Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=151557&book=5539#125123
عبد الله بن ثوب وقيل ابن ثواب
وقيل: ابن أثوب.
ويقال: ابن عبد الله - أبو مسلم الخولاني الداراني الزاهد - ويقال: ابن عبد - ويقال: ابن عوف - ويقال: ابن مسلم - ويقال: اسمه يعقوب بن عوف.
أدرك الجاهلية، وسكن الشام فنزل بداريا، أصله من اليمن، قارئ أهل الشام.
حدث أبو مسلم الخراساني قال: حدثني الحبيب الأمين - أما هو إلي فحبيب، وأما هو عندي فأمين - عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرددها ثلاث مرات، فقدمنا أيدينا فبايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا رسول الله، قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وأسر كلمة خفية: ألا تسألوا الناس شيئاً. قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه.
أسلم أبو مسلم في عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إنه أسلم على عهد معاوية، فقيل له: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان؟ فقال: إني وجدت هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يصيبهم شيء، ثم يدخلون الجنة، فأردت أن أكون من الأولين، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يحاسبون حساباً يسيراً، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة.
وقيل: إنما كان إسلامه في عهد أبي بكر، ولكن هاجر إلى الأرض المقدسة أيام معاوية من قبل عمر وسكنها.
قال المصنف: المحفوظ أن أبا مسلم الخولاني تقدم إسلامه، والذي تأخر إسلامه أبو مسلم الجليلي، فسأله أبو مسلم الخولاني عن سبب تأخر إسلامه، فذكر معنى ما في الحديث. وكان إسلام أبي مسلم الجليلي في خلافة عمر.
حدث شرحبيل بن مسلم الخولاني أن الأسود بن قيس تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم الخولاني فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: فتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فرددها عليه مرات.
فلما رأى أنه لا يجيبه أمر بنار عظيمة فأججت ثم قذف أبا مسلم فيها فلم تضره، فقال له من اتبعه: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك أمر من اتبعك فأمره بالرحيل، فأتى المدينة فأناخ راحلته بباب المسجد، وعمد إلى سارية من سواري المسجد ليصلي إليها، فبصر به عمر، فأقبل إليه فقال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، فقال: من أين أقبلت؟ قال:
من اليمن. قال: فما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال أنشدك بالله أنت هو! قال: اللهم نعم، فاعتنقه وبكى، وأخذ بيده وانطلق به إلى أبي بكر رضي الله عنه حتى أجلسه فيما بينه وبينه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل به مثلما فعل بإبراهيم خليل الرحمن فلم تضره النار.
قال ابن عياش: وأنا أدركت من اليمن من ريما مازح بعضهم بعضاً فيقول الخولانيون للعنسيين: صاحبكم الكذاب أحرق صاحبنا بالنار فلم تضره.
لقي كعب أبا مسلم الخولاني فقال: كيف كرامتك على قومك؟ قال: إني عليهم لكريم. قال: إني أجد في التوارة غير ما تقول. قال: فصدقت التوراة، وكذب أبو مسلم. قال: فما وجدت في التوراة؟ قال: وجدت في التوراة أنه لم يكن حكيم من قوم إلا كان أزهدهم فيه قومه ثم الأقرب فالأقرب، فإذا كان في حبسه شيء عيروه به، وإن كان عمل برهة من دهره ذنباً عيروه به، فقالوا: فلان يعيرنا وابن فلان يعيرنا.
وفي رواية: إذاً، ما كان رجل حكيم في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه.
رأى كعب أبا مسلم الخولاني فقال: من هذا؟ قالوا: أبو مسلم. فقال: هذا حكيم هذه الأمة.
كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطه في مسجده، فإذا غلبه النوم مشق ساقيه، ويقول: أنت أحق بالضرب من البهائم، فإذا غلبه النوم. قال: منك لا مني.
قال الزهري: كنت عند الوليد فكاد يتناول عائشة فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك عن رجل من أهل الشام كان قد أوتي حكمة؟ قال: ومن هو؟ قلت: أبو مسلم الخولاني، وسمع أهل الشام كأنهم ينالون من عائشة فقال: ألا أخبركم بمثلكم ومثل أمكم هذه؟ كمثل عينين في رأسه تؤذيان صاحبهما ولا يستطيع أن يعاقبهما إلا بالذي هو خير لهما. قال: فسكت.
قال عثمان بن أبي العاتكة: كان من أمر أبي مسلم أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوطمن الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقيه سوطاً أو سوطين، وكان يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد.
وعن شرحبيل: أن رجلين أتيا أبا مسلم في منزله فقال بعض أهله: هو المسجد فأتيا المسجد فوجداه يركع، فانتظرا انصرافه، وأحصيا ركوعه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة، والآخر أربع مئة ركعة قبل أن ينصرف، فقال له: يا أبا مسلم، كنا قاعدين خلفك ننتظرك. فقال: إني لو عرفت مكانكما لانصرفت إليكما، وما كان لكما أن تحفظا علي صلاتي، وأقسم لكما بالله إن خير كثرة السجود اليوم القيامة.
قال: وكان أبو مسلم يتكلف حضور صلاة الجماعة من داريا إلى المسجد الجامع بدمشق التماس الفضيلة. وبين داريا والمسجد أربعة أميال.
وكان أول من دخل المسجد لصلاة الصبح.
قيل لأبي مسلم الخولاني حين كبر: إنك كبرت ورققت، فلو رفقت بنفسك، قال: أليس إذا أرسلت الحلبة فقلت لفرسانها: ارفقوا بها وسددوا بها، فإذا دنوتم من الغاية فلا تستبقوا منها؟ قال: فقد رأيت الغاية فدعوني.
قال عطية بن قيس: دخل أناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم، وقد احتفر جورة في فسطاطه وجعل فيها نطعاً وأفرغ فيه الماء وهو يتصلق فيه فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر وقد أرخص لك في الفطر في الغزو والسفر؟! فقال: لو حضرت قتال لأفطرت، ولتهيأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بدن، إنما تجري وهي ضمر، ألا وإن أيامنا باقية جائية، لها نعمل.
قال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة قط فذكرت جهنم إلا صرفتها إلى الاستجارة من النار والاستعاذة منها.
كان أبو مسلم يكثر أن يرفع صوته بالتكبير حتى مع الصبيان، وكان يقول: اذكر الله حتى يرى الجاهل أنك مجنون.
أتى رجل أبا مسلم الخولاني فقال له: أوصني يا أبا مسلم قال: اذكر الله تحت كل شجرة وحجر، فقال: ذرني. قال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً. قال: فكان أبو مسلم يكثر ذكر الله عز وجل، فقال: أمجنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالجنون يا بن أخي، ولكن هذا دواء الجنون.
كان من هدي أبي مسلم الخولاني إذا انصرف إلى منزله بعد العشاء إظهار التكبير، فإذا دنا من منزله وسمعته أم مسلم أجابته، فإذا دخل منزله سلم وقال: يا أم مسلم، شدي رحلك، فإنه ليس على جسر جهنم معبر.
قال أبو مسلم: ما عملت عملاً أبالي من رآه إلا أن يخلو الرجل بأهله، أو يقضي حاجة غائط.
كان أبو مسلم الخولاني إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا الركب أو بعض ذلك قريباً من ذلك، فإذا جازوا قال للناس: هل لكم شيء؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن. قال: فألقى بعضهم مخلاة عمداً، فلما جاوزوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر قال له: اتبعني فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر، فقال: خذها.
وعن أبي مسلم الخولاني أنه أتى على دجلة وهو يرمي بالخشب من مدها، فوقف عليها ثم حمد الله تبارك وتعالى وأثنى عليه، وذكر سير بني إسرائيل في البحر ثم لهز دابته فخاضت الماء وتبعه الناس حتى قطعوا، ثم قال: هل فقدتم شيئاً من متاعكم فأدعوا الله أن يرده علي؟
اشترى أبو مسلم بغلة فقالت له امرأته: ادع الله لنا فيها بالبركة. قال: اللهم بارك
لنا فيها، فأصبحت وقد نفقت. ثم اشترى بغلة ثانية فقالت له مثلها، فأصبحت وقد نفقت. ثم اشترى الثالثة فقالت: أبا مسلم، ادع الله لنا فيها بالبركة. قال: اسكتي يا حمقاء، اللهم متعنا بها.
كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل سلم، فإذا بلغ وسط الدار كبر وكبرت امرأته، فإذا بلغ البيت كبر وكبرت امرأته قال: فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام فيأكل، فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه ثم أتى باب البيت فكبر وسلم وكبر فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج وإذا هي جالسة بيدها ود في الأرض تنكت به، فقال لها: ما لك؟ قالت: الناس بخير وأنت أبو مسلم لو أنك أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئاً نعيش به، فقال: اللهم، من أفسد علي أهلي فأعم بصره. قال: وكانت امرأة فقالت: أنت امرأة أبي مسلم، فلو كلمت زوجك يكلم معاوية ليخدمكم ويعطيكم قال: فبينا هذه المرأة في منزلها والسراج يزهر إذ أنكرت بصرها، فقالت: سراجكم طفئ قالوا: لا. قالت: إنا لله ذهب بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده الله وتطلب إليه، فدعا الله، فرد بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها التي كانت عليها.
حدث بلال بن كعب قال: كان الظبي يمر بأبي مسلم الخولاني فيقول له الصبيان: يا أبا مسلم، ادع ربك يحبس علينا هذا الظبي فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم.
قالت امرأة أبي مسلم: يا أبا مسلم، ليس لنا دقيق. قال: عندك شيء؟ قالت: درهم بعنابه غزلاً. قال: ابغينيه، وهاتي الجراب، فدخل السوق، فوقف على رجل يبيع الطعام فوقف عليه سائل فقال: يا أبا مسلم، تصدق علي فهرب منه وأتى حانوتاً آخر وتبعه السائل فقال: تصدق علينا. فلما أضجره أعطاه الدرهم، ثم عمد إلى الجراب فملأه من نحاتة النجارين مع التراب ثم أقبل إلى باب منزله فنقر الباب وقلبه مرعوب من أهله. فلما ذهب من الليل الهديء جاء أبو مسلم فنقر الباب. فلما دخل وضعت بين يديه خواناً
وأرغفة حواري فقال: من أين لكم هذا؟ قالت: يا أبا مسلم، من الدقيق الذي جئت به، فجعل يأكل ويبكي.
حدث الأوزاعي قال: أتى أبا مسلم نفر من قومه فقالوا: يا أبا مسلم، أما تشتاق إلى الحج؟ قال: بلى، لو أصبت لي أصحاباً، قال: فقالوا: نحن أصحابك، قال: لستم لي بأصحاب، إنما أصحابي قوم لا يريدون الزاد ولا المزاد، قالوا: سبحان الله وكيف يسافر قوم بلا زاد ولا مزاد؟! قال لهم: ألا ترون إلى الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد، والله يرزقها وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها؟ قال: فإنا نسافر معك، فقال: تهيؤوا على بركة الله تعالى، قال: فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاداً ولا مزاد، قال: فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم، طعام لنا وعلف لدوابنا قال: فقال لهم: نعم، فتنحى غير بعيد فتسنم مسجد أحجار، فصلى فيه ركعتين ثم جثا على ركبتيه قال: إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي، وإنما خرجت زائراً لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من الناس فيوسعهم قرى، وإنا أضيافك وزوارك فأطعمنا واسقنا، واعلف دوابنا، قال: فأتي بسفرة فمدت بين أيديهم وجيء بجفنة من ثريد تبخر، وجيء بقلتين من ماء وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به. فلم تزل حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا، لا يتكلفون زاداً ولا مزاداً.
كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال: فنام والسبحة في يده. قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح، فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات. قال: فقال: هلمي يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور تسبح. فلما جلست سكتت.
قالت جارية أبي مسلم الخولاني: يا أبا مسلم، لقد جعلت لك السم في طعامك منذ كذا وكذا فما أراه يضرك. فقال: ولم فعلت ذلك؟ قالت: أنا جارية شابة، ولا أنت تدنيني من فراشك. فقال: إني كنت
أقول إذا قرب إلي طعامي: بسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه داء، رب الأرض ورب السماء. وأعتقها.
حدث سعيد بن عبد العزيز:
إن الناس كانوا بأرض الروم فبعثوا سرية، فأبطأت عن وقت قدومها، فأحزن ذلك الجيش. فبينا أبو مسلم الخولاني يصلي إلى رمحه إذا بطائر قد وقع على سنان الرمح فقال: يا أبا مسلم، أبشر وبشر المسلمين بأن الله عز وجل قد سلم السرية وغنموا كذا، وهم قادمون في وقت كذا، فقال أبو مسلم: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا ارزبابيل. فذهب الحزن من صدور المؤمنين.
وفي رواية: مسلي الحزن عن قلوب بني آدم.
قال أبو مسلم لجارية له: لولا أن الله تعالى يقول: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله "، لأوجعتك. قال: فقالت: يرحمك الله فوالله، إنني لممن يرجو أيامه فما لك لا توجعني؟ فقال: إن الله يأمرني أن أغفر للذين لا يرجون أيامه فعمن يرجو أيامه أحرى، فانطلقي فأنت حرة.
انصرف أبو مسلم الخولاني إلى منزله فإذا جاريته تبكي فقال لها: يا بنية ما يبكيك؟! فقالت: ضربني سيدي ابنك، فدعا ابنه فقال: كيف ضربك؟ قالت: لطمني. قال لابنه: اجلس فجلس فقال لها: الطميه كما لطمك فقالت: لا ألطم سيدي، فقال لها: عفوت عنه؟ قالت: نعم، قال: لا تطلبينه في الدنيا ولا في الآخرة؟ قالت: نعم. قال: اذهبي حتى تشهدي على ما تقولين. فدعت رجالاً فقال لها أبو مسلم: إن ابني لطمها لطمة، فدعوتها لتقتص من ابني فأبت أن تقتص، فزعمت أنها قد عفت عنه لا تطلبه لا في الدنيا ولا في الآخرة. فكذلك؟ قالت: نعم. قال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله. فأقبل عليه بعض
القوم فقال: أعتقتها من أجل أن لطمها ابنك وليس لك خادم غيرها؟ قال: دعونا عنكم أيها القوم ليتنا نفلت كفافاً، لا لنا ولا علينا.
عن أبي مسلم الخولاني: أنه سمع مكفوفاً بالمدينة وهو يلعن عثمان وما ولد، فقال: يا مكفوف، ألعثمان تقولون هذا يا أهل المدينة؟! كنتم بين قاتل وخاذل فكلاً جزى الله شرأ. يا أهل المدينة، لأنتم شر من ثمود، إن ثموداً قتلوا ناقة الله وأنتم قتلتم خليفة الله، وخليفة الله أكرم على الله من ناقته. يا أهل المدينة، لو لم يكن في عثمان إلا أني رأيت في المنام كأن السماء، فإذا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره، وإذا بالسماء تقطر دماً وقائل يقول: هذا دم عثمان قتل مظلوماً.
مر بأبي مسلم الخولاني رجال من أهل المدينة قدموا من الحج وهو عند معاوية بدمشق، فخرج فلقيهم فقال لهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ قالوا: نعم. قال: فكيف رأيتم صنع الله بهم؟ قالوا: بذنوبهم. قال: أشهد أنكم عند الله مثلهم. قال: فدخلوا على معاوية فقالوا له: ما لقينا من هذا الشيخ الذي خرج من عندك؟! فبعث إليه فجاءه فقال: ما لك ولبني أخيك؟ قال: قلت لهم: مررتم على الحجر؟ قالوا: نعم فقلت: كيف رأيتم صنع الله بهم؟ فقالوا: صنع الله بهم بذنوبهم، فقلت: أشهد أنكم عند الله مثلهم. فقالوا: كيف يا أبا مسلم؟ قال: قتلوا ناقة الله وقتلتم خليفته، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته.
قال أبو مسلم الخولاني: مثل الإمام كمثل عين عظيمة صافية طيبة الماء، يجري منها إلى نهر عظيم فيخوض الناس النهر فيكدرونه، ويعود عليهم صفو العين، فإن كان الكدر من قبل العين فسد النهر. قال: ومثل الإمام العادل ومثل الناس كمثل فسطاط لا يستقم إلا بعمود، ولا يقوم العمود إلا بأطناب وأتاد، فكلما نزع وتد ازداد العمود وهناً، فلا يصلح الناس إلا بالإمام ولا يصلح الإمام إلا بالناس.
قام أبو مسلم الخولاني إلى معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر فقال: يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور. إن جئت بشيء كان لك شيء، وإلا فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسب أن الخلافة جمع المال وتفريقه، إنما الخلافة القول بالحق والعمل بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار ما صفا لنا رأس عيننا، يا معاوية، وإياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك. قال: ثم جلس فقال له معاوية: يرحمك الله يا أبا مسلم، يرحمك الله يا أبا مسلم.
دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم، ثم قال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر. فقال معاوية: ما شاء الله.
كان أبو مسلم الخولاني يقول: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت لهم اهتدوا وإذا خفيت عليهم تحيروا.
قال: ومثل الصالحين مثل الأميال في الأرض، ينجو بها السالك من الضلالة. وكان يقول: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بيناً بعيداً. وإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً. قال: وكان يقول: كلمة العالم الذي لا يعمل بها تزل عن القلب كما يزل القطر عن الصفا.
قال أبو مسلم الخولاني: العلماء ثلاثة؛ رجل عاش في علمه وعاش الناس فيه، ورجل عاش في علمه ولم يعش معه فيه أحد، ورجل عاش الناس في علمه وكان وبالاً عليه.
دخل أبو مسلم الخولاني المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا جلوساً، فرجا أن يكونوا على ذكر، على خير، فجلس إليهم فإذا بعضهم يقول: قدم غلام لي فأصاب كذا وكذا، وقال الآخر: وأنا قد جهزت غلامي. فنظر إليهم فقال: سبحان الله هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل فإذا بيت لا سقف له، فجلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير، على ذكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا، فقام عنهم.
قال أبو مسلم الخولاني: أظهر اليأس مما في أيدي الناس، فإن فيه الغنى، وأقل طلب الحاجات إلى الناس، فإن فيه الفقر الحاضر، وإياك وما يعتذر منه من الكلام، وصل صلاة مودع يظن أن لن يعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك الأمس وتكون غداً خيراً منك اليوم فافعل.
قال مسلم بن حامد: قال لي أبو مسلم: كيف بك إذا صرت في حثالة من الناس؟ فقلت: يا أبا مسلم، وما الحثالة؟ فقال: قوم لا تعرفهم ولا يعرفونك، أولئك شرار الخلق، ألا إن أفضلكم في ذلك الزمان أخملكم ذكراً. قلت: يا أبا مسلم، وما خمالة الذكر؟ قال: من لم يعرف الناس ولم يعرفوه، ولم يتصد للفتن فتهلكه، وأخفهم حاذاً. فقلت: يا أبا مسلم، وما خفة الحاذ؟ قال: من قل أهله وعياله، ولم يكن متشاغلاً عن عبادة ربه عز وجل، إن الرجل منكم يخرج فيحتطب الدنيا من حلها وحرامها لأهله وعياله. ألا وسيعيش الرجل منكم في ذلك الزمان في حسب غيره. فقلت: يا أبا مسلم، سبحان الله! أويكون هذا؟ قال: نعم، يدرس العلم ويذهب الناس فينتمي قوم إلى غير آبائهم، ويتولى قوم إلى غير مواليهم، لا يجدون من يصدقهم ولا يكذبهم.
قال أبو مسلم: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وإنهم اليوم شوك لا ورق فيه، إن سببتهم سبوك وإن ناقدتهم ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك.
زاد في أخرى: وإن فررت منهم أدركوك، فقال رجل: فكيف أصنع؟ قال: أعط من عرضك ليوم فقرك.
قال أبو مسلم الخولاني: أربع لا يقبلن في أربع: السرقة، والخيانة، والغلول، ومال اليتيم: في الحج، والعمرة، والصدقة، والنفقة في سبيل الله عز وجل.
قال أبو مسلم: مثل هذه من توفيق - وعقد طرف اصبعه - خير من مثل هذا من عقل وفرج بين يديه.
توفي أبو مسلم الخولاني بأرض الروم بحمة بسر في خلافة معاوية، فقال لبسر بن أرطأة: أمرني على من مات معك من المسلمين، واعقد لي لواء عليهم، واجعل قبري أقصى القبور إلى العدو، فإني أرجو أن آتي يوم القيامة بلوائهم.
وكان معاوية شتى بسر بن أرطأة سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة أربع وأربعين.
روي عن بعض مشيخة دمشق قال:
أقبلنا من أرض الروم قفالاً. فلما أن خرجنا من حمص متوجهين إلى دمشق مررنا بالعمير الذي يلي حمص على نحو من أربعة أميال في آخر الليل. فلما سمع الراهب الذي في الصومعة كلامنا اطلع إلينا فقال: ما أنتم يا قوم؟ فقلنا: ناس من أهل دمشق أقبلنا من
أرض الروم فقال: هل تعرفون أبا مسلم الخولاني؟ فقلنا: نعم. قال: فإذا أتيتموه فأقرئوه السلام، وأعلموه أنا نجده في الكتب رفيق عيسى بن مريم. أما إنكم إن كنتم تعرفونه لا تجدونه حياً. قال: فلما أشرفنا على الغوطة بلغنا موته.
يعني سمعوا خبر وفاته بدمشق وكانت وفاته بأرض الروم.
قال معاوية: إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري.
توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان فقام ناس إلى معاوية فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أعظم الله أجرك في ابن أخيك، وجعل ثوابك من مصيبتك به الجنة، فأسكت عنهم فردوا عليه الكلام فقال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله إلى جنته وكرامته ليس بمصيبة. إن المصيبة كل المصيبة على مثل أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأزدي.