ظالم بن عمرو بن ظالم
ويقال: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر ابن حَلْبس بن نُفاثة بن عدي بن الدئل ويقال: عثمان بن عمرو ويقال: عمرو بن سفيان ويقال: عمرو بن ظالم أبو الأسود الدِّيلي البصري
قدم على معاوية، وهو أول من وضع للناس النحو، وولي قضاء البصرة. قال أبو الأسود الدِّيلي: أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، فهم يموتونا موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرت به جنازة، فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بأخرى فأُثني على صاحبها شراً، فقال عمر: وجبت. قال أبو الأسود: قلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قال: قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قلنا: واثنان؟ ثم لم أسأله عن الواحد ".وعن ابن داب قال: قدم أبو الأسود الدِّيلي على معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد استقامت له البلاد، فأدنى معاوية مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده
عمرو بن العاص، فقدم على معاوية، فاستأذن عليه في غير مجلس الإذن، فأذن له. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، ما أعجلك قبل وقت الإذن؟ قال: يا أمير المؤمنين، أتيتك لأمر قد أوجعني، وأرقني، وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين. قال: وما ذاك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا الأسود رجل مفوّه، له عقل وأدب، من مثله الكلام يذكر، وقد أذاع بمصرك من الذكر لِعليّ، والبُغض لعدوه، وقد خشيت عليك أن يُثري في ذلك حتى تؤخذ بعنقك، وقد رأيت أن ترسل إليه فترهِّبه وترعِّبه، وتسبُره وتخبُره ولك من مسألته على إحدى خِبرتين: ما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلك، فيقول ما ليس من ورائه، فيُحتمل ذلك عنه، فيكون لك في ذلك عافية صلاح إن شاء الله، فقال معاوية: أم والله لقلما تركتُ رأيي لرأي امرىء قط إلا كنت فيه وبين أن أرى ما أكره، ولكن إن أرسلت إليه فساءلته، فخرج من مساءلتي بأمر لا أحد عليه مقدماً، ويملأني غيظاً لمعرفتي بما تُريد، وإن الرأي فيه أن نقبل منه ما أبدى من لفظه، فليس لنا أن نشرح عن صدره، وندع ما وراء ذلك يذهب جانباً. قال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين. وقد عرفت رأيي، ولست أرى لك خلافي، وما آلوك خيراً، فأرسِل إليه ولا تفترش مهاد العجز فتتخذه وطيئاً. فأرسل معاوية إلى أبي الأسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثاً، فرحب به معاوية وقال: يا أبا الأسود، خلوت أنا وعمرو وتشاجرنا في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين، قال: سل يا أمير المؤمنين عما بدا لك، قال: يا أبا الأسود، أيّهم كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أشدهم كان حباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأوقاهم له بنفسه؛ فنظر معاوية إلى عمرو، وحرّك رأسه، ثم تمادى في مسألته، فقال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان أفضلهم عندك؟ قال: أتقاهم لربه، وأشدهم خوفاً لدينه، فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا أبا الأسود، فأيّهم أعلم؟ قال: أقولهم للصواب، وأفصلهم للخطاب، قال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان
أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء، وأحسنهم غَناء، وأصبرهم على اللقاء، قال: فأيّهم كان أوثق عنده؟ قال: مَنْ أوصى إليها فيما بعده، قال: فأيّهم كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدِّيقاً؟ قال: أولهم به تصديقاً فأقبل معاوية على عمرو وقال: لاجزاك الله خيراً، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئاً؟! فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبيات من الشعر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، إني لا أحسن أن أقول الشعر، فالعَن عمراً، بكل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً، أو مدركاً رباحاً؟ إن أمرأ لم يعرف إلا بسهم أُجيل عليه فجال لَحقيقٌ أن يكون كليل اللسان، ضعيف الجَنان، مستشعراً للاستكانة، مقارناً للذل والمهانة، غير وَلوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، مبصبص بذَنبه لعظيم ذنبه، غير ناظر في أبهة الكرام، ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجنة ظلماء مع قلتة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار، فقال عمرو: يا أخا بني الدئل، والله لأنت الذليل القَليل، ولولا ماتمتّ به من نسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الجُدّيّة، غير أنك بهم
تطول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ
مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل " ول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل "
لَعمري لقد أعيا القرونَ التي مضت ... تحوّلُ غشٍّ في الفؤادِ كمينِ
وقام أبو الأسود وهو يقول: " الطويل "
ألا إن عمراً رامَ خفيةٍ ... وكيفَ ينالُ الذئبُ ليثَ عرينِ؟
فانصرفا إلى منازلهما، وذاع حديثهما في البلاد، فبينا أبو الأسود في بعض الطريق إذ لقيه شاب من كلب يقال له: كليب بن مالك، شديد البغض لعلي وأصحابه، شديد الحب لمعاوية وأصحابه، فقال له: يا أبا الأسود، أنت المنازل عمراً أمس بين يدي أمير المؤمنين؟ أم والله لو شهدتك لأغرّقتُ جبينك، فقال أبو الأسود: من أنت يا بن أخي الذي بلغ بك خطرك كل هذا، وممن أنت؟ قال: أنا ممن لا ينكر، أنا امرؤ من قضاعة ثم من كلب، ثم أنا كليب بن مالك، فقال أبو الأسود: أراك كلباً من كلب، ألا أرى للكلب شيئاً؛ إذا هو نبح أفضل من أن يقطع باخساً، فاخسأ ثم اخسأ كلباً، فانصرف وخلاه. فبلغ ذلك القول معاوية فأكثر التعجب والضحك. ثم إنهما اجتماعا بعد ذلك عنده، فقال معاوية للكلبي: يا أخا كلب، ما كان أغناك من منازعة أبي الأسود، فقال الكلبي: ولم لا أنازعه؟ والله لأنا أكثر نفيراً، وأعزّ عشيراً، وأطلق لساناً، وإن شاء لأُنافِرَنّه بين يديك، فقال معاوية: والله يا أخا كلب، ما صدقت في واحدة من الثلاث، فقال أبو الأسود: والله لولا هذا الجالس يعني: يزيد بن معاوية فإنكم أخواله، لقطعت عني لسانك، فقال يزيدك يا أبا الأسود، قل، فأعمامي أحب إلي من أخوالي، فقال أبو الأسود: سل هذا يا أمير المؤمنين بمن ينافرني، بِحِمْيَر أو معَدّ؟ قال أبو حمزة الثمالي: لما بويع معاوية وفد عليه الأحنف بن قيس وأبو الأسود الدِّيلي في أهل البصرة، فقال معاوية للأحنف حين دخل عليه: أنت القاتل أمير المؤمنين، يريد عثمان، والخاذل أم المؤمنين، ومقاتلها بصفين؟ فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، لا تَردُدِ الأمور على
أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا، والسيوف التي قاتلناك بها في عواتقنا، فلا تمدّ لنا شبراً من الغدر إلا مددنا لك باعاً من الختر، وإن كنت يا أمير المؤمنين لجدير أن تستصفي كدر قلوبنا بفضل حلمك. قال: إني فاعل إن شاء الله. ثم أقبل على أبي الأسود الدِّيلي فقال له: أنت القائل لعلي: ابعثني حكماً، فوالله ما أنت هناك، إنك لَفَهيهُ المحاورة، عييّ بالجواب، فكيف كنت صانعاً؟ قال: كنت جامعاً أصحاب محمد فأقول لهم: أَبَدرِيّ، أُحُديّ، شجَريّ، عَقَبيّ أحبّ إليكم أم رجل من الطلقاء؟ فقال معاوية: مالهّ قاتله الله، والله لقد خلعني خلع الوصيف.
وقيل: إن أبا الأسود قال لمعاوية: لو كنتُ بمكان أبي موسى ما صنعتُ ما صنع. قال: وما كنت تصنع؟ قال: كنت أنظر رهطاً من المهاجرين ورهطاً من الأنصار فأناشدهم الله، المهاجرون أحقّ بالخلافة أو الطلقاء؟ فقال معاوية: أقسمت عليك لا تذكرنّ هذا الحديث ما عشت.
وكان أبو الأسود شاعراً متشيعاً. وكان ثقة في حديثه. وكان عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة استخلف عليها أبا الأسود الدِّيلي، فأقرّه علي بن أبي طالب.
وهو أول من تكلم في النحو، وقاتل مع علي عليه السلام يوم الجمل. وهلك في ولاية عبيد الله بن زياد.
والدُّيِّلي: بضم الدال وكسر الياء. وقيل: الدُّؤَلي: مضمومة الدال مفتوحة الواو، من الدُّئِل بضم الدال وكسر الياء. والدُّئِل: الدابة قيل: دابة صغيرة دون الثعلب وفوق ابن عرس ويقال لرهط أبي الأسود: الدُّؤلي، وامتنعوا أن يقولوا: أبو الأسود الدّيلي، لئلا يوالوا بين الكسرات، فقالوا: الدؤلي كما قالوا في النَّمِر: النَّمَري.
واختلف في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة: أخذ أبو الأسود العربية عن علي بن أبي طالب، فكان لايخرج شيئاً مما أخذه عن علي إلى
أحد، حتى بعث إليه زياد: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً ينتفع الناس به ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: " أنَّ الله بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله "، فقال: ما ظننت أن أمر الناس صار إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما رسمه الأمير، فليبغني كاتباً لقِناً يفعل ما أقول، فأُتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر قال أبو العباس: أحسبه منهم فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقُط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضمت فمي فانقُط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئاً من ذلك غُنَّة فاجعل ما كان النقطة نقطتين. فهذا نقط أبي الأسود.
وقيل: إن رجلاً جاء إلى زايد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا، وترك بنوناً، فقال زياد: توفي أبانا، وترك بنوناً؟! ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي كنت نهيتك أن تضع لهم، أبو الأسود استأذنه في أن يضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم.
وقيل: إن سعداً مرّ بأبي الأسود وكان رجلاً فارسياً وهو يقود فرسه، فقال: مالك يا سعد لا تركب؟ َ فقال: إن فرسي ضالع، فضحك به بعض من حضره. قال: أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، فصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه.
وكان أبو الأسود من أفصح الناس. قال أبو الأسود: إني لأجد للّحن غمزاً كغمز اللحم.
ويقال: إن ابنته قالت له يوماً: يا أبه، ما أحسنّ السماءِ، فقال: نجومُها، قالت: إني لم أُرد أيّ شيء أحسن منها، إنما تعجبت من حسنها. قال: إذاً فقولي: ما أحسنَ السماءَ!
وقيل: إن ابنته قالت له: يا أبه، ما أشدّث الحرِّ في يوم شديد الحرّ فقال لها: إذا كانت الصقعاء من فوقك، والرمضاء من تحتك، فقالت: إنما أردت أن الحرّ شديد، قال: فقولي: ما أشدّ الحرَّ.
والصقعاء: الشمس. فحينئذٍ وضع كتاباً.
وقيل: إن أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال: مَن يقرئني مما أنزل الله على محمد؟ قال: فأقرأه رجل " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكن الله برىء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالَهُ فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولا عِلم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرئني هذا سورة " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقلت: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكون الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب ألا يقرىء القرآن إلاّ عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
قال العتبي:
كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه. فلما قدم عليه كلمه، فوجده يلحن، فرده إلى زياد، وكتب إليه كتاباً يلومه فيه، ويقول: أمثل عبيد الله تصنع؟! فبعث زياد إلى أبي الأسود، فقال له: يا أبا الأسود: إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويُعربُون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً، وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه، ففعل ذلك. فلما مرّ به أبو الأسود رفع الرجل صوت يقرأ: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فاستعظم ذلك أبو الأسود، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم
رجع من فوره إلى زياد، فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألتك، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم " يزل " يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها، فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع " المختصر " المنسوب إليه بعد ذلك.
قال محمد بن سلاّم الجمحي: أول مَن أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبلها، ووضع قياسها أبو الأسود، وكان رجلَ أهلِ البصرة. وإنما فعل ذلك حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقية. السليقية من الكلام ما كان الغالب عليه السهولة، وهو مع ذلك فصيح اللفظ، منسوب إلى السليقة، وهي الطبيعة، ومعناه: ما سمح به الطبع، وسهُل على اللسان من غير أن يتعمد لإعرابه. يقال: فلان يقرأ بالسليقة أيى بطبعه. لم يقرأ على القراء، ولم يأخذه عن تعليم. قال الشافعي رحمه الله: كان مالك بن أنس يقرأ بالسليقية، يستقصره في ذلك. والسليقية تذم مرة وتمدح أخرى: إذا ذُمّت فلعدم الإعراب، وإذا مُدِحت فللدراية والفصاحة. قال الشاعر: " الطويل "
ولستُ بنحويٍّ يَلوكُ لسانَهُ ... ولكن سليقيٌّ أقولُ فأعربُ
وعن أبي الأسود قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصخر من الجبل.
قال الأصمعي: كان أبو الأسود يكثر الركوب، فقيل له: يا أبا الأسود: لقد قعدت في منزلك كان أودع لبدنك وأروح، فقال أبو الأسود: صدقت. ولكن الركوب أتفرج فيه، وأستمع من الخبر ما لا أسمعه في منزلي، وأستنشق الريح، فترجع إليَّ نفسي، وأُلاقي الإخوان،
ولو جلست في منزلي اغتمّ بي أهلي، واستأنس بي الصبي، واجترأت عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب أن يكلمني.
باع أبو الأسود داراً له، فقيل له: بعت دارك! قال: لا، ولكني بعثت جيراني.
قال أبو الأسود لبنيه: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً، وقبل أن تكونوا. قالوا: أحسنت إلينا كباراً وصغاراً، فكيف أحسنت إلينا قبل أن نكون؟ قال: لم أضعكم موضعاً تستحيون منه.
قال رجل لأبي الأسود: أنت والله ظريفُ لفظٍ، ظريفُ علمٍ، وعاء حِلم، غير أنك بخيل، فقال: وما خير ظريفٍ لا يُمسك ما فيه؟ كان أبو الأسود الدُّئلي ينزل في بني قُشَير، وكانوا عثمانية، وكان أبو الأسود علوي الرأي، فكان بنو قُشَير يسيئون جواره، ويؤذونه، ويرجمونه بالليل، فعاتبهم على ذلك فقالوا: ما رجمناك، ولكن الله رجمك، قال: كذبتم، لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني، ولو رجمني الله ما أخطأني. ثم انتقل عنهم إلى هذيل، وقال فيهم: " الكامل "
شتموا علياً ثم لم أزجرْهُمُ ... عنهُ وقلتُ مقالةَ المتردِّدِ
اللهُ يعلُم أنّ حبّي صادقٌ ... لِبني النبيّ وللإمامِ المهتدي
وقال في بني قشير من أبيات: " الوافر "
يقولُ الأرذلون بنو قُشَير ... طوالَ الدّهر لا تنسى علياً!
أُحِبُّ محمداً حُبّاً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيّا
بنو عمِّ النبيّ وأقربوه ... أحبّ الناسٍ كلِّهمُ إليّا
فإن يكُ حبُّهُم رُشداً أَنلْهُ ... أوليسَ بضائري إن كان غيّا
فكتب معاوية إلى عبيد الله بن زياد: إن عرفت أبا الأسود، وإلاّ فاسأل عنه، ثم أخبره أنه قد شكّ في دينه، فإذا قال: بماذا؟ فأخبِره بقوله:
فإن يكُ حبُّهم رشداً أنلْهُ
البيت. فبعث عبيد الله إلى أبي الأسود فأخبره بمقالة معاوية، فقال أبو الأسود: فاقرئه السلام، وأخبره بأني إنما قلت ما قال العبد الصالح: " وَإِنَّ أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلي هُدىً أوْ فِي ضَلالٍ مُبِيْنٍ " افتراه شكّ في دينه؟ رأى عبيد الله بن أبي بكرة على أبي الأسود الدِّيلي جبّة رثّة كان يكثر لبسها، فقال: يا أبا الأسود: أما تملّ هذه الجبّة؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه. قال: فبعث إليه بمئة ثوب، فأنشأ أبو الأسود يقول: " الطويل "
كساني وَلم أستكسِه فحمدتُه ... أخٌ لك يعطيكَ الجزيلَ وناصرُ
وإنّ أحقَّ الناسِ إن كنتَ شاكراً ... بشكركَ مَن أعطاكَ والعِرضُ وافرُ
دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد وقد أسنّ فقال له يهزأ به -: يا أبا الأسود، إنك لجميل فلو تعلقت تميمة، فقال أبو الأسود: " البسيط "
أفنى الشبابَ الذي أفنيتُ جِدَّتَه ... كرُّ الجديدَيْنِ من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا ليَ في طولِ اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعةَ الحدَقِ
كانت لأبي الأسود من معاوية ناحية حسنة، فوعده وعداً فأبطأ عليه، فقال له أبو الأسود: " الرمل "
لا يكن برقُك برقاً خُلَّباً ... إن خيرَ البرقِ ما الغيثُ معَهْ
لا تهنّي بعدَ إذ أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ مُنْتَزَعَهْ
أطلع أبو الأسود مولى له على سرّ له، فبثّه، فقال أبو الأسود: " الطويل "
أمنتُ على السرّ امرأ غيرَ حازمِ ... ولكنه في النصح غيرُ مُريبِ
فذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياءَ نارٌ أُوقدَتْ بثَقوبِ
وما كل ذي نصحٍ بمؤتيك نصحَهُ ... ولا كلُّ من ناصحتَه بلبيبِ
ولكن إذا ما استجمعا عندَ واحدٍ ... فحقٌّ له من طاعةٍ بنصيبِ
وقال أبو السود: " المتقارب "
إذا أنت لم تعفُ عن صاحبٍ ... أساء وعاقبتَه إن عثَرْ
بقيتَ بلا صاحبٍ فاحتمِلْ ... وكن ذا قَبولٍ إذ ما اعتذرْ
وقال أبو الأسود: " الكامل "
وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتسليمُ
وإذا تكون إلى لئيمٍ حاجةٌ ... فألحَّ في رفقٍ وأنت مُديمُ
والزم قبالة بابه وفِنائِهِ ... كأشدِّ ما لزمَ الغريمَ غريمُ
حتى يريحَك ثم تهجرَ بابَه ... دهراً وعرضُكَ إن فعلت سليمُ
مات أبو الأسود في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وهو ابن خمس وثمانين. وقيل: إنه مات قبل الطاعون. وهو الأشبه، لأنه لم يسمع له في فتنة مصعب وأمر المختار خبر.
ويقال: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر ابن حَلْبس بن نُفاثة بن عدي بن الدئل ويقال: عثمان بن عمرو ويقال: عمرو بن سفيان ويقال: عمرو بن ظالم أبو الأسود الدِّيلي البصري
قدم على معاوية، وهو أول من وضع للناس النحو، وولي قضاء البصرة. قال أبو الأسود الدِّيلي: أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، فهم يموتونا موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرت به جنازة، فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بأخرى فأُثني على صاحبها شراً، فقال عمر: وجبت. قال أبو الأسود: قلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قال: قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قلنا: واثنان؟ ثم لم أسأله عن الواحد ".وعن ابن داب قال: قدم أبو الأسود الدِّيلي على معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد استقامت له البلاد، فأدنى معاوية مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده
عمرو بن العاص، فقدم على معاوية، فاستأذن عليه في غير مجلس الإذن، فأذن له. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، ما أعجلك قبل وقت الإذن؟ قال: يا أمير المؤمنين، أتيتك لأمر قد أوجعني، وأرقني، وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين. قال: وما ذاك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا الأسود رجل مفوّه، له عقل وأدب، من مثله الكلام يذكر، وقد أذاع بمصرك من الذكر لِعليّ، والبُغض لعدوه، وقد خشيت عليك أن يُثري في ذلك حتى تؤخذ بعنقك، وقد رأيت أن ترسل إليه فترهِّبه وترعِّبه، وتسبُره وتخبُره ولك من مسألته على إحدى خِبرتين: ما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلك، فيقول ما ليس من ورائه، فيُحتمل ذلك عنه، فيكون لك في ذلك عافية صلاح إن شاء الله، فقال معاوية: أم والله لقلما تركتُ رأيي لرأي امرىء قط إلا كنت فيه وبين أن أرى ما أكره، ولكن إن أرسلت إليه فساءلته، فخرج من مساءلتي بأمر لا أحد عليه مقدماً، ويملأني غيظاً لمعرفتي بما تُريد، وإن الرأي فيه أن نقبل منه ما أبدى من لفظه، فليس لنا أن نشرح عن صدره، وندع ما وراء ذلك يذهب جانباً. قال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين. وقد عرفت رأيي، ولست أرى لك خلافي، وما آلوك خيراً، فأرسِل إليه ولا تفترش مهاد العجز فتتخذه وطيئاً. فأرسل معاوية إلى أبي الأسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثاً، فرحب به معاوية وقال: يا أبا الأسود، خلوت أنا وعمرو وتشاجرنا في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين، قال: سل يا أمير المؤمنين عما بدا لك، قال: يا أبا الأسود، أيّهم كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أشدهم كان حباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأوقاهم له بنفسه؛ فنظر معاوية إلى عمرو، وحرّك رأسه، ثم تمادى في مسألته، فقال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان أفضلهم عندك؟ قال: أتقاهم لربه، وأشدهم خوفاً لدينه، فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا أبا الأسود، فأيّهم أعلم؟ قال: أقولهم للصواب، وأفصلهم للخطاب، قال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان
أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء، وأحسنهم غَناء، وأصبرهم على اللقاء، قال: فأيّهم كان أوثق عنده؟ قال: مَنْ أوصى إليها فيما بعده، قال: فأيّهم كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدِّيقاً؟ قال: أولهم به تصديقاً فأقبل معاوية على عمرو وقال: لاجزاك الله خيراً، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئاً؟! فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبيات من الشعر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، إني لا أحسن أن أقول الشعر، فالعَن عمراً، بكل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً، أو مدركاً رباحاً؟ إن أمرأ لم يعرف إلا بسهم أُجيل عليه فجال لَحقيقٌ أن يكون كليل اللسان، ضعيف الجَنان، مستشعراً للاستكانة، مقارناً للذل والمهانة، غير وَلوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، مبصبص بذَنبه لعظيم ذنبه، غير ناظر في أبهة الكرام، ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجنة ظلماء مع قلتة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار، فقال عمرو: يا أخا بني الدئل، والله لأنت الذليل القَليل، ولولا ماتمتّ به من نسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الجُدّيّة، غير أنك بهم
تطول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ
مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل " ول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل "
لَعمري لقد أعيا القرونَ التي مضت ... تحوّلُ غشٍّ في الفؤادِ كمينِ
وقام أبو الأسود وهو يقول: " الطويل "
ألا إن عمراً رامَ خفيةٍ ... وكيفَ ينالُ الذئبُ ليثَ عرينِ؟
فانصرفا إلى منازلهما، وذاع حديثهما في البلاد، فبينا أبو الأسود في بعض الطريق إذ لقيه شاب من كلب يقال له: كليب بن مالك، شديد البغض لعلي وأصحابه، شديد الحب لمعاوية وأصحابه، فقال له: يا أبا الأسود، أنت المنازل عمراً أمس بين يدي أمير المؤمنين؟ أم والله لو شهدتك لأغرّقتُ جبينك، فقال أبو الأسود: من أنت يا بن أخي الذي بلغ بك خطرك كل هذا، وممن أنت؟ قال: أنا ممن لا ينكر، أنا امرؤ من قضاعة ثم من كلب، ثم أنا كليب بن مالك، فقال أبو الأسود: أراك كلباً من كلب، ألا أرى للكلب شيئاً؛ إذا هو نبح أفضل من أن يقطع باخساً، فاخسأ ثم اخسأ كلباً، فانصرف وخلاه. فبلغ ذلك القول معاوية فأكثر التعجب والضحك. ثم إنهما اجتماعا بعد ذلك عنده، فقال معاوية للكلبي: يا أخا كلب، ما كان أغناك من منازعة أبي الأسود، فقال الكلبي: ولم لا أنازعه؟ والله لأنا أكثر نفيراً، وأعزّ عشيراً، وأطلق لساناً، وإن شاء لأُنافِرَنّه بين يديك، فقال معاوية: والله يا أخا كلب، ما صدقت في واحدة من الثلاث، فقال أبو الأسود: والله لولا هذا الجالس يعني: يزيد بن معاوية فإنكم أخواله، لقطعت عني لسانك، فقال يزيدك يا أبا الأسود، قل، فأعمامي أحب إلي من أخوالي، فقال أبو الأسود: سل هذا يا أمير المؤمنين بمن ينافرني، بِحِمْيَر أو معَدّ؟ قال أبو حمزة الثمالي: لما بويع معاوية وفد عليه الأحنف بن قيس وأبو الأسود الدِّيلي في أهل البصرة، فقال معاوية للأحنف حين دخل عليه: أنت القاتل أمير المؤمنين، يريد عثمان، والخاذل أم المؤمنين، ومقاتلها بصفين؟ فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، لا تَردُدِ الأمور على
أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا، والسيوف التي قاتلناك بها في عواتقنا، فلا تمدّ لنا شبراً من الغدر إلا مددنا لك باعاً من الختر، وإن كنت يا أمير المؤمنين لجدير أن تستصفي كدر قلوبنا بفضل حلمك. قال: إني فاعل إن شاء الله. ثم أقبل على أبي الأسود الدِّيلي فقال له: أنت القائل لعلي: ابعثني حكماً، فوالله ما أنت هناك، إنك لَفَهيهُ المحاورة، عييّ بالجواب، فكيف كنت صانعاً؟ قال: كنت جامعاً أصحاب محمد فأقول لهم: أَبَدرِيّ، أُحُديّ، شجَريّ، عَقَبيّ أحبّ إليكم أم رجل من الطلقاء؟ فقال معاوية: مالهّ قاتله الله، والله لقد خلعني خلع الوصيف.
وقيل: إن أبا الأسود قال لمعاوية: لو كنتُ بمكان أبي موسى ما صنعتُ ما صنع. قال: وما كنت تصنع؟ قال: كنت أنظر رهطاً من المهاجرين ورهطاً من الأنصار فأناشدهم الله، المهاجرون أحقّ بالخلافة أو الطلقاء؟ فقال معاوية: أقسمت عليك لا تذكرنّ هذا الحديث ما عشت.
وكان أبو الأسود شاعراً متشيعاً. وكان ثقة في حديثه. وكان عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة استخلف عليها أبا الأسود الدِّيلي، فأقرّه علي بن أبي طالب.
وهو أول من تكلم في النحو، وقاتل مع علي عليه السلام يوم الجمل. وهلك في ولاية عبيد الله بن زياد.
والدُّيِّلي: بضم الدال وكسر الياء. وقيل: الدُّؤَلي: مضمومة الدال مفتوحة الواو، من الدُّئِل بضم الدال وكسر الياء. والدُّئِل: الدابة قيل: دابة صغيرة دون الثعلب وفوق ابن عرس ويقال لرهط أبي الأسود: الدُّؤلي، وامتنعوا أن يقولوا: أبو الأسود الدّيلي، لئلا يوالوا بين الكسرات، فقالوا: الدؤلي كما قالوا في النَّمِر: النَّمَري.
واختلف في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة: أخذ أبو الأسود العربية عن علي بن أبي طالب، فكان لايخرج شيئاً مما أخذه عن علي إلى
أحد، حتى بعث إليه زياد: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً ينتفع الناس به ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: " أنَّ الله بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله "، فقال: ما ظننت أن أمر الناس صار إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما رسمه الأمير، فليبغني كاتباً لقِناً يفعل ما أقول، فأُتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر قال أبو العباس: أحسبه منهم فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقُط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضمت فمي فانقُط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئاً من ذلك غُنَّة فاجعل ما كان النقطة نقطتين. فهذا نقط أبي الأسود.
وقيل: إن رجلاً جاء إلى زايد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا، وترك بنوناً، فقال زياد: توفي أبانا، وترك بنوناً؟! ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي كنت نهيتك أن تضع لهم، أبو الأسود استأذنه في أن يضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم.
وقيل: إن سعداً مرّ بأبي الأسود وكان رجلاً فارسياً وهو يقود فرسه، فقال: مالك يا سعد لا تركب؟ َ فقال: إن فرسي ضالع، فضحك به بعض من حضره. قال: أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، فصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه.
وكان أبو الأسود من أفصح الناس. قال أبو الأسود: إني لأجد للّحن غمزاً كغمز اللحم.
ويقال: إن ابنته قالت له يوماً: يا أبه، ما أحسنّ السماءِ، فقال: نجومُها، قالت: إني لم أُرد أيّ شيء أحسن منها، إنما تعجبت من حسنها. قال: إذاً فقولي: ما أحسنَ السماءَ!
وقيل: إن ابنته قالت له: يا أبه، ما أشدّث الحرِّ في يوم شديد الحرّ فقال لها: إذا كانت الصقعاء من فوقك، والرمضاء من تحتك، فقالت: إنما أردت أن الحرّ شديد، قال: فقولي: ما أشدّ الحرَّ.
والصقعاء: الشمس. فحينئذٍ وضع كتاباً.
وقيل: إن أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال: مَن يقرئني مما أنزل الله على محمد؟ قال: فأقرأه رجل " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكن الله برىء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالَهُ فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولا عِلم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرئني هذا سورة " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقلت: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكون الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب ألا يقرىء القرآن إلاّ عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
قال العتبي:
كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه. فلما قدم عليه كلمه، فوجده يلحن، فرده إلى زياد، وكتب إليه كتاباً يلومه فيه، ويقول: أمثل عبيد الله تصنع؟! فبعث زياد إلى أبي الأسود، فقال له: يا أبا الأسود: إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويُعربُون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً، وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه، ففعل ذلك. فلما مرّ به أبو الأسود رفع الرجل صوت يقرأ: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فاستعظم ذلك أبو الأسود، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم
رجع من فوره إلى زياد، فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألتك، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم " يزل " يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها، فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع " المختصر " المنسوب إليه بعد ذلك.
قال محمد بن سلاّم الجمحي: أول مَن أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبلها، ووضع قياسها أبو الأسود، وكان رجلَ أهلِ البصرة. وإنما فعل ذلك حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقية. السليقية من الكلام ما كان الغالب عليه السهولة، وهو مع ذلك فصيح اللفظ، منسوب إلى السليقة، وهي الطبيعة، ومعناه: ما سمح به الطبع، وسهُل على اللسان من غير أن يتعمد لإعرابه. يقال: فلان يقرأ بالسليقة أيى بطبعه. لم يقرأ على القراء، ولم يأخذه عن تعليم. قال الشافعي رحمه الله: كان مالك بن أنس يقرأ بالسليقية، يستقصره في ذلك. والسليقية تذم مرة وتمدح أخرى: إذا ذُمّت فلعدم الإعراب، وإذا مُدِحت فللدراية والفصاحة. قال الشاعر: " الطويل "
ولستُ بنحويٍّ يَلوكُ لسانَهُ ... ولكن سليقيٌّ أقولُ فأعربُ
وعن أبي الأسود قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصخر من الجبل.
قال الأصمعي: كان أبو الأسود يكثر الركوب، فقيل له: يا أبا الأسود: لقد قعدت في منزلك كان أودع لبدنك وأروح، فقال أبو الأسود: صدقت. ولكن الركوب أتفرج فيه، وأستمع من الخبر ما لا أسمعه في منزلي، وأستنشق الريح، فترجع إليَّ نفسي، وأُلاقي الإخوان،
ولو جلست في منزلي اغتمّ بي أهلي، واستأنس بي الصبي، واجترأت عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب أن يكلمني.
باع أبو الأسود داراً له، فقيل له: بعت دارك! قال: لا، ولكني بعثت جيراني.
قال أبو الأسود لبنيه: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً، وقبل أن تكونوا. قالوا: أحسنت إلينا كباراً وصغاراً، فكيف أحسنت إلينا قبل أن نكون؟ قال: لم أضعكم موضعاً تستحيون منه.
قال رجل لأبي الأسود: أنت والله ظريفُ لفظٍ، ظريفُ علمٍ، وعاء حِلم، غير أنك بخيل، فقال: وما خير ظريفٍ لا يُمسك ما فيه؟ كان أبو الأسود الدُّئلي ينزل في بني قُشَير، وكانوا عثمانية، وكان أبو الأسود علوي الرأي، فكان بنو قُشَير يسيئون جواره، ويؤذونه، ويرجمونه بالليل، فعاتبهم على ذلك فقالوا: ما رجمناك، ولكن الله رجمك، قال: كذبتم، لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني، ولو رجمني الله ما أخطأني. ثم انتقل عنهم إلى هذيل، وقال فيهم: " الكامل "
شتموا علياً ثم لم أزجرْهُمُ ... عنهُ وقلتُ مقالةَ المتردِّدِ
اللهُ يعلُم أنّ حبّي صادقٌ ... لِبني النبيّ وللإمامِ المهتدي
وقال في بني قشير من أبيات: " الوافر "
يقولُ الأرذلون بنو قُشَير ... طوالَ الدّهر لا تنسى علياً!
أُحِبُّ محمداً حُبّاً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيّا
بنو عمِّ النبيّ وأقربوه ... أحبّ الناسٍ كلِّهمُ إليّا
فإن يكُ حبُّهُم رُشداً أَنلْهُ ... أوليسَ بضائري إن كان غيّا
فكتب معاوية إلى عبيد الله بن زياد: إن عرفت أبا الأسود، وإلاّ فاسأل عنه، ثم أخبره أنه قد شكّ في دينه، فإذا قال: بماذا؟ فأخبِره بقوله:
فإن يكُ حبُّهم رشداً أنلْهُ
البيت. فبعث عبيد الله إلى أبي الأسود فأخبره بمقالة معاوية، فقال أبو الأسود: فاقرئه السلام، وأخبره بأني إنما قلت ما قال العبد الصالح: " وَإِنَّ أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلي هُدىً أوْ فِي ضَلالٍ مُبِيْنٍ " افتراه شكّ في دينه؟ رأى عبيد الله بن أبي بكرة على أبي الأسود الدِّيلي جبّة رثّة كان يكثر لبسها، فقال: يا أبا الأسود: أما تملّ هذه الجبّة؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه. قال: فبعث إليه بمئة ثوب، فأنشأ أبو الأسود يقول: " الطويل "
كساني وَلم أستكسِه فحمدتُه ... أخٌ لك يعطيكَ الجزيلَ وناصرُ
وإنّ أحقَّ الناسِ إن كنتَ شاكراً ... بشكركَ مَن أعطاكَ والعِرضُ وافرُ
دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد وقد أسنّ فقال له يهزأ به -: يا أبا الأسود، إنك لجميل فلو تعلقت تميمة، فقال أبو الأسود: " البسيط "
أفنى الشبابَ الذي أفنيتُ جِدَّتَه ... كرُّ الجديدَيْنِ من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا ليَ في طولِ اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعةَ الحدَقِ
كانت لأبي الأسود من معاوية ناحية حسنة، فوعده وعداً فأبطأ عليه، فقال له أبو الأسود: " الرمل "
لا يكن برقُك برقاً خُلَّباً ... إن خيرَ البرقِ ما الغيثُ معَهْ
لا تهنّي بعدَ إذ أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ مُنْتَزَعَهْ
أطلع أبو الأسود مولى له على سرّ له، فبثّه، فقال أبو الأسود: " الطويل "
أمنتُ على السرّ امرأ غيرَ حازمِ ... ولكنه في النصح غيرُ مُريبِ
فذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياءَ نارٌ أُوقدَتْ بثَقوبِ
وما كل ذي نصحٍ بمؤتيك نصحَهُ ... ولا كلُّ من ناصحتَه بلبيبِ
ولكن إذا ما استجمعا عندَ واحدٍ ... فحقٌّ له من طاعةٍ بنصيبِ
وقال أبو السود: " المتقارب "
إذا أنت لم تعفُ عن صاحبٍ ... أساء وعاقبتَه إن عثَرْ
بقيتَ بلا صاحبٍ فاحتمِلْ ... وكن ذا قَبولٍ إذ ما اعتذرْ
وقال أبو الأسود: " الكامل "
وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتسليمُ
وإذا تكون إلى لئيمٍ حاجةٌ ... فألحَّ في رفقٍ وأنت مُديمُ
والزم قبالة بابه وفِنائِهِ ... كأشدِّ ما لزمَ الغريمَ غريمُ
حتى يريحَك ثم تهجرَ بابَه ... دهراً وعرضُكَ إن فعلت سليمُ
مات أبو الأسود في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وهو ابن خمس وثمانين. وقيل: إنه مات قبل الطاعون. وهو الأشبه، لأنه لم يسمع له في فتنة مصعب وأمر المختار خبر.