عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الحميد
أبو خازم السكوني القاضي ولي قضاء دمشق، والأردن، وفلسطين في أيام أحمد بن طولون في خلافة المعتمد وكان ممن أفتى بدمشق بخلع أبي أحمد الموفق.
حدث عن شعيب بن أيوب بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار.
أبو خازم بالخاء المعجمة. قاضي مدينة السلام وغيرها. كان عراقي المذهب، وكان عفيفاً، ورعاً، فاضلاً، نبيلاً، أديباً. وكان حنفي المذهب، عالما بمذهب أهل العراق، والفرائض، والحساب، والزرع، والقسمة، حسن العلم بالجبر، والمقابل، وحساب الدور، وغامض الوصايا والمناسخات. قدوة في العلم بصناعة الحكم ومباشرة الخصوم وأحذق الناس بعمل المحاضر والسجلات والإقرارات. أخذ العلم عن هلال بن يحيى وجماعة. كان يفضل عليهم. وأما عقله قالوا: لا نعلم أحداً رآه فقال: إنه رأى أعقل منه.
وبلغ من شدته في الحكم أن المعتضد وجه إليه بطريف المخلدي فقال له: إن على الضبعي بيعاً كان للمعتضد، ولغيره مالاً، وقد بلغني أن غرماءه ثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله، فاجعلنا كأحدهم، فقال أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت قلدني: إنه قد أخرج الأمر من عنقه وجعله في عنقي ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة، فرجع إليه طريف فأخبره، فقال: قال له: فلان وفلان يشهدان - يعني لرجلين جليلين - كانا في ذلك الوقت - فقال: يشهدان عندي، وأسأل عنهما، فإن زكيا قبلت شهادتهما وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي، فامتنع أولئك من الشهادة فزعاً، ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.
وحدث وكيع القاضي قال:
كنت أتقلد لأبي خازم وقوفاً في أيام المعتضد، منها وقوف الحسن بن سهل. فلما
استكثر المعتضد من عمارة القصر المعروف بالحسني أدخل إليه بعض وقوف الحسن بن سهل التي كانت في يدي ومجاورة للقصر، وبلغت السنة آخرها، وقد حببت مالها إلا ما أخذه المعتضد، فجئت إلى أبي خازم فعرفته اجتماع مال السنة، واستأذنته في قسمته في سبيله وعلى أهل الموقف، فقال لي: فهل جبيت ما على أمير المؤمنين؟ فقلت له: ومن يجسر على مطالبة الخليفة؟! فقال: والله لا قسمت الراتفاع أو تأخذ ما عليه، والله إن لم يزح العلة لا وليت له عملاً، ثم قال: امض إليه الساعة وطالبه فقلت: من يوصلني إليه؟ فقال لي: امض إلى صافي الحرمي، وقل إنك رسول أنفذت في مهم، فإذا وصلت فعرفه ما قلتلك. فجئت فقلت لصافي ذلك، فأوصلني، وكان آخر النهار. فلما مثلت بين يدي الخليفة ظن أن أمراً عظيماً قد حدث وقال: هيه! قل، كأنه متشوف، فقلت له: إني ألي لعبد الحميد قاضي أمير المؤمنين وقوف الحسن بن سهل، وفيها ما قد أدخله أمير المؤمنين إلى قصره، ولما جئت بمال هذه السنة امتنع من تفرقته إلى أن أجبي ما على أمير المؤمنين، وقد أنفذني الساعة قاصداً بهذا السبب، وأمرني أن أقول: إني حضرت في مهم، لأصل. فسكت ساعة مفكراً لم قال: أصاب عبد الحميد، يا صافي، هات الصندوق. قال: فأحضره صندوقاً لطيفاً، فقال: كم يجب لك؟ فقلت: الذي جبيت عام أول من ارتفاع هذا العقار: أربع مئة دينار. قال: كيف حذقك بالنقد والوزن؟ قلت: أعرفهما، قال: هاتوا ميزاناً، فجاؤوا بميزان، فأخرج من الصندوق دنانير عيناً، فوزن لي منها أربع مئة دينار، فقبضتها وانصرفت إلى أبي خازم بالخبر، فقال: أضفها إلى ما اجتمع للوقف عندك، وفرقه في غدٍ في سبيله، ولا تؤخر ذلك، ففعلت. فكثر شكر الناس لأبي خازم بهذا السبب وإقدامه على الخليفة بمثل ذلك، وشكرهم للمعتضد في إنصافه.
حدث أبو عبد الله الصيمري أن عبد الله بن سليمان الوزير وجه بأبي إسحاق الزجاج إلى أبي خازم القاضي وأبي عمر محمد بن يوسف يسألهما في رجل محبوس بدين ثابت عندهما، فبدأ أبو إسحاق بأبي خازم، فجاء إليه وقد علا النهار، ودخل داره، فقال أبو إسحاق للبواب: استأذن لإبراهيم الزجاج، فقال: إن القاضي الآن دخل إلى الدار، وليس العادة بعد أن يقوم من مجلسه، ويدخل الدار أن يستأذن عليه، حتى يصلي العصر، فقال له أبو إسحاق: تعلمه أن الزجاج بالباب، فأبى عليه ذلك، فقال: تعلمه أن رسول الوزير عبيد الله بن سليمان بالباب، فأبى عليه ذلك فقال تعلمه أن رسول الوزير عبيد الله فقال: لو جاء الوزير الساعة لم يستأذن عليه. فانصرف أبو إسحاق وقعد في المسجد مغتاظاً مما جرى، غير أنه لا يشتهي الانصراف إلى الوزير إلا بعد قضاء الحاجة، وقعد إلى وقت العصر، فخرج البواب وكنس الباب ورش، وقال للزجاج: القاضي قد جلس، فإن كان لك رأي في الدخول إليه فقم، فقام أبو إسحاق، فدخل على أبي خازم، فسلم عليه، وتعرف كل واحد منهما خبر صاحبه، غير أنه لم يكن منه من الإقبال ما كان أبو إسحاق يعتقد منه، فأدى أبو إسحاق الرسالة، فقال أبو خازم: تقرأ على الوزير - أعزه الله - السلام وتقول له: إن هذا الرجل محبوس لخصمه في دينه، وليس بمحبوس لي، فإن أراد الوزير إطلاقه، فإما أن يسأل خصمه إطلاقه، أو يقضي عنه دينه، فإن الوزير لا يعجزه ذلك. قال أبو إسحاق: جئت إلى هاهنا قبل الظهر فامتنع البواب من الاستئذان على القاضي، فجلست إلى الآن للدخول عليه - وهو يقصد بهذا أن ينكر القاضي على البواب - فقال له: نعم، هكذا عادتي، إذا قمت من مجلسي، ودخلت إلى داري اشتغلت ببعض الحوائج التي تخصني، فإن القاضي لا بد له من خلوة وتودع، فاغتاظ أبو إسحاق من ذلك أكثر، وقال له مبكتاً له؛ كنت بحضرة الوزير في بعض هذه الليالي، فأنشدت بين يديه: المتقارب.
أذل فيا حبذا من مذل ... ومن سافكٍ لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
فسأل عن ذلك فقيل: إنها للقاضي أعزه الله، فقال أبو خازم: نعم هذه الأبيات قلتها في والدة هذا الصبي - لغلام قاعد بين يديه، في يده كتاب من الفقه، يقرأ عليه وهو ابنه - فإني كنت ضعيف الحال أول ما عرفتها، وكنت مائلاً إليها، ولم يمكن إرضاؤها بالمال، فكنت أطيب قلبها بالبيت والبيتين. فقام أبو إسحاق وودعه، ومضى إلى أبي عمر فاستقبله حجابه من باب الدار، وأدخلوه إلى الدار، فاستقبله القاضي من مجلسه بخطوات، وأجلسه في موضعه، وأكرمه كما يكرم من يكون خصيصاً بوزير إذا جاء إلى ناظر من قبله، فقال له: في أي شيء يرسم؟ فأدى إليه رسالة الوزير في باب الرجل المحبوس، فقال أبو عمر: السمع والطاعة لأمر الوزير، أنا أسأل صاحب الحق حتى يفرج عنه، فإن فعل، وإلا وزنت الدين من مالي إجابة لمسألة الوزير، فقام أبو إسحاق فودعه، وانصرف إلى الوزير ضيق الصدر من أبي خازم، مسروراً بصنيع أبي عمر، فاستبطأه الوزير، فحكى له ما جرى من كل واحد منهما، فقال له الوزير: فأي الرجلين أفضل عندك يا أبا إسحاق؟ فقال: أبو عمر، في عقله وسداده وحسن عشرته ومعرفته بحقوق الوزير يغري بأبي حازم: فقال الوزير: دع هذا عنك، أبو خازم دين كله، وأبو عمر عقل كله.
وحكى أبو عبد الله الصيمري قال: كتب عبيد الله بن سليمان رقعة إلى أبي خازم القاضي يسأله في ضيعة ليتيم يبيعها بثمنها أو أكثر من بعض الدهاقين الكبار له ملك يجاور هذه الضيعة، فوقف أبو خازم على الرقعة وكتب إليه: إن هذه الضيعة لا حاجة باليتيم إلى بيعها، لو كان ثمنها في ملك اليتيم لرأيت أن أشتري له مثلها، إذ كانت هذه الضيعة مما يرغب هذا الدهقان في شرائها، وإن رأى الوزير أن يجعلني أحد رجلين: إما رجل صين الحكم به أو صين الحكم عنه، والسلام.
جلس أبو خازم القاضي في الشرقية - وهو قاضيها - للحكم، وارتفع إليه خصمان، فاجترأ أحدهما بحضرته إلى ما أوجب التأديب، فأمر بتأديبه، فأدب، فمات في الحال،
وكتب إلى المعتضد من المجلس: اعلم أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - أن خصمين حضراني فاجترأ أحدهما إلى ما وجب عليه معه الأدب عندي، فأمرت بتأديبه، فأدب فمات، وإذا كان المراد بتأديبه مصلحة المسلمين فمات في الأدب فالديه واجبة في بيت مال المسلمين، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بحمل الدية لأحملها إلى ورثته، فعاد الجواب إليه بأنا قد أمرنا بحمل الدية إليك، وحمل إليه عشرة آلاف درهم، فأحضر ورثة المتوفى ودفعها إليهم.
حدث مكرم بن بكر - وكان من فضلاء الرجال وعلمائهم - قال:
كنت في مجلس أبي خازم القاضي، فتقدم رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فادعى الشيخ عليه ألف دينار عيناً ديناً، فقال له: ما تقول؟ فأقر، فقال للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه، فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك أن تنقده البعض وتسأله إنظارك؟ فقال: لا، فقال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه. قال: فتفرس أبو خازم فيها ساعة ثم قال: تلازما إلى أن أنظر بينكما في مجلس آخر. قال: فقلت لأبي خازم: وكان بيننا أنسة: لم أخر القاضي حبسه؟ فقال لي: ويحك! إني أعرف في أكثر الأحوال في وجه الخصوم وجه المحق من المبطل، وقد صارت لي بذلك دربة لا تكاد تخطئ وقد وقع لي في أن سماحة هذا بالإقرار هي عن بلية وأمرٍ بعيد من الحق، وليس في كلزومهما بطلان حق، ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على وثيقة مما أحكم به بينهما، أما رأيت قلة تغاضبهما في المناظرة، وقلة اختلافهما، وسكون طباعهما مع عظم المال؟ وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع حتى يقر بمثل هذا طوعاً عجلاً بمثل هذا المال. قال: فنحن كذلك نتحدث إذ استؤذن على أبي خازم لبعض وجوه الكوخ من مياسير التجار، فأذن له فدخل وسلم، وتثبت لكلامه، فأحسن فقال: قد بليت بابن لي حدث يتقاين، ويتلف كل ما ظفر به من مالي في القيان عند فلان المقين، فإذا منعته مالي احتال بحيل تضطرني إلى التزام غرم له، وإن عددت ذلك طال، وأقربه أن قد نصب المقين اليوم ليطالبه بألف دينار عينا ديناً حالاً، وبلغني أنه تقدم إلى القاضي ليقر له بها، فيحبس، وأقع مع أمه فيما ينغص عيشي إلى أن أزن ذلك عنه للمقين، فإذا قبضه المقين حاسبه بذلك من الجذور. ولما سمعت بذلك بادرت إلى القاضي لأشرح له هذا الأمر فيداويه بما يشكره
الله عز وجل، فجئت فوجدتهما على الباب. قال: فحين سمع ذلك أبو خازم تبسم وقال لي: كيف رأيت؟ قال: فقلت: لهذا ولمثله فضل الله عز وجل القاضي، وجعلت أدعو له، فقال: علي بالغلام والشيخ فدخلا، فأرهب أبو خازم على الشيخ، ووعظ الغلام. قال: فأقر الشيخ بأن الصورة كما بلغ القاضي، وأنه لا شيء له على الغلام، وأخذ الرجل بيد ابنه وانصرفوا.
مات أبو خازم سنة اثنين وتسعين ومئتين، وله خمس وتسعون سنة.
أبو خازم السكوني القاضي ولي قضاء دمشق، والأردن، وفلسطين في أيام أحمد بن طولون في خلافة المعتمد وكان ممن أفتى بدمشق بخلع أبي أحمد الموفق.
حدث عن شعيب بن أيوب بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار.
أبو خازم بالخاء المعجمة. قاضي مدينة السلام وغيرها. كان عراقي المذهب، وكان عفيفاً، ورعاً، فاضلاً، نبيلاً، أديباً. وكان حنفي المذهب، عالما بمذهب أهل العراق، والفرائض، والحساب، والزرع، والقسمة، حسن العلم بالجبر، والمقابل، وحساب الدور، وغامض الوصايا والمناسخات. قدوة في العلم بصناعة الحكم ومباشرة الخصوم وأحذق الناس بعمل المحاضر والسجلات والإقرارات. أخذ العلم عن هلال بن يحيى وجماعة. كان يفضل عليهم. وأما عقله قالوا: لا نعلم أحداً رآه فقال: إنه رأى أعقل منه.
وبلغ من شدته في الحكم أن المعتضد وجه إليه بطريف المخلدي فقال له: إن على الضبعي بيعاً كان للمعتضد، ولغيره مالاً، وقد بلغني أن غرماءه ثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله، فاجعلنا كأحدهم، فقال أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت قلدني: إنه قد أخرج الأمر من عنقه وجعله في عنقي ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة، فرجع إليه طريف فأخبره، فقال: قال له: فلان وفلان يشهدان - يعني لرجلين جليلين - كانا في ذلك الوقت - فقال: يشهدان عندي، وأسأل عنهما، فإن زكيا قبلت شهادتهما وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي، فامتنع أولئك من الشهادة فزعاً، ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.
وحدث وكيع القاضي قال:
كنت أتقلد لأبي خازم وقوفاً في أيام المعتضد، منها وقوف الحسن بن سهل. فلما
استكثر المعتضد من عمارة القصر المعروف بالحسني أدخل إليه بعض وقوف الحسن بن سهل التي كانت في يدي ومجاورة للقصر، وبلغت السنة آخرها، وقد حببت مالها إلا ما أخذه المعتضد، فجئت إلى أبي خازم فعرفته اجتماع مال السنة، واستأذنته في قسمته في سبيله وعلى أهل الموقف، فقال لي: فهل جبيت ما على أمير المؤمنين؟ فقلت له: ومن يجسر على مطالبة الخليفة؟! فقال: والله لا قسمت الراتفاع أو تأخذ ما عليه، والله إن لم يزح العلة لا وليت له عملاً، ثم قال: امض إليه الساعة وطالبه فقلت: من يوصلني إليه؟ فقال لي: امض إلى صافي الحرمي، وقل إنك رسول أنفذت في مهم، فإذا وصلت فعرفه ما قلتلك. فجئت فقلت لصافي ذلك، فأوصلني، وكان آخر النهار. فلما مثلت بين يدي الخليفة ظن أن أمراً عظيماً قد حدث وقال: هيه! قل، كأنه متشوف، فقلت له: إني ألي لعبد الحميد قاضي أمير المؤمنين وقوف الحسن بن سهل، وفيها ما قد أدخله أمير المؤمنين إلى قصره، ولما جئت بمال هذه السنة امتنع من تفرقته إلى أن أجبي ما على أمير المؤمنين، وقد أنفذني الساعة قاصداً بهذا السبب، وأمرني أن أقول: إني حضرت في مهم، لأصل. فسكت ساعة مفكراً لم قال: أصاب عبد الحميد، يا صافي، هات الصندوق. قال: فأحضره صندوقاً لطيفاً، فقال: كم يجب لك؟ فقلت: الذي جبيت عام أول من ارتفاع هذا العقار: أربع مئة دينار. قال: كيف حذقك بالنقد والوزن؟ قلت: أعرفهما، قال: هاتوا ميزاناً، فجاؤوا بميزان، فأخرج من الصندوق دنانير عيناً، فوزن لي منها أربع مئة دينار، فقبضتها وانصرفت إلى أبي خازم بالخبر، فقال: أضفها إلى ما اجتمع للوقف عندك، وفرقه في غدٍ في سبيله، ولا تؤخر ذلك، ففعلت. فكثر شكر الناس لأبي خازم بهذا السبب وإقدامه على الخليفة بمثل ذلك، وشكرهم للمعتضد في إنصافه.
حدث أبو عبد الله الصيمري أن عبد الله بن سليمان الوزير وجه بأبي إسحاق الزجاج إلى أبي خازم القاضي وأبي عمر محمد بن يوسف يسألهما في رجل محبوس بدين ثابت عندهما، فبدأ أبو إسحاق بأبي خازم، فجاء إليه وقد علا النهار، ودخل داره، فقال أبو إسحاق للبواب: استأذن لإبراهيم الزجاج، فقال: إن القاضي الآن دخل إلى الدار، وليس العادة بعد أن يقوم من مجلسه، ويدخل الدار أن يستأذن عليه، حتى يصلي العصر، فقال له أبو إسحاق: تعلمه أن الزجاج بالباب، فأبى عليه ذلك، فقال: تعلمه أن رسول الوزير عبيد الله بن سليمان بالباب، فأبى عليه ذلك فقال تعلمه أن رسول الوزير عبيد الله فقال: لو جاء الوزير الساعة لم يستأذن عليه. فانصرف أبو إسحاق وقعد في المسجد مغتاظاً مما جرى، غير أنه لا يشتهي الانصراف إلى الوزير إلا بعد قضاء الحاجة، وقعد إلى وقت العصر، فخرج البواب وكنس الباب ورش، وقال للزجاج: القاضي قد جلس، فإن كان لك رأي في الدخول إليه فقم، فقام أبو إسحاق، فدخل على أبي خازم، فسلم عليه، وتعرف كل واحد منهما خبر صاحبه، غير أنه لم يكن منه من الإقبال ما كان أبو إسحاق يعتقد منه، فأدى أبو إسحاق الرسالة، فقال أبو خازم: تقرأ على الوزير - أعزه الله - السلام وتقول له: إن هذا الرجل محبوس لخصمه في دينه، وليس بمحبوس لي، فإن أراد الوزير إطلاقه، فإما أن يسأل خصمه إطلاقه، أو يقضي عنه دينه، فإن الوزير لا يعجزه ذلك. قال أبو إسحاق: جئت إلى هاهنا قبل الظهر فامتنع البواب من الاستئذان على القاضي، فجلست إلى الآن للدخول عليه - وهو يقصد بهذا أن ينكر القاضي على البواب - فقال له: نعم، هكذا عادتي، إذا قمت من مجلسي، ودخلت إلى داري اشتغلت ببعض الحوائج التي تخصني، فإن القاضي لا بد له من خلوة وتودع، فاغتاظ أبو إسحاق من ذلك أكثر، وقال له مبكتاً له؛ كنت بحضرة الوزير في بعض هذه الليالي، فأنشدت بين يديه: المتقارب.
أذل فيا حبذا من مذل ... ومن سافكٍ لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
فسأل عن ذلك فقيل: إنها للقاضي أعزه الله، فقال أبو خازم: نعم هذه الأبيات قلتها في والدة هذا الصبي - لغلام قاعد بين يديه، في يده كتاب من الفقه، يقرأ عليه وهو ابنه - فإني كنت ضعيف الحال أول ما عرفتها، وكنت مائلاً إليها، ولم يمكن إرضاؤها بالمال، فكنت أطيب قلبها بالبيت والبيتين. فقام أبو إسحاق وودعه، ومضى إلى أبي عمر فاستقبله حجابه من باب الدار، وأدخلوه إلى الدار، فاستقبله القاضي من مجلسه بخطوات، وأجلسه في موضعه، وأكرمه كما يكرم من يكون خصيصاً بوزير إذا جاء إلى ناظر من قبله، فقال له: في أي شيء يرسم؟ فأدى إليه رسالة الوزير في باب الرجل المحبوس، فقال أبو عمر: السمع والطاعة لأمر الوزير، أنا أسأل صاحب الحق حتى يفرج عنه، فإن فعل، وإلا وزنت الدين من مالي إجابة لمسألة الوزير، فقام أبو إسحاق فودعه، وانصرف إلى الوزير ضيق الصدر من أبي خازم، مسروراً بصنيع أبي عمر، فاستبطأه الوزير، فحكى له ما جرى من كل واحد منهما، فقال له الوزير: فأي الرجلين أفضل عندك يا أبا إسحاق؟ فقال: أبو عمر، في عقله وسداده وحسن عشرته ومعرفته بحقوق الوزير يغري بأبي حازم: فقال الوزير: دع هذا عنك، أبو خازم دين كله، وأبو عمر عقل كله.
وحكى أبو عبد الله الصيمري قال: كتب عبيد الله بن سليمان رقعة إلى أبي خازم القاضي يسأله في ضيعة ليتيم يبيعها بثمنها أو أكثر من بعض الدهاقين الكبار له ملك يجاور هذه الضيعة، فوقف أبو خازم على الرقعة وكتب إليه: إن هذه الضيعة لا حاجة باليتيم إلى بيعها، لو كان ثمنها في ملك اليتيم لرأيت أن أشتري له مثلها، إذ كانت هذه الضيعة مما يرغب هذا الدهقان في شرائها، وإن رأى الوزير أن يجعلني أحد رجلين: إما رجل صين الحكم به أو صين الحكم عنه، والسلام.
جلس أبو خازم القاضي في الشرقية - وهو قاضيها - للحكم، وارتفع إليه خصمان، فاجترأ أحدهما بحضرته إلى ما أوجب التأديب، فأمر بتأديبه، فأدب، فمات في الحال،
وكتب إلى المعتضد من المجلس: اعلم أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - أن خصمين حضراني فاجترأ أحدهما إلى ما وجب عليه معه الأدب عندي، فأمرت بتأديبه، فأدب فمات، وإذا كان المراد بتأديبه مصلحة المسلمين فمات في الأدب فالديه واجبة في بيت مال المسلمين، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بحمل الدية لأحملها إلى ورثته، فعاد الجواب إليه بأنا قد أمرنا بحمل الدية إليك، وحمل إليه عشرة آلاف درهم، فأحضر ورثة المتوفى ودفعها إليهم.
حدث مكرم بن بكر - وكان من فضلاء الرجال وعلمائهم - قال:
كنت في مجلس أبي خازم القاضي، فتقدم رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فادعى الشيخ عليه ألف دينار عيناً ديناً، فقال له: ما تقول؟ فأقر، فقال للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه، فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك أن تنقده البعض وتسأله إنظارك؟ فقال: لا، فقال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه. قال: فتفرس أبو خازم فيها ساعة ثم قال: تلازما إلى أن أنظر بينكما في مجلس آخر. قال: فقلت لأبي خازم: وكان بيننا أنسة: لم أخر القاضي حبسه؟ فقال لي: ويحك! إني أعرف في أكثر الأحوال في وجه الخصوم وجه المحق من المبطل، وقد صارت لي بذلك دربة لا تكاد تخطئ وقد وقع لي في أن سماحة هذا بالإقرار هي عن بلية وأمرٍ بعيد من الحق، وليس في كلزومهما بطلان حق، ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على وثيقة مما أحكم به بينهما، أما رأيت قلة تغاضبهما في المناظرة، وقلة اختلافهما، وسكون طباعهما مع عظم المال؟ وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع حتى يقر بمثل هذا طوعاً عجلاً بمثل هذا المال. قال: فنحن كذلك نتحدث إذ استؤذن على أبي خازم لبعض وجوه الكوخ من مياسير التجار، فأذن له فدخل وسلم، وتثبت لكلامه، فأحسن فقال: قد بليت بابن لي حدث يتقاين، ويتلف كل ما ظفر به من مالي في القيان عند فلان المقين، فإذا منعته مالي احتال بحيل تضطرني إلى التزام غرم له، وإن عددت ذلك طال، وأقربه أن قد نصب المقين اليوم ليطالبه بألف دينار عينا ديناً حالاً، وبلغني أنه تقدم إلى القاضي ليقر له بها، فيحبس، وأقع مع أمه فيما ينغص عيشي إلى أن أزن ذلك عنه للمقين، فإذا قبضه المقين حاسبه بذلك من الجذور. ولما سمعت بذلك بادرت إلى القاضي لأشرح له هذا الأمر فيداويه بما يشكره
الله عز وجل، فجئت فوجدتهما على الباب. قال: فحين سمع ذلك أبو خازم تبسم وقال لي: كيف رأيت؟ قال: فقلت: لهذا ولمثله فضل الله عز وجل القاضي، وجعلت أدعو له، فقال: علي بالغلام والشيخ فدخلا، فأرهب أبو خازم على الشيخ، ووعظ الغلام. قال: فأقر الشيخ بأن الصورة كما بلغ القاضي، وأنه لا شيء له على الغلام، وأخذ الرجل بيد ابنه وانصرفوا.
مات أبو خازم سنة اثنين وتسعين ومئتين، وله خمس وتسعون سنة.