عدي بن زيد بن حمار بن زيد
ابن أيوب ابن محروب بن عامر بن عصبة بن امرئ القيس ابن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار التميمي.
شاعر من شعراء الجاهلية، كان نصرانياً فكان يسكن الحيرة، وأرسله صاحب الحيرة إلى ملك الروم بهدية، ودخل دمشق وذكرها في شعره، وهو المعروف بالعبادي، والعباد هم نصارى الحيرة.
وحمار: بكسر الحاء المهملة وآخره راء، وذكر الأصبهاني: خمار بدل حمار، وقال: ابن محروف بدل ابن محروب.
وهو في الطبقة الرابعة، وهم أربعة رهط فحول شعراء، موضعهم مع الأوائل، وإنما
أخل قلة شعرهم بأيدي الرواة: طرفة، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وهو الشاعر الذي قتله النعمان، وله أخ يقال له: عمير بن زيد، وله ابنان: زيد بن عدي وهو شاعر، وعمرو، والعبادي: بكسر العين.
قال حبيب بن أبي ثابت: كان ابن عباس يعجبه شعر زهير، وكان معاوية يعجبه شعر عدي، وكان الزبير يعجبه شعر عنترة.
حدث عمرو بن جرير قال: تدرون أي يوم تنصر فيه النعمان بن المنذر؟ قلنا: لا، قال: إنه خرج متنزهاً متصيداً، وكان النعمان يعبد الأوثان، فمر بمقابر بظاهر الحيرة، فوقف قريباً منها فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا، قال: إنها تقول: من مجزوء الرمل:
أيها الركب المحثون ... على الأرض مجدون
فكما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون
قال: أعد علي، فأعاد عليه، فرجع النعمان وهو رقيق، ثم خرج خرجة أخرى فوقف على مقابر، فقال له عدي، أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه؟ قال: ما تقول؟ قال: تقول: من الرمل:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم بادوا عصف الدهر بهم ... وكذلك الهر حالاً بعد حال
قال: أعد فأعاد، فرجع متنصراً ومات نصرانياً.
قال خالد بن صفوان بن الأهتم: وفدت إلى هشام بن عبد الملك في أهل العراق، فقدمت عليه وقد خرج مبتدياً بحشمه وأهله وجلسائه، وقد نزل في أرض صحصح، في عام كثر وسميه، وأخرجت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها، وقد ضرب له سرادق من حبرة ملونة، وقد فرشت له ألوان الفرش، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية الفسطاط، فنظر إلي شبه المستنطق لي، فدعوت له وقلت: ما أجد يا أمير المؤمنين شيئاً أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبره به. فاستوى جالساً وقال: هات يا بن الأهتم. قلت: يا أمير المؤمنين، إن ملكاً خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير، وكان قد أعطي بسطة في الملك مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأنفذ النظر، فقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك. قال: فهل رأيتم أحد أعطي مثل ما أعطيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، ولم تخل الأرض من قائم لله بحجته في عباده، فقال: رأيت ما أنت فيه، أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثاً، وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذلك هو. قال: فأراك إنما عجبت بشيء يسير، فلا تكون فيه إلا قليلاً وتنقل طويلاً، فيكون غداً عليك حساباً. قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ وأخذته الأقشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك، فتعمل فيه بطاعة الله على ما ساءك وسرك، وأمضك وأرمضك، وإما أن تنخلع عن ملكك
وتضع تاجك، وتلقي عليك أطمارك، وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإني مفكر الليلة وأوافيك في السحر فأخبرك أحد المنزلتين. فلما كان في السحر جاءه فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض، وقد لبست أمساحي، ووضعت تاجي، فإن كنت رفيقاً لا تخالف، فلزمنا الحبل حتى أتاهما أجلهما، وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد العبادي: من الخفيف:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى الملوك أبو سا ... سان أم أين قلبه سلبور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وخلله كا ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً، وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غب ... بطة حي إلى الممات يسير
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... مة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... ف فألوت به الصبا والدبور
فبكى هشام حتى اخضلت لحيته، وخمل عمامته، وأمر بأبنية وبقلاع فرشه وحشمه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ماذا أردت إلى أمير المؤمنين؟! أفسدت عليه لذته ونغصت عليه مأدبته. فقال: إليكم عني فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل. فبعث إلى واحد من الوفد بجائزة، وكانوا عشرة، وبعث إلى خالد بمثل جميع ما وجه إلى جميع الوفد.
وقال ابن الكلبي: كان سبب نزول عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب، فحلق بأوس بن قلام أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة، وكان بين أيوب وبين أوس بن قلام هذا نسب من قبل النساء، فلما قدم عليه أيوب أكرمه وأنزله في داره، فمكث معه، ثم قال له أوس: يا بن خالي أتريد المقام عندي وفي داري؟ فقال له أيوب: نعم، فقد علمت أني إن أتيت قومي وقد أصبت فيهم دماً لم أسلم، وما لي دار إلا دارك آخر الدهر، قال: فإني تذكرت وأنا خائف أن أموت ولا يعرف ولدي لك من الحق مثل ما أعرف، وأخشى أن يقع بينك وبينهم أمر يقطعون فيه الرحم، فانظر أحب مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو أبتاعه لك. قال: وكان لأيوب صديق في الجانب الشرقي من الحيرة، وكان منزل أوس في الجانب الغربي، فقال له: قد أحببت. أن يكون المنزل الذي تسكنيه عند منزل عصام بن عقدة، أحد بني الحارث بن كعب، فابتاع له موضع داره بثلاث مئة أوقية من ذهب،
وأنفق عليها مئتي أوقية من ذهب، وأعطاه مئتين من الإبل برعاتها، وفرساً وقينة، ثم هلك أوس، فتحول إلى داره التي في شرقي الحيرة فهلك بها، وقد كان اتصل قبل مهلكه الملوك الذين كانوا بالحيرة وعرفوا حقه وحق ابنه زيد بن أيوب، فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولولد أيوب منه جوائز وحملان، ثم إن زيد بن أيوب نكح امرأة من آل قلام فولدت له حماراً، فخرج زيد بن أيوب يوماً يتصيد في أناس من أهل الحيرة، متبدون بحفير المكان الذي يذكره عدي بن زيد في شعره، فانفرد وتباعد عن أصحابه، فلقيه رجل من امرئ القيس الذي كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له وقد عرف فيه شبه أيوب: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم، قال: من أيهم؟ قال: مرئي، قال له الأعرابي: وأين منزلك؟ قال: الحيرة، قال: من بني أيوب؟ قال: نعم، ومن أين تعرف بني أيوب؟! واستوحش من الأعرابي، وذكر الثأر الذي هرب منه أبوه، فقال له: سمعت بهم، ولم يعلمه أنه قد عرفه، فقال له ابن أيوب: فمن أي العرب أنت؟ قال: أنا امرؤ من طيئ، فأمنه زيد، ثم إن الأعرابي اغتفل ابن أيوب فرماه بسهم بين كتفيه فعلق قلبه، فلم يرم حافر دابته حتى مات، فلما كان الليل طلب زيداً أصحابه وظنوا أنه قد أمعن في الصيد، فباتوا يطلبونه حتى أيسوا منه، ثم غدوا في طلبه واقتصوا أثره حتى وقعوا عليه، ورأوا معه أثر راكب آخر يسايره، فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلاً، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله، فاتبعوه وأغذوا السير فأدركوه مسي الليلة الثانية، فصاحوا به وكان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنيل، حتى حال الليل بينهم وبينه، وقد أصاب رجلاً منهم في مرجع كتفه بسهم، فلما أجنه الليل مات، وأفلت المرئي، فرجعوا وقد قتل زيد بن أيوب ورجل آخر من بني الحارث بن كعب، فمكث حمار في أخواله حتى أيفع، فخرج يوماً يلعب مع غلمانه بني لحيان، فلطم اللحياني عين الحمار، فشجه حمار، فخرج أبو اللحياني فضرب حماراً، فأتى أمه يبكي، فأخبرها، فجزعت أمه من ذلك وحولته
إلى دار زيد بن أيوب وعلمته الكتابة في دار أبيه، فكان حمار أول من كتب من بني أيوب، فخرج من أكتب الناس، وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر، فلبث كاتباً له حتى ولد له ابن من امرأة تزوجها من طيئ فسماه زيداً باسم أبيه، وكان لحمار صديق من الدهاقين العظماء يقال له: فروخ ماهان، وكان محسناً إلى حمار، فلما حضرت حماراً الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان وكان من المرازبة فأخذه الدهقان وكان مع ولده، وكان زيد قد حذق الكتابة العربية قبل أن يأخذه الدهقان، فعلمه لما أخذه الفارسية فلقنها وكان لبيباً فأشار الدهقان على كسرى أن يجعله على البريد في حائجه، ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة، فمكث ستولى ذلك لكسرى زماناً، ثم إن النعمان النصري اللخمي هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يقعد كسرى الأمر لرجل ينصبه، فأشار عليهم المرزبان بزيد بن حمار، فكان على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء، ونكح زيد بن حمار نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عدياً، وملك المنذر فكان لا يعصيه في شيء، وولد للمرزبان ابن فسماه شاهان مرد، فلما تحرك عدي بن زيد وأيفع طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب
الفارسية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها. ية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها.
ثم إن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد، فبيناهما بين يديه إذ سقط طائران على السور، فتطاعما كما يتطاعم الذكر والأنثى، وجعل كل واحد منهما منقاره في
منقار الآخر، فغضب كسرى ولحقته غيرة، فقال للمرزبان وابنه: ليرم كل واحد منكما واحداً من هذين الطائرين، فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجواهر، ومن أخطأ منكما عاقبته، فاعتمد كل واحد منهما طائراً ورميا فقتلاهما، فبعث بهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهراً، وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته، فقال فروخ ماهان: عندي غلام من العرب مات أبوه وخلفه في حجري، وهو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، واملك محتاج إلى مثله، فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل، قال: ادعه. فأرسل إلى عدي بن زيد، وكان جميل الوجه فائق الحسن، وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جواباً، فرغب فيه وأثبته معه ولد المرزبان، فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة في عدي ورهبوه، ففلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصة، وهو معجب به، قريب منه، وأبوه زيد بن حمار يومئذ حي، إلا أن ذكر عدي قد ارتفع، وخمل ذكر أبيه، فكان إذا دخل إلى المنذر قام جميع من عنده حتى يقعد عدي.
ثم إن كسرى أرسل عدي بن زيد إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده، فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله على البريد إلى أعماله ليريه سعة أرضه وعظم ملكه، فمن ثم وقع عدي بدمشق وقال فيها الشعر.
قال: وفسد أمر الحيرة وعدي بدمشق، حتى أصلح أبوه بينهم، وذلك لأن الحيرة حين كان عليها المنذر أرادوا قتله لأنه كان يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه، فلما تيقن أن أهل الحيرة أجمعوا على قتله، بعث إلى زيد بن حمار، وكان قبله على الحيرة، فقال له: يا زيد، أنت خليفة أبي، وقد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة، فلا حاجة لي في ملككم، دونكموه فملكوه من شئتم. فقال له زيد: إن الأمر ليس إلي، ولكني أشير إلى هذا الأمر ولا آلوك نصحاً. فلما أصبح غدا إليه الناس فحيوه تحية الملك، وقالوا له: ألا تبعث إلى الظالم يعنون المنذر فتريح منه رعيتك؟ قال لهم: أفلا خير من ذلك؟ قالوا له: أشر علينا. قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك، وأنا آتيه
فأخبروه أن أهل الحيرة قد اختاروا رجلاً يكون أمر الحيرة إليه، إلا أن يكون عزف ومال، فلك اسم الملك وليس إليك شيء سوى ذلك من الأمور. قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر، فأخبره ما قالوا، فقبل ذلك وفرح، وقال: إن لك يا زيد نعمة علي لا أكفرها ما عرفت حق سبد وسبد صنم لأهل الحيرة فولى أهل الحيرة زيداً على كل شيء سوى اسم الملك، فإنهم أقروه للمنذر، وفي ذلك يقول عدي: من الرمل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
ثم هلك زيد وابنه عدي بالشام، وكانت لزيد ألف ناقة للحملات، كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولوه ما ولوه، فلما أرادوا أخذها، فبلغ ذلك المنذر فقال: لا واللات والعزى، لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق وأنا أسمع الصوت. ففي ذلك يقول عدي بن زيد لأبيه النعمان بن المنذر: من الرمل:
وأبوك المرء لم نشق به ... يوم سيم الخسف قمنا بخسار
ثم قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه والمرزبان الذي رباه هلكا، فاستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة، فأذن له، فتوجه إليها، وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه بالناس باشنبينا، ورجع معه.
وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أرادوا أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يوثر الصيد واللهو على الملك، فمكث سنين يبدو في فصلي السنة، فيقيم بالبر ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك، فيخدم كسرى، فمكث كذلك سنين، وكان لا يوثر على بلاد بني يربوع شيئاً من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم، وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر، وكانت لإبله في ضبة وبلاد بني سعد، وكذلك كان
أبوه يفعل يجاور هذين الحيين بإبله، ولم يزل كذلك حتى تزوج هند بنت النعمان بن المنذر، وهي يومئذ جارية حتى بلغت أو كادت.
وكان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكلن للمنذر ابن آخر يقال له: الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعوه ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، ينتسبون إلى لخم، وكانوا أشرافاً، وكان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان ولده يقال لهم: الأشاهب من جمالهم، ولذلك أعشى قيس بن ثعلبة: من الخفيف:
وبنو المنذر الأشاهب بالح ... رة يمشون غدوة كالسيوف
وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيراً، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك، فلما احتضر المنذر أوصى بولده إلى إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى بن هرمز رأيه، فمكث مملكاً عليها أشهراً وكسرى في طلب رجل يملكه عليهم، فلم يجد أحداً يرضاه، فضجر وقال: لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفاً من الأساورة، ولأملكهن عليهم رجلاً من الفرس، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم. وكان عدي بن زيد واقفاً بين يديه، فقال: ويحك يا عدي! من بقي من آل المنذر، وهل فيهم أحد فيه خير؟ قال له: نعم أيها الملك، إن فيهم لبقية وفيهم كل خير. قال: ابعث إليهم فأحضرهم. فبعث عدي إليهم، فأحضرهم وأنزلهم جميعاً عنده، فلما نزلوا عليه أرسل النعمان: لست أملك غيرك فلا يوحشك ما أفضل به إخوتك عليك من الكرامة، فإني أغترهم بذلك. ثم كان يفضل إخوته جميعاً عليه في النزل والإكرام والملازمة ويريهم تنقصاً للنعمان، وأنه غير طامع في تمام أمر على يده، وجعل يخلو بهم رجلاً رجلاً فيقول: إذا أدخلتم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم
وأجملها، وإذا دعي لكم بالطعام لتأكلوا فتباطؤوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا ما تأكلون، فإذا قال لكم: أتكفوني العرب؟ فقولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذ أحدكم عن الطاعة أو أفسد أفتكفونيه؟ فقولوا: لا، إن بعضنا لا يقدر على بعض ليهابكم ولا يطمع في تفرقكم، ويعلم أن للعرب منعة وبأساً. فقبلوا منه، وخلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلداً سيفك، وإذا جلست للأكل فعظم اللقم وأسرع المضغ والبلع، وزد في الاكل وتجوع قبل ذلك، فإن كسرى تعجبه كثرة الأكل ومن العرب خاصة، ويرى أنه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولاً شرهاً ولا سيما إذا رأى طعامه وما لا عهد له بمثله، فإذا سألك هل تكفيني العرب؟ فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي بإخواتك؟ فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم أعجز. قال: وخلا ابن مرينا بالأسود، فسأله عما أوصاه به عدي فأخبره، فقال له: غشك والصليب والمعمودية ما نصحك، ولئن أطعتني لتخالفن كل ما أمرك به ولتملكن، ولئن عصيتني ليملكن النعمان فلا يعرنك ما أولاكه من الإكرام والتفضيل على النعمان، فإن ذلك دهاء ومكر، وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة. فقال له: إن عدياً لم يألني نصحاً، وهو أعلم بكسرى منك، وإن خالفته أوحشته فأفسد علي، وهو جاء بنا ووصفنا، وإلى قوله يرجع كسرى، فلما يئس ابن مرينا من قبوله منه قال له: ستعلم. ودعا بهم كسرى فلما دخلوا عليه أعجبه جمالهم وكمالهم، ورأى رجالاً قل ما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم عدي، فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم ويتأمل أكله، فقال لعدي بالفارسية: إن يكن في أحد منهم ففي هذا. فلما غسلوا أيديهم جعل يدعو بهم رجلاً رجلاً فيقول أتكفيني العرب؟ فيقول: نعم أكفيكها كلها إلا إخوتي، حتى انتهى إلى النعمان آخرهم فقال له: أتكفيني العرب؟ قال: نعم. قال: كلها؟ قال: نعم. قال: فكيف لي بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وخلع عليه، وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والجوهر والياقوت والزبرجد، فلما خرج وقد ملك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافتك لي.
ثم إن عدياً صنع طعاماً في بيعة، فأرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة. فأتاه في ناس، فقعدوا في البيعة، فقال عدي بن زيد لابن مرينا: إن أحق من عرف الحق ولم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب أن لا تحقد علي شيئاً لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة، فحلف أن لا يهجوه أبداً، ولا يبغيه غائلة، ولا يزوي عنه خيراً، فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا فحلف بمثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبداً، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد: من الوافر:
ألا أبلغ عدياً عن عدي ... ولا تجزع وإن رثت قواكا
هيا كلنا تنوء لغير فقد ... لتحمد أو يتم به علاكا
فإن تظفر فلم تظفر حميداً ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا
ثم قال عدي بن مرينا للأسود: أما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كنت أخبرك أن معداً لا ينام كيدها، وأمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد؟ قال: أريد أن لا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي، ففعل، وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في
ملكه شيئاً إلا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه وشيع ذلك بأن يقول: عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدياً عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك ولكنه لا يسلم عليه من أصحابه أحد، وإنه ليقول: إن الملك يعني النعمان عامله، وإنه هو ولاه ما ولاه، فلم يزالوا كذلك حتى أضغنوه عليه، وكتبوا كتاباً على لسانه إلى قهرمان له، ثم دسوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه، وأتوا به النعمان فقرأه، واشتد غضبه، وأرسل إلى عدي بن يزيد: عزمت عليك إلا زرتني فإني قد اشتقت إلى رؤيتك، وعدي يومئذ عند كسرى، فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاهلم ينظر إليه حتىحبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، فمما قاله من أبيات: من الرمل:
أبلغ النعمان عني مالكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
في قصائد كثيرة كان يقولها فيه ويكتب بها إليه ولا يغني عنده شيئاً.
قال أبو بكر الهذلي: سمعت رجلاً ينشد الحسن شعر عدي بن زيد: من الخفيف:
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... هو أدنى للموت ممن يعود
وأطباء بعدهم لحقوقهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
أين أبناؤنا وأين بنوهم ... أين آباؤنا وأين الجدود
سلكوا منهج المنايا فبادوا ... وأرونا قد حان منا ورود
بينما هم على النمارق والدي ... باج أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذاك الوعيد والموعود
فبكى الحسن حتى تحدرت دموعه على خديه ولحيته، ثم تلا: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ولعدي بن زيد: من الطويل:
عن المرء لا يسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
وفي حديث آخر أن عمر بن هند ملك العرب، لما هلك وفدت وفود العرب إلى كسرى تلتمس الملك، وكان عدي بن زيد كاتب كسرى بالعربية، ووفد فيهم النعمان بن المنذر وكان أحدثهم سناً، فلما قدموا على كسرى قام كل رجل منهم يذكر شرفه وأفعاله، وطاعة قومه له، فقال لهم كسرى: انصرفوا إلى منازلكم حتى يخرج إليكم رأيي. فلما انصرفوا قال لعدي: أي هؤلاء ترى أن أملك وكان النعمان صديقاً لعدي من قبل أن كلاهما من أهل الحيرة؟ قال له عدي: أيها الملك، كلهم شريف محتمل، ولكن فيهم فتى من أهل بيت ملك، لا أراهم يرضون بملكه عليهم. قال: وكيف لا يرضون بما أفعل؟ قال: من قبل أن أمه فارسية وهم يأنفون أن يملكهم ابن فارسية. ولم تكن أم النعمان فارسية، إنما هي غسانية، ولكن عدياً أراد أن يكيد له للذي بينهما من الصداقة، فأغضب كسرى، فلما فرغ، قال النعمان لعدي: اخرج معي فأجعل الخاتم في يدك، ويكون الأمر أمرك. قال عدي: أخاف أن يفطن كسرى لما صنعت، ولكن اخرج فسوف ألحقك، فكان كذلك، فمكث بعده شيئاً ثم لحقه، فوفى له النعمان فجعل الخاتم في يده، وكان الأمر
أمره، وكان بنو بقيلة معادين لعدي، فركب النعمان يوماً فقال له عدي: إنك ستمر ببني بقيلة ويعرضون عليك أن تنزل عندهم وتأكل طعامهم، وأنت إن فعلت لم أقم معك ساعة وانصرف إلى كسرى. فقال النعمان: إني لا أدخل إليهم ولا آكل طعامهم. فلما مر بهم تلقوه وقالوا: أيها الملك أكرمنا بنزولك إلينا ودخولك منزلنا. فتأبى عليهم، فقالوا: ننشدك الله أن تورثنا سبة ما عشنا، وعاراً في الناس. فلم يزالوا به حتى نزل إليهم وأكل من طعامهم، فلما بلغ ذلك عدياً انصرف إلى منزله، فلما رجع النعمان قال: أين عدي؟ قالوا: ذهب إلى منزله. قال: فادعوه. فأبى أن يجيب فأغضب النعمان، فقال لمن عنده من جنده وحشمه: ائتوني به ولو سحباً. فسحبوه، فلم يبلغوا به حتى أثروا به آثاراً قبيحة، فلما رآه النعمان علم أن فساده عند كسرى إن رآه على تلك الحال، فأمر به إلى السجن، فمكث في السجن زماناً يقول الشعرن ثم بلغ كسرى ما صنع به فأرسل أمناء من عنده، فقال: إن كان عدي على ما بلغني فأتوني النعمان في الحديد، وإن كان غير ذلك فأعلموني كيف كان. فراع ذلك النعمان فأسرى على عدي فقتله ودفنه، فلما جاء الأمناء قالوا أين عدي؟ قال: هيهات عدي مذ زمان، فصار عدي بن عدي كاتباً لكسرى بالعربية مكان أبيه، وأرضى النعمان الأمناء بشيء، فانصرفوا عنه، فعفوا عنه.
وذكر المفضل الضبي أن عدياً كان له أخ اسمه أبي، وكان عند كسرى، فكتب إليه عدي يخبره بما جرى له، فأخبر كسرى بأمره، فوجه كسرى رسولاً إلى النعمان يأمره بإطلاقه، فقتله النعمان في السجن، ثم ندم على قتله، وكان ذلك سبب تغير كسى للنعمان.
ابن أيوب ابن محروب بن عامر بن عصبة بن امرئ القيس ابن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار التميمي.
شاعر من شعراء الجاهلية، كان نصرانياً فكان يسكن الحيرة، وأرسله صاحب الحيرة إلى ملك الروم بهدية، ودخل دمشق وذكرها في شعره، وهو المعروف بالعبادي، والعباد هم نصارى الحيرة.
وحمار: بكسر الحاء المهملة وآخره راء، وذكر الأصبهاني: خمار بدل حمار، وقال: ابن محروف بدل ابن محروب.
وهو في الطبقة الرابعة، وهم أربعة رهط فحول شعراء، موضعهم مع الأوائل، وإنما
أخل قلة شعرهم بأيدي الرواة: طرفة، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وهو الشاعر الذي قتله النعمان، وله أخ يقال له: عمير بن زيد، وله ابنان: زيد بن عدي وهو شاعر، وعمرو، والعبادي: بكسر العين.
قال حبيب بن أبي ثابت: كان ابن عباس يعجبه شعر زهير، وكان معاوية يعجبه شعر عدي، وكان الزبير يعجبه شعر عنترة.
حدث عمرو بن جرير قال: تدرون أي يوم تنصر فيه النعمان بن المنذر؟ قلنا: لا، قال: إنه خرج متنزهاً متصيداً، وكان النعمان يعبد الأوثان، فمر بمقابر بظاهر الحيرة، فوقف قريباً منها فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا، قال: إنها تقول: من مجزوء الرمل:
أيها الركب المحثون ... على الأرض مجدون
فكما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون
قال: أعد علي، فأعاد عليه، فرجع النعمان وهو رقيق، ثم خرج خرجة أخرى فوقف على مقابر، فقال له عدي، أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه؟ قال: ما تقول؟ قال: تقول: من الرمل:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم بادوا عصف الدهر بهم ... وكذلك الهر حالاً بعد حال
قال: أعد فأعاد، فرجع متنصراً ومات نصرانياً.
قال خالد بن صفوان بن الأهتم: وفدت إلى هشام بن عبد الملك في أهل العراق، فقدمت عليه وقد خرج مبتدياً بحشمه وأهله وجلسائه، وقد نزل في أرض صحصح، في عام كثر وسميه، وأخرجت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها، وقد ضرب له سرادق من حبرة ملونة، وقد فرشت له ألوان الفرش، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية الفسطاط، فنظر إلي شبه المستنطق لي، فدعوت له وقلت: ما أجد يا أمير المؤمنين شيئاً أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبره به. فاستوى جالساً وقال: هات يا بن الأهتم. قلت: يا أمير المؤمنين، إن ملكاً خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير، وكان قد أعطي بسطة في الملك مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأنفذ النظر، فقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك. قال: فهل رأيتم أحد أعطي مثل ما أعطيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، ولم تخل الأرض من قائم لله بحجته في عباده، فقال: رأيت ما أنت فيه، أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثاً، وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذلك هو. قال: فأراك إنما عجبت بشيء يسير، فلا تكون فيه إلا قليلاً وتنقل طويلاً، فيكون غداً عليك حساباً. قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ وأخذته الأقشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك، فتعمل فيه بطاعة الله على ما ساءك وسرك، وأمضك وأرمضك، وإما أن تنخلع عن ملكك
وتضع تاجك، وتلقي عليك أطمارك، وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإني مفكر الليلة وأوافيك في السحر فأخبرك أحد المنزلتين. فلما كان في السحر جاءه فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض، وقد لبست أمساحي، ووضعت تاجي، فإن كنت رفيقاً لا تخالف، فلزمنا الحبل حتى أتاهما أجلهما، وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد العبادي: من الخفيف:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى الملوك أبو سا ... سان أم أين قلبه سلبور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وخلله كا ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً، وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غب ... بطة حي إلى الممات يسير
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... مة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... ف فألوت به الصبا والدبور
فبكى هشام حتى اخضلت لحيته، وخمل عمامته، وأمر بأبنية وبقلاع فرشه وحشمه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ماذا أردت إلى أمير المؤمنين؟! أفسدت عليه لذته ونغصت عليه مأدبته. فقال: إليكم عني فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل. فبعث إلى واحد من الوفد بجائزة، وكانوا عشرة، وبعث إلى خالد بمثل جميع ما وجه إلى جميع الوفد.
وقال ابن الكلبي: كان سبب نزول عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب، فحلق بأوس بن قلام أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة، وكان بين أيوب وبين أوس بن قلام هذا نسب من قبل النساء، فلما قدم عليه أيوب أكرمه وأنزله في داره، فمكث معه، ثم قال له أوس: يا بن خالي أتريد المقام عندي وفي داري؟ فقال له أيوب: نعم، فقد علمت أني إن أتيت قومي وقد أصبت فيهم دماً لم أسلم، وما لي دار إلا دارك آخر الدهر، قال: فإني تذكرت وأنا خائف أن أموت ولا يعرف ولدي لك من الحق مثل ما أعرف، وأخشى أن يقع بينك وبينهم أمر يقطعون فيه الرحم، فانظر أحب مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو أبتاعه لك. قال: وكان لأيوب صديق في الجانب الشرقي من الحيرة، وكان منزل أوس في الجانب الغربي، فقال له: قد أحببت. أن يكون المنزل الذي تسكنيه عند منزل عصام بن عقدة، أحد بني الحارث بن كعب، فابتاع له موضع داره بثلاث مئة أوقية من ذهب،
وأنفق عليها مئتي أوقية من ذهب، وأعطاه مئتين من الإبل برعاتها، وفرساً وقينة، ثم هلك أوس، فتحول إلى داره التي في شرقي الحيرة فهلك بها، وقد كان اتصل قبل مهلكه الملوك الذين كانوا بالحيرة وعرفوا حقه وحق ابنه زيد بن أيوب، فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولولد أيوب منه جوائز وحملان، ثم إن زيد بن أيوب نكح امرأة من آل قلام فولدت له حماراً، فخرج زيد بن أيوب يوماً يتصيد في أناس من أهل الحيرة، متبدون بحفير المكان الذي يذكره عدي بن زيد في شعره، فانفرد وتباعد عن أصحابه، فلقيه رجل من امرئ القيس الذي كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له وقد عرف فيه شبه أيوب: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم، قال: من أيهم؟ قال: مرئي، قال له الأعرابي: وأين منزلك؟ قال: الحيرة، قال: من بني أيوب؟ قال: نعم، ومن أين تعرف بني أيوب؟! واستوحش من الأعرابي، وذكر الثأر الذي هرب منه أبوه، فقال له: سمعت بهم، ولم يعلمه أنه قد عرفه، فقال له ابن أيوب: فمن أي العرب أنت؟ قال: أنا امرؤ من طيئ، فأمنه زيد، ثم إن الأعرابي اغتفل ابن أيوب فرماه بسهم بين كتفيه فعلق قلبه، فلم يرم حافر دابته حتى مات، فلما كان الليل طلب زيداً أصحابه وظنوا أنه قد أمعن في الصيد، فباتوا يطلبونه حتى أيسوا منه، ثم غدوا في طلبه واقتصوا أثره حتى وقعوا عليه، ورأوا معه أثر راكب آخر يسايره، فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلاً، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله، فاتبعوه وأغذوا السير فأدركوه مسي الليلة الثانية، فصاحوا به وكان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنيل، حتى حال الليل بينهم وبينه، وقد أصاب رجلاً منهم في مرجع كتفه بسهم، فلما أجنه الليل مات، وأفلت المرئي، فرجعوا وقد قتل زيد بن أيوب ورجل آخر من بني الحارث بن كعب، فمكث حمار في أخواله حتى أيفع، فخرج يوماً يلعب مع غلمانه بني لحيان، فلطم اللحياني عين الحمار، فشجه حمار، فخرج أبو اللحياني فضرب حماراً، فأتى أمه يبكي، فأخبرها، فجزعت أمه من ذلك وحولته
إلى دار زيد بن أيوب وعلمته الكتابة في دار أبيه، فكان حمار أول من كتب من بني أيوب، فخرج من أكتب الناس، وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر، فلبث كاتباً له حتى ولد له ابن من امرأة تزوجها من طيئ فسماه زيداً باسم أبيه، وكان لحمار صديق من الدهاقين العظماء يقال له: فروخ ماهان، وكان محسناً إلى حمار، فلما حضرت حماراً الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان وكان من المرازبة فأخذه الدهقان وكان مع ولده، وكان زيد قد حذق الكتابة العربية قبل أن يأخذه الدهقان، فعلمه لما أخذه الفارسية فلقنها وكان لبيباً فأشار الدهقان على كسرى أن يجعله على البريد في حائجه، ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة، فمكث ستولى ذلك لكسرى زماناً، ثم إن النعمان النصري اللخمي هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يقعد كسرى الأمر لرجل ينصبه، فأشار عليهم المرزبان بزيد بن حمار، فكان على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء، ونكح زيد بن حمار نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عدياً، وملك المنذر فكان لا يعصيه في شيء، وولد للمرزبان ابن فسماه شاهان مرد، فلما تحرك عدي بن زيد وأيفع طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب
الفارسية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها. ية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها.
ثم إن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد، فبيناهما بين يديه إذ سقط طائران على السور، فتطاعما كما يتطاعم الذكر والأنثى، وجعل كل واحد منهما منقاره في
منقار الآخر، فغضب كسرى ولحقته غيرة، فقال للمرزبان وابنه: ليرم كل واحد منكما واحداً من هذين الطائرين، فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجواهر، ومن أخطأ منكما عاقبته، فاعتمد كل واحد منهما طائراً ورميا فقتلاهما، فبعث بهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهراً، وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته، فقال فروخ ماهان: عندي غلام من العرب مات أبوه وخلفه في حجري، وهو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، واملك محتاج إلى مثله، فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل، قال: ادعه. فأرسل إلى عدي بن زيد، وكان جميل الوجه فائق الحسن، وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جواباً، فرغب فيه وأثبته معه ولد المرزبان، فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة في عدي ورهبوه، ففلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصة، وهو معجب به، قريب منه، وأبوه زيد بن حمار يومئذ حي، إلا أن ذكر عدي قد ارتفع، وخمل ذكر أبيه، فكان إذا دخل إلى المنذر قام جميع من عنده حتى يقعد عدي.
ثم إن كسرى أرسل عدي بن زيد إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده، فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله على البريد إلى أعماله ليريه سعة أرضه وعظم ملكه، فمن ثم وقع عدي بدمشق وقال فيها الشعر.
قال: وفسد أمر الحيرة وعدي بدمشق، حتى أصلح أبوه بينهم، وذلك لأن الحيرة حين كان عليها المنذر أرادوا قتله لأنه كان يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه، فلما تيقن أن أهل الحيرة أجمعوا على قتله، بعث إلى زيد بن حمار، وكان قبله على الحيرة، فقال له: يا زيد، أنت خليفة أبي، وقد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة، فلا حاجة لي في ملككم، دونكموه فملكوه من شئتم. فقال له زيد: إن الأمر ليس إلي، ولكني أشير إلى هذا الأمر ولا آلوك نصحاً. فلما أصبح غدا إليه الناس فحيوه تحية الملك، وقالوا له: ألا تبعث إلى الظالم يعنون المنذر فتريح منه رعيتك؟ قال لهم: أفلا خير من ذلك؟ قالوا له: أشر علينا. قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك، وأنا آتيه
فأخبروه أن أهل الحيرة قد اختاروا رجلاً يكون أمر الحيرة إليه، إلا أن يكون عزف ومال، فلك اسم الملك وليس إليك شيء سوى ذلك من الأمور. قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر، فأخبره ما قالوا، فقبل ذلك وفرح، وقال: إن لك يا زيد نعمة علي لا أكفرها ما عرفت حق سبد وسبد صنم لأهل الحيرة فولى أهل الحيرة زيداً على كل شيء سوى اسم الملك، فإنهم أقروه للمنذر، وفي ذلك يقول عدي: من الرمل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
ثم هلك زيد وابنه عدي بالشام، وكانت لزيد ألف ناقة للحملات، كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولوه ما ولوه، فلما أرادوا أخذها، فبلغ ذلك المنذر فقال: لا واللات والعزى، لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق وأنا أسمع الصوت. ففي ذلك يقول عدي بن زيد لأبيه النعمان بن المنذر: من الرمل:
وأبوك المرء لم نشق به ... يوم سيم الخسف قمنا بخسار
ثم قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه والمرزبان الذي رباه هلكا، فاستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة، فأذن له، فتوجه إليها، وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه بالناس باشنبينا، ورجع معه.
وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أرادوا أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يوثر الصيد واللهو على الملك، فمكث سنين يبدو في فصلي السنة، فيقيم بالبر ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك، فيخدم كسرى، فمكث كذلك سنين، وكان لا يوثر على بلاد بني يربوع شيئاً من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم، وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر، وكانت لإبله في ضبة وبلاد بني سعد، وكذلك كان
أبوه يفعل يجاور هذين الحيين بإبله، ولم يزل كذلك حتى تزوج هند بنت النعمان بن المنذر، وهي يومئذ جارية حتى بلغت أو كادت.
وكان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكلن للمنذر ابن آخر يقال له: الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعوه ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، ينتسبون إلى لخم، وكانوا أشرافاً، وكان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان ولده يقال لهم: الأشاهب من جمالهم، ولذلك أعشى قيس بن ثعلبة: من الخفيف:
وبنو المنذر الأشاهب بالح ... رة يمشون غدوة كالسيوف
وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيراً، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك، فلما احتضر المنذر أوصى بولده إلى إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى بن هرمز رأيه، فمكث مملكاً عليها أشهراً وكسرى في طلب رجل يملكه عليهم، فلم يجد أحداً يرضاه، فضجر وقال: لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفاً من الأساورة، ولأملكهن عليهم رجلاً من الفرس، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم. وكان عدي بن زيد واقفاً بين يديه، فقال: ويحك يا عدي! من بقي من آل المنذر، وهل فيهم أحد فيه خير؟ قال له: نعم أيها الملك، إن فيهم لبقية وفيهم كل خير. قال: ابعث إليهم فأحضرهم. فبعث عدي إليهم، فأحضرهم وأنزلهم جميعاً عنده، فلما نزلوا عليه أرسل النعمان: لست أملك غيرك فلا يوحشك ما أفضل به إخوتك عليك من الكرامة، فإني أغترهم بذلك. ثم كان يفضل إخوته جميعاً عليه في النزل والإكرام والملازمة ويريهم تنقصاً للنعمان، وأنه غير طامع في تمام أمر على يده، وجعل يخلو بهم رجلاً رجلاً فيقول: إذا أدخلتم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم
وأجملها، وإذا دعي لكم بالطعام لتأكلوا فتباطؤوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا ما تأكلون، فإذا قال لكم: أتكفوني العرب؟ فقولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذ أحدكم عن الطاعة أو أفسد أفتكفونيه؟ فقولوا: لا، إن بعضنا لا يقدر على بعض ليهابكم ولا يطمع في تفرقكم، ويعلم أن للعرب منعة وبأساً. فقبلوا منه، وخلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلداً سيفك، وإذا جلست للأكل فعظم اللقم وأسرع المضغ والبلع، وزد في الاكل وتجوع قبل ذلك، فإن كسرى تعجبه كثرة الأكل ومن العرب خاصة، ويرى أنه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولاً شرهاً ولا سيما إذا رأى طعامه وما لا عهد له بمثله، فإذا سألك هل تكفيني العرب؟ فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي بإخواتك؟ فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم أعجز. قال: وخلا ابن مرينا بالأسود، فسأله عما أوصاه به عدي فأخبره، فقال له: غشك والصليب والمعمودية ما نصحك، ولئن أطعتني لتخالفن كل ما أمرك به ولتملكن، ولئن عصيتني ليملكن النعمان فلا يعرنك ما أولاكه من الإكرام والتفضيل على النعمان، فإن ذلك دهاء ومكر، وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة. فقال له: إن عدياً لم يألني نصحاً، وهو أعلم بكسرى منك، وإن خالفته أوحشته فأفسد علي، وهو جاء بنا ووصفنا، وإلى قوله يرجع كسرى، فلما يئس ابن مرينا من قبوله منه قال له: ستعلم. ودعا بهم كسرى فلما دخلوا عليه أعجبه جمالهم وكمالهم، ورأى رجالاً قل ما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم عدي، فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم ويتأمل أكله، فقال لعدي بالفارسية: إن يكن في أحد منهم ففي هذا. فلما غسلوا أيديهم جعل يدعو بهم رجلاً رجلاً فيقول أتكفيني العرب؟ فيقول: نعم أكفيكها كلها إلا إخوتي، حتى انتهى إلى النعمان آخرهم فقال له: أتكفيني العرب؟ قال: نعم. قال: كلها؟ قال: نعم. قال: فكيف لي بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وخلع عليه، وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والجوهر والياقوت والزبرجد، فلما خرج وقد ملك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافتك لي.
ثم إن عدياً صنع طعاماً في بيعة، فأرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة. فأتاه في ناس، فقعدوا في البيعة، فقال عدي بن زيد لابن مرينا: إن أحق من عرف الحق ولم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب أن لا تحقد علي شيئاً لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة، فحلف أن لا يهجوه أبداً، ولا يبغيه غائلة، ولا يزوي عنه خيراً، فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا فحلف بمثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبداً، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد: من الوافر:
ألا أبلغ عدياً عن عدي ... ولا تجزع وإن رثت قواكا
هيا كلنا تنوء لغير فقد ... لتحمد أو يتم به علاكا
فإن تظفر فلم تظفر حميداً ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا
ثم قال عدي بن مرينا للأسود: أما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كنت أخبرك أن معداً لا ينام كيدها، وأمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد؟ قال: أريد أن لا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي، ففعل، وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في
ملكه شيئاً إلا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه وشيع ذلك بأن يقول: عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدياً عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك ولكنه لا يسلم عليه من أصحابه أحد، وإنه ليقول: إن الملك يعني النعمان عامله، وإنه هو ولاه ما ولاه، فلم يزالوا كذلك حتى أضغنوه عليه، وكتبوا كتاباً على لسانه إلى قهرمان له، ثم دسوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه، وأتوا به النعمان فقرأه، واشتد غضبه، وأرسل إلى عدي بن يزيد: عزمت عليك إلا زرتني فإني قد اشتقت إلى رؤيتك، وعدي يومئذ عند كسرى، فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاهلم ينظر إليه حتىحبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، فمما قاله من أبيات: من الرمل:
أبلغ النعمان عني مالكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
في قصائد كثيرة كان يقولها فيه ويكتب بها إليه ولا يغني عنده شيئاً.
قال أبو بكر الهذلي: سمعت رجلاً ينشد الحسن شعر عدي بن زيد: من الخفيف:
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... هو أدنى للموت ممن يعود
وأطباء بعدهم لحقوقهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
أين أبناؤنا وأين بنوهم ... أين آباؤنا وأين الجدود
سلكوا منهج المنايا فبادوا ... وأرونا قد حان منا ورود
بينما هم على النمارق والدي ... باج أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذاك الوعيد والموعود
فبكى الحسن حتى تحدرت دموعه على خديه ولحيته، ثم تلا: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ولعدي بن زيد: من الطويل:
عن المرء لا يسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
وفي حديث آخر أن عمر بن هند ملك العرب، لما هلك وفدت وفود العرب إلى كسرى تلتمس الملك، وكان عدي بن زيد كاتب كسرى بالعربية، ووفد فيهم النعمان بن المنذر وكان أحدثهم سناً، فلما قدموا على كسرى قام كل رجل منهم يذكر شرفه وأفعاله، وطاعة قومه له، فقال لهم كسرى: انصرفوا إلى منازلكم حتى يخرج إليكم رأيي. فلما انصرفوا قال لعدي: أي هؤلاء ترى أن أملك وكان النعمان صديقاً لعدي من قبل أن كلاهما من أهل الحيرة؟ قال له عدي: أيها الملك، كلهم شريف محتمل، ولكن فيهم فتى من أهل بيت ملك، لا أراهم يرضون بملكه عليهم. قال: وكيف لا يرضون بما أفعل؟ قال: من قبل أن أمه فارسية وهم يأنفون أن يملكهم ابن فارسية. ولم تكن أم النعمان فارسية، إنما هي غسانية، ولكن عدياً أراد أن يكيد له للذي بينهما من الصداقة، فأغضب كسرى، فلما فرغ، قال النعمان لعدي: اخرج معي فأجعل الخاتم في يدك، ويكون الأمر أمرك. قال عدي: أخاف أن يفطن كسرى لما صنعت، ولكن اخرج فسوف ألحقك، فكان كذلك، فمكث بعده شيئاً ثم لحقه، فوفى له النعمان فجعل الخاتم في يده، وكان الأمر
أمره، وكان بنو بقيلة معادين لعدي، فركب النعمان يوماً فقال له عدي: إنك ستمر ببني بقيلة ويعرضون عليك أن تنزل عندهم وتأكل طعامهم، وأنت إن فعلت لم أقم معك ساعة وانصرف إلى كسرى. فقال النعمان: إني لا أدخل إليهم ولا آكل طعامهم. فلما مر بهم تلقوه وقالوا: أيها الملك أكرمنا بنزولك إلينا ودخولك منزلنا. فتأبى عليهم، فقالوا: ننشدك الله أن تورثنا سبة ما عشنا، وعاراً في الناس. فلم يزالوا به حتى نزل إليهم وأكل من طعامهم، فلما بلغ ذلك عدياً انصرف إلى منزله، فلما رجع النعمان قال: أين عدي؟ قالوا: ذهب إلى منزله. قال: فادعوه. فأبى أن يجيب فأغضب النعمان، فقال لمن عنده من جنده وحشمه: ائتوني به ولو سحباً. فسحبوه، فلم يبلغوا به حتى أثروا به آثاراً قبيحة، فلما رآه النعمان علم أن فساده عند كسرى إن رآه على تلك الحال، فأمر به إلى السجن، فمكث في السجن زماناً يقول الشعرن ثم بلغ كسرى ما صنع به فأرسل أمناء من عنده، فقال: إن كان عدي على ما بلغني فأتوني النعمان في الحديد، وإن كان غير ذلك فأعلموني كيف كان. فراع ذلك النعمان فأسرى على عدي فقتله ودفنه، فلما جاء الأمناء قالوا أين عدي؟ قال: هيهات عدي مذ زمان، فصار عدي بن عدي كاتباً لكسرى بالعربية مكان أبيه، وأرضى النعمان الأمناء بشيء، فانصرفوا عنه، فعفوا عنه.
وذكر المفضل الضبي أن عدياً كان له أخ اسمه أبي، وكان عند كسرى، فكتب إليه عدي يخبره بما جرى له، فأخبر كسرى بأمره، فوجه كسرى رسولاً إلى النعمان يأمره بإطلاقه، فقتله النعمان في السجن، ثم ندم على قتله، وكان ذلك سبب تغير كسى للنعمان.