جَعْفَر أمير المؤمنين المقتدر باللَّه بْن أَحْمَدَ المعتضد باللَّه بْن أَبِي أَحْمَد الموفق بْن جَعْفَر المتوكل عَلَى اللَّه بْن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، يكنى أبا الفضل. استخلف بعد أخيه المكتفي :
فأخبرنا الْحَسَن بن أَبِي بكر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشافعي. قَالَ:
وأقعد جَعْفَر بن المعتضد- وهو المقتدر بالله واسم أمه شغب- يوم الأحد لأربع عشرة مضت من شهر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين ومائتين.
وأخبرني عُبَيْد الله بن أبي الفتح أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْن الْحَسَن قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَةَ الأَزْدِيُّ. قَالَ: المقتدر بالله جَعْفَر بْن أَحْمَد المعتضد بالله بويع لَهُ يوم مات المكتفي وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة ونحو من شهرين، وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين وكنيته أَبُو الفضل.
أخبرنا عُبَيْد اللَّهِ بْن عُمَر الواعظ حَدَّثَنِي أَبِي. قَالَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بن عَلِيّ: استخلف جَعْفَر المقتدر بالله- أَبُو الفضل- وسنه يومئذ ثلاث عشرة سنة وشهر وعشرون يوما، ولم يل الأمر قبله أحد أصغر منه سنا. وقتل يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، فكانت خلافته منذ يوم بويع لَهُ بالخلافة إلى يوم قتل أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما. وقد خلع من خلافته مرتين وأعيد. فأما المرة الأولى فكانت بعد استخلافه بأربعة أشهر وسبعة أيام، وذلك عند قتل الْعَبَّاس بن الْحَسَن الوزير، وفاتك مولى المعتضد بالله، واجتماع أكثر الناس ببغداد عَلَى البيعة لأبي الْعَبَّاس عبد الله بن المعتز بالله، ولقبوه
الراضي بالله. وخلع المقتدر، واحتجوا فِي ذلك لصغر سنه وقصوره عَنْ بلوغ الحلم، ونصبوا عَبْد اللَّهِ بْن المعتز للأمر فِي يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين، وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وبايعوا لَهُ بالخلافة. ثم فسد الأمر وبطل من الغد فِي يوم الأحد وثبت أمر المقتدر بالله، وجددت لَهُ البيعة الثانية فِي يوم الاثنين.
وظفر بعَبْد اللَّهِ بْن المعتز، فقتل وقتل جماعة ممن سعى فِي أمره. والمرة الثانية فِي الخلع بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، اجتمع القواد والجند الأكابر والأصاغر مع مؤنس الخادم ونازوك عَلَى خلعه، فقهروه وخلعوه وطالبوه بأن يكتب رقعه بخطه يخلع نفسه فيها، ففعل، وأشهد عَلَى نفسه بذلك. وأحضروا مُحَمَّد بن المعتضد بالله فنصبوه للأمر وسموه القاهر بالله وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وذلك يوم السبت للنصف من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فأقام الأمر عَلَى ذلك يوم السبت ويوم الأحد. فلما كان يوم الاثنين اختلف الجند وتغير رأيهم ووثبت طائفة منهم عَلَى نازوك وعبد الله بن حميدان المكنى بأبي الهيجاء، فقتلوهما وأقيم القاهر من مجلس الخلافة وأعيد المقتدر بالله إِلَى داره وجددت لَهُ بيعة. وكان قد تبرأ من الأمر يومين وبعض الثالث، ولم يكن وقع للقاهر بيعة فِي رقاب الناس، وقتل المقتدر بالله بباب الشماسية وسنه ثمان وثلاثون سنة وشهر وأيام. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وكان رجلا ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، جميل الوجه، أبيض مشربا حمرة، حسن الخلق، حسن العينين، بعيد ما بين المنكبين، جعد الشعر، مدور الوجه، قد كثر الشيب فِي رأسه وأخذ فِي عارضيه أخذا كثيرا، كذا رأيته فِي اليوم الذي قتل فيه، وأمه أم ولد يقال لها شغب، أدركت خلافته.
أخبرنا عَلِيّ بن أبي علي البصريّ حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُور القشوري شيخ من الجند المولدين. قَالَ: كنت أخدم وأنا حدث فِي دار لنصر القشوري المرسومة بالحجبة من دار المقتدر بالله، فركب المقتدر يوما عَلَى غفلة وعبر إِلَى بستان الخلافة المعروف بالزبيدية، فِي نفر من الخدم والغلمان- وأنا مشاهد لذلك- وتشاغل أصحاب الموائد والطباخون بحمل الآلات والطعام وتعبيتها في الخون، فأبطأت وعجل هو فِي طلب الطعام، فقيل لَهُ: لم يحمل بعد، فَقَالَ: أنظروا ما كان. قَالَ: فخرج الخدم كالمتحيرين ليس يجسرون أن يعودوا فيقولوا ما جاء شيء، وهم يبادرون فيما يعملون، فسمعهم جَعْفَر- ملاح طيار المقتدر والرئيس عَلَى الملاحين برسم الخدمة كلهم- فَقَالَ: إن كان ينشط مولانا لأكل طعام الملاحين فمعي ما يكفيه، فمضوا فقالوا لَهُ فَقَالَ: هاتوا
ما معه، فأخرج من تحت الطيار جونة خيازر نظيفة فيها جدي بارد، وسكباج مبردة، وبزما ورد، وإدام، وقطعة مالح منقور طيبة، وأرغفة سميذ جيدة، وكل ذلك نظيف، وإذا هي جونة تعمل له في منزله كل يوم، وتحمل إليه فيأكلها فِي موضعه من الطيار ويلازم الخدمة، فلما حملت إِلَى المقتدر استنظفها فأكل منها واستطاب المالح والإدام فكان أكثر أكله منه. ولحقته الأطعمة من مطبخه فَقَالَ: ما آكل اليوم إلا من طعام جَعْفَر الملاح، فأتم أكله منه وأمر بتفرقة طعامه عَلَى من حضر، ثم قَالَ: قولوا لَهُ هات الحلواء، قَالَ فَقَالَ: نحن لا نعرف الحلواء. فَقَالَ المقتدر: ما ظننت أن فِي الدنيا من يأكل طعاما لا حلواء بعده. قَالَ فَقَالَ الملاح: حلواؤنا التمر والكسب فإن نشط أحضرته فَقَالَ: لا هذا حلواء صعب لا أطيقه فأحضروا من حلوائنا فأحضرت عدة جامات، فأكل ثم قَالَ لصاحب المائدة: اعمل فِي كل يوم جونة ينفق عليها ما بين عشرة دنانير إِلَى مائتي درهم وسلمها إِلَى جَعْفَر الملاح تكون برسم الطيار أبدا، فإن ركبت يوما عَلَى غفلة كما ركبت اليوم كانت معدة، وإن جاءت المغرب ولم أركب كانت لجعفر، قَالَ فعملت إِلَى أن قتل المقتدر، وكان جَعْفَر يأخذها وربما حاسب عليها لأيام وأخذها دراهم، وما ركب المقتدر بعدها عَلَى غفلة ولا احتاج إليها.
أخبرنا عَلِيّ بن المحسن الْقَاضِي حدّثني أبي حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيّ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الأنباري الكاتب قَالَ: سمعت دلويه الكاتب يحكي عَنْ صافي الحرمي الخادم مولى المعتضد أَنَّهُ قَالَ: مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إِلَى باب شغب أم المقتدر وقف يسمع وَيَطَّلِعُ من خلل فِي الستر، فإذا هو بالمقتدر وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب فِي وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة، ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة عَلَى الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل واحدة مثل ما أكلوا حتى أفنى العنقود، والمعتضد يتميز غيظا، قَالَ: فرجع ولم يدخل الدار، ورأيته مهموما فقلت: يا مولاي ما سبب ما فعلته، وما قد بان عليك؟
فَقَالَ: يا صافي والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن فِي قتله صلاحا للأمة، فقلت: يا مولاي حاشاه أي شيء عمل، أعيذك بالله، يا مولاي العن إبليس.
فَقَالَ: ويحك أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني عليا- يعني المكتفي- وما أظن عمره يطول للعلة التي به. فقال
صافي: - يعني الخنازير التي كانت فِي حلقه- فيتلف عن قرب ولا يرى الناس إخراجها عَنْ ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جَعْفَر، فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في هذا السخاء الذي قد رأيت من أَنَّهُ أطعم الصبيان مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم فِي شيء عزيز فِي العالم، والشح عَلَى مثله فِي طباع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب ويبذر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عَنْ بني العبّاس أصلا. فقلت: يا مولاي يبقيك اللَّه حتى ينشأ فِي حياة منك، ويصير كهلا فِي أيامك، ويتأدب بآدابك، ويتخلق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فَقَالَ: احفظ عني ما أقوله، فإنه كما قُلْتُ. قال: ومكث يومه مهموما، وضرب الدهر ضربته ومات المعتضد وولي المكتفي، فلم يطل عمره ومات.
وولي المقتدر. فكانت الصورة كما قاله المعتضد بعينها، فكنت كلما وقفت عَلَى رأس المعتضد وهو يشرب ورأيته قد دعا بالأموال فأخرجت إليه، وحلت البدر، وجعل يفرقها عَلَى الجواري والنساء ويلعب بها، ويمحقها ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد وبكيت. قَالَ وَقَالَ صافي: كنت يوما واقفا عَلَى رأس المعتضد فقال: هاتوا فلانا الطيبي- خادم يلي خزانة الطيب- فأحضر فَقَالَ لَهُ: كم عندك من الغالية؟ فَقَالَ نيف وثلاثون حبا صينيا مما عمله عدة من الخلفاء، قَالَ: فأيها أطيب؟ قَالَ: ما عمله الواثق، قَالَ أحضرنيه، فأحضره حبا عظيما يحمله خدم عدة بدهق ومثقلة، ففتح فإذا بغالية قد ابيضت من التعشيب وجمدت من العتق، فِي نهاية الذكاء، فأعجبت المعتضد وأهوى بيده إِلَى حوالي عنق الحب، فأخذ من لطاخته شيئا يسيرا من غير أن يشعث رأس الحب، وجعله فِي لحيته وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيب عَلَى هذا الحب، شيلوه، فرفع، ومضت الأيام، فجلس المكتفي للشرب يوما، وهو خليفة وأنا قائم عَلَى رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم وسأله عَنِ الغوالي، فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحب بعينه ففتح فاستطابه وَقَالَ أخرجوا منه قليلا. فأخرج منه مقدار ثلاثين- أو أربعين مثقالا- فاستعمل منه فِي الحال ما أراده، ودعا بعتيدة لَهُ فجعل الباقي فيها ليستعمله عَلَى الأيام، وأمر بالحب فختم بحضرته ورفع، ومضت الأيام وولى المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوما كنت عَلَى رأسه، فأراد أن يتطيب فاستدعى الخادم وسأله، فأخبره بمثل أخبر به أباه وأخاه.
فَقَالَ: هات الغوالي كلها، فأحضرت الحباب كلها فجعل يخرج من كل حب مائة مثقال، وخمسين، وأقل وأكثر، فيشمه ويفرقه عَلَى من بحضرته حتى انتهى إِلَى حب الواثق واستطابه فَقَالَ: هاتم عتيدة حتى يخرج إليها من هذا ما يستعمل، فجاءوه بعتيدة وكانت عتيدة المكتفي بعينها، ورأى الحب ناقصا والعتيدة فيها قدح الغالية ما استعمل منه كبير شيء، فَقَالَ: ما السبب فِي هذا؟ فأخبرته بالخبر عَلَى شرحه، فأخذ يعجب من بخل الرجلين ويضع منهما بذلك، ثم قَالَ: فرقوا الحب بأسره عَلَى الجواري، فما زال يخرج منه أرطالا أرطالا، وأنا أتمزق غيظا، وأذكر حديث العنب وكلام مولاي المعتضد، إِلَى أن مضى قريب من نصف الحب، فقلت لَهُ: يا مولاي إن هذه الغالية أطيب الغوالي وأعتقها، ومالا يعتاض منه، فلو تركت ما بقي فيها لنفسك وفرقت من غيرها كان أولى. قَالَ: وجرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد فاستحيا مني ورفع الحب، فما مضت إلا سنين من خلافته حتى فنيت تلك الغوالي، واحتاج أن عجن غالية بمال عظيم.
أخبرنا عَلِيّ بن المحسن بن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أجري فِي مجلس أَبِي يوما ذكر المقتدر بالله وأفعاله، فَقَالَ بعض الحضار: كان جاهلا. فَقَالَ أَبِي: مه؟ فإنه لم يكن كذلك، وما كان إلا جيد العقل صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثرا للشهوات، ولقد سمعت أبا الْحَسَن عَلِيّ بن عِيسَى يقول- وقد جرى ذكره بحضرته فِي خلوة- ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، ولا أعرف بالأمور، وأسد فِي التدبير، ولو قُلْتُ إِنَّهُ إذا ترك النبيذ هذه المدة فِي أصالة الرأي، وصحة العقل كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء ما خشيت أن أقع بعيدا.
حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّهِ بن أَبِي الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر. قال: ولليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، قتل المقتدر فوق رقة الشماسية.
فأخبرنا الْحَسَن بن أَبِي بكر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشافعي. قَالَ:
وأقعد جَعْفَر بن المعتضد- وهو المقتدر بالله واسم أمه شغب- يوم الأحد لأربع عشرة مضت من شهر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين ومائتين.
وأخبرني عُبَيْد الله بن أبي الفتح أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْن الْحَسَن قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَةَ الأَزْدِيُّ. قَالَ: المقتدر بالله جَعْفَر بْن أَحْمَد المعتضد بالله بويع لَهُ يوم مات المكتفي وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة ونحو من شهرين، وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين وكنيته أَبُو الفضل.
أخبرنا عُبَيْد اللَّهِ بْن عُمَر الواعظ حَدَّثَنِي أَبِي. قَالَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بن عَلِيّ: استخلف جَعْفَر المقتدر بالله- أَبُو الفضل- وسنه يومئذ ثلاث عشرة سنة وشهر وعشرون يوما، ولم يل الأمر قبله أحد أصغر منه سنا. وقتل يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، فكانت خلافته منذ يوم بويع لَهُ بالخلافة إلى يوم قتل أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما. وقد خلع من خلافته مرتين وأعيد. فأما المرة الأولى فكانت بعد استخلافه بأربعة أشهر وسبعة أيام، وذلك عند قتل الْعَبَّاس بن الْحَسَن الوزير، وفاتك مولى المعتضد بالله، واجتماع أكثر الناس ببغداد عَلَى البيعة لأبي الْعَبَّاس عبد الله بن المعتز بالله، ولقبوه
الراضي بالله. وخلع المقتدر، واحتجوا فِي ذلك لصغر سنه وقصوره عَنْ بلوغ الحلم، ونصبوا عَبْد اللَّهِ بْن المعتز للأمر فِي يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين، وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وبايعوا لَهُ بالخلافة. ثم فسد الأمر وبطل من الغد فِي يوم الأحد وثبت أمر المقتدر بالله، وجددت لَهُ البيعة الثانية فِي يوم الاثنين.
وظفر بعَبْد اللَّهِ بْن المعتز، فقتل وقتل جماعة ممن سعى فِي أمره. والمرة الثانية فِي الخلع بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، اجتمع القواد والجند الأكابر والأصاغر مع مؤنس الخادم ونازوك عَلَى خلعه، فقهروه وخلعوه وطالبوه بأن يكتب رقعه بخطه يخلع نفسه فيها، ففعل، وأشهد عَلَى نفسه بذلك. وأحضروا مُحَمَّد بن المعتضد بالله فنصبوه للأمر وسموه القاهر بالله وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وذلك يوم السبت للنصف من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فأقام الأمر عَلَى ذلك يوم السبت ويوم الأحد. فلما كان يوم الاثنين اختلف الجند وتغير رأيهم ووثبت طائفة منهم عَلَى نازوك وعبد الله بن حميدان المكنى بأبي الهيجاء، فقتلوهما وأقيم القاهر من مجلس الخلافة وأعيد المقتدر بالله إِلَى داره وجددت لَهُ بيعة. وكان قد تبرأ من الأمر يومين وبعض الثالث، ولم يكن وقع للقاهر بيعة فِي رقاب الناس، وقتل المقتدر بالله بباب الشماسية وسنه ثمان وثلاثون سنة وشهر وأيام. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وكان رجلا ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، جميل الوجه، أبيض مشربا حمرة، حسن الخلق، حسن العينين، بعيد ما بين المنكبين، جعد الشعر، مدور الوجه، قد كثر الشيب فِي رأسه وأخذ فِي عارضيه أخذا كثيرا، كذا رأيته فِي اليوم الذي قتل فيه، وأمه أم ولد يقال لها شغب، أدركت خلافته.
أخبرنا عَلِيّ بن أبي علي البصريّ حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُور القشوري شيخ من الجند المولدين. قَالَ: كنت أخدم وأنا حدث فِي دار لنصر القشوري المرسومة بالحجبة من دار المقتدر بالله، فركب المقتدر يوما عَلَى غفلة وعبر إِلَى بستان الخلافة المعروف بالزبيدية، فِي نفر من الخدم والغلمان- وأنا مشاهد لذلك- وتشاغل أصحاب الموائد والطباخون بحمل الآلات والطعام وتعبيتها في الخون، فأبطأت وعجل هو فِي طلب الطعام، فقيل لَهُ: لم يحمل بعد، فَقَالَ: أنظروا ما كان. قَالَ: فخرج الخدم كالمتحيرين ليس يجسرون أن يعودوا فيقولوا ما جاء شيء، وهم يبادرون فيما يعملون، فسمعهم جَعْفَر- ملاح طيار المقتدر والرئيس عَلَى الملاحين برسم الخدمة كلهم- فَقَالَ: إن كان ينشط مولانا لأكل طعام الملاحين فمعي ما يكفيه، فمضوا فقالوا لَهُ فَقَالَ: هاتوا
ما معه، فأخرج من تحت الطيار جونة خيازر نظيفة فيها جدي بارد، وسكباج مبردة، وبزما ورد، وإدام، وقطعة مالح منقور طيبة، وأرغفة سميذ جيدة، وكل ذلك نظيف، وإذا هي جونة تعمل له في منزله كل يوم، وتحمل إليه فيأكلها فِي موضعه من الطيار ويلازم الخدمة، فلما حملت إِلَى المقتدر استنظفها فأكل منها واستطاب المالح والإدام فكان أكثر أكله منه. ولحقته الأطعمة من مطبخه فَقَالَ: ما آكل اليوم إلا من طعام جَعْفَر الملاح، فأتم أكله منه وأمر بتفرقة طعامه عَلَى من حضر، ثم قَالَ: قولوا لَهُ هات الحلواء، قَالَ فَقَالَ: نحن لا نعرف الحلواء. فَقَالَ المقتدر: ما ظننت أن فِي الدنيا من يأكل طعاما لا حلواء بعده. قَالَ فَقَالَ الملاح: حلواؤنا التمر والكسب فإن نشط أحضرته فَقَالَ: لا هذا حلواء صعب لا أطيقه فأحضروا من حلوائنا فأحضرت عدة جامات، فأكل ثم قَالَ لصاحب المائدة: اعمل فِي كل يوم جونة ينفق عليها ما بين عشرة دنانير إِلَى مائتي درهم وسلمها إِلَى جَعْفَر الملاح تكون برسم الطيار أبدا، فإن ركبت يوما عَلَى غفلة كما ركبت اليوم كانت معدة، وإن جاءت المغرب ولم أركب كانت لجعفر، قَالَ فعملت إِلَى أن قتل المقتدر، وكان جَعْفَر يأخذها وربما حاسب عليها لأيام وأخذها دراهم، وما ركب المقتدر بعدها عَلَى غفلة ولا احتاج إليها.
أخبرنا عَلِيّ بن المحسن الْقَاضِي حدّثني أبي حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيّ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الأنباري الكاتب قَالَ: سمعت دلويه الكاتب يحكي عَنْ صافي الحرمي الخادم مولى المعتضد أَنَّهُ قَالَ: مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إِلَى باب شغب أم المقتدر وقف يسمع وَيَطَّلِعُ من خلل فِي الستر، فإذا هو بالمقتدر وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب فِي وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة، ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة عَلَى الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل واحدة مثل ما أكلوا حتى أفنى العنقود، والمعتضد يتميز غيظا، قَالَ: فرجع ولم يدخل الدار، ورأيته مهموما فقلت: يا مولاي ما سبب ما فعلته، وما قد بان عليك؟
فَقَالَ: يا صافي والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن فِي قتله صلاحا للأمة، فقلت: يا مولاي حاشاه أي شيء عمل، أعيذك بالله، يا مولاي العن إبليس.
فَقَالَ: ويحك أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني عليا- يعني المكتفي- وما أظن عمره يطول للعلة التي به. فقال
صافي: - يعني الخنازير التي كانت فِي حلقه- فيتلف عن قرب ولا يرى الناس إخراجها عَنْ ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جَعْفَر، فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في هذا السخاء الذي قد رأيت من أَنَّهُ أطعم الصبيان مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم فِي شيء عزيز فِي العالم، والشح عَلَى مثله فِي طباع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب ويبذر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عَنْ بني العبّاس أصلا. فقلت: يا مولاي يبقيك اللَّه حتى ينشأ فِي حياة منك، ويصير كهلا فِي أيامك، ويتأدب بآدابك، ويتخلق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فَقَالَ: احفظ عني ما أقوله، فإنه كما قُلْتُ. قال: ومكث يومه مهموما، وضرب الدهر ضربته ومات المعتضد وولي المكتفي، فلم يطل عمره ومات.
وولي المقتدر. فكانت الصورة كما قاله المعتضد بعينها، فكنت كلما وقفت عَلَى رأس المعتضد وهو يشرب ورأيته قد دعا بالأموال فأخرجت إليه، وحلت البدر، وجعل يفرقها عَلَى الجواري والنساء ويلعب بها، ويمحقها ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد وبكيت. قَالَ وَقَالَ صافي: كنت يوما واقفا عَلَى رأس المعتضد فقال: هاتوا فلانا الطيبي- خادم يلي خزانة الطيب- فأحضر فَقَالَ لَهُ: كم عندك من الغالية؟ فَقَالَ نيف وثلاثون حبا صينيا مما عمله عدة من الخلفاء، قَالَ: فأيها أطيب؟ قَالَ: ما عمله الواثق، قَالَ أحضرنيه، فأحضره حبا عظيما يحمله خدم عدة بدهق ومثقلة، ففتح فإذا بغالية قد ابيضت من التعشيب وجمدت من العتق، فِي نهاية الذكاء، فأعجبت المعتضد وأهوى بيده إِلَى حوالي عنق الحب، فأخذ من لطاخته شيئا يسيرا من غير أن يشعث رأس الحب، وجعله فِي لحيته وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيب عَلَى هذا الحب، شيلوه، فرفع، ومضت الأيام، فجلس المكتفي للشرب يوما، وهو خليفة وأنا قائم عَلَى رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم وسأله عَنِ الغوالي، فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحب بعينه ففتح فاستطابه وَقَالَ أخرجوا منه قليلا. فأخرج منه مقدار ثلاثين- أو أربعين مثقالا- فاستعمل منه فِي الحال ما أراده، ودعا بعتيدة لَهُ فجعل الباقي فيها ليستعمله عَلَى الأيام، وأمر بالحب فختم بحضرته ورفع، ومضت الأيام وولى المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوما كنت عَلَى رأسه، فأراد أن يتطيب فاستدعى الخادم وسأله، فأخبره بمثل أخبر به أباه وأخاه.
فَقَالَ: هات الغوالي كلها، فأحضرت الحباب كلها فجعل يخرج من كل حب مائة مثقال، وخمسين، وأقل وأكثر، فيشمه ويفرقه عَلَى من بحضرته حتى انتهى إِلَى حب الواثق واستطابه فَقَالَ: هاتم عتيدة حتى يخرج إليها من هذا ما يستعمل، فجاءوه بعتيدة وكانت عتيدة المكتفي بعينها، ورأى الحب ناقصا والعتيدة فيها قدح الغالية ما استعمل منه كبير شيء، فَقَالَ: ما السبب فِي هذا؟ فأخبرته بالخبر عَلَى شرحه، فأخذ يعجب من بخل الرجلين ويضع منهما بذلك، ثم قَالَ: فرقوا الحب بأسره عَلَى الجواري، فما زال يخرج منه أرطالا أرطالا، وأنا أتمزق غيظا، وأذكر حديث العنب وكلام مولاي المعتضد، إِلَى أن مضى قريب من نصف الحب، فقلت لَهُ: يا مولاي إن هذه الغالية أطيب الغوالي وأعتقها، ومالا يعتاض منه، فلو تركت ما بقي فيها لنفسك وفرقت من غيرها كان أولى. قَالَ: وجرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد فاستحيا مني ورفع الحب، فما مضت إلا سنين من خلافته حتى فنيت تلك الغوالي، واحتاج أن عجن غالية بمال عظيم.
أخبرنا عَلِيّ بن المحسن بن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أجري فِي مجلس أَبِي يوما ذكر المقتدر بالله وأفعاله، فَقَالَ بعض الحضار: كان جاهلا. فَقَالَ أَبِي: مه؟ فإنه لم يكن كذلك، وما كان إلا جيد العقل صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثرا للشهوات، ولقد سمعت أبا الْحَسَن عَلِيّ بن عِيسَى يقول- وقد جرى ذكره بحضرته فِي خلوة- ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، ولا أعرف بالأمور، وأسد فِي التدبير، ولو قُلْتُ إِنَّهُ إذا ترك النبيذ هذه المدة فِي أصالة الرأي، وصحة العقل كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء ما خشيت أن أقع بعيدا.
حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّهِ بن أَبِي الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر. قال: ولليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، قتل المقتدر فوق رقة الشماسية.