيْء.
سَمِعْتُ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الكُرْدِيّ بِحَرَّانَ يَقُوْلُ:
قَرَأْت فِي رَمَضَانَ ثَلاَثِيْنَ ختمَة، وَجَعَلت ثوَاب عشر مِنْهَا لِلْحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ترَى يَصل هَذَا إِلَيْهِ؟
فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ عِنْدِي ثَلاَثَة أَطباق رطب، فَجَاءَ الحَافِظ، وَأَخَذَ وَاحِداً مِنْهَا.
وَرَأَيْتهُ مرَّة، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ بقَى عَلَيَّ وِرْدِي مِنَ الصَّلاَةِ، أَوْ نَحْو هَذَا.
سَمِعْتُ القَاضِي الإِمَام عُمَر بن عَلِيٍّ الهَكَّارِيّ بِنَابُلُسَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ الحَافِظَ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ، فَقُلْتُ: جِئْتَ غَيْرَ رَاكِبٍ، فَعل اللهُ بِمَنْ جِئْتِ مِنْ عِنْدِهِم!
قَالَ: أَنَا حَمَلَنِي النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ عَبْد الحَافِظِ بن بَدْرَانَ بِنَابُلُسَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ الفَقِيْهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُوْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ السُّوْذَرْجَانِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدَانَ الحبَّال، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الفَابَجَانِيّ، حَدَّثَنَا جَدِّي عِيْسَى بن إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا آدَم بن أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ حَيَّان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السُّجُوْدَ، فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُوْدِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُوْدِ، فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ).
الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الصَّادِقُ، القُدْوَةُ، العَابِدُ، الأَثَرِيُّ، المُتَّبَعُ،
عَالِمُ الحُفَّاظِ، تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرِ بنِ رَافِعِ بنِ حَسَنِ بنِ جَعْفَرٍ المَقْدِسِيُّ، الجَمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ المَنْشَأ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ (الأَحكَامِ الكُبْرَى) ، وَ (الصُّغْرَى) .قَرَأْتُ سِيرتَهُ فِي جُزْءيْنِ، جَمْعِ الحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ المَقْدِسِيِّ، عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ أَحْمَدَ البَنَّاءِ، بِسَمَاعِهِ عَامَ سِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ مِنَ المُؤلّفِ، فَعَامَّةُ مَا أَوْرَدَهُ فَمِنْهَا.
قَالَ: وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ بِجُمَّاعِيلَ، أَظنُّهُ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، قَالَتْ وَالِدتِي : هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيْهَا الشَّيْخِ المُوَفَّقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالمُوَفَّقُ وُلِدَ فِي شَعْبَان.
سَمِعَ الكَثِيْرَ بِدِمَشْقَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبَيْتَ المَقْدِسِ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَحَرَّانَ، وَالمَوْصِلَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَمَذَانَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ.
سَمِعَ: أَبَا الفَتْحِ ابْنَ البَطِّيِّ، وَأَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ رَبَاحٍ الفَرَّاءَ، وَالشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ الجِيْلِيَّ، وَهِبَةَ اللهِ بنَ هِلاَلٍ الدَّقَّاقَ، وَأَبَا زُرْعَةَ المَقْدِسِيَّ، وَمَعْمَرَ بنَ الفَاخِرِ، وَأَحْمَدَ بنَ المُقَرَّبِ، وَيَحْيَى بنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا بَكْرٍ بنَ
النَّقُّوْرِ، وَأَحْمَدَ بنَ عَبْدِ الغَنِيِّ البَاجِسْرَائِيَّ، وَعِدَّةً بِبَغْدَادَ، وَالحَافِظَ أَبَا طَاهِرٍ السِّلَفِيَّ، فَكَتَبَ عَنْهُ نَحْواً مِنْ أَلفِ جزءٍ.وَبِدِمَشْقَ: أَبَا المَكَارِمِ بنَ هِلاَلٍ، وَسَلْمَانَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَأَبَا المَعَالِي بنَ صَابرٍ، وَعِدَّةً.
وَبِمِصْرَ: مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ بَرِّيٍّ، وَطَائِفَةً.
وَبِأَصْبَهَانَ: الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى المَدِيْنِيَّ، وَأَبَا الوَفَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ حَمَكَا، وَأَبَا الفَتْحِ الخِرَقِيَّ، وَابْنَ يَنَال التُّرْك، وَمُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغَ، وَحَبِيْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْفِيَّ.
وَبِالمَوْصِلِ: أَبَا الفَضْلِ الطُّوْسِيَّ، وَطَائِفَةً.
وَلَمْ يَزَلْ يَطلبُ، وَيَسْمَع، وَيَكْتُبُ، وَيسهَرُ، وَيدأَبُ، وَيَأْمرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنَهى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتقِي اللهَ، وَيَتعبَّدُ، وَيَصُوْمُ، وَيَتهجَّدُ، وَيَنشرُ العِلْمَ، إِلَى أَنْ مَاتَ.
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مرَّتينِ، وَإِلَى مِصْرَ مرَّتينِ، سَافرَ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ خَالِهِ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ مَعاً، وَيَذْهَبُ أَحدُهُمَا فِي صُحْبَة رفِيقِهِ إِلَى دَرْسِهِ وَسَمَاعِهِ، كَانَا شَابَّيْنِ مُخْتَطّين، وَخوَّفَهُمَا النَّاسُ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَكَانَ الحَافِظُ مَيْلُهُ إِلَى الحَدِيْثِ، وَالمُوَفَّقُ يُرِيْدُ الفِقْهَ، فَتفقَّهَ الحَافِظُ، وَسَمِعَ المُوَفَّقُ مَعَهُ الكَثِيْرَ، فَلَمَّا رَآهُمَا العُقَلاَءُ عَلَى التَّصَوُّنِ وَقِلَّةِ المُخَالَطَةِ أَحَبُّوهُمَا، وَأَحْسَنُوا إِلَيهُمَا، وَحصَّلاَ عِلْماً جمّاً، فَأَقَامَا بِبَغْدَادَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِيْنَ، وَنَزَلاَ أَوَّلاً عِنْد الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَأَحْسَنَ إِلَيهِمَا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ قُدُومِهِمَا بخَمْسِيْنَ لَيْلَةً، ثُمَّ اشْتَغَلاَ بِالفِقْهِ وَالخِلاَفَةِ عَلَى ابْنِ المنِّي.
وَرَحَلَ الحَافِظُ إِلَى السِّلَفِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّيْنَ، فَأَقَامَ مُدَّةً، ثُمَّ رحلَ أَيْضاً إِلَى السِّلَفِيِّ سَنَةَ
سَبْعِيْنَ، ثُمَّ سَافرَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَسَبْعِيْنَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَحَصَّلَ الكتُبَ الجيِّدَةَ.قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ لَيْسَ بِالأَبيضِ الأَمهَقِ، بَلْ يَمِيْلُ إِلَى السُّمرَةِ، حسن الشَّعْرِ، كَثّ اللِّحْيَةِ، وَاسِع الجبينِ، عَظِيْم الخَلْقِ، تَامّ القَامَةِ، كَأَنَّ النُّوْر يَخْرُجُ مِنْ وَجهِهِ، وَكَانَ قَدْ ضعُفَ بصرُهُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّسْخِ وَالمُطَالَعَةِ.
قُلْتُ : حَدَّثَ عَنْهُ: الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ، وَالحَافِظُ عِزُّ الدِّيْنِ مُحَمَّدٌ، وَالحَافِظُ أَبُو مُوْسَى عَبْدُ اللهِ، والفَقِيْهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَوْلاَدُهُ، وَالحَافِظُ الضِّيَاءُ، وَالخَطِيْبُ سُلَيْمَانُ بنُ رَحْمَةَ الأَسْعَرْدِيُّ، وَالبَهَاءُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ، وَالشَّيْخُ الفَقِيْهُ مُحَمَّدُ اليُوْنِيْنِيُّ، وَالزَّيْنُ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَأَبُو الحَجَّاجِ بنُ خَلِيْلٍ، وَالتَّقِيُّ اليَلْدَانِيُّ، وَالشِّهَابُ القُوْصِيُّ، وَعَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ القَلاَنسِيُّ، وَالوَاعِظُ عُثْمَانُ بنُ مَكِّيٍّ الشَّارعِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ حَامِدٍ الأَرْتَاحِيُّ، وَإِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ القوِيِّ بنِ عَزُّوْنَ، وَأَبُو عِيْسَى عَبْدُ اللهِ بنُ عَلاَّقٍ الرَّزَّازُ، وَخَلْقٌ، آخِرُهُم مَوْتاً سَعْدُ الدِّيْنِ مُحَمَّدُ بنُ مُهَلْهَلٍ الجينِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: شَيْخُنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ الحَدَّادُ.
تَصَانِيْفُهُ:
كِتَابُ (المِصْبَاح فِي عُيونِ الأَحَادِيْثِ الصِّحَاحِ) مشتملٌ عَلَى أَحَادِيْثِ (
الصَّحِيْحَيْنِ) ، فَهُوَ مُسْتخرَجٌ عَلَيْهِمَا بِأَسَانِيْدِهِ، فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءاً، كِتَابُ (نِهَايَة المُرَادِ ) فِي السُّنَنِ نَحْوُ مائَتَيْ جزءٍ لَمْ يَبَيِّضْهُ، كِتَابُ (اليَواقيت) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (تُحْفَة الطَّالبينَ فِي الجِهَادِ وَالمُجَاهِدِيْنَ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (فَضَائِل خَيْرِ البرِيَّةِ ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، كِتَابُ (الرَّوْضَة) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (التَّهجُّد) جُزْآنِ، كِتَابُ (الفَرَج) جزآنِ، كِتَابُ (الصِّلاَت إِلَى الأَمْوَاتِ ) جزآنِ، (الصِّفَات) جزآنِ، (مِحْنَة الإِمَامِ أَحْمَدَ) جُزْآنِ، (ذَمّ الرِّيَاءِ) جُزْء، (ذَمّ الغِيبَةِ) جُزْء، (التَّرغِيب فِي الدُّعَاءِ) جُزْء، (فَضَائِل مَكَّةَ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، (الأَمْر بِالمَعْرُوفِ) جزءٌ، (فَضل رَمَضَانَ) جُزْء، (فَضل الصَّدَقَةِ) جُزْء، (فَضل عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ) جزءٌ، (فَضَائِل الحَجِّ) جزءٌ، (فَضل رَجَب) ، (وَفَاة النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جزءٌ، (الأَقسَام الَّتِي أَقسمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ ) بِسندٍ وَاحِدٍ، (أَرْبَعِيْنَ مِنْ كَلاَمِ رَبِّ العَالِمِينَ) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) آخرُ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) رَابعُ، (اعْتِقَاد الشَّافِعِيِّ) جزءٌ، كِتَابُ (الحِكَايَاتِ) سَبْعَةُ أَجزَاءٍ، (تَحَقِيْق مُشْكِلِ الأَلْفَاظِ ) مجلَّدَيْنِ، (الجَامِعُ الصَّغِيْرِ فِي الأَحكَامِ ) لَمْ يَتِمَّ، (ذِكْر القُبُوْرِ) جزءٌ، (الأَحَادِيْث وَالحِكَايَات) كَانَ
يَقرؤهَا لِلْعَامَّةِ، مائَة جزءٍ، (مَنَاقِب عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ) جزءٌ، وَعِدَّةُ أَجزَاءٍ فِي (مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ) ، وَأَشيَاءَ كَثِيْرَةً جِدّاً مَا تَمَّتْ، وَالجَمِيْعُبِأَسَانِيْدِهِ، بِخَطِّهِ المَلِيْحِ الشَّدِيدِ السُّرعَةِ، وَ (أَحكَامه الكُبْرَى) مُجَلَّدٌ، وَ (الصَّغرَى) مُجَيْلِيْدٌ، كِتَابُ (دُرَر الأَثرِ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (السَّيرَة) جزءٌ كَبِيْرٌ، (الأَدعيَة الصَّحيحَة) جزءٌ، (تَبيين الإِصَابَةِ لأَوهَامٍ حصلَتْ لأَبِي نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ) جُزْآنِ، تَدُلُّ عَلَى برَاعتِهِ وَحفظِهِ، كِتَابُ (الكَمَال فِي مَعْرِفَةِ رِجَالِ الكُتُبِ السِّتَّةِ ) فِي أَرْبَعَةِ أَسفَارٍ، يَرْوِي فِيْهِ بِأَسَانِيْدِهِ.
فِي حِفْظِهِ:
قَالَ ضِيَاءُ الدِّيْنِ: كَانَ شَيْخُنَا الحَافِظُ لاَ يَكَادُ يُسْأَلُ عَنْ حَدِيْثٍ إِلاَّ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَهُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ أَوْ سقمَهُ، وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ إِلاَّ قَالَ: هُوَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ الفُلاَنِيُّ، وَيذكرُ نسبَهُ، فَكَانَ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظِ أَبِي مُوْسَى، فَجرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ منَازعَةً فِي حَدِيْثٍ، فَقَالَ: هُوَ فِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) .
فَقُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِيْهِ.
قَالَ: فَكَتَبَهُ فِي رُقْعَةٍ، وَرفعهَا إِلَى أَبِي مُوْسَى يَسْأَلُهُ، قَالَ: فَنَاوَلَنِي أَبُو مُوْسَى الرُّقْعَةَ وَقَالَ: مَا تَقُوْلُ؟
فَقُلْتُ: مَا هُوَ فِي (البُخَارِيِّ) ، فَخجِلَ الرَّجُلُ.
قَالَ الضِّيَاءُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بِمَرْوَ كَأَنَّ البُخَارِيَّ بَيْنَ يَدَي الحافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ يَقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جزءٍ، وَكَانَ الحَافِظُ يَردُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ.
وَسَمِعْتُ إِسْمَاعِيْلَ بنَ ظَفَرٍ يَقُوْلُ:
قَالَ رَجُلٌ لِلْحَافِظ عَبْدِ الغَنِيِّ:
رَجُلٌ حلفَ بِالطَّلاَقِ أَنَّكَ تَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ.فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَكْثَرَ لصدَقَ!
وَرَأَيْتُ الحَافِظَ عَلَى المِنْبَرِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُوْلُوْنَ لَهُ: اقرَأْ لَنَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فِيقرَأُ أَحَادِيْثَ بِأَسَانِيْدِهِ مِنْ حِفْظِهِ.
وَسَمِعْتُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظَ سُئِلَ: لِمَ لاَ تَقرَأُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ؟
قَالَ: أَخَافُ العُجْبَ.
وَسَمِعْتُ خَالِي أَبَا عُمَرَ أَوْ وَالِدِي، قَالَ: كَانَ الملِكُ نُوْرُ الدِّيْنِ بنُ زَنْكِي يَأْتِي إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَسْمَعُ الحَدِيْثَ، فَإِذَا أَشْكَلَ شَيْءٌ عَلَى القَارِئ قَالَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى السِّلَفِيِّ، فَكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْنَ ذَاكَ الشَّابُّ؟
فَقُلْنَا: سَافرَ.
وَسَمِعْتُ عَبْدَ العَزِيْزِ بنَ عَبْدِ المَلِكِ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ التَّاجَ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ:
لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ.
وَسَمِعْتُ أَبَا الثَّنَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ: لَمْ يَرَ الحَافِظُ مِثْلَ نَفْسِهِ.
شَاهَدْتُ بِخَطِّ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيِّ عَلَى كِتَابِ (تَبيينِ الإِصَابَةِ) الَّذِي أَملاَهُ عَبْدُ الغَنِيِّ- وَقَدْ سَمِعَهُ أَبُو مُوْسَى، وَالحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ الصَّائِغُ، وَأَبُو العَبَّاسِ التّرك-:
يَقُوْلُ أَبُو مُوْسَى عفَا اللهُ عَنْهُ: قَلَّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا يَفهَمُ هَذَا الشَّأْنَ كفَهْمِ الشَّيْخِ الإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ، وَقَدْ وُفِّقَ لِتبيينِ هَذِهِ الغلطَات، وَلَوْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمثَالُهُ فِي الأَحْيَاءِ لَصَوَّبُوا فَعلَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَفهَمُ فِي زَمَانِنَا مَا فَهِمَ زَادَهُ اللهُ عِلْماً وَتوفِيقاً.
قَالَ أَبُو نِزَارٍ رَبِيْعةُ الصَّنْعَانِيُّ: قَدْ حضَرْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى، وَهَذَا الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فَرَأَيْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ أَحْفَظَ مِنْهُ.سَمِعْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ الجَوْزِيِّ فَقَالَ: وُرَيْرَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الغَسَّانِيُّ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ وَزِيْرَةُ.
فَقَالَ: أَنْتُم أَعْرفُ بِأَهْلِ بلدِكُم.
فِي إِفَادَتِهِ وَاشتِغَالِهِ:
قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ- رحمَهُ اللهُ- مُجْتَهِداً عَلَى الطَّلَبِ، يُكرِمُ الطَّلبَةَ، وَيُحسِنُ إِلَيْهِم، وَإِذَا صَارَ عِنْدَهُ طَالبٌ يَفهَمُ أَمرَهُ بِالرِّحلَةِ، وَيَفرحُ لَهُم بِسَمَاعِ مَا يَحصِّلُونَهُ، وَبسَبَبه سَمِعَ أَصْحَابُنَا الكَثِيْرَ.
سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدٍ الحَافِظَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ الحَدِيْثَ فِي الشَّامِ كُلِّهِ إِلاَّ بِبركَةِ الحَافِظِ، فَإِنَّنِي كُلَّ مَنْ سَأَلتُهُ يَقُوْلُ: أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ عَلَى الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّضَنِي.
وَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ يَقُوْلُ عِنْدَ مَوْتِهِ: لاَ تُضَيِّعُوا هَذَا العِلْمَ الَّذِي قَدْ تَعِبْنَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ : هُوَ رَحَّلَ ابْنَ خَلِيْلٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَرَحَّلَ ابْنَيْهِ العِزَّ مُحَمَّداً، وَعَبْدَ اللهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ صغِيراً، وَسَفَّرَ ابْنَ أُخْتِهِ مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ بنِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ عَمِّهِ عَلِيَّ بنَ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ الضِّيَاءُ: وَحرَّضَنِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَسَافَرَ مَعَنَا ابْنُهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ ابْنُ عشرٍ، فَبَعَثَ مَعَنَا (المُعْجَمَ الكَبِيْرَ) لِلطَّبَرَانِيِّ، وَكِتَابَ (البُخَارِيِّ) ، وَ (السِّيرَةَ) ، وَكَتَبَ إِلَى زَيْنِ الدِّيْنِ عَلِيِّ بن نجَا يُوصِيهِ بِنَا، وَسَفَّرَ ابْنَ ظَفَرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَزوَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا.قَالَ الضِّيَاءُ: لَمَّا دخلنَا أَصْبَهَانَ فِي سفرتِي الثَّانِيَةِ كُنَّا سَبْعَةً، أَحَدُنَا الفَقِيْهُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَافِظِ، وَكَانَ طِفْلاً، فَسمِعنَا عَلَى المَشَايِخِ، وَكَانَ المُؤَيَّدُ ابْنُ الإِخْوَةِ عِنْدَهُ جُمْلَةٌ مِنَ المَسْمُوْعَاتِ، وَكَانَ يَتشدَّدُ عَلَيْنَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَحَزِنْتُ كَثِيْراً، وَأَكْثَرَ مَا ضَاقَ صَدْرِي لثَلاَثَةِ كُتُبٍ: (مُسْنَدِ العَدَنِيِّ) ، وَ (مُعْجَمِ ابْنِ المُقْرِئ) ، وَ (مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى) ، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ عَلَيْهِ فِي النَّوبَةِ الأُوْلَى (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) لَكِنْ لأَجْلِ رِفْقَتِي، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ الحَافِظَ عَبْدَ الغَنِيِّ قَدْ أَمسَكَ رَجُلاً وَهُوَ يَقُوْلُ لِي: أُمَّ هَذَا، أُمَّ هَذَا، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَائِشَةَ بِنْتِ مَعْمَرٍ.
فَلَمَّا استيقظْتُ قُلْتُ: مَا هَذَا إِلاَّ لأَجْلِ شَيْءٍ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ يُرِيْدُ الحَدِيْثَ، فَمضيتُ إِلَى دَارِ بَنِي مَعْمَرٍ، وَفتَّشْتُ الكُتُبَ، فَوَجَدْتُ (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) سَمَاع عَائِشَةَ مِثْلَ ابْنِ الإِخْوَةِ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُ عَلَيْهَا قَالَ لِي بَعْضُ الحَاضِرِيْنَ: إِنَّهَا سَمِعَتْ (مُعْجَمَ ابْنِ المُقْرِئ) فَأَخذنَا النُّسْخَةَ مِنْ خَبَّازٍ، وَسَمِعنَاهُ، وَبعدَ أَيَّامٍ نَاولنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ (مُسْنَدَ أَبِي يَعْلَى) سَمَاعهَا، فَسمِعنَاهُ.
مَجَالِسُهُ:كَانَ -رَحِمَهُ الله- يَقرَأُ الحَدِيْثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَليلَة الخَمِيْسِ، وَيَجْتَمِع خلق، وَكَانَ يَقرَأُ وَيَبْكِي وَيُبْكِي النَّاسَ كَثِيْراً، حَتَّى إِنَّ مَنْ حَضَرَه مَرّة لاَ يَكَاد يَتركه، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ دَعَا دُعَاءً كَثِيْراً.
سَمِعْتُ شَيْخَنَا ابْنَ نَجَا الوَاعِظ بِالقَرَافَةِ يَقُوْلُ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ جَاءَ الإِمَامُ الحَافِظُ، وَهُوَ يُرِيْد أَنْ يَقرَأَ الحَدِيْثَ، فَاشْتَهَى أَنْ تَحضرُوا مَجْلِسه ثَلاَث مَرَّات، وَبعدهَا أَنْتُم تَعرفُوْنَهُ وَتحصل لَكُم الرّغبَة، فَجَلَسَ أَوّل يَوْم، وَحَضَرتُ، فَقَرَأَ أَحَادِيْث بِأَسَانِيْدهَا حِفْظاً، وَقرَأَ جُزْءاً، فَفَرح النَّاس بِهِ، فَسَمِعْتُ ابْنَ نَجَا يَقُوْلُ: حَصَلَ الَّذِي كُنْت أُرِيْده فِي أَوَّلِ مَجْلِس.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ حضَر يَقُوْلُ: بَكَى النَّاس حَتَّى غُشِي عَلَى بَعْضهِم، وَكَانَ يَجلسُ بِمِصْرَ بِأَمَاكن.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ الفَقِيْهَ نَجْمَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ الحَنْبَلِيَّ يَقُوْلُ وَقَدْ حضَر مَجْلِس الحَافِظ:
يَا تَقِيّ الدِّيْنِ، وَاللهِ لَقَدْ حَملتَ الإِسْلاَم، وَلَوْ أَمكننِي مَا فَارقتُ مَجْلِسك.
أَوْقَاتُهُ:
كَانَ لاَ يُضيِّع شَيْئاً مِنْ زَمَانه بِلاَ فَائِدَة، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الفَجْر، وَيلقّن القُرْآن، وَرُبَّمَا أَقرَأَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْثِ تلقيناً، ثُمَّ يَقوم فَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَلاَث مائَة رَكْعَة بِالفَاتِحَة وَالمعوّذتين إِلَى قَبْل الظُّهْر، وَيَنَام نَوْمَة، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْر، وَيَشتغل إِمَّا بِالتّسمِيْع، أَوْ بِالنّسخ إِلَى المَغْرِب، فَإِنْ كَانَ صَائِماً، أَفطر، وَإِلاَّ صَلَّى مِنَ المَغْرِب إِلَى العشَاء، وَيُصَلِّي العشَاء، وَيَنَام إِلَى نِصْف اللَّيْل أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَامَ كَأَنَّ إِنْسَاناً يُوقظه، فَيُصَلِّي لَحْظَةً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إِلَى قُرب
الفَجْر، رُبَّمَا تَوضَأَ سَبْع مَرَّاتٍ أَوْ ثَمَانِياً فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ:مَا تَطِيبُ لِي الصَّلاَة إِلاَّ مَا دَامت أَعضَائِي رطبَة، ثُمَّ يَنَام نَوْمَة يَسِيْرَة إِلَى الفَجْر، وَهَذَا دَأْبُهُ.
أَخْبَرَنِي خَالِي مُوَفَّق الدِّيْنِ، قَالَ :
كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ جَامِعاً لِلْعِلْمِ وَالعمل، وَكَانَ رفِيقِي فِي الصِّبَا، وَكَانَ رفِيقِي فِي طَلَبِ العِلْمِ، وَمَا كُنَّا نَسْتَبِق إِلَى خَيْر إِلاَّ سبقنِي إِلَيْهِ إِلاَّ القَلِيْل، وَكمّل الله فَضِيْلته بَابتلاَئِه بِأَذَى أَهْل البدعَة وَعدَاوتهِم، وَرِزْقِ العِلْم، وَتحصيل الكُتُب الكَثِيْرَة، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُعمَّر.
قَالَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشدّ محَافِظَة عَلَى وَقته مِنْ أَخِي.
قَالَ الضِّيَاء: وَكَانَ يَسْتَعْمَل السّوَاك كَثِيْراً حَتَّى كَأَنَّ أَسْنَانه البَرَدُ.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ سَلاَمَةَ التَّاجِر الحَرَّانِيّ يَقُوْلُ:
كَانَ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ نَازلاً عِنْدِي بِأَصْبَهَانَ، وَمَا كَانَ يَنَام مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ يُصَلِّي وَيَقرَأُ وَيَبْكِي.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: أَضَافَنِي رَجُلٌ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا تَعَشَّينَا، كَانَ عِنْدَهُ رَجُل أَكل مَعَنَا، فَلَمَّا قُمْنَا إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ يصل، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟
قَالُوا: هَذَا رَجُل شَمْسِيّ.
فَضَاق صَدْرِي، وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا أَضفتَنِي إِلاَّ مَعَ كَافِر!
قَالَ: إِنَّهُ كَاتِب، وَلَنَا عِنْدَهُ رَاحَة، ثُمَّ قُمْت بِاللَّيْلِ أُصَلِّي، وَذَاكَ
يَسْتَمع، فَلَمَّا سَمِعَ القُرْآن تَزَفَّر، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْد أَيَّام، وَقَالَ: لَمَّا سَمِعتك تَقرَأُ، وَقَعَ الإِسْلاَم فِي قَلْبِي.وَسَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً عَلَى سِيرَةِ الحَافِظ، كَانَ مُشْتَغِلاً طول زَمَانه.
قِيَامُهُ فِي المُنْكَرِ:
كَانَ لاَ يَرَى مُنْكراً إِلاَّ غَيَّرَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَكَانَ لاَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لَوْمَة لاَئِم.
قَدْ رَأَيْتُهُ مرَّة يهرِيق خمراً، فَجبذ صَاحِبُهُ السَّيْف فَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَأَخَذَهُ مَنْ يَدِهِ، وَكَانَ قَوِيّاً فِي بَدَنِهِ، وَكَثِيْراً مَا كَانَ بِدِمَشْقَ يُنكِرُ وَيَكسر الطَّنَابِيرَ وَالشَّبابَات.
قَالَ خَالِي المُوَفَّق: كَانَ الحَافِظ لاَ يَصبر عَنْ إِنْكَار المُنْكَر إِذَا رَآهُ، وَكُنَّا مرَّة أَنْكَرنَا عَلَى قَوْم، وَأَرقنَا خمرهُم، وَتضَارَبْنَا، فَسَمِعَ خَالِي أَبُو عُمَرَ، فَضَاق صَدْره، وَخَاصمنَا، فَلَمَّا جِئْنَا إِلَى الحَافِظِ طَيَّبَ قُلُوْبنَا، وَصوّب فِعلنَا، وَتَلاَ: {وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } .
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَحْمَدَ الطَّحَّان، قَالَ: كَانَ بَعْض أَوْلاَد صَلاَح الدِّيْنِ قَدْ عُملت لَهُم طنَابِير، وَكَانُوا فِي بُستَان يَشربُوْنَ، فَلقِي الحَافِظ الطّنَابِير، فَكسرهَا.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحَافِظ، قَالَ: فَلَمَّا كُنْت أنَا وَعَبْد الهَادِي عِنْد حمَّام كَافُوْر، إِذَا قَوْم كَثِيْر مَعَهُم عصيّ، فَخففت المشِي، وَجَعَلت أَقُوْل: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَلَمَّا صرت عَلَى الجِسْر، لحقُوا صَاحِبِي، فَقَالَ: أَنَا مَا كسرت لَكُم شَيْئاً، هَذَا هُوَ الَّذِي كسر.
قَالَ: فَإِذَا فَارِس يَركض،
فَترَجَّل، وَقبَّل يَدِي، وَقَالَ: الصِّبْيَان مَا عَرَفُوك.وَكَانَ قَدْ وَضَع الله لَهُ هَيْبَة فِي النُّفُوْس.
سَمِعْتُ فَضَائِلَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرٍ المَقْدِسِيَّ يَقُوْلُ:
سمِعتهُم يَتحدثُونَ بِمِصْرَ: أَنَّ الحَافِظ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَى العَادل، فَقَامَ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّانِي، جَاءَ الأُمَرَاء إِلَى الحَافِظ مِثْل سركس وَأُزكش، فَقَالُوا: آمنَّا بِكَرَامَاتك يَا حَافِظ.
وذكرُوا أَنَّ العَادل قَالَ: مَا خفتُ مِنْ أَحَد مَا خفت مِنْ هَذَا.
فَقُلْنَا: أَيُّهَا الْملك، هَذَا رَجُل فَقِيْه.
قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مَا خُيّل إِلَي إِلاَّ أَنَّهُ سَبعٌ.
قَالَ الضِّيَاء: رَأَيْت بِخَطِّ الحَافِظ: وَالملك العَادل اجْتَمَعت بِهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ إِلاَّ الجَمِيْل، فَأَقْبَل عَلَيّ، وَقَامَ لِي، وَالتزَمَنِي، وَدعوت لَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: عِنْدنَا قصُوْر هُوَ الَّذِي يُوجب التَّقْصِير.
فَقَالَ: مَا عِنْدَك لاَ تَقصِيْر وَلاَ قصُوْر، وَذَكَرَ أَمر السّنَّة، فَقَالَ: مَا عِنْدَك شَيْء تُعَاب بِهِ لاَ فِي الدِّيْنِ وَلاَ الدُّنْيَا، وَلاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاسدين.
وَبَلَغَنِي بَعْد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ بِالشَّامِ وَلاَ مصر مِثْل فُلاَن، دَخَلَ عليّ، فَخُيّل إِلَيَّ أَنَّهُ أَسد، وَهَذَا بِبركَة دعَائِكم وَدُعَاء الأَصْحَاب.
قَالَ الضِّيَاء: كَانُوا قَدْ وَغَروا عَلَيْهِ صدر العَادل، وَتَكلّمُوا فِيْهِ، وَكَانَ بَعْضهُم أَرْسَل إِلَى العَادل يَبذل فِي قتل الحَافِظ خَمْسَة آلاَف دِيْنَار.
قُلْتُ: جرّ هَذِهِ الفِتْنَة نَشْر الحَافِظ أَحَادِيْث النُّزَول وَالصِّفَات، فَقَامُوا عَلَيْهِ، وَرَمَوْهُ بِالتّجسيم، فَمَا دَارَى كَمَا كَانَ يُدَارِيهِم الشَّيْخ المُوَفَّق.
سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَحكِي عَنِ الأَمِيْر دِرباس: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الحَافِظ
إِلَى الْملك العَادل، فَلَمَّا قضَى الْملك كَلاَمه مَعَ الحَافِظ، جَعَلَ يَتَكَلَّم فِي أَمر مَارْدِيْن وَحصَارهَا، فَسَمِعَ الحَافِظ، فَقَالَ: أَيش هَذَا، وَأَنْت بَعْدُ تُرِيْد قِتَال المُسْلِمِيْنَ، مَا تَشكر الله فِيمَا أَعْطَاك، أَمَا ... أَمَا ؟!قَالَ: فَمَا أَعَاد وَلاَ أَبدَى.
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ وَقُمْت مَعَهُ، فَقُلْتُ: أَيش هَذَا؟ نَحْنُ كُنَّا نخَاف عَلَيْك مِنْ هَذَا، ثُمَّ تَعْمَل هَذَا الْعَمَل؟
قَالَ: أَنَا إِذَا رَأَيْت شَيْئاً لاَ أَقدر أَن أَصْبِر، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ ابْنَ الطَّحَّانِ، قَالَ:
كَانَ فِي دَوْلَةِ الأَفْضَلِ جَعَلُوا المَلاَهِي عِنْد الدَّرَجِ، فَجَاءَ الحَافِظ فَكسّر شَيْئاً كَثِيْراً، ثُمَّ صعد يَقرَأُ الحَدِيْث، فَجَاءَ رَسُوْل القَاضِي يَأْمره بِالمشِي إِلَيْهِ لينَاظره فِي الدُّفّ وَالشَّبَّابَة، فَقَالَ: ذَاكَ عِنْدِي حَرَام، وَلاَ أَمْشِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قرَأَ الحَدِيْث.
فَعَاد الرَّسُول، فَقَالَ: لاَ بُدَّ مِنَ المشِي إِلَيْهِ، أَنْتَ قَدْ بطّلت هَذِهِ الأَشيَاء عَلَى السُّلْطَان.
فَقَالَ الحَافِظُ: ضَرَبَ الله رقبته وَرقبَة السُّلْطَان.
فَمَضَى الرَّسُول وَخفنَا، فَمَا جَاءَ أَحَد.
وَمِنْ شَمَائِله:
قَالَ الضِّيَاء: مَا أَعْرف أَحَداً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رَآهُ إِلاَّ أَحَبّه وَمَدَحَهُ كَثِيْراً؛ سَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ الحَرَّانِيّ بِأَصْبَهَانَ، قَالَ:
كَانَ الحَافِظ يَصطف النَّاس
فِي السُّوق يَنظُرُوْنَ إِلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ بِأَصْبَهَانَ مُدَّة وَأَرَادَ أَنْ يَملكهَا، لملكهَا.قَالَ الضِّيَاء: وَلَمَّا وَصل إِلَى مِصْرَ، كُنَّا بِهَا، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلْجمعَة لاَ نَقدر نَمْشِي مَعَهُ مِنْ كَثْرَة الْخلق، يَتبركُوْن بِهِ، وَيَجْتَمِعُوْنَ حَوْلَهُ، وَكُنَّا أَحَدَاثاً نَكْتُب الحَدِيْث حَوْلَهُ، فَضحكنَا مِنْ شَيْءٍ، وَطَال الضحك، فَتبسَّم وَلَمْ يَحْرَد عَلَيْنَا، وَكَانَ سخيّاً، جَوَاداً، لاَ يَدّخر دِيْنَاراً وَلاَ دِرْهَماً مهمَا حصَّل أَخْرَجَهُ، لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُج فِي اللَّيْلِ بِقفَاف الدّقيق إِلَى بيُوت مُتَنَكِّراً فِي الظّلمَة، فَيُعْطِيهم وَلاَ يُعرَف، وَكَانَ يُفتح عَلَيْهِ بِالثِّيَاب، فَيُعْطِي النَّاس وَثَوْبه مرقّع.
قَالَ خَالِي الشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ: كَانَ الحَافِظ يُؤثر بِمَا تَصل يَده إِلَيْهِ سِرّاً وَعَلاَنِيَّة ... ، ثُمَّ سرد حِكَايَات فِي إِعطَائِهِ جُمْلَةَ دَرَاهِمَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ بدر بن مُحَمَّدٍ الجَزَرِيّ يَقُوْلُ:
مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكرم مِنَ الحَافِظ؛ كُنْت أَسْتدين يَعْنِي لِأطْعم بِهِ الفُقَرَاء، فَبقِي لِرَجُلٍ عِنْدِي ثَمَانِيَة وَتِسْعُوْنَ دِرْهَماً، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الوَفَاء، أَتَيْتُ الرَّجُل، فَقُلْتُ: كَمْ لَكَ؟
قَالَ: مَا لِي عِنْدَك شَيْء!
قُلْتُ: مَنْ أَوَفَاهُ؟
قَالَ: قَدْ أُوفِي عَنْكَ، فَكَانَ وَفَّاهُ الحَافِظُ وَأَمره أَنْ يَكتم عَلَيْهِ.
وَسَمِعْتُ سُلَيْمَان الأَسْعَرْدِيّ يَقُوْلُ:
بعثَ الأَفْضَل ابْن صَلاَح الدِّيْنِ إِلَى الحَافِظ بنفقَة وَقمح كَثِيْر، فَفَرَّقه كُلّه.
وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ العِرَاقِيّ؛ حَدَّثَنِي مَنْصُوْرٌ الغَضَارِيُّ، قَالَ:
شَاهَدْتُ الحَافِظَ فِي الغَلاَءِ بِمِصْرَ وَهُوَ ثَلاَث لَيَالٍ يُؤثر بعشَائِهِ وَيطوِي.
رَأَيْت يَوْماً قَدْ أُهدِيَ إِلَى بَيْت الحَافِظ مشْمش فَكَانُوا يفرقُون، فَقَالَ مِنْ حِينه: فَرِّقُوا {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّوْنَ } .وَقَدْ فُتح لَهُ بِكَثِيْر مِنَ الذَّهب وَغَيْرِهِ، فَمَا كَانَ يَترك شَيْئاً حَتَّى قَالَ لِي ابْنه أَبُو الفَتْحِ: وَالِدِي يُعطِي النَّاس الكَثِيْر، وَنَحْنُ لاَ يَبعثَ إِلَيْنَا شَيْئاً، وَكُنَّا بِبَغْدَادَ.
مَا ابْتُلِيَ الحَافِظُ بِهِ:
قَالَ الضِّيَاء: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْد الرَّحْمَانِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ، سَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ:
سَأَلت الله أَنْ يَرْزُقنِي مِثْل حَال الإِمَام أَحْمَد، فَقَدْ رزقنِي صلاَته قَالَ: ثُمَّ ابْتُلِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُوذِي.
سَمِعْتُ الإِمَام عَبْد اللهِ بن أَبِي الحَسَنِ الجُبَّائِيّ بِأَصْبَهَانَ يَقُوْلُ:
أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَى ابْنِ مَنْدَةَ أَشيَاء فِي كِتَابِ (الصَّحَابَة) ، فَكَانَ الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى يَشتهِي أَنْ يَأْخذ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي فِي الصَّحَابَة، فَمَا كَانَ يَجسر، فَلَمَّا قَدِمَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، أَشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَأَخَذَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ نَحْواً مِنْ مائَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ مَوْضِعاً، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ الصَّدْر الخُجَنْدِيّ،
طلب عَبْد الغَنِيِّ، وَأَرَادَ هَلاَكه، فَاخْتَفَى.وَسَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ يَقُوْلُ: مَا أَخرجنَا الحَافِظ مِنْ أَصْبَهَان إِلاَّ فِي إِزَار، وَذَلِكَ أَن بَيْت الخُجَنْدِيّ أَشَاعِرَة، كَانُوا يَتعصّبُوْنَ لأَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانُوا رُؤسَاء البَلَد.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: كُنَّا بِالمَوْصِل نَسْمَع (الضُّعَفَاء) لِلْعُقَيْلِيّ، فَأَخذنِي أَهْل المَوْصِل وَحَبَسُونِي، وَأَرَادُوا قتلِي مِنْ أَجْل ذكر شَيْء فِيْهِ، فَجَاءنِي رَجُلٌ طَوِيْل وَمَعَهُ سَيْف، فَقُلْتُ: يَقتلنِي وَأَسْترِيح.
قَالَ: فَلَمْ يَصنع شَيْئاً، ثُمَّ أَطلقونِي، وَكَانَ يَسْمَع مَعَهُ ابْنُ البَرْنِيِّ الوَاعِظ، فَقلع الْكرَّاس الَّذِي فِيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء، فَأَرْسَلُوا، وَفتشُوا الكِتَاب، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَهَذَا سَبَب خَلاَصه.
وَقَالَ: كَانَ الحَافِظ يَقرَأُ الحَدِيْث بِدِمَشْقَ، وَيَجْتَمِع عَلَيْهِ الْخلق، فَوَقَعَ الْحَسَد، فَشرعُوا عَملُوا لَهُم وَقتاً لقِرَاءة الحَدِيْث، وَجَمَعُوا النَّاس، فَكَانَ هَذَا يَنَام وَهَذَا بِلاَ قَلْب، فَمَا اشتفَوْا، فَأَمرُوا النَّاصِح ابْن الحَنْبَلِيِّ
بِأَنْ يَعظ تَحْت النّسر يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقت جُلُوْس الحَافِظ.فَأَوّل ذَلِكَ: أَنَّ النَّاصح وَالحَافِظ أَرَادَا أَنْ يَخْتلفَا الوَقْت، فَاتفقَا أَنَّ النَّاصح يَجْلِس بَعْد الصَّلاَة، وَأَنْ يَجْلِس الحَافِظ الْعَصْر، فَدسُّوا إِلَى النَّاصح رَجُلاً نَاقص العَقْل مِنْ بَنِي عَسَاكِر، فَقَالَ لِلنَّاصح فِي المَجْلِسِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّك تَقُوْلُ الْكَذِب عَلَى المِنْبَرِ.
فَضُرِبَ، وَهَرَبَ، فَتمت مكيدتهُم، وَمَشَوا إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: هَؤُلاَءِ الحَنَابِلَة قصدهُم الفِتْنَة، وَاعْتِقَادهُم يُخَالِف اعْتِقَادنَا ... ، وَنَحْو هَذَا.
ثُمَّ جَمعُوا كبرَاءهُم، وَمضُوا إِلَى القَلْعَة إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: نشتهِي أَنْ تحضر عَبْد الغَنِيِّ، فَانحدر إِلَى المَدِيْنَةِ خَالِي المُوَفَّق، وَأَخِي الشَّمْس البُخَارِيّ، وَجَمَاعَة، وَقَالُوا: نَحْنُ ننَاظرهُم.
وَقَالُوا لِلْحَافِظ: لاَ تَجِئْ، فَإِنَّك حدّ، نَحْنُ نَكفِيك.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُم أَخذُوا الحَافِظ وَحْدَه، وَلَمْ يَدر أَصْحَابنَا، فَنَاظروهُ، وَاحتدّ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا شَيْئاً مِنَ الاعْتِقَاد، وَكتبُوا خُطُوطهُم فِيْهِ، وَقَالُوا لَهُ: اكْتُبْ خطّك.
فَأَبَى، فَقَالُوا لِلوَالِي: الفُقَهَاء كلّهُم قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يُخَالِفهُم.
وَاسْتَأَذنوهُ فِي رفع مِنْبَره، فَبَعَثَ الأَسرَى، فَرفعُوا مَا فِي جَامِع دِمَشْق مِنْ مِنْبَر وَخزَانَة وَدَرَابزِين، وَقَالُوا: نُرِيْد أَنْ لاَ تَجعل فِي الجَامِع إِلاَّ صَلاَة الشَّافِعِيَّة.
وَكسّرُوا مِنْبَر الحَافِظ، وَمَنَعونَا مِنَ الصَّلاَةِ، فَفَاتتنَا صَلاَة الظُّهْر.
ثُمَّ إِنَّ النَّاصح جمع البَنَويَّة، وَغَيْرهُم، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يخلونَا نُصَلِّي بِاخْتِيَارهِم، صلّينَا بِغَيْرِ اخْتيَارهِم.فَبَلَغَ ذَلِكَ القَاضِي، وَكَانَ صَاحِبَ الفِتْنَة، فَأَذن لَهُم، وَحمَى الحَنَفِيَّة مقصُوْرتهُم بِأَجنَاد، ثُمَّ إِنَّ الحَافِظ ضَاق صَدْره وَمَضَى إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّة، فَقَالَ لَهُ أَهْلهَا: إِنِ اشْتهيت جِئْنَا مَعَكَ إِلَى دِمَشْقَ نؤذِي مَنْ آذَاكَ، فَقَالَ: لاَ.
وَتوجّه إِلَى مِصْرَ، فَبقِي بِنَابُلُسَ مُدَّة يقرأُ الحَدِيْث، وَكُنْتُ أَنَا بِمِصْرَ، فَجَاءَ شَابّ مِنْ دِمَشْقَ بِفَتَاو إِلَى صَاحِب مِصْر الْملك العَزِيْز وَمَعَهُ كتب أَنَّ الحَنَابِلَة يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا يُشنِّعُوْنَ بِهِ عَلَيْهِم.
فَقَالَ -وَكَانَ يَتصيد-: إِذَا رَجَعنَا أَخرجنَا مِنْ بلاَدنَا مَنْ يَقُوْلُ بِهَذِهِ المَقَالَة.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عدَا بِهِ الْفرس، فَشب بِهِ، فَسَقَطَ، فَخُسِف صَدْره، كَذَلِكَ حَدَّثَنِي يُوْسُفُ بنُ الطُّفَيْل شَيْخنَا وَهُوَ الَّذِي غسّله، فَأُقيم ابْنه صَبِيّ، فَجَاءَ الأَفْضَل مِنْ صَرْخَدُ، وَأَخَذَ مِصْر، وَعَسْكَر، وَكرّ إِلَى دِمَشْقَ، فَلقِي الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ فِي الطَّرِيْق، فَأَكْرَمَه إِكرَاماً كَثِيْراً، وَنفّذ يُوصي بِهِ بِمِصْرَ، فَتُلُقِّي الحَافِظ بِالإِكرَام، وَأَقَامَ بِهَا يُسْمِع الحَدِيْث بِموَاضِع، وَكَانَ بِهَا كَثِيْر مِنَ المخَالفِيْن، وَحصر الأَفْضَل دِمَشْق حصراً شدِيداً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِصْرَ، فَسَافر العَادل عَمُّه خَلفه، فَتملّك مِصْر، وَأَقَامَ، وَكثر المخَالفُوْنَ عَلَى الحَافِظ، فَاسْتُدعِي، وَأَكْرَمَهُ العَادل، ثُمَّ سَافر العَادل إِلَى دِمَشْقَ، وَبَقِيَ الحَافِظ بِمِصْرَ، وَهُم يَنَالُوْنَ مِنْهُ، حَتَّى عزم الْملك الكَامِل عَلَى إِخرَاجه، وَاعْتُقِل فِي دَار أُسْبُوْعاً، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:
مَا وَجَدْت رَاحَة فِي مِصْر مِثْل تِلْكَ اللَّيَالِي.
قَالَ: وَكَانَتِ امرَأَة فِي دَار إِلَى جَانب تِلْكَ الدَّار، فَسمِعتهَا تَبْكِي، وَتَقُوْلُ:
بِالسِّرِّ الَّذِي أَودعته قَلْبَ مُوْسَى حَتَّى قَوِيَ
عَلَى حمل كَلاَمك.قَالَ: فَدعوت بِهِ، فَخلصتُ تِلْكَ اللَّيْلَة.
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ، حَدَّثَنِي الشُّجَاع بن أَبِي زكرِي الأَمِيْر، قَالَ:
قَالَ لِي الْملك الكَامِل يَوْماً: هَا هُنَا فَقِيْه قَالُوا إِنَّهُ كَافِر.
قُلْتُ: لاَ أَعْرفه.
قَالَ: بَلَى، هُوَ مُحَدِّث.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: هَذَا هُوَ.
فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْملك، العُلَمَاء أَحَدهُم يَطلب الآخِرَة، وَآخر يَطلب الدُّنْيَا، وَأَنْت هُنَا بَاب الدُّنْيَا، فَهَذَا الرَّجُل جَاءَ إِلَيْك أَو تَشَفَّع يطْلب شَيْئاً ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: وَاللهِ هَؤُلاَءِ يَحسدُوْنَهُ، فَهَلْ فِي هَذِهِ البِلاَد أَرْفَع مِنْكَ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: هَذَا الرَّجُل أَرْفَع العُلَمَاء كَمَا أَنْتَ أَرْفَع النَّاس.
فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً كَمَا عَرَّفْتَنِي، ثُمَّ بعثَتُ رقعَة إِلَيْهِ أُوصيه بِهِ، فَطَلبنِي، فَجِئْت، وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْخ الشُّيُوْخِ ابْن حَمُّوَيْه، وَعِزّ الدِّيْنِ الزّنجَارِيّ، فَقَالَ لِي السُّلْطَان: نَحْنُ فِي أَمر الحَافِظ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الْملك، القَوْم يَحسدُوْنَهُ، وَهَذَا الشَّيْخ بَيْنَنَا -يَعْنِي: شَيْخ الشُّيُوْخِ- وَحلفته هَلْ سَمِعْتَ مِنَ الحَافِظ كَلاَماً يُخْرِج عَنِ الإِسْلاَم؟
فَقَالَ: لاَ وَاللهِ، وَمَا سَمِعْتُ عَنْهُ إِلاَّ كُلَّ جَمِيْلٍ، وَمَا رَأَيْتهُ.
وَتَكلّم ابْن الزّنجَارِيّ، فَمدح الحَافِظ كَثِيْراً وَتَلاَمِذته، وَقَالَ: أَنَا أَعْرفهُم، مَا رَأَيْتُ مِثْلهُم.
فَقُلْتُ: وَأَنَا أَقُوْل شَيْئاً آخر: لاَ يَصل إِلَيْهِ مكروهٌ حَتَّى يُقْتَل مِنَ الأَكرَاد ثَلاَثَة آلاَف.
قَالَ: فَقَالَ: لاَ يُؤذَى الحَافِظ.
فَقُلْتُ: اكْتُبْ خطّك بِذَلِكَ، فَكَتَبَ.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظ أُمِر أَنْ يَكتبَ اعْتِقَادَه، فَكَتَبَ: أَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا، وَأَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا ولِقَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَا، حَتَّى فَرغ مِنَ المَسَائِل الَّتِي يُخَالِفُوْنَ فِيْهَا.فَلَمَّا رَآهَا الكَامِل، قَالَ: أَيش أَقُوْل فِي هَذَا يَقُوْلُ بقول الله وَقول رَسُوْله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!
قُلْتُ : وَذَكَرَ أَبُو المُظَفَّرِ الوَاعِظ فِي (مِرَآة الزَّمَانِ) ، قَالَ: كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ يَقرَأُ الحَدِيْث بَعْد الجُمُعَة، قَالَ: فَاجْتَمَعَ القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ، وَالخَطِيْب ضِيَاء الدِّيْنِ، وَجَمَاعَة، فَصعدُوا إِلَى القَلْعَة، وَقَالُوا لوَالِيهَا: هَذَا قَدْ أَضلّ النَّاس، وَيَقُوْلُ بالتّشبيه.
فَعقدُوا لَهُ مَجْلِساً، فَنَاظرهُم، فَأَخذُوا عَلَيْهِ موَاضِع، مِنْهَا: قَوْلُهُ: لاَ أُنزهه تَنزِيهاً يَنفِي حَقِيْقَة النُّزَول، وَمِنْهَا: كَانَ اللهُ وَلاَ مَكَان، وَلَيْسَ هُوَ اليَوْم عَلَى مَا كَانَ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصّوت، فَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ، فَقَدْ أَثْبَت لَهُ المَكَان، وَإِذَا لَمْ تنَزهه عَنْ حقِيْقَة النُّزَول، فَقَدْ جوزت عَلَيْهِ الانتقَالَ، وَأَمَّا الْحَرْف وَالصّوت فَلَمْ يَصحَّ عَنْ إِمَامك، وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُ كَلاَم اللهِ، يَعْنِي غَيْر مَخْلُوْق.
وَارتفعت الأَصوَات، فَقَالَ وَالِي القَلْعَة الصَّارم برغش: كُلّ هَؤُلاَءِ عَلَى ضلاَلَة وَأَنْت عَلَى الحَقِّ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَمر بِكسّر مِنْبَره.
قَالَ: وَخَرَجَ الحَافِظ إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَافر إِلَى مِصْرَ ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَأَفتَى فُقَهَاء مِصْر بِإِباحَة دَمه، وَقَالُوا: يُفسد عقَائِد النَّاس، وَيذَكَرَ التّجسيم.
فَكَتَبَ الوَزِيْر بنفِيه إِلَى المَغْرِب، فَمَاتَ الحَافِظ قَبْل وُصُوْل الكِتَاب.
قَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي كُلّ يَوْم وَليلَة ثَلاَث مائَة رَكْعَة، وَيَقوم اللَّيْل، وَيَحْمِل مَا أَمكنه إِلَى بيُوت الأَرَامل وَاليتَامَى سرّاً، وَضَعف بَصَره مِنْ كَثْرَة البُكَاء وَالمُطَالَعَة، وَكَانَ أَوحد زَمَانه فِي علم الحَدِيْث.وَقَالَ أَيْضاً: وَفِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ كَانَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَمر الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَإِصرَاره عَلَى مَا ظهر مِنِ اعْتِقَاده، وَإِجمَاع الفُقَهَاء عَلَى الفُتْيَا بتكفِيره، وَأَنَّهُ مُبْتَدِع لاَ يَجُوْزُ أَنْ يُترك بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فَسَأَلَ أَنْ يُمهل ثَلاَثَة أَيَّام لِيَنْفَصِل عَنِ البَلَد، فَأُجيب.
قُلْتُ: قَدْ بلوتُ عَلَى أَبِي المُظَفَّرِ المجَازفَة وَقِلَّة الوَرَع فِيمَا يُؤرّخه -وَاللهُ الموعدُ -وَكَانَ يَترفّض، رَأَيْت لَهُ مُصَنّفاً فِي ذَلِكَ فِيْهِ دَوَاهٍ، وَلَوْ أَجْمَعت الفُقَهَاء عَلَى تَكفِيره -كَمَا زَعَم- لَمَا وَسعهُم إِبقَاؤُه حيّاً، فَقَدْ كَانَ عَلَى مقَالَته بِدِمَشْقَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد وَالشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ، وَأَخُوْهُ القُدْوَةُ الشَّيْخ أَبُو عُمَرَ، وَالعَلاَّمَة شَمْس الدِّيْنِ البُخَارِيّ، وَسَائِر الحَنَابِلَة، وَعِدَّة مِنْ أَهْلِ الأَثر، وَكَانَ بِالبَلَدِ أَيْضاً خلق مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يُكفّرُوْنَهُ، نَعم، وَلاَ يُصرّحُوْنَ بِمَا أَطْلَقَهُ مِنَ العبَارَة لَمَّا ضَايقوهُ، وَلَوْ كَفّ عَنْ تِلْكَ العبَارَات، وَقَالَ بِمَا وَردت بِهِ النّصوص لأَجَاد وَلسلم، فَهُوَ الأَوْلَى، فَمَا فِي تَوسيع العبَارَات المُوهِمَة خَيْر، وَأَسوَأ شَيْء قَالَهُ: أَنَّهُ ضللَ العُلَمَاء الحَاضِرِيْنَ، وَأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ، فَقَالَ كلمَة فِيْهَا شَرّ وَفسَاد وَإِثَارَة لِلبلاَء، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْع وَغفر لَهُم، فَمَا قصدهُم إِلاَّ تَعَظِيْم البَارِي- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الطّرفِيْن، وَلَكِنَّ الأَكمل فِي التعَظِيْم وَالتنزِيه الوُقُوْف مَعَ أَلْفَاظ الكِتَاب وَالسّنَّة، وَهَذَا هُوَ مَذْهَب السَّلَف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.
وَبِكُلِّ حَال: فَالحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْم وَالتَأَلّه وَالصّدع بِالْحَقِّ، وَمَحَاسِنه كَثِيْرَة، فَنَعُوذ بِاللهِ مِنَ الهَوَى وَالمِرَاء وَالعصبيَّة وَالافترَاء، وَنبرَأُ مِنْ كُلِّ مُجَسِّم وَمُعطِّل.مِنْ فِرَاسَةِ الحَافِظِ وَكَرَامَاتِهِ:
قَالَ الحَافِظُ الضِّيَاء: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى بن عَبْدِ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ وَالِدِي بِمِصْرَ وَهُوَ يذكر فَضَائِل سُفْيَان الثَّوْرِيّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِن وَالِدِي مِثْله.
فَالْتَفَت إِلَيَّ، وَقَالَ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ أَولئك؟
سَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: كَانَ مِنْبَر الحَافِظ فِيْهِ قِصَر، وَكَانَ النَّاسُ يُشرفُوْنَ إِلَيْهِ، فَخطر لِي لَوْ كَانَ يُعَلَّى قَلِيْلاً، فَترك الحَافِظ القِرَاءة مِنَ الجُزْء، وَقَالَ:
بَعْضُ الإِخْوَان يَشتهِي أَنْ يُعَلَّى هَذَا المِنْبَر قَلِيْلاً، فَزَادُوا فِي رِجْلَيْهِ.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَخُو اليَاسَمِيْنِيّ، قَالَ:كُنْتُ يَوْماً عِنْد وَالِدك، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَشتهِي لَوْ أَنَّ الحَافِظ يُعْطِينِي ثَوْبه حَتَّى أُكفَّن فِيْهِ.
فَلَمَّا أَردت القِيَام، خلع ثَوْبه الَّذِي يَلِي جَسَده وَأَعْطَانِيه، وَبَقِيَ الثَّوْب عِنْدنَا، كُلُّ مَنْ مَرِضَ تَرَكَوهُ عَلَيْهِ، فَيُعَافَى.
سَمِعْتُ الرَّضِيّ عَبْد الرَّحْمَانِ المَقْدِسِيّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظ بِالقَاهِرَةِ، فَدَخَلَ رَجُل، فَسَلَّمَ، وَدفعَ إِلَى الحَافِظ دِيْنَارَيْنِ، فَدَفَعهُمَا الحَافِظ إِلَيَّ، وَقَالَ: مَا كَأَنَّ قَلْبِي يَطيب بِهِمَا.
فَسَأَلت الرَّجُل: أَيش شغلك؟
قَالَ: كَاتِب عَلَى النّطرُوْنَ -يَعْنِي: وَعَلَيْهِ ضمَان-.
حَدَّثَنِي فَضَائِل بن مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْر بِجَمَّاعِيْل، حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّي بَدْرَان بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ الحَافِظ -يَعْنِي فِي الدَّار الَّتِي وَقفهَا عَلَيْهِ يُوْسُف المسجّف -وَكَانَ المَاء مَقْطُوْعاً، فَقَامَ فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ: امْلأْ لِي الإِبرِيق.
فَقضَى الحَاجَة، وَجَاءَ فَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا كُنْت أَشتهِي الوُضُوْء إِلاَّ مِنَ البركَةِ.
ثُمَّ صَبَر قَلِيْلاً، فَإِذَا المَاء قَدْ جرَى، فَانْتظر حَتَّى فَاضت البركَة، ثُمَّ انْقَطَع المَاء، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ كرَامَة لَكَ.
فَقَالَ لِي: قل: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَعَلَّ المَاء كَانَ محتبساً، لاَ تَقُلْ هَذَا!
وَسَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ:
كَانَ رَجُل قَدْ أَعْطَى الحَافِظ جَامُوْساً فِي البَحْرَةِ، فَقَالَ لِي: جِئْ بِهِ،
وَبِعْهُ.فَمضيت، فَأَخَذتهُ، فَنفر كَثِيْراً، وَبَقِيَ جَمَاعَة يَضحكُوْن مِنْهُ.
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ بِبركَة الحَافِظ سهّل أَمره، فَسُقته مَعَ جَامُوْسَيْنِ، فَسهُل أَمره، وَمَشَى فَبعته بقَرْيَة.
وَفَاتُهُ:
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ : مَرِضَ أَبِي فِي رَبِيْع الأَوَّلِ مرضاً شدِيداً مَنعه مِنَ الكَلاَم وَالقِيَام، وَاشتدَّ سِتَّةَ عشرَ يَوْماً، وَكُنْت أَسْأَلُهُ كَثِيْراً: مَا يَشتهِي؟ فَيَقُوْلُ: أَشتهِي الجَنَّة، أَشتهِي رَحْمَة الله.
لاَ يَزِيْد عَلَى ذَلِكَ، فَجِئْته بِمَاء حَارّ، فَمدَّ يَده، فَوضأته وَقت الفَجْر، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! قُمْ صلّ بِنَا، وَخفّف.
فَصَلَّيْت بِالجَمَاعَة، وَصَلَّى جَالِساً، ثُمَّ جلَسْت عِنْد رَأْسه، فَقَالَ: اقْرَأْ يَس.
فَقرَأتهَا، وَجَعَلَ يَدعُوا وَأَنَا أُؤمّن، فَقُلْتُ: هُنَا دَوَاء تَشْرَبُهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ! مَا بَقِيَ إِلاَّ المَوْت.
فَقُلْتُ: مَا تَشتهِي شَيْئاً؟
قَالَ: أَشتهِي النَّظَر إِلَى وَجه الله- سُبْحَانه-.
فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ عَنِّي رَاض؟
قَالَ: بَلَى وَاللهِ.
فَقُلْتُ: مَا تُوصي بِشَيْءٍ؟
قَالَ: مَا لِي عَلَى أَحَد شَيْء، وَلاَ لأَحدٍ عَلَيَّ شَيْء.
قُلْتُ: تُوصينِي؟
قَالَ: أُوصيك بتَقْوَى الله، وَالمحَافِظَة عَلَى طَاعته، فَجَاءَ جَمَاعَة يَعُوْدُوْنَهُ، فَسلّمُوا، فَردّ عَلَيْهِم، وَجَعَلُوا يَتحدثُونَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ اذكرُوا الله، قَوْلُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله.
فَلَمَّا قَامُوا، جَعَلَ يذَكَرَ الله بِشفتيه، وَيُشِيْر بِعَيْنَيْهِ، فَقُمْت لأنَاول رَجُلاً كِتَاباً مِنْ جَانب المَسْجَد، فَرَجَعت وَقَدْ خَرَجت روحه -رَحِمَهُ الله- وَذَلِكَ يَوْم الاثْنَيْنِ، الثَّالِث وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ سِتِّ
مائَةٍ، وَبَقِيَ لَيْلَة الثُّلاَثَاء فِي المَسْجَدِ، وَاجْتَمَعَ الْخلق مِنَ الغَدِ، فَدَفَنَّاهُ بِالقرَافَة.قَالَ الضِّيَاء: تَزَوَّجَ الحَافِظ بِخَالتِي رَابِعَة ابْنَة خَاله الشَّيْخ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَة، فَهِيَ أُمّ أَوْلاَده مُحَمَّد وَعَبْد اللهِ وَعَبْد الرَّحْمَانِ وَفَاطِمَة، ثُمَّ تسرَّى بِمِصْرَ.
قُلْتُ: أَوْلاَده عُلَمَاء:
فَمُحَمَّدٌ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الإِمَام الرَّحَّال عِزّ الدِّيْنِ أَبُو الفَتْحِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ كَهْلاً، وَكَانَ كَبِيْرَ القَدْرِ.
وَعَبْد اللهِ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ المُصَنِّف جَمَال الدِّيْنِ أَبُو مُوْسَى، رَحل وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ كُلَيْبٍ، وَخَلِيْلٍ الرَّارَانِيِّ، مَاتَ كَهْلاً، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ.
وَعَبْد الرَّحْمَانِ: هُوَ المُفْتِي أَبُو سُلَيْمَانَ ابْنُ الحَافِظِ، سَمِعَ مِنَ البُوْصِيْرِيّ وَابْن الجَوْزِيِّ، عَاشَ بِضْعاً وَخَمْسِيْنَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
مِن المَنَامَاتِ:
أَوْرَد لَهُ الشَّيْخ الضِّيَاء عِدَّة مَنَامَات، مِنْهَا:
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ يُوْنُسَ المَقْدِسِيّ الأَمِيْن يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنِّيْ بِمسجد الدَّيْرِ، وَفِيْهِ رِجَال عَلَيْهِم ثِيَابٌ بِيْضٌ، وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُم مَلاَئِكَةٌ، فَدَخَلَ
الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقَالُوا بِأَجْمَعهِم: نشْهد بِاللهِ إِنَّك مِنْ أَهْلِ اليَمِين، مرَّتين أَوْ ثَلاَثاً.سَمِعْتُ الحَافِظَ عَبْد الغَنِيِّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ وَأَنَا أَمْشِي خَلفه إِلاَّ أَنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلاً.
سَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: جَاءَ الحَافِظ مِنْ مِصْرَ، فَمضيتُ أَنَا وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرٍو العِزّ ابْن الحَافِظِ إِلَيْهِ، فَجِئْنَا إِلَى دَار، فَفُتِحَ البَاب، فَإِذَا الحَافِظ عَلَى وَجهه عَمُود مِنْ نور إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا وَالِدته فِي تِلْكَ الدَّار.
سَمِعْتُ الشَّيْخ الصَّالِح غشيم بن نَاصِر المِصْرِيّ، قَالَ:
لَمَّا مَاتَ الحَافِظ، كُنْت بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدمتُ، قُلْتُ: أَيْنَ دُفِنَ؟
قِيْلَ: شرقِي قَبْر الشَّافِعِيّ، فَخَرَجت، فَلقيت رَجُلاً، فَقُلْتُ: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: لاَ تسَأَلنِي عَنْهُ، مَا أَنَا عَلَى مَذْهَبه، وَلاَ أُحبّه.
فَتركته، وَمشيت، وَأَتيت قَبْر الحَافِظ، وَترددت إِلَيْهِ، فَأَنَا بَعْضُ الأَيَّام فِي الطَّرِيْق، فَإِذَا الرَّجُل، فَسَلَّمَ عليّ، وَقَالَ: أَمَا تَعرفنِي؟ أَنَا الَّذِي لَقِيتك مِنْ مُدَّة، وَقُلْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، مَضَيْت تِلْكَ اللَّيْلَة، فَرَأَيْت قَائِلاً يَقُوْلُ لِي: يَقُوْلُ لَكَ فُلاَن وَسَمَّانِي: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟ فَتَقُوْلُ: مَا قُلْت؟! وَكرّر القَوْل عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الله بِك خَيراً فَأَنْت تَكُوْن عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَو كُنْت أَعْرف مَنْزِلك، لأَتيتك.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي صنِيعَة الْملك هِبَة اللهِ بن حَيْدَرَةَ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجت لِلصَّلاَة عَلَى الحَافِظ، لَقِيَنِي هَذَا المَغْرِبِيُّ، فَقَالَ: أَنَا غَرِيْب، رَأَيْت البَارِحَة كَأَنِّيْ فِي أَرْض بِهَا قَوْم عَلَيْهِم ثِيَاب بيض، فَقُلْتُ: مَا
هَؤُلاَءِ؟ قِيْلَ: مَلاَئِكَة السَّمَاء نَزلُوا لِمَوتِ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَقِيْلَ لِي: اقعدْ عِنْد الجَامِع حَتَّى يَخْرُج صنِيعَة الْملك، فَامض مَعَهُ.قَالَ: فَلقيته وَاقفاً عِنْد الجَامِع.
سَمِعْتُ الفَقِيْه أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ سَنَة اثْنَتَيْ عَشْرَةَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ أَخَاك الكَمَال عَبْد الرَّحِيْمِ -وَكَانَ تُوُفِّيَ تِلْكَ السّنَة- فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ: يَا فُلاَنُ، أَيْنَ أَنْتَ؟
قَالَ: فِي جَنَّة عدن.
فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الحَافِظُ أَوِ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ.
فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَأَمَّا الحَافِظ فُكُلُّ لَيْلَة جُمُعَة يُنْصب لَهُ كُرْسِيّ تَحْت الْعَرْش، وَيُقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْث، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ الدُّرُّ وَالجَوْهَر، وَهَذَا نَصِيْبِي مِنْهُ، وَكَانَ فِي كُمِّه شَيْء.
سَمِعْتُ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الكُرْدِيّ بِحَرَّانَ يَقُوْلُ:
قَرَأْت فِي رَمَضَانَ ثَلاَثِيْنَ ختمَة، وَجَعَلت ثوَاب عشر مِنْهَا لِلْحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ترَى يَصل هَذَا إِلَيْهِ؟
فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ عِنْدِي ثَلاَثَة أَطباق رطب، فَجَاءَ الحَافِظ، وَأَخَذَ وَاحِداً مِنْهَا.
وَرَأَيْتهُ مرَّة، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ بقَى عَلَيَّ وِرْدِي مِنَ الصَّلاَةِ، أَوْ نَحْو هَذَا.
سَمِعْتُ القَاضِي الإِمَام عُمَر بن عَلِيٍّ الهَكَّارِيّ بِنَابُلُسَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ الحَافِظَ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ، فَقُلْتُ: جِئْتَ غَيْرَ رَاكِبٍ، فَعل اللهُ بِمَنْ جِئْتِ مِنْ عِنْدِهِم!
قَالَ: أَنَا حَمَلَنِي النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ عَبْد الحَافِظِ بن بَدْرَانَ بِنَابُلُسَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ الفَقِيْهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُوْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ السُّوْذَرْجَانِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدَانَ الحبَّال، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الفَابَجَانِيّ، حَدَّثَنَا جَدِّي عِيْسَى بن إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا آدَم بن أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ حَيَّان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السُّجُوْدَ، فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُوْدِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُوْدِ، فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ).
عبد الله ويقال عتيق بن عثمان أبي قحافة بن عامر
ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لوي أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبه في الغار.
قدم تاجراً إلى بصرى من الشام في الجاهلية، وفي الإسلام.
عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن بالغار: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، ورواه الترمذي.
عن قيس بن أبي حازم قال: قرأ أبو بكر هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، ثم قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، والمنكر فلم يغيروه عمّهم الله بعقابه ".
وفي رواية: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه ".
عن عائشة أم المؤمنين قالت: اسم أبي بكرٍ الذي سماه به أهله: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو، ولكنه غلب عليه اسم عتيق.
قالت: والله إني لفي بيتي ذات يومٍ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في الفناء والستر بيني وبينهم - زاد في رواية: دونهم - إذا أقبل أبو بكر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن ينظر إلى عتيقٍ من النار فلينظر إلى أبي بكر ".
ومن رواية عن عائشة: أن أبا قحافة كان له ثلاثة أولادٍ سمى واحداً عَتيقاً، والآخر معتقاً، والآخر عُتيقاً، - وفي رواية: عتيقاً ومعتقاً ومعيتيقاً.
وقال موسى بن طلحة: بينا عائشة بنت طلحة تقول لأمها أم كلثوم بنتا أبي بكر: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك، فقالت: أبوك خير من أبي؟ فقالت عائشة أم المؤمنين: ألا أقضي بينكما؟ إن أبا بكر دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار " فمن يومئذ سمي عتيقاً، قال: ودخل طلحة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا طلحة أنت ممن قضى نحبه ".
وقال: سألت أبي طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبه، لأي شيءٍ سمي أبو بكر عتيق؟ قال: كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهبه لي.
وقال مصعب: سمي أبو بكر عتيقاً لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، قال ابن الأعرابي: العرب تقول للشيء قد بلغ النهاية في الجودة: عتيق.
عن عبد الله بن الزبير قال: كان اسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت عتيق الله من النار " فسمي عتيقاً.
قال مغيرة بن زياد: أرسلت إلى ابن أبي مليكة أسأله عن أبي بكر الصديق ما كان اسمه؟ قال: فأتيته فسألته، فقال: كان اسمه عبد الله بن عثمان، وإنما كان عتيق لقباً.
وعن الليث بن سعد قال: إنما سمي أبو بكر عتيقاً لجمال وجهه.
وعن أبي نعيم الفضل بن دكين: إنما سمي عتيقاً لأنه عتيق، قديم في الخير.
عن عبد الله بن الزبير قال: سميت باسم جدي أبي بكر، وكنيت بكنيته.
وفي أبي بكر نزلت: " فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى ".
وعن ابن إسحاق: كان أبو بكر أنسب العرب للعرب.
قال الزبير بن بكار: فولد عامر بن عمرو أبا قحافة، واسمه عثمان، وأمه قيلة بنت أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فولد أبو قحافة أبا بكر الصديق، وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب - وفي رواية: ابن عامر بن عمرو بن كعب - بن سعد ابن تيم بن مرة، وأبو بكر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، الذي قال الله عز وجل: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " وهاجر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة ليس معهما أحد إلا مولى أبي بكر عامر بن فهيرة الذي رفع إلى السماء حين استشهد يوم بئر معونة، وكان دليل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الطريق إلى المدينة، وأعتق أبو بكر سبعة ممن كان يعذب في الله، منهم: بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد بدراً والمشاهد كلها، وشهد عامر بن فهيرة بدراً وغيرها حتى استشهد يوم بئر معونة.
وأبو بكر أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة.
قال ابن سعد: دفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر، وكانت سوداء، وأطعمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر مائة وسق، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد حين ولّى الناس.
قال إسماعيل بن علي الخطبي: وقد أدرك أبواه الإسلام وأسلما.
قال أبو أحمد الحاكم: أدرك أبو بكر بن أبي قحافة، الصديق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وابن ابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أربعتهم ولاءً، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست هذه المنقبة لأحدٍ من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، وأدرك من أولاده وأهل بيته ومواليه سواهم، نفر من الرجال والنساء، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم بنوه عبد الله وعبد الرحمن، صَحِبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابنه الثالث محمد، ولد عام حجة الوداع، ولدته أسماء بقباء، فوجهت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرها، فأمرها أن تغتسل، وتهل، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم أبي بكر الصديق أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر، وامرأة أبي بكر الصديق أم رومان بنت عمير بن عبد مناة بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة، وابن خالته أم مسطح بنت أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف، وبلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وسعد، والقاسم، موالي أبي بكر.
قال أبو عبد الله بن منده: ولد أبو بكر بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهرٍ إلا أيام، ومات بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين
وأشهر بالمدينة، وهو ابن ثلاث وستين، وكان رجلاً أبيض نحيفاً، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال.
عن الزهري قال: لما كان يوم فتح مكة أُتي بأبي قحافة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكأن رأسه ثغامة بيضاء، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلا أقررتم الشيخ في بيته حتى كنا نأتيه؟ " تكرمة لأبي بكر، وأمرهم أن يغيروا شعره، وبايعه، وأتى المدينة، وبقي حتى أدرك خلافة أبي بكر، ومات أبو بكر قبله، وورثه أبو قحافة السدس، فرده على ولد أبي بكر، وكانت وفاته سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب، وله يومئذ سبع وتسعون سنة.
قال أنس بن مالك:
قدم علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أسن أصحابه أبو بكر.
وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر من أبي بسنتين وشيءٍ.
عن يزيد بن الأصم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أينا أكبر، أنا أو أنت؟ " قال: أنت أكبر وأكرم، وخير مني، وأنا أسن منك.
كذا في هذه الرواية، والمحفوظ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أسن من أبي بكر، وأن أبا بكر استكمل بخلافته سن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت أبا بكر كأن رأسه ولحيته ضرام عرفجٍ.
وقال: دخلت على أبي بكر وهو مريض، فإذا هو أبيض قضيف.
عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر الصديق أبيض أصفر لطيفاً جعداً، كأنما خرج من صدع حجر، مسترق الوركين، لا يثبت إزاره على وركيه.
ووصفته عائشة فقالت: كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين أجنأ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، مقرون الحاجب، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، معوق الوجه، وكان يخضب بالحناء والكتم.
وعن الزهري في صفة أبي بكر: كان أبيض يخالط بياضه الصفرة، جعد، حسن القامة، رقيق، حمش الساقين، قليل اللحم، حسن الثغر.
وعن ربيعة بن كعب قال: كان إسلام أبي بكر الصديق بوحي من السماء، وذلك أنه كان تاجراً بالشام، فرأى رؤيا، فقصها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأيش أنت؟ قال: تاجر، قال: صدق الله رؤياك، فإنه سيبعث نبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر أبو بكر حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءه، فقال: يا محمد، ما الدليل على ما تدعي؟ قال: الرؤيا التي رأيت بالشام، فعانقه، وقبل عينيه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك محمداً رسول الله.
قال أبو بكر الصديق: إنه خرج إلى اليمن قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فنزلت على شيخٍ من الأزد، عالم قد قرأ الكتب، وعلم من علم الناس علماً كثيراً، وأتت عليه أربعمائة سنة إلا عشر سنين، فلما رآني قال: أحسبك حرمياً؟ قال أبو بكر: قلت: نعم أنا من أهل الحرم،
قال: وأحسبك قرشياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من قريش، قال: وأحسبك تيمياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله بن عثمان بن كعب بن تيم بن مرة، قال: بقيت لي منك واحدة، قلت: ما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل أو تخبرني لم ذاك؟ قال: أجد في العلم الصحيح الزكي الصادق أن نبياً يبعث في الحرم تعاون على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخواض غمرات، ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي.
قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة، وإني متقدم إليك في أمرٍ، فاحذره، قال أبو بكر: قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.
قال أبو بكر: فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتاً قلتها في ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول: من الطويل
ألم تر أني قد وهنت معاشري ... ونفسي وقد أصبحت في الحي واهنا
حييت، وفي الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين، ثم تسعين آمنا
وصاحبت أحباراً أبانوا بعلمهم ... غياهيب في سدٍّ ترى فيه طامنا
فما زلت أدعو الله في كل حاضر ... حللت بها سراً وجهراً معالنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي ... وألفيت شيخاً لا أطيق الشواجنا
وأنت، ورب البيت تلقى محمداً ... بعامك هذا قد أقام البراهنا
فحي رسول الله عني فإنني ... على دينه أحيا وإن كنت داكنا
فيا ليتني أدركته في شبابتي ... فكنت له عبداً وإلا العجاهنا
قال أبو بكر: فحفظت وصيته وشِعره، وقدمت مكة وقد بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءني عقبة بن أبي معيط، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريشٍ، فقلت لهم: هل نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: يا أبا بكر، أعظم الخطب، وأجل النوائب! يتيم أبي طالب، يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية لنا.
قال أبو بكر: فصرفتهم، وسألت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: إنه في منزل خديجة، فقرعت عليه الباب، فخرج إلي، فقلت: يا محمد، بعدت من منازل أهلك، واتهموك بالفتنة، وتركت دين آبائك وأجدادك؟ قال: " يا أبا بكر، إني رسول الله إليك، وإلى الناس كلهم، فآمن بالله " فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: " الشيخ الذي لقيته باليمن " قلت: وكم من مشايخ لقيت، واشتريت، وأخذت وأعطيت، قال: " الشيخ الذي أفادك الأبيات " قلت: ومن خبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: " الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي " قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنت رسول الله.
قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سروراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامي.
قال طلحة بن عبيد الله: كان إسلام أبي بكر فتحاً، وذلك أن ورقة بن نوفل جاء إلى أبي بكرٍ، فقال له: يابن أخي، إني أراك متبدلاً بمكة، ولا أراك في شيءٍ، فأخبرني كم معك من المال؟ قال: عندي كذا وكذا من العير، قال: فأنا آتيك غداً بكذا وكذا فأضعف لك حتى تخرج إلى الشام، فتصيب فيه خيراً، فتعطيني ما شئت، وتمسك ما شئت، فانقلب أبو بكر إلى زوجته، فقال لها: اذبحي من تلك الغنم شاة سفِّرينا بها، قالت: وأين تريد؟ قال: الشام، قالت: ولم؟ قال: إن ورقة بن نوفل قارضني أن أخرج مالي كله ويعطيني كذا وكذا ألف دينار، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ قال: وما هو؟ قالت: جاء محمد يطلبك منذ اليوم ثلاث مرات، فما حبسك عنه؟ قال: ما حبسني عنه إلا ما ذكرت؛
قالت: سمعته يقول: " أنا رسول الله حقاً " قال: ويحك! فإنه هذا خير لي من الدنيا وما فيها! فانطلق إليه من ليلته، فقرع الباب، فقال: " من هذا؟ " قال: أبو بكر، ففتح له الباب، ثم قال: " ما جاء بك هذه الساعة، فإني قد كنت أبتغيك ثلاث مرات؟ " قال: إني كنت مع ورقة بن نوفل، فعرض علي قراضاً، فقلت لزوجتي: سفرينا، قالت: وأين تريد؟ فقلت: قارضني ورقة بن نوفل على أن أخرج إلى الشام، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما أخبرتك؟ " قال: أخبرتني أنك تقول: إني رسول الله. ثم انصرف من عنده مسروراً بما نال من الخير والإسلام، فأصبح، وجاء إليه ورقة بن نوفل بالمال ليدفع إليه، فقال له: يابن أخي، هذا المال، قال: وجدت تجارة خيراً من تجارتك، وربحاً خير من ربحك، قال: وما هو؟ قال: قال لي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله " فصدقته وآمنت به، وشهدت أنه رسول الله، قال: فوالله لئن كنت صادقاً لا آكل ما ذبح على النصب، ولا ما ذبحت قريش لآلهتها، ولا ما ذبحت يهود لكنائسها، ولأستقبلن هذا البيت الحرام الذي أسسه إبراهيم وإسماعيل، ولا أزال أصلي أبداً، ولأحرمن ما ذبح لغير الله - عز وجل - فتوفي ورقة قبل أن يظهر أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن محمد بن إسحاق قال: ثم إن أبا بكر لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله يا أبا بكر ونبيه، بعثني لأبلّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا نعبد غيره، والموالاة على طاعته أهل طاعته " وقرأ عليه القرآن، فلم يقر، ولم ينكر، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
وابتدأ أبو بكر أمره، وأظهر إسلامه، ودعا الناس، وأظهر علي وزيد بن حارثة إسلامها، فكبُر ذلك على قريش، وكان أول من اتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة بنت خويلد
زوجته، ثم كان أول ذكرٍ آمن به علي، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر الصديق، فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خيرٍ أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلقٍ ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
عن عائشة قالت: قال أبو بكر: كنت أول من آمن.
وعن ابن سيرين قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من النساء خديجة.
قال عمار: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
سئل سعد بن مالك: أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلاماً؟ قال: لا، ولكن أسلم قبله أكثر من خمسة، ولكن كان خيرنا إسلاماً.
عن أبي سعيد قال: لما بويع أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض، فقال: أيها الناس، ما يمنعكم؟ ألست أحقكم بهذا الأمر ألست أول من أسلم؟ قال أبو بكر: أنا أول من صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية: أول من صلى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال علي بن أبي طالب.
قال قائل لابن عباس: أي الناس كان أول إسلاماً؟ قال: أبو بكر، أما سمعت بقول حسان بن ثابت - رضي الله عنهما -: من البسيط
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البرية أوفاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهدة ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وفي رواية: أتقاها وأعدلها.
عاش حميداً لأمر الله متبعاً ... بهدي صاحبه الماضي وما انتقلا
وفي رواية: عاشا جميعاً لأمر الله متبعاً لهدي.
وسئل ميمون بن مهران: كان علي أول إسلاماً أو أبو بكر؟ فقال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن بحيرا الراهب، واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب.
وقيل له: علي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟ قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما، لله درهماً كانا رأسي الإسلام، ورأسي الجماعة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى علي، وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة - يعني أبا بكر - فإني لم أكلمه في شيءٍ إلا قبله واستقام عليه ".
عن محمد بن عبد الرحمن: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه ".
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت:
فلما أن اجتمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهور، فقال: " يا أبا بكر، إنا قليل " فلم يزل يلح على رسول الله حتى ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وكل رجلٍ معه، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس، وكان أول خطيبٍ دعا إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر، وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، وأثّر على وجه أبي بكر لا يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه ولا يشكون في موته، ورجعوا بيوتهم، فدخلوا المسجد، فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة، وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم، فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا، وقالوا لأم الخير بنت صخر: انظري أن تطعميه شيئاً، أو تسقيه إياه، فلما خلت به جعل يقول: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: والله ما لي علم بصاحبك، قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن تحبي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك. قال: فما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: قال: فلا عين عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أَلِيّة ألا أذوق طعاماً أو شراباً أو آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل، وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فانكب عليه فقبله، وانكب عليه
المسلمون، ورق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادعُ الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعاها إلى الله - عز وجل - فأسلمت، فأقاموا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون رجلاً.
وكان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة. فقال عمر: يا رسول الله، علام نخفي ديننا، ونحن على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: " يا عمر، إنا قليل قد رأيت ما لقينا " فقال عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج، فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه، فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه، فوثب على عتبة، فبرك عليه، فجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان فيها، فأظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ظاهر عليهم، فقال: ما يجلسك بأبي أنت وأمي، فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف؛ فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر معلناً، ثم انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى دار الأرقم ومن معه.
قيل لعمر بن العاص: ما أشد ما رأيتهم بلغوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال عمرو: أشد شيءٍ بلغ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رأيت - أنهم تآمروا عليه حين مر بهم ضحىً عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا ذلكم " فأخذ أحدهم بتلابيبه، وأبو بكر آخذ بحضن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائه،
يريد أن ينتزعه منهم، وهو يصيح: يا قوم " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبة، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " قال: يردد أبو بكر هذه الآية وعيناه تسفحان، فلم يزل على ذلك حتى انفرجوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عاشة قالت: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث بذاك الناس، فارتد ناس ممن كان آمن، وصدق به، وفتنوا، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوه أو رواحه، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسري به، فبلغ ذا طوى، فقال: " يا جبريل، إني أخاف أن يكذبوني " قال: كيف يكذبونك وفيهم أبو بكر الصديق؟ عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال: ما نفعني الله إلا بك - وفي رواية: " مال أحدٍ ما نفعني مال أبي بكر " قال: فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ وعن عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعنا مال ما نفعنا مال أبي بكر ".
وعن ابن المسيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مال رجلٍ من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ".
قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أمنُّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أعظم عندي من أبي بكر، واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته ".
وعن ابن عباس قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب إليه؟ فقال لي: " عائشة " فقلت: ليس عن النساء سألتك، قال: " فأبوها إذاً " قال: قلت: فلم يا رسول الله؟ قال: " لأنه أنفق ماله كله غير مقطبٍ بين عينيه حتى بقي بعباءة تخللها بريشة، لا تملك سواها، ووالله ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، وزوجني ابنته، ووهب لي غلامه، وواساني بنفسه، وكلما هبط جبريل علي قال: يا محمد، الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرئ أبا بكرٍ السلام وقل له: " أساخطٍ فأرضيك؟ " فقال: على من أسخط يا رسول الله، أنا عنه راض، فهل هو عني راضٍ؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو عنك راضٍ " فقال أبو بكر: الحمد لله.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من أعظم الناس علينا مناً أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر، أعتق منه بلالاً، وحملني إلى دار الهجرة ".
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: " ما أطيب مالك! منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك، وواسيتني بنفسك ومالك، كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله أبا بكرٍ زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله،
رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مراً، تركه الحق وما له من صديقٍ، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله علياً، اللهم أدر عليه الحق حيث دار ".
عن ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالصدقة، فقال عمر بن الخطاب: وعندي مال كثير، فقلت: والله لأفضلن أبا بكر هذه المرة، فأخذت نصف مالي، وتركت نصفه، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " هذا مال كثير، فما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم نصفه.
وجاء أبو بكر بمالٍ كثير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم الله ورسوله - زاد في رواية: قال عمر: فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً! وفي رواية مرسلة عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إلى آخر الآية جاء عمر بنصف ماله يحمله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمله على رؤوس الناس، وجاء أبو بكر بماله أجمع يكاد أن يخفيه من نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: عدة الله، وعدة رسوله، قال: يقول عمر لأبي بكر: بنفسي أنت - أو بأهلي أنت - ما سبقنا باب خيرٍ قط إلا سبقتنا إليه.
عن عروة: أن أبا بكر الصديق أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف درهم، قال عروة: قالت عائشة: توفي أبو بكر وما ترك ديناراً ولا درهماً.
وعن عروة قال: أعتق أبو بكر الصديق ممن كان يعذَّب في الله بمكة سبعة أنفسٍ: بلالاً الحبشي الأسود، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وزنِّيرة، وجارية بني المؤمل.
وعن ابن عمر قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج إلى المدينة من مكة في الهجرة وماله غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفق في الرقاب، والعون على الإسلام.
عن عبد الله: أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف، وأُبيّ بن خلف ببردةٍ وعشر أواقٍ، فأعتقه لله - عز وجل - فانزل الله - عز وجل - " والليل إذا يغشى " إلى قوله: " إن سعيكم لشتى " سعي أبي بكر وأمية وأُبي.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافاً؟ فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك، ويقومون دونك! فقال أبو بكر: يا أبه، إني إنما أريد ما أريد. قال: فيتحدث: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قاله أبوه " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " إلى آخر السورة.
وعن ابن عباس في قوله: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى "، قال أبو بكر " وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " قال: أبو سفيان بن حرب.
عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر: " وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى ".
عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده: أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في
صدره بخلال؟ فقال: " يا جبريل، أنفق ماله علي قبل الفتح " قال: فإن الله عز وجل يقرأ عليه السلام ويقول: " قل له: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ " فقال أبو بكر: أسخط على ربي؟ أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ.
وعن ابن عباس: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هبط علي جبريل، وعليه طنفسة، وهو متخلل بها، فقلت: يا جبريل ما نزلت إلي في مثل هذا الزي! قال: إن الله أمر الملائكة أن تخلل في السماء كتخلل أبي بكرٍ في الأرض ".
عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له جبريل: هاجر، قال: ومن يهاجر معي؟ " قال أبو بكر، وهو الصديق.
وعن أنس: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد أحداً، فتبعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: " اسكن! نبي، وصديق، وشهيدان - وفي رواية: ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فضربه برجله، وقال: " اثبت أحد! فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان " وفي رواية " اثبت حراء، عليك نبي، وصديق، وشهيد " فالصديق أبو بكر، والشهيدان: عمر وعثمان.
عن النزال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفسٍ، ومزاح، فقلنا له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك، قال: كل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابي، قال: حدثنا عن أصحابك خاصةً، قال: ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب إلا كان لي صاحباً، قلنا: حدثنا عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: سلوني، قلنا: حدثنا عن أبي بكر الصديق،
قال: ذاك امرؤ سماه الله صديقاً على لسان جبريل ومحمد صلى الله عليهما، كان خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
عن حكيم بن سعد قال:
سمعت علياً يحلف لأنزل الله عز وجل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وعن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر - وفي رواية: فما مر - علينا يوم إلا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتينا فيه طرفي النهار بكرةً وعشياً، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكرٍ مهاجراً قبل أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، فقال: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرج، ولا يَخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع، فاعبد ربك في بلدك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف ابن الدغنة في كفار قريشٍ، فقال: إن أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسِب المعدم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا، ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل.
قال: ثم بدا لأبي بكر فابتني مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ، فتنقصف عليه نساء قريش، وأبناؤهم يتعجبون منه، وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلاً بكاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فافزع ذلك أشراف قريشٍ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد
ربه في داره، وإنه قد جاوز ذلك، فابتني مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يستعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن يسمع العرب أني أخفرت في عقد رجلٍ عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله ورسوله، ورسول الله يومئذ بمكة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين - وهما حرتان " فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: أو ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: " نعم "، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
قالت عائشة: فبينا نحن جلوس في بيتنا، في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبلاً مقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة لأمر، قال: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن، فدخل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإنه قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم " فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بالثمن ".
قالت: فجهزناهما أحب الجهاز، فصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها، فأوكت به الجراب، فلذلك كانت تسمى ذات النطاقين - وفي
رواية: النطاق - ثم لحق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر بغارٍ في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقف، فيدخل، فيخرج من عندهما بسحرٍ، فيصبح بمكة مع قريش كبائت، لا يسمع أمراً يُكادون - وفي رواية: يُكادان - به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذاك إذا اختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةً من العشاء، فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك عامر تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر رجلاً من بني الدئل من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلفٍ في آل عاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث، فارتحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعامر، والدليل الدئلي، فأخذ بهم طريق الساحل، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، وأبو بكر على راحلته، وعامر ابن فهيرة يمشي مع أبي بكر مرة، وربما أردفه.
وكانت أسماء تقول: لما صنعت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي سفرتهما وجد أبو قحافة ريح الخبز، فقال: ما هذا، لأي شيء هذا؟ فقلت: لا شيء، هذا خبز عملناه نأكله، فلما خرج أبو بكر جعل أبو قحافة يلتمسه ويقول: أقد فعلها؟! خرج وترك عياله علي، ولعله قد ذهب بماله - وكان قد عمي - فقلت: لا، فأخذت بيده، فذهبت به إلى جلد فيه أقط فمسسته، فقلت: هذا ماله! عن ضبة بن محصن العنزي قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميراً بالبصرة، فوجهني في بعثه عمر بن الخطاب، فقدمت على عمر، فضربت عليه الباب، فخرج إلي، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي، قال: فأدخلني منزله، وقدم إلي طعاماً، فأكلت، ثم ذكرت له
أبا بكر الصديق، فبكى، فقلت له: أنت خير من أبي بكر، فازداد بكاءً لذلك، ثم قال وهو يبكي: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: فإنه لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هارباً من أهل مكة خرج ليلاً، فاتبعه أبو بكر، فجعل مرة يمشي أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا فعلك! " فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرةً عن يمينك، ومرةً عن يسارك، لا آمن عليك، قال: فمشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليله كله، حتى أدغل أطراف أصابعه، فلما رآه أبو بكر حمله على عاتقه، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار، فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن يك فيه شيء نزل بي دونك، قال: فدخل أبو بكر؛ فلم ير شيئاً، فقال له: اجلس، فإن في الغار خرقاً أسده، وكان عليه رداء، فمزقه، وجعل يسد به خرقاً خرقاً، فبقي جحران، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمله، فأدخله الغار، ثم ألقم قدميه الجحرين، فجعل الأفاعي والحيات يضربنه ويلسعنه إلى الصباح، وجعل هو يتقلى من شدة الألم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم بذلك، ويقول له: " يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا " فأنزل الله عليه وعلى رسوله السكينة، والطمأنينة فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب؛ فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي، وقال بعضهم: نزكي ولا نصلي، فأتيته لا ألوه نصحاً، فقلت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارفق بالناس! وقال غيري ذلك. فقال أبو بكر: قد قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتفع الوحي، ووالله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا فكان والله سديد الأمر، فهذا يومه.
عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال:
نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت:
يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ".
عن ابن عباس قال: إن الذين طلبوهم صعدوا الجبل، فلم يبق إلا أن يدخلوا، فقال أبو بكر: أُتينا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا " وانقطع الأثر، فذهبوا يميناً وشمالاً.
عن علي بن أبي طالب قال: لقد صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي بكر أمراً ما صنعه بي، فقال له رجل: ما صنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: يوم المَلْحم، قلنا: وما يوم الملحم؟ قال: يوم جاء المشركون يقتلون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج، وخرج بأبي بكر معه، لم يأمن على نفسه أحداً غيره حتى دخلا الغار.
عن حبيب بن أبي ثابت: في قوله عز وجل: " فانزل الله سكينته عليه " قال: على أبي بكر، فأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد نزلت عليه السكينة قبل ذلك.
قال الحسن بن عرفة: " فأنزل السكينة عليهم " قال: على أبي بكر.
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار ".
عن الزهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت: " هل قلت في أبي بكر شيئاً؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " فقل حتى أسمع " فقال: من البسيط
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ يصعد الجبلا
وكان ردف رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، وقال: " صدقت يا حسان، هو كما قلت ".
قال ابن عيينة: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أبي بكر وحده؛ فإنه خرج من المعاتبة، وتلا قوله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ".
عن أنس بن مالك قال: لما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان رسول الله يركب، وأبو بكر رديفه، وكان أبو بكر يعرف في الطريق باختلافه إلى الشام، فكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك؟ فيقول: هادٍ يهدي - وفي رواية: هذا رجل يهديني السبيل.
عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ثم السلمي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي.
وعن محمد بن عمر بن علي: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فلما قدم
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة نقض تلك المؤاخاة إلا اثنتين: المؤاخاة التي بينه وبين علي بن أبي طالب، والتي بين حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة.
عن أبي هريرة قال: تباشرت الملائكة يوم بدرٍ فقالوا: أما ترون أبا بكر الصديق جاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أصبح منكم صائماً اليوم؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من أطعم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من عاد اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال: " من شهد منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اجتمعن - هذه الخصال - في رجلٍ قط إلا دخل الجنة " وفي رواية: " من جمعهن في يومٍ واحد وجبت له، أو قال: غُفر له ".
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه، فقال: " من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر: لكن حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد اليوم عاد مريضاً؟ " قال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ " فقال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائلٍ، فوجدت كسرة خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت فابشر بالجنة " فتنفس عمر، فقال: واها للجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة أرضى بها عمر.
عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: ما سبقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.
عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي - وفي رواية: نودي - من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي - وفي رواية: نودي - من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان " فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على أحدٍ ممن دعي من تلك الأبواب - وفي رواية فقال أبو بكر: ما على من يدعى من هذه الأبواب - من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب - وفي رواية من هذه الأبواب - كلها؟ قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم ".
عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل الجنة رجل لا يبقى فيها أهل دار ولا غرفة إلا قالوا: مرحباً مرحباً، إلينا إلينا "، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما توى هذا الرجل في ذلك اليوم، قال: " أجل، وأنت هو يا أبا بكر ".
عن ابن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: وأقبل على أبي بكر فقال: " إني لأعرف اسم رجل، واسم أبيه، واسم أمه إذا دخل الجنة لم يبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قالت: مرحباً مرحباً " فقال سلمان: إن هذا لغير خائب، فقال: " ذاك أبو بكر بن أبي قحافة ".
عن سليمان بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر خير أهل الأرض إلا أن يكون نبياً ".
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله عز وجل بعبدٍ خيراً جعل فيه واحدة منهن يدخله بها الجنة ".
قال: وقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فيّ شيء منهن؟ قال: " نعم جميعاً " وفي رواية: " كلهن فيك، وهنيئاً لك يا أبا بكر ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بينما جبريل يطوف بي أبواب الجنة قلت: يا جبريل، أرني الباب الذي تدخل منه أمتي " قال: " فأرانيه " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، ليتني كنت معك حتى أنظر إليه، قال: فقال: " يا أبا بكر، أما إنك أول من يدخله من أمتي ".
عن أبي الدرداء قال: إني لجالس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل أبو بكر، فأخذ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فأقبل حتى سلم، ثم قال: يا رسول الله، كان بيني وبين ابن الخطاب شيء حتى أسرعت إليه، وندمت، فسألته أن يستغفر لي، فأبى علي، وتحرز مني بفراره، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يغفر الله لك يا أبا بكرٍ - ثلاثاً " ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ، فسأل: أثم أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغير وجهه حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، أنا والله كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيها الناس إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها.
عن ابن عباس قال:
ذكر أبو بكر عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبني الناس وصدقني، وآمن بي، وزوجني ابنته، وجهزني بماله، وجاهد معي في جيش العسرة، ألا إنه سيأتي يوم القيامة على ناقةٍ من نوق الجنة، قوائمها من المسك والعنبر، ورحلها من الزمرد الأخضر وزمامها من اللؤلؤ الرطب، عليها جلان خضراوان من سندس واستبرق، ويجاء بأبي بكر يوم القيامة وإياي، فيقال: هذا محمد رسول الله، وهذا أبو بكر الصديق ".
عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما احب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: " يا ربيع ألا تزوج؟ " فقلت: ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله لرسول الله بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني والله، لئن قال لي: تزوج لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت. قال فقال: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: " انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار، وكان فيهم تراخٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقل لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة - لامرأةٍ منهم - فذهبت، فقلت لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحباً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبرسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا والله، لا يرجع رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بحاجته،
فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً، فقال لي: " مالك يا ربيعة؟ " فقلت: يا رسول الله، أتيت قوماً كراماً، فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهبٍ " قال: فجمعوا لي وزن نواةٍ من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها " فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه وقالوا: كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً فقال: " يا ربيعة مالك حزين؟ " فقلت: يا رسول الله، ما رأيت قوماً أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا وقالوا: كثير طيب وليس عندي ما أولم، قال: " يا بريدة، اجمعوا له شاة " قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى عائشة، فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام " قال: فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: هذا المكتل فيه تسعة آصع شعيرٍ، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، قال: فأخذته، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزاً " فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم، فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً، وهذا طبيخاً.
فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفوناه أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاني بعد ذلك أرضاً، وأعطى أبا بكرٍ أرضاً، وجاءت الدنيا، فاختلفنا في عذق نخلةٍ، فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر: هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمةً أكرهها، وندم، فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن، أو لأستعدين عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض، وانطلق أبو بكر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم، فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيءٍ يستعدي عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قال لك ما قال؟ قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين وهذا ذو شيبة المسلمين! إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيُهلك ربيعة! قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: وانطلق أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتبعته وحدي حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه، فقال: " يا ربيعة مالك وللصديق؟ " قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، فقال لي كلمة كرهها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر " فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولّى أبو بكر وهو يبكي.
قال حذيفة بن اليمان: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لقد هممت أن أبعث رجالاً يعلمون الناس السنة والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريين في بني إسرائيل "، فقيل له: فأين أنت عن أبي بكر وعمر؟ قال: " لا غنى لي عنهما - أو بي عنهما - فإنهما من الدين كالسمع من البصر ".
عن أبي أروى الدوسي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحمد لله الذي أيدني بكما ".
عن علي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأبي بكر: " يا أبا بكر، إن الله أعطاني ثواب من آمن بي منذ خلق آدم إلى أن بعثني، وإن الله أعطاك يا أبا بكر ثواب من أمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لي وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر ".
عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر وعمر: " ألا أخبركما بمثلكما في الملائكة، ومثلكما في الأنبياء: مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك من الأنبياء مثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، فصنعوا به ما صنعوا قال " فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، ينزل بالبأس والشدة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ".
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل آنفاً، فقلت له: يا جبريل حدثني بفضائل عمر بن الخطاب في السماء، قال: يا محمد، لو حدثتك بفضائل عمر بن الخطاب في السماء مثلما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر ".
عن عبد الله قال:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً جالساً ومعه جبريل إذ أقبل أبو بكر، فقال جبريل: يا محمد هذا أبو بكر قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل له اسم في السماوات تعرفونه به كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة خليل الرحمن فلينظر إلى شيبة أبي بكر، فبينا هو كذلك إذ أقبل عمر، فقال جبريل: يا رسول الله هذا عمر أقبل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل، هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة نوحٍ في المرسلين فلينظر إلى شيبة عمر بن الخطاب، فبينا هو كذلك إذ أقبل عثمان بن عفان، فقال له جبريل: هذا عثمان قد أقبل، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة موسى كليم الرحمن فلينظر إلى شيبة عثمان بن عفان، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، فقال له جبريل: يا رسول الله هذا علي قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " فقال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة هارون فلينظر إلى شيبة علي بن أبي طالب. ثم ارتفع جبريل، فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً على قدميه، قال: " يا أيها الناس، قد أخبرني الروح الأمين بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، ألا أيها الشاتم أبا بكرٍ فكأني بك قد جئتني تخوض بحار النيران، وقد سالت حدقتاك على خديك، فأُعْرِض عنك بوجهي،
وأنت أيها الشاتم عمر، أنت وربي بريء من الإسلام، وأنت أيها الشاتم عثمان بن عفان، وخَتَني على ابنتيّ، والذي قلت له: اللهم لا تنس له هذا اليوم، كأني بك قد جئتني في الأهوال المهيلة المهيبة، فأعرض بوجهي عنك، وأنت أيها الشاتم علياً، أخي وابن عمي، وخَتَني على بنتي والضارب بسيفي بين يدي لا نالتك شفاعتي ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح ".
والمحفوظ عن عمر قوله: لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح بهم - وفي رواية: لرجح به.
عن الربيع بن أنس قال: نظرنا في صحابة الأنبياء، فما وجدنا نبياً كان له صاحب مثل أبي بكر الصديق.
عن ابن سيرين: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق كان يوم بدرٍ مع المشركين، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدرٍ، فصدّقت عنك، ولم أقتلك، فقال أبو بكر: لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك.
قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: بتفسير هذا الحديث يقال: قوله أهدفت لي معناه: أشرفت لي، ومنه قيل للبناء المرتفع: هدف، وهدف الرامي منه، لأنه شيء ارتفع للرامي حتى يراه، وإن عبد الرحمن كره أن يقاتل أباه،
أو انصرف عنه هيبة له. وقول أبي بكر: لو أهدفت لي لم أصرف وجهي عنك؛ وهذا من أكبر فضائله؛ لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم لما جعل الله في قلبه من جلالة الإيمان، وبهذا وصف الله أصحاب محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر. " الآية.
عن علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ ولأبي بكر: " مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في القتال " وفي رواية " في الصف ".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أتاني جبريل، فقال لي: يا محمد، إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ".
وعن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يكره فوق سمائه أن يخطئ أبو بكر ".
عن يعقوب الأنصاري قال: إن كانت حلقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتشتبك حتى تصير كالإسوار، وإن مجلس أبي بكرٍ منها لفارغ ما يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه، وألقى إليه حديثه، وسمع الناس.
قال الزبير بن العوام: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: " اللهم بارك لأمتي في أصحابي، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابي في أبي بكر الصديق، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره، اللهم وأعز عمر بن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفان، ووفق علي بن أبي
طالب، وثبت الزبير واغفر لطلحة، وسلم سعداً، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسانٍ ".
عن سهل بن مالك الأنصاري قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجعه من حجته، اجتمع الناس إليه، فقال: " يا أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني طرفة عين، فاعرفوا ذلك له، يا أيها الناس، إن الله راضٍ عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، فاعرفوا ذلك لهم، يا أيها الناس، إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية، يا أيها الناس دعوا لي أختاني وأصهاري، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحدٍ منهم، فيعذبكم بها، فإنها مما لا يوهب، يا أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منكم فاذكروا منه خيراً ".
عن أنسٍ قال: قالوا: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: " عائشة " قالوا: إنما نعني من الرجال، قال: " أبوها ".
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: " كلا أنتم أصحابي، وإخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: ألسنا إخوانك؟ قال: " لا، إخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، ألا تحب قوماً بلغهم أنك تحبني، فأحبوك بحبك إياي، فأحبهم أحبهم الله ".
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئاً على عليٍ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال: " يا أبا الحسن، أحبهما، فبحبهما تدخل الجنة ".
عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتكئ على يدي علي بن أبي طالبٍ، فاستقبله أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، أتحب هذين الشيخين؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " حبهما يُدخِل الجنة ".
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبُّ أبي بكرٍ وشكره واجب على أمتي " - وفي رواية أخرى: " أمنُّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر الصديق، فحبه وشكره وحفظه واجب على أمتي ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حب أبي بكرٍ وعمر إيمان، وبغضهما كفر ".
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يُبغِض أبا بكر وعمر مؤمن، ولا يحبهما منافق ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما ولد أبو بكر الصديق أقبل الله تعالى على جنة عدنٍ، فقال: وعزتي وجلالي لا أُدخِلك إلا من يحب هذا المولود ".
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما عرج بي جبريل رأيت في السماء خيلاً موقفةً مسرجةً ملجمةً، لا تروث ولا تبول، ولا تعرق، رؤوسها من الياقوت الأحمر، وحوافرها من الزمرد الأخضر، وأبدانها من العِقيان الأصفر، ذوات أجنحة، فقلت: لمن هذه؟ فقال جبريل: هذه لمحبي أبي بكر وعمر، يزورون الله عليها يوم القيامة ".
قال الخطيب: منكر.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في السماء الدنيا ثمانين ألف ملكٍ يستغفرون الله لمن أحب أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملكٍ بلعنون من أبغض أبا بكر وعمر ".
عن ابن عباس قال:
كان أبو بكر الصديق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، فعطش أبو بكر عطشاً شديداً، فشكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى صدر الغار، واشرب " فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار، وشرب منه ماء أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأزكى رائحةً من المسك، ثم عاد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: شربت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أبشرك يا أبا بكر؟ " قال: بلى، فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: " إن الله تعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن خرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر " فقال أبو بكر: ولي عند الله هذه المنزلة؟ قال: " نعم، وأفضل، والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبياً ".
عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل نبي رفيق، وإن رفيقي في الجنة أبو بكر ".
وعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إنك جعلت أبا بكرٍ رفيقي في الغار فاجعله رفيقي في الجنة " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا وأبو بكر في الجنة كهاتين " وضم السبابة والوسطى.
عن ابن مليكة قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه غديراً، فقال: " ليسبح كل رجل إلى صاحبه "،
قال: فسبح كل رجلٍ منهم إلى صاحبه حتى بقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، قال: فسبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اعتنقه، وقال: " لو كنت متخذاً خليلاً حتى ألقى الله لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكنه صاحبي ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر " وفي رواية قالت: قلت: يا رسول الله أكل الناس تقف يوم القيامة للحساب؟ قال: " نعم، إلا أبا بكر فإن شاء مضى، وإن شاء وقف ".
عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل: - وفي رواية فقيل له -: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: " هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة زفاً - وفي رواية: تزفه الملائكة إلى الجنان ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كأني بك يا أبا بكرٍ على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحداً هو خير منه، ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبيين " فما برحنا حتى طلع أبو بكر الصديق فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله والتزمه.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من تحت العرش: ألا هاتوا أصحاب محمد، قال: فيؤتى بأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، قال: فيقال لأبي بكر:
قف على باب الجنة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان، فثقِّل من شئت برحمة الله عز وجل وخفف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفان عصا آس التي غرسها الله عز وجل في الجنة ويقال له: ذد الناس عن الحوض ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن على حوضي أربعة أركانٍ، فأول ركن منها في يد أبي بكرٍ، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد عليٍ، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر، لم يسقه أبو بكر، ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عثمان، ومن أحب عثمان وأبغض علياَ لم يسقه عثمان، ومن أحب علياً وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ".
عن معاذ بن جبلٍ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نصب لإبراهيم منبر أما العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لأبي بكرٍ كرسي فيجلس عليها، وينادي منادٍ: يا لك من صديقٍ بين خليلٍ وحبيب ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" دخلت الجنة ليلة أسري بي، نظرت إلى برجٍ أعلاه نور، ووسطه نور، وأسفله نور، فقلت لحبيبي جبريل: لمن هذا البرج؟ فقال: هذا لأبي بكر الصديق ".
عن البراء بن عازب، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله اتخذ لإبراهيم في أعلى عليين قبةً من ياقوتةٍ بيضاء، معلقة بالقدرة،
تخترقها رياح الرحمة، للقبة أربعة آلاف باب، كلما اشتاق أبو بكر إلى الله انفتح منها باب ينظر إلى الله عز وجل ".
عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يتجلى للمؤمنين عامة ويتجلى لأبي بكرٍ خاصة ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكرٍ، أعطاك الله الرضوان الأكبر " فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الرضوان الأكبر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، إذا كان يوم القيامة يتجلى الجبار لأهل الجنة، فتراه وتراه أهل الجنة، ويتجلى لك خاصةً، فلا يراه مخلوق غيرك ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في الجنة لطيراً كأشباه البُخْت " فقال أبو بكر: إن هذه لطير ناعمة! قال: " آكلها أنعم منها، وإني لأرجو أن تأكلها يا أبا بكر ".
عن علي قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفقٍ من آفاق السماء، ألا وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما ".
قال محمد بن الجهم السمري: سألت الفراء عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الدرجات العلى: " وأنعما " لم أدخلت الألف في آخر حرفٍ؟ فقال: معناه: وقد أنعما أي صارا إلى النعيم، وأنشد الفراء عن
بعض العرب يصف راعياً: من الطويل
سمين الضواحي لم تؤرّقه ليلةً ... وأنعم أبكار الهموم وعُونُها
معناه: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً، وقد أنعم: صار إلى النعيم.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مررت بسماء إلا رأيت فيها، مكتوب: محمد رسول الله، أبو بكرٍ الصديق ".
عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله عز وجل فقال له: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، فقال: " منه بدأ السلام " قال: إن الله يقول لك: " قل للعتيق ابن أبي قحافة إني عنه راضٍ ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ".
عن أبي هريرة قال: لما نزلت: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال أبو بكر: لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار.
عن سعد بن زُرارة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فالتفت التفاتةً، فلم يرَ أبا بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر، أبو بكر أما إن روح القدس أخبرني آنفاً أن خير أمتك بعدك أبو بكر ".
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعةً: أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلياً، فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرن الأول، والثاني، والثالث تترى، والرابع فرادى ".
عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا الدرداء يمشي أمام أبي بكرٍ، فقال له: " أتمشي قُدّام رجلٍ لم تطلع الشمس على أحدٍ منكم أفضل منه؟! " فما رئي أبو الدرداء بعد ذلك إلا خلف أبي بكر.
وعن أبي الدرادء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحدٍ أفضل - أو خيرٍ - من أبي بكر إلا أن يكون نبياً ".
عن جابرٍ قال: كنا جماعة من المهاجرين والأنصار، فتذاكرنا الفضائل بيننا، فارتفعت أصواتنا، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا تفضلن أحداً منكم على أبي بكر؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة ".
عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم:
" من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء،
فوزنت أنت بأبي بكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم ارتفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عرفجة الأشجعي قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر، ثم جلس: فقال: " وزن أصحابنا الليلة، وزن أبو بكر فوزن، ثم وزن عمر فوزن، ثم وزن عثمان فخف، وهو صالح ".
عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يدفن المرء في تربته التي خلق منها " فلما دفن أبو بكرٍ وعمر إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا أنهما خلقا من تربته.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من تنشق الأرض عنه أنا، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع، فتنشق عنهم، ثم أنتظر أهل مكة، فتنشق عنهم، فأُبعث بينهم ".
عن عائشة قالت: كان بيني وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلام، فقال: " من ترضين أن يكون بيني وبينك، أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ " قلت: لا، ذلك رجل هين لين، يقضي لك، قال: " فترضين بأبيك؟ " قال: فأرسل إلى أبي بكر، فجاء فقال: " اقصصي "، قالت: قلت: اقصص أنت، فقال: " هي كذا وكذا " قالت: فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، قال: تقولين يا بنت فلانة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقصد! من يقصد إذا لم يقصد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: وجعل الدم يسيل من أنفها على ثيابها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نرد هذا " قال: وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغسل الدم بيده من ثيابها ويقول: " رأيتِ كيف أنقذتك منه؟ ".
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا بكرٍ فأقام للناس حجهم - أو قال: فحج - ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس العام المقبل حجة الوداع، ثم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكرٍ، فبعث أبو بكرٍ عمر بن الخطاب، فحج بالناس، ثم حج أبو بكرٍ في العام المقبل، ثم استخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عمر إمارته كلها، ثم استخلف عثمان، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عثمان إمارته كلها.
عن أبي جعفر قال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب ب " براءة " لما نزلت، فقرأها على أهل مكة، وبعث أبا بكر على الموسم.
قال الزبير بن بكار: ودفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة تسعٍ إلى أبي بكر الصديق رايته العظمى، وكانت سوداء، ولواؤه أبيض.
عن محمد بن إسحاق: أن أبا بكرٍ أقام للناس الحج سنة ثنتي عشرة، وبعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث في سنة ثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
عن عروة بن الزبير: أن أبا بكر الصديق أحج على الناس سنةً عمر بن الخطاب، والسنة الثانية عتاب بن أسيد القرشي.
عن ابن شهاب قال: رأى النبي رؤيا، فقصها على أبي بكرٍ، فقال: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: خير يا رسول الله، يبقيك الله حتى
ترى ما يسرك، ويقر عينك، قال: فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مراتٍ، فأعاد عليه مثل ذلك، قال: فقال له في الثالثة: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته، وأعيش بعدك سنتين ونصف.
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أؤول الرؤيا أبا بكر ".
عن سفينة قال: لما بنى النبي المسجد وضع حجراً، ثم قال: " ليضع أبو بكر حجراً إلى جنب حجري " ثم قال: " ليضع عمر حجراً إلى جنب أبي بكر " ثم قال: " ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " ثم قال: " هؤلاء الخلفاء بعدي ".
عن زرعة بن عمرو، عن أبيه قال:
لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال لأصحابه: " انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم " فلما أتاهم سلم عليهم، ورحبوا به، فقال: " يا أهل قباء، إيتوني بحجارة من هذه الحرة " فجمعت عنده، فخط بها قبلتهم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجراً، فوضعه، ثم قال: " يا أبا بكر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري " ففعل، ثم قال: " يا عمر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر " ففعل، ثم قال: " يا عثمان خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر "، ففعل ثم التفت إلى الناس بأخرة فقال: " وضع رجل حجره حيث أحب على هذا الخط ".
عن جبير بن مطعم: أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأله شيئاً، فقال لها: " ارجعي إلي " قالت: فإن
رجعت فلم أجدك يا رسول الله - تعرِّض بالموت -؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن رجعت فلم تجديني فالقي أبا بكر ".
قال الزبير بن العوام - وذكر عنده أبو بكر -: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " قال: فقمنا سنة حتى دخلنا على علي بن أبي طالب فقلنا: يا أمير المؤمنين إنا سمعنا الزبير بن العوام يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " فقال: صدق، سمعت ذاك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط، فاستفتح رجل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائذن له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي " ففعلت، فإذا هو أبو بكر، ثم استفتح رجل، فقال: " قم يا أنس، فافتح له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي ومن بعد أبي بكر " فإذا هو عمر، فأخبرته، ثم جاء آخر، فدق فقال: " يا أنس فافتح له وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعد عمر، وأنه سيلقى من الرعية الشدة، حتى يبلغوا دمه، وأمره عند ذلك بالكف " فقمت، فإذا هو عثمان، فأخبرته فحمد الله، فلما أخبرته أنهم سيبلغون دمه استرجع.
عن ابن عباس قال: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب " وإذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثاً " فقال لحفصة: " أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي ".
عن ميمون بن مهران: في قوله تعالى: " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين " أبو بكر وعمر.
عن عبد الله بن جراد قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفرسٍ، فركبه، وقال: " يركب هذا الفرس من يكون الخليفة من بعدي " فركبه أبو بكر الصديق.
عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " جاء العباس إلى علي، فقال: قم بنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألاه عن ذلك، فقال: " يا عباس، يا عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا له تفلحوا، وأطيعوه ترشدوا " قال العباس: فأطاعوه والله فرشدوا.
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ".
عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً أحداً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله، وإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ولكل آيةٍ منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع ".
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو على المنبر في مرضه الذي توفي فيه: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا علي كل خوخةٍ غير خوخة أبي بكر ".
عن سعيد بن جبير قال: كتب عبد الله بن عتبة إلى ابن الزبير يستفتيه في الجد، فقال سعيد: فقرأت كتابه إليه: أما بعد، فإنك كتبت إلي تستفتني في الجد، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكنه أخي في الدين، وصاحبي في الغار " وإن أبا بكر كان ينزله بمنزلة الوالد، وإن أحق من اقتدينا به بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر.
عن أبي سعيد الخدري قال:
خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه، وهو عاصب رأسه، قال: فأتبعته حتى صعد المنبر فقال: " إني الساعة لقائم على الحوض " قال: ثم قال: " إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة " فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المنبر فما رئي عليه حتى الساعة.
عن كعب بن مالك قال: إن أحدث عهدي بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته بخمس ليالٍ، دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول: " لم يكن نبي كان قبلي إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً، وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة، ألا وإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ".
عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نغسله بسبع قرب من سبع آبار، ففعلنا ذلك، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راحة، فخرج فصلى بالناس، فاستغفر لأهل أُحُدٍ، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار فقال: " أما بعد، يا معشر المهاجرين فإنكم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، على هيئتها التي هي عليها اليوم، وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها،
فأكرموا كريمهم - يعني محسنهم - وتجاوزوا عن مسيئهم " ثم قال: " إن عبداً من عباد الله خير ما بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله " فبكى أبو بكر، وظن أنه يريد نفسه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك يا أبا بكر! سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم امرأً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي بكر ".
وعن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عندما أمر به من سد تلك الأبواب إلا باب أبي بكر، وقال: " ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر، فإن عليه نوراً ".
وعن عائشة قالت: لما ثَقُل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بلال يؤذنه بالصلاة، قالت: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس " قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكرٍ رجل أسيف، فلو أمرت عمر! قالت: فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، قالت: فقالت له حفصة، قالت: فقال: " إنكن لأنتن صواحبات يوسف " فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً! قالت: وأمر أبا بكر فصلى بالناس، فلما دخل أبو بكرٍ في الصلاة وجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه خِفةً، فقام يُهادى بين رجلين، وإن رجليه لتخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقم مكانك، قالت: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس عن يسار أبي بكرٍ، قالت: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس قاعداً وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليصل أبو بكر بالناس " قالوا: يا رسول الله، لو أمرت غيره أن يصلي، قال: " لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر ".
عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين قال: دعا بلال للصلاة، فقال: " مروا من يصلي بالناس " قال: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكرٍ غائباً، فقال: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر عمر سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، وكان عمر رجلاً مُجهراً، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون " قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
قال: وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك! ماذا صنعت بي يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس! قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
عن أنس بن مالك قال:
لم يخرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكرٍ يصلي بالناس، فرفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فما رأينا منظراً أعجب إلينا منه، حيث وضح لنا وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي بكر أن تقدم، وأرخى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فلم يوصل إليه حتى مات.
قالت حفصة بنت عمر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أنت مرضت قدَّمت أبا بكر، قال: " لست أنا الذي أقدمه ولكن الله يقدمه ".
عن الشعبي أنه قال: خص الله تبارك وتعالى أبا بكرٍ الصديق بأربع خصالٍ لم يخصص بها أحداً من الناس: سماه الصديق ولم يسم أحداً الصديق غيره، وهو صاحب الغار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفيقه في الهجرة، وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة، والمسلمون شهود.
قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان وأنا حي، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ " قالت عائشة: واثكلاه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت معرِّساً ببعض أزواجك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكرٍ وابنه، فأعهد إليه: أن يقول القائلون، ويتمناه المتمنون ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائتوني بأديمٍ ودواةٍ - أو كتفٍ ودواةٍ - فأكتب لأبي بكرٍ كتاباً لا يختلف عليه اثنان " ثم قال: " دعوه، معاذ الله أن يختلفوا في أبي بكرٍ - مرتين ".
وعن عائشة قالت: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يستخلف أحداً، ولو كان مستخلفاً أحداً لاستخلف أبا بكرٍ أو عمر.
عن عبد الله قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فأتاهم عمر ابن الخطاب، فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكرٍ أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكرٍ؟ ".
عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكرٍ في طائفةٍ من المدينة، قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله، وقال: فداك أبي وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً! مات محمد، ورب الكعبة.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان، حتى أتوهم، فتكلم أبو بكرٍ، فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأنهم إلا ذكره، وقال: لقد علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار " ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وأنت قاعد: " قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء.
وفي رواية عن عائشة: قال عمر: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فنشج الناس يبكون.
عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح: ابسط يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنت أمين هذه الأمة " فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجلٍ أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنا، فأمنا حتى مات.
عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات، وأبو بكر بالسنخ - يعني بالعالية - واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال عمر: نبايعك، أنت سيدنا، وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه وبايعه الناس.
نا ابن عون عن محمد: أن أبا بكر قال لعمر: ابسط يدك نبايع لك، فقال له عمر: أنت أفضل مني، فقال له أبو بكر: أنت أقوى مني، فقال له عمر: فإن قوتي لك مع فضلك، فبايعه.
قال القاسم بن محمد:
فلما اجتمع الناس على أبي بكرٍ قسم بين الناس قسماً، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار بقسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر للنساء، فقالت: أتراشوني عن ديني؟ فقالوا: لا، فقالت: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ فقالوا: لا، قالت: فوالله لا آخذ منه شيئاً أبداً! فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر: ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئاً أبداً.
قال عمر بن الخطاب: وكنت أول الناس أخذ بيد أبي بكر، فبايعته إلا رجل من الأنصار أدخل يده من خلفي، من بين يدي ويده، فبايعه قبلي.
قال عثمان بن عفان: إن أبا بكر الصديق أحق الناس بها - يعني بالخلافة - إنه لصدّيق، وثاني اثنين، وصاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي سعيد الخدري قال: قُبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن أنصار خليفته، كما كنا أنصاره، قال: فقام عمر بن الخطاب، فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، وبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.
قال: فصعد أبو بكرٍ المنبر، فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير، قال: فدعا الزبير، فجاء، فقال: قلت: ابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام، فبايعه، ثم نظر في وجوه
القوم، فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء، فقال: قلت: ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: جاءني مسلم بن الحجاج، فسألني عن هذا الحديث، فكتبت له في رقعة، وقرأت عليه، وقال: هذا حديث يسوى بدنة، فقلت: يسوى بدنة؟! بل هذا يسوى بدرة.
وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري، في صدر الحديث: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطباء الأنصار، فجعل منهم من يقول - وفي رواية: فجعل الرجل منهم يقول: - يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان؛ أحدهما منكم، والآخر منا، قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك.
عن عبد الله بن عباس قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فالتسمته يوماً، فلم أجده، فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر، فلما رجع قال: لو رأيت رجلاً آنفاً قال لعمر كذا وكذا، وهو يومئذٍ بمنى في آخر حجةٍ حجها عمر، فذكر عبد الرحمن لابن عباس أن رجلاً أتى عمر؛ فأخبره أن رجلاً قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، قال عمر حين بلغه ذلك: إني لقائم - إن شاء الله - في الناس، فمحذرهم الذين يغصبون الأمة أمرهم، قال عبد الرحمن: قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل ذلك يومك، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغائهم، وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك، فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالةً أن يطيروا بها، ولا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، أمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعوا مقالتك، ويضعوها مواضعها.
فقال عمر: والله لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقامٍ أقومه.
قال ابن عباس:
فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، وذاك يوم الجمعة هجرت، فوجدت سعيد بن
زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست إلى ركنٍ جانب المنبر، فجلس إلى جنبي تمس ركبتي ركبته، فلم ينشب عمر أن خرج، فأقبل يوم المنبر، فقلت لسعيد بن زيد، وعمر مقبل: أما والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالةً لم يقلها أحد قبله، فأنكر ذلك سعيد، وقال: ما عسى أن يقول أحد قبله!؟ فلما جلس على المنبر أذّن المؤذن، فلما أن سكت قام عمر، فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، ولعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي ألا يعيها فلا أحل له أن يكذب علي: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، ورجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله عز وجل، فتُترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت عليه بينة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف، ثم إنا قد كنا نقرأ ألا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تطروني كما أُطري ابن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "، ثم إنه بلغني أن فلاناً منكم يقول: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتةً فتمت فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله عز وجل وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إن علياً، والزبير، ومن معهما تخلفوا عنا، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فبينا نحن في منزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل، فقال: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون بيننا وبينهم فيه
حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من هؤلاء الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقيت أبا عبيدة بن الجراح، فأخذ أبو بكر بيده، فمشى بيني وبينه، حتى إذا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان، فذكرا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من هؤلاء الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم، فإذا هم جميع في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهارهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قلت: ماله؟ قالوا: هو وَجِع، فلما جلس تكلم خطيب الأنصار، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا، فقد دفت دافة من قومكم.
قال عمر: فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويحصنونا من الأمر، فلما قضى مقالته أردت أن أتكلم، قال: وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدة، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه - فتكلم أبو بكر، وهو كان أحلم مني، وأوقر، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلا تكلم بمثلها، أو أفضل في بديهته حتى سكت - فتشهد أبو بكرٍ، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد، أيها الأنصار، فما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم أهله، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم، فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من
أن أؤمر على قومٍ فيهم أبو بكر، إلا أن تغتر نفسي عند الموت، فلما قضى أبو بكر مقالته قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير، ومنكم أمير، يا معشر قريش، قال عمر: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى أشفقت الاختلاف، قلت: ابسط يدك يا أبا بكرٍ، فبسط أبو بكر يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، والأنصار، فنزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعداً، قال عمر: فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعداً، فإنه صاحب فتنة وشرٍّ، وإنا ما رأينا فيما حضر من أمرنا أمراً أقوى من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعةً، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكرٍ كانت فلتةً فتمت، فقد كانت فلتة ولكن الله وقى شرها، ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر.
عن حميد بن منهب قال: زرت الحسن بن أبي الحسن، فخلوت به، فقلت له: يا أبا سعيد، أما ترى ما الناس فيه من الاختلاف؟ فقال لي: يا أبا بحير، أصلح أمر الناس أربعة، وأفسده اثنان، أما الذين أصلحوا أمر الناس: فعمر بن الخطاب يوم سقيفة ساعدة حيث قالت قريش: منا أمير، وقالت الأنصار: منا أمير، فقال لهم عمر بن الخطاب: ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الأئمة من قريش؟ " قالوا: بلى، قال: أولستم تعلمون أنه أمر أبا بكر يصلي بالناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم يتقدم أبا بكر؟ قالوا: لا أحد، فسلمت لهم الأنصار، ولولا ما احتج به عمر من ذلك لتنازع الناس هذه الخلافة إلى يوم القيامة! وأبو بكر الصديق حيث ارتدت العرب، فشاور فيهم الناس، فكلهم أشار عليه بأن يقبل
منهم الصلاة، ويدع الزكاة، فقال: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجاهدتهم، ولولا ما فعل أبو بكر من ذلك لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة! وعثمان بن عفان حيث جمع الناس على هذه القراءة، وقد كانوا يقرؤونه على سبعة أحرفٍ؛ فكان هؤلاء يلقون هؤلاء، فيقولون: قراءتنا أفضل من قراءتكم، حتى كاد بعضهم أن يكفر بعضاً، فجمعهم عثمان على هذا الحرف، ولولا ما فعل عثمان من ذلك لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة، وعلي بن أبي طالب حيث قاتل أهل البصرة، فلما فرغ منهم قسم بين أصحابه ما حوى عسكرهم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تقسم بيننا إماءهم ونساءهم؟ فقال: أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ قالوا: ومن يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟! قال: أفرأيتم هؤلاء اللواتي قتل عنهن أزواجهن، أيعتددن أربعة أشهرٍ وعشراً، ويورَّثن الربع والثمن؟ قالوا: نعم، قال: فما أراهن إماءً؟ ولو كن إماءً لم يعتددن، ولم يورَّثن. ولولا ما فعل علي من ذلك لم تعلم الناس كيف تقاتل أهل القبلة.
وأما اللذان أفسدا أمر الناس: فعمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، فحكمت الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل معزولاً، فأبطأ في مسيره، فلما ورد عليه قال له: يا مغيرة، ما الذي أبطأ بك؟ قال: أمر، والله كنت أوطئه وأهّيئه، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أوفعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك! فلما خرج من عند معاوية قال له أصحابه: ما وراءك يا مغيرة؟ قال: ورائي، والله أني وضعت رجل معاوية في غرز بغيٍ لا يزال فيه إلى يوم القيامة.
قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لآبائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.
عن أنس بن مالك قال: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكرٍ إلى المنبر إزعاجاً.
عن عائشة قالت:
توفيت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاة أبيها بستة أشهرٍ، فاجتمع إلى علي أهل بيته، فبعثوا إلى أبي بكرٍ: ائتنا، فقال عمر: والله لا تأتيهم، فقال أبو بكر: والله لأتينهم، وما تخاف علي منهم؟ فجاءهم حتى دخل عليهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى عليه، ثم قال: إني قد عرفت أنكم قد وجدتم عليَّ في أنفسكم من هذه الصدقات التي وليت عليكم، ووالله ما صنعت ذلك إلا لأني لم أكن أريد أن أكل شيئاً من أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أرى أثرة فيه وعمله، إلى غيري حتى أسلك به سبيله، وأنفذه فيما جعله الله، ووالله لأن أصلكم أحب إلي من أن أصل أهل قرابتي، لقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعظيم حقه الذي جعله له على كل مسلم.
ثم تشهد علي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيراً قسمه الله لك ألاّ أن تكون أهلاً لما أسند إليك في صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنك، وفضلك؛ ولكنا قد كنا من الأمر حيث قد علمت، فتقوّل به علينا، فوجدنا في أنفسنا. وقد رأيت أن أبايع، وأدخل فيما دخل فيه الناس، وإذا كان العشية، فصلِّ بالناس الظهر، واجلس على المنبر حتى آتيك، فأبايعك.
فلما صلى أبو بكر الظهر ركب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الذي كان من أمر علي وما دخل فيه من أمر الجماعة والبيعة، وها هو ذا فاسمعوا منه.
فقام علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر أبا بكرٍ، وفضله وسنه، وأنه أهل لما ساق الله إليه من خيرٍ، ثم قام إلى أبي بكرٍ، فبايعه، فلا ترى مثلما قال الناس: جزاك الله يا أبا حسنٍ خيراً؛ فقد أحسنت وأجملت حتى لم تصدع عصا المسلمين، ولم تفرق جماعتهم، فدخل فيما دخلوا فيه، ثم انصرف.
عن صعصعة بن صوحان قال: دخلنا على علي بن أبي طالب حين ضربه ابن ملجم، فقلنا: يا أمير المؤمنين، استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم كما تركنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ دخلنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، استخلف علينا، فقال: " لا، إن يعلم الله عز وجل فيكم خيراً يول عليكم خياركم " قال علي: فعلم الله فينا خيراً فولى علينا أبا بكر.
عن أبي الزناد قال: أقبل رجل يتخلص الناس حتى وقف على علي بن أبي طالب، فقال: يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدموا أبا بكرٍ، وأنت أوفى منه منقبة، وأقدم منه سلماً، وأسبق سابقةً، قال: إن كنت قرشياً فأحسبك من عائذة، قال: نعم، قال: لولا أن المؤمن عائذ الله لقتلتك، إن أبا بكر سبقني إلى أربع، لم أبزهن ولم أعتض منهن: سبقني إلى الإمامة، وتقديم الهجرة، وإلى الغار، وإفشاء الإسلام.
عن عمرو بن شقيق الثقفي قال: لما فرغ علي من الجمل قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد إلينا في الإمارة شيئاً، ولكنه رأي رأيناه، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً من قبلنا: ولي أبو بكرٍ، فأقام واستقام، ثم ولي عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الإسلام بجرانه، ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فيعفو الله عمن يشاء، ويعذب الله من يشاء.
عن عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمدٍ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئاً فهو عند الله سيئ.
قال ابن عياش: وأنا أقول: إنهم قد رأوا أن يولوا أبا بكرٍ بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله، قال: أنا خليفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا راضٍ بذلك، وكره أن يقال: خليفة الله تعالى.
قال عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ:
الذين وقع عليهم اسم الخلافة ثلاثة، قال الله عز وجل لآدم: " إني جاعل في الأرض خليفة " قال ابن عباس: فأخرجه الله من الجنة قبل أن يدخله فيها، لأنه خليفة الأرض، خليفة فيها، وقوله تعالى لداود: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض " وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، وقالوا له: يا خليفة رسول الله، ولم يسم أحد بعده خليفةً، ويقال: إنه قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاثين ألف مسلم، كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ورضوا به ومن بعده، رضي الله عنهم.
قال أبو بكرة: أتيت عمر وبين يديه قوم يأكلون، فرمي ببصره في مؤخر القوم إلى رجلٍ، فقال: ما تجد فيما تقرأ قبلك من الكتب؟ قال: خليفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدّيقه.
عن ابن عباس قال: أبو بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مؤمنٍ ومؤمنة.
وقال الحسن: والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر.
قال أبو بكر بن عياش: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن، لأن الله تعالى يقول: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون
الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فمن سماه صادقاً فليس يكذب، هم قالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون أن أبا بكرٍ خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يجتمعون على خطأ أو ضلالة، وما كانوا يكتبون إلا إلى أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان يكتب إلا من أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما زالوا كذلك حتى توفي، فلما كان عمر بن الخطاب أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عمر: هذا يطول، قالوا: لا، ولكنا أمرناك علينا، فأنت أميرنا، قال: نعم، أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فكتب: أمير المؤمنين.
قال سفيان: ما أحسب أن الله يقبل لمن أساء الظن بالمهاجرين الأولين من تقدمة أبي بكر وعمر صوماً، ولا صلاة ولا يصعد له إلى السماء عمل.
عن شيخ من أهل الكوفة قال: لما بويع أبو بكر واستقام أمور الناس أنشأ رجل من قريشٍ يكنى أبا عمرة يقول في ذلك: من الكامل
شكراً لمن هو بالثناء حقيق ... ذهب الحِجاج، وبويع الصديق
من بعدما دحضت بسعدٍ بغلة ... ورجا رجاءً دونه العيوق
حفت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتاهم الصديق والفاروق
وأبو عبيدة والذين إليهم ... نفس المؤمل للبقاء تتوق
بالحق إذ طلبوا الخلافة زلة ... لم يخط مثل خطائهم مخلوق
فتداركوها بالصواب فبايعوا ... بعد التي فيها لنا تحقيق
إن الخلافة في قريشٍ ما لكم ... فيها ورب محمدٍ تعريق
عن رافع بن أبي رافع قال:
كنت رجلاً أغير على الناس، وأدفن الماء في أدحي النعام، فأستافه حتى أمر عليه بالفلاة، فأستثيره فلما كانت غزوة ذات السلاسل بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً، واستعمل عليهم عمرو بن العاص - وهي التي يفخر بها أهل الشام - وفيهم أبو بكر الصديق وأمرهم أن يستنفروا من مروا عليه من المسلمين، فمروا علينا في منازلنا، فاستنفرونا، فقلت: والله لأختارن لنفسي رجلاً فلأصحبنه، قال: فصحبت أبا بكر، قال: وكان له كساء فدكي، كان إذا ركب خله عليه، وإذا نزل لبسناه جميعاً، وهو الذي عيرته به هوازن، فقالوا: إذا الخلال نبايع بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!؟ قال: فقضينا غزاتنا، ثم رجعت، فقلت: يا أبا بكر، إني قد صحبتك، وإن لي عليك حقاً، فأحب أن توصيني؛ فإني لست كل ساعة أستطيع أن آتي المدينة، قال: قد أردت أن أفعل ذلك، ولو لم تقله؛ اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأقم الصلاة، وآتي الزكاة، وحج البيت وصم رمضان، ولا تأمرن على رجلين، قال: قلت: هذا: أعبُد الله وأقيم الصلاة وأؤتي الزكاة وأحج البيت وأصوم رمضان، أرأيت قولك: ولا تأمرن على رجلين؟ فوالله ما يصيب الناس الخير والشرف إلا في الإمارة في الدنيا! قال: إنك استجهدتني فجهدت لك؛ إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً، فهم عواذ الله، وجيران الله، وفي ذمة الله، فمن ظلم أحداً منهم فإنما يخفر ذمة الله، وإن أحدكم لتؤخذ شاة جاره وبعير جاره فيظل ناتئ عضله لجاره، والله من وراء جاره.
فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكر. قال: قلت: صاحبي الذي قال لي ما قال
لآتينه، قال: فأتيت المدينة، فالتمست خلوته حتى أتيته، قال: فسلمت عليه، وتعرفت إليه، فعرفني، فقلت له: أما تذكر قولاً قلته لي؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: قولك ولا تأمرن على رجلين! قال: بلى، إن الناس كانوا حديث عهد بكفر وإني خشيت عليهم، وإن أصحابي لم يزالوا بي، قال: فوالله ما زال يعتذر إلي حتى عذرته.
عن عروة بن الزبير قال: قام أبو بكر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وبيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلَّمنا فعلمنا فأعلمنا أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق؛ أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدعٍ، فإن أحسنت فاتبعوني، وإن زُغت فقوموني.
قال حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي: في حديث أبي بكر أنه قال: وليتكم، ولست بخيركم: مذهب هذا الكلام وطريقه مذهب التواضع وترك الاعتداد بالولاية، والتباعد من كبرياء السلطنة، ولم يزل من شيم الأبرار، ومذاهب الصالحين الأخيار أن يهتضموا أنفسهم وأن يسوغوا في حقوقهم، وقد كان له برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حين يقول: " ليس لأحدٍ أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى " وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم، أحمرهم وأسودهم.
عن الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام خطيباً، فلا والله ما خطب خطبته أحد بعد؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني وليت هذا الأمر، وأنا له كاره، ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أقم به، كان
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً أكرمه الله بالوحي، وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر، ولست بخيرٍ من أحدٍ منكم فراعوني؛ فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أن لي شيطاناً يغيّرني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم.
عن أبي هريرة قال:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبِدَ الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجه أسامة بن زيدٍ في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا بكر، رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيلٍ يريدون الارتداد ألاّ قالوا: لولا أن لهؤلاء قوةً ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم، وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
وعن عائشة قالت: خرج أبي شاهراً سيفه، راكباً على راحلته إلى ذي القَصَّة، فجاء علي بن أبي طالب، فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: " أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك " فوالله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع وأمضى الجيش.
عن يزيد الضخم قال: قلت لأبي بكر: ما أراك تنحاش لما قد بلغ من الناس، ولما يتوقع من إغارة
العدو؟ فقال: ما دخلني إشفاق من شيءٍ، ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار؛ فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين، قال لي: " هون عليك، فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام ".
عن ابن شهاب قال: من فضل أبي أنه لم يشك في الله ساعة قط.
عن علي قال: قام أبو بكر بعدما استخلف بثلاث، فقال: من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ فقلت: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان نقش خاتم أبي بكر الصديق: نعم القادر الله.
عن الحسن: " فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه " قال: أبو بكر وأصحابه.
وقرأ الحسن: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " حتى قرأ الآية، قال: فقال الحسن: فولاها أبا بكر الصديق وأصحابه.
عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: انزل عن مجلس أبي! فقال: صدقت، إنه لمجلس أبيك، قال: ثم أجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن أمري، قال: صدقت والله ما اتهمتك.
وقد روي هذا للحسين بن علي مع عمر.
وعن الضحاك: في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
عن عائشة قالت: توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها؛ اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب من كل جانب، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي في خطتها وعنانها؛ قالوا: أين ندفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فما وجدنا عند أحدٍ من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه " قالت: واختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحدٍ من ذاك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنا - معشر الأنبياء - لا نورث، ما تركنا صدقة ".
وقالت: من رأى عمر عرف أنه خلق عتّالاً للإسلام، كان والله أحْوَزِياً، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها.
عن صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
الحمد لله الذي هدى، فكفى وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعلم شريد والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب، فلا يعطيهم خيراً لخيرٍ عندهم، ولا يصرف عنهم شراً، لشرٍّ عندهم، قد غيروا كتابهم، وأتوا عليه ما ليس فيه، والعرب الأميون صِفْر من الله، لا يعبدونه، ولا يدعونه، أجهدهم عيشاً، وأضلهم ديناً، في ظلفٍ من الأرض مع قلة السحاب، فجمعهم الله بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله الله عنه، وأخذ بأيديهم،
وبغى هلكتهم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه، أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما قد فقدتم من بركة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد وكلكم إلى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، " وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها " والله لا أدع أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته، وورثته في أرضه قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " الآية، ثم نزل رحمه الله.
عن زيد بن علي قال: أبو بكر الصديق إمام الشاكرين، ثم قرأ " وسيجزي الله الشاكرين ".
عن قتادة قال: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب كلها إلا ثلاثة مساجد: مكة والمدينة والبحرين، فقالوا: أما الصلاة فإنا سنصلي، وأما الزكاة فوالله لا نُغصب أموالنا، فكلموا أبا بكرٍ أن يخلي عنهم؛ فإنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة طائعين، فقال: لا أفرق بين شيء جمعه الله، فوالله لو منعوني عقالاً فما سوى ذلك مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
فبعث الله معه عصابةً، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله حتى أقروا بالماعون، وهو الزكاة المفروضة، فسارت إليه وفود العرب، فخيرهم بين خطة مخزية، أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وذلك أنهم يشهدون على قتلاهم، أنهم في النار، وأن قتلى المسلمين في الجنة، وأن ما أصابوا من أموال المسلمين ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون من أموالهم لم يردوه عليهم.
ومن طريق ابن سعد: أن أبا بكرٍ الصديق كان له بيت مالٍ بالسنح معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا تجعل على بيت المال من يحرسه، فقال: لا يخاف، قلت: لم؟ قال: عليه قفل، وكان يعطي ما فيه لا يبقى فيه شيء، فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوله، فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها، وكان قدم عليه مال من معدن القبلية ومن معادن جهينة كثير - انفتح معدن بني سُليم في خلافة أبي بكر - فَقُدم عليه منه بصدقته، فكان يوضع ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نقراً نقراً، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يسوي بين الناس في القسم: الحر، والعبد، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير فيه سواء. وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف أتى بها من البادية، ففرّقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، فلما توفي أبو بكر، ودفن دعا عمر الأمناء، ودخل بهم بيت مال أبي بكر، ففتحوا بيت المال، فلم يجدوا فيه لا ديناراً، ولا درهماً، ووجدوا خيشةً للمال، فنفضت فوجدوا فيها درهماً، فترحموا على أبي بكر، وكان بالمدينة وزّان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مالٍ، فسئل الوزّان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ قال: مائتي ألف.
عن عائشة: أن أبا بكر حين استخلف ألقى كل دينارٍ ودرهمٍ عنده في بيت مال المسلمين، وقال: قد كنت أتجر فيه، وألتمس به فلما وليتهم شغلوني.
ومن طريق ابن سعد قال:
لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟
قالا: انطلق حتى نفرض لك شيئاً، فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاةٍ، وما كسوه في الرأس والبطن، فقال عمر: إليَّ القضاء، وقال أبو عبيدة: وإليَّ الفيء.
قال عمر: فلقد كان يأتي عليَّ الشهر ما يختصم إليَّ فيه اثنان.
عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكرٍ قال أصحاب رسول الله: افرضوا لخليفة رسول الله ما يغنيه، قالوا: نعم، برداه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف، قال أبو بكر رضيت.
وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، قال: فزادوه خمسمائة، قال: إما أن تكون ألفين فزادوه خمسمائة، أو كانت ألفين وخمسمائة فزادوه خمسمائة.
ومن طريق ابن سعد أيضاً: بويع أبو بكر الصديق يوم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان منزله بالسُّنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرةً من شعْرٍ، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزله بالمدينة، فأقام هناك بالسنح بعد ما بويع له ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرسٍ له، وعليه إزار، ورداء ممشق، فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلى بالناس، وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح، يصبغ رأسه ولحيته، ثم يروح لقدر الجمعة، فيُجَمِّع بالناس، وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم السوق، فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما كفيها، فرُعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من
الحي: الآن لا تُحلَبُ لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خُلقٍ كنت عليه؛ فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية، أتحبين أن أرغي لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالت فعل، فمكث كذلك بالسنح ستة أشهرٍ، ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره فقال: لا والله، ما يصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ، والنظر في شأنهم.
ثم اعتمر أبو بكر في رجب سنة اثنتي عشرة، فدخل مكة ضحوةً، فأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره، ومعه فتيان أحداث إلى أن قيل له: هذا ابنك، فنهض قائماً، وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته، فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبه لا تقم! ثم لاقاه، فالتزمه وقبل بين عينيه، وجعل الشيخ يبكي فرحاً بقدومه. وجاء إلى مكة عتاب بن أسيد، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، فسلموا عليه: سلام عليك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصافحوه جميعاً فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سلموا على أبي قحافة، فقال أبو قحافة: يا عتيق، هؤلاء الملأ، فأحسن صحبتهم، فقال أبو بكر: إنه لا حول ولا قوة إلا بالله؛ طوقت عظيماً من الأمر، ولا قوة لي به، ولا يدان إلا بالله، ولقيه الناس يعزونه بنبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يبكي، حتى انتهى إلى البيت فاضطبع بردائه، ثم استلم الركن، ثم طاف سبعاً، وركع ركعتين، ثم انصرف إلى منزله فلما كان الظهر خرج، فطاف أيضاً بالبيت، ثم جلس قريباً من دار الندوة، فقال: هل من أحدٍ يتشكى من ظلامة، أو يطلب حقاً؟ فما أتاه أحد، وأثنى الناس على واليهم خيراً، ثم صلى العصر، وجلس، فودعه الناس ثم خرج راجعاً إلى المدينة، فلما كان وقت الحج سنة اثنتي عشرة حج أبو بكر بالناس تلك السنة، وأفرد الحج، واستخلف على المدينة عثمان ابن عفان.
عن محمد بن سيرين قال:
لم يكن أحد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي
بكر لما لا يعلم من عمر، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد لها في كتاب الله أصلاً ولا في السنة أثراً، فقال: أجتهد برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله.
عن زيد بن أرقم قال: دعا أبو بكر بشرابٍ، فأُتي بماءٍ وعسل، فلما أدناه من فيه نحاه ثم بكى حتى بكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقوون على مسكته، ثم أفاق، فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولم أر أحداً معه، فقلت: يا رسول الله، ما هذا الذي تدفع، ولا أرى معك أحداً، قال: " هذه الدنيا تمثلت لي، فقلت لها: إليك عني، فتنحت، ثم رجعت، فقالت: أما إنك إن أفلتَّ فلن يفلت مني من بعدك " فذكرت ذلك، فخفت أن تلحقني.
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال أبو بكر يوماً: ورأى الطير واقعاً على شجرةٍ، فقال - طوبى لك يا طائر! لوددت أني كنت مثلك! تقع على الشجر، وتأكل الثمر ثم تطير ولا حساب عليك ولا عذاب؛ والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق، فمر علي بعير، فأخذني وأدخلني فاه فلاكني، ثم ازْدَردَني فأخرجني بعراً، ولم أكن بشراً.
عن ابن مُليكة قال: كان ربما سقط الخطام من أبي بكرٍ الصديق، قال: فيضرب بذراع ناقته، فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حِبّي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً.
عن ابن العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكرٍ الصديق في جمعٍ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل شربت الخمر في
الجاهلية؟ فقال: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي؛ فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه ومروءته، قال: فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " صدق أبو بكر، صدق أبو بكر " مرتين.
عن عبد الله بن الزبير قال: ما قال أبو بكرٍ شعراً قط، ولكنكم تكذبون عليه.
عن معروف بن خربوذ: أن أبا بكر الصديق أحد عشرةٍ من قريش اتصل لهم شرف الجاهلية بشرف الإسلام.
قال الزبير بن بكار سمعت بعض أهل العلم يقول: خطباء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب.
عن موسى بن عقبة أن أبا بكر الصديق كان يخطب فيقول: الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت، فإنه قد دنا أجلي وأجلكم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق مبشراً ونذيراً، وسراجاً منيراً " لينذر من كان حياً ويَحِقَّ القول على الكافرين " ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبيناً أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم، وهداكم به، فإن جوامع هدى الإسلام بعد كلمة الإخلاص السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم وإتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى، والطمع، والغضب، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من ترابٍ، ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي، وغداً ميتاً، فاعملوا يوماً بيوم، وساعةً بساعةٍ، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، واصبروا: فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع، واعملوا فالعمل يقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعه فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا أو تفهموا واتقوا أو تَوَقُّوا: فإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجى به من
نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يحب من الأعمال، وما يكره؛ فإني لا ألوكم ونفسي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، وإن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسب يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه سوءاً إلا بطاعته، وإتباع أمره، فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلوات الله على نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عن عبد الله بن عُكَيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً، وكانوا لنا خاشعين " ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقّه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم، لا يُطفأ نوره، ولا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا بنوره، وانتصحوا كتابه، واستضيئوا منه ليوم الظلمة فإنه إنما خلقكم لعبادته، ووكل بكم كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون، ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم، وتردكم إلى أسوأ أعمالكم؛ فإن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، فالوَحَى الوَحَى، ثم النجاءَ النجاءَ؛ فإن وراءكم طالباً حثيثاً مره سريع.
عن ابن عيينة قال: كان أبو بكر الصديق إذا عزى رجلاً قال: ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع
فائدة، الموت أهون ما قبله، وأشد ما بعده، اذكروا فقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصغر مصيبتكم، وأعظم الله أجركم.
عن ابن عباس: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ. " قال: نزلت في عشرة: في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن مسعود.
وقال: نزلت في أبي بكر الصديق: " ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً " إلى قوله: " وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ".
عن الضحاك في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
عن عكرمة: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قال: أبو بكر وعمر.
عن الربيع بن أنس قال: مكتوب في الكتاب الأول: مثل أبي بكر الصديق مثل القطر أينما وقع نفع.
عن عبد الله بن حسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر منا أهل البيت ".
قال عمر: إن أبا بكر كان سابقاً مبرزاً، وقال: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر.
ورأى رجل عمر وهو يتصدق عام الرمادة، فقال: إن هذا لحبر هذه الأمة بعد نبيها، قال: فعمد عمر، وجعل يضرب صلعة الرجل بالدرة، ويقول: كذب الآخر، أبو بكر خير مني، ومن أبي، ومنك، ومن أبيك.
وقال رجل لعمر: يا خير الناس - أو ما رأيت أميراً خيراً منك - فقال: هل رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، قال: فهل رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: لو أخبرتني أنك رأيت واحداً منهما لأوجعتك!.
وقال نفر لعمر: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عوف بن مالك: كذبتم لقد رأيت خيراً منه غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل إليه عمر، فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، لقد كان أبو بكر أطيب من المسك، وإني لمثل بعير أهلي.
وقال عمر: ليتني شعرةً في صدر أبي بكر.
وقال عبد الله بن عمر: كنا نقول ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: أفضل أمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان - وزاد في رواية: فيبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينكر.
وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبتِ، من خير هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: أبو بكر يا بني، قلت: ثم من؟ قال: عمر، فخفت من أن قلت: ثم من؟ أن يقول عثمان: قلت: ثم أنت يا أبه؟ قال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين.
عن عبد خير الهمداني - وكان أمير شرطة علي - قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: فذكر أبا بكر، ثم قال: ألا أخبركم
بالثاني؟ قال: فذكر عمر، ثم قال: لو شئت لأنبأتكم بالثالث، قال: وسكت، فرأينا أنه يعني نفسه، فقيل: أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم ورب الكعبة، وإلا فَصُمّتا.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أنا الأول، وأبو بكر المصلي، وعمر الثالث، والناس من بعدنا الأول فالأول ".
عن قيس الخارفي قال: سمعت علياً يقول: سبق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر.
عن أبي سريحة قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ألا إن أبا بكر أوّاه منيب القلب، ألا إن عمر ناصح الله فنصحه.
عن علي قال: إن أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر الصديق، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين.
وسئل علي عن أبي بكر وعمر، فقال: كانا إمامَي هدىً، راشدَين مرشدين مفلحين منجحين خرجا من الدنيا خميصين.
وقال: إن الله عز وجل جعل أبا بكرٍ وعمر حجةً على من بعدهم من الولاة إلى يوم القيامة، سبقا والله سبقاً بعيداً، وأتعبا من بعدهم إتعاباً شديداً، فذكرهما حرب للأمة، وطعن على الأئمة.
وقال: لا أجد أحداً يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
وقال: وهل أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر.
مر رجل من التابعين يقال له سويد بن غفلة برجلين من أصحاب علي، وهما ينتقصان أبا بكرٍ وعمر، فلم يملك نفسه أن ذهب إلى عليٍّ، فقرع الباب، فخرج فقال: يا أبا حسن، إني مررت بفلانٍ وفلان صاحبيك، وهما ينتقصان أبا بكرٍ، وعمر، وايم الله، لو لم تضمر مثل ما أبديا ما اجترأ على ذلك! قال: فغضب علي غضباً شديداً حتى استُدِرَّ عرق بين عينيه، ونودي بالصلاة جامعةً، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: تجندت عليَّ الجنود، ووردت علي الوفود عند مستقر الخطوب، وعند نوائب الدهر: ما بال أقوامٍ يذكرون سيدي قريشٍ، أبوي المؤمنين بما ليسا من هذه الأمة بأهل، وبما أنا عنه منزه، ومنه بريء، وعليه معاقب؟! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا منافق ردي.
عن ابن عباس: أنه سئل عن أبي بكرٍ، فقال: كان والله خيراً كله، وسئل عن عمر، فقال: كان والله كالطير الحذر الذي ينصب له في كل طريقٍ شرك، وكان يعمل على ما يرى مع العنف، وشدة النشاط، وسئل عن عثمان، فقال: كان والله صواماً قواماً، قارئاً للقرآن، من رجل غرته نومته من يقظته، وسئل عن علي، فقال: كان والله مزكوناً علماً وحلماً، من رجل غرته سابقته من أن لن يمد يده إلى شيءٍ إلا اتبعه، فوالله ما رأيته مد يده إلى شيء إلا خالفه.
عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: ولينا أبو بكر فخير خليفة؛ أرحمه بنا، وأحناه علينا.
عن عائشة:
أنها بلغها أن قوماً تكلموا في أبيها، فبعثت إلى أزفلةٍ من الناس، وعلت وسادتها، وأرخت ستارتها، ثم قالت: أبي، وما أبيه، أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود
منيف، وظل مديد، هيهات! كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئاً، وكهفها كهلاً، يريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها حتى حليته قلوبها، ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته، في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المبطلون، وكان - رضي الله عنه - غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانقصفت عليه نسوان أهل مكة، وولدانهم يسخرون منه، ويستهزئون به " الله يستهزئ بهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون " وأكبرت ذلك رجالات قريشٍ فحنت قسيها، وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضاً، فما فلوا له صفاة، ولا قصموا له
قناةً، ومضى على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقةٍ أرسالاً وأشتاتاً اختار الله لنفسه ما عنده، فلما قبض الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضطرب حبل الدين، ومرج أهله، وبغى الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نُهَزُها، ولات حين يظنون، وأنى، والصديق بين أظهرهم؟! فقام حاسراً مشمراً، فرقع حاشيتيه بطبه، وأقام أوده بثقافه حتى امذقر النفاق، فلما انتاش الدين بنعشه، وأراح الحق على أهله، وقرت الرؤوس في كواهلها، وحقن الدماء في أهبها حضرت منيته فسد ثلمته بنظيره في السيرة والمرحمة، ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملت به ودرت عليه! لقد أوجدت به، فديّخ الكفرة وفنخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض فنجعها حتى قاءت أكلها، ترأمه ويصد عنها، وتصدّى له، فيأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم فرغ فيئها، ثم تركها كما
صحبها، فأروني ماذا ترتؤون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ثم التفتت إلى الناس، فقالت: سألتكم بالله، هل أنكرتم مما قلت شيئاً؟ قالوا: اللهم لا!.
عن أبي عبد الرحمن الأزدي قال: لما انقضى الجمل قامت عائشة، فتكلمت، فقالت: أيها الناس إن لي عليكم حرمة الأمومة، وحق الموعظة لا يتهمني إلا من عصى ربه، قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، ادخرني ربي، وحصنني من كل بضاعة، وبي مُيّز مؤمنكم من منافقكم، وفيّ رخص لكم في صعيد الأقواء وأبي رابع أربعةٍ من المسلمين، وأول من سمي صديقاً، قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنه راضٍ، فطوقه وهف الأمانة، ثم اضطرب حبل الدين، فأخذ بطرفيه، وربق لكم أثناءه، فوقد النفاق وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم
حينئذٍ جحظ، تنتظرون العدوة، وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي، وأؤذم العطلة، وامتاح من المهواة، واجتهر دفن الرواء، فقبضه الله واطئاً على هامة النفاق، مذكياً نار الحرب للمشركين، يقظان في نصرة الإسلام صفوحاً عن الجاهلين.
عن مسروق قال: حب أبي بكر وعمر، ومعرفة فضلهما من السنة.
وقد روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود.
عن أنس قال: رحم الله أبا بكر وعمر أمرهما سُنة.
وقال الحسن: قدمهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن ذا الذي يؤخرهما.
وقال: ثلاثة لا يربعهم أحد أبداً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر.
وقال الأعمش: ما كنت أرى أني أعيش في زمانٍ أسمعهم يفضلون فيه على أبي بكر وعمر.
عن طلحة اليامي قال: كان يقال: الشاك في أبي بكر وعمر كالشاك في السنة.
وقال أبو أسامة: أتدرون من أبو بكر وعمر؟ هما أبوا الإسلام وأمه.
فذكر ذلك لأبي أيوب الشاذكوني، فقال: صدق.
وقال أبو حسين: ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكرٍ الصديق ولقد قام ليوم الردة مقام نبي من الأنبياء.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لأرجو لأمتي في حب أبي بكر وعمر ما أرجو لهم في قول: لا إله إلا الله ".
عن مالك بن أنس قال: قال أمير المؤمنين هارون لي: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا أمير المؤمنين قربهما منه في حياته كقرب قبرهما من قبره، فقال: شفيتني يا مالك، شفيتني يا مالك!
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكرٍ؟ قال: يُقتل، قلت: سب عمر؟ قال: يُقتل.
قال ربعي بن خراش: قذف المحصنة يهدم عمل سبعين سنةً، وشتم أبي بكر وعمر يهدم عمل مائة سنةٍ.
قال جعفر بن محمد: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكرٍ وعمر.
عن حيان الهجري قال: كان لي جليس يذكر أبا بكرٍ وعمر، فأنهاه فيُغْرَى، فأقوم عنه، فذكرهما يوماً، فقمت عنه مغضباً، واغتممت مما سمعت، إذ لم أرد عليه الرد الذي ينبغي فنمت، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي كأنه أقبل ومعه أبو بكر وعمر، فقلت: يا رسول الله، إن لي جليساً يؤذيني في هذين، فأنهاه فيغرى، ويزداد، قال: فالتفت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجلٍ قريب منه، فقال: " اذهب إليه فاذبحه " فذهب الرجل إليه، وأصبحت، فقلت: إنها لرؤيا، فلو أتيته فخبرته لعله ينتهي، قال: فمضيت أريده، فلما صرت قريباً من داره إذا الصراخ، قلت: ما هذا؟ قالوا: فلان، طرقته الذبحة في هذه الليلة فمات.
عن إسماعيل بن أبي خالد قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير: بسم الله الرحمن الرحيم: من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، فإنك كتبت إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة؛ وإنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصح أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى، وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره، وغشيناه بردين وكساء، فأتاني آتٍ وأنا أسبح بعد المغرب، فقال: إن زيداً قد تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسرعاً، وقد حضره قوم من الأنصار، وهو يقول - أو يقال على لسانه -: الأوسط أجلد القوم، الذي كان لا يبالي في الله لومة لائمٍ، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد الله أمير المؤمنين، صدق، صدق، كان ذلك في الكتاب الأول، قال: ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي الناس من ذنوب كثيرة، خلت اثنتان، وبقي أربع، واختلف الناس، وأكل بعضهم بعضاً فلا نظام، وأبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنون فقالوا: كتاب الله وقدره، أيها الناس أقبلوا على أميركم، واسمعوا وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدن دماً، كان أمر الله قدراً مقدوراً، الله أكبر، هذه الجنة، وهذه النار، ويقول النبيون والصديقون: سلام عليك يا عبد الله بن رواحة، هل أحسست لي خارجة؟ - لأبيه - وسعداً اللذين قتلا يوم أحد " كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى " ثم خفت صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه، فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا فنظر بعضنا إلى بعضٍ فإذا الصوت من تحت الثياب فكشفنا عن وجهه، فقال: هذا أحمد رسول الله، سلام عليك، يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين، خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ضعيفاً في جسمه، قوياً في أمر الله عز وجل صدق، صدق، وكان في الكتاب الأول.
وكان زيد بن خارجة من سروات الأنصار، وكان أبوه خارجة بن سعد حيث هاجر
أبو بكر نزل عليه في داره، وتزوج ابنته، وقتل أبوه وأخوه سعد بن خارجة يوم أحد، فمكث بعدهم حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خلافة أبي بكر وعمر، وشيئاً من خلافة عثمان؛ فبينا هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر، فتوفي، فأعلمت به الأنصار، فأتوه، فاحتملوه إلى بيته.
عن مسلم الطبين قال: من الكامل
أنى تعاتب، لا أبا لك، عصبةً ... علقوا الفرى، وبروا من الصديق
وبروا سفاهاً من وزير نبيهم ... تباً لمن يبرا من الفاروق
إني على رغم العداة لقائل ... دانا بدين الصادق المصدوق
عن زياد بن حنظلة قال: كان سبب موت أبي بكر الكمد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على قوته في أمر الله، فمرض بعد خروج خالد من العراق إلى الشام، وثقل بعد قدوم خالد على أهل اليرموك، ومات قبل الفتح بأيامٍ.
وعن ابن شهاب:
أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله إن فيها لسم سنةٍ، وأنا وأنت نموت في يومٍ واحدٍ! قال: فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يومٍ واحدٍ عند انقضاء السنة.
قالوا: كان أول بدء مرض أبي بكرٍ أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً، لا يخرج إلى صلاةٍ، وكان يأمر عمر بن
الخطاب يصلي بالناس، ويدخل الناس عليه يعودونه، وهو يثقل كل يومٍ، وهو نازل يومئذٍ في داره التي قطع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه.
قال أبو السفر: دخلوا على أبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟ قال: قد نظرت إلي، قالوا: ما قال لك؟ قال: قال: " إني فعال لما أريد ".
وروى ابن سعد من طرق: أن أبا بكرٍ الصديق لما استعز به دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمرٍ إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: أنت أخبرنا به - فقال: على ذلك أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك، وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضى، ويسخط للسخط، الذي يُسِرُّ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وسمع بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر، وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكرٍ، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته؟! فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفوني!؟ خاب من تزود من أمركم بظلمٍ! أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك! ثم اضطجع، ودعا عثمان، فقال اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم أل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئٍ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون " والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم أمر بالكتاب، فختمه، فقال بعضهم: لما أملى أبو بكر صدر هذا الكتاب بقي ذكر عمر، فذهب به قبل أن يسمي أحداً، فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ علي ما كتبت، فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن أفتلت نفسي في غشيتي تلك، فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها أهلاً، ثم أمره، فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب، وأسيد بن سعية القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا. ثم دعا أبو بكر عمر خالياً، فأوصاه بما أوصاه، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه مداً، فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم برأيي، فوليت عليهم خيرهم، وأقواه عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم واليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبي الرحمة، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته.
عن زبيد أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب:
إني موصيك بوصية - إن حفظتها - إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حقاً لا يقبله في النهار، وإنه لا يقبل نافلةً حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم في الدنيا الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، ولإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم في الدنيا الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف، وإن الله عز وجل ذكر أهل الجنة وصالح ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، فيقول قائل: أنا أفضل من هؤلاء، وذكر آية الرحمة، وآية العذاب، ليكون المؤمن راغباً راهباً ولا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة.
فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن أمر أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه! وعن الأعرابي مالك قال: لما أراد أبو بكر أن يستخلف عمر بعث إليه، فدعاه، فقال: إني أدعوك إلى أمرٍ متعب لمن وليه، فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن المتقي آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروض لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق، وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيته، وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تخف يدك من دمائهم، وأن تصم بطنك من أموالهم، وان يخف لسانك عن أعراضهم فافعل، ولا قوة إلا بالله.
عن عبد الرحمن بن عوف: أنه دخل على أبي في مرضه الذي توفي فيه، فأصابه مفيقاً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر: تراه؟ قال: نعم، قال: إني على ذلك لشديد الوجع، وما لقيت منكم، يا معشر المهاجرين، أشد علي من وجعي إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، ولهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألمون بالانضجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حدٍّ خير له من أن يخوض غمرة الدنيا! وأنتم أول ضال بالناس غداً، فيصفقون عن الطريق يميناً وشمالاً يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البحر.
فقال له عبد الرحمن: خَفِّض عليك يرحمك الله، فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك رجلان: إما رجل رأى ما رأيت، فهو معك، وإما رجل رأى ما لم ترَ، فهو يشير عليك بما يعلم، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحاً مصلحاً مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا، فقال أبو بكر: أجل، لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لو تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني لو فعلتهن، وثلاث وددت لو أني سألت عنهن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما التي وددت أني تركتهن: يوم سقيفة بني ساعدة وددت لو أني ألقيت هذا الأمر في عنق أحد هذين الرجلين - يعني عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً، ووددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيء، مع أنهم أغلقوه على الحرب، ووددت أني لو لم أكن
حرقت الفجاءة السلمي، وأني كنت قتلته سريحاً، أو خليته نجيحاً، وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني كنت فعلتهن: وددت لو أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، ووددت أني يوم وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت كلتا يدي في سبيل الله، ووددت أني حين أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه، ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن هذا الأمر بعده؟ فلا ينازعه أحد، ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل للأنصار فيه شيء؟ ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ميراث بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي منها شيء.
عن محمد بن سيرين: أن أم المؤمنين عائشة كانت عند أبي بكر وهو في الموت، فقالت: من الطويل
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: بل هكذا قولي " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ".
عن أنسٍ قال:
أطفنا بغرفة أبي بكر الصديق في مرضته التي قبض فيها، قال: فقلنا: كيف أصبح، أو كيف أمسى خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فاطلع علينا اطلاعةً فقال: ألستم ترضون بما أصنع؟ قلنا: بلى قد رضينا، قال: وكانت عائشة هي تمرضه، قال: فقال: أما إني قد كنت حريصاً على أن أوفر في المسلمين فيئهم مع أني قد أصبت من اللحم
واللبن، فانظروا إذا رجعتم مني، فانظروا ما كان عندنا فأبلغنه عمر، قال: فذاك حيث عرفوا أنه استخلف عمر، قال: وما كان عنده ديناراً ولا درهم، ما كان إلا خادم، ولقحة، ومحلب، فلما رأى ذلك عمر يُحمل إليه قال: يرحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وعن محمد قال: توفي أبو بكر الصديق وعليه ستة آلاف درهم كان أخذها من بيت المال، فلما حضرته الوفاة قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم، وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها، فلما توفي أبو بكر ذكر ذلك لعمر، فقال: يرحم الله أبا بكر لقد أحب ألا يدع لأحدٍ بعده مقالاً، وأنا والي الأمر بعده، وقد رددتها عليكم.
عن عائشة قالت: قال أبو بكر: انظروا إلى ما زاد في مالي منذ دخلت في هذه الإمارة فردوه إلى الخليفة من بعدي، فإني قد كنت أسلخه جهدي إلا الودك فإني قد كنت أصبت منه نحواً مما كنت أصيب من التجارة، قالت: فنظرنا، فوجدنا زاد فيه ناضح، وغلام نوبي كان يحمل صبياً له، قالت: فأرسلت به إلى عمر، قالت: فأخبرني جدي أنه بكى، ثم قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده إتعاباً شديداً.
ولما اشتد مرض أبي بكر، وأغمي عليه، فأفاق، قال: أي يومٍ توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: يوم الاثنين، قال: إني لأرجو من الله عز وجل ما بيني وبين الليل، فمات ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح وقال: في كم كفنتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: كفناه في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلي ثوبي هذا، وبه ردع زعفرانٍ أو مشقٍ، واجعلوه مع ثوبين جديدين،
قلت: إنه خلق، قال الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهلة، - يعني ما يخرج منه - فكفن في ثلاثة أثواب سحولٍ يمانية.
عن ابن أبزى في قوله تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية " قال: قال أبو بكر: ما أحسنها يا رسول الله! قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما إنها ستقال لك يا أبا بكر ".
عن عطاء أن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء، فإن لم تستطع استعانت بعبد الرحمن بن أبي بكر.
وفي رواية: فإن عجزت أعانها ابنه منه محمد، ولا يصح ذلك، لأنه كان له يوم توفي أبو بكر ثلاث سنين أو نحوها.
عن حبة العرني، عن علي بن أبي طالب قال: لما حضرت أبا بكرٍ الوفاة أقعدني عند رأسه، وقال لي: يا علي، إذا أنا مت فغسلني بالكف الذي غسلت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحنطوني، واذهبوا بي إلى البيت الذي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوا، فإن رأيتم الباب قد تفتح فادخلوا بي، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين حتى يحكم الله بين عباده، قال: فغُسل وكفن، وكنت أول من بادر إلى الباب، فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فرأيت الباب قد تفتح، فسمعت قائلاً يقول: أدخلوا الحبيب إلى حبيبه، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
قال الحافظ: هذا منكر، والمحفوظ أن الذي غسل أبا بكر امرأته أسماء بنت عميس.
عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعدان: أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، وعزم عليها أن تفطر ليكون أقوى لها، ففعلت، فلما كان من آخر النهار دعت بماء، فأفطرت عليه، وقالت: لا أتبعه اليوم حنثاً.
عن أسيد بن صفوان - وكانت له صحبة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
لما كان اليوم الذي قبض فيه أبو بكر رجَّت المدينة بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء علي بن أبي طالب باكياً مسرعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقفت على البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاماً، وأكملهم إيماناً، وأخوفهم لله، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناءً، وأحوطهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدبهم على الإسلام، وآمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبةً، وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأرفعهم درجةً، وأقربهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلساً، وأشبههم به هدياً، وخلقاً، وسمتاً، وفعلاً، وأشرفهم منزلةً، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً؛ صدقته حين كذبوه، فسماك الله صديقاً، فقال: " والذي جاء بالصدق " محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وصدَّق به " أبو بكر الصديق، أعطيته حين بخلوا وقمت معه حين عنه قعدوا، وصحبته بأحسن الصحبة، ثاني اثنين صاحبه، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، ومواطن الكره، خلفته في أمته أحسن خلافة حين ارتد الناس، وقمت بدين الله قياماً لم يقمه خليفة نبيٍّ؛ قويت حين ضعف أصحابه، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كنت خليفته حقاً، لم تنازع، ولم تصد برغم المنافقين، وصغر الفاسقين، وغيظ الكافرين، وكره الحاسدين، قمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تقبَّضوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا، واتبعوك فهدوا، كنت أخفضهم صوتاً، وأعلاهم فوقاً وأطولهم صمتاً، وأصوبهم نطقاً، وأبلغهم كلاماً، وأكثرهم أناةً، وأشرحهم قلباً، وأشدهم نفساً، وأسدهم عقلاً، وأعرفهم بالأمور كنت أولاً حين تفرق عنه، وآخراً حين فشلوا، كنت للمؤمنين أباً رحيماً، صاروا عليك عيالاً،
تحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما أضاعوا، ورعيت ما أهملوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت آثار ما طلبوا، وناولوا بك ما لم يحتسبوا كنت على الكفار عذاباً واصباً، وللمسلمين غناءً وحصناً، فطرت بغنائها وذهبت بفضائلها، وأحرزت سوابقها: لم تفلل حجتك، ولم يرع قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمن الناس في صحبتك وذات يدك، عوناً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، خليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين، لم يكن لأحد فيك مطمعاً، ولا لقائل مغمز، ولا لأحدٍ عندك هوادة: الضعيف الذليل عندك قوي حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ذليل حتى تأخذ منه الحق، فالعزيز والضعيف عندك سواء في ذلك، شأنك الحق والرفق، قولك حق وحتم، وأمرك احتياط وحزم.
أقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، وقوي الإسلام، وظهر أمر الله ولو كره المشركون، وسبقت والله سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالحق فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وكهفاً، وللمسلمين حصناً، وعلى المنافقين غيظاً، فالحمد لله، لا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك.
وسكت القوم حتى انقضى كلامه، وبكوا، وقالوا: صدقت يابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل علي على أبي بكر بعدما سُجي قال: ما أحد ألقى الله بصحبته أحب إلي من هذا المسجى.
عن جد الأصمعي قال: وقفت عائشة على قبر أبيها فقالت: رحمك الله يا أبه، لقد قمت بالدين حين وهى سعيه، وتفاقم صدعه، ورحبت جوانبه، وبغضت ما أصغوا إليه، شمرت فيما ونوا عنه، واستخففت من دنياك ما استوطنوا، وصغرت منها ما عظموا، ولم تهضم دينك، ولم تنسى غدك، ففاز عند المساهمة قدحك، وخف مما استوزروا ظهرك حتى قررت الرؤوس على كواهلها، وحقنت الدماء في أهبها - يعني في الأجساد - فنضر الله وجهك يا أبه، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها، وللآخرة معزاً بإقبالك عليها، ولكأن أجل الرزايا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رزؤك، وأكبر المصائب فقدك، فعليك سلام الله ورحمته غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
عن الأصمعي:
أن قوم خفاف بن ندبة السلمي ارتدوا، وأبى أن يرتد، وحسن ثباته على الإسلام، فقال في أبي بكر شعراً قوافيه ممدودة مقيدة: من السريع
ليس لشيءٍ غير تقوى الله جداء ... وكل خلق عمره للفناءْ
إن أبا بكرٍ هو الغيث إذ ... لم تزرع الأمطار بقلاً بماء
المصطفي الجرد بأرسانها ... والناعجات المسرعات النجاء
والله لا يدرك أيامه ... ذو طرةٍ ناش ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرض فضاء
الشد: العدو.
عن البجلي: أن أبا بكر الصديق لما مات حمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت عائشة، ونزل في قبره: عمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
وسئل سعيد بن المسيب: أين صلي على أبي بكر؟ فقال: بين القبر والمنبر، وكبر عليه عمر أربعاً.
وقبر أبو بكر ليلاً.
وعن عروة والقاسم بن محمد: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما توفي حفر له، وجُعل رأسه عند كتفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألصق اللحد بقبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبر هناك.
وتوفي أبو بكر مساء الاثنين، ودفن ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر وأياماً، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، هذا هو الصحيح المتواتر، وقيل غيره.
ووهم الحافظ من قال: إنه توفي وهو ابن ستين سنة.
عن سعيد بن المسيب قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتجت مكة بصوتٍ عالٍ، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فمن استخلف الناس بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد شمس، وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: فإنه لا مانع لما
أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، فلما قبض أبو بكر ارتجت مكة بصوتٍ عالٍ دون ذلك، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: ابنك مات، فقال أبو قحافة: هذا خبر جليل - أو قال: رزء جليل - من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال: صاحبه.
عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: ورث أبا بكرٍ أبوه أبو قحافة السدس، وورثه معه ولده: عبد الرحمن، ومحمد، وعائشة، وأسماء، وأم كلثوم بنو أبي بكر، وامرأتاه: أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بلحارث بن الخزرج، وهي أم أم كلثوم.
وعن مجاهد: كُلِّم أبو قحافة في ميراثه من أبي بكر الصديق، فقال: قد رددت ذلك على ولد أبي بكر، قالوا: ثم لم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياماً، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة، وهو ابن سبع وتسعين سنة.
ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لوي أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبه في الغار.
قدم تاجراً إلى بصرى من الشام في الجاهلية، وفي الإسلام.
عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن بالغار: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، ورواه الترمذي.
عن قيس بن أبي حازم قال: قرأ أبو بكر هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، ثم قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، والمنكر فلم يغيروه عمّهم الله بعقابه ".
وفي رواية: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه ".
عن عائشة أم المؤمنين قالت: اسم أبي بكرٍ الذي سماه به أهله: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو، ولكنه غلب عليه اسم عتيق.
قالت: والله إني لفي بيتي ذات يومٍ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في الفناء والستر بيني وبينهم - زاد في رواية: دونهم - إذا أقبل أبو بكر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن ينظر إلى عتيقٍ من النار فلينظر إلى أبي بكر ".
ومن رواية عن عائشة: أن أبا قحافة كان له ثلاثة أولادٍ سمى واحداً عَتيقاً، والآخر معتقاً، والآخر عُتيقاً، - وفي رواية: عتيقاً ومعتقاً ومعيتيقاً.
وقال موسى بن طلحة: بينا عائشة بنت طلحة تقول لأمها أم كلثوم بنتا أبي بكر: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك، فقالت: أبوك خير من أبي؟ فقالت عائشة أم المؤمنين: ألا أقضي بينكما؟ إن أبا بكر دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار " فمن يومئذ سمي عتيقاً، قال: ودخل طلحة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا طلحة أنت ممن قضى نحبه ".
وقال: سألت أبي طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبه، لأي شيءٍ سمي أبو بكر عتيق؟ قال: كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهبه لي.
وقال مصعب: سمي أبو بكر عتيقاً لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، قال ابن الأعرابي: العرب تقول للشيء قد بلغ النهاية في الجودة: عتيق.
عن عبد الله بن الزبير قال: كان اسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت عتيق الله من النار " فسمي عتيقاً.
قال مغيرة بن زياد: أرسلت إلى ابن أبي مليكة أسأله عن أبي بكر الصديق ما كان اسمه؟ قال: فأتيته فسألته، فقال: كان اسمه عبد الله بن عثمان، وإنما كان عتيق لقباً.
وعن الليث بن سعد قال: إنما سمي أبو بكر عتيقاً لجمال وجهه.
وعن أبي نعيم الفضل بن دكين: إنما سمي عتيقاً لأنه عتيق، قديم في الخير.
عن عبد الله بن الزبير قال: سميت باسم جدي أبي بكر، وكنيت بكنيته.
وفي أبي بكر نزلت: " فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى ".
وعن ابن إسحاق: كان أبو بكر أنسب العرب للعرب.
قال الزبير بن بكار: فولد عامر بن عمرو أبا قحافة، واسمه عثمان، وأمه قيلة بنت أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فولد أبو قحافة أبا بكر الصديق، وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب - وفي رواية: ابن عامر بن عمرو بن كعب - بن سعد ابن تيم بن مرة، وأبو بكر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، الذي قال الله عز وجل: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " وهاجر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة ليس معهما أحد إلا مولى أبي بكر عامر بن فهيرة الذي رفع إلى السماء حين استشهد يوم بئر معونة، وكان دليل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الطريق إلى المدينة، وأعتق أبو بكر سبعة ممن كان يعذب في الله، منهم: بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد بدراً والمشاهد كلها، وشهد عامر بن فهيرة بدراً وغيرها حتى استشهد يوم بئر معونة.
وأبو بكر أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة.
قال ابن سعد: دفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر، وكانت سوداء، وأطعمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر مائة وسق، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد حين ولّى الناس.
قال إسماعيل بن علي الخطبي: وقد أدرك أبواه الإسلام وأسلما.
قال أبو أحمد الحاكم: أدرك أبو بكر بن أبي قحافة، الصديق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وابن ابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أربعتهم ولاءً، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست هذه المنقبة لأحدٍ من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، وأدرك من أولاده وأهل بيته ومواليه سواهم، نفر من الرجال والنساء، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم بنوه عبد الله وعبد الرحمن، صَحِبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابنه الثالث محمد، ولد عام حجة الوداع، ولدته أسماء بقباء، فوجهت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرها، فأمرها أن تغتسل، وتهل، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم أبي بكر الصديق أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر، وامرأة أبي بكر الصديق أم رومان بنت عمير بن عبد مناة بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة، وابن خالته أم مسطح بنت أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف، وبلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وسعد، والقاسم، موالي أبي بكر.
قال أبو عبد الله بن منده: ولد أبو بكر بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهرٍ إلا أيام، ومات بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين
وأشهر بالمدينة، وهو ابن ثلاث وستين، وكان رجلاً أبيض نحيفاً، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال.
عن الزهري قال: لما كان يوم فتح مكة أُتي بأبي قحافة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكأن رأسه ثغامة بيضاء، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلا أقررتم الشيخ في بيته حتى كنا نأتيه؟ " تكرمة لأبي بكر، وأمرهم أن يغيروا شعره، وبايعه، وأتى المدينة، وبقي حتى أدرك خلافة أبي بكر، ومات أبو بكر قبله، وورثه أبو قحافة السدس، فرده على ولد أبي بكر، وكانت وفاته سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب، وله يومئذ سبع وتسعون سنة.
قال أنس بن مالك:
قدم علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أسن أصحابه أبو بكر.
وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر من أبي بسنتين وشيءٍ.
عن يزيد بن الأصم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أينا أكبر، أنا أو أنت؟ " قال: أنت أكبر وأكرم، وخير مني، وأنا أسن منك.
كذا في هذه الرواية، والمحفوظ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أسن من أبي بكر، وأن أبا بكر استكمل بخلافته سن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت أبا بكر كأن رأسه ولحيته ضرام عرفجٍ.
وقال: دخلت على أبي بكر وهو مريض، فإذا هو أبيض قضيف.
عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر الصديق أبيض أصفر لطيفاً جعداً، كأنما خرج من صدع حجر، مسترق الوركين، لا يثبت إزاره على وركيه.
ووصفته عائشة فقالت: كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين أجنأ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، مقرون الحاجب، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، معوق الوجه، وكان يخضب بالحناء والكتم.
وعن الزهري في صفة أبي بكر: كان أبيض يخالط بياضه الصفرة، جعد، حسن القامة، رقيق، حمش الساقين، قليل اللحم، حسن الثغر.
وعن ربيعة بن كعب قال: كان إسلام أبي بكر الصديق بوحي من السماء، وذلك أنه كان تاجراً بالشام، فرأى رؤيا، فقصها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأيش أنت؟ قال: تاجر، قال: صدق الله رؤياك، فإنه سيبعث نبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر أبو بكر حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءه، فقال: يا محمد، ما الدليل على ما تدعي؟ قال: الرؤيا التي رأيت بالشام، فعانقه، وقبل عينيه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك محمداً رسول الله.
قال أبو بكر الصديق: إنه خرج إلى اليمن قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فنزلت على شيخٍ من الأزد، عالم قد قرأ الكتب، وعلم من علم الناس علماً كثيراً، وأتت عليه أربعمائة سنة إلا عشر سنين، فلما رآني قال: أحسبك حرمياً؟ قال أبو بكر: قلت: نعم أنا من أهل الحرم،
قال: وأحسبك قرشياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من قريش، قال: وأحسبك تيمياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله بن عثمان بن كعب بن تيم بن مرة، قال: بقيت لي منك واحدة، قلت: ما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل أو تخبرني لم ذاك؟ قال: أجد في العلم الصحيح الزكي الصادق أن نبياً يبعث في الحرم تعاون على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخواض غمرات، ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي.
قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة، وإني متقدم إليك في أمرٍ، فاحذره، قال أبو بكر: قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.
قال أبو بكر: فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتاً قلتها في ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول: من الطويل
ألم تر أني قد وهنت معاشري ... ونفسي وقد أصبحت في الحي واهنا
حييت، وفي الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين، ثم تسعين آمنا
وصاحبت أحباراً أبانوا بعلمهم ... غياهيب في سدٍّ ترى فيه طامنا
فما زلت أدعو الله في كل حاضر ... حللت بها سراً وجهراً معالنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي ... وألفيت شيخاً لا أطيق الشواجنا
وأنت، ورب البيت تلقى محمداً ... بعامك هذا قد أقام البراهنا
فحي رسول الله عني فإنني ... على دينه أحيا وإن كنت داكنا
فيا ليتني أدركته في شبابتي ... فكنت له عبداً وإلا العجاهنا
قال أبو بكر: فحفظت وصيته وشِعره، وقدمت مكة وقد بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءني عقبة بن أبي معيط، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريشٍ، فقلت لهم: هل نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: يا أبا بكر، أعظم الخطب، وأجل النوائب! يتيم أبي طالب، يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية لنا.
قال أبو بكر: فصرفتهم، وسألت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: إنه في منزل خديجة، فقرعت عليه الباب، فخرج إلي، فقلت: يا محمد، بعدت من منازل أهلك، واتهموك بالفتنة، وتركت دين آبائك وأجدادك؟ قال: " يا أبا بكر، إني رسول الله إليك، وإلى الناس كلهم، فآمن بالله " فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: " الشيخ الذي لقيته باليمن " قلت: وكم من مشايخ لقيت، واشتريت، وأخذت وأعطيت، قال: " الشيخ الذي أفادك الأبيات " قلت: ومن خبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: " الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي " قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنت رسول الله.
قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سروراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامي.
قال طلحة بن عبيد الله: كان إسلام أبي بكر فتحاً، وذلك أن ورقة بن نوفل جاء إلى أبي بكرٍ، فقال له: يابن أخي، إني أراك متبدلاً بمكة، ولا أراك في شيءٍ، فأخبرني كم معك من المال؟ قال: عندي كذا وكذا من العير، قال: فأنا آتيك غداً بكذا وكذا فأضعف لك حتى تخرج إلى الشام، فتصيب فيه خيراً، فتعطيني ما شئت، وتمسك ما شئت، فانقلب أبو بكر إلى زوجته، فقال لها: اذبحي من تلك الغنم شاة سفِّرينا بها، قالت: وأين تريد؟ قال: الشام، قالت: ولم؟ قال: إن ورقة بن نوفل قارضني أن أخرج مالي كله ويعطيني كذا وكذا ألف دينار، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ قال: وما هو؟ قالت: جاء محمد يطلبك منذ اليوم ثلاث مرات، فما حبسك عنه؟ قال: ما حبسني عنه إلا ما ذكرت؛
قالت: سمعته يقول: " أنا رسول الله حقاً " قال: ويحك! فإنه هذا خير لي من الدنيا وما فيها! فانطلق إليه من ليلته، فقرع الباب، فقال: " من هذا؟ " قال: أبو بكر، ففتح له الباب، ثم قال: " ما جاء بك هذه الساعة، فإني قد كنت أبتغيك ثلاث مرات؟ " قال: إني كنت مع ورقة بن نوفل، فعرض علي قراضاً، فقلت لزوجتي: سفرينا، قالت: وأين تريد؟ فقلت: قارضني ورقة بن نوفل على أن أخرج إلى الشام، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما أخبرتك؟ " قال: أخبرتني أنك تقول: إني رسول الله. ثم انصرف من عنده مسروراً بما نال من الخير والإسلام، فأصبح، وجاء إليه ورقة بن نوفل بالمال ليدفع إليه، فقال له: يابن أخي، هذا المال، قال: وجدت تجارة خيراً من تجارتك، وربحاً خير من ربحك، قال: وما هو؟ قال: قال لي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله " فصدقته وآمنت به، وشهدت أنه رسول الله، قال: فوالله لئن كنت صادقاً لا آكل ما ذبح على النصب، ولا ما ذبحت قريش لآلهتها، ولا ما ذبحت يهود لكنائسها، ولأستقبلن هذا البيت الحرام الذي أسسه إبراهيم وإسماعيل، ولا أزال أصلي أبداً، ولأحرمن ما ذبح لغير الله - عز وجل - فتوفي ورقة قبل أن يظهر أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن محمد بن إسحاق قال: ثم إن أبا بكر لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله يا أبا بكر ونبيه، بعثني لأبلّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا نعبد غيره، والموالاة على طاعته أهل طاعته " وقرأ عليه القرآن، فلم يقر، ولم ينكر، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
وابتدأ أبو بكر أمره، وأظهر إسلامه، ودعا الناس، وأظهر علي وزيد بن حارثة إسلامها، فكبُر ذلك على قريش، وكان أول من اتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة بنت خويلد
زوجته، ثم كان أول ذكرٍ آمن به علي، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر الصديق، فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خيرٍ أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلقٍ ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
عن عائشة قالت: قال أبو بكر: كنت أول من آمن.
وعن ابن سيرين قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من النساء خديجة.
قال عمار: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
سئل سعد بن مالك: أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلاماً؟ قال: لا، ولكن أسلم قبله أكثر من خمسة، ولكن كان خيرنا إسلاماً.
عن أبي سعيد قال: لما بويع أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض، فقال: أيها الناس، ما يمنعكم؟ ألست أحقكم بهذا الأمر ألست أول من أسلم؟ قال أبو بكر: أنا أول من صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية: أول من صلى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال علي بن أبي طالب.
قال قائل لابن عباس: أي الناس كان أول إسلاماً؟ قال: أبو بكر، أما سمعت بقول حسان بن ثابت - رضي الله عنهما -: من البسيط
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البرية أوفاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهدة ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وفي رواية: أتقاها وأعدلها.
عاش حميداً لأمر الله متبعاً ... بهدي صاحبه الماضي وما انتقلا
وفي رواية: عاشا جميعاً لأمر الله متبعاً لهدي.
وسئل ميمون بن مهران: كان علي أول إسلاماً أو أبو بكر؟ فقال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن بحيرا الراهب، واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب.
وقيل له: علي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟ قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما، لله درهماً كانا رأسي الإسلام، ورأسي الجماعة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى علي، وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة - يعني أبا بكر - فإني لم أكلمه في شيءٍ إلا قبله واستقام عليه ".
عن محمد بن عبد الرحمن: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه ".
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت:
فلما أن اجتمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهور، فقال: " يا أبا بكر، إنا قليل " فلم يزل يلح على رسول الله حتى ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وكل رجلٍ معه، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس، وكان أول خطيبٍ دعا إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر، وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، وأثّر على وجه أبي بكر لا يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه ولا يشكون في موته، ورجعوا بيوتهم، فدخلوا المسجد، فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة، وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم، فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا، وقالوا لأم الخير بنت صخر: انظري أن تطعميه شيئاً، أو تسقيه إياه، فلما خلت به جعل يقول: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: والله ما لي علم بصاحبك، قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن تحبي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك. قال: فما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: قال: فلا عين عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أَلِيّة ألا أذوق طعاماً أو شراباً أو آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل، وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فانكب عليه فقبله، وانكب عليه
المسلمون، ورق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادعُ الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعاها إلى الله - عز وجل - فأسلمت، فأقاموا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون رجلاً.
وكان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة. فقال عمر: يا رسول الله، علام نخفي ديننا، ونحن على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: " يا عمر، إنا قليل قد رأيت ما لقينا " فقال عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج، فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه، فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه، فوثب على عتبة، فبرك عليه، فجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان فيها، فأظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ظاهر عليهم، فقال: ما يجلسك بأبي أنت وأمي، فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف؛ فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر معلناً، ثم انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى دار الأرقم ومن معه.
قيل لعمر بن العاص: ما أشد ما رأيتهم بلغوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال عمرو: أشد شيءٍ بلغ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رأيت - أنهم تآمروا عليه حين مر بهم ضحىً عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا ذلكم " فأخذ أحدهم بتلابيبه، وأبو بكر آخذ بحضن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائه،
يريد أن ينتزعه منهم، وهو يصيح: يا قوم " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبة، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " قال: يردد أبو بكر هذه الآية وعيناه تسفحان، فلم يزل على ذلك حتى انفرجوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عاشة قالت: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث بذاك الناس، فارتد ناس ممن كان آمن، وصدق به، وفتنوا، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوه أو رواحه، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسري به، فبلغ ذا طوى، فقال: " يا جبريل، إني أخاف أن يكذبوني " قال: كيف يكذبونك وفيهم أبو بكر الصديق؟ عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال: ما نفعني الله إلا بك - وفي رواية: " مال أحدٍ ما نفعني مال أبي بكر " قال: فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ وعن عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعنا مال ما نفعنا مال أبي بكر ".
وعن ابن المسيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مال رجلٍ من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ".
قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أمنُّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أعظم عندي من أبي بكر، واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته ".
وعن ابن عباس قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب إليه؟ فقال لي: " عائشة " فقلت: ليس عن النساء سألتك، قال: " فأبوها إذاً " قال: قلت: فلم يا رسول الله؟ قال: " لأنه أنفق ماله كله غير مقطبٍ بين عينيه حتى بقي بعباءة تخللها بريشة، لا تملك سواها، ووالله ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، وزوجني ابنته، ووهب لي غلامه، وواساني بنفسه، وكلما هبط جبريل علي قال: يا محمد، الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرئ أبا بكرٍ السلام وقل له: " أساخطٍ فأرضيك؟ " فقال: على من أسخط يا رسول الله، أنا عنه راض، فهل هو عني راضٍ؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو عنك راضٍ " فقال أبو بكر: الحمد لله.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من أعظم الناس علينا مناً أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر، أعتق منه بلالاً، وحملني إلى دار الهجرة ".
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: " ما أطيب مالك! منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك، وواسيتني بنفسك ومالك، كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله أبا بكرٍ زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله،
رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مراً، تركه الحق وما له من صديقٍ، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله علياً، اللهم أدر عليه الحق حيث دار ".
عن ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالصدقة، فقال عمر بن الخطاب: وعندي مال كثير، فقلت: والله لأفضلن أبا بكر هذه المرة، فأخذت نصف مالي، وتركت نصفه، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " هذا مال كثير، فما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم نصفه.
وجاء أبو بكر بمالٍ كثير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم الله ورسوله - زاد في رواية: قال عمر: فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً! وفي رواية مرسلة عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إلى آخر الآية جاء عمر بنصف ماله يحمله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمله على رؤوس الناس، وجاء أبو بكر بماله أجمع يكاد أن يخفيه من نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: عدة الله، وعدة رسوله، قال: يقول عمر لأبي بكر: بنفسي أنت - أو بأهلي أنت - ما سبقنا باب خيرٍ قط إلا سبقتنا إليه.
عن عروة: أن أبا بكر الصديق أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف درهم، قال عروة: قالت عائشة: توفي أبو بكر وما ترك ديناراً ولا درهماً.
وعن عروة قال: أعتق أبو بكر الصديق ممن كان يعذَّب في الله بمكة سبعة أنفسٍ: بلالاً الحبشي الأسود، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وزنِّيرة، وجارية بني المؤمل.
وعن ابن عمر قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج إلى المدينة من مكة في الهجرة وماله غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفق في الرقاب، والعون على الإسلام.
عن عبد الله: أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف، وأُبيّ بن خلف ببردةٍ وعشر أواقٍ، فأعتقه لله - عز وجل - فانزل الله - عز وجل - " والليل إذا يغشى " إلى قوله: " إن سعيكم لشتى " سعي أبي بكر وأمية وأُبي.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافاً؟ فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك، ويقومون دونك! فقال أبو بكر: يا أبه، إني إنما أريد ما أريد. قال: فيتحدث: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قاله أبوه " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " إلى آخر السورة.
وعن ابن عباس في قوله: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى "، قال أبو بكر " وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " قال: أبو سفيان بن حرب.
عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر: " وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى ".
عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده: أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في
صدره بخلال؟ فقال: " يا جبريل، أنفق ماله علي قبل الفتح " قال: فإن الله عز وجل يقرأ عليه السلام ويقول: " قل له: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ " فقال أبو بكر: أسخط على ربي؟ أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ.
وعن ابن عباس: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هبط علي جبريل، وعليه طنفسة، وهو متخلل بها، فقلت: يا جبريل ما نزلت إلي في مثل هذا الزي! قال: إن الله أمر الملائكة أن تخلل في السماء كتخلل أبي بكرٍ في الأرض ".
عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له جبريل: هاجر، قال: ومن يهاجر معي؟ " قال أبو بكر، وهو الصديق.
وعن أنس: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد أحداً، فتبعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: " اسكن! نبي، وصديق، وشهيدان - وفي رواية: ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فضربه برجله، وقال: " اثبت أحد! فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان " وفي رواية " اثبت حراء، عليك نبي، وصديق، وشهيد " فالصديق أبو بكر، والشهيدان: عمر وعثمان.
عن النزال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفسٍ، ومزاح، فقلنا له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك، قال: كل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابي، قال: حدثنا عن أصحابك خاصةً، قال: ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب إلا كان لي صاحباً، قلنا: حدثنا عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: سلوني، قلنا: حدثنا عن أبي بكر الصديق،
قال: ذاك امرؤ سماه الله صديقاً على لسان جبريل ومحمد صلى الله عليهما، كان خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
عن حكيم بن سعد قال:
سمعت علياً يحلف لأنزل الله عز وجل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وعن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر - وفي رواية: فما مر - علينا يوم إلا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتينا فيه طرفي النهار بكرةً وعشياً، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكرٍ مهاجراً قبل أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، فقال: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرج، ولا يَخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع، فاعبد ربك في بلدك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف ابن الدغنة في كفار قريشٍ، فقال: إن أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسِب المعدم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا، ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل.
قال: ثم بدا لأبي بكر فابتني مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ، فتنقصف عليه نساء قريش، وأبناؤهم يتعجبون منه، وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلاً بكاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فافزع ذلك أشراف قريشٍ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد
ربه في داره، وإنه قد جاوز ذلك، فابتني مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يستعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن يسمع العرب أني أخفرت في عقد رجلٍ عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله ورسوله، ورسول الله يومئذ بمكة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين - وهما حرتان " فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: أو ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: " نعم "، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
قالت عائشة: فبينا نحن جلوس في بيتنا، في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبلاً مقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة لأمر، قال: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن، فدخل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإنه قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم " فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بالثمن ".
قالت: فجهزناهما أحب الجهاز، فصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها، فأوكت به الجراب، فلذلك كانت تسمى ذات النطاقين - وفي
رواية: النطاق - ثم لحق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر بغارٍ في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقف، فيدخل، فيخرج من عندهما بسحرٍ، فيصبح بمكة مع قريش كبائت، لا يسمع أمراً يُكادون - وفي رواية: يُكادان - به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذاك إذا اختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةً من العشاء، فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك عامر تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر رجلاً من بني الدئل من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلفٍ في آل عاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث، فارتحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعامر، والدليل الدئلي، فأخذ بهم طريق الساحل، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، وأبو بكر على راحلته، وعامر ابن فهيرة يمشي مع أبي بكر مرة، وربما أردفه.
وكانت أسماء تقول: لما صنعت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي سفرتهما وجد أبو قحافة ريح الخبز، فقال: ما هذا، لأي شيء هذا؟ فقلت: لا شيء، هذا خبز عملناه نأكله، فلما خرج أبو بكر جعل أبو قحافة يلتمسه ويقول: أقد فعلها؟! خرج وترك عياله علي، ولعله قد ذهب بماله - وكان قد عمي - فقلت: لا، فأخذت بيده، فذهبت به إلى جلد فيه أقط فمسسته، فقلت: هذا ماله! عن ضبة بن محصن العنزي قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميراً بالبصرة، فوجهني في بعثه عمر بن الخطاب، فقدمت على عمر، فضربت عليه الباب، فخرج إلي، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي، قال: فأدخلني منزله، وقدم إلي طعاماً، فأكلت، ثم ذكرت له
أبا بكر الصديق، فبكى، فقلت له: أنت خير من أبي بكر، فازداد بكاءً لذلك، ثم قال وهو يبكي: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: فإنه لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هارباً من أهل مكة خرج ليلاً، فاتبعه أبو بكر، فجعل مرة يمشي أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا فعلك! " فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرةً عن يمينك، ومرةً عن يسارك، لا آمن عليك، قال: فمشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليله كله، حتى أدغل أطراف أصابعه، فلما رآه أبو بكر حمله على عاتقه، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار، فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن يك فيه شيء نزل بي دونك، قال: فدخل أبو بكر؛ فلم ير شيئاً، فقال له: اجلس، فإن في الغار خرقاً أسده، وكان عليه رداء، فمزقه، وجعل يسد به خرقاً خرقاً، فبقي جحران، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمله، فأدخله الغار، ثم ألقم قدميه الجحرين، فجعل الأفاعي والحيات يضربنه ويلسعنه إلى الصباح، وجعل هو يتقلى من شدة الألم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم بذلك، ويقول له: " يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا " فأنزل الله عليه وعلى رسوله السكينة، والطمأنينة فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب؛ فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي، وقال بعضهم: نزكي ولا نصلي، فأتيته لا ألوه نصحاً، فقلت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارفق بالناس! وقال غيري ذلك. فقال أبو بكر: قد قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتفع الوحي، ووالله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا فكان والله سديد الأمر، فهذا يومه.
عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال:
نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت:
يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ".
عن ابن عباس قال: إن الذين طلبوهم صعدوا الجبل، فلم يبق إلا أن يدخلوا، فقال أبو بكر: أُتينا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا " وانقطع الأثر، فذهبوا يميناً وشمالاً.
عن علي بن أبي طالب قال: لقد صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي بكر أمراً ما صنعه بي، فقال له رجل: ما صنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: يوم المَلْحم، قلنا: وما يوم الملحم؟ قال: يوم جاء المشركون يقتلون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج، وخرج بأبي بكر معه، لم يأمن على نفسه أحداً غيره حتى دخلا الغار.
عن حبيب بن أبي ثابت: في قوله عز وجل: " فانزل الله سكينته عليه " قال: على أبي بكر، فأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد نزلت عليه السكينة قبل ذلك.
قال الحسن بن عرفة: " فأنزل السكينة عليهم " قال: على أبي بكر.
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار ".
عن الزهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت: " هل قلت في أبي بكر شيئاً؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " فقل حتى أسمع " فقال: من البسيط
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ يصعد الجبلا
وكان ردف رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، وقال: " صدقت يا حسان، هو كما قلت ".
قال ابن عيينة: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أبي بكر وحده؛ فإنه خرج من المعاتبة، وتلا قوله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ".
عن أنس بن مالك قال: لما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان رسول الله يركب، وأبو بكر رديفه، وكان أبو بكر يعرف في الطريق باختلافه إلى الشام، فكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك؟ فيقول: هادٍ يهدي - وفي رواية: هذا رجل يهديني السبيل.
عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ثم السلمي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي.
وعن محمد بن عمر بن علي: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فلما قدم
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة نقض تلك المؤاخاة إلا اثنتين: المؤاخاة التي بينه وبين علي بن أبي طالب، والتي بين حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة.
عن أبي هريرة قال: تباشرت الملائكة يوم بدرٍ فقالوا: أما ترون أبا بكر الصديق جاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أصبح منكم صائماً اليوم؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من أطعم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من عاد اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال: " من شهد منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اجتمعن - هذه الخصال - في رجلٍ قط إلا دخل الجنة " وفي رواية: " من جمعهن في يومٍ واحد وجبت له، أو قال: غُفر له ".
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه، فقال: " من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر: لكن حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد اليوم عاد مريضاً؟ " قال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ " فقال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائلٍ، فوجدت كسرة خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت فابشر بالجنة " فتنفس عمر، فقال: واها للجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة أرضى بها عمر.
عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: ما سبقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.
عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي - وفي رواية: نودي - من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي - وفي رواية: نودي - من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان " فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على أحدٍ ممن دعي من تلك الأبواب - وفي رواية فقال أبو بكر: ما على من يدعى من هذه الأبواب - من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب - وفي رواية من هذه الأبواب - كلها؟ قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم ".
عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل الجنة رجل لا يبقى فيها أهل دار ولا غرفة إلا قالوا: مرحباً مرحباً، إلينا إلينا "، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما توى هذا الرجل في ذلك اليوم، قال: " أجل، وأنت هو يا أبا بكر ".
عن ابن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: وأقبل على أبي بكر فقال: " إني لأعرف اسم رجل، واسم أبيه، واسم أمه إذا دخل الجنة لم يبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قالت: مرحباً مرحباً " فقال سلمان: إن هذا لغير خائب، فقال: " ذاك أبو بكر بن أبي قحافة ".
عن سليمان بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر خير أهل الأرض إلا أن يكون نبياً ".
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله عز وجل بعبدٍ خيراً جعل فيه واحدة منهن يدخله بها الجنة ".
قال: وقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فيّ شيء منهن؟ قال: " نعم جميعاً " وفي رواية: " كلهن فيك، وهنيئاً لك يا أبا بكر ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بينما جبريل يطوف بي أبواب الجنة قلت: يا جبريل، أرني الباب الذي تدخل منه أمتي " قال: " فأرانيه " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، ليتني كنت معك حتى أنظر إليه، قال: فقال: " يا أبا بكر، أما إنك أول من يدخله من أمتي ".
عن أبي الدرداء قال: إني لجالس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل أبو بكر، فأخذ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فأقبل حتى سلم، ثم قال: يا رسول الله، كان بيني وبين ابن الخطاب شيء حتى أسرعت إليه، وندمت، فسألته أن يستغفر لي، فأبى علي، وتحرز مني بفراره، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يغفر الله لك يا أبا بكرٍ - ثلاثاً " ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ، فسأل: أثم أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغير وجهه حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، أنا والله كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيها الناس إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها.
عن ابن عباس قال:
ذكر أبو بكر عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبني الناس وصدقني، وآمن بي، وزوجني ابنته، وجهزني بماله، وجاهد معي في جيش العسرة، ألا إنه سيأتي يوم القيامة على ناقةٍ من نوق الجنة، قوائمها من المسك والعنبر، ورحلها من الزمرد الأخضر وزمامها من اللؤلؤ الرطب، عليها جلان خضراوان من سندس واستبرق، ويجاء بأبي بكر يوم القيامة وإياي، فيقال: هذا محمد رسول الله، وهذا أبو بكر الصديق ".
عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما احب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: " يا ربيع ألا تزوج؟ " فقلت: ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله لرسول الله بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني والله، لئن قال لي: تزوج لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت. قال فقال: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: " انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار، وكان فيهم تراخٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقل لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة - لامرأةٍ منهم - فذهبت، فقلت لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحباً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبرسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا والله، لا يرجع رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بحاجته،
فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً، فقال لي: " مالك يا ربيعة؟ " فقلت: يا رسول الله، أتيت قوماً كراماً، فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهبٍ " قال: فجمعوا لي وزن نواةٍ من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها " فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه وقالوا: كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً فقال: " يا ربيعة مالك حزين؟ " فقلت: يا رسول الله، ما رأيت قوماً أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا وقالوا: كثير طيب وليس عندي ما أولم، قال: " يا بريدة، اجمعوا له شاة " قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى عائشة، فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام " قال: فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: هذا المكتل فيه تسعة آصع شعيرٍ، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، قال: فأخذته، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزاً " فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم، فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً، وهذا طبيخاً.
فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفوناه أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاني بعد ذلك أرضاً، وأعطى أبا بكرٍ أرضاً، وجاءت الدنيا، فاختلفنا في عذق نخلةٍ، فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر: هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمةً أكرهها، وندم، فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن، أو لأستعدين عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض، وانطلق أبو بكر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم، فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيءٍ يستعدي عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قال لك ما قال؟ قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين وهذا ذو شيبة المسلمين! إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيُهلك ربيعة! قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: وانطلق أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتبعته وحدي حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه، فقال: " يا ربيعة مالك وللصديق؟ " قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، فقال لي كلمة كرهها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر " فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولّى أبو بكر وهو يبكي.
قال حذيفة بن اليمان: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لقد هممت أن أبعث رجالاً يعلمون الناس السنة والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريين في بني إسرائيل "، فقيل له: فأين أنت عن أبي بكر وعمر؟ قال: " لا غنى لي عنهما - أو بي عنهما - فإنهما من الدين كالسمع من البصر ".
عن أبي أروى الدوسي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحمد لله الذي أيدني بكما ".
عن علي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأبي بكر: " يا أبا بكر، إن الله أعطاني ثواب من آمن بي منذ خلق آدم إلى أن بعثني، وإن الله أعطاك يا أبا بكر ثواب من أمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لي وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر ".
عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر وعمر: " ألا أخبركما بمثلكما في الملائكة، ومثلكما في الأنبياء: مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك من الأنبياء مثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، فصنعوا به ما صنعوا قال " فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، ينزل بالبأس والشدة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ".
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل آنفاً، فقلت له: يا جبريل حدثني بفضائل عمر بن الخطاب في السماء، قال: يا محمد، لو حدثتك بفضائل عمر بن الخطاب في السماء مثلما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر ".
عن عبد الله قال:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً جالساً ومعه جبريل إذ أقبل أبو بكر، فقال جبريل: يا محمد هذا أبو بكر قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل له اسم في السماوات تعرفونه به كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة خليل الرحمن فلينظر إلى شيبة أبي بكر، فبينا هو كذلك إذ أقبل عمر، فقال جبريل: يا رسول الله هذا عمر أقبل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل، هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة نوحٍ في المرسلين فلينظر إلى شيبة عمر بن الخطاب، فبينا هو كذلك إذ أقبل عثمان بن عفان، فقال له جبريل: هذا عثمان قد أقبل، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة موسى كليم الرحمن فلينظر إلى شيبة عثمان بن عفان، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، فقال له جبريل: يا رسول الله هذا علي قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " فقال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة هارون فلينظر إلى شيبة علي بن أبي طالب. ثم ارتفع جبريل، فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً على قدميه، قال: " يا أيها الناس، قد أخبرني الروح الأمين بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، ألا أيها الشاتم أبا بكرٍ فكأني بك قد جئتني تخوض بحار النيران، وقد سالت حدقتاك على خديك، فأُعْرِض عنك بوجهي،
وأنت أيها الشاتم عمر، أنت وربي بريء من الإسلام، وأنت أيها الشاتم عثمان بن عفان، وخَتَني على ابنتيّ، والذي قلت له: اللهم لا تنس له هذا اليوم، كأني بك قد جئتني في الأهوال المهيلة المهيبة، فأعرض بوجهي عنك، وأنت أيها الشاتم علياً، أخي وابن عمي، وخَتَني على بنتي والضارب بسيفي بين يدي لا نالتك شفاعتي ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح ".
والمحفوظ عن عمر قوله: لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح بهم - وفي رواية: لرجح به.
عن الربيع بن أنس قال: نظرنا في صحابة الأنبياء، فما وجدنا نبياً كان له صاحب مثل أبي بكر الصديق.
عن ابن سيرين: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق كان يوم بدرٍ مع المشركين، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدرٍ، فصدّقت عنك، ولم أقتلك، فقال أبو بكر: لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك.
قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: بتفسير هذا الحديث يقال: قوله أهدفت لي معناه: أشرفت لي، ومنه قيل للبناء المرتفع: هدف، وهدف الرامي منه، لأنه شيء ارتفع للرامي حتى يراه، وإن عبد الرحمن كره أن يقاتل أباه،
أو انصرف عنه هيبة له. وقول أبي بكر: لو أهدفت لي لم أصرف وجهي عنك؛ وهذا من أكبر فضائله؛ لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم لما جعل الله في قلبه من جلالة الإيمان، وبهذا وصف الله أصحاب محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر. " الآية.
عن علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ ولأبي بكر: " مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في القتال " وفي رواية " في الصف ".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أتاني جبريل، فقال لي: يا محمد، إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ".
وعن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يكره فوق سمائه أن يخطئ أبو بكر ".
عن يعقوب الأنصاري قال: إن كانت حلقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتشتبك حتى تصير كالإسوار، وإن مجلس أبي بكرٍ منها لفارغ ما يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه، وألقى إليه حديثه، وسمع الناس.
قال الزبير بن العوام: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: " اللهم بارك لأمتي في أصحابي، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابي في أبي بكر الصديق، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره، اللهم وأعز عمر بن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفان، ووفق علي بن أبي
طالب، وثبت الزبير واغفر لطلحة، وسلم سعداً، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسانٍ ".
عن سهل بن مالك الأنصاري قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجعه من حجته، اجتمع الناس إليه، فقال: " يا أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني طرفة عين، فاعرفوا ذلك له، يا أيها الناس، إن الله راضٍ عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، فاعرفوا ذلك لهم، يا أيها الناس، إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية، يا أيها الناس دعوا لي أختاني وأصهاري، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحدٍ منهم، فيعذبكم بها، فإنها مما لا يوهب، يا أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منكم فاذكروا منه خيراً ".
عن أنسٍ قال: قالوا: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: " عائشة " قالوا: إنما نعني من الرجال، قال: " أبوها ".
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: " كلا أنتم أصحابي، وإخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: ألسنا إخوانك؟ قال: " لا، إخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، ألا تحب قوماً بلغهم أنك تحبني، فأحبوك بحبك إياي، فأحبهم أحبهم الله ".
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئاً على عليٍ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال: " يا أبا الحسن، أحبهما، فبحبهما تدخل الجنة ".
عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتكئ على يدي علي بن أبي طالبٍ، فاستقبله أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، أتحب هذين الشيخين؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " حبهما يُدخِل الجنة ".
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبُّ أبي بكرٍ وشكره واجب على أمتي " - وفي رواية أخرى: " أمنُّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر الصديق، فحبه وشكره وحفظه واجب على أمتي ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حب أبي بكرٍ وعمر إيمان، وبغضهما كفر ".
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يُبغِض أبا بكر وعمر مؤمن، ولا يحبهما منافق ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما ولد أبو بكر الصديق أقبل الله تعالى على جنة عدنٍ، فقال: وعزتي وجلالي لا أُدخِلك إلا من يحب هذا المولود ".
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما عرج بي جبريل رأيت في السماء خيلاً موقفةً مسرجةً ملجمةً، لا تروث ولا تبول، ولا تعرق، رؤوسها من الياقوت الأحمر، وحوافرها من الزمرد الأخضر، وأبدانها من العِقيان الأصفر، ذوات أجنحة، فقلت: لمن هذه؟ فقال جبريل: هذه لمحبي أبي بكر وعمر، يزورون الله عليها يوم القيامة ".
قال الخطيب: منكر.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في السماء الدنيا ثمانين ألف ملكٍ يستغفرون الله لمن أحب أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملكٍ بلعنون من أبغض أبا بكر وعمر ".
عن ابن عباس قال:
كان أبو بكر الصديق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، فعطش أبو بكر عطشاً شديداً، فشكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى صدر الغار، واشرب " فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار، وشرب منه ماء أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأزكى رائحةً من المسك، ثم عاد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: شربت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أبشرك يا أبا بكر؟ " قال: بلى، فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: " إن الله تعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن خرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر " فقال أبو بكر: ولي عند الله هذه المنزلة؟ قال: " نعم، وأفضل، والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبياً ".
عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل نبي رفيق، وإن رفيقي في الجنة أبو بكر ".
وعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إنك جعلت أبا بكرٍ رفيقي في الغار فاجعله رفيقي في الجنة " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا وأبو بكر في الجنة كهاتين " وضم السبابة والوسطى.
عن ابن مليكة قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه غديراً، فقال: " ليسبح كل رجل إلى صاحبه "،
قال: فسبح كل رجلٍ منهم إلى صاحبه حتى بقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، قال: فسبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اعتنقه، وقال: " لو كنت متخذاً خليلاً حتى ألقى الله لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكنه صاحبي ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر " وفي رواية قالت: قلت: يا رسول الله أكل الناس تقف يوم القيامة للحساب؟ قال: " نعم، إلا أبا بكر فإن شاء مضى، وإن شاء وقف ".
عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل: - وفي رواية فقيل له -: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: " هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة زفاً - وفي رواية: تزفه الملائكة إلى الجنان ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كأني بك يا أبا بكرٍ على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحداً هو خير منه، ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبيين " فما برحنا حتى طلع أبو بكر الصديق فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله والتزمه.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من تحت العرش: ألا هاتوا أصحاب محمد، قال: فيؤتى بأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، قال: فيقال لأبي بكر:
قف على باب الجنة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان، فثقِّل من شئت برحمة الله عز وجل وخفف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفان عصا آس التي غرسها الله عز وجل في الجنة ويقال له: ذد الناس عن الحوض ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن على حوضي أربعة أركانٍ، فأول ركن منها في يد أبي بكرٍ، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد عليٍ، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر، لم يسقه أبو بكر، ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عثمان، ومن أحب عثمان وأبغض علياَ لم يسقه عثمان، ومن أحب علياً وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ".
عن معاذ بن جبلٍ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نصب لإبراهيم منبر أما العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لأبي بكرٍ كرسي فيجلس عليها، وينادي منادٍ: يا لك من صديقٍ بين خليلٍ وحبيب ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" دخلت الجنة ليلة أسري بي، نظرت إلى برجٍ أعلاه نور، ووسطه نور، وأسفله نور، فقلت لحبيبي جبريل: لمن هذا البرج؟ فقال: هذا لأبي بكر الصديق ".
عن البراء بن عازب، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله اتخذ لإبراهيم في أعلى عليين قبةً من ياقوتةٍ بيضاء، معلقة بالقدرة،
تخترقها رياح الرحمة، للقبة أربعة آلاف باب، كلما اشتاق أبو بكر إلى الله انفتح منها باب ينظر إلى الله عز وجل ".
عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يتجلى للمؤمنين عامة ويتجلى لأبي بكرٍ خاصة ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكرٍ، أعطاك الله الرضوان الأكبر " فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الرضوان الأكبر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، إذا كان يوم القيامة يتجلى الجبار لأهل الجنة، فتراه وتراه أهل الجنة، ويتجلى لك خاصةً، فلا يراه مخلوق غيرك ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في الجنة لطيراً كأشباه البُخْت " فقال أبو بكر: إن هذه لطير ناعمة! قال: " آكلها أنعم منها، وإني لأرجو أن تأكلها يا أبا بكر ".
عن علي قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفقٍ من آفاق السماء، ألا وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما ".
قال محمد بن الجهم السمري: سألت الفراء عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الدرجات العلى: " وأنعما " لم أدخلت الألف في آخر حرفٍ؟ فقال: معناه: وقد أنعما أي صارا إلى النعيم، وأنشد الفراء عن
بعض العرب يصف راعياً: من الطويل
سمين الضواحي لم تؤرّقه ليلةً ... وأنعم أبكار الهموم وعُونُها
معناه: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً، وقد أنعم: صار إلى النعيم.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مررت بسماء إلا رأيت فيها، مكتوب: محمد رسول الله، أبو بكرٍ الصديق ".
عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله عز وجل فقال له: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، فقال: " منه بدأ السلام " قال: إن الله يقول لك: " قل للعتيق ابن أبي قحافة إني عنه راضٍ ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ".
عن أبي هريرة قال: لما نزلت: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال أبو بكر: لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار.
عن سعد بن زُرارة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فالتفت التفاتةً، فلم يرَ أبا بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر، أبو بكر أما إن روح القدس أخبرني آنفاً أن خير أمتك بعدك أبو بكر ".
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعةً: أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلياً، فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرن الأول، والثاني، والثالث تترى، والرابع فرادى ".
عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا الدرداء يمشي أمام أبي بكرٍ، فقال له: " أتمشي قُدّام رجلٍ لم تطلع الشمس على أحدٍ منكم أفضل منه؟! " فما رئي أبو الدرداء بعد ذلك إلا خلف أبي بكر.
وعن أبي الدرادء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحدٍ أفضل - أو خيرٍ - من أبي بكر إلا أن يكون نبياً ".
عن جابرٍ قال: كنا جماعة من المهاجرين والأنصار، فتذاكرنا الفضائل بيننا، فارتفعت أصواتنا، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا تفضلن أحداً منكم على أبي بكر؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة ".
عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم:
" من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء،
فوزنت أنت بأبي بكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم ارتفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عرفجة الأشجعي قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر، ثم جلس: فقال: " وزن أصحابنا الليلة، وزن أبو بكر فوزن، ثم وزن عمر فوزن، ثم وزن عثمان فخف، وهو صالح ".
عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يدفن المرء في تربته التي خلق منها " فلما دفن أبو بكرٍ وعمر إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا أنهما خلقا من تربته.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من تنشق الأرض عنه أنا، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع، فتنشق عنهم، ثم أنتظر أهل مكة، فتنشق عنهم، فأُبعث بينهم ".
عن عائشة قالت: كان بيني وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلام، فقال: " من ترضين أن يكون بيني وبينك، أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ " قلت: لا، ذلك رجل هين لين، يقضي لك، قال: " فترضين بأبيك؟ " قال: فأرسل إلى أبي بكر، فجاء فقال: " اقصصي "، قالت: قلت: اقصص أنت، فقال: " هي كذا وكذا " قالت: فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، قال: تقولين يا بنت فلانة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقصد! من يقصد إذا لم يقصد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: وجعل الدم يسيل من أنفها على ثيابها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نرد هذا " قال: وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغسل الدم بيده من ثيابها ويقول: " رأيتِ كيف أنقذتك منه؟ ".
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا بكرٍ فأقام للناس حجهم - أو قال: فحج - ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس العام المقبل حجة الوداع، ثم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكرٍ، فبعث أبو بكرٍ عمر بن الخطاب، فحج بالناس، ثم حج أبو بكرٍ في العام المقبل، ثم استخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عمر إمارته كلها، ثم استخلف عثمان، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عثمان إمارته كلها.
عن أبي جعفر قال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب ب " براءة " لما نزلت، فقرأها على أهل مكة، وبعث أبا بكر على الموسم.
قال الزبير بن بكار: ودفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة تسعٍ إلى أبي بكر الصديق رايته العظمى، وكانت سوداء، ولواؤه أبيض.
عن محمد بن إسحاق: أن أبا بكرٍ أقام للناس الحج سنة ثنتي عشرة، وبعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث في سنة ثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
عن عروة بن الزبير: أن أبا بكر الصديق أحج على الناس سنةً عمر بن الخطاب، والسنة الثانية عتاب بن أسيد القرشي.
عن ابن شهاب قال: رأى النبي رؤيا، فقصها على أبي بكرٍ، فقال: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: خير يا رسول الله، يبقيك الله حتى
ترى ما يسرك، ويقر عينك، قال: فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مراتٍ، فأعاد عليه مثل ذلك، قال: فقال له في الثالثة: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته، وأعيش بعدك سنتين ونصف.
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أؤول الرؤيا أبا بكر ".
عن سفينة قال: لما بنى النبي المسجد وضع حجراً، ثم قال: " ليضع أبو بكر حجراً إلى جنب حجري " ثم قال: " ليضع عمر حجراً إلى جنب أبي بكر " ثم قال: " ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " ثم قال: " هؤلاء الخلفاء بعدي ".
عن زرعة بن عمرو، عن أبيه قال:
لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال لأصحابه: " انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم " فلما أتاهم سلم عليهم، ورحبوا به، فقال: " يا أهل قباء، إيتوني بحجارة من هذه الحرة " فجمعت عنده، فخط بها قبلتهم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجراً، فوضعه، ثم قال: " يا أبا بكر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري " ففعل، ثم قال: " يا عمر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر " ففعل، ثم قال: " يا عثمان خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر "، ففعل ثم التفت إلى الناس بأخرة فقال: " وضع رجل حجره حيث أحب على هذا الخط ".
عن جبير بن مطعم: أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأله شيئاً، فقال لها: " ارجعي إلي " قالت: فإن
رجعت فلم أجدك يا رسول الله - تعرِّض بالموت -؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن رجعت فلم تجديني فالقي أبا بكر ".
قال الزبير بن العوام - وذكر عنده أبو بكر -: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " قال: فقمنا سنة حتى دخلنا على علي بن أبي طالب فقلنا: يا أمير المؤمنين إنا سمعنا الزبير بن العوام يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " فقال: صدق، سمعت ذاك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط، فاستفتح رجل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائذن له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي " ففعلت، فإذا هو أبو بكر، ثم استفتح رجل، فقال: " قم يا أنس، فافتح له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي ومن بعد أبي بكر " فإذا هو عمر، فأخبرته، ثم جاء آخر، فدق فقال: " يا أنس فافتح له وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعد عمر، وأنه سيلقى من الرعية الشدة، حتى يبلغوا دمه، وأمره عند ذلك بالكف " فقمت، فإذا هو عثمان، فأخبرته فحمد الله، فلما أخبرته أنهم سيبلغون دمه استرجع.
عن ابن عباس قال: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب " وإذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثاً " فقال لحفصة: " أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي ".
عن ميمون بن مهران: في قوله تعالى: " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين " أبو بكر وعمر.
عن عبد الله بن جراد قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفرسٍ، فركبه، وقال: " يركب هذا الفرس من يكون الخليفة من بعدي " فركبه أبو بكر الصديق.
عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " جاء العباس إلى علي، فقال: قم بنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألاه عن ذلك، فقال: " يا عباس، يا عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا له تفلحوا، وأطيعوه ترشدوا " قال العباس: فأطاعوه والله فرشدوا.
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ".
عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً أحداً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله، وإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ولكل آيةٍ منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع ".
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو على المنبر في مرضه الذي توفي فيه: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا علي كل خوخةٍ غير خوخة أبي بكر ".
عن سعيد بن جبير قال: كتب عبد الله بن عتبة إلى ابن الزبير يستفتيه في الجد، فقال سعيد: فقرأت كتابه إليه: أما بعد، فإنك كتبت إلي تستفتني في الجد، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكنه أخي في الدين، وصاحبي في الغار " وإن أبا بكر كان ينزله بمنزلة الوالد، وإن أحق من اقتدينا به بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر.
عن أبي سعيد الخدري قال:
خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه، وهو عاصب رأسه، قال: فأتبعته حتى صعد المنبر فقال: " إني الساعة لقائم على الحوض " قال: ثم قال: " إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة " فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المنبر فما رئي عليه حتى الساعة.
عن كعب بن مالك قال: إن أحدث عهدي بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته بخمس ليالٍ، دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول: " لم يكن نبي كان قبلي إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً، وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة، ألا وإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ".
عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نغسله بسبع قرب من سبع آبار، ففعلنا ذلك، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راحة، فخرج فصلى بالناس، فاستغفر لأهل أُحُدٍ، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار فقال: " أما بعد، يا معشر المهاجرين فإنكم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، على هيئتها التي هي عليها اليوم، وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها،
فأكرموا كريمهم - يعني محسنهم - وتجاوزوا عن مسيئهم " ثم قال: " إن عبداً من عباد الله خير ما بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله " فبكى أبو بكر، وظن أنه يريد نفسه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك يا أبا بكر! سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم امرأً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي بكر ".
وعن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عندما أمر به من سد تلك الأبواب إلا باب أبي بكر، وقال: " ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر، فإن عليه نوراً ".
وعن عائشة قالت: لما ثَقُل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بلال يؤذنه بالصلاة، قالت: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس " قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكرٍ رجل أسيف، فلو أمرت عمر! قالت: فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، قالت: فقالت له حفصة، قالت: فقال: " إنكن لأنتن صواحبات يوسف " فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً! قالت: وأمر أبا بكر فصلى بالناس، فلما دخل أبو بكرٍ في الصلاة وجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه خِفةً، فقام يُهادى بين رجلين، وإن رجليه لتخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقم مكانك، قالت: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس عن يسار أبي بكرٍ، قالت: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس قاعداً وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليصل أبو بكر بالناس " قالوا: يا رسول الله، لو أمرت غيره أن يصلي، قال: " لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر ".
عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين قال: دعا بلال للصلاة، فقال: " مروا من يصلي بالناس " قال: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكرٍ غائباً، فقال: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر عمر سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، وكان عمر رجلاً مُجهراً، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون " قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
قال: وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك! ماذا صنعت بي يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس! قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
عن أنس بن مالك قال:
لم يخرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكرٍ يصلي بالناس، فرفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فما رأينا منظراً أعجب إلينا منه، حيث وضح لنا وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي بكر أن تقدم، وأرخى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فلم يوصل إليه حتى مات.
قالت حفصة بنت عمر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أنت مرضت قدَّمت أبا بكر، قال: " لست أنا الذي أقدمه ولكن الله يقدمه ".
عن الشعبي أنه قال: خص الله تبارك وتعالى أبا بكرٍ الصديق بأربع خصالٍ لم يخصص بها أحداً من الناس: سماه الصديق ولم يسم أحداً الصديق غيره، وهو صاحب الغار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفيقه في الهجرة، وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة، والمسلمون شهود.
قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان وأنا حي، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ " قالت عائشة: واثكلاه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت معرِّساً ببعض أزواجك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكرٍ وابنه، فأعهد إليه: أن يقول القائلون، ويتمناه المتمنون ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائتوني بأديمٍ ودواةٍ - أو كتفٍ ودواةٍ - فأكتب لأبي بكرٍ كتاباً لا يختلف عليه اثنان " ثم قال: " دعوه، معاذ الله أن يختلفوا في أبي بكرٍ - مرتين ".
وعن عائشة قالت: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يستخلف أحداً، ولو كان مستخلفاً أحداً لاستخلف أبا بكرٍ أو عمر.
عن عبد الله قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فأتاهم عمر ابن الخطاب، فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكرٍ أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكرٍ؟ ".
عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكرٍ في طائفةٍ من المدينة، قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله، وقال: فداك أبي وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً! مات محمد، ورب الكعبة.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان، حتى أتوهم، فتكلم أبو بكرٍ، فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأنهم إلا ذكره، وقال: لقد علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار " ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وأنت قاعد: " قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء.
وفي رواية عن عائشة: قال عمر: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فنشج الناس يبكون.
عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح: ابسط يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنت أمين هذه الأمة " فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجلٍ أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنا، فأمنا حتى مات.
عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات، وأبو بكر بالسنخ - يعني بالعالية - واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال عمر: نبايعك، أنت سيدنا، وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه وبايعه الناس.
نا ابن عون عن محمد: أن أبا بكر قال لعمر: ابسط يدك نبايع لك، فقال له عمر: أنت أفضل مني، فقال له أبو بكر: أنت أقوى مني، فقال له عمر: فإن قوتي لك مع فضلك، فبايعه.
قال القاسم بن محمد:
فلما اجتمع الناس على أبي بكرٍ قسم بين الناس قسماً، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار بقسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر للنساء، فقالت: أتراشوني عن ديني؟ فقالوا: لا، فقالت: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ فقالوا: لا، قالت: فوالله لا آخذ منه شيئاً أبداً! فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر: ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئاً أبداً.
قال عمر بن الخطاب: وكنت أول الناس أخذ بيد أبي بكر، فبايعته إلا رجل من الأنصار أدخل يده من خلفي، من بين يدي ويده، فبايعه قبلي.
قال عثمان بن عفان: إن أبا بكر الصديق أحق الناس بها - يعني بالخلافة - إنه لصدّيق، وثاني اثنين، وصاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي سعيد الخدري قال: قُبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن أنصار خليفته، كما كنا أنصاره، قال: فقام عمر بن الخطاب، فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، وبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.
قال: فصعد أبو بكرٍ المنبر، فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير، قال: فدعا الزبير، فجاء، فقال: قلت: ابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام، فبايعه، ثم نظر في وجوه
القوم، فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء، فقال: قلت: ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: جاءني مسلم بن الحجاج، فسألني عن هذا الحديث، فكتبت له في رقعة، وقرأت عليه، وقال: هذا حديث يسوى بدنة، فقلت: يسوى بدنة؟! بل هذا يسوى بدرة.
وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري، في صدر الحديث: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطباء الأنصار، فجعل منهم من يقول - وفي رواية: فجعل الرجل منهم يقول: - يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان؛ أحدهما منكم، والآخر منا، قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك.
عن عبد الله بن عباس قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فالتسمته يوماً، فلم أجده، فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر، فلما رجع قال: لو رأيت رجلاً آنفاً قال لعمر كذا وكذا، وهو يومئذٍ بمنى في آخر حجةٍ حجها عمر، فذكر عبد الرحمن لابن عباس أن رجلاً أتى عمر؛ فأخبره أن رجلاً قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، قال عمر حين بلغه ذلك: إني لقائم - إن شاء الله - في الناس، فمحذرهم الذين يغصبون الأمة أمرهم، قال عبد الرحمن: قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل ذلك يومك، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغائهم، وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك، فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالةً أن يطيروا بها، ولا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، أمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعوا مقالتك، ويضعوها مواضعها.
فقال عمر: والله لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقامٍ أقومه.
قال ابن عباس:
فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، وذاك يوم الجمعة هجرت، فوجدت سعيد بن
زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست إلى ركنٍ جانب المنبر، فجلس إلى جنبي تمس ركبتي ركبته، فلم ينشب عمر أن خرج، فأقبل يوم المنبر، فقلت لسعيد بن زيد، وعمر مقبل: أما والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالةً لم يقلها أحد قبله، فأنكر ذلك سعيد، وقال: ما عسى أن يقول أحد قبله!؟ فلما جلس على المنبر أذّن المؤذن، فلما أن سكت قام عمر، فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، ولعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي ألا يعيها فلا أحل له أن يكذب علي: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، ورجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله عز وجل، فتُترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت عليه بينة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف، ثم إنا قد كنا نقرأ ألا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تطروني كما أُطري ابن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "، ثم إنه بلغني أن فلاناً منكم يقول: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتةً فتمت فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله عز وجل وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إن علياً، والزبير، ومن معهما تخلفوا عنا، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فبينا نحن في منزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل، فقال: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون بيننا وبينهم فيه
حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من هؤلاء الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقيت أبا عبيدة بن الجراح، فأخذ أبو بكر بيده، فمشى بيني وبينه، حتى إذا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان، فذكرا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من هؤلاء الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم، فإذا هم جميع في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهارهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قلت: ماله؟ قالوا: هو وَجِع، فلما جلس تكلم خطيب الأنصار، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا، فقد دفت دافة من قومكم.
قال عمر: فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويحصنونا من الأمر، فلما قضى مقالته أردت أن أتكلم، قال: وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدة، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه - فتكلم أبو بكر، وهو كان أحلم مني، وأوقر، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلا تكلم بمثلها، أو أفضل في بديهته حتى سكت - فتشهد أبو بكرٍ، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد، أيها الأنصار، فما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم أهله، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم، فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من
أن أؤمر على قومٍ فيهم أبو بكر، إلا أن تغتر نفسي عند الموت، فلما قضى أبو بكر مقالته قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير، ومنكم أمير، يا معشر قريش، قال عمر: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى أشفقت الاختلاف، قلت: ابسط يدك يا أبا بكرٍ، فبسط أبو بكر يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، والأنصار، فنزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعداً، قال عمر: فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعداً، فإنه صاحب فتنة وشرٍّ، وإنا ما رأينا فيما حضر من أمرنا أمراً أقوى من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعةً، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكرٍ كانت فلتةً فتمت، فقد كانت فلتة ولكن الله وقى شرها، ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر.
عن حميد بن منهب قال: زرت الحسن بن أبي الحسن، فخلوت به، فقلت له: يا أبا سعيد، أما ترى ما الناس فيه من الاختلاف؟ فقال لي: يا أبا بحير، أصلح أمر الناس أربعة، وأفسده اثنان، أما الذين أصلحوا أمر الناس: فعمر بن الخطاب يوم سقيفة ساعدة حيث قالت قريش: منا أمير، وقالت الأنصار: منا أمير، فقال لهم عمر بن الخطاب: ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الأئمة من قريش؟ " قالوا: بلى، قال: أولستم تعلمون أنه أمر أبا بكر يصلي بالناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم يتقدم أبا بكر؟ قالوا: لا أحد، فسلمت لهم الأنصار، ولولا ما احتج به عمر من ذلك لتنازع الناس هذه الخلافة إلى يوم القيامة! وأبو بكر الصديق حيث ارتدت العرب، فشاور فيهم الناس، فكلهم أشار عليه بأن يقبل
منهم الصلاة، ويدع الزكاة، فقال: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجاهدتهم، ولولا ما فعل أبو بكر من ذلك لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة! وعثمان بن عفان حيث جمع الناس على هذه القراءة، وقد كانوا يقرؤونه على سبعة أحرفٍ؛ فكان هؤلاء يلقون هؤلاء، فيقولون: قراءتنا أفضل من قراءتكم، حتى كاد بعضهم أن يكفر بعضاً، فجمعهم عثمان على هذا الحرف، ولولا ما فعل عثمان من ذلك لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة، وعلي بن أبي طالب حيث قاتل أهل البصرة، فلما فرغ منهم قسم بين أصحابه ما حوى عسكرهم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تقسم بيننا إماءهم ونساءهم؟ فقال: أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ قالوا: ومن يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟! قال: أفرأيتم هؤلاء اللواتي قتل عنهن أزواجهن، أيعتددن أربعة أشهرٍ وعشراً، ويورَّثن الربع والثمن؟ قالوا: نعم، قال: فما أراهن إماءً؟ ولو كن إماءً لم يعتددن، ولم يورَّثن. ولولا ما فعل علي من ذلك لم تعلم الناس كيف تقاتل أهل القبلة.
وأما اللذان أفسدا أمر الناس: فعمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، فحكمت الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل معزولاً، فأبطأ في مسيره، فلما ورد عليه قال له: يا مغيرة، ما الذي أبطأ بك؟ قال: أمر، والله كنت أوطئه وأهّيئه، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أوفعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك! فلما خرج من عند معاوية قال له أصحابه: ما وراءك يا مغيرة؟ قال: ورائي، والله أني وضعت رجل معاوية في غرز بغيٍ لا يزال فيه إلى يوم القيامة.
قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لآبائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.
عن أنس بن مالك قال: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكرٍ إلى المنبر إزعاجاً.
عن عائشة قالت:
توفيت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاة أبيها بستة أشهرٍ، فاجتمع إلى علي أهل بيته، فبعثوا إلى أبي بكرٍ: ائتنا، فقال عمر: والله لا تأتيهم، فقال أبو بكر: والله لأتينهم، وما تخاف علي منهم؟ فجاءهم حتى دخل عليهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى عليه، ثم قال: إني قد عرفت أنكم قد وجدتم عليَّ في أنفسكم من هذه الصدقات التي وليت عليكم، ووالله ما صنعت ذلك إلا لأني لم أكن أريد أن أكل شيئاً من أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أرى أثرة فيه وعمله، إلى غيري حتى أسلك به سبيله، وأنفذه فيما جعله الله، ووالله لأن أصلكم أحب إلي من أن أصل أهل قرابتي، لقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعظيم حقه الذي جعله له على كل مسلم.
ثم تشهد علي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيراً قسمه الله لك ألاّ أن تكون أهلاً لما أسند إليك في صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنك، وفضلك؛ ولكنا قد كنا من الأمر حيث قد علمت، فتقوّل به علينا، فوجدنا في أنفسنا. وقد رأيت أن أبايع، وأدخل فيما دخل فيه الناس، وإذا كان العشية، فصلِّ بالناس الظهر، واجلس على المنبر حتى آتيك، فأبايعك.
فلما صلى أبو بكر الظهر ركب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الذي كان من أمر علي وما دخل فيه من أمر الجماعة والبيعة، وها هو ذا فاسمعوا منه.
فقام علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر أبا بكرٍ، وفضله وسنه، وأنه أهل لما ساق الله إليه من خيرٍ، ثم قام إلى أبي بكرٍ، فبايعه، فلا ترى مثلما قال الناس: جزاك الله يا أبا حسنٍ خيراً؛ فقد أحسنت وأجملت حتى لم تصدع عصا المسلمين، ولم تفرق جماعتهم، فدخل فيما دخلوا فيه، ثم انصرف.
عن صعصعة بن صوحان قال: دخلنا على علي بن أبي طالب حين ضربه ابن ملجم، فقلنا: يا أمير المؤمنين، استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم كما تركنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ دخلنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، استخلف علينا، فقال: " لا، إن يعلم الله عز وجل فيكم خيراً يول عليكم خياركم " قال علي: فعلم الله فينا خيراً فولى علينا أبا بكر.
عن أبي الزناد قال: أقبل رجل يتخلص الناس حتى وقف على علي بن أبي طالب، فقال: يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدموا أبا بكرٍ، وأنت أوفى منه منقبة، وأقدم منه سلماً، وأسبق سابقةً، قال: إن كنت قرشياً فأحسبك من عائذة، قال: نعم، قال: لولا أن المؤمن عائذ الله لقتلتك، إن أبا بكر سبقني إلى أربع، لم أبزهن ولم أعتض منهن: سبقني إلى الإمامة، وتقديم الهجرة، وإلى الغار، وإفشاء الإسلام.
عن عمرو بن شقيق الثقفي قال: لما فرغ علي من الجمل قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد إلينا في الإمارة شيئاً، ولكنه رأي رأيناه، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً من قبلنا: ولي أبو بكرٍ، فأقام واستقام، ثم ولي عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الإسلام بجرانه، ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فيعفو الله عمن يشاء، ويعذب الله من يشاء.
عن عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمدٍ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئاً فهو عند الله سيئ.
قال ابن عياش: وأنا أقول: إنهم قد رأوا أن يولوا أبا بكرٍ بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله، قال: أنا خليفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا راضٍ بذلك، وكره أن يقال: خليفة الله تعالى.
قال عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ:
الذين وقع عليهم اسم الخلافة ثلاثة، قال الله عز وجل لآدم: " إني جاعل في الأرض خليفة " قال ابن عباس: فأخرجه الله من الجنة قبل أن يدخله فيها، لأنه خليفة الأرض، خليفة فيها، وقوله تعالى لداود: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض " وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، وقالوا له: يا خليفة رسول الله، ولم يسم أحد بعده خليفةً، ويقال: إنه قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاثين ألف مسلم، كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ورضوا به ومن بعده، رضي الله عنهم.
قال أبو بكرة: أتيت عمر وبين يديه قوم يأكلون، فرمي ببصره في مؤخر القوم إلى رجلٍ، فقال: ما تجد فيما تقرأ قبلك من الكتب؟ قال: خليفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدّيقه.
عن ابن عباس قال: أبو بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مؤمنٍ ومؤمنة.
وقال الحسن: والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر.
قال أبو بكر بن عياش: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن، لأن الله تعالى يقول: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون
الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فمن سماه صادقاً فليس يكذب، هم قالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون أن أبا بكرٍ خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يجتمعون على خطأ أو ضلالة، وما كانوا يكتبون إلا إلى أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان يكتب إلا من أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما زالوا كذلك حتى توفي، فلما كان عمر بن الخطاب أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عمر: هذا يطول، قالوا: لا، ولكنا أمرناك علينا، فأنت أميرنا، قال: نعم، أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فكتب: أمير المؤمنين.
قال سفيان: ما أحسب أن الله يقبل لمن أساء الظن بالمهاجرين الأولين من تقدمة أبي بكر وعمر صوماً، ولا صلاة ولا يصعد له إلى السماء عمل.
عن شيخ من أهل الكوفة قال: لما بويع أبو بكر واستقام أمور الناس أنشأ رجل من قريشٍ يكنى أبا عمرة يقول في ذلك: من الكامل
شكراً لمن هو بالثناء حقيق ... ذهب الحِجاج، وبويع الصديق
من بعدما دحضت بسعدٍ بغلة ... ورجا رجاءً دونه العيوق
حفت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتاهم الصديق والفاروق
وأبو عبيدة والذين إليهم ... نفس المؤمل للبقاء تتوق
بالحق إذ طلبوا الخلافة زلة ... لم يخط مثل خطائهم مخلوق
فتداركوها بالصواب فبايعوا ... بعد التي فيها لنا تحقيق
إن الخلافة في قريشٍ ما لكم ... فيها ورب محمدٍ تعريق
عن رافع بن أبي رافع قال:
كنت رجلاً أغير على الناس، وأدفن الماء في أدحي النعام، فأستافه حتى أمر عليه بالفلاة، فأستثيره فلما كانت غزوة ذات السلاسل بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً، واستعمل عليهم عمرو بن العاص - وهي التي يفخر بها أهل الشام - وفيهم أبو بكر الصديق وأمرهم أن يستنفروا من مروا عليه من المسلمين، فمروا علينا في منازلنا، فاستنفرونا، فقلت: والله لأختارن لنفسي رجلاً فلأصحبنه، قال: فصحبت أبا بكر، قال: وكان له كساء فدكي، كان إذا ركب خله عليه، وإذا نزل لبسناه جميعاً، وهو الذي عيرته به هوازن، فقالوا: إذا الخلال نبايع بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!؟ قال: فقضينا غزاتنا، ثم رجعت، فقلت: يا أبا بكر، إني قد صحبتك، وإن لي عليك حقاً، فأحب أن توصيني؛ فإني لست كل ساعة أستطيع أن آتي المدينة، قال: قد أردت أن أفعل ذلك، ولو لم تقله؛ اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأقم الصلاة، وآتي الزكاة، وحج البيت وصم رمضان، ولا تأمرن على رجلين، قال: قلت: هذا: أعبُد الله وأقيم الصلاة وأؤتي الزكاة وأحج البيت وأصوم رمضان، أرأيت قولك: ولا تأمرن على رجلين؟ فوالله ما يصيب الناس الخير والشرف إلا في الإمارة في الدنيا! قال: إنك استجهدتني فجهدت لك؛ إن الناس دخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً، فهم عواذ الله، وجيران الله، وفي ذمة الله، فمن ظلم أحداً منهم فإنما يخفر ذمة الله، وإن أحدكم لتؤخذ شاة جاره وبعير جاره فيظل ناتئ عضله لجاره، والله من وراء جاره.
فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكر. قال: قلت: صاحبي الذي قال لي ما قال
لآتينه، قال: فأتيت المدينة، فالتمست خلوته حتى أتيته، قال: فسلمت عليه، وتعرفت إليه، فعرفني، فقلت له: أما تذكر قولاً قلته لي؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: قولك ولا تأمرن على رجلين! قال: بلى، إن الناس كانوا حديث عهد بكفر وإني خشيت عليهم، وإن أصحابي لم يزالوا بي، قال: فوالله ما زال يعتذر إلي حتى عذرته.
عن عروة بن الزبير قال: قام أبو بكر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وبيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلَّمنا فعلمنا فأعلمنا أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق؛ أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدعٍ، فإن أحسنت فاتبعوني، وإن زُغت فقوموني.
قال حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي: في حديث أبي بكر أنه قال: وليتكم، ولست بخيركم: مذهب هذا الكلام وطريقه مذهب التواضع وترك الاعتداد بالولاية، والتباعد من كبرياء السلطنة، ولم يزل من شيم الأبرار، ومذاهب الصالحين الأخيار أن يهتضموا أنفسهم وأن يسوغوا في حقوقهم، وقد كان له برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حين يقول: " ليس لأحدٍ أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى " وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم، أحمرهم وأسودهم.
عن الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام خطيباً، فلا والله ما خطب خطبته أحد بعد؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني وليت هذا الأمر، وأنا له كاره، ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أقم به، كان
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً أكرمه الله بالوحي، وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر، ولست بخيرٍ من أحدٍ منكم فراعوني؛ فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أن لي شيطاناً يغيّرني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم.
عن أبي هريرة قال:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبِدَ الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجه أسامة بن زيدٍ في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا بكر، رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيلٍ يريدون الارتداد ألاّ قالوا: لولا أن لهؤلاء قوةً ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم، وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
وعن عائشة قالت: خرج أبي شاهراً سيفه، راكباً على راحلته إلى ذي القَصَّة، فجاء علي بن أبي طالب، فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: " أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك " فوالله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع وأمضى الجيش.
عن يزيد الضخم قال: قلت لأبي بكر: ما أراك تنحاش لما قد بلغ من الناس، ولما يتوقع من إغارة
العدو؟ فقال: ما دخلني إشفاق من شيءٍ، ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار؛ فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين، قال لي: " هون عليك، فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام ".
عن ابن شهاب قال: من فضل أبي أنه لم يشك في الله ساعة قط.
عن علي قال: قام أبو بكر بعدما استخلف بثلاث، فقال: من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ فقلت: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان نقش خاتم أبي بكر الصديق: نعم القادر الله.
عن الحسن: " فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه " قال: أبو بكر وأصحابه.
وقرأ الحسن: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " حتى قرأ الآية، قال: فقال الحسن: فولاها أبا بكر الصديق وأصحابه.
عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: انزل عن مجلس أبي! فقال: صدقت، إنه لمجلس أبيك، قال: ثم أجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن أمري، قال: صدقت والله ما اتهمتك.
وقد روي هذا للحسين بن علي مع عمر.
وعن الضحاك: في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
عن عائشة قالت: توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها؛ اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب من كل جانب، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي في خطتها وعنانها؛ قالوا: أين ندفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فما وجدنا عند أحدٍ من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه " قالت: واختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحدٍ من ذاك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنا - معشر الأنبياء - لا نورث، ما تركنا صدقة ".
وقالت: من رأى عمر عرف أنه خلق عتّالاً للإسلام، كان والله أحْوَزِياً، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها.
عن صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
الحمد لله الذي هدى، فكفى وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعلم شريد والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب، فلا يعطيهم خيراً لخيرٍ عندهم، ولا يصرف عنهم شراً، لشرٍّ عندهم، قد غيروا كتابهم، وأتوا عليه ما ليس فيه، والعرب الأميون صِفْر من الله، لا يعبدونه، ولا يدعونه، أجهدهم عيشاً، وأضلهم ديناً، في ظلفٍ من الأرض مع قلة السحاب، فجمعهم الله بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله الله عنه، وأخذ بأيديهم،
وبغى هلكتهم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه، أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما قد فقدتم من بركة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد وكلكم إلى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، " وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها " والله لا أدع أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته، وورثته في أرضه قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " الآية، ثم نزل رحمه الله.
عن زيد بن علي قال: أبو بكر الصديق إمام الشاكرين، ثم قرأ " وسيجزي الله الشاكرين ".
عن قتادة قال: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب كلها إلا ثلاثة مساجد: مكة والمدينة والبحرين، فقالوا: أما الصلاة فإنا سنصلي، وأما الزكاة فوالله لا نُغصب أموالنا، فكلموا أبا بكرٍ أن يخلي عنهم؛ فإنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة طائعين، فقال: لا أفرق بين شيء جمعه الله، فوالله لو منعوني عقالاً فما سوى ذلك مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
فبعث الله معه عصابةً، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله حتى أقروا بالماعون، وهو الزكاة المفروضة، فسارت إليه وفود العرب، فخيرهم بين خطة مخزية، أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وذلك أنهم يشهدون على قتلاهم، أنهم في النار، وأن قتلى المسلمين في الجنة، وأن ما أصابوا من أموال المسلمين ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون من أموالهم لم يردوه عليهم.
ومن طريق ابن سعد: أن أبا بكرٍ الصديق كان له بيت مالٍ بالسنح معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا تجعل على بيت المال من يحرسه، فقال: لا يخاف، قلت: لم؟ قال: عليه قفل، وكان يعطي ما فيه لا يبقى فيه شيء، فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوله، فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها، وكان قدم عليه مال من معدن القبلية ومن معادن جهينة كثير - انفتح معدن بني سُليم في خلافة أبي بكر - فَقُدم عليه منه بصدقته، فكان يوضع ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نقراً نقراً، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يسوي بين الناس في القسم: الحر، والعبد، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير فيه سواء. وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف أتى بها من البادية، ففرّقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، فلما توفي أبو بكر، ودفن دعا عمر الأمناء، ودخل بهم بيت مال أبي بكر، ففتحوا بيت المال، فلم يجدوا فيه لا ديناراً، ولا درهماً، ووجدوا خيشةً للمال، فنفضت فوجدوا فيها درهماً، فترحموا على أبي بكر، وكان بالمدينة وزّان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مالٍ، فسئل الوزّان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ قال: مائتي ألف.
عن عائشة: أن أبا بكر حين استخلف ألقى كل دينارٍ ودرهمٍ عنده في بيت مال المسلمين، وقال: قد كنت أتجر فيه، وألتمس به فلما وليتهم شغلوني.
ومن طريق ابن سعد قال:
لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟
قالا: انطلق حتى نفرض لك شيئاً، فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاةٍ، وما كسوه في الرأس والبطن، فقال عمر: إليَّ القضاء، وقال أبو عبيدة: وإليَّ الفيء.
قال عمر: فلقد كان يأتي عليَّ الشهر ما يختصم إليَّ فيه اثنان.
عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكرٍ قال أصحاب رسول الله: افرضوا لخليفة رسول الله ما يغنيه، قالوا: نعم، برداه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف، قال أبو بكر رضيت.
وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، قال: فزادوه خمسمائة، قال: إما أن تكون ألفين فزادوه خمسمائة، أو كانت ألفين وخمسمائة فزادوه خمسمائة.
ومن طريق ابن سعد أيضاً: بويع أبو بكر الصديق يوم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان منزله بالسُّنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرةً من شعْرٍ، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزله بالمدينة، فأقام هناك بالسنح بعد ما بويع له ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرسٍ له، وعليه إزار، ورداء ممشق، فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلى بالناس، وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح، يصبغ رأسه ولحيته، ثم يروح لقدر الجمعة، فيُجَمِّع بالناس، وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم السوق، فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما كفيها، فرُعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من
الحي: الآن لا تُحلَبُ لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خُلقٍ كنت عليه؛ فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية، أتحبين أن أرغي لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالت فعل، فمكث كذلك بالسنح ستة أشهرٍ، ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره فقال: لا والله، ما يصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ، والنظر في شأنهم.
ثم اعتمر أبو بكر في رجب سنة اثنتي عشرة، فدخل مكة ضحوةً، فأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره، ومعه فتيان أحداث إلى أن قيل له: هذا ابنك، فنهض قائماً، وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته، فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبه لا تقم! ثم لاقاه، فالتزمه وقبل بين عينيه، وجعل الشيخ يبكي فرحاً بقدومه. وجاء إلى مكة عتاب بن أسيد، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، فسلموا عليه: سلام عليك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصافحوه جميعاً فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سلموا على أبي قحافة، فقال أبو قحافة: يا عتيق، هؤلاء الملأ، فأحسن صحبتهم، فقال أبو بكر: إنه لا حول ولا قوة إلا بالله؛ طوقت عظيماً من الأمر، ولا قوة لي به، ولا يدان إلا بالله، ولقيه الناس يعزونه بنبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يبكي، حتى انتهى إلى البيت فاضطبع بردائه، ثم استلم الركن، ثم طاف سبعاً، وركع ركعتين، ثم انصرف إلى منزله فلما كان الظهر خرج، فطاف أيضاً بالبيت، ثم جلس قريباً من دار الندوة، فقال: هل من أحدٍ يتشكى من ظلامة، أو يطلب حقاً؟ فما أتاه أحد، وأثنى الناس على واليهم خيراً، ثم صلى العصر، وجلس، فودعه الناس ثم خرج راجعاً إلى المدينة، فلما كان وقت الحج سنة اثنتي عشرة حج أبو بكر بالناس تلك السنة، وأفرد الحج، واستخلف على المدينة عثمان ابن عفان.
عن محمد بن سيرين قال:
لم يكن أحد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي
بكر لما لا يعلم من عمر، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد لها في كتاب الله أصلاً ولا في السنة أثراً، فقال: أجتهد برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله.
عن زيد بن أرقم قال: دعا أبو بكر بشرابٍ، فأُتي بماءٍ وعسل، فلما أدناه من فيه نحاه ثم بكى حتى بكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقوون على مسكته، ثم أفاق، فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولم أر أحداً معه، فقلت: يا رسول الله، ما هذا الذي تدفع، ولا أرى معك أحداً، قال: " هذه الدنيا تمثلت لي، فقلت لها: إليك عني، فتنحت، ثم رجعت، فقالت: أما إنك إن أفلتَّ فلن يفلت مني من بعدك " فذكرت ذلك، فخفت أن تلحقني.
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال أبو بكر يوماً: ورأى الطير واقعاً على شجرةٍ، فقال - طوبى لك يا طائر! لوددت أني كنت مثلك! تقع على الشجر، وتأكل الثمر ثم تطير ولا حساب عليك ولا عذاب؛ والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق، فمر علي بعير، فأخذني وأدخلني فاه فلاكني، ثم ازْدَردَني فأخرجني بعراً، ولم أكن بشراً.
عن ابن مُليكة قال: كان ربما سقط الخطام من أبي بكرٍ الصديق، قال: فيضرب بذراع ناقته، فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حِبّي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً.
عن ابن العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكرٍ الصديق في جمعٍ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل شربت الخمر في
الجاهلية؟ فقال: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي؛ فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه ومروءته، قال: فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " صدق أبو بكر، صدق أبو بكر " مرتين.
عن عبد الله بن الزبير قال: ما قال أبو بكرٍ شعراً قط، ولكنكم تكذبون عليه.
عن معروف بن خربوذ: أن أبا بكر الصديق أحد عشرةٍ من قريش اتصل لهم شرف الجاهلية بشرف الإسلام.
قال الزبير بن بكار سمعت بعض أهل العلم يقول: خطباء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب.
عن موسى بن عقبة أن أبا بكر الصديق كان يخطب فيقول: الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت، فإنه قد دنا أجلي وأجلكم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق مبشراً ونذيراً، وسراجاً منيراً " لينذر من كان حياً ويَحِقَّ القول على الكافرين " ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبيناً أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم، وهداكم به، فإن جوامع هدى الإسلام بعد كلمة الإخلاص السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم وإتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى، والطمع، والغضب، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من ترابٍ، ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي، وغداً ميتاً، فاعملوا يوماً بيوم، وساعةً بساعةٍ، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، واصبروا: فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع، واعملوا فالعمل يقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعه فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا أو تفهموا واتقوا أو تَوَقُّوا: فإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجى به من
نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يحب من الأعمال، وما يكره؛ فإني لا ألوكم ونفسي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، وإن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسب يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه سوءاً إلا بطاعته، وإتباع أمره، فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلوات الله على نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عن عبد الله بن عُكَيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً، وكانوا لنا خاشعين " ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقّه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم، لا يُطفأ نوره، ولا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا بنوره، وانتصحوا كتابه، واستضيئوا منه ليوم الظلمة فإنه إنما خلقكم لعبادته، ووكل بكم كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون، ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم، وتردكم إلى أسوأ أعمالكم؛ فإن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، فالوَحَى الوَحَى، ثم النجاءَ النجاءَ؛ فإن وراءكم طالباً حثيثاً مره سريع.
عن ابن عيينة قال: كان أبو بكر الصديق إذا عزى رجلاً قال: ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع
فائدة، الموت أهون ما قبله، وأشد ما بعده، اذكروا فقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصغر مصيبتكم، وأعظم الله أجركم.
عن ابن عباس: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ. " قال: نزلت في عشرة: في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن مسعود.
وقال: نزلت في أبي بكر الصديق: " ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً " إلى قوله: " وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ".
عن الضحاك في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
عن عكرمة: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قال: أبو بكر وعمر.
عن الربيع بن أنس قال: مكتوب في الكتاب الأول: مثل أبي بكر الصديق مثل القطر أينما وقع نفع.
عن عبد الله بن حسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر منا أهل البيت ".
قال عمر: إن أبا بكر كان سابقاً مبرزاً، وقال: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر.
ورأى رجل عمر وهو يتصدق عام الرمادة، فقال: إن هذا لحبر هذه الأمة بعد نبيها، قال: فعمد عمر، وجعل يضرب صلعة الرجل بالدرة، ويقول: كذب الآخر، أبو بكر خير مني، ومن أبي، ومنك، ومن أبيك.
وقال رجل لعمر: يا خير الناس - أو ما رأيت أميراً خيراً منك - فقال: هل رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، قال: فهل رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: لو أخبرتني أنك رأيت واحداً منهما لأوجعتك!.
وقال نفر لعمر: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عوف بن مالك: كذبتم لقد رأيت خيراً منه غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل إليه عمر، فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، لقد كان أبو بكر أطيب من المسك، وإني لمثل بعير أهلي.
وقال عمر: ليتني شعرةً في صدر أبي بكر.
وقال عبد الله بن عمر: كنا نقول ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: أفضل أمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان - وزاد في رواية: فيبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينكر.
وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبتِ، من خير هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: أبو بكر يا بني، قلت: ثم من؟ قال: عمر، فخفت من أن قلت: ثم من؟ أن يقول عثمان: قلت: ثم أنت يا أبه؟ قال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين.
عن عبد خير الهمداني - وكان أمير شرطة علي - قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: فذكر أبا بكر، ثم قال: ألا أخبركم
بالثاني؟ قال: فذكر عمر، ثم قال: لو شئت لأنبأتكم بالثالث، قال: وسكت، فرأينا أنه يعني نفسه، فقيل: أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم ورب الكعبة، وإلا فَصُمّتا.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أنا الأول، وأبو بكر المصلي، وعمر الثالث، والناس من بعدنا الأول فالأول ".
عن قيس الخارفي قال: سمعت علياً يقول: سبق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر.
عن أبي سريحة قال: سمعت علياً يقول على المنبر: ألا إن أبا بكر أوّاه منيب القلب، ألا إن عمر ناصح الله فنصحه.
عن علي قال: إن أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر الصديق، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين.
وسئل علي عن أبي بكر وعمر، فقال: كانا إمامَي هدىً، راشدَين مرشدين مفلحين منجحين خرجا من الدنيا خميصين.
وقال: إن الله عز وجل جعل أبا بكرٍ وعمر حجةً على من بعدهم من الولاة إلى يوم القيامة، سبقا والله سبقاً بعيداً، وأتعبا من بعدهم إتعاباً شديداً، فذكرهما حرب للأمة، وطعن على الأئمة.
وقال: لا أجد أحداً يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
وقال: وهل أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر.
مر رجل من التابعين يقال له سويد بن غفلة برجلين من أصحاب علي، وهما ينتقصان أبا بكرٍ وعمر، فلم يملك نفسه أن ذهب إلى عليٍّ، فقرع الباب، فخرج فقال: يا أبا حسن، إني مررت بفلانٍ وفلان صاحبيك، وهما ينتقصان أبا بكرٍ، وعمر، وايم الله، لو لم تضمر مثل ما أبديا ما اجترأ على ذلك! قال: فغضب علي غضباً شديداً حتى استُدِرَّ عرق بين عينيه، ونودي بالصلاة جامعةً، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: تجندت عليَّ الجنود، ووردت علي الوفود عند مستقر الخطوب، وعند نوائب الدهر: ما بال أقوامٍ يذكرون سيدي قريشٍ، أبوي المؤمنين بما ليسا من هذه الأمة بأهل، وبما أنا عنه منزه، ومنه بريء، وعليه معاقب؟! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا منافق ردي.
عن ابن عباس: أنه سئل عن أبي بكرٍ، فقال: كان والله خيراً كله، وسئل عن عمر، فقال: كان والله كالطير الحذر الذي ينصب له في كل طريقٍ شرك، وكان يعمل على ما يرى مع العنف، وشدة النشاط، وسئل عن عثمان، فقال: كان والله صواماً قواماً، قارئاً للقرآن، من رجل غرته نومته من يقظته، وسئل عن علي، فقال: كان والله مزكوناً علماً وحلماً، من رجل غرته سابقته من أن لن يمد يده إلى شيءٍ إلا اتبعه، فوالله ما رأيته مد يده إلى شيء إلا خالفه.
عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: ولينا أبو بكر فخير خليفة؛ أرحمه بنا، وأحناه علينا.
عن عائشة:
أنها بلغها أن قوماً تكلموا في أبيها، فبعثت إلى أزفلةٍ من الناس، وعلت وسادتها، وأرخت ستارتها، ثم قالت: أبي، وما أبيه، أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود
منيف، وظل مديد، هيهات! كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئاً، وكهفها كهلاً، يريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها حتى حليته قلوبها، ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته، في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المبطلون، وكان - رضي الله عنه - غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانقصفت عليه نسوان أهل مكة، وولدانهم يسخرون منه، ويستهزئون به " الله يستهزئ بهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون " وأكبرت ذلك رجالات قريشٍ فحنت قسيها، وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضاً، فما فلوا له صفاة، ولا قصموا له
قناةً، ومضى على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقةٍ أرسالاً وأشتاتاً اختار الله لنفسه ما عنده، فلما قبض الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضطرب حبل الدين، ومرج أهله، وبغى الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نُهَزُها، ولات حين يظنون، وأنى، والصديق بين أظهرهم؟! فقام حاسراً مشمراً، فرقع حاشيتيه بطبه، وأقام أوده بثقافه حتى امذقر النفاق، فلما انتاش الدين بنعشه، وأراح الحق على أهله، وقرت الرؤوس في كواهلها، وحقن الدماء في أهبها حضرت منيته فسد ثلمته بنظيره في السيرة والمرحمة، ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملت به ودرت عليه! لقد أوجدت به، فديّخ الكفرة وفنخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض فنجعها حتى قاءت أكلها، ترأمه ويصد عنها، وتصدّى له، فيأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم فرغ فيئها، ثم تركها كما
صحبها، فأروني ماذا ترتؤون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ثم التفتت إلى الناس، فقالت: سألتكم بالله، هل أنكرتم مما قلت شيئاً؟ قالوا: اللهم لا!.
عن أبي عبد الرحمن الأزدي قال: لما انقضى الجمل قامت عائشة، فتكلمت، فقالت: أيها الناس إن لي عليكم حرمة الأمومة، وحق الموعظة لا يتهمني إلا من عصى ربه، قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، ادخرني ربي، وحصنني من كل بضاعة، وبي مُيّز مؤمنكم من منافقكم، وفيّ رخص لكم في صعيد الأقواء وأبي رابع أربعةٍ من المسلمين، وأول من سمي صديقاً، قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنه راضٍ، فطوقه وهف الأمانة، ثم اضطرب حبل الدين، فأخذ بطرفيه، وربق لكم أثناءه، فوقد النفاق وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم
حينئذٍ جحظ، تنتظرون العدوة، وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي، وأؤذم العطلة، وامتاح من المهواة، واجتهر دفن الرواء، فقبضه الله واطئاً على هامة النفاق، مذكياً نار الحرب للمشركين، يقظان في نصرة الإسلام صفوحاً عن الجاهلين.
عن مسروق قال: حب أبي بكر وعمر، ومعرفة فضلهما من السنة.
وقد روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود.
عن أنس قال: رحم الله أبا بكر وعمر أمرهما سُنة.
وقال الحسن: قدمهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن ذا الذي يؤخرهما.
وقال: ثلاثة لا يربعهم أحد أبداً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر.
وقال الأعمش: ما كنت أرى أني أعيش في زمانٍ أسمعهم يفضلون فيه على أبي بكر وعمر.
عن طلحة اليامي قال: كان يقال: الشاك في أبي بكر وعمر كالشاك في السنة.
وقال أبو أسامة: أتدرون من أبو بكر وعمر؟ هما أبوا الإسلام وأمه.
فذكر ذلك لأبي أيوب الشاذكوني، فقال: صدق.
وقال أبو حسين: ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكرٍ الصديق ولقد قام ليوم الردة مقام نبي من الأنبياء.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لأرجو لأمتي في حب أبي بكر وعمر ما أرجو لهم في قول: لا إله إلا الله ".
عن مالك بن أنس قال: قال أمير المؤمنين هارون لي: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا أمير المؤمنين قربهما منه في حياته كقرب قبرهما من قبره، فقال: شفيتني يا مالك، شفيتني يا مالك!
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكرٍ؟ قال: يُقتل، قلت: سب عمر؟ قال: يُقتل.
قال ربعي بن خراش: قذف المحصنة يهدم عمل سبعين سنةً، وشتم أبي بكر وعمر يهدم عمل مائة سنةٍ.
قال جعفر بن محمد: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكرٍ وعمر.
عن حيان الهجري قال: كان لي جليس يذكر أبا بكرٍ وعمر، فأنهاه فيُغْرَى، فأقوم عنه، فذكرهما يوماً، فقمت عنه مغضباً، واغتممت مما سمعت، إذ لم أرد عليه الرد الذي ينبغي فنمت، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي كأنه أقبل ومعه أبو بكر وعمر، فقلت: يا رسول الله، إن لي جليساً يؤذيني في هذين، فأنهاه فيغرى، ويزداد، قال: فالتفت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجلٍ قريب منه، فقال: " اذهب إليه فاذبحه " فذهب الرجل إليه، وأصبحت، فقلت: إنها لرؤيا، فلو أتيته فخبرته لعله ينتهي، قال: فمضيت أريده، فلما صرت قريباً من داره إذا الصراخ، قلت: ما هذا؟ قالوا: فلان، طرقته الذبحة في هذه الليلة فمات.
عن إسماعيل بن أبي خالد قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير: بسم الله الرحمن الرحيم: من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، فإنك كتبت إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة؛ وإنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصح أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى، وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره، وغشيناه بردين وكساء، فأتاني آتٍ وأنا أسبح بعد المغرب، فقال: إن زيداً قد تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسرعاً، وقد حضره قوم من الأنصار، وهو يقول - أو يقال على لسانه -: الأوسط أجلد القوم، الذي كان لا يبالي في الله لومة لائمٍ، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد الله أمير المؤمنين، صدق، صدق، كان ذلك في الكتاب الأول، قال: ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي الناس من ذنوب كثيرة، خلت اثنتان، وبقي أربع، واختلف الناس، وأكل بعضهم بعضاً فلا نظام، وأبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنون فقالوا: كتاب الله وقدره، أيها الناس أقبلوا على أميركم، واسمعوا وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدن دماً، كان أمر الله قدراً مقدوراً، الله أكبر، هذه الجنة، وهذه النار، ويقول النبيون والصديقون: سلام عليك يا عبد الله بن رواحة، هل أحسست لي خارجة؟ - لأبيه - وسعداً اللذين قتلا يوم أحد " كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى " ثم خفت صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه، فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا فنظر بعضنا إلى بعضٍ فإذا الصوت من تحت الثياب فكشفنا عن وجهه، فقال: هذا أحمد رسول الله، سلام عليك، يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين، خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ضعيفاً في جسمه، قوياً في أمر الله عز وجل صدق، صدق، وكان في الكتاب الأول.
وكان زيد بن خارجة من سروات الأنصار، وكان أبوه خارجة بن سعد حيث هاجر
أبو بكر نزل عليه في داره، وتزوج ابنته، وقتل أبوه وأخوه سعد بن خارجة يوم أحد، فمكث بعدهم حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خلافة أبي بكر وعمر، وشيئاً من خلافة عثمان؛ فبينا هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر، فتوفي، فأعلمت به الأنصار، فأتوه، فاحتملوه إلى بيته.
عن مسلم الطبين قال: من الكامل
أنى تعاتب، لا أبا لك، عصبةً ... علقوا الفرى، وبروا من الصديق
وبروا سفاهاً من وزير نبيهم ... تباً لمن يبرا من الفاروق
إني على رغم العداة لقائل ... دانا بدين الصادق المصدوق
عن زياد بن حنظلة قال: كان سبب موت أبي بكر الكمد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على قوته في أمر الله، فمرض بعد خروج خالد من العراق إلى الشام، وثقل بعد قدوم خالد على أهل اليرموك، ومات قبل الفتح بأيامٍ.
وعن ابن شهاب:
أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله إن فيها لسم سنةٍ، وأنا وأنت نموت في يومٍ واحدٍ! قال: فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يومٍ واحدٍ عند انقضاء السنة.
قالوا: كان أول بدء مرض أبي بكرٍ أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً، لا يخرج إلى صلاةٍ، وكان يأمر عمر بن
الخطاب يصلي بالناس، ويدخل الناس عليه يعودونه، وهو يثقل كل يومٍ، وهو نازل يومئذٍ في داره التي قطع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه.
قال أبو السفر: دخلوا على أبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟ قال: قد نظرت إلي، قالوا: ما قال لك؟ قال: قال: " إني فعال لما أريد ".
وروى ابن سعد من طرق: أن أبا بكرٍ الصديق لما استعز به دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمرٍ إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: أنت أخبرنا به - فقال: على ذلك أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك، وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضى، ويسخط للسخط، الذي يُسِرُّ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وسمع بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر، وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكرٍ، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته؟! فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفوني!؟ خاب من تزود من أمركم بظلمٍ! أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك! ثم اضطجع، ودعا عثمان، فقال اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم أل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئٍ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون " والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم أمر بالكتاب، فختمه، فقال بعضهم: لما أملى أبو بكر صدر هذا الكتاب بقي ذكر عمر، فذهب به قبل أن يسمي أحداً، فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ علي ما كتبت، فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن أفتلت نفسي في غشيتي تلك، فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها أهلاً، ثم أمره، فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب، وأسيد بن سعية القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا. ثم دعا أبو بكر عمر خالياً، فأوصاه بما أوصاه، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه مداً، فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم برأيي، فوليت عليهم خيرهم، وأقواه عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم واليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبي الرحمة، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته.
عن زبيد أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب:
إني موصيك بوصية - إن حفظتها - إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حقاً لا يقبله في النهار، وإنه لا يقبل نافلةً حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم في الدنيا الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، ولإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم في الدنيا الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف، وإن الله عز وجل ذكر أهل الجنة وصالح ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، فيقول قائل: أنا أفضل من هؤلاء، وذكر آية الرحمة، وآية العذاب، ليكون المؤمن راغباً راهباً ولا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة.
فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن أمر أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه! وعن الأعرابي مالك قال: لما أراد أبو بكر أن يستخلف عمر بعث إليه، فدعاه، فقال: إني أدعوك إلى أمرٍ متعب لمن وليه، فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن المتقي آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروض لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق، وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيته، وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تخف يدك من دمائهم، وأن تصم بطنك من أموالهم، وان يخف لسانك عن أعراضهم فافعل، ولا قوة إلا بالله.
عن عبد الرحمن بن عوف: أنه دخل على أبي في مرضه الذي توفي فيه، فأصابه مفيقاً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر: تراه؟ قال: نعم، قال: إني على ذلك لشديد الوجع، وما لقيت منكم، يا معشر المهاجرين، أشد علي من وجعي إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، ولهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألمون بالانضجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حدٍّ خير له من أن يخوض غمرة الدنيا! وأنتم أول ضال بالناس غداً، فيصفقون عن الطريق يميناً وشمالاً يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البحر.
فقال له عبد الرحمن: خَفِّض عليك يرحمك الله، فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك رجلان: إما رجل رأى ما رأيت، فهو معك، وإما رجل رأى ما لم ترَ، فهو يشير عليك بما يعلم، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحاً مصلحاً مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا، فقال أبو بكر: أجل، لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لو تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني لو فعلتهن، وثلاث وددت لو أني سألت عنهن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما التي وددت أني تركتهن: يوم سقيفة بني ساعدة وددت لو أني ألقيت هذا الأمر في عنق أحد هذين الرجلين - يعني عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً، ووددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيء، مع أنهم أغلقوه على الحرب، ووددت أني لو لم أكن
حرقت الفجاءة السلمي، وأني كنت قتلته سريحاً، أو خليته نجيحاً، وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني كنت فعلتهن: وددت لو أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، ووددت أني يوم وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت كلتا يدي في سبيل الله، ووددت أني حين أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه، ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن هذا الأمر بعده؟ فلا ينازعه أحد، ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل للأنصار فيه شيء؟ ووددت أني سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ميراث بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي منها شيء.
عن محمد بن سيرين: أن أم المؤمنين عائشة كانت عند أبي بكر وهو في الموت، فقالت: من الطويل
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: بل هكذا قولي " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ".
عن أنسٍ قال:
أطفنا بغرفة أبي بكر الصديق في مرضته التي قبض فيها، قال: فقلنا: كيف أصبح، أو كيف أمسى خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فاطلع علينا اطلاعةً فقال: ألستم ترضون بما أصنع؟ قلنا: بلى قد رضينا، قال: وكانت عائشة هي تمرضه، قال: فقال: أما إني قد كنت حريصاً على أن أوفر في المسلمين فيئهم مع أني قد أصبت من اللحم
واللبن، فانظروا إذا رجعتم مني، فانظروا ما كان عندنا فأبلغنه عمر، قال: فذاك حيث عرفوا أنه استخلف عمر، قال: وما كان عنده ديناراً ولا درهم، ما كان إلا خادم، ولقحة، ومحلب، فلما رأى ذلك عمر يُحمل إليه قال: يرحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وعن محمد قال: توفي أبو بكر الصديق وعليه ستة آلاف درهم كان أخذها من بيت المال، فلما حضرته الوفاة قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم، وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها، فلما توفي أبو بكر ذكر ذلك لعمر، فقال: يرحم الله أبا بكر لقد أحب ألا يدع لأحدٍ بعده مقالاً، وأنا والي الأمر بعده، وقد رددتها عليكم.
عن عائشة قالت: قال أبو بكر: انظروا إلى ما زاد في مالي منذ دخلت في هذه الإمارة فردوه إلى الخليفة من بعدي، فإني قد كنت أسلخه جهدي إلا الودك فإني قد كنت أصبت منه نحواً مما كنت أصيب من التجارة، قالت: فنظرنا، فوجدنا زاد فيه ناضح، وغلام نوبي كان يحمل صبياً له، قالت: فأرسلت به إلى عمر، قالت: فأخبرني جدي أنه بكى، ثم قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده إتعاباً شديداً.
ولما اشتد مرض أبي بكر، وأغمي عليه، فأفاق، قال: أي يومٍ توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: يوم الاثنين، قال: إني لأرجو من الله عز وجل ما بيني وبين الليل، فمات ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح وقال: في كم كفنتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: كفناه في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلي ثوبي هذا، وبه ردع زعفرانٍ أو مشقٍ، واجعلوه مع ثوبين جديدين،
قلت: إنه خلق، قال الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهلة، - يعني ما يخرج منه - فكفن في ثلاثة أثواب سحولٍ يمانية.
عن ابن أبزى في قوله تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية " قال: قال أبو بكر: ما أحسنها يا رسول الله! قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما إنها ستقال لك يا أبا بكر ".
عن عطاء أن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء، فإن لم تستطع استعانت بعبد الرحمن بن أبي بكر.
وفي رواية: فإن عجزت أعانها ابنه منه محمد، ولا يصح ذلك، لأنه كان له يوم توفي أبو بكر ثلاث سنين أو نحوها.
عن حبة العرني، عن علي بن أبي طالب قال: لما حضرت أبا بكرٍ الوفاة أقعدني عند رأسه، وقال لي: يا علي، إذا أنا مت فغسلني بالكف الذي غسلت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحنطوني، واذهبوا بي إلى البيت الذي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوا، فإن رأيتم الباب قد تفتح فادخلوا بي، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين حتى يحكم الله بين عباده، قال: فغُسل وكفن، وكنت أول من بادر إلى الباب، فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فرأيت الباب قد تفتح، فسمعت قائلاً يقول: أدخلوا الحبيب إلى حبيبه، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
قال الحافظ: هذا منكر، والمحفوظ أن الذي غسل أبا بكر امرأته أسماء بنت عميس.
عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعدان: أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، وعزم عليها أن تفطر ليكون أقوى لها، ففعلت، فلما كان من آخر النهار دعت بماء، فأفطرت عليه، وقالت: لا أتبعه اليوم حنثاً.
عن أسيد بن صفوان - وكانت له صحبة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
لما كان اليوم الذي قبض فيه أبو بكر رجَّت المدينة بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء علي بن أبي طالب باكياً مسرعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقفت على البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاماً، وأكملهم إيماناً، وأخوفهم لله، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناءً، وأحوطهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدبهم على الإسلام، وآمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبةً، وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأرفعهم درجةً، وأقربهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلساً، وأشبههم به هدياً، وخلقاً، وسمتاً، وفعلاً، وأشرفهم منزلةً، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً؛ صدقته حين كذبوه، فسماك الله صديقاً، فقال: " والذي جاء بالصدق " محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وصدَّق به " أبو بكر الصديق، أعطيته حين بخلوا وقمت معه حين عنه قعدوا، وصحبته بأحسن الصحبة، ثاني اثنين صاحبه، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، ومواطن الكره، خلفته في أمته أحسن خلافة حين ارتد الناس، وقمت بدين الله قياماً لم يقمه خليفة نبيٍّ؛ قويت حين ضعف أصحابه، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كنت خليفته حقاً، لم تنازع، ولم تصد برغم المنافقين، وصغر الفاسقين، وغيظ الكافرين، وكره الحاسدين، قمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تقبَّضوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا، واتبعوك فهدوا، كنت أخفضهم صوتاً، وأعلاهم فوقاً وأطولهم صمتاً، وأصوبهم نطقاً، وأبلغهم كلاماً، وأكثرهم أناةً، وأشرحهم قلباً، وأشدهم نفساً، وأسدهم عقلاً، وأعرفهم بالأمور كنت أولاً حين تفرق عنه، وآخراً حين فشلوا، كنت للمؤمنين أباً رحيماً، صاروا عليك عيالاً،
تحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما أضاعوا، ورعيت ما أهملوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت آثار ما طلبوا، وناولوا بك ما لم يحتسبوا كنت على الكفار عذاباً واصباً، وللمسلمين غناءً وحصناً، فطرت بغنائها وذهبت بفضائلها، وأحرزت سوابقها: لم تفلل حجتك، ولم يرع قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمن الناس في صحبتك وذات يدك، عوناً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، خليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين، لم يكن لأحد فيك مطمعاً، ولا لقائل مغمز، ولا لأحدٍ عندك هوادة: الضعيف الذليل عندك قوي حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ذليل حتى تأخذ منه الحق، فالعزيز والضعيف عندك سواء في ذلك، شأنك الحق والرفق، قولك حق وحتم، وأمرك احتياط وحزم.
أقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، وقوي الإسلام، وظهر أمر الله ولو كره المشركون، وسبقت والله سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالحق فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وكهفاً، وللمسلمين حصناً، وعلى المنافقين غيظاً، فالحمد لله، لا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك.
وسكت القوم حتى انقضى كلامه، وبكوا، وقالوا: صدقت يابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل علي على أبي بكر بعدما سُجي قال: ما أحد ألقى الله بصحبته أحب إلي من هذا المسجى.
عن جد الأصمعي قال: وقفت عائشة على قبر أبيها فقالت: رحمك الله يا أبه، لقد قمت بالدين حين وهى سعيه، وتفاقم صدعه، ورحبت جوانبه، وبغضت ما أصغوا إليه، شمرت فيما ونوا عنه، واستخففت من دنياك ما استوطنوا، وصغرت منها ما عظموا، ولم تهضم دينك، ولم تنسى غدك، ففاز عند المساهمة قدحك، وخف مما استوزروا ظهرك حتى قررت الرؤوس على كواهلها، وحقنت الدماء في أهبها - يعني في الأجساد - فنضر الله وجهك يا أبه، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها، وللآخرة معزاً بإقبالك عليها، ولكأن أجل الرزايا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رزؤك، وأكبر المصائب فقدك، فعليك سلام الله ورحمته غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
عن الأصمعي:
أن قوم خفاف بن ندبة السلمي ارتدوا، وأبى أن يرتد، وحسن ثباته على الإسلام، فقال في أبي بكر شعراً قوافيه ممدودة مقيدة: من السريع
ليس لشيءٍ غير تقوى الله جداء ... وكل خلق عمره للفناءْ
إن أبا بكرٍ هو الغيث إذ ... لم تزرع الأمطار بقلاً بماء
المصطفي الجرد بأرسانها ... والناعجات المسرعات النجاء
والله لا يدرك أيامه ... ذو طرةٍ ناش ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرض فضاء
الشد: العدو.
عن البجلي: أن أبا بكر الصديق لما مات حمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت عائشة، ونزل في قبره: عمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
وسئل سعيد بن المسيب: أين صلي على أبي بكر؟ فقال: بين القبر والمنبر، وكبر عليه عمر أربعاً.
وقبر أبو بكر ليلاً.
وعن عروة والقاسم بن محمد: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما توفي حفر له، وجُعل رأسه عند كتفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألصق اللحد بقبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبر هناك.
وتوفي أبو بكر مساء الاثنين، ودفن ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر وأياماً، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، هذا هو الصحيح المتواتر، وقيل غيره.
ووهم الحافظ من قال: إنه توفي وهو ابن ستين سنة.
عن سعيد بن المسيب قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتجت مكة بصوتٍ عالٍ، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فمن استخلف الناس بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد شمس، وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: فإنه لا مانع لما
أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، فلما قبض أبو بكر ارتجت مكة بصوتٍ عالٍ دون ذلك، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: ابنك مات، فقال أبو قحافة: هذا خبر جليل - أو قال: رزء جليل - من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال: صاحبه.
عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: ورث أبا بكرٍ أبوه أبو قحافة السدس، وورثه معه ولده: عبد الرحمن، ومحمد، وعائشة، وأسماء، وأم كلثوم بنو أبي بكر، وامرأتاه: أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بلحارث بن الخزرج، وهي أم أم كلثوم.
وعن مجاهد: كُلِّم أبو قحافة في ميراثه من أبي بكر الصديق، فقال: قد رددت ذلك على ولد أبي بكر، قالوا: ثم لم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياماً، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة، وهو ابن سبع وتسعين سنة.
عبد الله بن لهيعة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمي ويقال الغافقي قاضي مصر روى عن عبد الرحمن الأعرج وأبي يونس مولى أبي هريرة
وأبي الزبير روى عنه ابن المبارك وابن وهب والمقرئ سمعت ( م ) أبي يقول ذلك.
نا عبد الرحمن صالح بن أحمد [بن محمد - ] بن حنبل نا علي [يعني - ] ابن المديني قال سمعت يحيى [يعني - ] ابن سعيد القطان قال قال بشر بن السري: [لو رأيت - ] ابن لهيعة لم تحمل عنه حرفا.
نا عبد الرحمن سمعت أبي يحكى عن الحميدي قال: كان يحيى بن سعيد لا يرى ابن لهيعة شيئا.
نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد [بن حنبل - ] نا علي - يعني ابن المديني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي وقيل له نحمل عن ابن لهيعة قال: لا، لا تحمل عنه قليلا ولا كثيرا، كتب إلي ابن لهيعة كتابا فيه ثنا عمرو بن شعيب فقرأته على ابن المبارك فأخرج إلي ابن المبارك من كتابه عن ابن لهيعة فإذا: حدثني إسحاق بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب.
نا عبد الرحمن نا أبي قال سمعت إبراهيم بن موسى يحكى عن بعض المراوزة عن ابن المبارك أنه سمع رجلا يذكر ابن لهيعة فقال: تداراب ابن لهيعة يعني قد ظهرت عورته.
نا عبد الرحمن سمعت أبي
يقول سمعت ابن أبي مريم يقول: حضرت ابن لهيعة في آخر عمره وقوم كن أهل بربر يقرءون عليه من حديث منصور والأعمش والعراقيين فقلت [له - ] يا أبا عبد الرحمن ليس هذا من حديثك، فقال بلى، هذه أحاديث قد مرت على مسامعي.
فلم أكتب عنه بعد ذلك.
نا عبد الرحمن حدثني أبي قال قال يحيى بن عبد الله بن بكير: احترق كتب ابن لهيعة في سنة سبعين ومائة.
وقال ابن ابي مريم: ما اقر به قبل الاحتراق وبعده.
نا عبد الرحمن نا علي بن الحسن الهسنجانى
قال قال أحمد بن سنبويه قلت لابي الاسود النصر بن عبد الجبار كان لابن لهيعة كتب؟ قال: ما علمت.
نا عبد الرحمن نا حرب بن إسماعيل الكرماني فيما كتب إلى قال سألت أحمد بن حنبل عن ابن لهيعة فضعفه.
نا عبد الرحمن أنا أبو بكر ابن أبي خيثمه فيما كتب إلي قال سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الله ابن لهيعة ليس حديثه بذلك القوي: ثنا عبد الرحمن أنا يعقوب [بن إسحاق - ] [الهروي - ] فيما كتب إلى ثنا عثمان [بن سعيد - ] قال قلت ليحيى بن معين: كيف رواية ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر؟ فقال: ابن لهيعة ضعيف الحديث.
نا عبد الرحمن نا محمد بن إبراهيم قال سمعت عمرو بن علي يقول: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك ( م ) وعبد الله بن يزيد
المقري اصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث.
نا عبد الرحمن قال سألت أبي وأبا زرعة عن ابن لهيعة والأفريقي أيهما أحب إليكما.
فقالا: جميعا ضعيفان، بين الإفريقي وابن لهيعة كثير، أما ابن لهيعة فأمره مضطرب، يكتب حديثه على الاعتبار.
قلت لأبي: إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك [وابن وهب - ] يحتج به؟ قال: لا.
نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره واوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ
وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه من أجمل القول فيه.
ثنا عبد الرحمن حدثني أبي نا محمد بن يحيى بن حسان قال سمعت أبي يقول: ما رأيت أحفظ من ابن لهيعة بعد هشيم قلت له: إن الناس يقولون احترق كتب ابن لهيعة، فقال: ما غاب له كتاب.
وأبي الزبير روى عنه ابن المبارك وابن وهب والمقرئ سمعت ( م ) أبي يقول ذلك.
نا عبد الرحمن صالح بن أحمد [بن محمد - ] بن حنبل نا علي [يعني - ] ابن المديني قال سمعت يحيى [يعني - ] ابن سعيد القطان قال قال بشر بن السري: [لو رأيت - ] ابن لهيعة لم تحمل عنه حرفا.
نا عبد الرحمن سمعت أبي يحكى عن الحميدي قال: كان يحيى بن سعيد لا يرى ابن لهيعة شيئا.
نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد [بن حنبل - ] نا علي - يعني ابن المديني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي وقيل له نحمل عن ابن لهيعة قال: لا، لا تحمل عنه قليلا ولا كثيرا، كتب إلي ابن لهيعة كتابا فيه ثنا عمرو بن شعيب فقرأته على ابن المبارك فأخرج إلي ابن المبارك من كتابه عن ابن لهيعة فإذا: حدثني إسحاق بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب.
نا عبد الرحمن نا أبي قال سمعت إبراهيم بن موسى يحكى عن بعض المراوزة عن ابن المبارك أنه سمع رجلا يذكر ابن لهيعة فقال: تداراب ابن لهيعة يعني قد ظهرت عورته.
نا عبد الرحمن سمعت أبي
يقول سمعت ابن أبي مريم يقول: حضرت ابن لهيعة في آخر عمره وقوم كن أهل بربر يقرءون عليه من حديث منصور والأعمش والعراقيين فقلت [له - ] يا أبا عبد الرحمن ليس هذا من حديثك، فقال بلى، هذه أحاديث قد مرت على مسامعي.
فلم أكتب عنه بعد ذلك.
نا عبد الرحمن حدثني أبي قال قال يحيى بن عبد الله بن بكير: احترق كتب ابن لهيعة في سنة سبعين ومائة.
وقال ابن ابي مريم: ما اقر به قبل الاحتراق وبعده.
نا عبد الرحمن نا علي بن الحسن الهسنجانى
قال قال أحمد بن سنبويه قلت لابي الاسود النصر بن عبد الجبار كان لابن لهيعة كتب؟ قال: ما علمت.
نا عبد الرحمن نا حرب بن إسماعيل الكرماني فيما كتب إلى قال سألت أحمد بن حنبل عن ابن لهيعة فضعفه.
نا عبد الرحمن أنا أبو بكر ابن أبي خيثمه فيما كتب إلي قال سمعت يحيى بن معين يقول: عبد الله ابن لهيعة ليس حديثه بذلك القوي: ثنا عبد الرحمن أنا يعقوب [بن إسحاق - ] [الهروي - ] فيما كتب إلى ثنا عثمان [بن سعيد - ] قال قلت ليحيى بن معين: كيف رواية ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر؟ فقال: ابن لهيعة ضعيف الحديث.
نا عبد الرحمن نا محمد بن إبراهيم قال سمعت عمرو بن علي يقول: عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك ( م ) وعبد الله بن يزيد
المقري اصح من الذين كتبوا بعد ما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث.
نا عبد الرحمن قال سألت أبي وأبا زرعة عن ابن لهيعة والأفريقي أيهما أحب إليكما.
فقالا: جميعا ضعيفان، بين الإفريقي وابن لهيعة كثير، أما ابن لهيعة فأمره مضطرب، يكتب حديثه على الاعتبار.
قلت لأبي: إذا كان من يروى عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك [وابن وهب - ] يحتج به؟ قال: لا.
نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره واوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ
وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه من أجمل القول فيه.
ثنا عبد الرحمن حدثني أبي نا محمد بن يحيى بن حسان قال سمعت أبي يقول: ما رأيت أحفظ من ابن لهيعة بعد هشيم قلت له: إن الناس يقولون احترق كتب ابن لهيعة، فقال: ما غاب له كتاب.
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم
ابن عيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، أبو محمد.
ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نصير السهمي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أكثر أصحابه عنه حديثاً، وقيل: كان اسمه العاص فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله.
عن عبد الله بن عمرو قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنودي بالصلاة جامعة، فركع ركعتين بسجدة، ثم قام؛ فركع ركعتين بسجدة، ثم جلس حتى جُلِّي عن الشمس، فقالت عائشة: ما سجد سجوداً، ولا ركع ركوعاً قط أطول منه.
وعنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلبٍ واحد، يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم مُصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك ".
كتب معاوية بن أبي سفيان إلى مسلمة بن مخلد: أن سل عبد الله بن عمرو بن العاص أسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير مضطر "؟ فإن أخبرك أنه سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فابعثه إلي على مركبة من البريد، فقدم على البريد، فقال: أنت
سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله؟ قال: نعم، قال معاوية: وأنا سمعته منه كما سمعته.
قال الزبير بن بكار: كان عبد الله بن عمرو يصوم الدهر، ويقوم الليل، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: " صم، وأفطر، وصل، ونم ".
أم عبد الله بن عمرو ريطة بنت مُنبِّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم، أسلم قبل أبيه، وكان له من الولد: محمد وبه كان يكنى، وهشام، وهاشم، وعمران، وأم إياس، وأم عبد الله، وأم سعيد، وشهد الفتح بمصر، واختط بمصر، استأذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتابة عنه في حال الغضب والرضى، فأذن له، وحفظ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف مثل، وكان قد قرأ الكتب، وكان يرغب عن غثيان النساء، ولم يعل عمرو بن العاص ابنه في السن إلا بثنتي عشرة سنةً.
وكان عبد الله بن عمرو رجلاً سميناً طوالاً أحمر عظيم البطن.
عن عبد الله بن الحارث بن جزءٍ قال: توفي صاحب لنا غريب بالمدينة، وكنا على قبره، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اسمك؟ " فقلت: العاص، وقال لعبد الله بن عمر: " ما اسمك؟ " فقال: العاص، وقال لعبد الله بن عمرو: " ما اسمك؟ " فقال: العاص، فقال: " أنزلوه فاقبروه، فأنتم عبيد الله " قال: فقبرنا أخانا وخرجنا وقد بدلت أسماؤنا.
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نِعْم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله ".
عن أبي أمامة قال: مر ابن العاص على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مسبل إزاره، ومسبل جُمَّته، فقال: "
نِعْم الفتى ابن العاص لو شمر من مئزره، وقصر من لمته " قال: فحلق رأسه، وقصر، ورفع إزاره إلى الركبة.
عن عبد الله بن عمرو قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتي هذا، فقال: " يا عبد الله، ألم أخبرك أنك تكلفت قيام الليل، وصيام النهار؟ " قال: قلت: إني لأفعل، قال: فقال: " إن من حسبك - ولم يقل افعل - أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيامٍ؛ الحسنة بعشر أمثالها، فكأنك قد صمت الدهر كله "، قال: قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، وإني أحب أن تزيدني، قال: " فخمسة أيامٍ " قال: قلت: إني أجد قوة، فإني أحب أن تزيدني، قال: سبعة أيام " قال: فجعل يستزيده ويزيده يومين يومين حتى بلغ النصف، فقال: " إن أخي داود كان أعبد البشر، وإنه كان يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر؛ إن لأهلك عليك حقاً، وإن لعبدك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً " فكان عبد الله بعدما كبر وأدركه السن يقول: ألا كنت قبلت رخصة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلي من أهلي ومالي.
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ القرآن في شهرٍ " فقلت: إني أقوى، فقال: " اقرأه في خمسٍ وعشرين " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في عشرين " قلت: إني أقوى: قال: " اقرأه في خمس عشرة " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في عشر " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في خمسٍ " قلت: إني أقوى، قال: " لا ".
عن عبد الله: أنه رأى في المنام كأن في إحدى يديه عسلاً، وفي الأخرى سمناً، فإنه يلعقهما، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " تقرأ الكتابين التوراة والقرآن " فكان يقرؤهما.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تدري من معنا في البيت؟ جبريل عليه السلام وقد سلم عليك ".
وقال: كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيءٍ تسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر يتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق ".
قال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني إلا عبد الله بن عمرو؛ فإني كنت أعي بقلبي ويعي بقلبه، ويكتب.
عن مجاهد قال: دخلت على عبد الله بن عمرو بن العاص، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنّع عليَّ، فقلت: تمنعني شيئاً من كتبك؟ فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط لم أبال ما صنعت الدنيا.
عن سليمان بن الربيع العدوي قال: لقينا عمر، فقلنا: إن عبد الله بن عمرو حدثنا بكذا وكذا، فقال عمر: عبد الله بن عمرو أعلم بما يقول؛ قالها ثلاثاً، ثم نودي بالصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، فخطبهم عمر، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله ".
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء، قال عكرمة: فأخبرت ابن عباس بقوله، فقال: إن عنده لعلماً، ولقد كان يسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحلال والحرام.
عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت له: يا بن أخت، إني قد أخبرت أن عبد الله بن عمرو حاج في عامه هذا، فالقه، فإنه قد حفظ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرةً.
التقى كعب الأحبار وعبد الله بن عمرو، فقال كعب: أتطيُّر يا عبد الله؟ قال: نعم، قال: فما تقول؟ قال: الله لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا رب غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك، فقال: أنت أفقه العرب؛ إنها لمكتوبة في التوراة كما قلت.
وقدم كعب مكة، وبها عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو عالم؛ سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ماء وضع بالأرض، وما أول شجرة غرست بالأرض، فسئل عبد الله عنها، فقال: الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض فهذا الركن الأسود، وأول ماء وضع بالأرض فبرهوت ماء باليمن ترده هام الكفار، وأما أول شجرةٍ غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه، فلما بلغ ذلك كعباً قال: صدق، الرجل والله عالم.
عن مولى لعمرو بن العاص: أن عبد الله بن عمرو نظر إلى المقبرة، فلما نظر إليها نزل، فصلى ركعتين، فقيل
له: هذا شيءٍ لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور، وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله عز وجل بهما.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لأن أعمل اليوم عملاً أقر عليه أحب إلي من ضعفه فيما مضى؛ لأنا حين أسلمنا وقعنا في عمل الآخرة، فأما اليوم فقد خلبتنا الدنيا.
وقال: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله عز وجل فإن المنبت لا بلغ بعداً، ولا أبقى ظهراً، وأعمل عمل امرئ يظن ألا يموت إلا هرماً، واحذر حذر امرئٍ يحسب أنه يموت غداً.
وقال: لأن أكون عاشر عشرةٍ مساكين يوم القيامة أحب إلي من أن أكون عاشر عشرةٍ أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا - يقول: يتصدق يميناً وشمالاً.
قال ابن أبي مليكة:
بينما عبد الله بن عمرو بن العاص يصلي وراء المقام، وهو يبكي، وقد كسف - أو خسف - القمر إذ مر به العلاء بن طارق، فوقف يسمع، فقال: ما توقفك يا بن أخي؟ تعجب من أني أبكي؟! والله إن هذا القمر يبكي من خشية الله، أما والله لو تعلمون اليقين لبكى أحدكم حتى ينقطع صوته، ولسجد حتى ينقطع صلبه.
عن عبد الله بن يزيد قال: قلت لعبد الله بن عمرو: بلغني أنك كنت من أحسن قريشٍ عيناً، فما الذي أرى بهما؟ قال: البكاء.
وقال عبد الله بن عمرو: ما أُعطي إنسان شيئاً خيراً من صحة، وعفة، وأمانة، وفقه.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يضرب فسطاطه في الحل، ويجعل مصلاه في الحرم، فقيل له: لِمَ تفعل ذلك؟ قال: لأن الأحداث في الحرم أشد منها في الحل.
قال عمرو بن العاص لابنه: يا بني، ما الشرف؟ قال: كف الأذى، وبذل الندى، قال: فما المروءة؟ قال: عرفان الحق، وتعاهد الصنعة، قال: فما المجد؟ قال: احتمال المغارم، وابتناء المكارم.
وسأله: ما الغي؟ قال: طاعة المفسد، وعصيان المرشد، قال: فما البله؟ قال: عمى القلب، وسرعة النسيان.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لأخواله - حي من عنزة يقال لهم بنو فلان - يا بني أمي إنه ليس الواصل الذي يصل من وصله، ويقطع من قطعه، وليس الحليم الذي يحلم عمن يحلم عنه، ويجهل على من يجهل، قالوا: فمن ذاك؟ قال: ذاك المنصف، إنما الحليم الذي يحلم عمن يحلم عنه، ويحلم عمن يجهل عليه.
هم أخوال أبيه عمرو بن العاص، وهذا الكلام محفوظ من كلام عمرو بن العاص.
عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: دع ما لست منه في شيءٍ، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك.
قال الشعبي: قيل لعبد الله بن عمرو وهو قاعد بالكعبة: إن كنت تريد أن تذكر فقد ذكرت،
وإن كنت تريد أن يشاع حديثك فقد أشيع، حدثنا شيئاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعنا مما وجدت في خرجك، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".
كانت راية عمرو بن العاص يوم اليرموك يحملها ابنه عبد الله بن عمرو.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص على الميمنة بصفين مع معاوية.
عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمارٍ، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه؛ فإني سمعت - يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " تقتله الفئة الباغية " فقال معاوية: ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أطع أباك ما دام حياً، ولا تعصه ما دام حياً " وأنا معكم ولست أقاتل.
وقال عبد الله بن عمرو: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أبو بكر، فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " ثم جاء عمر، فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " ثم جاء عثمان فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " قال: قلت: فأين أنا؟ قال: " أنت مع أبيك ".
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف بك إذا بقيت في حثالةٍ من الناس، قد مرجت عهودهم ومواثيقهم، وكانوا هكذا " - فخالف بين أصابعه - قال: تأمرني بأمرٍ
يا رسول الله؟ قال: " تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتعمل بخاصة نفسك، وتدع الناس وعوام أمرهم " قال: فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله بن عمرو، اخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه أتأمرني أن أخرج فأقاتل، وقد سمعت ما سمعت يوم يعهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يعهد؟ فقال: أنشدك الله يا عبد الله بن عمرو ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخذ بيدك فوضعها بيدي، ثم قال: " أطع أباك " قال: اللهم بلى، قال: فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل، فخرج عبد الله بن عمرو، فقاتل يومئذٍ متقلداً بسيفين، فلما انكشف الحرب أنشأ عمرو بن العاص يقول: من الرمل
شبت الحرب فأعددت لها ... مفرغ الحارك مروي الثبجْ
يصل الشد بشدٍّ فإذا ... دنت الخيل من الشد معج
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتل من الماء حدج
قال: وأنشأ عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: من الطويل
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوماً شاب منها الوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيعٍ دفعته الجنائب
وجئناهم نردي كأن صفوفنا ... من البحر موج موجه متراكب
إذا قلت: قد ولوا سراعاً بدت لنا ... كتائب منهم، وارجحنّت كتائب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما تولي المناكب
كان عبد الله بن عمرو بن العاص في زمن عمر وعثمان بمصر يجلس يحدث، وكان يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنها ستكون فتنة عمياء صماء الراقد فيها خير من اليقظان، والجالس فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي " فلما كانت الفتنة التي كانت بين معاوية وعلي حضر عبد الله بن عمرو صفين فقاتل فيها، فاستعمل معاوية بذلك عمرو بن العاص على مصر، فلما ولي عبد الله مصر جلس ذلك المجلس الذي كان يجلسه في زمن عمر وعثمان، فحدث كيف كان القتال بصفين، فقال له رجل من أهل مصر: قاتلت؟ قال: بلى، قال: والله لا أكلمك كلمةً بعد هذا.
عن عبد الله بن أبي مُليكة قال: كان عبد الله بن عمرو يأتي الجمعة من المغمَّس، فيصلي الصبح، ثم يرتفع إلى الحجر ويكبر حتى تطلع الشمس، ثم يقوم في جوف الحجر، فيجلس إليه الناس، فقال يوماً: ما أفرق على نفسي إلا من ثلاثٍ: مواطن في دم عثمان. فقال له عبد الله بن صفوان: إن كنت رضيت قتله فقد شركت في دمه، وأني آخذ المال، فأقول: أقرضه الله هذه الليلة، فيصبح في مكانه، فقال ابن صفوان: أنت امرؤ لم توق شح نفسك، ويوم صفين.
عن سليمان بن الربيع قال: انطلقت في رهْطٍ من نسألك أهل البصرة إلى مكة، فقلنا: لو نظرنا رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتحدثنا إليه، فدللنا على عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتينا منزله، فإذا قريب من ثلاثمائة راحلة، قال: فقلنا: على كل هؤلاء حج عبد الله بن عمرو؟ قالوا: نعم؛ وهو ومواليه وأحباؤه، قال: فانطلقنا إلى البيت، فإذا نحن برجلٍ
أبيض الرأس واللحية، بين بردين قطريين، عليه عمامة، ليس عليه قميص، قال: فقلنا: أنت عبد الله بن عمرو، وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجل من قريش، وقد قرأت الكتاب الأول، وليس أحد نأخذ عنه أحب إلينا - أو قال: أعجب إلينا - منك، فحدثنا بحديث لعل الله أن ينفعنا به. فقال لنا: ممن أنتم؟ فقلنا: من أهل العراق، فقال: إن من أهل العراق قوماً يَكذِبون ويُكَذِّبون، ويسخرون، قال: قلنا: ما كنا لنكذِّبك، ولا نكذب عليك، ولا نسخر منك، حدثنا بحديثٍ لعل الله أن ينفعنا به، فحدثهم بحديث في بني قنطور بن كركر.
وفي رواية أخرى قال:
أما ورب هذا المسجد الحرام، والبلد الحرام، واليوم الحرام، والشهر الحرام، أسميت اليمين أم لا، قال: قلنا: قد اجتهدت، قال: ليوشك بنو قنطور بن كركر؛ قوم خنس الأنوف صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، في كتاب الله المنزل أن يسوقوكم بخراسان وسجستان سياقاً عنيفاً، قوم يرزقون اللحم، وينتعلون الشعر، ويحتجزون السيوف على أوساطهم حين ينزلون الأبلة، قال: وكم الأبلة من البصرة؟ قلنا: أربعة فراسخ، قال: ويعقدون بكل نخلة من نخل دجلة رأس فرس، ثم يرسلون إلى أهل البصرة اخرجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل البصرة من البصرة، فيلحق لاحق ببيت المقدس، ويلحق لاحق بالمدينة، ويلحق آخر بمكة، ويلحق آخرون بالأعراب، ثم يسيرون حتى ينزلوا البصرة، فيلبثون بها سنة، ثم يرسلون إلى أهل الكوفة أن اخرجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل الكوفة منها، فيلحق لاحق ببيت المقدس ويلحق لاحق المدينة، ويلحق آخر بمكة، ويلحق آخرون بالأعراب، فلا يبقى في الأرض من المسلمين إلا قتيل أو أسير، في أيديهم في دمه ما يشاؤون، فانصرفنا عنه، وساءنا الذي حدثنا، ومشينا من عنده غير بعيد، ثم انصرف إليه المنتصر بن الحارث، فقال: يا عبد الله بن عمرو، إنك قد حدثتنا بحديث قد قطعتنا، وإنا لا ندري من يدركه
منا، فحدثنا هل بين يدي ذلك من علامة؟ قال: نعم لا تعدم عقلك، بين يدي ذلك أمارة، قال: فقال له المنتصر: وما الأمارة؟ قال: الأمارة العلامة، قال: وما تلك العلامة؟ قال: إمارة الصبيان، فإذا رأيت إمارة الصبيان قد طبقت الأرض فاعلم أن الذي حدثتك قد جاء.
فانصرف عنه المنتصر، فمشى قليلاً، ثم رجع إليه، فقلنا: مهلاً، علام تؤذي هذا الشيخ؟ قال: والله لا أفارقه حتى يتبين لي، فلما رجع بين.
قال طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي: كان عبد الله بن عمرو إذا جلس لم تنطق قريش، فقال يوماً: كيف أنتم بخليفةٍ يملككم ليس هو منكم؟ قالوا: فأين قريش يومئذٍ؟ قال: يفنيها السيف.
عن عبيد الله بن سعيد: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرَّقة حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تسيل على وجنتيه، فقال: والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلوا ابن نبيكم، ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة؛ أنحن نقتل نبينا، ونحرق بيت ربنا عز وجل؟ فقد والله فعلتم، فانتظروا نقمة الله عز وجل فوالذي نفسي بيده ليلبسنّكم الله شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعضٍ - قالها ثلاثاً - ثم نادى بصوت فأسمع: أين الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر؟ والذي نفس عبد الله بيده، لقد ألبسكم الله شيعاً، وأذاق بعضكم بأس بعض، لبطن الأرض خير لمن عليها لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر.
قال عمرو بن صفوان: كان لعبد الله بن عمرو ابن سبع سنين مثل الدينار، فلدغته حية، فمات، فقال: من الوافر
فلولا الموت لم يهلك كريم ... ولم يصبح أخو عزٍّ ذليلا
ولكن المنية لا تبالي ... أغراً كان أم رجلاً جليلا
لقد أهلكت حية بطن وادٍ ... كريماً ما أريد به بديلا
مقيماً ما أقام جبال لبسٍ ... فليس بزائلٍ حتى يزولا
وكان عبد الله بن عمرو قد صار إلى قريته بعسقلان، وهي حبس من عمرو بن العاص لولده، فلم يزل بها حتى مات، ودفن بقريةٍ يقال لها أولاميس، وهي من عسقلان على فرسخين.
قالوا: توفي عبد الله بن عمرو ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية.
وكانت الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وقيل بعد ذلك.
ابن عيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، أبو محمد.
ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نصير السهمي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أكثر أصحابه عنه حديثاً، وقيل: كان اسمه العاص فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله.
عن عبد الله بن عمرو قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنودي بالصلاة جامعة، فركع ركعتين بسجدة، ثم قام؛ فركع ركعتين بسجدة، ثم جلس حتى جُلِّي عن الشمس، فقالت عائشة: ما سجد سجوداً، ولا ركع ركوعاً قط أطول منه.
وعنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلبٍ واحد، يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم مُصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك ".
كتب معاوية بن أبي سفيان إلى مسلمة بن مخلد: أن سل عبد الله بن عمرو بن العاص أسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير مضطر "؟ فإن أخبرك أنه سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فابعثه إلي على مركبة من البريد، فقدم على البريد، فقال: أنت
سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله؟ قال: نعم، قال معاوية: وأنا سمعته منه كما سمعته.
قال الزبير بن بكار: كان عبد الله بن عمرو يصوم الدهر، ويقوم الليل، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: " صم، وأفطر، وصل، ونم ".
أم عبد الله بن عمرو ريطة بنت مُنبِّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم، أسلم قبل أبيه، وكان له من الولد: محمد وبه كان يكنى، وهشام، وهاشم، وعمران، وأم إياس، وأم عبد الله، وأم سعيد، وشهد الفتح بمصر، واختط بمصر، استأذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتابة عنه في حال الغضب والرضى، فأذن له، وحفظ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف مثل، وكان قد قرأ الكتب، وكان يرغب عن غثيان النساء، ولم يعل عمرو بن العاص ابنه في السن إلا بثنتي عشرة سنةً.
وكان عبد الله بن عمرو رجلاً سميناً طوالاً أحمر عظيم البطن.
عن عبد الله بن الحارث بن جزءٍ قال: توفي صاحب لنا غريب بالمدينة، وكنا على قبره، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اسمك؟ " فقلت: العاص، وقال لعبد الله بن عمر: " ما اسمك؟ " فقال: العاص، وقال لعبد الله بن عمرو: " ما اسمك؟ " فقال: العاص، فقال: " أنزلوه فاقبروه، فأنتم عبيد الله " قال: فقبرنا أخانا وخرجنا وقد بدلت أسماؤنا.
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نِعْم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله ".
عن أبي أمامة قال: مر ابن العاص على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مسبل إزاره، ومسبل جُمَّته، فقال: "
نِعْم الفتى ابن العاص لو شمر من مئزره، وقصر من لمته " قال: فحلق رأسه، وقصر، ورفع إزاره إلى الركبة.
عن عبد الله بن عمرو قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتي هذا، فقال: " يا عبد الله، ألم أخبرك أنك تكلفت قيام الليل، وصيام النهار؟ " قال: قلت: إني لأفعل، قال: فقال: " إن من حسبك - ولم يقل افعل - أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيامٍ؛ الحسنة بعشر أمثالها، فكأنك قد صمت الدهر كله "، قال: قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، وإني أحب أن تزيدني، قال: " فخمسة أيامٍ " قال: قلت: إني أجد قوة، فإني أحب أن تزيدني، قال: سبعة أيام " قال: فجعل يستزيده ويزيده يومين يومين حتى بلغ النصف، فقال: " إن أخي داود كان أعبد البشر، وإنه كان يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر؛ إن لأهلك عليك حقاً، وإن لعبدك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً " فكان عبد الله بعدما كبر وأدركه السن يقول: ألا كنت قبلت رخصة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلي من أهلي ومالي.
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ القرآن في شهرٍ " فقلت: إني أقوى، فقال: " اقرأه في خمسٍ وعشرين " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في عشرين " قلت: إني أقوى: قال: " اقرأه في خمس عشرة " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في عشر " قلت: إني أقوى، قال: " اقرأه في خمسٍ " قلت: إني أقوى، قال: " لا ".
عن عبد الله: أنه رأى في المنام كأن في إحدى يديه عسلاً، وفي الأخرى سمناً، فإنه يلعقهما، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " تقرأ الكتابين التوراة والقرآن " فكان يقرؤهما.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تدري من معنا في البيت؟ جبريل عليه السلام وقد سلم عليك ".
وقال: كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيءٍ تسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر يتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق ".
قال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني إلا عبد الله بن عمرو؛ فإني كنت أعي بقلبي ويعي بقلبه، ويكتب.
عن مجاهد قال: دخلت على عبد الله بن عمرو بن العاص، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنّع عليَّ، فقلت: تمنعني شيئاً من كتبك؟ فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط لم أبال ما صنعت الدنيا.
عن سليمان بن الربيع العدوي قال: لقينا عمر، فقلنا: إن عبد الله بن عمرو حدثنا بكذا وكذا، فقال عمر: عبد الله بن عمرو أعلم بما يقول؛ قالها ثلاثاً، ثم نودي بالصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، فخطبهم عمر، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله ".
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء، قال عكرمة: فأخبرت ابن عباس بقوله، فقال: إن عنده لعلماً، ولقد كان يسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحلال والحرام.
عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت له: يا بن أخت، إني قد أخبرت أن عبد الله بن عمرو حاج في عامه هذا، فالقه، فإنه قد حفظ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرةً.
التقى كعب الأحبار وعبد الله بن عمرو، فقال كعب: أتطيُّر يا عبد الله؟ قال: نعم، قال: فما تقول؟ قال: الله لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا رب غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك، فقال: أنت أفقه العرب؛ إنها لمكتوبة في التوراة كما قلت.
وقدم كعب مكة، وبها عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو عالم؛ سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ماء وضع بالأرض، وما أول شجرة غرست بالأرض، فسئل عبد الله عنها، فقال: الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض فهذا الركن الأسود، وأول ماء وضع بالأرض فبرهوت ماء باليمن ترده هام الكفار، وأما أول شجرةٍ غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه، فلما بلغ ذلك كعباً قال: صدق، الرجل والله عالم.
عن مولى لعمرو بن العاص: أن عبد الله بن عمرو نظر إلى المقبرة، فلما نظر إليها نزل، فصلى ركعتين، فقيل
له: هذا شيءٍ لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور، وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله عز وجل بهما.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لأن أعمل اليوم عملاً أقر عليه أحب إلي من ضعفه فيما مضى؛ لأنا حين أسلمنا وقعنا في عمل الآخرة، فأما اليوم فقد خلبتنا الدنيا.
وقال: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله عز وجل فإن المنبت لا بلغ بعداً، ولا أبقى ظهراً، وأعمل عمل امرئ يظن ألا يموت إلا هرماً، واحذر حذر امرئٍ يحسب أنه يموت غداً.
وقال: لأن أكون عاشر عشرةٍ مساكين يوم القيامة أحب إلي من أن أكون عاشر عشرةٍ أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا - يقول: يتصدق يميناً وشمالاً.
قال ابن أبي مليكة:
بينما عبد الله بن عمرو بن العاص يصلي وراء المقام، وهو يبكي، وقد كسف - أو خسف - القمر إذ مر به العلاء بن طارق، فوقف يسمع، فقال: ما توقفك يا بن أخي؟ تعجب من أني أبكي؟! والله إن هذا القمر يبكي من خشية الله، أما والله لو تعلمون اليقين لبكى أحدكم حتى ينقطع صوته، ولسجد حتى ينقطع صلبه.
عن عبد الله بن يزيد قال: قلت لعبد الله بن عمرو: بلغني أنك كنت من أحسن قريشٍ عيناً، فما الذي أرى بهما؟ قال: البكاء.
وقال عبد الله بن عمرو: ما أُعطي إنسان شيئاً خيراً من صحة، وعفة، وأمانة، وفقه.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يضرب فسطاطه في الحل، ويجعل مصلاه في الحرم، فقيل له: لِمَ تفعل ذلك؟ قال: لأن الأحداث في الحرم أشد منها في الحل.
قال عمرو بن العاص لابنه: يا بني، ما الشرف؟ قال: كف الأذى، وبذل الندى، قال: فما المروءة؟ قال: عرفان الحق، وتعاهد الصنعة، قال: فما المجد؟ قال: احتمال المغارم، وابتناء المكارم.
وسأله: ما الغي؟ قال: طاعة المفسد، وعصيان المرشد، قال: فما البله؟ قال: عمى القلب، وسرعة النسيان.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لأخواله - حي من عنزة يقال لهم بنو فلان - يا بني أمي إنه ليس الواصل الذي يصل من وصله، ويقطع من قطعه، وليس الحليم الذي يحلم عمن يحلم عنه، ويجهل على من يجهل، قالوا: فمن ذاك؟ قال: ذاك المنصف، إنما الحليم الذي يحلم عمن يحلم عنه، ويحلم عمن يجهل عليه.
هم أخوال أبيه عمرو بن العاص، وهذا الكلام محفوظ من كلام عمرو بن العاص.
عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: دع ما لست منه في شيءٍ، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك.
قال الشعبي: قيل لعبد الله بن عمرو وهو قاعد بالكعبة: إن كنت تريد أن تذكر فقد ذكرت،
وإن كنت تريد أن يشاع حديثك فقد أشيع، حدثنا شيئاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعنا مما وجدت في خرجك، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".
كانت راية عمرو بن العاص يوم اليرموك يحملها ابنه عبد الله بن عمرو.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص على الميمنة بصفين مع معاوية.
عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمارٍ، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه؛ فإني سمعت - يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " تقتله الفئة الباغية " فقال معاوية: ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أطع أباك ما دام حياً، ولا تعصه ما دام حياً " وأنا معكم ولست أقاتل.
وقال عبد الله بن عمرو: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أبو بكر، فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " ثم جاء عمر، فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " ثم جاء عثمان فاستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " قال: قلت: فأين أنا؟ قال: " أنت مع أبيك ".
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف بك إذا بقيت في حثالةٍ من الناس، قد مرجت عهودهم ومواثيقهم، وكانوا هكذا " - فخالف بين أصابعه - قال: تأمرني بأمرٍ
يا رسول الله؟ قال: " تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتعمل بخاصة نفسك، وتدع الناس وعوام أمرهم " قال: فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله بن عمرو، اخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه أتأمرني أن أخرج فأقاتل، وقد سمعت ما سمعت يوم يعهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يعهد؟ فقال: أنشدك الله يا عبد الله بن عمرو ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخذ بيدك فوضعها بيدي، ثم قال: " أطع أباك " قال: اللهم بلى، قال: فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل، فخرج عبد الله بن عمرو، فقاتل يومئذٍ متقلداً بسيفين، فلما انكشف الحرب أنشأ عمرو بن العاص يقول: من الرمل
شبت الحرب فأعددت لها ... مفرغ الحارك مروي الثبجْ
يصل الشد بشدٍّ فإذا ... دنت الخيل من الشد معج
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتل من الماء حدج
قال: وأنشأ عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: من الطويل
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوماً شاب منها الوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيعٍ دفعته الجنائب
وجئناهم نردي كأن صفوفنا ... من البحر موج موجه متراكب
إذا قلت: قد ولوا سراعاً بدت لنا ... كتائب منهم، وارجحنّت كتائب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما تولي المناكب
كان عبد الله بن عمرو بن العاص في زمن عمر وعثمان بمصر يجلس يحدث، وكان يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنها ستكون فتنة عمياء صماء الراقد فيها خير من اليقظان، والجالس فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي " فلما كانت الفتنة التي كانت بين معاوية وعلي حضر عبد الله بن عمرو صفين فقاتل فيها، فاستعمل معاوية بذلك عمرو بن العاص على مصر، فلما ولي عبد الله مصر جلس ذلك المجلس الذي كان يجلسه في زمن عمر وعثمان، فحدث كيف كان القتال بصفين، فقال له رجل من أهل مصر: قاتلت؟ قال: بلى، قال: والله لا أكلمك كلمةً بعد هذا.
عن عبد الله بن أبي مُليكة قال: كان عبد الله بن عمرو يأتي الجمعة من المغمَّس، فيصلي الصبح، ثم يرتفع إلى الحجر ويكبر حتى تطلع الشمس، ثم يقوم في جوف الحجر، فيجلس إليه الناس، فقال يوماً: ما أفرق على نفسي إلا من ثلاثٍ: مواطن في دم عثمان. فقال له عبد الله بن صفوان: إن كنت رضيت قتله فقد شركت في دمه، وأني آخذ المال، فأقول: أقرضه الله هذه الليلة، فيصبح في مكانه، فقال ابن صفوان: أنت امرؤ لم توق شح نفسك، ويوم صفين.
عن سليمان بن الربيع قال: انطلقت في رهْطٍ من نسألك أهل البصرة إلى مكة، فقلنا: لو نظرنا رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتحدثنا إليه، فدللنا على عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتينا منزله، فإذا قريب من ثلاثمائة راحلة، قال: فقلنا: على كل هؤلاء حج عبد الله بن عمرو؟ قالوا: نعم؛ وهو ومواليه وأحباؤه، قال: فانطلقنا إلى البيت، فإذا نحن برجلٍ
أبيض الرأس واللحية، بين بردين قطريين، عليه عمامة، ليس عليه قميص، قال: فقلنا: أنت عبد الله بن عمرو، وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجل من قريش، وقد قرأت الكتاب الأول، وليس أحد نأخذ عنه أحب إلينا - أو قال: أعجب إلينا - منك، فحدثنا بحديث لعل الله أن ينفعنا به. فقال لنا: ممن أنتم؟ فقلنا: من أهل العراق، فقال: إن من أهل العراق قوماً يَكذِبون ويُكَذِّبون، ويسخرون، قال: قلنا: ما كنا لنكذِّبك، ولا نكذب عليك، ولا نسخر منك، حدثنا بحديثٍ لعل الله أن ينفعنا به، فحدثهم بحديث في بني قنطور بن كركر.
وفي رواية أخرى قال:
أما ورب هذا المسجد الحرام، والبلد الحرام، واليوم الحرام، والشهر الحرام، أسميت اليمين أم لا، قال: قلنا: قد اجتهدت، قال: ليوشك بنو قنطور بن كركر؛ قوم خنس الأنوف صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، في كتاب الله المنزل أن يسوقوكم بخراسان وسجستان سياقاً عنيفاً، قوم يرزقون اللحم، وينتعلون الشعر، ويحتجزون السيوف على أوساطهم حين ينزلون الأبلة، قال: وكم الأبلة من البصرة؟ قلنا: أربعة فراسخ، قال: ويعقدون بكل نخلة من نخل دجلة رأس فرس، ثم يرسلون إلى أهل البصرة اخرجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل البصرة من البصرة، فيلحق لاحق ببيت المقدس، ويلحق لاحق بالمدينة، ويلحق آخر بمكة، ويلحق آخرون بالأعراب، ثم يسيرون حتى ينزلوا البصرة، فيلبثون بها سنة، ثم يرسلون إلى أهل الكوفة أن اخرجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل الكوفة منها، فيلحق لاحق ببيت المقدس ويلحق لاحق المدينة، ويلحق آخر بمكة، ويلحق آخرون بالأعراب، فلا يبقى في الأرض من المسلمين إلا قتيل أو أسير، في أيديهم في دمه ما يشاؤون، فانصرفنا عنه، وساءنا الذي حدثنا، ومشينا من عنده غير بعيد، ثم انصرف إليه المنتصر بن الحارث، فقال: يا عبد الله بن عمرو، إنك قد حدثتنا بحديث قد قطعتنا، وإنا لا ندري من يدركه
منا، فحدثنا هل بين يدي ذلك من علامة؟ قال: نعم لا تعدم عقلك، بين يدي ذلك أمارة، قال: فقال له المنتصر: وما الأمارة؟ قال: الأمارة العلامة، قال: وما تلك العلامة؟ قال: إمارة الصبيان، فإذا رأيت إمارة الصبيان قد طبقت الأرض فاعلم أن الذي حدثتك قد جاء.
فانصرف عنه المنتصر، فمشى قليلاً، ثم رجع إليه، فقلنا: مهلاً، علام تؤذي هذا الشيخ؟ قال: والله لا أفارقه حتى يتبين لي، فلما رجع بين.
قال طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي: كان عبد الله بن عمرو إذا جلس لم تنطق قريش، فقال يوماً: كيف أنتم بخليفةٍ يملككم ليس هو منكم؟ قالوا: فأين قريش يومئذٍ؟ قال: يفنيها السيف.
عن عبيد الله بن سعيد: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرَّقة حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تسيل على وجنتيه، فقال: والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلوا ابن نبيكم، ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة؛ أنحن نقتل نبينا، ونحرق بيت ربنا عز وجل؟ فقد والله فعلتم، فانتظروا نقمة الله عز وجل فوالذي نفسي بيده ليلبسنّكم الله شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعضٍ - قالها ثلاثاً - ثم نادى بصوت فأسمع: أين الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر؟ والذي نفس عبد الله بيده، لقد ألبسكم الله شيعاً، وأذاق بعضكم بأس بعض، لبطن الأرض خير لمن عليها لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر.
قال عمرو بن صفوان: كان لعبد الله بن عمرو ابن سبع سنين مثل الدينار، فلدغته حية، فمات، فقال: من الوافر
فلولا الموت لم يهلك كريم ... ولم يصبح أخو عزٍّ ذليلا
ولكن المنية لا تبالي ... أغراً كان أم رجلاً جليلا
لقد أهلكت حية بطن وادٍ ... كريماً ما أريد به بديلا
مقيماً ما أقام جبال لبسٍ ... فليس بزائلٍ حتى يزولا
وكان عبد الله بن عمرو قد صار إلى قريته بعسقلان، وهي حبس من عمرو بن العاص لولده، فلم يزل بها حتى مات، ودفن بقريةٍ يقال لها أولاميس، وهي من عسقلان على فرسخين.
قالوا: توفي عبد الله بن عمرو ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية.
وكانت الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وقيل بعد ذلك.
عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد أبي عمرو
أبو عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام في الحديث والفقه. كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس بمحلة الأوزاع، ثم تحول إلى بيروت، فسكنها مرابطاً إلى أن مات بها.
حدث عن أبي جعفر محمد بن علي بسنده إلى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مثل الراجع في صدقته كالكلب يقيء فيرجع في قيئه فيأكله.
وحدث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده إلى ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآتيه بوضوئه وحاجته، فكان يقوم من الليل فيقول: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده، القوي، سبحانرب العالمين، سبحان رب العالمين، سبحان رب العالمين القوي. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل لك حاجة قلت: يا رسول الله، مرافتك في الجنة، قال: فأعني بكثرة السجود.
والأوزاع بطن من همدان، وهو من أنفسهم. ولد سنة ثما وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، والأول أصح. وكان ثقة، مأموناً، حافظاً، صدوقاً، فاضلاً، خيراً، كثير الحديث والعلم، والفقه، حجة.
قال محمد بن إسماعيل:
عبد الرحمن الأوزاعي، ولم يكن منهم، نزل فيهم، والأوزاع من حمير الشام. وقال غيره: الأوزاع قرية بدمشق، إذا خرجت من باب الفراديس. قالوا: وكان ينزل الأوزاع فنسب إلى الأوزاع، وليس منهم. وعرض هذا القول على أحمد بن عمير - وكان علامة بحديث الشام وأنساب أهلها - فلم يرضه، وقال: إنما قيل أوزاعي لأنه من أوزاع القبائل، والأوزاع من قبائل شتى، وهو ابن عم يحيى بن أبي عمرو السيباني لحاً، وقول من نسبه إلى القرية التي هي خارج باب الفراديس أصح، وهو موضع مشهور بربض مدينة دمشق يعرف بالأوزاع، سكنه في صدر الإسلام بقايا من قبائل شتى.
قال الأصمعي: الأوزاع: الفرق يقول: وزعت الشيء على القوم إذا فرقته عليهم، وهذا اسم جمع لا واحد له.
قال الرياشي: والأوزاع: بطون من العرب يجمعها هذا الاسم.
وقال العباس بن الوليد: إنما سمي الأوزاعي لأنه كانت هجرته معهم فنسب إليهم، وهو سيباني من بني سيبان، وكان اسمه عبد العزيز فسمى هو نفسه عبد الرحمن، وكان أصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمه من سباء السند فكان ينزل في الأوزاع، فغلب عليه ذلك، والأوزاع قبيلة من حمير.
وإليه فتوى الفقه لأهل الشام لفضله فيهم وكثرة روايته، وكانفصيحاً، وكانت صنعته الكتابة والترسل، ورسائله تؤثر وتكتب.
روى عن مالك بن يخامر قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العرب كلها بنو إسماعيل بن إبراهيم إلا أربع قبائل: إلا السلف، والأوزع، وحضرموت، وثقيف.
قال الأوزاعي: كنت محتلماً أو شبيهاً به في خلافة عمر بن عبد العزيز.
قال العباس بن الوليد بن مزيد سمعت أبي يقول: كان مولد الأوزاعي ببعلبك، ومنشؤه بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، فما رأيت أبي يتعجب من شيء مما رآه في الدنيا تعجبه منه، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء. كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر امرأة تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه بأن بلغته حيث رأيته، ثم يقول: يا بني، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها، أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعوها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولا يلتفت إلى شيء إلا باكياً، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبك، ولا يرى ذلك فيه.
وكان الأوزاعي فوق الربعة، خفيف اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء.
قال الأوزاعي: مات أبي وأنا صغير، فذهبت ألعب مع الغلمان، فمر بنا فلان - وذكر شيخاً من العرب جليلاً - قال: ففر الصبيان حين رأوه، وثبت أنا، فقال: ابن من أنت فأخبرته، فقال: ابن أخي، يرحم الله أباك، فذهب بي إلى بيته، فكنت معه حتى بلغت، فألحقني في الديوان، وضرب علينا بعثاً إلى اليمامة. فلما قدمت اليمامة، ودخلنا مسجد الجامع، فلما خرجنا قال لي رجل من أصحابنا: رأيت يحيى بن أبي كثير معجباً بك، يقول: ما رأيت في هذا البعث أهدأ من هذا البعث أهدأ من هذا الشاب. قال: فجالسته فكتبت عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر، فاحترق كله.
خرج الأوزاعي في بعث إلى اليمامة. فلما وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلم إليها دخل مسجدها، فاستقبل
سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريباً منه، فجعل يحيى ينظر إلى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماته فأعجبته، وقال: ما أشبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة هذا لافتى بصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة عمر بن عبد العزيز، قال: فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأوزاعي من صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماته أخيبره بما قال يحيى، فجاء الأوزاعي الديوان وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، ويمسع منه، فقال له يحي: ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فتأخذ عنهما، فانطلق إليهما فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وابن سيرين حي، فذكر الأوزاعي أنه أتى بابه وهو مريض، قال: فكنا ندخل فنعوده، ونحن قيام لا نتكلم، وهو أيضاً لا يتكلم، فمكثنا أياماً فخرج إلينا الرجل الذي كان يوصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمنا إليه، فقلنا له: ما خبر الشيخ؟ قال: تركته قد لزق لسانه بحنكه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ومات من يومه ذلك، وكان به البطن.
قال الأوزاعي: حججت، فلقيت عبدة بن أبي لبابة بمنى، فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قال: قلت: لا، قال: فاذهب فالقه، فما بين لاييتها أفقه منه، قال: فلقيته، فإذا برجل حسن السمت مقنع.
قال أبو رزين اللخمي: أول ما سئل الأوزاعي عن الفقه سنة ثلاث عشرة ومئة وهو يومئذٍ ابن خمس وعشرين سنة، ثم لم يزل يفتي بعد ذلك بقية عمره إلى أن توفي رحمة الله عليه.
قال هقل بن زياد: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، أو نحوها من العلم، قال: وسئل يوماً عن مسألة فقال: ليس عندي فيه خبر، أي إن الذي أفتيتها كلها كان عندي أخبار.
قال إسماعيل بن عياش: انقلب الناس من غزاة الندوة سنة أربعين ومئة فسمعتهم يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.
فال أبو شعيب: قلت لأمية بن زيد بن أبي عثمان: أين الأوزاعي من مكحول؟ فقال: هو عندنا أرفع من مكحول، فقلت له: إن مكحولاً قد رأى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وإن كان قد رآهم، فأين فضل الأوزاعي في نفسه؟ وقد جمع العبادة، والورع، والعلم، والقول، الحق.
قال إسحاق بن عباد الختلي: حدثني أبي قال: حججت في بعض السنين، فرأيت شيوخاً أحدهم راكب، والآخر يسوق به، وآخر يقود به، يقولون: أوسعوا للشيخ، وأسعوا للشيخ، فقلت: من الراكب؟ ومن القائد؟ ومن السائق؟ فقالوا: الراكب الأوزاعي، والقائد مالك، والسائق الثوري، قال: لولا أنهم رأوا أنه أفضلهم ما فعلوا به ذلك.
بلغ سفيان الثوري وهو بمكة مقدم الأوزاعي، فخرج حتى لقيه بذي طوى. فلما لقيه حل رسن البعير من القطار، فوضعه على رقبته، فجعل يتخلل به، فإذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ.
قال عثمان بن عاصم، أخو علي بن عاصم: رأيت شيخاً بين الصفا والمروة على ناقة وشيخاً يقوده، واجتمع أصحاب الحديث عليه، فجعل الشيخ الذي يقود يقول: يا معشر الشباب، كفوا حتى نسأل الشيخ فقلت: من هذا الراكب؟ قالوا: هذا الأوزاعي، فقلت: من هذا الذي يقوده؟ قالوا: هذا سفيان الثوري.
قال احمد بن حنبل: دخل سفيان الثوري والأوزاعي على مالك. فلما خرجا قال مالك: أحدهما أكثر علماً من صاحبه ولا يصلح للإمام، والآخر يصلح للإمامة، يعني الأوزاعي للإمامة، ولا يصلح سفيان.
لم يكن لمالك في سفيان رأي.
ذكر الأوزاعي عند مالك فقال: ذاك إمام يقتدى به.
قال محمد بن عبد الحكم: جاء أهل الثغر إلى مالك فقالوا له: إن رأي هذين الرجلين قد غلب على أهل الثغر: سفيان الثوري، والأوزاعي، فرأي من ترى نأخذ؟ فقال: مالك: كان الأوزاعي عندنا إماماً.
قال يحيى بن سعيد القطان: قال مالك بن أنس: اجتمع عندي الأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة فقلت: فأيهم وجدته أكثر علماً؟ قال: كان أرجحهم الأوزاعي.
قال عبد الرحمن بن القاسم:
جئت يوماً إلى منزل مالك بن انس، فوجدت سفيان الثوري وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي خارجين من عنده، فدخلت إلى مالك فقلت له: أبا عبد الله، لقيت الساعة الأوزاعي والثوري خارجين من عندك، فقال لي: أما أحدهما فمن الراسخين في العلم، يريد: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
قال عون بن حكيم: حججت مع الأوزاعي وكان حجاجاً، فلما أتينا المدينة أتى المسجد، فبلغ مالكاً مقدمه، فأتاه فسلم عليه، قال: فجلسا بين الظهر والعصر يتذاكران الفقه، فلا يذكران باباً من أبواب العلم إلا ذهب الأوزاعي عليه، ثم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلميا العصر، فعاودا المذاكرة، فلم يزل الأوزاعي على تلك الحال حتى اصفرت الشمس، فناظره مالك في كتاب المكاتب والمدبر فخالفه فيه. فلما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلميا المغرب قلت لأصحابه: كيف رأيتم صاحبنا من صاحبكم؟ فقالوا: لو لم يكن في صاحبكم إلا سمته لأقررنا بفضله.
وروي أن مالكاً والأوزاعي اجتمعا في مسجد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتناظرا في المغازي فغمره الأوزاعي، ثم تناظرا في الفقه فغمره مالك.
قال سفيان بن عيينة: اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى، فقال الأوزاعي للثوري: لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال الثوري: حدثنا يزيد بن أبي زياد، فقال الأوزاعي: أروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارضني بيزيد بن أبي زياد؟! يريد: رجل ضعيف الحديث، وحديثه مخالف للسنة، قال: فاحمار وجه سفيان الثوري، فقال الأوزاعي: كأنك كرهت ما قلت! قال الثوري: نعم، فقال الأوزاعي: قم بنا إلى المقام، نلتعن أينا على الحق، قال: فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد، وقال: أنت المقدم.
قال الوليد بن مسلم: قال لي سعيد بن عبد العزيز: أما رأيت ابن عمرو الأوزاعي؟ قلت: بلى، قال: فاقتد يه، فقد كفاك من كان قبله.
قال علي بن بكار: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجل خاصة نفسه، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي. قال علي بن بكار: فقلت في نفسي: لو خيرت لهذه الأمة اخترت لها أبا إسحاق الفزاري.
وفي رواية: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة: سفيان أو الأوزاعي لاخترت لها الأوزاعي لأنه كان أكثر توسعاً.
حدث الفزاري عن الأوزاعي قال: وكان والله إماماً إذ لا نصيب اليوم إماماً.
وقال إبراهيم بن محمد الفزاري: لو أن الأمة أصابتها شدة، والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه.
قال محمد بن عبد الوهاب بن هشام بن الغاز: كنا عند أبي إسحاق الفزاري يوماً فذكر الأوزاعي فقال: إن ذاك رجل كان شأنه عجباً. قال: فقال بعض أهل المجالس: وما كان عجبه يا أبا إسحاق؟ قال: يسأل عن الشيء، عندنا فيه الأثر، فيقول: ما عندي فيه شيء، وأنا أكره التكلف، ولعله يبتلى بلجاجة السائل حتى يردد عليه، فلا يعدو الأثر الذي عندنا، فقال بعض أهل المجلس: هذا أشبه بالوحي يا أبا إسحاق! قال: فأغضبه ذلك، وقال: من هذا نعجب كان والله يرد الجواب كما هو عندنا في الأثر، ولا يقدم منه مؤخراً، ولا يؤخر منه مقدماً.
قال أبو إسحاق الفزاري: ما رأيت أحداً كان أشد تواضعاً من الأوزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك. وكان الأوزاعي أفضل أهل زمانه.
قال عبد الرحمن بن مهدي: إنما الناس في زمانهم أربعة: حماد بن زيد بالبصرة، وسفيان بالكوفة، ومالك بن أنس بالحجاز، والأوزاعي بالشام.
قال بقية: إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة، ومن طغى عليه عرفنا أنه صاحب بدعة.
قال الوليد بن مسلم: كان الأمر لا يبين على الأوزاعي حتى يتكلم، فإذا تكلم جل وملأ القلب.
قال صدقة بن عبد الله: ما رأيت أحداً أحلم، ولا أكمل، ولا أجمل فيما جمل من الأوزاعي.
قال العباس بن الوليد البيروتي: سمعت أبي يقول: ما رأيت الأوزاعي قط ضاحكاً مقهقهاً. وكان إذا أخذ في الفرائض كثر تبسمه، ولا رأيته باكياً قط.
قال موسى بن يسار: صحبت مكحولاً أربع عشرة سنة. قال عقبة: فسمعت موسى بن يسار يقول: ما رأيت أحداً قط أحد نظراً ولا أنفى للغل عن الإسلام من الأوزاعي.
قال محمد بن عجلان: ما أعلم مكان أحد أنصح للمسلمين من الأوزاعي.
قال إسحاق بن إبراهيم: إذا اجتمع سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي على أمر فهو سنة، وإن لم يكن في كتاب ناطق فإنهم أئمة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: سفيان الثوري إمام في الحديث، وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة، وليس بإمام في الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعاً.
قال إبراهيم بن إسحاق الحربي: سألت أحمد بن حنبل قلت: ما تقول في مالك بن أنس؟ فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف. قلت: فالأوزاعي؟ قال: حديث ضعيف ورأي ضعيف. قلت: فالشافعي؟ قال: حديث صحيح ورأي صحيح.
قال أحمد البيهقي: قوله في الأوزاعي: حديث ضعيف يريد به بعض ما احتج به، لا انه ضعيف في الرواية، والأوزاعي إمام ثقة في نفسه، لكنه قد يحتج في بعض مسائله بأحاديث من عساه لم يقف على حاله، ثم يحتج بالمراسيل والمقاطيع وذلك بين في كتبه.
وعن الأوزاعي قال: كان السلف إذا صدع الفجر أو قبله شيئاً كأنما على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم، حتى لوأن حميماً لأحدهم غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه، فلا يزالون كذلك حتى يكون قريباً من طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، فأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه، ثم يتحلقون إلى الفقه والقرآن.
وعن الأوزاعي قال: طالب العلم بلا سكينة ولا حلم كالإناء المنخرق، كلما حمل فيه شيء تناثر.
قال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم المزيف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا منه تركنا.
قال الوليد بن مسلم: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثاً قال: يا غلام، قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم قال: " يوصيكم الله في أولادكم " فإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
قال عمرو بن أبي سلمة: قلت للأوزاعي: في المناولة أقول فيها: حدثنا؟ قال: إن كنت حدثتك فقل، فقلت: أقول أخبرنا؟ قال: لا، قلت: فكيف أقول؟ قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو.
وعن الأوزاعي قال: ما زال هذا العلم غزيراً يتلاقاه الرجال حتى وقع في الصحف، فحمله أو دخل فيه غير أهله.
وفي رواية: كان هذا الأمر شيئاً شريفاً إذ كان الناس يتلاقونه بينهم. فلما كتب ذهب نوره، وصار إلى غير أهله.
قال أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر: بكر أصحاب الحديث على الأوزاعي، قال: فالتفت إليهم فقال: كم من حريص خاشع ليس بمنتفع ولا نافع.
قال أبو مسهر: وكان الأوزاعي لا يلحن.
قال بشر بن أبي بكر: سئل الأوزاعي فقيل: يا أبا عمرو، الرجل يسمع الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه لحن أيقيمه على عربيته؟ قال: نعم، إن سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتكلم إلا بعربي.
وقال الأوزاعي: أعربوا الحديث، فإن القوم كانوا عرباً.
وقال الأوزاعي: لا بأس يا صلاح الخطأ واللحن في الحديث.
قال الوليد بن مسلم: احترقت كتب الأوزاعي زمنه الرجفة، ثلاثة عشر قنداقاً، فأتاه رجل بنسخها، قال: يا أبا عمرو، هذه نسخة كتابك، وإصلاحك بيدك، فما عرض لشيء منها حتى فارق الدنيا.
مر إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - بالأوزاعي وحوله الناس فقال: على هذا عهدت الناس، كأنك معلم وحولك الصبيان، والله لوأن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم. قال: فقام الأوزاعي وترك الناس.
قال أبو عبيد الله كاتب المنصور: كانت ترد على المنصور من الأوزاعي - رحمه الله - كتب يتعجب منها، ويعجز كتابه عن الإجابة، فكانت تنسخ في دفاتر، وتوضع بين يدي المنصور، فيكثر النظر فيها استحساناً لألفاظها، فقال لسليمان بن مجالد: وكان من أحظى كتابه عنده، وأشدهم تقدماً في صنعته: ينبغي أن نجيب الأوزاعي عن كتبه جواباً تاماً، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ذلك وإنما أرد عليه ما أحسن، وإن له نظماً في الكتب لا أظن أحداً من جميع الناس يقدر على إجابته عنه، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق.
قال الوليد بن مسلم:
ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعيحختى رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقيل لي: إنه ها هنا في شبه غار. قال: فدخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا الأوزاعي جالس إلى جنبه. قال: فقلت: يا رسول الله، عمن أحمل العلم؟ قال لي: عن هذا، واشار إلى الأوزاعي رحمة الله عليه.
وعنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي، فقلت: يا رسول الله، عمن أكتب العلم؟ فقال: عن الأوزاعي. قال: فقلت له: عبد الله بن سمعان؟ قال: لا.
وعنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فسلمت عليه فقلت: يا رسول الله، ائذن لي في تقبيل يدك، قال: ومالك وتقبيل اليد؟ إنما تقبيل اليد من شكل الأعاجم، ثم قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في مصلى ذلك البيت يصلي. قال الوليد: فحانت مني التفاتة، فإذا أنا بالأوزاعي قائم في مصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعنه قال: رأيت في المنام كأني دفعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا شيخ جالس إلى جنب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا الشيخ مقبل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثه، وإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبل على الشيخ يسمع حديثه، قال: فسلمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد علي السلام، ثم جلست إلى بعض الجلساء، فقتل للذي جلست إليه: من ذلك الشيخ الذي قد أقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يسمع حديثه؟ قال: وما تعرف هذا؟ قال: قلت: لا قال: هذا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. قال: إنه لذو منزلة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قال: نعم.
قال الأوزاعي: رايت كأن ملكين عرجا بي، وأوقفاني بين يدي رب العزة، فقال لي: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فقتل: بعزتك أي رب، أنت أعلم. قال: فهبطا بي حتى رداني إلى مكاني.
وفي رواية: فقال: يا عبد الرحمن، أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت: بفضلك يا رب، فقلت: يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة.
قال محمد بن الأوزاعي: قال لي أبي: يا بني، أريد أن أحدثك بشيء، ولا أفعل حتى تعطيني موثقاً إنك لا تحدث به ما دمت حياً، قال: فقلت: افعل يا أبه، قال: إني رأيت فيما يرى النائم أني أدخلت الجنة، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر وعمر، وهم يعالجون مصراع باب الجنة، فإذا ردوه زال، ثم يعالجونه فإذا ردوه زال، قال: فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عبد الرحمن، ألا تمسك معنا؟ قال: فجئت فأمسكت معهم، فثبت. قال العباس: ونرى ذلك مما كان يذب عن السنة.
قال محمد بن شعيب: جلست إلى شيخ في المسجد - يعني: مسجد دمشق - فقال: أنا ميت يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك اليوم أتيته فإذا به في الصحن يتفلى فقال: ما أخذتم السرير؟ خذوه قبل أن تسبقوا إليه. قلت: ما تقول رحمك الله؟ قال: هو ما أقول لك، إني رايت في المنام كأن طائراً وقع على ركنٍ من أركان هذه القبة، فسمعته يقول: فلان قدري، وفلان كذا، وأبو حفص عثمان بن أبي العاتكة نعم الرجل وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي خير من يمشي على الأرض، وأنت ميت يوم كذا وكذا. قال: فما جاء الظهر حتى مات وأخرج بجنازته.
كان الأوزاعي من العبادة على شيء لم يسمع بأحد قوي عليه، ما اتى عليه زوال قط إلا وهو فيه قائم يصلي.
قا الأوزاعي: من أطال القيام بالليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة.
قال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة، فما رأيته مضطجعاً على المحمل في ليلٍ ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.
وكان الأوزاعي لا يكلم أحداً بعد صلاة الفجر حتى يذكر الله تعالى، فإن كلمه أحد أجابه.
وقال بشر بن المنذر: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
قال ابن عفان: حدثتني أمي قالت: دخلت على امرأة الأوزاعي فرأيت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً، فقلت: يا أختي، أخاف أن يكون الصبي بال على الحصير، فبكت وقالت: ذلك دموع الشيخ.
قال أبو مسهر: ما رئي الأوزاعي باكياً قط، ولا ضاحكاً حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحياناً. كما روي في الحديث. وكان يحيي الليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماةً وقرآنا وبكاء.
قال: وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماه، فتجده رطباً من دموعه في الليل. قال: وتفقدت ذلك في الشتاء، فلم يكن الموضع يجف في الصيف حتى يقلع الحصير من موضعه ويبسط غيره فيكون سبيله سبيل الأول.
دخل محمد بن عبد الله دمشق فهرب الأوزاعي، فبقي ثلاثة أيام صائماً يطوى، لا يجد ما يأكله، فقصد صديقاً له عند الإفطار، فقدم إليه، فقال: لو علمت قبل هذا لتقدمنا لك، فقام الأوزاعي وخرج عنه، ولم يفطر.
قال العباس بن مزيد: سمعت أصحابنايقولون: صار إلى الأوزاعي أكثر من سبعين ألف دينار، يعني من السلطان من بني امية وبني العباس. فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير، بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار. قال العباس: نظرنا فإذاه قد أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء.
وعن الأوزاعي: أنه ذكر الخردل، كان يحبه أو يتدواى به، فقال رجل من أهل صفورية: انا أبعث إليك منه يا أبا عمرو، فإنه ينبت عندنا كثير، بري. قال: فبعث إليه منه بصرة، وبعث بمسائل فبعث الأوزاعي بالخردل إلى السوق، فباعه، وأخذ ثمنه فلوساً فصرها في رقعته، وأجابه في المسائل، وكتب إليه: أن لم يحملني على ما صنعت شيء تكرهه، ولكن كانت معه مسائل فخفت أن يكون كهيئة الثمن لها.
قال محمد بن عيسى بن الطباع: أهدوا للأوزاعي هدية أصحاب الحيدث. فلما اجتمعوا قال لهم: أنتم بالخيار: إن شئتم قبلت هديتكم ولم أحدثكم وإن شئتم حدثتكم ورددت هديتكم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل، فقال له: يا أبا عمرو، تكتب إلى ملك بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك. قال: فرد الجرة، وكتب له، فوضع عنه ثلاثين ديناراً.
قال محمد بن الأوزاعي: قال لي أبي: يا بني، لوكنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا لأوشك بنا أن نهون عليهم.
قال أبو هزان: كان الأوزاعي من أسخا الناس، وإن كان الرجل ليعرض بالشيء فينقلب الأوزاعي، فيعالج الطعام فيدعوه.
كان الأوزاعي يقول: ندور مع السنة حيثما دارت.
وعن الأوزاعي قال: اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم.
وعن الأوزاعي قال: يا بقية، لا تذكر أحداً من أصحاب نبيك إلا بخير، وأزيدك يا بقية: ولا أحداً من أمتك، قال بقية: إذا سمعت الرجل يقع في غيره فهو يقول: انا خير منه.
وقال لي الأوزاعي، يا بقية، العلم ما جاء عن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما لم يجئ عن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بعلم.
وعن الأوزاعي قال: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن.
وعن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
وعن الهيثم بن عمران قال: لي الأوزاعي: أعرى الإسلام تقوى في كل يوم، وتزيد أم تضعف وتضحل وترق؟ قلت: بل تضعف، وتضمحل وترق، فقال: صدقت، ولو كان القدر من عرى الإسلام لضعف واضمحل ورق، ولكنه بدعة وهو يطول وينمو أو يزيد.
قال الأوزاعي: لا يكون في آخر الزمان شيء أعز من أخ مؤنس، أو كسب درهم من حله، أو سنة يعمل بها.
قال الأوزاعي: كتب إلي قتادة من البصرة: إن كانت الدار فرقت بيننا وبينك فإن ألفة الإسلام بين أهلها جامعة.
قال الأوزاعي: جئت إلى بيروت أرابط فيها، فلقيت سوداء عن المقابر فقلت لها: يا سوداء، أين العمارة؟ فقالت لي: أنت في العمارة، وإن أردت الخراب فبين يديك، فقلت: هذه سوداء تقول هذا؟! لأقيمن بها، فأقمت ببيروت.
قال الأوزاعي: خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء، وإذا أنا برجل راكب على جرادة منها، وهوشاكٍ في الحديد، وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل، باطل ما فيها، الدنياباطل، باطل ما فيها، الدنيا باطل، باطل ما فيها.
قال الأوزاعي: كان عندنا رجل صياد يسافر يوم الجمعة يصطاد، ولا ينتظر الجمعة، فخرج يوماً فخسف ببغلته، فلم يبق منها إلا أذنها.
كان الأوزاعي على باب دكان بحذاء درج مسجد بيروت، وحذاءه صاحب دكان يبيع فيه ناطفاً، وإلى جانبه صاحب دكان يبيع بصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماً، وهو يقول: يا أحلى من الناطف، فقال الأوزاعي: سبحان الله، ما يرى هذا بالكذب بأساً.
حدث الوليد عن مكحول أنه قال: لو خيرت بين القضاء وبين ضرب رقبتين لاخترت ضرب رقبتي. قال: ثم قدم علينا الأوزاعي، وقد كانوا يريدون يولونه القضاء. قال: فحدثته بقول مكحول، ثم رأيته بعد وقد صرف ذلك عنه، قال: إن كنت لمن سدد لي رأيي.
قال سليمان بن عبد الرجمن: قال عقبة بن علقمة: أرادوا الأوزاعي للقضاء فامتنع، وأبى، فتركوه. قال: فقلت لعقبة: هم كانوا يكرهون الناس على ما يريدون، فكيف لم يكرهوا الأوزاعي؟! فقال: هيهات، إنه كان في أنفسهم أعظم قدراً من ذلك.
وعن الأوزاعي قال: كنا قبل اليوم نمزح ونضحك، فأما إذا صرنا أئمة ينظر إلينا ويقتدى بنا، فينبغي لنا أن نتحفظ.
وفي رواية: فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم.
كان الأوزاعي يقول: إن المؤمن قليلاً، ويعمل كثيراً. وإن المنافق يقول كثيراً، ويعمل قليلاً.
وقال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير من العمل، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه.
كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يشار بك كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به. والسلام.
وقال الأوزاعي: لؤم بالرجل ودناءه نفس يفوته وقت الصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة بكسب دانق.
حدث الهقل بن زياد: أن الأوزاعي وعظ فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " فإنكم في دارٍ، الثواء فيها قليل، وأنتم فيها مرحلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفسها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعماراً، وأمد أجساماً، وأعظم آثاراً، فجددوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد، مؤيدين ببطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم، وعفت آثارهم، وأخوت منازلهم، وأنست ذكرهم، فما تحسن منهم من أحد، ولا تسمع لهم ركزاً، كانوا بلهو الأمل آمنين، لميقات يوم غافلين، ولصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتاً من عقوبة الله عز وجل، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمه وزوال نعمه، ومساكن خاوية، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى، وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص، ودنيا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه، وذهب رخاؤه، فلم يبق منه إلا حمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل غير، وعقوبات عبر، وأرسال فتن، وتتابع زلازل، ورذالة خلف، بهم ظهر الفساد في البر والبحر، فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، وتبلغ بالأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى وانتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.
قال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: البسيط
الملك ملكان مقرونان في قرن ... فأهنأ العيش عندي خفة المؤن
وصحة الجسم ملك ليس يعدله ... ملك وما الملك إلا صحة البدن
قال أبو سعيد هاشم بن مزيد: سمعت أحمد بن الغمر يقول: سمعت عبد الله بن أبي السايب يقول:
قلت لأبي عمرو الأوزاعي: يا أبا عمرو، رضي الله عنك، أخبرني عن تفسير حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأتي على الناس زمان، المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر، متى هو؟ قال الأوزاعي: إن لم يكن زماننا هذا فلا أدري متى هو. قال أبو سعيد: فقلت لأبي عبد الله، أحمد بن الغمر: يا أبا عبد الله، أخبرني عن قول الأوزاعي: زماننا هذا وما بعده أشد منه كما جاءت به الآثار. فلما جاءت المحنة التي نزلت به - لما نزل عبد الله بن علي حماة - بعث إلى الأوزاعي: فأشخص إليه. قال: فنزل على ثور بن يزيد الحمصي. قال الأوزاعي: فلم يزل ثور يتكلم في القدر من بعد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة العشاء الآخرة إلى أن طلع الفجر، والأوزاعي ساكت، ما أجابه بحرف. فلما انفجر الفجر قام فتوضأ لصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة الصبح، ثم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمى، وركب، فأتى حماة، فدخل الآذن، فأذن للأوزاعي. قال: فدخلت على عبد الله، وهو على سريره، وفي يده خيزرانة ينكت بها الأرض، وحوله المسودة بالسيوف المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمتة والغمد الحديد، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت: فنكت في الأرض ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أوزاعي، أتعد مقامنا هذا - أو مسيرنا - رابطاً؟ فقلت: جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها، أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال: فنكت
بالخيزرانة نكتاً هو أشد من النكت الأول، وجعل من حوله يعضون لي أيديهم، ثم رفع رأسه فقال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ قلت: جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزاني بعد إحصان، والمرتد عن الإسلام، والنفس بالنفس، فنكت بالخيزرانة نكتاً هو أشد من ذلك وأطرق ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي، ما تقول في أموال بني أمية؟ فقلت: إن كانت لهم حراماً فهي عليك حرام، وإن كانت لهم حلالاً فما أحلها الله لك إلا بحقها. قال: فنكت بالخيزرانة نكتاً هو أشد من ذلك وأطرق ملياً ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي، هممت أن أوليك القضاء، فقلت: اصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح الله الأمير، قد كان انقطاعي إلى سلفك ومن مضى من أهل بيتك، وكانوا بحقي عارفين، فإن رأى الأمير أن يستتم ما بتدأه آباؤه فليفعل. قال: كأنك تريد الإذن، قلت: إن ورائي لحرماً بهم حاجة إلى قيامي بهم وستري لهم. قال: فذاك لك. قال: فخرجت فركبت دابتي، وانصرفت. قال: فلم أعلم حين وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمت إلى بيروت إلا وعثمان على البريد. قال: قلت: بدأ الرجل في، فقال: إن الأمير غفل عن جائزتك، وقد بعث لك بمئتي دينار.
قال أحمد: قال ابن أبي العشرين - يعني: عبد الحميد: فلم يبرح الأوزاعي مكانه حتى فرقها في الأيتام والأرامل والفقراء، ثم وضع الرسائل في رد ما سمع من ثور بن يزيد في القدر.
وزاد في حديث آخر بمعناه قال: أخبرني عن الخلافة: وصية لنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فورد علي أمر عظيم، واستسلمت للموت، فقلت: لأصدقنه، فقلت: أصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح الله الأمير، كان بيني وبين داود مودة، ثم قلت، لو كانت وصية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترك علي بن أبي طالب أحداً يتقدمه.
كتب أبو جعفر أمير المؤمنين إلى الأوزاعي:
أما بعد، فقد جعل أمير المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته قبلك في عنقه، فأطلعه طلعهم، واكتب إليه بما رأيت فيه المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمحة، وبما أحببت وبدا لك. قال: فكتب إليه الأوزاعي: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين يعلمني أنه قد جعل في عنقي ما جعل الله لرعيته في عنقه، ويأمرني أن أطلعه طلعهم وأكتب إليه بما رأيت فيه المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمحة لهم، وبما أحببت، وبدا لي، فعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله وطاعته، وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أن قرابتك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن تزيد حق الله عليك إلا عظيماً، ولا طاعته إلا وجوباً، ولا الإياس فيما خالف ذلك منه إلا إنكاراً. والسلام.
قال الأوزاعي: بعث إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل. فلما وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمت إليه سلمت عليه بالخلافة، ورد علي، واستجلسني ثم قال: ما الذي بطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قلت: فانظر يا أمير المؤمنين ألا تجهل شيئاً مما أقول لك. قال: وكيف أجهله، وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك، وأقدمتك له؟! قلت: أن تسمعه ولا تعمل به: يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنما هي نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها يشكر، وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد بها إثماً، ويزداد الله عليه سخطاً.
يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما وال بات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة.
يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله عز وجل، إن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولأكم أمورها لقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كان بهم رؤوفاً رحيماً، مواسياً لهم بنفسه في ذات يده، وعن الناس لحقيق أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لم تغلق عليه دونهم الأبواب، ولم تقم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير المؤمنين، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أجرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، فكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا اتبعك منهم فئام وراء فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو شكوة، أو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟.
يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جريدة رطبة يستاك بها، ويردع بها المنافقين، فاتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي قد كسرت بها قرون أمتك، وملأت بها قلوبهم رعباً؟! فكيف بمن شقق أبشارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابياً لم يتعمده، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعرابي فقال: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد احللتك، بأبي أنت وأمي، وما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسي، فدعا الله له بخير.
يا أمير المؤمنين، رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقيد قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها. يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين، ما جاء في تاويل هذه الآية عن جدك: " ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك. فكيف بما عملته الأيدي وأحصته الألسن؟ يا أمير المؤمنين، بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟ يا أمير المؤمنين، تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك: " يا داود إنا جعلنا لك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ". قال: يا داود؛ إذا قعد الخصمان
بين يديك، فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له، فيفلج على صاحبه، فأمحوك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا كرامة. يا داود، إني إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل، لعلمهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسير، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.
يا أمير المؤمنين، حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله؟ قال: لا، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من والٍ يلي شيئاً من أمور المسلمين إلا أتي به يوم القيامة، يده مغلولة إلى عنقه، فيوقف على جسر في النار، ينتقض به ذلك الجسر انتقاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر، فهوى به في النار سبعين خزيفاً. قال له: ممن سمعت هذا؟ قال: من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر فسألهما، فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى، وانتحب حتى أبكاني، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمارة على مكة أو الطائف أو اليمن، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عباس، يا عم النبي، نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها، نصيحةً منه لعمه وشفقة منه عليه، وإنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى إليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " فقال: يا عباس عم النبي، يا صفية عمة النبي، ويا فاطمة بنت محمد، إني لست أغني عنكم من الله شيئاً، لي عملي ولكم عملكم. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقدة، لا يطلع منه على عورة، ولا يحنق على جرة، ولا تأخذه في الله لومة لائم. وقال علي رضي الله عنه: السلطان أربعة أمراء: فأمير ظلف نفسه وعماله، فذلك كالمجاهد في سبيل الله، يد الله عليه باسطة بالرحمة. وأمير ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفى هلاك إلا أن يرحم الله - وفي رواية: إلا أن يتركهم - وأمير ظلف عماله وأربع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شر الرعاء الحطمة، فهو الهالك وحده. وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافيخ النار، فوضعت على النار لتسعر إلى يوم القيامة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل، صف لي النار، فقال: إن الله أمر بها، فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، قم أوقد عليها ألف عام حتى أصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا تطفأ - وقيل: لا يضيء لهبا ولا جمرها - والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار ظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً، ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله عز وجل وضع على جبال الأرض لزالت، وما استقلت، ولو أن رجلاً دخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه، فبكى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبكى جبريل لبكائه فقال: أتبكي يا محمد، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم بكيت يا جبريل، وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه؟ فقال: أخاف أن أبتلى بمثل ما ابتلي به هاروت وما روت، فهو الذي منعني من اتكالي على
منزلتي عند ربي، فأكون قد أمنت مكره، فلم يزالا يبكيان حتى نودي من السماء أن يا جبريل ويا محمد، إن الله قد آمنكما أن تغضباه، فيعذبكما.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم، إن كنت تعلم أني لا أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن اكرم الكرم عند الله المقري، وإنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله، ووضعه.
وهذه نصيحتي، والسلام عليك. ثم نهضت فقال: إلى أين؟ فقلت: إلى البلد والوطن بإذن الله وإذن أمير المؤمنين إن شاء الله قال: قد أذنت لك، وشكرت لك نصيحتك، وقبلتها بقبولها، والله هو المرفق للخير والمعين عليه، وبه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها، فإنك المقبول القول، غير المتهم في النصيحة، قلت: أفعل إن شاء الله، فامر له بمال يستعين به على خروجه، فلم يقبله، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من أعراض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في رده.
رفع إلى المهدي أن الأوزاعي لا يلبس السواد ويحرمه، فقال لأبي عبيد الله وزيره: ادع هذا الشيخ فسله عما عنده من تحريم السواد، فأحضره أبو عبيد الله فقال له: يا شيخ، إنه رفع إلى أمير المؤمنين أنك تحرم السواد، فما عندك فيه؟ فقال: لا احرمه، ولكني أكرهه. قال: وما الذي تكره منه؟ فقال الأوزاعي: لم أر محرماً أحرم فيه، ولا عروساً جليت فيه، ولا ميتاً كفن فيه، فمن ها هنا أكرهه. فدخل أبو عبيد الله على المهدي فأخبره بقول الأوزاعي، فاستضحك المهدي، وقال: ما أحسن ما تخلص الشيخ، لا تعرضوا له، فإنه شيخ فاضل.
هكذا ورد المهدي، وإنما هو المنصور، والأوزاعي لم يبق إلى دولة المهدي.
قال بشر بن بكر:
كان والٍ بالشام قد أراد الأوزاعي على شيء فلم يجده عنه. قال: فهم أن يؤدبه، فقال له بعض من يعتاده: لا تفعل، فإنه لا مقام لك بالشام مع الأوزاعي، فإن يكن من أمير المؤمنين شيء كان من غيرك. قال: فكف عنه. قال: فبينما هم كذلك إذ جاءه كتاب أن يخرج إلى فلان الشاري، فيقابله. قال: فقال له أولئك: الآن جاءك ما تحب منه، لو ضربت رقبته لم يجبك فيه بشيء. قال: فأرسل إليه، فاجتمع، واجتمع من كان يؤلبه على الأوزاعي وغيرهم. قال: فقال له الوالي: يا أبا عمرو، هذا كتاب أمير المؤمنين يأمر فيه بالخروج إلى هذا الظالم الشاري. قال: فقال الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير اليمامي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وروسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال: فقال له الوالي: أخبرك عن كتاب أمير المؤمنين وتعارضني بغيره؟! قال: فقال له الأوزاعي: اسكت، أخبرك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارضني بغيره؟! قال: فأشار إليه بعض من كان يؤلبه عليه بيده أن يسكت. قال: فقال له: انصرف يا أبا عمرو. قال: فلما قام قال لهم الوالي: هذا رجل معصوم. قال: وقال الوالي لمن كان يؤلبه: إشارتكم إلي أن أسكت لم كان؟ قالوا: لو أشار إلى أهل الشام لضربت رقبتك.
قال ابن أبي العشرين: سمعت أميراً كان بالساحل يقول وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر: رحمك الله أبا عمرو، لقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني.
قال أبو مهر: ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده، ما يجلس إليه أحد، وحتى ملئت أذنه شتماً وهو يسمع.
قال محمد بن عبيد الطنافسي: كنت جالساً عند الثوري، فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب قلعت -
وفي رواية: من الشام رفعت - قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم، أو تلك الليلة.
قال يحيى بن معين: مات الأوزاعي في الحمام.
قال خيران بن العلاء وكان من خيار أصحاب الأوزاعي وكان الأوزاعي روى عنه قال: دخل الأوزاعي الحمام، وكان لصاحب الحمام حاجة، فاغلق الباب عليه، وذهب قال: ثم جاء ففتح الباب، فوجده ميتاً، قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة.
وقيل: إن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه. ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة. قال: وما خلف ذهباً ولا فضة ولا عقاراً ولا متاعاً إلا ستة دنانير، فضلت من عطائه، وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.
توفي الأوزاعي سنة خمسين ومئة. وقيل: سنة إحدى وخمسين ومئة. وقيل: سنة ست وخمسين. وقيل: سنة سبع وخمسين. وكان مولده سنة فتح الطوانة. فلم يتم عمره سبعين سنة، وقيل: ولد سنة ثمان وثمانين. ولما مات شيع جنازته أهل أربعة أديان: المسلمون، واليهود، والنصارى، والقبط.
قال بشر بن أبي بكر: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة، فإذا سفيان بن سعيد الثوري والأوزاعي قاعدان، فقلت لهما: ما فعل مالك؟ فقالا: وأين مالك؟ رفع مالك.
قال يزيد بن مذعور: رأيت الأوزاعي في منامي فقلت: يا أبا عمرو، دلني على درجة أتقرب بها إلى الله عز وجل قال: ما رأيت هناك أرفع من درجة العلماء، ومن بعدها درجة المحرومين.
أبو عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام في الحديث والفقه. كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس بمحلة الأوزاع، ثم تحول إلى بيروت، فسكنها مرابطاً إلى أن مات بها.
حدث عن أبي جعفر محمد بن علي بسنده إلى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مثل الراجع في صدقته كالكلب يقيء فيرجع في قيئه فيأكله.
وحدث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده إلى ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآتيه بوضوئه وحاجته، فكان يقوم من الليل فيقول: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده، القوي، سبحانرب العالمين، سبحان رب العالمين، سبحان رب العالمين القوي. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل لك حاجة قلت: يا رسول الله، مرافتك في الجنة، قال: فأعني بكثرة السجود.
والأوزاع بطن من همدان، وهو من أنفسهم. ولد سنة ثما وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، والأول أصح. وكان ثقة، مأموناً، حافظاً، صدوقاً، فاضلاً، خيراً، كثير الحديث والعلم، والفقه، حجة.
قال محمد بن إسماعيل:
عبد الرحمن الأوزاعي، ولم يكن منهم، نزل فيهم، والأوزاع من حمير الشام. وقال غيره: الأوزاع قرية بدمشق، إذا خرجت من باب الفراديس. قالوا: وكان ينزل الأوزاع فنسب إلى الأوزاع، وليس منهم. وعرض هذا القول على أحمد بن عمير - وكان علامة بحديث الشام وأنساب أهلها - فلم يرضه، وقال: إنما قيل أوزاعي لأنه من أوزاع القبائل، والأوزاع من قبائل شتى، وهو ابن عم يحيى بن أبي عمرو السيباني لحاً، وقول من نسبه إلى القرية التي هي خارج باب الفراديس أصح، وهو موضع مشهور بربض مدينة دمشق يعرف بالأوزاع، سكنه في صدر الإسلام بقايا من قبائل شتى.
قال الأصمعي: الأوزاع: الفرق يقول: وزعت الشيء على القوم إذا فرقته عليهم، وهذا اسم جمع لا واحد له.
قال الرياشي: والأوزاع: بطون من العرب يجمعها هذا الاسم.
وقال العباس بن الوليد: إنما سمي الأوزاعي لأنه كانت هجرته معهم فنسب إليهم، وهو سيباني من بني سيبان، وكان اسمه عبد العزيز فسمى هو نفسه عبد الرحمن، وكان أصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمه من سباء السند فكان ينزل في الأوزاع، فغلب عليه ذلك، والأوزاع قبيلة من حمير.
وإليه فتوى الفقه لأهل الشام لفضله فيهم وكثرة روايته، وكانفصيحاً، وكانت صنعته الكتابة والترسل، ورسائله تؤثر وتكتب.
روى عن مالك بن يخامر قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العرب كلها بنو إسماعيل بن إبراهيم إلا أربع قبائل: إلا السلف، والأوزع، وحضرموت، وثقيف.
قال الأوزاعي: كنت محتلماً أو شبيهاً به في خلافة عمر بن عبد العزيز.
قال العباس بن الوليد بن مزيد سمعت أبي يقول: كان مولد الأوزاعي ببعلبك، ومنشؤه بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، فما رأيت أبي يتعجب من شيء مما رآه في الدنيا تعجبه منه، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء. كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر امرأة تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه بأن بلغته حيث رأيته، ثم يقول: يا بني، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها، أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعوها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولا يلتفت إلى شيء إلا باكياً، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبك، ولا يرى ذلك فيه.
وكان الأوزاعي فوق الربعة، خفيف اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء.
قال الأوزاعي: مات أبي وأنا صغير، فذهبت ألعب مع الغلمان، فمر بنا فلان - وذكر شيخاً من العرب جليلاً - قال: ففر الصبيان حين رأوه، وثبت أنا، فقال: ابن من أنت فأخبرته، فقال: ابن أخي، يرحم الله أباك، فذهب بي إلى بيته، فكنت معه حتى بلغت، فألحقني في الديوان، وضرب علينا بعثاً إلى اليمامة. فلما قدمت اليمامة، ودخلنا مسجد الجامع، فلما خرجنا قال لي رجل من أصحابنا: رأيت يحيى بن أبي كثير معجباً بك، يقول: ما رأيت في هذا البعث أهدأ من هذا البعث أهدأ من هذا الشاب. قال: فجالسته فكتبت عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر، فاحترق كله.
خرج الأوزاعي في بعث إلى اليمامة. فلما وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلم إليها دخل مسجدها، فاستقبل
سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريباً منه، فجعل يحيى ينظر إلى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماته فأعجبته، وقال: ما أشبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة هذا لافتى بصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة عمر بن عبد العزيز، قال: فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأوزاعي من صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماته أخيبره بما قال يحيى، فجاء الأوزاعي الديوان وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، ويمسع منه، فقال له يحي: ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فتأخذ عنهما، فانطلق إليهما فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وابن سيرين حي، فذكر الأوزاعي أنه أتى بابه وهو مريض، قال: فكنا ندخل فنعوده، ونحن قيام لا نتكلم، وهو أيضاً لا يتكلم، فمكثنا أياماً فخرج إلينا الرجل الذي كان يوصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمنا إليه، فقلنا له: ما خبر الشيخ؟ قال: تركته قد لزق لسانه بحنكه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ومات من يومه ذلك، وكان به البطن.
قال الأوزاعي: حججت، فلقيت عبدة بن أبي لبابة بمنى، فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قال: قلت: لا، قال: فاذهب فالقه، فما بين لاييتها أفقه منه، قال: فلقيته، فإذا برجل حسن السمت مقنع.
قال أبو رزين اللخمي: أول ما سئل الأوزاعي عن الفقه سنة ثلاث عشرة ومئة وهو يومئذٍ ابن خمس وعشرين سنة، ثم لم يزل يفتي بعد ذلك بقية عمره إلى أن توفي رحمة الله عليه.
قال هقل بن زياد: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، أو نحوها من العلم، قال: وسئل يوماً عن مسألة فقال: ليس عندي فيه خبر، أي إن الذي أفتيتها كلها كان عندي أخبار.
قال إسماعيل بن عياش: انقلب الناس من غزاة الندوة سنة أربعين ومئة فسمعتهم يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.
فال أبو شعيب: قلت لأمية بن زيد بن أبي عثمان: أين الأوزاعي من مكحول؟ فقال: هو عندنا أرفع من مكحول، فقلت له: إن مكحولاً قد رأى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وإن كان قد رآهم، فأين فضل الأوزاعي في نفسه؟ وقد جمع العبادة، والورع، والعلم، والقول، الحق.
قال إسحاق بن عباد الختلي: حدثني أبي قال: حججت في بعض السنين، فرأيت شيوخاً أحدهم راكب، والآخر يسوق به، وآخر يقود به، يقولون: أوسعوا للشيخ، وأسعوا للشيخ، فقلت: من الراكب؟ ومن القائد؟ ومن السائق؟ فقالوا: الراكب الأوزاعي، والقائد مالك، والسائق الثوري، قال: لولا أنهم رأوا أنه أفضلهم ما فعلوا به ذلك.
بلغ سفيان الثوري وهو بمكة مقدم الأوزاعي، فخرج حتى لقيه بذي طوى. فلما لقيه حل رسن البعير من القطار، فوضعه على رقبته، فجعل يتخلل به، فإذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ.
قال عثمان بن عاصم، أخو علي بن عاصم: رأيت شيخاً بين الصفا والمروة على ناقة وشيخاً يقوده، واجتمع أصحاب الحديث عليه، فجعل الشيخ الذي يقود يقول: يا معشر الشباب، كفوا حتى نسأل الشيخ فقلت: من هذا الراكب؟ قالوا: هذا الأوزاعي، فقلت: من هذا الذي يقوده؟ قالوا: هذا سفيان الثوري.
قال احمد بن حنبل: دخل سفيان الثوري والأوزاعي على مالك. فلما خرجا قال مالك: أحدهما أكثر علماً من صاحبه ولا يصلح للإمام، والآخر يصلح للإمامة، يعني الأوزاعي للإمامة، ولا يصلح سفيان.
لم يكن لمالك في سفيان رأي.
ذكر الأوزاعي عند مالك فقال: ذاك إمام يقتدى به.
قال محمد بن عبد الحكم: جاء أهل الثغر إلى مالك فقالوا له: إن رأي هذين الرجلين قد غلب على أهل الثغر: سفيان الثوري، والأوزاعي، فرأي من ترى نأخذ؟ فقال: مالك: كان الأوزاعي عندنا إماماً.
قال يحيى بن سعيد القطان: قال مالك بن أنس: اجتمع عندي الأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة فقلت: فأيهم وجدته أكثر علماً؟ قال: كان أرجحهم الأوزاعي.
قال عبد الرحمن بن القاسم:
جئت يوماً إلى منزل مالك بن انس، فوجدت سفيان الثوري وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي خارجين من عنده، فدخلت إلى مالك فقلت له: أبا عبد الله، لقيت الساعة الأوزاعي والثوري خارجين من عندك، فقال لي: أما أحدهما فمن الراسخين في العلم، يريد: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
قال عون بن حكيم: حججت مع الأوزاعي وكان حجاجاً، فلما أتينا المدينة أتى المسجد، فبلغ مالكاً مقدمه، فأتاه فسلم عليه، قال: فجلسا بين الظهر والعصر يتذاكران الفقه، فلا يذكران باباً من أبواب العلم إلا ذهب الأوزاعي عليه، ثم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلميا العصر، فعاودا المذاكرة، فلم يزل الأوزاعي على تلك الحال حتى اصفرت الشمس، فناظره مالك في كتاب المكاتب والمدبر فخالفه فيه. فلما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلميا المغرب قلت لأصحابه: كيف رأيتم صاحبنا من صاحبكم؟ فقالوا: لو لم يكن في صاحبكم إلا سمته لأقررنا بفضله.
وروي أن مالكاً والأوزاعي اجتمعا في مسجد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتناظرا في المغازي فغمره الأوزاعي، ثم تناظرا في الفقه فغمره مالك.
قال سفيان بن عيينة: اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى، فقال الأوزاعي للثوري: لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال الثوري: حدثنا يزيد بن أبي زياد، فقال الأوزاعي: أروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارضني بيزيد بن أبي زياد؟! يريد: رجل ضعيف الحديث، وحديثه مخالف للسنة، قال: فاحمار وجه سفيان الثوري، فقال الأوزاعي: كأنك كرهت ما قلت! قال الثوري: نعم، فقال الأوزاعي: قم بنا إلى المقام، نلتعن أينا على الحق، قال: فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد، وقال: أنت المقدم.
قال الوليد بن مسلم: قال لي سعيد بن عبد العزيز: أما رأيت ابن عمرو الأوزاعي؟ قلت: بلى، قال: فاقتد يه، فقد كفاك من كان قبله.
قال علي بن بكار: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجل خاصة نفسه، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي. قال علي بن بكار: فقلت في نفسي: لو خيرت لهذه الأمة اخترت لها أبا إسحاق الفزاري.
وفي رواية: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة: سفيان أو الأوزاعي لاخترت لها الأوزاعي لأنه كان أكثر توسعاً.
حدث الفزاري عن الأوزاعي قال: وكان والله إماماً إذ لا نصيب اليوم إماماً.
وقال إبراهيم بن محمد الفزاري: لو أن الأمة أصابتها شدة، والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه.
قال محمد بن عبد الوهاب بن هشام بن الغاز: كنا عند أبي إسحاق الفزاري يوماً فذكر الأوزاعي فقال: إن ذاك رجل كان شأنه عجباً. قال: فقال بعض أهل المجالس: وما كان عجبه يا أبا إسحاق؟ قال: يسأل عن الشيء، عندنا فيه الأثر، فيقول: ما عندي فيه شيء، وأنا أكره التكلف، ولعله يبتلى بلجاجة السائل حتى يردد عليه، فلا يعدو الأثر الذي عندنا، فقال بعض أهل المجلس: هذا أشبه بالوحي يا أبا إسحاق! قال: فأغضبه ذلك، وقال: من هذا نعجب كان والله يرد الجواب كما هو عندنا في الأثر، ولا يقدم منه مؤخراً، ولا يؤخر منه مقدماً.
قال أبو إسحاق الفزاري: ما رأيت أحداً كان أشد تواضعاً من الأوزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك. وكان الأوزاعي أفضل أهل زمانه.
قال عبد الرحمن بن مهدي: إنما الناس في زمانهم أربعة: حماد بن زيد بالبصرة، وسفيان بالكوفة، ومالك بن أنس بالحجاز، والأوزاعي بالشام.
قال بقية: إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة، ومن طغى عليه عرفنا أنه صاحب بدعة.
قال الوليد بن مسلم: كان الأمر لا يبين على الأوزاعي حتى يتكلم، فإذا تكلم جل وملأ القلب.
قال صدقة بن عبد الله: ما رأيت أحداً أحلم، ولا أكمل، ولا أجمل فيما جمل من الأوزاعي.
قال العباس بن الوليد البيروتي: سمعت أبي يقول: ما رأيت الأوزاعي قط ضاحكاً مقهقهاً. وكان إذا أخذ في الفرائض كثر تبسمه، ولا رأيته باكياً قط.
قال موسى بن يسار: صحبت مكحولاً أربع عشرة سنة. قال عقبة: فسمعت موسى بن يسار يقول: ما رأيت أحداً قط أحد نظراً ولا أنفى للغل عن الإسلام من الأوزاعي.
قال محمد بن عجلان: ما أعلم مكان أحد أنصح للمسلمين من الأوزاعي.
قال إسحاق بن إبراهيم: إذا اجتمع سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي على أمر فهو سنة، وإن لم يكن في كتاب ناطق فإنهم أئمة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: سفيان الثوري إمام في الحديث، وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة، وليس بإمام في الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعاً.
قال إبراهيم بن إسحاق الحربي: سألت أحمد بن حنبل قلت: ما تقول في مالك بن أنس؟ فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف. قلت: فالأوزاعي؟ قال: حديث ضعيف ورأي ضعيف. قلت: فالشافعي؟ قال: حديث صحيح ورأي صحيح.
قال أحمد البيهقي: قوله في الأوزاعي: حديث ضعيف يريد به بعض ما احتج به، لا انه ضعيف في الرواية، والأوزاعي إمام ثقة في نفسه، لكنه قد يحتج في بعض مسائله بأحاديث من عساه لم يقف على حاله، ثم يحتج بالمراسيل والمقاطيع وذلك بين في كتبه.
وعن الأوزاعي قال: كان السلف إذا صدع الفجر أو قبله شيئاً كأنما على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم، حتى لوأن حميماً لأحدهم غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه، فلا يزالون كذلك حتى يكون قريباً من طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، فأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه، ثم يتحلقون إلى الفقه والقرآن.
وعن الأوزاعي قال: طالب العلم بلا سكينة ولا حلم كالإناء المنخرق، كلما حمل فيه شيء تناثر.
قال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم المزيف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا منه تركنا.
قال الوليد بن مسلم: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثاً قال: يا غلام، قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم قال: " يوصيكم الله في أولادكم " فإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
قال عمرو بن أبي سلمة: قلت للأوزاعي: في المناولة أقول فيها: حدثنا؟ قال: إن كنت حدثتك فقل، فقلت: أقول أخبرنا؟ قال: لا، قلت: فكيف أقول؟ قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو.
وعن الأوزاعي قال: ما زال هذا العلم غزيراً يتلاقاه الرجال حتى وقع في الصحف، فحمله أو دخل فيه غير أهله.
وفي رواية: كان هذا الأمر شيئاً شريفاً إذ كان الناس يتلاقونه بينهم. فلما كتب ذهب نوره، وصار إلى غير أهله.
قال أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر: بكر أصحاب الحديث على الأوزاعي، قال: فالتفت إليهم فقال: كم من حريص خاشع ليس بمنتفع ولا نافع.
قال أبو مسهر: وكان الأوزاعي لا يلحن.
قال بشر بن أبي بكر: سئل الأوزاعي فقيل: يا أبا عمرو، الرجل يسمع الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه لحن أيقيمه على عربيته؟ قال: نعم، إن سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتكلم إلا بعربي.
وقال الأوزاعي: أعربوا الحديث، فإن القوم كانوا عرباً.
وقال الأوزاعي: لا بأس يا صلاح الخطأ واللحن في الحديث.
قال الوليد بن مسلم: احترقت كتب الأوزاعي زمنه الرجفة، ثلاثة عشر قنداقاً، فأتاه رجل بنسخها، قال: يا أبا عمرو، هذه نسخة كتابك، وإصلاحك بيدك، فما عرض لشيء منها حتى فارق الدنيا.
مر إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - بالأوزاعي وحوله الناس فقال: على هذا عهدت الناس، كأنك معلم وحولك الصبيان، والله لوأن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم. قال: فقام الأوزاعي وترك الناس.
قال أبو عبيد الله كاتب المنصور: كانت ترد على المنصور من الأوزاعي - رحمه الله - كتب يتعجب منها، ويعجز كتابه عن الإجابة، فكانت تنسخ في دفاتر، وتوضع بين يدي المنصور، فيكثر النظر فيها استحساناً لألفاظها، فقال لسليمان بن مجالد: وكان من أحظى كتابه عنده، وأشدهم تقدماً في صنعته: ينبغي أن نجيب الأوزاعي عن كتبه جواباً تاماً، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ذلك وإنما أرد عليه ما أحسن، وإن له نظماً في الكتب لا أظن أحداً من جميع الناس يقدر على إجابته عنه، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق.
قال الوليد بن مسلم:
ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعيحختى رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقيل لي: إنه ها هنا في شبه غار. قال: فدخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا الأوزاعي جالس إلى جنبه. قال: فقلت: يا رسول الله، عمن أحمل العلم؟ قال لي: عن هذا، واشار إلى الأوزاعي رحمة الله عليه.
وعنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي، فقلت: يا رسول الله، عمن أكتب العلم؟ فقال: عن الأوزاعي. قال: فقلت له: عبد الله بن سمعان؟ قال: لا.
وعنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فسلمت عليه فقلت: يا رسول الله، ائذن لي في تقبيل يدك، قال: ومالك وتقبيل اليد؟ إنما تقبيل اليد من شكل الأعاجم، ثم قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في مصلى ذلك البيت يصلي. قال الوليد: فحانت مني التفاتة، فإذا أنا بالأوزاعي قائم في مصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعنه قال: رأيت في المنام كأني دفعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا شيخ جالس إلى جنب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا الشيخ مقبل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثه، وإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبل على الشيخ يسمع حديثه، قال: فسلمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد علي السلام، ثم جلست إلى بعض الجلساء، فقتل للذي جلست إليه: من ذلك الشيخ الذي قد أقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يسمع حديثه؟ قال: وما تعرف هذا؟ قال: قلت: لا قال: هذا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. قال: إنه لذو منزلة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قال: نعم.
قال الأوزاعي: رايت كأن ملكين عرجا بي، وأوقفاني بين يدي رب العزة، فقال لي: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فقتل: بعزتك أي رب، أنت أعلم. قال: فهبطا بي حتى رداني إلى مكاني.
وفي رواية: فقال: يا عبد الرحمن، أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت: بفضلك يا رب، فقلت: يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة.
قال محمد بن الأوزاعي: قال لي أبي: يا بني، أريد أن أحدثك بشيء، ولا أفعل حتى تعطيني موثقاً إنك لا تحدث به ما دمت حياً، قال: فقلت: افعل يا أبه، قال: إني رأيت فيما يرى النائم أني أدخلت الجنة، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر وعمر، وهم يعالجون مصراع باب الجنة، فإذا ردوه زال، ثم يعالجونه فإذا ردوه زال، قال: فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عبد الرحمن، ألا تمسك معنا؟ قال: فجئت فأمسكت معهم، فثبت. قال العباس: ونرى ذلك مما كان يذب عن السنة.
قال محمد بن شعيب: جلست إلى شيخ في المسجد - يعني: مسجد دمشق - فقال: أنا ميت يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك اليوم أتيته فإذا به في الصحن يتفلى فقال: ما أخذتم السرير؟ خذوه قبل أن تسبقوا إليه. قلت: ما تقول رحمك الله؟ قال: هو ما أقول لك، إني رايت في المنام كأن طائراً وقع على ركنٍ من أركان هذه القبة، فسمعته يقول: فلان قدري، وفلان كذا، وأبو حفص عثمان بن أبي العاتكة نعم الرجل وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي خير من يمشي على الأرض، وأنت ميت يوم كذا وكذا. قال: فما جاء الظهر حتى مات وأخرج بجنازته.
كان الأوزاعي من العبادة على شيء لم يسمع بأحد قوي عليه، ما اتى عليه زوال قط إلا وهو فيه قائم يصلي.
قا الأوزاعي: من أطال القيام بالليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة.
قال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة، فما رأيته مضطجعاً على المحمل في ليلٍ ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.
وكان الأوزاعي لا يكلم أحداً بعد صلاة الفجر حتى يذكر الله تعالى، فإن كلمه أحد أجابه.
وقال بشر بن المنذر: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
قال ابن عفان: حدثتني أمي قالت: دخلت على امرأة الأوزاعي فرأيت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً، فقلت: يا أختي، أخاف أن يكون الصبي بال على الحصير، فبكت وقالت: ذلك دموع الشيخ.
قال أبو مسهر: ما رئي الأوزاعي باكياً قط، ولا ضاحكاً حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحياناً. كما روي في الحديث. وكان يحيي الليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماةً وقرآنا وبكاء.
قال: وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماه، فتجده رطباً من دموعه في الليل. قال: وتفقدت ذلك في الشتاء، فلم يكن الموضع يجف في الصيف حتى يقلع الحصير من موضعه ويبسط غيره فيكون سبيله سبيل الأول.
دخل محمد بن عبد الله دمشق فهرب الأوزاعي، فبقي ثلاثة أيام صائماً يطوى، لا يجد ما يأكله، فقصد صديقاً له عند الإفطار، فقدم إليه، فقال: لو علمت قبل هذا لتقدمنا لك، فقام الأوزاعي وخرج عنه، ولم يفطر.
قال العباس بن مزيد: سمعت أصحابنايقولون: صار إلى الأوزاعي أكثر من سبعين ألف دينار، يعني من السلطان من بني امية وبني العباس. فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير، بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار. قال العباس: نظرنا فإذاه قد أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء.
وعن الأوزاعي: أنه ذكر الخردل، كان يحبه أو يتدواى به، فقال رجل من أهل صفورية: انا أبعث إليك منه يا أبا عمرو، فإنه ينبت عندنا كثير، بري. قال: فبعث إليه منه بصرة، وبعث بمسائل فبعث الأوزاعي بالخردل إلى السوق، فباعه، وأخذ ثمنه فلوساً فصرها في رقعته، وأجابه في المسائل، وكتب إليه: أن لم يحملني على ما صنعت شيء تكرهه، ولكن كانت معه مسائل فخفت أن يكون كهيئة الثمن لها.
قال محمد بن عيسى بن الطباع: أهدوا للأوزاعي هدية أصحاب الحيدث. فلما اجتمعوا قال لهم: أنتم بالخيار: إن شئتم قبلت هديتكم ولم أحدثكم وإن شئتم حدثتكم ورددت هديتكم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل، فقال له: يا أبا عمرو، تكتب إلى ملك بعلبك، فقال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك. قال: فرد الجرة، وكتب له، فوضع عنه ثلاثين ديناراً.
قال محمد بن الأوزاعي: قال لي أبي: يا بني، لوكنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا لأوشك بنا أن نهون عليهم.
قال أبو هزان: كان الأوزاعي من أسخا الناس، وإن كان الرجل ليعرض بالشيء فينقلب الأوزاعي، فيعالج الطعام فيدعوه.
كان الأوزاعي يقول: ندور مع السنة حيثما دارت.
وعن الأوزاعي قال: اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم.
وعن الأوزاعي قال: يا بقية، لا تذكر أحداً من أصحاب نبيك إلا بخير، وأزيدك يا بقية: ولا أحداً من أمتك، قال بقية: إذا سمعت الرجل يقع في غيره فهو يقول: انا خير منه.
وقال لي الأوزاعي، يا بقية، العلم ما جاء عن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما لم يجئ عن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بعلم.
وعن الأوزاعي قال: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن.
وعن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
وعن الهيثم بن عمران قال: لي الأوزاعي: أعرى الإسلام تقوى في كل يوم، وتزيد أم تضعف وتضحل وترق؟ قلت: بل تضعف، وتضمحل وترق، فقال: صدقت، ولو كان القدر من عرى الإسلام لضعف واضمحل ورق، ولكنه بدعة وهو يطول وينمو أو يزيد.
قال الأوزاعي: لا يكون في آخر الزمان شيء أعز من أخ مؤنس، أو كسب درهم من حله، أو سنة يعمل بها.
قال الأوزاعي: كتب إلي قتادة من البصرة: إن كانت الدار فرقت بيننا وبينك فإن ألفة الإسلام بين أهلها جامعة.
قال الأوزاعي: جئت إلى بيروت أرابط فيها، فلقيت سوداء عن المقابر فقلت لها: يا سوداء، أين العمارة؟ فقالت لي: أنت في العمارة، وإن أردت الخراب فبين يديك، فقلت: هذه سوداء تقول هذا؟! لأقيمن بها، فأقمت ببيروت.
قال الأوزاعي: خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء، وإذا أنا برجل راكب على جرادة منها، وهوشاكٍ في الحديد، وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل، باطل ما فيها، الدنياباطل، باطل ما فيها، الدنيا باطل، باطل ما فيها.
قال الأوزاعي: كان عندنا رجل صياد يسافر يوم الجمعة يصطاد، ولا ينتظر الجمعة، فخرج يوماً فخسف ببغلته، فلم يبق منها إلا أذنها.
كان الأوزاعي على باب دكان بحذاء درج مسجد بيروت، وحذاءه صاحب دكان يبيع فيه ناطفاً، وإلى جانبه صاحب دكان يبيع بصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماً، وهو يقول: يا أحلى من الناطف، فقال الأوزاعي: سبحان الله، ما يرى هذا بالكذب بأساً.
حدث الوليد عن مكحول أنه قال: لو خيرت بين القضاء وبين ضرب رقبتين لاخترت ضرب رقبتي. قال: ثم قدم علينا الأوزاعي، وقد كانوا يريدون يولونه القضاء. قال: فحدثته بقول مكحول، ثم رأيته بعد وقد صرف ذلك عنه، قال: إن كنت لمن سدد لي رأيي.
قال سليمان بن عبد الرجمن: قال عقبة بن علقمة: أرادوا الأوزاعي للقضاء فامتنع، وأبى، فتركوه. قال: فقلت لعقبة: هم كانوا يكرهون الناس على ما يريدون، فكيف لم يكرهوا الأوزاعي؟! فقال: هيهات، إنه كان في أنفسهم أعظم قدراً من ذلك.
وعن الأوزاعي قال: كنا قبل اليوم نمزح ونضحك، فأما إذا صرنا أئمة ينظر إلينا ويقتدى بنا، فينبغي لنا أن نتحفظ.
وفي رواية: فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم.
كان الأوزاعي يقول: إن المؤمن قليلاً، ويعمل كثيراً. وإن المنافق يقول كثيراً، ويعمل قليلاً.
وقال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير من العمل، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه.
كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يشار بك كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به. والسلام.
وقال الأوزاعي: لؤم بالرجل ودناءه نفس يفوته وقت الصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة بكسب دانق.
حدث الهقل بن زياد: أن الأوزاعي وعظ فقال في موعظته: أيها الناس، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " فإنكم في دارٍ، الثواء فيها قليل، وأنتم فيها مرحلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفسها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعماراً، وأمد أجساماً، وأعظم آثاراً، فجددوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد، مؤيدين ببطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم، وعفت آثارهم، وأخوت منازلهم، وأنست ذكرهم، فما تحسن منهم من أحد، ولا تسمع لهم ركزاً، كانوا بلهو الأمل آمنين، لميقات يوم غافلين، ولصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتاً من عقوبة الله عز وجل، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمه وزوال نعمه، ومساكن خاوية، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى، وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص، ودنيا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه، وذهب رخاؤه، فلم يبق منه إلا حمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل غير، وعقوبات عبر، وأرسال فتن، وتتابع زلازل، ورذالة خلف، بهم ظهر الفساد في البر والبحر، فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، وتبلغ بالأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى وانتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.
قال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: البسيط
الملك ملكان مقرونان في قرن ... فأهنأ العيش عندي خفة المؤن
وصحة الجسم ملك ليس يعدله ... ملك وما الملك إلا صحة البدن
قال أبو سعيد هاشم بن مزيد: سمعت أحمد بن الغمر يقول: سمعت عبد الله بن أبي السايب يقول:
قلت لأبي عمرو الأوزاعي: يا أبا عمرو، رضي الله عنك، أخبرني عن تفسير حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأتي على الناس زمان، المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر، متى هو؟ قال الأوزاعي: إن لم يكن زماننا هذا فلا أدري متى هو. قال أبو سعيد: فقلت لأبي عبد الله، أحمد بن الغمر: يا أبا عبد الله، أخبرني عن قول الأوزاعي: زماننا هذا وما بعده أشد منه كما جاءت به الآثار. فلما جاءت المحنة التي نزلت به - لما نزل عبد الله بن علي حماة - بعث إلى الأوزاعي: فأشخص إليه. قال: فنزل على ثور بن يزيد الحمصي. قال الأوزاعي: فلم يزل ثور يتكلم في القدر من بعد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة العشاء الآخرة إلى أن طلع الفجر، والأوزاعي ساكت، ما أجابه بحرف. فلما انفجر الفجر قام فتوضأ لصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة الصبح، ثم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمى، وركب، فأتى حماة، فدخل الآذن، فأذن للأوزاعي. قال: فدخلت على عبد الله، وهو على سريره، وفي يده خيزرانة ينكت بها الأرض، وحوله المسودة بالسيوف المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمتة والغمد الحديد، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت: فنكت في الأرض ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أوزاعي، أتعد مقامنا هذا - أو مسيرنا - رابطاً؟ فقلت: جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها، أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال: فنكت
بالخيزرانة نكتاً هو أشد من النكت الأول، وجعل من حوله يعضون لي أيديهم، ثم رفع رأسه فقال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ قلت: جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزاني بعد إحصان، والمرتد عن الإسلام، والنفس بالنفس، فنكت بالخيزرانة نكتاً هو أشد من ذلك وأطرق ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي، ما تقول في أموال بني أمية؟ فقلت: إن كانت لهم حراماً فهي عليك حرام، وإن كانت لهم حلالاً فما أحلها الله لك إلا بحقها. قال: فنكت بالخيزرانة نكتاً هو أشد من ذلك وأطرق ملياً ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي، هممت أن أوليك القضاء، فقلت: اصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح الله الأمير، قد كان انقطاعي إلى سلفك ومن مضى من أهل بيتك، وكانوا بحقي عارفين، فإن رأى الأمير أن يستتم ما بتدأه آباؤه فليفعل. قال: كأنك تريد الإذن، قلت: إن ورائي لحرماً بهم حاجة إلى قيامي بهم وستري لهم. قال: فذاك لك. قال: فخرجت فركبت دابتي، وانصرفت. قال: فلم أعلم حين وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمت إلى بيروت إلا وعثمان على البريد. قال: قلت: بدأ الرجل في، فقال: إن الأمير غفل عن جائزتك، وقد بعث لك بمئتي دينار.
قال أحمد: قال ابن أبي العشرين - يعني: عبد الحميد: فلم يبرح الأوزاعي مكانه حتى فرقها في الأيتام والأرامل والفقراء، ثم وضع الرسائل في رد ما سمع من ثور بن يزيد في القدر.
وزاد في حديث آخر بمعناه قال: أخبرني عن الخلافة: وصية لنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فورد علي أمر عظيم، واستسلمت للموت، فقلت: لأصدقنه، فقلت: أصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح الله الأمير، كان بيني وبين داود مودة، ثم قلت، لو كانت وصية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترك علي بن أبي طالب أحداً يتقدمه.
كتب أبو جعفر أمير المؤمنين إلى الأوزاعي:
أما بعد، فقد جعل أمير المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته قبلك في عنقه، فأطلعه طلعهم، واكتب إليه بما رأيت فيه المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمحة، وبما أحببت وبدا لك. قال: فكتب إليه الأوزاعي: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين يعلمني أنه قد جعل في عنقي ما جعل الله لرعيته في عنقه، ويأمرني أن أطلعه طلعهم وأكتب إليه بما رأيت فيه المصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمحة لهم، وبما أحببت، وبدا لي، فعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله وطاعته، وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أن قرابتك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن تزيد حق الله عليك إلا عظيماً، ولا طاعته إلا وجوباً، ولا الإياس فيما خالف ذلك منه إلا إنكاراً. والسلام.
قال الأوزاعي: بعث إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل. فلما وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمت إليه سلمت عليه بالخلافة، ورد علي، واستجلسني ثم قال: ما الذي بطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قلت: فانظر يا أمير المؤمنين ألا تجهل شيئاً مما أقول لك. قال: وكيف أجهله، وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك، وأقدمتك له؟! قلت: أن تسمعه ولا تعمل به: يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنما هي نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها يشكر، وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد بها إثماً، ويزداد الله عليه سخطاً.
يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما وال بات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة.
يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله عز وجل، إن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولأكم أمورها لقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كان بهم رؤوفاً رحيماً، مواسياً لهم بنفسه في ذات يده، وعن الناس لحقيق أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لم تغلق عليه دونهم الأبواب، ولم تقم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير المؤمنين، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أجرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، فكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا اتبعك منهم فئام وراء فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو شكوة، أو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟.
يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جريدة رطبة يستاك بها، ويردع بها المنافقين، فاتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي قد كسرت بها قرون أمتك، وملأت بها قلوبهم رعباً؟! فكيف بمن شقق أبشارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابياً لم يتعمده، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعرابي فقال: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد احللتك، بأبي أنت وأمي، وما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسي، فدعا الله له بخير.
يا أمير المؤمنين، رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقيد قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها. يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين، ما جاء في تاويل هذه الآية عن جدك: " ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك. فكيف بما عملته الأيدي وأحصته الألسن؟ يا أمير المؤمنين، بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟ يا أمير المؤمنين، تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك: " يا داود إنا جعلنا لك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ". قال: يا داود؛ إذا قعد الخصمان
بين يديك، فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له، فيفلج على صاحبه، فأمحوك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا كرامة. يا داود، إني إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل، لعلمهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسير، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.
يا أمير المؤمنين، حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله؟ قال: لا، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من والٍ يلي شيئاً من أمور المسلمين إلا أتي به يوم القيامة، يده مغلولة إلى عنقه، فيوقف على جسر في النار، ينتقض به ذلك الجسر انتقاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر، فهوى به في النار سبعين خزيفاً. قال له: ممن سمعت هذا؟ قال: من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر فسألهما، فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى، وانتحب حتى أبكاني، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمارة على مكة أو الطائف أو اليمن، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عباس، يا عم النبي، نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها، نصيحةً منه لعمه وشفقة منه عليه، وإنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى إليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " فقال: يا عباس عم النبي، يا صفية عمة النبي، ويا فاطمة بنت محمد، إني لست أغني عنكم من الله شيئاً، لي عملي ولكم عملكم. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقدة، لا يطلع منه على عورة، ولا يحنق على جرة، ولا تأخذه في الله لومة لائم. وقال علي رضي الله عنه: السلطان أربعة أمراء: فأمير ظلف نفسه وعماله، فذلك كالمجاهد في سبيل الله، يد الله عليه باسطة بالرحمة. وأمير ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفى هلاك إلا أن يرحم الله - وفي رواية: إلا أن يتركهم - وأمير ظلف عماله وأربع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شر الرعاء الحطمة، فهو الهالك وحده. وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافيخ النار، فوضعت على النار لتسعر إلى يوم القيامة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل، صف لي النار، فقال: إن الله أمر بها، فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، قم أوقد عليها ألف عام حتى أصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا تطفأ - وقيل: لا يضيء لهبا ولا جمرها - والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار ظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً، ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله عز وجل وضع على جبال الأرض لزالت، وما استقلت، ولو أن رجلاً دخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه، فبكى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبكى جبريل لبكائه فقال: أتبكي يا محمد، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم بكيت يا جبريل، وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه؟ فقال: أخاف أن أبتلى بمثل ما ابتلي به هاروت وما روت، فهو الذي منعني من اتكالي على
منزلتي عند ربي، فأكون قد أمنت مكره، فلم يزالا يبكيان حتى نودي من السماء أن يا جبريل ويا محمد، إن الله قد آمنكما أن تغضباه، فيعذبكما.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم، إن كنت تعلم أني لا أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن اكرم الكرم عند الله المقري، وإنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله، ووضعه.
وهذه نصيحتي، والسلام عليك. ثم نهضت فقال: إلى أين؟ فقلت: إلى البلد والوطن بإذن الله وإذن أمير المؤمنين إن شاء الله قال: قد أذنت لك، وشكرت لك نصيحتك، وقبلتها بقبولها، والله هو المرفق للخير والمعين عليه، وبه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها، فإنك المقبول القول، غير المتهم في النصيحة، قلت: أفعل إن شاء الله، فامر له بمال يستعين به على خروجه، فلم يقبله، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من أعراض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في رده.
رفع إلى المهدي أن الأوزاعي لا يلبس السواد ويحرمه، فقال لأبي عبيد الله وزيره: ادع هذا الشيخ فسله عما عنده من تحريم السواد، فأحضره أبو عبيد الله فقال له: يا شيخ، إنه رفع إلى أمير المؤمنين أنك تحرم السواد، فما عندك فيه؟ فقال: لا احرمه، ولكني أكرهه. قال: وما الذي تكره منه؟ فقال الأوزاعي: لم أر محرماً أحرم فيه، ولا عروساً جليت فيه، ولا ميتاً كفن فيه، فمن ها هنا أكرهه. فدخل أبو عبيد الله على المهدي فأخبره بقول الأوزاعي، فاستضحك المهدي، وقال: ما أحسن ما تخلص الشيخ، لا تعرضوا له، فإنه شيخ فاضل.
هكذا ورد المهدي، وإنما هو المنصور، والأوزاعي لم يبق إلى دولة المهدي.
قال بشر بن بكر:
كان والٍ بالشام قد أراد الأوزاعي على شيء فلم يجده عنه. قال: فهم أن يؤدبه، فقال له بعض من يعتاده: لا تفعل، فإنه لا مقام لك بالشام مع الأوزاعي، فإن يكن من أمير المؤمنين شيء كان من غيرك. قال: فكف عنه. قال: فبينما هم كذلك إذ جاءه كتاب أن يخرج إلى فلان الشاري، فيقابله. قال: فقال له أولئك: الآن جاءك ما تحب منه، لو ضربت رقبته لم يجبك فيه بشيء. قال: فأرسل إليه، فاجتمع، واجتمع من كان يؤلبه على الأوزاعي وغيرهم. قال: فقال له الوالي: يا أبا عمرو، هذا كتاب أمير المؤمنين يأمر فيه بالخروج إلى هذا الظالم الشاري. قال: فقال الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير اليمامي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وروسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال: فقال له الوالي: أخبرك عن كتاب أمير المؤمنين وتعارضني بغيره؟! قال: فقال له الأوزاعي: اسكت، أخبرك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارضني بغيره؟! قال: فأشار إليه بعض من كان يؤلبه عليه بيده أن يسكت. قال: فقال له: انصرف يا أبا عمرو. قال: فلما قام قال لهم الوالي: هذا رجل معصوم. قال: وقال الوالي لمن كان يؤلبه: إشارتكم إلي أن أسكت لم كان؟ قالوا: لو أشار إلى أهل الشام لضربت رقبتك.
قال ابن أبي العشرين: سمعت أميراً كان بالساحل يقول وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر: رحمك الله أبا عمرو، لقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني.
قال أبو مهر: ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده، ما يجلس إليه أحد، وحتى ملئت أذنه شتماً وهو يسمع.
قال محمد بن عبيد الطنافسي: كنت جالساً عند الثوري، فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب قلعت -
وفي رواية: من الشام رفعت - قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم، أو تلك الليلة.
قال يحيى بن معين: مات الأوزاعي في الحمام.
قال خيران بن العلاء وكان من خيار أصحاب الأوزاعي وكان الأوزاعي روى عنه قال: دخل الأوزاعي الحمام، وكان لصاحب الحمام حاجة، فاغلق الباب عليه، وذهب قال: ثم جاء ففتح الباب، فوجده ميتاً، قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة.
وقيل: إن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه. ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة. قال: وما خلف ذهباً ولا فضة ولا عقاراً ولا متاعاً إلا ستة دنانير، فضلت من عطائه، وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.
توفي الأوزاعي سنة خمسين ومئة. وقيل: سنة إحدى وخمسين ومئة. وقيل: سنة ست وخمسين. وقيل: سنة سبع وخمسين. وكان مولده سنة فتح الطوانة. فلم يتم عمره سبعين سنة، وقيل: ولد سنة ثمان وثمانين. ولما مات شيع جنازته أهل أربعة أديان: المسلمون، واليهود، والنصارى، والقبط.
قال بشر بن أبي بكر: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة، فإذا سفيان بن سعيد الثوري والأوزاعي قاعدان، فقلت لهما: ما فعل مالك؟ فقالا: وأين مالك؟ رفع مالك.
قال يزيد بن مذعور: رأيت الأوزاعي في منامي فقلت: يا أبا عمرو، دلني على درجة أتقرب بها إلى الله عز وجل قال: ما رأيت هناك أرفع من درجة العلماء، ومن بعدها درجة المحرومين.
عبد الْأَعْلَى بن عَامر الثَّعْلَبِيّ لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي
عبد الأعلى بن عامر الثعلبي كوفى روى عن ابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين وسعيد بن جبير روى عنه اسرائيل وابو عوانة وشريك سمعت
أبي يقول ذلك، نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا علي يعني ابن المديني قال سمعت يحيى يعني ابن سعيد قال سألت الثوري عن احاديث عبد الأعلى عن ابن الحنفية فوهنها، نا عبد الرحمن نا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال ابى قال عبد الرحمن بن مهدي سألت سفيان عن حديث عبد الاعلى فقال كنا نرى انها من كتاب ابن الحنفية ولم يسمع منه شيئا، نا عبد الرحمن نا على ابن الحسين قال سمعت أبا حفص يقول كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن عبد الاعلى الثعلبي، وسمعت عبد الرحمن يقول ما ادرى كيف احدث عن عبد الاعلى، واحد يقول عن ابن الحنفية وآخر يقول عن ابى عبد الرحمن وآخر يقول عن سعيد بن جبير، قال وكان يحيى يعنى ابن سعيد يحدثنا عن عبد الاعلى، نا عبد الرحمن نا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا طالب قال قال احمد بن حنبل قال عبد الرحمن يعني ابن مهدى كل شئ روى عبد الاعلى الثعلبي عن محمد ابن الحنفية انما هو كتاب اخذه لم يسمعه، نا عبد الرحمن أنا عبد الله بن أحمد فيما كتب إليَّ قال قال أبي عبد الاعلى الثعلبي ضعيف الحديث، نا عبد الرحمن نا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال سئل يحيى بن معين عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ليس بذاك القوى، نا عبد الرحمن قال سألت ابى عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ليس بقوى، يروى عن محمد (بن علي أبي جعفر ومحمد بن على ابن الحنفية يقال انه وقع إليه
صحيفة لرجل يقال له عامر بن هنى كان يروى عن ابن الحنفية فقلت له فيما يروى عن - ) ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه؟ قال شبه ريح لم يصححها، قلت له لم؟ قال وقع إليه كتاب الحارث الاعور، نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ضعيف الحديث ربما رفع الحديث وربما وقفه.
أبي يقول ذلك، نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا علي يعني ابن المديني قال سمعت يحيى يعني ابن سعيد قال سألت الثوري عن احاديث عبد الأعلى عن ابن الحنفية فوهنها، نا عبد الرحمن نا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال ابى قال عبد الرحمن بن مهدي سألت سفيان عن حديث عبد الاعلى فقال كنا نرى انها من كتاب ابن الحنفية ولم يسمع منه شيئا، نا عبد الرحمن نا على ابن الحسين قال سمعت أبا حفص يقول كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن عبد الاعلى الثعلبي، وسمعت عبد الرحمن يقول ما ادرى كيف احدث عن عبد الاعلى، واحد يقول عن ابن الحنفية وآخر يقول عن ابى عبد الرحمن وآخر يقول عن سعيد بن جبير، قال وكان يحيى يعنى ابن سعيد يحدثنا عن عبد الاعلى، نا عبد الرحمن نا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا طالب قال قال احمد بن حنبل قال عبد الرحمن يعني ابن مهدى كل شئ روى عبد الاعلى الثعلبي عن محمد ابن الحنفية انما هو كتاب اخذه لم يسمعه، نا عبد الرحمن أنا عبد الله بن أحمد فيما كتب إليَّ قال قال أبي عبد الاعلى الثعلبي ضعيف الحديث، نا عبد الرحمن نا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال سئل يحيى بن معين عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ليس بذاك القوى، نا عبد الرحمن قال سألت ابى عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ليس بقوى، يروى عن محمد (بن علي أبي جعفر ومحمد بن على ابن الحنفية يقال انه وقع إليه
صحيفة لرجل يقال له عامر بن هنى كان يروى عن ابن الحنفية فقلت له فيما يروى عن - ) ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه؟ قال شبه ريح لم يصححها، قلت له لم؟ قال وقع إليه كتاب الحارث الاعور، نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن عبد الاعلى الثعلبي فقال ضعيف الحديث ربما رفع الحديث وربما وقفه.
عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الشواء، أبو القاسم الزاهد:
سمع أبوي علي الحسن بن شهاب العكبري بعكبرا والحسن بن الحسين بن العباس ابن دوما النعالي ببغداد، وسكن بيت المقدس وحدث هناك، روى عنه الفقيه نصر بن إبراهيم ومكي بن عبد السلام المقدسيان وعمر بن عبد الكريم الدهستاني وأبو بكر يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن عمر بن شبل الإسكندراني، وكان سماعه منه في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
كتب إلى أبو محمد القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي قال:
أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد القوي المصيصي، حدثنا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ شِهَابِ بْنِ الْحَسَنِ العكبري، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلادٍ النصيبي، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «سَتَتَّبِعُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ بَاعًا فَبَاعًا وَذِرَاعًا فَذِرَاعًا وَشِبْرًا فَشِبْرًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» .
سمع أبوي علي الحسن بن شهاب العكبري بعكبرا والحسن بن الحسين بن العباس ابن دوما النعالي ببغداد، وسكن بيت المقدس وحدث هناك، روى عنه الفقيه نصر بن إبراهيم ومكي بن عبد السلام المقدسيان وعمر بن عبد الكريم الدهستاني وأبو بكر يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن عمر بن شبل الإسكندراني، وكان سماعه منه في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
كتب إلى أبو محمد القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي قال:
أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد القوي المصيصي، حدثنا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ شِهَابِ بْنِ الْحَسَنِ العكبري، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلادٍ النصيبي، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «سَتَتَّبِعُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ بَاعًا فَبَاعًا وَذِرَاعًا فَذِرَاعًا وَشِبْرًا فَشِبْرًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» .