سلمة بن دينار والد حماد بن سلمة وهو مولى حميري بن كراثة
الحنظلي أبو صخر روى عن ابى حرة الرقاشى رحميرى بن كراثة روى عنه ابنه حماد بن سلمة سمعت أبي يقول ذلك.
الحنظلي أبو صخر روى عن ابى حرة الرقاشى رحميرى بن كراثة روى عنه ابنه حماد بن سلمة سمعت أبي يقول ذلك.
- وسلمة بن دينار. يكنى أبا حازم, مولى بني ليث. مات سنة خمس وثلاثين ومائة.
سلمة بن دينار
أبو حازم الأعرج المدني الزاهد مولى الأسود بن سفيان المخزومي وقيل: مولى بني ليث. قدم دمشق.
حدث أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله أتي بشراب، وعن يمنه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء يا غلام؟ فقال: لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً قال: فتلّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده.
قال أبو حازم: قدمت على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة؟ فلما نظر إليّ عرفني ولم أعرفه، فقال لي: أدن مني يا أبا حازم، فلما دنوت منه عرفته، فقلت: أنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قلت: ألم تكن بالمدينة بالأمس أميرً؟ قال: نعم، قلت: كان مركبك وطياً، وثوبك نقياً، ووجهك بهياً، وطعامك شهياً، وحرسك كثيراً، فما الذي غير ما بك وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وانشق بطني، وجرت الديدان في بدني، لكنت اشد إنكاراً لي من يومك هذا. اعد علي الحديث الذي حدَّثتني به بالمدينة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن بين أيديكم عقبة كؤوداً مضرسة لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول ". قال: فبكى ثم قال: أتلومني يا أبا حازم أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أنجو منها، وما أظنني بناج منها؟ ذكر أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان التبيين أن أبا حازم دخل مسجد دمشق فوسوس إليه الشيطان أنك قد أحدثت بعد وضوئك، فقال له: وقد بلغ هذا من نصيحتك؟!
كان أبو حازم أشقر أفرز أحول، وكان يقص بعد الفجر وبعد العصر في مسجد المدينة، وكان أعرج، وكان عابداً زاهداً، وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأتاه الناس، وبعث إلى أبي حازم فأتاه وساءله عن أمره وعن حاله، وكان لأبي حازم حمار، فكان يركبه إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشهود الصلوات، وتوفي أبو حازم في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومئة.
قال أبو حازم: رأيت سهل بن سعد الساعدي في ألف من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه في كل خفض ورفع.
قال أبو بكر ين خزيمة: أبو حازم ثقة ولم يكن في زمانه مثله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم.
وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحد يفرفر الدنيا فرفرة هذه الأعرج. يعني أبا حازم.
قال أبو حازم: رأيت أبا حازم في مجلس عون بن عبد الله، وهو يقص في المسجد، ويبكي، ويمسح بدموعه وجهه، فقلت له: يا أبا حازم، لم تفعل هذا؟ قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابته الدموع من خشية الله.
قال مروان بن محمد: قال أبو حازم:
ويحك يا أعرج - يعني نفسه - يدعى يوم القيامة بأهل خطيئة كذا وكذا فتقوم
معهم، ثم يدعى بأهل خطيئة أخرى فتقوم معهم، فأراك يا أعرج تقوم مع أهل كل خطيئة.
قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم، ما النجاة من هذه الأمر؟ قال: يسير، قال: ما ذاك؟ قال: لا تأخذن شيئاً إلا من حله، ولا تضعن شيئاً إلا في حقه، قال: ومن يطيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: من طلب الجنة وهرب من النار.
قال الزهري لسليمان أو هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: يا أبا حازم، ما قلت في العلماء؟ قال: وما عسيتُ أن أقول في العلماء إلا خيراً! إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعملهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم، فلم يستغنوا به، واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم عن علمهم شيئاً، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة، قال الزهري: إنه جاري منذ حين وما علمت أن هذا عنده. قال: صدق، أما إني لو كنت غنياً عرفني. قال. فقال له سليمان: ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تمضي ما في يديك بما أمرت به، وتكف عما نهيت عنه. قال: سبحان الله! ومن يطيق هذا قال: من طلب الجنة، وفرّ من النار، وما هذا فيما تطلب وتفر منه بقليل.
أرسل بعض الأمراء إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال: أبو حازم: إنَ خير الأمراء من أحبّ العلماء، وإن شرّ العلماء من أحبّ الأمراء، وكان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم، فيسألونهم وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء، فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى يكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء،
فحدثوهم فرخصوا لهم، وأعطوهم، فقبلوا منهم فجرأت العلماء على الأمراء وجرأت الأمراء على العلماء.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما لنا نكره الموت! قال: لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب.
قال سفيان بن عيينة: أخبر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين فقال سليمان: فأين رحمة الله قال: " قريب من المحسنين " بعث بعض خلفاء بني أمية إلى أبي حازم بمال، فرده، فقال له: يا أبا حازم، خذ، فإنك مسكين، قال: كيف أكون مسكيناً، ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال محمد بن عجلان: قدم سليمان بن هشام المدينة حاجاً أو معتمراً، فقال للزهري: يا زهري، ها هنا محدث؟ قال: نعم، أبو حازم الأعرج، قال: راوية عن أبي هريرة قال: ابعث، ائتنا به حتى يحدثنا، فبعث. فلما جاء قال له سليمان: تكلم يا أعرج، قال: ما للأعرج من حاجة فيتكلم بها، ولولا اتقاء شركم ما أتاكم الأعرج، فقال: سليمان: ما ينجينا من أمرنا هذه الذي نحن فيه؟ قال: أخذ هذا المال من حله ووضعه في حقه. قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: من طلب الجنة، وهرب من النار، قال سليمان: ما بالنا لا نحب الموت يا أعرج؟! قال: لأنك جمعت متاعك فوضعته بين عينيك، فأنت تكره أن تفارقه، ولو قدمته أمامك لأحببت أن تلحق به، لأن قلب المرء عند متاعه فعجب منه سلمان، فقال له الزهري: أصلح الله الأمير، إنه لجاري منذ عشرين سنة ما جالسته ولا حادثته: قال: لأني من المساكين يا بن شهاب، ولو كنت من الأغنياء لجالستني، وحادثتني قال: قرصتني
يا أبا حازم قال: نعم وأشد من هذا أقرصك، قال: لقد أتى علينا زمان، وإن الأمراء تطلب العلماء فتأخذ مما في أيدهم، فتنتفع به، فكان في ذلك صلاح الفريقين جميعاً، وطلبت اليوم العلماء الأمراء، وركنوا إليهم، واشتهوا ما في أيدهم، فقالت الأمراء: ما طلب هؤلاء ما في أيدينا حتى كان ما في الدنيا خير مما في أيديهم، فكان في ذلك فساد الفريقين كليهما، فقال سليمان بن هشام: صدقت، والذي لا إله إلا هو، ولأزهدن في الزهري من بعد اليوم.
وفي حديث آخر
قال له سليمان: يا أبا حازم: ليت شعري، ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال: فأين أجد كتاب الله؟ قال: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم: قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: " قريب من المحسنين ".
قال سليمان: يا أبا حازم، ليت شعري، كيف العرض غداً على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكا لآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصلف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسوية، قال: وكيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه، وتضعه في أهله، قال: يا أبا حازم، من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنهي، قال: فما أعدل العدل؟ قال: العدل قول الحق عند من ترجوه وتهابه، قال: يا أبا حازم، ما أسرع الدعاء؟ قال: دعاء المحسن إليه للمحسن، قال: ما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى البائس الفقير، لا يتبعها منّ ولا أذى، قال: من أكيس الناس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله، فعمل بها، ثم دل الناس عليها، فعملوا بها، قال: من أحمق الخلق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه، وهو ظالم، فباع أخرته بدنيا غيره.
قال: يا أبا حازم، هل لك أن تصحبنا، فتصيب منا، ونصيب منك؟ قال: كلاّ. قال: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصيراً، قال: ارفع إليّ حاجتك؟! قال: نعم تدخلني الجنة، وتخرجني من النار، قال: ليس ذلك إليّ قال: فما لي حاجة سواها، قال: ادع الله
لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة. وإن كان سليمان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: قط؟! قال أبو حازم قد أكثرت وأطنبت، إن كنت أهله، وإن لم تكن أهله، فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر؟ قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل نصيحة بلغها إليّ، قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر وأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم؟ قال رجل من جلساء سليمان: بئس ما قلت، قال له أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: يا أبا حازم، أوصني، قال: نعم، سوف أوصيك فأوجز، قال: نزه الله أن يراك حيث ينهاك، أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام.
فلما ولي قال: يا أبا حازم، هذه مئة دينار، أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها، وقال: ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟! أني أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، وردي عليك بذلاً، إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان، ثم قرأ: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فسأل موسى ربه، ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان، ولم يفطن الرعاء، فآتيتا أباهما، وهو شعيب، فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثم قال لإحداهما: ادعيه لي، فلما أتته أعظمته، وغطت وجهها، وقالت: " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فكره ذلك موسى، وأراد ألا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها فأتيا على شعيب، والعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فكل، فقال موسى: لا، قال شعيب: لم؟ الست بجائع؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبيع شيئاَ من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذه أجر ما سقيت لهما، قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف، وإطعام الطعام، فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً مما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار
أحلّ منه، وإن كانت من بيت مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدي والتقى، حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما أنكسوا وانتكسوا، وسقطوا من عين الله تعالى، وآمنوا بالجبت والطاغوت، فكان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، فشاركوهم دنياهم، وشركوا معهم في فتكهم. فقال ابن شهاب: يا أبا حازم، لعلك إياي تعني أو بي تعرّض، فقال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع، قال: سليمان: يا ابن شهاب، تعرفه؟ قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته كلمة قط، قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت لأحببتني، قال ابن شهاب: يا أبا حازم، شتمتني، قال سليمان: ما شتمك، ولكن أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة يجب؟ فلما ذهب قال رجل من جلساء سليمان: أتحب أن الناس كلهم مثله؟ قال سليمان: لا.
وفي حديث آخر: أن أبا حازم دخل على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفر من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ألك مال؟ قال: نعم لي مالان، قال: ما هما بارك الله لك؟ قال: الرضا بما قسم الله تعالى لي، والإياس عما في أيدي الناس، قال: يا أبا حازم، ارفع لي حاجتك، قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت، مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيء لي وشيء لغيري، فما كان لي فلو جهد الخلق أن يردوه عني ما قدروا، وما كان لغيري فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي؟ كما منع غيري في رزقي كذلك منعت رزق غيري. قال: يا أبا حازم، ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: بالصغير الأمر، تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق فتردّه إلى أهله، وما لم يكن لك لم تنازع فيه غيرك، قال سليمان: ومن يطيق هذا؟ قال أبو حازم: من خاف النار، ورجا الجنة، قال: يا أبا حازم، ادع الله لي، قال: ما ينفعك أن أدعو في وجهك، ويدعو عليك مظلوم من وراء الباب، فأي الدعاء أحقّ أن يجاب؟ فبكى سليمان وقام أبو حازم.
كان أبو حازم يقول: كل حال لو جاءك الموت وأنت عليها رأيتها غنيمة فالزمه، وكل حال إذا جاءك الموت وأنت عليه رأيته مصيبة فاعتزله.
قال عمر بن عبد العزيز: عظني يا أبا حازم، قال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون قبل تلك الساعة، فجد فيه الآن، وما تكره أن يكون قبل تلك الساعة فدعه الآن.
قال أبو حازم: أنزل نفسك منزل من قد مات، فإنك موقن إنك ميت، فما كنت تحب أن يكون معك إذا مت فقدمه حتى تقدم عليه، وما كنت تكره أن يكون معك إذا مت فخلّفه، واستغن عنه.
وعن أبي حازم قال: وجدت ما أعطيت من الدنيا شيئين: شيء منها يأتي أجله قبل أجلي، فأغلب عليه، وشيء منها يأتي أجلي قبل أجله، فاتركه لمن بعدي، ففي أي هذين أعصي ربي؟.
قال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا قد ألزق به ما يسوؤك.
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغلك عن كثير الآخرة.
قال أبو حازم: اشتدت مؤونتان، مؤونة الدنيا، ومؤونة الآخرة، فأما مؤونة الآخرة فإنك لا تجد لها أعواناً وأما مؤونة الدنيا فإنك لا تضرب يدك على شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليها.
قال أبو حازم: إذا كنت في زمان ترضى فيه من العلم بالقول، ومن العمل بالعلم، فأنت في شرّ زمان وشر أناس.
قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بليّة.
وقال: اضمنوا لي اثنتين أضمن لكم على الله الجنة، عمل ما تكرهون إذا أحبّ الله، وترك ما تحبون إذا كره الله عزّ وجلّ.
مرّ أبو حازم في السوق فنظر إلى الفاكهة فقال: موعدك الجنة.
قال أبو حازم: لا تكون عالماً حتى تكون فيك ثلاث خصال: لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا.
قال ابن أبي حازم: قال لي أبي: وهو ينظر إلى عياله وكثرتهم: أرأيت لو أنّ رجلاً تصدق على هؤلاء فأطعمهم وكساهم، يرجو الأجر فيهم، أكان له فيهم؟ قال: قلتله: أي لعمري، لم لا يكون! قال: فلم لا أكون أنا ذلك.
قال:
ومرت جارية في أيام الموسم تعرض للبيع، وقد زينت وهيئت، لها شارة وهيئة، فقال لجلسائه: انظروا إلى هذه ماذا بها من الهيئة، فنظر جلسائه، فقال: ما ثمنها عندكم؟ فقال بعضهم: وددت لو أنها لي بكذا وكذا، شيء كثير، فقال: أولا أدلكم على خير منها بأرخص ثمن؟ امرأة من حور العين إنما صداقها كسرة يطعمها أحدكم مسكيناً، أو سجود ركعتين، هذه والله أيسر عليكم من هذا الثمن كله.
ذكر عن أبي حازم أنهم أتوه فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر؟ فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء.
قال أبو حازم: الأيام ثلاثة: فأما أمس فقد انقضى عن الملوك نعمته، وذهبت عني شدته، وإني وإياهم من غد لعلى وجل، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون؟
قال أبو حازم: لا تعادين رجلاً ولا تناصبه حتى تنظر إلى سريرته بينه وبين الله عزّ وجلّ، فإن تكن له سريرة حسنة فإن الله تبارك وتعالى لم يكن يخذله بعداوتك له، وإن كانت له سريرة رديئة فقد كفاك مساوئه، ولو أردت أن تعمل به أكثر من معاصي الله لم تقدر.
قال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح.
وقال: من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ.
وقال: لا تقتدين بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب ولا يصلح عند الشيب.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إني لأجد شيئاً يحزنني، قال: وما هو يا بن أخي؟ قلت: حبي للدنيا، قال: أعلم يا بن أخي هذا لشيء ما أعاتب نفسي على بعض شيء حببه الله إليّ، لأن الله تعالى قد حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، ألا يدعونا حبّها إلى أن نأخذ شيئاً من شيء يكرهه الله، ولا نمنع شيئاً من شيء أحبّه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لم يضرنا حبنا إياها.
قال أبو حازم: إن المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تفكر، وإذا تكلم ذكر، وإن أعطي شكر، وإن منع صبر، والفاجر إن نظر لها، وإن تكلم لغا، وإن سكت سها، وإن أعطي بطر، وإن منع كفر.
قال سفيان: قيل لأبي حازم: ما القرابة؟ قال: المودة. قيل: فما الراحة؟ قال: دخول الجنة.
وقال: المودة لا تحتاج إلى القرابة، والقرابة تحتاج إلى المودة.
قال أبو حازم: إذا رأيت الله بتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره.
قال أبو حازم: ليس للملول صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول.
وقال: لأن يكون لي عدو صالح أحب إلي من أن يكون لي صديق فاسد.
وقال: لأنا من أن أمنع الدعاء أخوف إلي من أن أمنع الإجابة.
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " قال: ما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت خيراً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شراً مقته كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله عزّ وجلّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله رجل له كساء يأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحرّ والبرد والثلج والمطر.
كان أبو حازم يقول: وما الدنيا؟! وما إبليس؟! أما ما مضى منها فحلم، وأما ما بقي فأماني، وأما إبليس فلقد أطيع فما نفع، ولقد عصي فما ضر.
وكان ينشد: من البسيط
الدهر أدّبني والصّبر ربّاني ... والقوت أقنعني واليأس أغناني
وأحمكتني من الأيام تجربة ... حتى نهيت الذي كان ينهاني
وقال أبو حازم: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى عيش الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك.
وقال: ثلاث من كنّ فيه كمل عقله، ومن كانت فيه واحدة كمل ثلث عقله، من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزق الله.
وقال: والله لئن نجونا من شرّ ما أعطينا لا يضرنا ما زوي عنا، وإن كنا قد تورطنا في شرّ ما قد بسط علينا ما نطلب ما بقي إلا حمقاً.
وقال أبو حازم: مثل العالم والجاهل مثل البنّاء والرقّاص، تجد البنّاء على الشاهق والقصر، معه حديدته جالساً، والرقاص يحمل اللبن والطين على عاتقه على خشبة تحته مهواة، لو زل ذهبت نفسه، ثم يتكلف الصعود بها على هول ما تحته، حتى يأتي بها إلى البنّاء، فلا يزيد البنّاء على أن يعدلها بحديدته وبرأيه وبقدرته، فإذا سلما أخذ البنّاء تسعة أعشار الأجرة وأخذ الرقاص عشراً، وإن هلك ذهبت نفسه، فكذلك العالم يأخذ أضعاف الأجر لعمله.
قال أبو حازم: أتاني رجل فقال لي: إني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر خرجوا من هذا الباب، وقالوا: إلى أين يا رسول الله؟ قال: إلى أبي حازم نذهب به معنا، وقال ثم يقول أبو حازم أللهم حقق وعجل.
قال أبو حازم لما حضرة الموت: ما آسى عل شيء فاتني من الدنيا إلا ذكر الله، وإن هذا الليل والنهار لا يأتيان
على شيء إلا أخلقاه، وفي الموت راحة للمؤمنين ثم قرأ: " وما عند الله خير للأبرار " توفي أبو حازم سنة خمس وثلاثين ومئة. وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ومئه. وقيل توفي سنة أربعين ومئة. وقيل: توفي سنة ثلاث وثمانين ومئة.
رأى أبو حازم أنه في الجنة. قال: فلم أفقد أحداً من إخواني إلا عوف بن يزيد فقلت: فأين عوف ين يزيد؟ قالوا: وأين عوف؟! رفع بحسن خلقه الذي تعرف.
قال سليمان بن سليمان العمري: رأيت أبا جعفر القاري على الكعبة فقلت له: أبا جعفر، قال: نعم، أقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.
خرج أبو حازم يرمي بالجمار، ومعه قوم متعبدون، وهو يكلمهم ويحدثهم، ويقص عليهم، فبينا هو يمشي، وأولئك معه، إذ نظروا إلى فتاة مستترة بخمارها، وهي التي ليس على نحرها منه شيء ترمي الناس بطرفها يمنة ويسره، وقد شغلت الناس، وهم ينظرون إليها مبهوتين، وقد خبط بعضهم بعض في الطريق، فرآها أبو حازم فقال: يا هذه، اتقي الله، إنك في مشعر من مشاعر الله عظيم، وقد فتنت الناس، فاضربي بخمارك على جيبك، فإن الله تعالى يقول: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " فأقبلت تضحك من كلامه وقالت: أني والله يا أفرز من الطويل
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فأقبل أبو حازم على أصحابه فقال: يا هؤلاء، تعالوا ندعو الله لا يعذب هذه الصورة الحسناء بالنار. فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون.
كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك بها. أصبحت شيخاً كبيراً قد
أثقلتك نعم الله عليك، مما أصح بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله مما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك، الغرض الأقصى، ابتلى في ذلك شكرك وأبدي فيه فضله عليك، وقد قال: " لئن شكرتهم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضياً منك بالتعزيز، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات، ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه " لتبّيننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية. إنك تقول، إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالاً منك بفهمك واقتدار منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله عزّ وجلّ: " هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة "؟ اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينّوه باسمك غداً مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقاً، ولا يرد باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً تدوّر رحا باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلما إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك، في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسوؤل، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر
من جعلك بدينه في الناس بخيلا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته ستيراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً، ما لك لا تنتبه من نعستك، وتستقل من عثرتك، وتقول: والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحيي له ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عزّ وجلّ: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " الآية. إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك، ذهبت اللذة، وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، أحذر قد أنبئت، وتخلص فقد وهلت، إنك تعامل من لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهز فقد دنا منك سفر وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قول الله تعالى: " وذكر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ". أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت له، أو ادخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ذخر لك خيراً منعوه، أو علمك شيئاً جهلوه؟ بل جهلت ما ابتليت به في حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا عندك، ولكريم إكبارهم عليك؟ ورغبتهم فما في يديك ذهاب عماهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرئاسة، فطلبوا الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه
مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
اعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله على يدي أوليائه لأوليائه: الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله عزّ وجلّ: " أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون " وجاه يجريه الله على يدي أعدائه لأوليائهم، ومقة يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس تعظيم أولئك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم كرغبة أولئك فيه إليهم " أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون " ما أخوفني أن تكون لمن ينظر كمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتورا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه، وظهور جلده وكمال شهوته، فعني بذلك دهره، حتى إذا كبرت سنه، ودق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته فتحت الدنيا عليه الدنيا شر مفتوح، فلزمته تبعتها، وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله، ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر. فهلا إذ عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد " حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد - أما بعد. فاعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا. فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ إنا لله وإنا إليه لراجعون. على من المعول، وعند من المستعتب؟ نحتسب عند الله مصيبتنا، ونشكو إلى الله بثّنا، وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أبو حازم الأعرج المدني الزاهد مولى الأسود بن سفيان المخزومي وقيل: مولى بني ليث. قدم دمشق.
حدث أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله أتي بشراب، وعن يمنه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء يا غلام؟ فقال: لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً قال: فتلّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده.
قال أبو حازم: قدمت على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة؟ فلما نظر إليّ عرفني ولم أعرفه، فقال لي: أدن مني يا أبا حازم، فلما دنوت منه عرفته، فقلت: أنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قلت: ألم تكن بالمدينة بالأمس أميرً؟ قال: نعم، قلت: كان مركبك وطياً، وثوبك نقياً، ووجهك بهياً، وطعامك شهياً، وحرسك كثيراً، فما الذي غير ما بك وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وانشق بطني، وجرت الديدان في بدني، لكنت اشد إنكاراً لي من يومك هذا. اعد علي الحديث الذي حدَّثتني به بالمدينة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن بين أيديكم عقبة كؤوداً مضرسة لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول ". قال: فبكى ثم قال: أتلومني يا أبا حازم أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أنجو منها، وما أظنني بناج منها؟ ذكر أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان التبيين أن أبا حازم دخل مسجد دمشق فوسوس إليه الشيطان أنك قد أحدثت بعد وضوئك، فقال له: وقد بلغ هذا من نصيحتك؟!
كان أبو حازم أشقر أفرز أحول، وكان يقص بعد الفجر وبعد العصر في مسجد المدينة، وكان أعرج، وكان عابداً زاهداً، وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأتاه الناس، وبعث إلى أبي حازم فأتاه وساءله عن أمره وعن حاله، وكان لأبي حازم حمار، فكان يركبه إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشهود الصلوات، وتوفي أبو حازم في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومئة.
قال أبو حازم: رأيت سهل بن سعد الساعدي في ألف من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه في كل خفض ورفع.
قال أبو بكر ين خزيمة: أبو حازم ثقة ولم يكن في زمانه مثله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم.
وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحد يفرفر الدنيا فرفرة هذه الأعرج. يعني أبا حازم.
قال أبو حازم: رأيت أبا حازم في مجلس عون بن عبد الله، وهو يقص في المسجد، ويبكي، ويمسح بدموعه وجهه، فقلت له: يا أبا حازم، لم تفعل هذا؟ قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابته الدموع من خشية الله.
قال مروان بن محمد: قال أبو حازم:
ويحك يا أعرج - يعني نفسه - يدعى يوم القيامة بأهل خطيئة كذا وكذا فتقوم
معهم، ثم يدعى بأهل خطيئة أخرى فتقوم معهم، فأراك يا أعرج تقوم مع أهل كل خطيئة.
قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم، ما النجاة من هذه الأمر؟ قال: يسير، قال: ما ذاك؟ قال: لا تأخذن شيئاً إلا من حله، ولا تضعن شيئاً إلا في حقه، قال: ومن يطيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: من طلب الجنة وهرب من النار.
قال الزهري لسليمان أو هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: يا أبا حازم، ما قلت في العلماء؟ قال: وما عسيتُ أن أقول في العلماء إلا خيراً! إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعملهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم، فلم يستغنوا به، واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم عن علمهم شيئاً، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة، قال الزهري: إنه جاري منذ حين وما علمت أن هذا عنده. قال: صدق، أما إني لو كنت غنياً عرفني. قال. فقال له سليمان: ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تمضي ما في يديك بما أمرت به، وتكف عما نهيت عنه. قال: سبحان الله! ومن يطيق هذا قال: من طلب الجنة، وفرّ من النار، وما هذا فيما تطلب وتفر منه بقليل.
أرسل بعض الأمراء إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال: أبو حازم: إنَ خير الأمراء من أحبّ العلماء، وإن شرّ العلماء من أحبّ الأمراء، وكان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم، فيسألونهم وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء، فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى يكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء،
فحدثوهم فرخصوا لهم، وأعطوهم، فقبلوا منهم فجرأت العلماء على الأمراء وجرأت الأمراء على العلماء.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما لنا نكره الموت! قال: لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب.
قال سفيان بن عيينة: أخبر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين فقال سليمان: فأين رحمة الله قال: " قريب من المحسنين " بعث بعض خلفاء بني أمية إلى أبي حازم بمال، فرده، فقال له: يا أبا حازم، خذ، فإنك مسكين، قال: كيف أكون مسكيناً، ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال محمد بن عجلان: قدم سليمان بن هشام المدينة حاجاً أو معتمراً، فقال للزهري: يا زهري، ها هنا محدث؟ قال: نعم، أبو حازم الأعرج، قال: راوية عن أبي هريرة قال: ابعث، ائتنا به حتى يحدثنا، فبعث. فلما جاء قال له سليمان: تكلم يا أعرج، قال: ما للأعرج من حاجة فيتكلم بها، ولولا اتقاء شركم ما أتاكم الأعرج، فقال: سليمان: ما ينجينا من أمرنا هذه الذي نحن فيه؟ قال: أخذ هذا المال من حله ووضعه في حقه. قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: من طلب الجنة، وهرب من النار، قال سليمان: ما بالنا لا نحب الموت يا أعرج؟! قال: لأنك جمعت متاعك فوضعته بين عينيك، فأنت تكره أن تفارقه، ولو قدمته أمامك لأحببت أن تلحق به، لأن قلب المرء عند متاعه فعجب منه سلمان، فقال له الزهري: أصلح الله الأمير، إنه لجاري منذ عشرين سنة ما جالسته ولا حادثته: قال: لأني من المساكين يا بن شهاب، ولو كنت من الأغنياء لجالستني، وحادثتني قال: قرصتني
يا أبا حازم قال: نعم وأشد من هذا أقرصك، قال: لقد أتى علينا زمان، وإن الأمراء تطلب العلماء فتأخذ مما في أيدهم، فتنتفع به، فكان في ذلك صلاح الفريقين جميعاً، وطلبت اليوم العلماء الأمراء، وركنوا إليهم، واشتهوا ما في أيدهم، فقالت الأمراء: ما طلب هؤلاء ما في أيدينا حتى كان ما في الدنيا خير مما في أيديهم، فكان في ذلك فساد الفريقين كليهما، فقال سليمان بن هشام: صدقت، والذي لا إله إلا هو، ولأزهدن في الزهري من بعد اليوم.
وفي حديث آخر
قال له سليمان: يا أبا حازم: ليت شعري، ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال: فأين أجد كتاب الله؟ قال: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم: قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: " قريب من المحسنين ".
قال سليمان: يا أبا حازم، ليت شعري، كيف العرض غداً على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكا لآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصلف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسوية، قال: وكيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه، وتضعه في أهله، قال: يا أبا حازم، من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنهي، قال: فما أعدل العدل؟ قال: العدل قول الحق عند من ترجوه وتهابه، قال: يا أبا حازم، ما أسرع الدعاء؟ قال: دعاء المحسن إليه للمحسن، قال: ما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى البائس الفقير، لا يتبعها منّ ولا أذى، قال: من أكيس الناس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله، فعمل بها، ثم دل الناس عليها، فعملوا بها، قال: من أحمق الخلق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه، وهو ظالم، فباع أخرته بدنيا غيره.
قال: يا أبا حازم، هل لك أن تصحبنا، فتصيب منا، ونصيب منك؟ قال: كلاّ. قال: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصيراً، قال: ارفع إليّ حاجتك؟! قال: نعم تدخلني الجنة، وتخرجني من النار، قال: ليس ذلك إليّ قال: فما لي حاجة سواها، قال: ادع الله
لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة. وإن كان سليمان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: قط؟! قال أبو حازم قد أكثرت وأطنبت، إن كنت أهله، وإن لم تكن أهله، فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر؟ قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل نصيحة بلغها إليّ، قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر وأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم؟ قال رجل من جلساء سليمان: بئس ما قلت، قال له أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: يا أبا حازم، أوصني، قال: نعم، سوف أوصيك فأوجز، قال: نزه الله أن يراك حيث ينهاك، أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام.
فلما ولي قال: يا أبا حازم، هذه مئة دينار، أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها، وقال: ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟! أني أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، وردي عليك بذلاً، إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان، ثم قرأ: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فسأل موسى ربه، ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان، ولم يفطن الرعاء، فآتيتا أباهما، وهو شعيب، فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثم قال لإحداهما: ادعيه لي، فلما أتته أعظمته، وغطت وجهها، وقالت: " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فكره ذلك موسى، وأراد ألا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها فأتيا على شعيب، والعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فكل، فقال موسى: لا، قال شعيب: لم؟ الست بجائع؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبيع شيئاَ من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذه أجر ما سقيت لهما، قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف، وإطعام الطعام، فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً مما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار
أحلّ منه، وإن كانت من بيت مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدي والتقى، حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما أنكسوا وانتكسوا، وسقطوا من عين الله تعالى، وآمنوا بالجبت والطاغوت، فكان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، فشاركوهم دنياهم، وشركوا معهم في فتكهم. فقال ابن شهاب: يا أبا حازم، لعلك إياي تعني أو بي تعرّض، فقال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع، قال: سليمان: يا ابن شهاب، تعرفه؟ قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته كلمة قط، قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت لأحببتني، قال ابن شهاب: يا أبا حازم، شتمتني، قال سليمان: ما شتمك، ولكن أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة يجب؟ فلما ذهب قال رجل من جلساء سليمان: أتحب أن الناس كلهم مثله؟ قال سليمان: لا.
وفي حديث آخر: أن أبا حازم دخل على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفر من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ألك مال؟ قال: نعم لي مالان، قال: ما هما بارك الله لك؟ قال: الرضا بما قسم الله تعالى لي، والإياس عما في أيدي الناس، قال: يا أبا حازم، ارفع لي حاجتك، قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت، مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيء لي وشيء لغيري، فما كان لي فلو جهد الخلق أن يردوه عني ما قدروا، وما كان لغيري فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي؟ كما منع غيري في رزقي كذلك منعت رزق غيري. قال: يا أبا حازم، ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: بالصغير الأمر، تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق فتردّه إلى أهله، وما لم يكن لك لم تنازع فيه غيرك، قال سليمان: ومن يطيق هذا؟ قال أبو حازم: من خاف النار، ورجا الجنة، قال: يا أبا حازم، ادع الله لي، قال: ما ينفعك أن أدعو في وجهك، ويدعو عليك مظلوم من وراء الباب، فأي الدعاء أحقّ أن يجاب؟ فبكى سليمان وقام أبو حازم.
كان أبو حازم يقول: كل حال لو جاءك الموت وأنت عليها رأيتها غنيمة فالزمه، وكل حال إذا جاءك الموت وأنت عليه رأيته مصيبة فاعتزله.
قال عمر بن عبد العزيز: عظني يا أبا حازم، قال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون قبل تلك الساعة، فجد فيه الآن، وما تكره أن يكون قبل تلك الساعة فدعه الآن.
قال أبو حازم: أنزل نفسك منزل من قد مات، فإنك موقن إنك ميت، فما كنت تحب أن يكون معك إذا مت فقدمه حتى تقدم عليه، وما كنت تكره أن يكون معك إذا مت فخلّفه، واستغن عنه.
وعن أبي حازم قال: وجدت ما أعطيت من الدنيا شيئين: شيء منها يأتي أجله قبل أجلي، فأغلب عليه، وشيء منها يأتي أجلي قبل أجله، فاتركه لمن بعدي، ففي أي هذين أعصي ربي؟.
قال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا قد ألزق به ما يسوؤك.
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغلك عن كثير الآخرة.
قال أبو حازم: اشتدت مؤونتان، مؤونة الدنيا، ومؤونة الآخرة، فأما مؤونة الآخرة فإنك لا تجد لها أعواناً وأما مؤونة الدنيا فإنك لا تضرب يدك على شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليها.
قال أبو حازم: إذا كنت في زمان ترضى فيه من العلم بالقول، ومن العمل بالعلم، فأنت في شرّ زمان وشر أناس.
قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بليّة.
وقال: اضمنوا لي اثنتين أضمن لكم على الله الجنة، عمل ما تكرهون إذا أحبّ الله، وترك ما تحبون إذا كره الله عزّ وجلّ.
مرّ أبو حازم في السوق فنظر إلى الفاكهة فقال: موعدك الجنة.
قال أبو حازم: لا تكون عالماً حتى تكون فيك ثلاث خصال: لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا.
قال ابن أبي حازم: قال لي أبي: وهو ينظر إلى عياله وكثرتهم: أرأيت لو أنّ رجلاً تصدق على هؤلاء فأطعمهم وكساهم، يرجو الأجر فيهم، أكان له فيهم؟ قال: قلتله: أي لعمري، لم لا يكون! قال: فلم لا أكون أنا ذلك.
قال:
ومرت جارية في أيام الموسم تعرض للبيع، وقد زينت وهيئت، لها شارة وهيئة، فقال لجلسائه: انظروا إلى هذه ماذا بها من الهيئة، فنظر جلسائه، فقال: ما ثمنها عندكم؟ فقال بعضهم: وددت لو أنها لي بكذا وكذا، شيء كثير، فقال: أولا أدلكم على خير منها بأرخص ثمن؟ امرأة من حور العين إنما صداقها كسرة يطعمها أحدكم مسكيناً، أو سجود ركعتين، هذه والله أيسر عليكم من هذا الثمن كله.
ذكر عن أبي حازم أنهم أتوه فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر؟ فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء.
قال أبو حازم: الأيام ثلاثة: فأما أمس فقد انقضى عن الملوك نعمته، وذهبت عني شدته، وإني وإياهم من غد لعلى وجل، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون؟
قال أبو حازم: لا تعادين رجلاً ولا تناصبه حتى تنظر إلى سريرته بينه وبين الله عزّ وجلّ، فإن تكن له سريرة حسنة فإن الله تبارك وتعالى لم يكن يخذله بعداوتك له، وإن كانت له سريرة رديئة فقد كفاك مساوئه، ولو أردت أن تعمل به أكثر من معاصي الله لم تقدر.
قال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح.
وقال: من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ.
وقال: لا تقتدين بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب ولا يصلح عند الشيب.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إني لأجد شيئاً يحزنني، قال: وما هو يا بن أخي؟ قلت: حبي للدنيا، قال: أعلم يا بن أخي هذا لشيء ما أعاتب نفسي على بعض شيء حببه الله إليّ، لأن الله تعالى قد حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، ألا يدعونا حبّها إلى أن نأخذ شيئاً من شيء يكرهه الله، ولا نمنع شيئاً من شيء أحبّه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لم يضرنا حبنا إياها.
قال أبو حازم: إن المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تفكر، وإذا تكلم ذكر، وإن أعطي شكر، وإن منع صبر، والفاجر إن نظر لها، وإن تكلم لغا، وإن سكت سها، وإن أعطي بطر، وإن منع كفر.
قال سفيان: قيل لأبي حازم: ما القرابة؟ قال: المودة. قيل: فما الراحة؟ قال: دخول الجنة.
وقال: المودة لا تحتاج إلى القرابة، والقرابة تحتاج إلى المودة.
قال أبو حازم: إذا رأيت الله بتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره.
قال أبو حازم: ليس للملول صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول.
وقال: لأن يكون لي عدو صالح أحب إلي من أن يكون لي صديق فاسد.
وقال: لأنا من أن أمنع الدعاء أخوف إلي من أن أمنع الإجابة.
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " قال: ما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت خيراً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شراً مقته كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله عزّ وجلّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله رجل له كساء يأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحرّ والبرد والثلج والمطر.
كان أبو حازم يقول: وما الدنيا؟! وما إبليس؟! أما ما مضى منها فحلم، وأما ما بقي فأماني، وأما إبليس فلقد أطيع فما نفع، ولقد عصي فما ضر.
وكان ينشد: من البسيط
الدهر أدّبني والصّبر ربّاني ... والقوت أقنعني واليأس أغناني
وأحمكتني من الأيام تجربة ... حتى نهيت الذي كان ينهاني
وقال أبو حازم: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى عيش الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك.
وقال: ثلاث من كنّ فيه كمل عقله، ومن كانت فيه واحدة كمل ثلث عقله، من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزق الله.
وقال: والله لئن نجونا من شرّ ما أعطينا لا يضرنا ما زوي عنا، وإن كنا قد تورطنا في شرّ ما قد بسط علينا ما نطلب ما بقي إلا حمقاً.
وقال أبو حازم: مثل العالم والجاهل مثل البنّاء والرقّاص، تجد البنّاء على الشاهق والقصر، معه حديدته جالساً، والرقاص يحمل اللبن والطين على عاتقه على خشبة تحته مهواة، لو زل ذهبت نفسه، ثم يتكلف الصعود بها على هول ما تحته، حتى يأتي بها إلى البنّاء، فلا يزيد البنّاء على أن يعدلها بحديدته وبرأيه وبقدرته، فإذا سلما أخذ البنّاء تسعة أعشار الأجرة وأخذ الرقاص عشراً، وإن هلك ذهبت نفسه، فكذلك العالم يأخذ أضعاف الأجر لعمله.
قال أبو حازم: أتاني رجل فقال لي: إني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر خرجوا من هذا الباب، وقالوا: إلى أين يا رسول الله؟ قال: إلى أبي حازم نذهب به معنا، وقال ثم يقول أبو حازم أللهم حقق وعجل.
قال أبو حازم لما حضرة الموت: ما آسى عل شيء فاتني من الدنيا إلا ذكر الله، وإن هذا الليل والنهار لا يأتيان
على شيء إلا أخلقاه، وفي الموت راحة للمؤمنين ثم قرأ: " وما عند الله خير للأبرار " توفي أبو حازم سنة خمس وثلاثين ومئة. وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ومئه. وقيل توفي سنة أربعين ومئة. وقيل: توفي سنة ثلاث وثمانين ومئة.
رأى أبو حازم أنه في الجنة. قال: فلم أفقد أحداً من إخواني إلا عوف بن يزيد فقلت: فأين عوف ين يزيد؟ قالوا: وأين عوف؟! رفع بحسن خلقه الذي تعرف.
قال سليمان بن سليمان العمري: رأيت أبا جعفر القاري على الكعبة فقلت له: أبا جعفر، قال: نعم، أقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.
خرج أبو حازم يرمي بالجمار، ومعه قوم متعبدون، وهو يكلمهم ويحدثهم، ويقص عليهم، فبينا هو يمشي، وأولئك معه، إذ نظروا إلى فتاة مستترة بخمارها، وهي التي ليس على نحرها منه شيء ترمي الناس بطرفها يمنة ويسره، وقد شغلت الناس، وهم ينظرون إليها مبهوتين، وقد خبط بعضهم بعض في الطريق، فرآها أبو حازم فقال: يا هذه، اتقي الله، إنك في مشعر من مشاعر الله عظيم، وقد فتنت الناس، فاضربي بخمارك على جيبك، فإن الله تعالى يقول: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " فأقبلت تضحك من كلامه وقالت: أني والله يا أفرز من الطويل
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فأقبل أبو حازم على أصحابه فقال: يا هؤلاء، تعالوا ندعو الله لا يعذب هذه الصورة الحسناء بالنار. فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون.
كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك بها. أصبحت شيخاً كبيراً قد
أثقلتك نعم الله عليك، مما أصح بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله مما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك، الغرض الأقصى، ابتلى في ذلك شكرك وأبدي فيه فضله عليك، وقد قال: " لئن شكرتهم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضياً منك بالتعزيز، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات، ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه " لتبّيننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية. إنك تقول، إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالاً منك بفهمك واقتدار منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله عزّ وجلّ: " هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة "؟ اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينّوه باسمك غداً مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقاً، ولا يرد باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً تدوّر رحا باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلما إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك، في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسوؤل، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر
من جعلك بدينه في الناس بخيلا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته ستيراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً، ما لك لا تنتبه من نعستك، وتستقل من عثرتك، وتقول: والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحيي له ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عزّ وجلّ: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " الآية. إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك، ذهبت اللذة، وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، أحذر قد أنبئت، وتخلص فقد وهلت، إنك تعامل من لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهز فقد دنا منك سفر وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قول الله تعالى: " وذكر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ". أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت له، أو ادخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ذخر لك خيراً منعوه، أو علمك شيئاً جهلوه؟ بل جهلت ما ابتليت به في حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا عندك، ولكريم إكبارهم عليك؟ ورغبتهم فما في يديك ذهاب عماهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرئاسة، فطلبوا الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه
مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
اعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله على يدي أوليائه لأوليائه: الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله عزّ وجلّ: " أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون " وجاه يجريه الله على يدي أعدائه لأوليائهم، ومقة يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس تعظيم أولئك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم كرغبة أولئك فيه إليهم " أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون " ما أخوفني أن تكون لمن ينظر كمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتورا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه، وظهور جلده وكمال شهوته، فعني بذلك دهره، حتى إذا كبرت سنه، ودق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته فتحت الدنيا عليه الدنيا شر مفتوح، فلزمته تبعتها، وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله، ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر. فهلا إذ عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد " حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد - أما بعد. فاعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا. فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ إنا لله وإنا إليه لراجعون. على من المعول، وعند من المستعتب؟ نحتسب عند الله مصيبتنا، ونشكو إلى الله بثّنا، وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.