ذو الكفل قيل اسمه شبر
ويقال بشر بن أيوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال: إن ذا الكفل هو إلياس، ويقال يوشع، ويقال: اليسع. وتنبأه الله بعد أبيه أيوب.
قال الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذو اسمين: محمد وأحمد نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وعيسى والمسيح عليه السلام؛ وإسرائيل ويعقوب عليه السلام؛ ويونس وذو النون عليه السلام؛ وإلياس وذو الكفل عليه السلام.
وقيل: إن ذا الكفل كان اليسع بن حطوب الذي كان مع إلياس، ليس اليسع
الذي ذكره الله عز وجل في القرآن: " واليسع وذا الكفل ". ويقال: كان غيرهما. والله أعلم. ولكنه كان قبل داود عليه السلام؛ وذلك أن ملكاً جباراً يقال له كنعان، وكان من العماليق؛ ويقال: بل كان من بني إسرائيل، وكان لا يطاق في زمانه لظلمه وطغيانه، وكان ذو الكفل يعبد الله جل وعز سراً منه، ويكتم إيمانه، وهو في مملكته؛ فقيل للملك إن في مملكتك رجلاً يفسد عليك أمرك، ويدعو الناس إلى غير عبادتك؛ فبعث إليه ليقتله، فأتى به، فلما دخل عليه قال له الملك: ما هذا الذي بلغني عنك أنك تعبد غيري؟ فقال له ذو الكفل: اسمع مني ولا تعجل، وتفهم ولا تغضب، فإن الغضب عدو النفس، يحول بينها وبين الحق، ويدعوها إلى هواها، وينبغي لمن قدر أن لا يغضب فإنه قادر على ما يريد، قال: تكلم، قال: فبدأ ذو الكفل فافتتح الكلام بذكر الله عز وجل والحمد لله ثم قال: تزعم أنك إله، فإله من تملك، أو إله جميع الخلق؟ فإن كنت إله من تملك، فإن لك شريكاً فيما لا تملك؛ وإن كنت إله الخلق فمن إلهك؟ فقال له: ويحك! فمن إلهي؟ قال: إله السماء والأرض وهو خالقهما وهذه الشمس والقمر والنجوم، فاتق الله واحذر عقوبته، فإن أنت عبدته ووحدته رجوت لك ثوابه، والخلود في جواره؛ قال له الملك: اختر ثم أخبرني، من عبد إلهك ما جزاؤه؟ قال: الجنة إذا مات، قال: فما الجنة؟ قال: دار خلقها الله بيده فجعلها مسكناً لأوليائه يبعثهم يوم القيامة شباباً مرداً أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فيدخلهم الجنة في نعيم وخلود، شباباً لا يهرمون، مقيمين لا يظعنون، أحياء لا يموتون، ونعيم وسرور وبهجة؛ قال: فما جزاء من لم يعبده وعصاه؟ قال: النار، مقرونين مع الشياطين، مغلغلين بالأصفاد، لا يموتون أبداً، في عذاب مقيم، وهوان طويل، تضربهم الزبانية بمقامع الحديد، طعامهم الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم؛ قال: فرق الملك وبكى لما كان قد سبق له فقال: إن أنا آمنت بالله فمالي؟ قال: الجنة، قال: فمن لي بذلك؟ قال: أنا لك الكفيل على الله عز وجل، وأكتب لك على الله كتاباً، فإذا أتيته تقاضيته ما في كتابك وفى لك، فإنه قادر ماهر، يوفيك ويزيدك. ففكر الملك في ذلك، وأراد الله به الخير فقال له: اكتب لي على الله كتاباً؛ فكتب: "
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب كتبه فلان الكفيل على الله لكنعان الملك، ثقةً منه بالله أن لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولكنعان على الله بكفالة فلان إن تاب ورجع، وعبد الله أن يدخله الجنة، ويثويه منها حيث يشاء، وإن له على الله ما لأوليائه، وأن يجيره من عذابه، فإنه رحيم بالمؤمنين، واسع الرحمة، سبقت رحمته غضبه ".
ثم ختم على الكتاب ودفعه إليه، ثم قال له الملك: أرشدني كيف أصنع؟ قال: قم فاغتسل والبس ثياباً جدداً، ففعل؛ ثم أمره أن يتشهد بشهادة الحق وأن يتبرأ من الشرك، ففعل؛ ثم قال: كيف أعبد ربي؟ فعلمه الشرائع والصلاة؛ ثم قال له: يا ذا الكفل، استر هذا الأمر ولا تظهره حتى ألحق بالنساك. قال: فخلع الملك وخرج سراً فلحق بالنساك، فجعل يسيح في الأرض. وفقده أهل مملكته وطلبوه؛ فلما لم يقدروا عليه قال: اطلبوا ذا الكفل فإنه هو الذي غر إلهنا؛ قال: فذهب قوم في طلب الملك، وتوارى ذو الكفل؛ فقدروا على الملك على مسيرة شهر من بلادهم، فلما نظروا إليه قائماً يصلي خروا له سجداً، فانصرف إليهم فقال: اسجدوا لله عز وجل ولا تسجدوا لأحد من الخلق، فإني آمنت برب السماوات والأرض والشمس والقمر. فوعظهم وخوفهم. قال: فعرض له وجع وحضره الموت فقال لأصحابه: لا تبرحوا فإن هذا آخر عهدي بالدنيا، فإذا مت فادفنوني؛ وأخرج كتابه فقرأه عليهم حتى حفظوه وعلموا ما فيه، وقال لهم: هذا كتاب كتب لي على ربي أستوفي منه ما فيه، فادفنوا هذا الكتاب معي. قال: فمات، فجهزوه ووضعوا الكتاب على صدره ودفنوه. فبعث الله عز وجل ملكاً فجاء به إلى ذي الكفل فقال: يا ذا الكفل، إن ربك قد وفى لكنعان بكفالتك، وهذا الكتاب الذي كتبته له، وإن الله يقول: إني هكذا أفعل بأهل طاعتي. فلما أن جاءه الملك بالكتاب ظهر للناس، أخذوه فقالوا: أنت غررت ملكنا وخدعته؛ فقال لهم: لم أغره ولم أخدعه، ولكن دعوته إلى الله وتكفلت له بالجنة، وقد مات ملككم اليوم في ساعة كذا وكذا، ودفنه أصحابكم، وهذا الكتاب الذي كنت كتبته له على الله الوفاء، وقد أوفاه الله حقه، وهذا الكتاب تصديق لما أقول لكم، فانتظروا حتى يرجع أصحابكم؛ فحسبوه حتى قدم أصحابهم، فسألوهم فقصوا عليهم القصة؛ فقالوا لهم: تعرفون الكتاب الذي دفنتموه معه؟ قالوا: نعم، فأخرجوا الكتاب فقرأوه،
فقالوا: هذا الكتاب الذي كان معه، ودفناه في يوم كذا وكذا، فنظروا وحسبوا فإذا ذو الكفل كان قد قرأ عليهم الكتاب وأعلمهم بموت الملك في اليوم الذي مات فيه؛ فآمنوا به واتبعوه، فبلغ من آمن به مئة ألف وأربعة وعشرين ألفاً؛ وتكفل لهم مثل الذي تكفل لملكهم على الله. فسماه الله ذو الكفل.
قال أبو نضرة: كان نبي في بني إسرائيل، فأرسل إليهم أن اجتمعوا عندي، فاجتمعوا عنده فقال: إني لا أحسبني إلا قد احتضر أجلي، فالتمسوا لي رجلاً يصوم النهار ويقوم الليل، ويقضي بين بني إسرائيل ولا يغضب، فلما سمع ذلك المشيخة سكتوا، وقام غلام من بني إسرائيل فقال: أنا لك بهذا؛ فقال: ألا أراك غلاماً فاجلس. قال: ثم أرسل إليهم أن اجتمعوا إلي، فاجتمعوا، فقال لهم مثل ذلك، فسكت المشيخة وقام الغلام فقال: أنا لهذا؛ فقال: ألا أراك غلاماً فاجلس. قال: فأرسل إليهم أن اجتمعوا إلي، فقال لهم مثل ذلك، فسكت المشيخة وقام الغلام فقال: أنا لك بهذا، قال: تصوم النهار وتقوم الليل وتقضي بين بني إسرائيل ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: قد وليتك أمر بني إسرائيل بعدي. قال: ومات نبيهم. قال: فجعل ذو الكفل يصوم النهار ويقوم الليل، ويقضي بين بني إسرائيل، فإذا انتصف النهار قام فأوى إلى بيته، فقال: ثم يخرج ويقضي بينهم. قال: قال إبليس لعنه الله لجنوده: احتالوا أن تغضبوه، فأرادوا بكل شيء، فجعلوا لا يقدرون على أن يغضبوه: فلما رأى ذلك إبليس قال: أنا صاحبه فجاءه في صورة شيخ كبير، يمشي على عصاً له حتى قعد حيث يراه، فجعل ذو الكفل ينظر إليه ويرق له، ويحسب أنه لا يستطيع الزحام، فلما كانت الساعة التي يقوم فيها للقائلة، قام حتى قعد بين يديه فقال: شيخ كبير مظلوم، ظلمني بنو فلان، قال له ذو الكفل: فهلا قمت إلي قبل هذه الساعة؟! قال: شيخ كبير لم أستطع الزحام؛ قال: فأخذه بخدعته حتى مضت ساعته، فالتفت ذو الكفل فإذا ساعته التي يقيل فيها قد مضت، فقال: يا شيخ! منعتني من القائلة؛ قال: إني شيخ كبير ملهوف، قال: فكتب معه، قال: فأخذ الكتاب فرمى به؛ ثم تحينه من الغد، فأتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقعد حياله، فجعل ذو الكفل ينظر
إليه ولا يقوم إليه، حتى كانت الساعة التي يقوم فيها للقائلة، فقام فقعد بين يديه فقال: قد أخبرتك أن القوم لا يلتفتون إلى كتابك، طردوني ولم يجيبوني، فأخذه بخدعته حتى ذهبت ساعته، فالتفت فإذا ساعته قد ذهبت، فقال: يا شيخ! منعتني أمس واليوم من القائلة، وأنا أنام هذه السويعة! قال: شيخ كبير، مظلوم ضعيف، قال: فكتب معه وشدد عليهم، فقال: إنهم لا يلتفتون إلى كتابك، قال: بلى قال: وكل ذلك يريد أن يغضبه قال: فكتب معه وتشدد على القوم. قال: فانطلق فمزق الكتاب وخمش وجهه، ومزق ثيابه، ثم تحين الساعة التي أتاه فيها، فقعد بحياله، فجعل ذو الكفل ينظر إليه وماله هم غيره، حتى إذا كانت الساعة التي يقوم فيها قام فقعد بين يديه، قال فقال: هذا ما لقيت منك! ضربوني ومزقوا علي ثيابي وقد أخبرتك أنهم لا يجيبونك، وأخذه بخدعته حتى مضت ساعته، فالتفت ذو الكفل فإذا ساعته قد ذهبت فقال: أول من أمس، وأمس واليوم! اللهم إنما أنا بشر، لا أستطيع ألا أغضب، قال: فرفع يده، فطرف لإبليس، فساخ الخبيث فذهب. فسماه الله ذا الكفل لأنه كفل بشيء فوفى به.
وعن ابن عمر قال: لقد سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: كان الكفل منبني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال: ما يبكيك، أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة؛ قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط! قال: ثم نزل فقال: اذهبي والدنانير لك؛ ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً. فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل.
قيل: إن ذا الكفل كان عمره خمساً وسبعين سنة.
قال وهب بن منبه: كانت قبل إلياس وقبل داود أحداث وأمور في بني إسرائيل وأنبياء منهم اليسع صاحب إلياس وذو الكفل؛ وكان عيلون مستخلفاً خلافة نبوة، ولم تكن له نبوة، غير أن بني
إسرائيل كانوا يسمون خليفة النبي نبياً؛ وكان فيهم من جمع التوراة يسمونهم أنبياء؛ ومنهم من كان نبياً في منامه؛ وكان اشموئيل بعده. وكان ذو الكفل يكتب الكفالات على الله بالوفاء لمن آمن به. فكان من شأنه أنهم كانوا ثلاثة إخوة، عباد تآخوا في الله حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل، فخرجوا عنهم واعتزلوهم وتعبدوا في موضع لا يعرفون، حتى إذا اشتد البلاء في بني إسرائيل وكادوا أن يتفانوا، وضيعت فيهم الأحكام والسنن والشرائع؛ فلما أن خاف القوم الهلاك طلبوا الثلاثة ليملكوا أحدهم على أنفسهم ليقيم فيهم الحدود والأحكام ويجمع ألفتهم. قال: فقدروا عليهم، فخيروهم بين القتل وبين أن يكون أحدهم عليهم؛ فاختاروا القتل، وكان أصغرهم أعبدهم وأشدهم اجتهاداً؛ فقال اثنان منهم للثالث وهو أصغرهم سناً: أنت أحدثنا سناً وأقوانا، فهل لك أن تحتسب بنفسك عليهم فتقيم لهم أحكامهم وشرائعهم؟ فقال: أفعل بشرط أن لا تقرباني ولا تنظرا إلي ولا أنظر إليكما حتى يبلغكما أني عدلت عن الحق؛ فقالا: نعم.
فمضى مع القوم، فتوجوه وأقعدوه على سرير الملك. فأقام فيهم الحق وأحيا فيهم السنن، وحسنت حال بني إسرائيل، واغتبطوا به؛ فجاءه الشيطان من قبل النساء، فلم يزل حتى واقع النساء؛ ثم أتاه من قبل الشراب، فلم يزل به حتى خالط الناس في الشراب؛ ولم يزل به حتى ركب المعاصي وضيع الحدود، وانتهك المحارم، وخالط الدماء. فبلغ أخويه، فجاءا حتى دخلا عليه، فأمر بهما فحبسهما، فلما أمسى دعا بهما، فقالا له: أي عدو الله! غررتنا بدينك، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة! فقال لهما: فدعاني عنكما، فقد ارتكبت ما بلغكما وأنا غير مقصر، وقد أصبت الدنيا، وعلمت علماً يقيناً أن لا آخرة لي، فدعاني أتمتع من دنياني؛ فقال له أحدهما يقال له عايوذا وكان أخاه في الله عز وجل: أفلا خير من ذلك؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع وتتوب إلى الله، وأتكفل لك بالمغفرة والرحمة والجنة، قال: أتفعل؟ قال: نعم، قال: اكتب لي على ربك كتاباً بالوفاء، فكتب له؛ ثم خلع الملك وعاد إلى ما كان، ولحق بالعباد، وقال لهما: لا تصحباني. وكان عباد بني إسرائيل حين عظمت الأحداث فيهم اعتزلوهم ولحقوا بالجبال والسواحل، يعبدون الله؛ فلحق هذا بشعب العباد، فانتهى إلى رجل قائم يصلي إلى جنب شجرة جرداء ليس عليها ورق، كثيرة الشوك فقام إلى جنبه يصلي؛ وكانت تلك الشجرة تحمل كل عشية رمانةً عند إفطار العابد، فهي رزقه إلى مثلها من القابلة؛ فلما أمسى قال في
نفسه: إني أطوي ليلتي هذه، وأجعل رزقي لضيفي هذا. قال: فحملت الشجرة رمانتين، فدفع إحداهما إلى الفتى وأكل الأخرى، فقال له الفتى: هل أمامك من العباد أحد؟ قال: امض أمامك، فلما أصبح مضى حتى انتهى إلى رجل قائم يصلي على صخرة، عليه برنس له من مسوح، فقام إلى جنبه يصلي، وكان له كل ليلة إناء من ماء، عليه رغيف، وهو رزقه، فلما أمسى جعل في فنسه أن يجعل رزقه لضيفه ويمسك هو، فأتاه الله بإناءين على كل واحد منهما رغيف، فأطعم أحدهما الفتى وأكل الآخر وشربا؛ فلما أصبح الفتى قال له: هل في الوادي من هو أعبد عندك؟ قال: امض أمامك؛ فمضى فانتهى إلى رجل قائم على تل، بغير حذاء ولا قلنسوة، في يوم شديد الحر، عليه إزار من مسوح، وجبة من مسوح، قائم يصلي، فقام إلى جنبه؛ وكانت وعلة سخرها الله عز وجل، تجيء كل ليلة من الجبل، فتقوم بين يديه، وتفرج بين رجليها وضرعها، تدر لبناً؛ وعنده قعبة له، فيحلب من الوعلة ملء قعبته، فذلك طعامه وشرابه، فقال في نفسه: أجعل رزقي لضيفي هذا وأمسك عن نفسي؛ فلما جاءت الوعلة حتى وقفت، فقام العابد إليها فحلبها وسقى الفتى وهي واقفة وضرعها يدر لبناً وهي تومئ إلى العابد أن احتلب؛ قال: فاحتلب حتى ملأ قعبته وانصرفت الوعلة. فلما أصبح قال له الفتى: هل في الوادي من هو اعبد منك؟ قال: امض أمامك، قال فمضى حتى انتهى إلى شيخ في أعلى الجبل، قائم يعبد الله عز وجل منذ مئة وثمانين سنة، اعتزل الناس، طعامه عشب الأرض وله عين تجري، إذا أمسى جرت تلك العين بما يكفيه لشرابه ووضوئه، وتعشب الأرض حول عينه وهو على صخرة كقدر ما يغنيه، فلما أمسى جعل في نفسه أن يجعل رزقه لضيفه ويمسك عن نفسه؛ فلما أمسى فجر الله عينيه، وأعشب الأرض حولهما؛ فقال للفتى: هذا طعامي وهذا شرابي، وهذا رزق ساقه الله إليك على قدر رزقي، ولا يكلف الله نفساً إلا طاقتها، وليس عندنا إلا ما ترى، قد رضينا من الدنيا بهذا وهذا من الله عز وجل، أن رزقنا القناعة والرضى؛ فقال الفتى: قد رضيت بهذا ولا أريد به بدلاً؛ فأقام معه يتعبد حتى أدركه الموت، فقال
للشيخ: قد صحبتك فأحسنت صحبتي، ورزقني الله بصحبتك الخير والفضل، ولي عندك حاجة؛ قال: وما هي؟ قال: أن تحفر لي وتدفني، ثم أخرج الكتاب فدفعه إليه وقال: ضع هذا الكتاب بين كفني وصدري؛ فقال له الشيخ: فكيف لي بأن أحفر لك؟ قال: قل أنت نعم إن شاء الله، فإن الله سيهيئ ذلك لك. فقال الشيخ: نعم؛ فمات الفتى فقام الشيخ ليحفر له لما وعده فلم يصل، إنما هو يحفر بيده حتى تقطعت أنامله إذ بعث الله أسداً، له مخاليب من حديد، فحفر له قبراً. فلما أن رأى العابد ذلك اشتد سروره بذلك، فدفن الفتى وأهال عليه، ووضع الكتاب بين صدره وكفنه؛ فبعث الله إليه ملكاً فأخذ الكتاب وكتب: إن الله عز وجل قد وفى له بشرطك، وتمت كفالتك ونفذ كتابك. فجاء بالكتاب حتى دفعه إلى عايوذا
وهو الذي كان كتب له الكفالة؛ وكان بعد ذلك يكتب الكفالات على نفسه لله عز وجل، فسمي ذا الكفل. والله أعلم أي ذلك كان مما قالوا. والذي كان كتب له الكفالة؛ وكان بعد ذلك يكتب الكفالات على نفسه لله عز وجل، فسمي ذا الكفل. والله أعلم أي ذلك كان مما قالوا.
ويقال بشر بن أيوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال: إن ذا الكفل هو إلياس، ويقال يوشع، ويقال: اليسع. وتنبأه الله بعد أبيه أيوب.
قال الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذو اسمين: محمد وأحمد نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وعيسى والمسيح عليه السلام؛ وإسرائيل ويعقوب عليه السلام؛ ويونس وذو النون عليه السلام؛ وإلياس وذو الكفل عليه السلام.
وقيل: إن ذا الكفل كان اليسع بن حطوب الذي كان مع إلياس، ليس اليسع
الذي ذكره الله عز وجل في القرآن: " واليسع وذا الكفل ". ويقال: كان غيرهما. والله أعلم. ولكنه كان قبل داود عليه السلام؛ وذلك أن ملكاً جباراً يقال له كنعان، وكان من العماليق؛ ويقال: بل كان من بني إسرائيل، وكان لا يطاق في زمانه لظلمه وطغيانه، وكان ذو الكفل يعبد الله جل وعز سراً منه، ويكتم إيمانه، وهو في مملكته؛ فقيل للملك إن في مملكتك رجلاً يفسد عليك أمرك، ويدعو الناس إلى غير عبادتك؛ فبعث إليه ليقتله، فأتى به، فلما دخل عليه قال له الملك: ما هذا الذي بلغني عنك أنك تعبد غيري؟ فقال له ذو الكفل: اسمع مني ولا تعجل، وتفهم ولا تغضب، فإن الغضب عدو النفس، يحول بينها وبين الحق، ويدعوها إلى هواها، وينبغي لمن قدر أن لا يغضب فإنه قادر على ما يريد، قال: تكلم، قال: فبدأ ذو الكفل فافتتح الكلام بذكر الله عز وجل والحمد لله ثم قال: تزعم أنك إله، فإله من تملك، أو إله جميع الخلق؟ فإن كنت إله من تملك، فإن لك شريكاً فيما لا تملك؛ وإن كنت إله الخلق فمن إلهك؟ فقال له: ويحك! فمن إلهي؟ قال: إله السماء والأرض وهو خالقهما وهذه الشمس والقمر والنجوم، فاتق الله واحذر عقوبته، فإن أنت عبدته ووحدته رجوت لك ثوابه، والخلود في جواره؛ قال له الملك: اختر ثم أخبرني، من عبد إلهك ما جزاؤه؟ قال: الجنة إذا مات، قال: فما الجنة؟ قال: دار خلقها الله بيده فجعلها مسكناً لأوليائه يبعثهم يوم القيامة شباباً مرداً أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فيدخلهم الجنة في نعيم وخلود، شباباً لا يهرمون، مقيمين لا يظعنون، أحياء لا يموتون، ونعيم وسرور وبهجة؛ قال: فما جزاء من لم يعبده وعصاه؟ قال: النار، مقرونين مع الشياطين، مغلغلين بالأصفاد، لا يموتون أبداً، في عذاب مقيم، وهوان طويل، تضربهم الزبانية بمقامع الحديد، طعامهم الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم؛ قال: فرق الملك وبكى لما كان قد سبق له فقال: إن أنا آمنت بالله فمالي؟ قال: الجنة، قال: فمن لي بذلك؟ قال: أنا لك الكفيل على الله عز وجل، وأكتب لك على الله كتاباً، فإذا أتيته تقاضيته ما في كتابك وفى لك، فإنه قادر ماهر، يوفيك ويزيدك. ففكر الملك في ذلك، وأراد الله به الخير فقال له: اكتب لي على الله كتاباً؛ فكتب: "
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب كتبه فلان الكفيل على الله لكنعان الملك، ثقةً منه بالله أن لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولكنعان على الله بكفالة فلان إن تاب ورجع، وعبد الله أن يدخله الجنة، ويثويه منها حيث يشاء، وإن له على الله ما لأوليائه، وأن يجيره من عذابه، فإنه رحيم بالمؤمنين، واسع الرحمة، سبقت رحمته غضبه ".
ثم ختم على الكتاب ودفعه إليه، ثم قال له الملك: أرشدني كيف أصنع؟ قال: قم فاغتسل والبس ثياباً جدداً، ففعل؛ ثم أمره أن يتشهد بشهادة الحق وأن يتبرأ من الشرك، ففعل؛ ثم قال: كيف أعبد ربي؟ فعلمه الشرائع والصلاة؛ ثم قال له: يا ذا الكفل، استر هذا الأمر ولا تظهره حتى ألحق بالنساك. قال: فخلع الملك وخرج سراً فلحق بالنساك، فجعل يسيح في الأرض. وفقده أهل مملكته وطلبوه؛ فلما لم يقدروا عليه قال: اطلبوا ذا الكفل فإنه هو الذي غر إلهنا؛ قال: فذهب قوم في طلب الملك، وتوارى ذو الكفل؛ فقدروا على الملك على مسيرة شهر من بلادهم، فلما نظروا إليه قائماً يصلي خروا له سجداً، فانصرف إليهم فقال: اسجدوا لله عز وجل ولا تسجدوا لأحد من الخلق، فإني آمنت برب السماوات والأرض والشمس والقمر. فوعظهم وخوفهم. قال: فعرض له وجع وحضره الموت فقال لأصحابه: لا تبرحوا فإن هذا آخر عهدي بالدنيا، فإذا مت فادفنوني؛ وأخرج كتابه فقرأه عليهم حتى حفظوه وعلموا ما فيه، وقال لهم: هذا كتاب كتب لي على ربي أستوفي منه ما فيه، فادفنوا هذا الكتاب معي. قال: فمات، فجهزوه ووضعوا الكتاب على صدره ودفنوه. فبعث الله عز وجل ملكاً فجاء به إلى ذي الكفل فقال: يا ذا الكفل، إن ربك قد وفى لكنعان بكفالتك، وهذا الكتاب الذي كتبته له، وإن الله يقول: إني هكذا أفعل بأهل طاعتي. فلما أن جاءه الملك بالكتاب ظهر للناس، أخذوه فقالوا: أنت غررت ملكنا وخدعته؛ فقال لهم: لم أغره ولم أخدعه، ولكن دعوته إلى الله وتكفلت له بالجنة، وقد مات ملككم اليوم في ساعة كذا وكذا، ودفنه أصحابكم، وهذا الكتاب الذي كنت كتبته له على الله الوفاء، وقد أوفاه الله حقه، وهذا الكتاب تصديق لما أقول لكم، فانتظروا حتى يرجع أصحابكم؛ فحسبوه حتى قدم أصحابهم، فسألوهم فقصوا عليهم القصة؛ فقالوا لهم: تعرفون الكتاب الذي دفنتموه معه؟ قالوا: نعم، فأخرجوا الكتاب فقرأوه،
فقالوا: هذا الكتاب الذي كان معه، ودفناه في يوم كذا وكذا، فنظروا وحسبوا فإذا ذو الكفل كان قد قرأ عليهم الكتاب وأعلمهم بموت الملك في اليوم الذي مات فيه؛ فآمنوا به واتبعوه، فبلغ من آمن به مئة ألف وأربعة وعشرين ألفاً؛ وتكفل لهم مثل الذي تكفل لملكهم على الله. فسماه الله ذو الكفل.
قال أبو نضرة: كان نبي في بني إسرائيل، فأرسل إليهم أن اجتمعوا عندي، فاجتمعوا عنده فقال: إني لا أحسبني إلا قد احتضر أجلي، فالتمسوا لي رجلاً يصوم النهار ويقوم الليل، ويقضي بين بني إسرائيل ولا يغضب، فلما سمع ذلك المشيخة سكتوا، وقام غلام من بني إسرائيل فقال: أنا لك بهذا؛ فقال: ألا أراك غلاماً فاجلس. قال: ثم أرسل إليهم أن اجتمعوا إلي، فاجتمعوا، فقال لهم مثل ذلك، فسكت المشيخة وقام الغلام فقال: أنا لهذا؛ فقال: ألا أراك غلاماً فاجلس. قال: فأرسل إليهم أن اجتمعوا إلي، فقال لهم مثل ذلك، فسكت المشيخة وقام الغلام فقال: أنا لك بهذا، قال: تصوم النهار وتقوم الليل وتقضي بين بني إسرائيل ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: قد وليتك أمر بني إسرائيل بعدي. قال: ومات نبيهم. قال: فجعل ذو الكفل يصوم النهار ويقوم الليل، ويقضي بين بني إسرائيل، فإذا انتصف النهار قام فأوى إلى بيته، فقال: ثم يخرج ويقضي بينهم. قال: قال إبليس لعنه الله لجنوده: احتالوا أن تغضبوه، فأرادوا بكل شيء، فجعلوا لا يقدرون على أن يغضبوه: فلما رأى ذلك إبليس قال: أنا صاحبه فجاءه في صورة شيخ كبير، يمشي على عصاً له حتى قعد حيث يراه، فجعل ذو الكفل ينظر إليه ويرق له، ويحسب أنه لا يستطيع الزحام، فلما كانت الساعة التي يقوم فيها للقائلة، قام حتى قعد بين يديه فقال: شيخ كبير مظلوم، ظلمني بنو فلان، قال له ذو الكفل: فهلا قمت إلي قبل هذه الساعة؟! قال: شيخ كبير لم أستطع الزحام؛ قال: فأخذه بخدعته حتى مضت ساعته، فالتفت ذو الكفل فإذا ساعته التي يقيل فيها قد مضت، فقال: يا شيخ! منعتني من القائلة؛ قال: إني شيخ كبير ملهوف، قال: فكتب معه، قال: فأخذ الكتاب فرمى به؛ ثم تحينه من الغد، فأتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقعد حياله، فجعل ذو الكفل ينظر
إليه ولا يقوم إليه، حتى كانت الساعة التي يقوم فيها للقائلة، فقام فقعد بين يديه فقال: قد أخبرتك أن القوم لا يلتفتون إلى كتابك، طردوني ولم يجيبوني، فأخذه بخدعته حتى ذهبت ساعته، فالتفت فإذا ساعته قد ذهبت، فقال: يا شيخ! منعتني أمس واليوم من القائلة، وأنا أنام هذه السويعة! قال: شيخ كبير، مظلوم ضعيف، قال: فكتب معه وشدد عليهم، فقال: إنهم لا يلتفتون إلى كتابك، قال: بلى قال: وكل ذلك يريد أن يغضبه قال: فكتب معه وتشدد على القوم. قال: فانطلق فمزق الكتاب وخمش وجهه، ومزق ثيابه، ثم تحين الساعة التي أتاه فيها، فقعد بحياله، فجعل ذو الكفل ينظر إليه وماله هم غيره، حتى إذا كانت الساعة التي يقوم فيها قام فقعد بين يديه، قال فقال: هذا ما لقيت منك! ضربوني ومزقوا علي ثيابي وقد أخبرتك أنهم لا يجيبونك، وأخذه بخدعته حتى مضت ساعته، فالتفت ذو الكفل فإذا ساعته قد ذهبت فقال: أول من أمس، وأمس واليوم! اللهم إنما أنا بشر، لا أستطيع ألا أغضب، قال: فرفع يده، فطرف لإبليس، فساخ الخبيث فذهب. فسماه الله ذا الكفل لأنه كفل بشيء فوفى به.
وعن ابن عمر قال: لقد سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: كان الكفل منبني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال: ما يبكيك، أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة؛ قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط! قال: ثم نزل فقال: اذهبي والدنانير لك؛ ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً. فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل.
قيل: إن ذا الكفل كان عمره خمساً وسبعين سنة.
قال وهب بن منبه: كانت قبل إلياس وقبل داود أحداث وأمور في بني إسرائيل وأنبياء منهم اليسع صاحب إلياس وذو الكفل؛ وكان عيلون مستخلفاً خلافة نبوة، ولم تكن له نبوة، غير أن بني
إسرائيل كانوا يسمون خليفة النبي نبياً؛ وكان فيهم من جمع التوراة يسمونهم أنبياء؛ ومنهم من كان نبياً في منامه؛ وكان اشموئيل بعده. وكان ذو الكفل يكتب الكفالات على الله بالوفاء لمن آمن به. فكان من شأنه أنهم كانوا ثلاثة إخوة، عباد تآخوا في الله حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل، فخرجوا عنهم واعتزلوهم وتعبدوا في موضع لا يعرفون، حتى إذا اشتد البلاء في بني إسرائيل وكادوا أن يتفانوا، وضيعت فيهم الأحكام والسنن والشرائع؛ فلما أن خاف القوم الهلاك طلبوا الثلاثة ليملكوا أحدهم على أنفسهم ليقيم فيهم الحدود والأحكام ويجمع ألفتهم. قال: فقدروا عليهم، فخيروهم بين القتل وبين أن يكون أحدهم عليهم؛ فاختاروا القتل، وكان أصغرهم أعبدهم وأشدهم اجتهاداً؛ فقال اثنان منهم للثالث وهو أصغرهم سناً: أنت أحدثنا سناً وأقوانا، فهل لك أن تحتسب بنفسك عليهم فتقيم لهم أحكامهم وشرائعهم؟ فقال: أفعل بشرط أن لا تقرباني ولا تنظرا إلي ولا أنظر إليكما حتى يبلغكما أني عدلت عن الحق؛ فقالا: نعم.
فمضى مع القوم، فتوجوه وأقعدوه على سرير الملك. فأقام فيهم الحق وأحيا فيهم السنن، وحسنت حال بني إسرائيل، واغتبطوا به؛ فجاءه الشيطان من قبل النساء، فلم يزل حتى واقع النساء؛ ثم أتاه من قبل الشراب، فلم يزل به حتى خالط الناس في الشراب؛ ولم يزل به حتى ركب المعاصي وضيع الحدود، وانتهك المحارم، وخالط الدماء. فبلغ أخويه، فجاءا حتى دخلا عليه، فأمر بهما فحبسهما، فلما أمسى دعا بهما، فقالا له: أي عدو الله! غررتنا بدينك، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة! فقال لهما: فدعاني عنكما، فقد ارتكبت ما بلغكما وأنا غير مقصر، وقد أصبت الدنيا، وعلمت علماً يقيناً أن لا آخرة لي، فدعاني أتمتع من دنياني؛ فقال له أحدهما يقال له عايوذا وكان أخاه في الله عز وجل: أفلا خير من ذلك؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع وتتوب إلى الله، وأتكفل لك بالمغفرة والرحمة والجنة، قال: أتفعل؟ قال: نعم، قال: اكتب لي على ربك كتاباً بالوفاء، فكتب له؛ ثم خلع الملك وعاد إلى ما كان، ولحق بالعباد، وقال لهما: لا تصحباني. وكان عباد بني إسرائيل حين عظمت الأحداث فيهم اعتزلوهم ولحقوا بالجبال والسواحل، يعبدون الله؛ فلحق هذا بشعب العباد، فانتهى إلى رجل قائم يصلي إلى جنب شجرة جرداء ليس عليها ورق، كثيرة الشوك فقام إلى جنبه يصلي؛ وكانت تلك الشجرة تحمل كل عشية رمانةً عند إفطار العابد، فهي رزقه إلى مثلها من القابلة؛ فلما أمسى قال في
نفسه: إني أطوي ليلتي هذه، وأجعل رزقي لضيفي هذا. قال: فحملت الشجرة رمانتين، فدفع إحداهما إلى الفتى وأكل الأخرى، فقال له الفتى: هل أمامك من العباد أحد؟ قال: امض أمامك، فلما أصبح مضى حتى انتهى إلى رجل قائم يصلي على صخرة، عليه برنس له من مسوح، فقام إلى جنبه يصلي، وكان له كل ليلة إناء من ماء، عليه رغيف، وهو رزقه، فلما أمسى جعل في فنسه أن يجعل رزقه لضيفه ويمسك هو، فأتاه الله بإناءين على كل واحد منهما رغيف، فأطعم أحدهما الفتى وأكل الآخر وشربا؛ فلما أصبح الفتى قال له: هل في الوادي من هو أعبد عندك؟ قال: امض أمامك؛ فمضى فانتهى إلى رجل قائم على تل، بغير حذاء ولا قلنسوة، في يوم شديد الحر، عليه إزار من مسوح، وجبة من مسوح، قائم يصلي، فقام إلى جنبه؛ وكانت وعلة سخرها الله عز وجل، تجيء كل ليلة من الجبل، فتقوم بين يديه، وتفرج بين رجليها وضرعها، تدر لبناً؛ وعنده قعبة له، فيحلب من الوعلة ملء قعبته، فذلك طعامه وشرابه، فقال في نفسه: أجعل رزقي لضيفي هذا وأمسك عن نفسي؛ فلما جاءت الوعلة حتى وقفت، فقام العابد إليها فحلبها وسقى الفتى وهي واقفة وضرعها يدر لبناً وهي تومئ إلى العابد أن احتلب؛ قال: فاحتلب حتى ملأ قعبته وانصرفت الوعلة. فلما أصبح قال له الفتى: هل في الوادي من هو اعبد منك؟ قال: امض أمامك، قال فمضى حتى انتهى إلى شيخ في أعلى الجبل، قائم يعبد الله عز وجل منذ مئة وثمانين سنة، اعتزل الناس، طعامه عشب الأرض وله عين تجري، إذا أمسى جرت تلك العين بما يكفيه لشرابه ووضوئه، وتعشب الأرض حول عينه وهو على صخرة كقدر ما يغنيه، فلما أمسى جعل في نفسه أن يجعل رزقه لضيفه ويمسك عن نفسه؛ فلما أمسى فجر الله عينيه، وأعشب الأرض حولهما؛ فقال للفتى: هذا طعامي وهذا شرابي، وهذا رزق ساقه الله إليك على قدر رزقي، ولا يكلف الله نفساً إلا طاقتها، وليس عندنا إلا ما ترى، قد رضينا من الدنيا بهذا وهذا من الله عز وجل، أن رزقنا القناعة والرضى؛ فقال الفتى: قد رضيت بهذا ولا أريد به بدلاً؛ فأقام معه يتعبد حتى أدركه الموت، فقال
للشيخ: قد صحبتك فأحسنت صحبتي، ورزقني الله بصحبتك الخير والفضل، ولي عندك حاجة؛ قال: وما هي؟ قال: أن تحفر لي وتدفني، ثم أخرج الكتاب فدفعه إليه وقال: ضع هذا الكتاب بين كفني وصدري؛ فقال له الشيخ: فكيف لي بأن أحفر لك؟ قال: قل أنت نعم إن شاء الله، فإن الله سيهيئ ذلك لك. فقال الشيخ: نعم؛ فمات الفتى فقام الشيخ ليحفر له لما وعده فلم يصل، إنما هو يحفر بيده حتى تقطعت أنامله إذ بعث الله أسداً، له مخاليب من حديد، فحفر له قبراً. فلما أن رأى العابد ذلك اشتد سروره بذلك، فدفن الفتى وأهال عليه، ووضع الكتاب بين صدره وكفنه؛ فبعث الله إليه ملكاً فأخذ الكتاب وكتب: إن الله عز وجل قد وفى له بشرطك، وتمت كفالتك ونفذ كتابك. فجاء بالكتاب حتى دفعه إلى عايوذا
وهو الذي كان كتب له الكفالة؛ وكان بعد ذلك يكتب الكفالات على نفسه لله عز وجل، فسمي ذا الكفل. والله أعلم أي ذلك كان مما قالوا. والذي كان كتب له الكفالة؛ وكان بعد ذلك يكتب الكفالات على نفسه لله عز وجل، فسمي ذا الكفل. والله أعلم أي ذلك كان مما قالوا.