Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=151430&book=5544#3bbd61
الضحاك بن قيس - قتله رجل من كلب، يقال له زحمة بن عبيد الله - وصبرت قيس عند راياتها، يقاتلون عندها. فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل فقال: اللهم، العنها من رايات، واعترضها بسفيه فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها. ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا مولياً. فأمسك عنهم. وقتلت قيس بمرج راهط مَقتلة لم يُقتله في موطن قط. وكانت
وقعة مرج راهط في نصف ذي الحجة سنة أربعة وستين. مرج راهط في نصف ذي الحجة سنة أربعة وستين.
ولما بلغ ابن الزبير قتلُ مروان الضحاكّ بمرج راهط قام خطيباً فقال: إن ثعلب بن ثعلب حفر بالصَّحْصَحة فأخطأت استه الحفرة. والَهْف أمٍ لم تلدني على رجل من محارب كان يرعى في جبال مكة. فيأتي بالضربة من اللبن فيتبعها بالقبضة من الدقيق، فيرى ذلك سداداً من عيش، ثم أنشأ يطلب الخلافة ووراثة النبوة.
الضحاك
ويقال: صخر بن قيس بن معاوية بن حصين وهو مُقاعس بن عبادة بن النّزّال بن عمرة بن عُبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أبو بحر التميمي أدرك عصر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له. ولم يره: وشهد صفين مع علي عليه السلام أميراً. وقدم دمشق، ورأى بها أبا ذر، رضي الله عنه، وقدم على معاوية في خلافته أيضاً. وهو المعروف بالأحنف. وكان سيد أهل البصرة.
حدث الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ألا هلك المتنطعون: قالها ثلاث مرات.
وفي رواية: ألا هلك المتكبرون. قالها ثلاثاً.
قال الأحنف بن قيس: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود، فقلت: لا أنتهي حتى أنظر أيدري على شفع ينصرف أو على وتر؟ فلما انصرف قلت له: أتدري على شفع تنصرف أم على وتر؟ قال: إن لم أدر فإن الله هو يدري. حدثني خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى، ثم قال: حدثني خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى، ثم قال: حدثني خليل أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى قال: ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها سيئة، فتقاصرت إلى نفسي فإذا هو أبو ذر.
وقد روي أن ذلك كان في مسجد حمص. وقد روي أن ذلك في مسجد بيت المقدس، وفيه زيادة: رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة.
وكان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة، ومصعب بن الزبير يومئذ والٍ عليها، فتوفي الأحنف عنده بالكوفة، فرُئي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء سنة سبع وستين. وقيل سنة اثنتين وسبعين. وصلى عليه مصعب.
وكانت أم الأحنف امرأة من باهلة يقال لها حبّة بنت ثعلبة بن قرط بن قرواش.
وكان الأحنف أحنف الرجلين جميعاً، ولم يكن له إلا بيضة واحدة. وكانت أمه ترقّصه وتقول: الرجز
والله لولا حنَفٌ برجلِهِ ... وقلةٌ أخافُها من نسلِهِ
ما كان في فتيانكم من مثلهِ
وقد اختلف في اسمه، فقيل: الضحاك، وقيل صخر، وقيل: الحارث، وقيل: حصين. ووفد إلى عمر بن الخطاب. وهو الذي افتتح مَرْوُروّد.
حدث الأحنف قال: بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان إذ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعياً إلى بني سعد؟ فسألوني عن الإسلام، فجعلت أخبرهم وأدعوهم إلى الإسلام، فقلت: إنك تدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسناً، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم، اغفر للأحنف. فكان الأحنف يقول: فما شيء أرجى عندي من ذلك. يعني: دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث الأحنف أنه قدم على عمر بن الخطاب بفتح تُستَر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد فتح عليك تُستر، وهي من أرض البصرة. فقال رجل من المهاجرين: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الأحنف بن قيس - الذي كفّ عنا بني مُرّة حين بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدقاتهم، وقد كانوا هّموا بنا. قال الأحنف: فحبسني عمر عنده بالمدينة سنة، يأتيني في كل يوم وليلة، فلا يأتيه عني إلا ما يحبّ. فلما كان رأس السنة دعاني، فقال: يا أحنف: هل تدري لمَ حبستك عندي؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذّرنا كل منافق، فخشيت أن تكون منهم. فاحمدِ الله يا أحنف.
وفي حدث مختصر بمعناه: فقال: يا أحنف، إني قد بلوتك وخبرتك، فرأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك على مثل علانيتك، وإن كنا نتحدث، إنما يُهلِك هذه الأمة كل منافق عليم.
قال أحمد بن صالح:
الأحنف بن قيس بصري، تابعي، ثقة. وكان سيد قومه. وكان أعور، أحنف، دميماً، قصراً كَوسجاً، له بيضة واحدة. قال له عمر: ويحك يا أحنف، لما رأيتك
ازدريتك: فلما نطقت فقلت: لعله منافق، صَنَع اللسان. فلما اختبرتك حمدتك ولذلك حبستك. حبسه سنة يختبره. فقال عمر: هذا والله السيّد.
وقال له عمر: كنت أخشى أن تكون منافقاً عالما. وأرجوا أن تكون مؤمناً، فانحدر إلى مصرك.
قال عبد الله بن عبيد: ابتاع الأحنف ثوبين بصريَين: ثوباً بستة عشر، والآخر باثني عشر، فقطعهما قميصين فجعل يلبس الذي أخذه بستة عشر في الطريق، حتى إذا قدم المدينة خلعه ولبس الذي أخذه باثني عشر. فدخل على عمر، فجعل يسائله، وينظر إلى قميصه ويمسحه، ويقول: يا أحنف، بكم أخذت قميصك هذا؟ قال: أخذته باثني عشر درهماً. قال: ويحك! ألا كان بستة، وكان فضله فيما تعلم؟ قال الأحنف بن قيس: ما كذبت منذ أسلمت لا مرة واحدة: كان عمر سألني عن ثوب: بكم أخذته؟ فأسقطت ثلث الثمن.
قال الشعبي: وفد أبو موسى وفداً من أهل البصرة إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس. فلما قدموا على عمر تكلَّم كل رجل منهم في خاصَّة نفسه، وكان الأحنف في آخر القوم، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أما بعد. يا أمير المؤمنين، فإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه، وإن أهل الشام نزلوا منازل قيصر، وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار العذبة والجنان المخصبة، وفي مثل عين البعير، وكالحوار في السَّلى. تأتيهم ثمارهم قبل أن تبلُغ، وإن أهل البصرة نزلوا في
سَبَخة زَعِقة نشَّاشة، لا يجف ثراها، ولا ينبُت مرعاها، طرفها في بحر أُجاج، والطرف الآخر في الفلاة، لا يأتينا شيء إلا في مثل مريء النعامة، فارفع خسيستنا، وأَنعش وكيستنا وزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وأصقِر درهمنا وأكثِر قَفيزنا، ومُر لنا بنهر نستعذب منه الماء. فقال عمر: عجزتم أن تكونوا مثل هذا؟! هذا والله السيّد. فما زلت أسمعها بعد.
وكان أبو موسى حين قدم على عمر فسأله عما كان رفع إليه من أمره أحب أن يبحث عنه، فلم يقم أحد يكفيه الكلام، فقام الأحنف بن قيس وكان من أشبههم فقال: يا أمير المؤمنين، صاحبك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن الحق، وعاملك ولم نر منه إلا خيراً، وإنا أناس بين سبَخَة وبين بحر أجاج، لا يأتينا طعامنا إلا في مثل حلقوم النعامة. فأعد لنا قفيزنا ودرهمنا، فأعجب منه ذلك عمر وأعرض عنه لحداثة سنّه، فقال له: اجلس يا أحنف، وكان برجله حَنف، فلذلك سماه الأحنف، فغلب لقبه على اسمه، فعرض عمر على الأحنف الجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما قطعنا الفلوات، ودأبنا الروحات العشيات للجوائز! وما حاجتي إلا حاجة من خلّفت، فزاده ذلك عند عمر خيراً. فرد عمر أبا موسى ومن معه. وحبَس الأحنف عنده سنة، وجعل عليه عيوناً، فلم يسمع إلا خيراً، فدعا به فقال: يا أحنف، إنك قد أعجبتني، وإنما حبستك لأعلم علمك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: احذروا النافق العالم، وأشفقت عليك منه، فوجدتك بريئاً مما تخوفت عليك، فسرّحه، وأحسن جائزته. ثم قدم على أبي موسى، فعرف ما كان منه إليه، فلم يزل للأحنف شرفٌ يعرف حتى خرج من الدنيا.
قال ابن سيرين: بعث عمر بن الخطاب الأحنف بن قيس على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو
وفرقوا جيوشهم، وكان الأحنف معهم، ففزع الناس، فكان أول من ركب الأحنف ومضى نحو الصوت وهو يقول: " الرجز "
إنَّ على كلّ رئيسٍ حقّا ... أن يخضِب الصَّعدة أو تندقّا
ثم حمل على صاحب الطبل فقتله، وانهزم العدو، فتقلوهم وغنموا، وفتحوا مدينة يقال لها: مَرْوُروذ. قالوا: ثم سار الأحنف بن قيس بن مروروذ إلى بلخ فصالحوه على أربع مئة ألف. ثم أتى خوارزم ولم يُطقها فرجع.
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد. فائذن للأحنف بن قيس، وشاوره، واسمع منه.
قيل للأحنف بن قيس: من أين أُوتيت ما أوتيت من الحلم والوقار؟ قال: بكلمات سمعتهن من عمر بن الخطاب. سمعت عمر يقول: يا أحنف، من مَزح استُخف به، ومن ضحك قلّت هيبته، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه.
قال الحسن: ما رأيت شريف قوم كان أفضل من الأحنف.
ذكر عمرُ بني تميم فذمهم، فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم. قال: تكلم. قال: إنك ذكرت بني تميم فعممتهم بالذم، وإنما هم من الناس، فيهم الصالح والطالح، فقال: صدقت، وقفّى بقولٍ حسن، فقام الحُتات - وكان يناوئه - فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم. قال: أجلس، فقد كفاكم سيدكم الأحنف.
قال سفيان: ما وُزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه.
قيل للأحنف بن قيس: بأي شيء سوّدك قومك؟ قال: لو عاب الناس الماء لم أشربه.
قال مالك بن مسمع للأحنف بن قيس: يا أبا بحر، ما أنتفع بالشاهد إذا غبت، ولا افتقد غائباً إذا شهدت. فكأن البحتري ألّم بهذا المعنى فقال: " الطويل "
رحلتَ فلم نفرح بأوبة آيبِ ... وأُبتَ فلم نجزع لغيبة غائبِ
قدمتَ فأقدمت النهى يَحملُ الرضى ... إلى كلّ غضبان على الدهر عاتبِ
فعادت بك الأيامُ زُهراً كأنما ... جلا الدهرُ منها عن خدود الكواعبِ
قال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفرُّ من الشرف، والشرف يتبعه.
وعن خالد بن صفوان أنه كان بالرصافة عند هشام بن عبد الملك فقدم العباس بن الوليد بن عبد الملك، فغشيه الناس، فكان خالد فيمن أتاه، وكان العباس يصوم الاثنين والخميس. قال خالد: فدخلت عليه في يوم خميس فقال لي: يا بن الأهتم، خبرني عن تسويدكم للأحنف، وانقيادكم له، وكنتم حياً لم تملكوا في جاهلية قط. فقلت له: إن شئت أخبرتك عنه بخصلة لها سُوِّد، وإن شئت بثنتين، وإن شئت بثلاث، وإن شئت حدثتك عنه بقية عشيتك حتى تنقضي، ولم تشعر بصومك. قال: هات الأولى، فإن اكتفينا وإلا سألناك. قال: فقلت: كان أعظمّ من رأينا وسمعنا - ثم أدركني ذهني فقلت: غير الخلفاء - سلطاناً على نفسه في ما أراد حملها عليه، وكفّها عنه. قال: لقد ذكرتها نجلاء كافية. فما الثانية؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه، ولا يكون بصيرا بالمحاسن والمساوىء ولم يرَ ولم يسمع بأحد أبصر بالمحاسن والمساوىء منه، فلا يَحمل السلطنة إلا على حسن، ولا يكفها إلى عن قبيح. قال: قد جئت بصلة الأولى لا يصلح إلا بها. فما الثالثة؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه بصيراً بالمحاسن والمساوىء، ولا يكون حظيظاً، فلا يفشو له ذلك في الناس، فلا يذكر به، فيكون عند الناس مشهوراً. قال: وأبيك، لقد جئت بصلة الأوليين، فما بقية ما يقطع عني العشي؟ قلت: أيامه السالفة. قال: وما أيامه السالفة؟ قلت: يوم فتح خراسان: اجتمعت إليه جموع
الأعاجم بمر والرُّوذ فجاء ما لا قِبَل له به، وهو في منزل بمضيعة وقد بلغ الأمر به. فصلى عشاء الآخرة، ودعا ربه، وتضرَّع إليه أن يوفقه ثم خرج يمشي في العسكر مشي المكروب، يتسمع ما يقول الناس، فمرّ بعبد يعجن وهو يقول لصاحب له: أتعجب لأميرنا، يقيم بالمسلمين في منزل مضيعة، وقد جاءه العدو من وجوه. وقد أطافوا بالمسلمين من نواحيهم، ثم اتخذوهم أغراضاً، وله متحوَّل، فجعل الأحنف يقول: اللهم وفّق، اللهم سدّد، فقال العبد للعبد: فما الحيلة؟ قال: أن يُنادي الساعة بالرحيل، فإنما بينه وبين الغيضة فرسخ، فيجعلها خلف ظهره فيمنعه الله بها، فإذا امتنع ظهره بها بعث بمُجَنبتيه اليمنى واليسرى فيمنع الله بهما ناحيتيه ويلقى عدوه من جانب واحد. فخرّ الأحنف ساجداً ثم نادى بالرحيل مكانه، فارتحل المسلمون مكبين على رايتهم، حتى أتى الغيضة، فنزل في قَبَلها، وأصبح فأتاه العدو، فلم يجدوا إليه سبيلاً إلا من وجه واحد وضربوا بطبول أربعة، فركب الأحنف، وأخذ الراية، وحمل بنفسه على طبل ففتقه وقتل صاحبه، وهو يقول:
إن على كلّ رئيس حقّا ... أن يخضِب الصَّعدة أو تندقّا
ففتق الطبول الأربعة، وقتل حملتها. فلما فقد الأعاجم أصوات طبولهم انهزموا، فركب المسلمون أكتافهم، فقتلوهم قتلاً لم يقتلوا مثله قط. وكان الفتح.
واليوم الثاني أن علياً لما ظهر على أهل البصرة يوم الجمل أتاه الأشتر وأهل الكوفة بعدما اطمأن به المنزل، وأثخن في القتل، فقالوا: أعطنا، إن كنا قاتلنا أهل البصرة حين قاتلناهم وهم مؤمنين فقد ركبنا حوباً كبيراً، وإن كنا قاتلناهم كفاراً وظهرنا عليهم عنوة فقد حلّت لنا غنيمة أموالهم وسبي ذراريهم، وذلك حكم الله تعالى وحكم نبيّه في الكفار إذا ظهر عليهم. فقال علي: إنه لا حاجة بكم أن تهيجوا حرب إخوانكم، وسأرسل إلى رجل منهم فأستطلع برأيهم وحجتهم فيما قلتم، فأرسل إلى الأحنف بن قيس في رهط، فأخبرهم بما قال أهل الكوفة. فلم ينطق أحد غير الأحنف، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، لماذا أرسلت إلينا؟! فوالله إن الجواب عنا لعندك، ولا نتبع الحق إلا بك، ولا علمنا العلم
إلا منك. قال: أحببت أن يكون الجواب عنكم منكم ليكون أثبت للحجة، وأقطع للتهمة فقل. فقال: إنهم قد أخطؤوا وخالفوا كتاب الله وسنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان السبي والغنيمة على الكفار الذين دارهم دار الكفر. والكفر لهم جامع، ولذراريهم. ولسنا كذلك. وإنها دار إيمان يُنادى فيها بالتوحيد وشهادة الحق وإقام الصلاة. وإنما بغت طائفة أسماؤهم معلومة، أسماء أهل البغي، والثانية حجتنا أنا لم نستجمع على ذلك البغي، فإنه قد كان من أنصارك من أثبتهم بصيرة في حقك، وأعظمهم غناء عنك، طائفة من أهل البصرة، فأي أولئك يجهل حقه وينسى قرابته؟ إن هذا الذي أتاك به الأشتر وأصحابه قولُ متغلمة أهل الكوفة، وأيم الله، لئن تعرضوا لها لتكرهُنّ عاقبتها، ولا تكون الآخرة كالأولى. فقال علي: ما قلت إلا ما تعرف. فهل من شيء تخصون به إخوانكم بما قاسوا من الحرب؟ قال: نعم، أعطياتنا في بيت المال. ولم تك لتصرفها في عدلك عنا. فقد طبنا عنها نفساً في هذا العام، فاقسمها فيهم. فدعاهم علي، فأخبرهم بحجج القوم، وما قالوا، وبموافقتهم إياه. ثم قسم المال بينهم: خمسمئة لكل رجل. فهذا اليوم الثاني.
وأما اليوم الثالث فإن زياداً أرسل إليه بليلٍ وهو جالس على كرسي في صحن داره، فقال: يا أبا بحر، ما أرسلت إليك في أمر تنازعني فيه مخلوجة، ولكني أرسلت إليك وأنا على صريمة، فكرهت أن يروعك أمر يحدث ولا تعلمه. قال: فما هو؟ قال: هذه الحمراء قد كثرت بين أظهر المسلمين، وكثر عددهم، وخفّت عدوتهم، والمسلمون في ثغرهم وجهادهم عدوَّهم، وقد خلفوهم في نسائم وحرمهم، فأردت أن أرسل إلى كل من كان في عرافة من المقاتلة فيأتوا بسلاحهم، ويأتيني كل عريف بمن في عرافته من عبد أو مولى فأضرب رقابهم فتؤمن ناحيتهم. قال الأحنف: ففيم القول وأنت على صريمة؟ قال: لتقولن. قال: فإن ذلك ليس لك. يمنعك من ذلك خصال ثلاث: أما الأولى فحكم الله عزّ وجلّ في كتاب عن الله، وما قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس مَن قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمداً رسول الله، بل حقن دمه. والثانية أنهم غلة الناس، لم يغز غازٍ فخلف لأهل ما يصلحهم إلا من غلاتهم، وليس لك أن تحرمهم. وأما الثالثة فهم يقيمون أسواق
المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصّابين وقصّارين وحجّامين؟! قال: فوثب عن كرسيه، ولم يُعلمه أنه قَبِل منه، وانصرف الأحنف.
قال: فما بتّ بليلةٍ أطول منها، أتسمّع الأصوات. قال: فلما نادى أول المؤذنين قال لمولى له: ائت المسجد فانظر هل حدث أمر؟ فرجع فقال: صلى الأمير وانصرف، ولم يحدث إلا خير.
كان الأحنف استُعمل على خراسان. فلما أتى فارس أصابته جنابة في ليلة باردة. قال: فلم يوقظ أحداً من غلمانه ولا جنده، وانطلق يطلب الماء. قال: فأتى على شوك وشجر حتى سالت قدماه دماً، فوجد الثلج. قال: فكسره واغتسل. قال: فقام فوجد على ثيابه نعلين محذوتين جديدتين فلبسهما. فلما أصبح أخبر أصحاب. فقالوا: والله ما علمنا بك.
قال مغيرة: شكا ابن أخي الأحنف بن قيس وجعاً بضرسه فقال الأحنب: لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، فما ذكرتها لأحد.
دخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين، والمخذّل عن أم المؤمنين؟! فقال: يا معاوية، لا تردّ الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمدّ إلينا شبراً من غدر إلا مددنا إليك ذراعاً من خَتْر، ولئن شئت لتستصفَينّ كدر قلوبنا بصفوٍ من عفوك. قال: فإني أفعل.
قال الأحنف: ما نازعني أحد قط إلا أخذت في أمري بثلاث خلال: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
قال الأحنف بن قيس: من كانت فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافَع: من كان له دِين يحجز، وحسّب يصونه، وعقل يرشده، وحياء يمنعه.
قال الأحنف لرجل سأل: ما الحلم؟ فقال: هو الذلّ تصبر عليه.
قال الأحنف: ليس فضل الحلم أن تُظلّم فتحلُم حتى إذا قدرت انتقمت، ولكنه إذا ظُلمت فحلمت ثم قدرت فعفوت.
قال الأحنف بن قيس: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: شريف من دنيء، وبَرّ من فاجر، وحليم من أحمق.
قال الأحنف: ليس لكذوب مروءة، ولا لبخيل حياء، ولا لحاسد راحة، ولا لسيء الخلق سؤدد، ولا لملول وفاء.
قال رجل للأحنف بن قيس: يا أبا بحر، دلّني على أحمدِ أمرٍ عاقبةً، فقال له: خالقِ الناس بخلق حسن، وكُفَّ عن القبيح. ثم قال له: ألا أدلك على أدْوَأ الداء؟ قال: بلى. قال: اكتساب الذم بلا منفعة، واللسان البذيء، والخلق الرديء.
قال الأحنف بن قيس: مَن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون.
قيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: ألا تعمل في السر شيئاً تستحي منه في العلانية.
سأل يزيد بن معاوية الأنف بن قيس عن المروءة فقال الأحنف: التُّقى والاحتمال. ثم أطرق الأحنف ساعة وقال: مجزوء الكامل.
وإذا جميلُ الوجه لم ... يأتِ الجميلَ فما جمالُه؟
ما خيرُ أخلاقِ الفَتى ... إلا تُقاه واحتمالُه
فقال يزيد: أحسن يا أبا بحر، وافق البمّ زِيراً، قال الأحنف: ألا قلت: وافق المعنى تفسيراً؟.
قال الأحنف بن قيس: رأس الأدب آلة المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع، ولا في صدقة إلا بنّية، ولا في حياة إلا بأمن وصحّة.
تذاكر قوم الصمت والكلام، فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: المنطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به مَن سمعه.
قال الأحنف: ثلاث خصال تُجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواء على المودة.
قال الأحنف بن قيس: إن غاصب الدنيا وظالمها أهلها، والمدعي ما ليس له منها على قتلها - وإن كان عالي المكان من سلطانها - لأقلّ منها وأذلّ.
كتب الأحنف إلى صديق له: أما بعد. فإذا قَدِم عليك أخ لك موافق فليكن منك بمنزلة السمع والبصر، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. ألم تسمع الله يقول لنوح في ابنه: " إنّهَُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غيْرُ صالِحٍ ".
رأى الأحنف في يد رجل درهماً فقال: لمن هذا الدرهم؟ فقال: لي، فقال الأحنف: ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر. ثم تمثّل: الرمل
أنت للمالِ إذا أمسكتَه ... وإذا أنفقتَ فالمالُ لَكْ
قال الأحنف بن قيس: ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن.
قال الأحنف: الرفق والأناة محبوبة إلا في ثلاث: تبادر بالعمل الصالح، وتعجّل إخراج ميتك، وتنكح الكفء أيَمك.
قال الأحنف: لا ينبغي للعاقل أن ينزل بلداً ليس فيه خمس خصال: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، ونهر جار، وطبيب عالم.
قال الأحنف: مِن السؤدد الصبر على الذل، وكفى بالحلم ناصراً.
قال الأحنف بن قيس: جنّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصّافاً لفرجه وبطنه. وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.
قال عمر بن الخطاب للأحنف بن قيس: أي الطعام أحبّ إليك؟ قال: الزبد والكمأة، فقال عمر: ما هما بأحبِّ الطعام إليه. ولكنه يُحب خصب المسلمين. يعني أن الزبد والكمأة لا تكونان إلا في سنة الخصب.
قال الأحنف بن قيس:
سمعت خطبة لأبي بكر وعُمر وعثمان وعلي والخلفاء بعد، فما سمعت الكلام مِن في مخلوقٍ أفخم ولا أسن من عائشة أم المؤمنين.
قال عتبة بن صعصعة: رأيت مصعب بن الزبير في جنازة الأحنف متقلداً سيفاً، ليس عليه رداء وهو يقول: ذهب اليوم الحزم والرأي.
توفي الأحنف سنة سبع وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين.
قال عبد الرحمن بن عُمارة بن عقبة بن أبي مُعيط: حضرت جنازة الأحنف بن قيس بالكوفة فكنت فيمن نزل قبره. فلما سوّيته رأيته قد فُسح له مدّ بصري، فأخبرت بذلك أصحاب فلم يَروا ما رأيت.