مصعب بْن الزُّبَيْر بْن العوام أَبُو عَبْد اللَّه الْقُرَشِيّ الأسدي
قتل سنة إحدى وسبعين قَالَه الْحَسَن بن واقع عن ضمرة ابن ربيعة.
قتل سنة إحدى وسبعين قَالَه الْحَسَن بن واقع عن ضمرة ابن ربيعة.
- ومصعب بن الزبير بن العوام. أمه الرباب بنت أنيف بن عبيد بن حصين بن الربيع بن منقذ بن عليم بن خباب بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن كلب بن وبرة, يكنى أبا عبد الله. قتل سنة اثنتين وسبعين.
مصعب بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عيسى، ويقال: أبو عبد الله، الأسدي، الزبيري وفد على معاوية، وكان أخوه عبد الله بن الزبير ولاه الصرة، ثم عزله بابنه حمزة، ثن ولاها إياه ثانية وجمع له معها الكوفة.
عن الحكم، أن رجلاً من عبد القيس كان يدخل على امرأة فنهاها زوجها عن ذلك وأشهد عليه أهل المجلس، فجاء يوماً فرآه في بيته، فقتله، فرفع إلى مصعب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر عقل هذا ما عقلته، فوداه.
وقال جرير بن حازم: قدم على معاوية شباب من أهل المدينة من قريش وافدين، فيهم عمرو بن سعيد
وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن أم الحكم ومصعب بن الزبير، فأنزلهم في منازل حسنة وأكرمهم، ووافق ذلك قدوم زياد عليه. فقال له معاوية: يا أبا المغيرة، إنه قدم علي شباب من قومي يزعم أهل المدية وغيرهم أنهم أفضل من وراءهم، فأت كل رجل منهم حتى تجالسه وتسأله وتبلوا ما عنده، ثم انصرف فعرفني.
فجعل زياد يزور كل واحد منهم فيتحدث عنده ساعة، ومنهم من يتحدث عنده يزماً وليلة، ثم أتاه، فقال: صفهم لي ولا تسمهم؛ فقال: أما رجل منهم فبسيط اللسان، حسن العقل، لم يدع التيه فيه فضلاً، وهو خليق أن يطلب هذا الأمر فتعطيه. قال: هو - والله - عمرو بن سعيد. قال: هو هو.
قال: ورجل له مثل عقله، حسن اللسان، إلا أن لصاحبه فضل حلاوة عليه، فذكر العفة ويتحظى بها، وهو خليق أن يبلغ غايته في نفسه. قال: هو - والله - عبد الملك. قال: هو هو.
قال: ورجل آخر هو أحيا من فتاة مخدرة حيية، وهو أحبهم إلي، لك أن تصطنعه. قال: هذا - والله - مصعب بن الزبير. قال: هو هو.
قال: وكيف رأيت عبد الرحمن؟ قال: قد غلب عليه قول الشعر وذهب به. قال: لعن الله من لا يموت دونك.
قال الزبير بن بكار في تسمية ولد الزبير: ومصعب وحمزة ورملة بني الزبير، وأمهم الرباب بنت أنيف بن عبيد بن قصاد بن كعب بن عليم بن جناب بن هبل، من كلب، وكان مصعب سمى آنية النحل، من كرمه وجوده. قال الشاعر: " من الطويل "
لا تحسب السلطان عاراً عقابها ... ولا ذلة عند الحفئظ في الأصل
فقد قتل السلطان عمراً ومصعباً ... قريعي قريش واللذين هما مثلي
عماد بني العاص الرفع عمادها ... وقرم بن العباس آنية النحل
ولي العراقين لأخيه عبد الله بن الزبير، وكان شجاعاً ممدحاً، يقول عببيد الله بن قيس الرقيات: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء
وقال أحد الكلبيين يذكر ولادة من ولدوا: " من الطويل "
وعبد العزيز قد ولدنا ومصعباً ... وكلب أب للصالحين ولود
قال محمد بن سعد: مصعب بن الزبير بن العوام قتل بالعراق سنة اثنتين وسبعين، ويكنى أبا عبد الله ولم يكن له ابن يسمى عبد الله.
قال أبو بكر الخطيب: كان من أحسن الناس وجهاً، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً، وولي إمارة العراقين وقت دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة، فلم يزل كذلك حتى سار إليه عبد الملك بن مروان فقتله بمسكن في موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن معروف هناك.
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهراني، أن جميلاً نظر إلى مصعب بن الزبير على جبال عرفة فقال: إن ها هنا لفتى أكره أن تراه بثينة.
قال الشعبي: ما رأيت أميراً قط على منبر أحسن من مصعب بن الزبير.
عن الوليد بن هشام، قال: كان مصعب بن الزبير يحسد الناس على الجمال، فإنه ليخطب الناس بالبصرة إذ أهل ابن جودان من ناحية الأزد، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية بني تميم، فأقبل ابن حيران من تلك الناحية، فأعرض ببصره عنها ورمى ببصره إلى مؤخر المسجد، فأقبل الحسن البصري من مؤخر المسجد، فأفف مصعب ونزل عن المنبر.
عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب بن عروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا. فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
قالخليفة: وفيها - يعني سنة سبع وستين - جمع عبد الله بن الزبير العراق لأخيه مصعب بن الزبير.
وقال: سنة ثمان وستين: فيها عزل ابن الزبير ابنه حمزة عن العراق وجمعها لمصعب بن الزبير، فأقام بها - يعني الكوفة - مصعب نحواً من سنتين، ثم انحدر إلى البصرة واستخلف القباع الحارث بن عبد الله المخزومي، ثم رجع مصعب فلم يزل بها حتى قتل.
وسار مصعب يريد الشام، وسار عبد الملك يريد العراق، فأتى مصعب باجميرا أقصى عمل العراق، وأتى عبد الملك بطنان حبيب أقصى عمل الشام، وهجم عليهما الشتاء فرجعا، وكذلك كانا يفعلان في كل عام حتى قتل مصعب، وفي ذلك يقول: " من الرجز "
أبيت يا مصعب إلا سيراً ... في كل عام لك باجميرا
تغزو بنا ولا تفيد خيرا
عن عبد الله بن أبس بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: قدم وفد من أهل العراق على عبد الله بن الزبير، فأتوه في المسجد، فسلموا عليه، فسألهم عن مصعب بن الزبير وعن سيرته فيهم، فقالوا: أحسن الناس سيرة، وأقضاهم بحق، وأعدلهم في حكم؛ وذلك يوم الجمعة، فلما صلى عبد الله بنالزبير بالناس الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم تمثل: " من الرجز "
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شابوا وشيبوني ... خلوا عناني ثم سيبوني
أيها الناس، إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق عن عاملهم مصعب بن الزبير فأحسنوا الثناء، وذكروا منه ما أحب، إن مصعباً اطبى القلوب حتى لا يعدل به، والأهواء حتى لا تحول عنه، واستمال الألسن بثنائها، والقلوب بصحتها، والأنفس بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المأمون في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط به من البذل. ثم نزل.
عن علي بن زيد، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن عريف الأنصار شيء. فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " استوصوا بالأنصار خيراً - أو قال: معروفاً - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئتهم ". فألقى مصعب نفسه عن سريره وألزق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرأس والعين. فتركه.
عن عبد الله بن المبارك، قال: دخل أيقف نجران على مصعب بن الزبير، فرمى إليه مصعب بشيء فشجه، فقال: له الأسقف: أعطني الأمان حتى أخبرك بما أنزل الله على عيسى بن مريم في الأنجيل. فقال له: لك الأمان. وما أنزل الله عليه؟ فقال للأسقف: أنزل الله عليه: ما للأمير وللغضب ومن عنده يطلب الحلم! وما له وللجور ومن عنده يطلب العدل! وما له وللبخل ومن عنده يطلب البذل! عز وجل من أهل العلم، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن رجل من أهل البصرة كبر، فقال مصعب: العجب من ابن آدم، كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين؟
قال أبو عبد الله بن سلمويه: أسر عبد الله بن الزبير رجلاً فأمر بضرب عنقه، فقال: أعز الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فأتعلق بأطرافك الحسنة وبوجهك الذي يستضاء به فأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، اعف عنه. فقال: أعز الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي. قال: يا غلام، أعطه مئة ألف. فقال: أعز الله الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً، فقال له: ولم؟ فقال: لقوله فيك: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
قال الشعبي: مر بي مصعب بن الزبير وأنا على باب داري، قال: فقال بيده هكذا. قال فتبعته. قال: فلما دخل أذن لي فدخلت عليه فتحدثت معه ساعة. ثم قال بيده هكذا، فرفع الستر، فإذا عائشة بنت طلحة امرأته. فقال: يا شعبي، رأيت مثل هذه قط؟ قال: قلت: لا، ثم خرجت. ثم لقيني بعد ذلك فقال لي: يا شعبي، تدري ما قالت لي؟ قلت: لا، قال: قالت: تجلوني عليه ولا تعطيه شيئاً. قال: فقد أمرت لك بعشرة آلاف. فأخذتها. فكان أول مال ملكته.
قال الزبير بن بكار: حدثني عمي، قال: أهديت لمصعب بن الزبير نخلة ذهبية، عناقيدها من صنوف الجوهر، فدعا لها المقومين فقوموها بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس. فقال: والله ما أدري ما أصنع بها، أما إني سأعطيها رجلاً أحبه. فاستشرف لها ولده ومن حواليه، فدفعها إلى عبد الله بن أبي فروة.
عن عبد الله بن نافع، قال: كان عبد الله بن الزبير لا يكسو أسماء بنت أبي بكر بكسوة إلا كساها مصعب مثلها.
قال أبو عاصم النبيل: قيل لعبد الملك: شرب المصعب الشراب. فقال: والله لو كان ترك الماء مروءة عند مصعب لترك الماء.
وكان عبد الله بن الزبير إذا كتب لرجل بجائزة إلى مصعب بألف درهم جعلها مصعب مئة ألف.
عن الحكم، قال: أول من عرف بالكوفة مصعب بن الزبير.
قال عبد الله بن عمرا: كتبت إلى عبد الملك بن مروان، وكتبت إلى عبد الله بن الزبير، ولم يمنعني أن أكتب إلى مصعب بن الزبير إلا مخافة تزيد أهل العراق.
عن سعيد، قال: جاء ابن عمر مصعب بن الزبير فسلم عليه، فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال ابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا وقاتلوا، حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك. قال: وكم العدد؟ قال: خمسة آلاف. قال: فسبح، ثم قال: عمرك الله يا مصعب لو أن امرءاً أتى ماشية للزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة، أكنت تعده أو تراه مسرفاً. قال: فسكت مصعب. فقال: أجبني. قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم، لا تعبد الله وتدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته؟ أصب يا ابن أخي من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
عن عمر بن حمزة، قال: سمعت سالم بن عبد الله يسأل عبد الله بن عمر: أي ابني الزبير أشجع؟ قال: كلاهما جاءه الموت وهو ينظر إليه.
عن عبد الله بن مصعب، عن أبيه، قال: لما تفرق عن مصعب جنده قال له بعض أودائه: لو اعتصمت ببعض القلاع، وكاتبت من بعد عنك من أوليائك كمثل المهل والأشتر وفلان وفلان، فإذا اجتمع لك من ترضاه لقيت القوم بأكفائهم، فقد ضعفت جداً واختل أصحابك. فلبس سلاحه وخرج فيمن بقي من أصحابه وهو يتمثل بشعر - قيل: لطريف العنبري، وكان طريف يعد بألف فارس من فرسان خراسان - فقال: " من الطويل "
علام تقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا
سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوماً عليه ولا عتبا
عن سعيد بن يزيد، قال: سار عبد الملك إلى مصعب، وسار مصعب حتى نزل الكوفة، فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: ابعث إلى ابن زياد بن عمرو ومالك بن مسمع ووجوه من وجوه البصرة فاضرب أعناقهم، فإنهم قد أجمعوا على أن يغدروا بك. فأبى. قال: فقال إبراهيم: فإني أخرج الآن في الخيل، فإذا قتلت فأنت أعلم. فقاتل حتى قتل. فلما التقى المصعب وعبد الملك قلب القوم ترستهم ولحقوا بعبد الملك.
قال: فقتل المصعب وقتل معه ابنه عيسى وإبراهيم بن الأشتر، وخرج مسلم بن عمرو الباهلي فقال: احملوني إلى خالد بن يزيد، فحمل إليه، فاستأمن له، ووثب عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب فقتله عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له: دجيل من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك لما أتى برأسه؛ وكان عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاتكاً رديئاً، فكان يتلهف ويقول: كيف لم أقتل عبد الملك يومئذ حين سجد، فأكون قد قتلت ملكي العرب!.
فقال عبد الملك لحاجبه: أقص هذا الأعرابي عني أخر إذنه ما استطعت. فكان يفعل به ذلك.
فجاء يوماً فأذن الحاجب للناس وحبسه حتى أخذ الناس مجالسهم، ثم أنزله، فدخل والناس حول سرير عبد الملك، فمضى حتى جلس مع عبد الملك على السرير، فغضب عد الملك فأقبل عليه فقال: يا ابن ظبيان، لقد بلغني أنك لا تشبه أباك. فقال: والله لأنا أشبه من الغراب بالغراب، والقذة بالقذة، والماء بالماء، والتمرة بالتمرة، ولكن إن شئت - يا أمير المؤمنين - أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك ويحك؟ قال: سويد بن منجوف بن ثور السدوسي، وهو قد تجالس معه. فقال عبد الملك: أكذاك يا سويد؟ قال سويد: إن ذلك ليقال -
وكان عبد الملك ولد لسعة أشهر - فلما خرجا قال ابن ظبيان: ما أحب أن لي بفطنتك حمر النعم. قال سويد: وأنا - والله - ما سرني أن لي بما قلت حمر النعم وسودها.
وسار عبد الملك من فوره حتى دخل الكوفة، وعمرو بن حريث يسير بين يديه.
عن جعفر بن أبي كثير، عن أبيه، قال: لما وضع رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان قال: " من الوافر "
لقد أردى الفوارس يوم عبس ... غلاماً غير مناع المتاع
ولا فرح لخير إن أتاه ... ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تعدو ... ولا خال كأنبوب اليراع
فقال الذي جاء برأسه: والله - يا أمير المؤمنين - لو رأيته والرمح في يده تارة، والسيف تارة، يفري بهذا ويطعن بهذا لرأيت رجلاً يملأ القلب والعين شجاعة وإقداماً، ولكنه لما تفرقت رجاله وكثر من قصده وبقي وحده، ما زال يشهد: " من الطويل "
وإني على المكروه عند حضوره ... أكذب نفسي والجفون له تنضي
وما ذاك من ذل ولكن حفيظة ... أذب بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصد ... وإني لذي سلم أذل من الأرض
فقال عبد الملك: كان والله كما وصف نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إلي، وأشدهم لي إلفاً ومودة، ولكن الملك عقيم.
حدث أبو محلم، قال: لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في فخذه، فأكبت عليه، فقالت: يرحمك الله، نعم - والله - حليل المسلمة كنت، أدركك - والله - ما قال عنترة: " من الكامل "
وحليل غانية تركت مجدلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فتهتكت بالرمح الطويل إهانه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: شبيب، قطري، فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت حسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى. ومشى بسيفه حتى مات، ذلك مصعب بن الزبير. لا من قطع الجسور مرة ها هنا ومرة ها هنا.
عن عبد الملك بن عمير، قال: رأيت عجباً، رأيت رأس الحسين أتي به حتى وضع بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد الله أتي به حتى وضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار أتي به حتى وضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم أتي برأس مصعب حتى وضع بين يدي عبد الملك.
حدث شيخ من أهل مكة سنة مئة، قال:
لما قتل مصعب بن الزبير بالعراق وبلغ عبد الله بن الزبير بمكة، فظع به فأضرب عن ذكر مقتله أياماً حتى تحث به العبيد والإماء في سكك المدينة، ثم صعد ذات يوم المنبر فأسكت عليه هنيهة، فنظرت إليه فإذا جبينه يعرق، وإذا أثر الكآبة على وجهه لا تخفى، فقلت لأخ لي إلى جانبي: أما والله إنه للبيب النهد؟ قال: فلعله يريد أن يذكر مقتل سيد فتيان العرب المصعب بن الزبير، ففظع بذلك وغير ملوم.
فما كان بأسرع أن قام فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من
يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ألا وإنه لم يذلل من كان الحق معه وإن كان فرداً، ولم يعز الله من كان من أولياء الشيطان وحزبه وإن كان معه الناس طراً، إنه أتانا خبر من قبل العراق أحزننا وأفرحنا، قتل مصعب بن الزبير رحمة الله عليه؛ فأما الذي أحزننا من ذلك قإن لفراق الحميم لوعة يجدها له حميمة عند المصيبة له، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا له فإنا قد علمنا أن قتله له شهادة، وأن الله جعل ذلك لنا وله خيرة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه إسلام النعام المخطم فقتل؛ وإن يقتل مصعب فقد قتل أبوه وأخوه وعمه وخاله، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حبجاً، ما نموت إلا قتلاً قتلاً، قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف.
ثم قال: ألا إن الدنيا عارية من الملك إلا على الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل علي الدنييا لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
قوله: أخوه، يعني المنذر بن الزبير، وعمه، يعني السائب بن العوام قتل يوم اليمامة شهيداً. وخاله، ويعني خال أبيه حمزة بن عبد المطلب.
عن الزبير بن خبيب، قال: قام عبد الله بن الزبير بعد المقام الذي نعى فيه بمصعب لقد صبت بأبي الزبير. فظننت أن لا أجتبرها، ثم استمرت مريرتي، وما كنت خلواً من مصيبة عثمان، وما كان مصعب إلا فتى من فتياني؛ ثم جعل يرد البكاء وإنه ليغلبه، ويقول: " من الطويل "
هم دفعوا الدنيا على حين أعرضت ... كراماً وسنوا للكرام التأسيا
قتل مصعب سنة إحدى وسبعين،، وقيل: سنة اثنتين وسبعين، يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى، وقتل معه ابنه عيسى.
قال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير: " من الطويل "
لقد أورثت المصرين خزياً وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ... ولا صدقت يوم الحفاظ تميم
فلو كان بكرياً تعطف حوله ... كتائب يغلي حمومها ويديم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك حكيم
جزى الله كويفي تميم ملامة ... بفعلهما إن المليم مليم
فنحن بنو العلات أخلوا ظهورنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عيسى، ويقال: أبو عبد الله، الأسدي، الزبيري وفد على معاوية، وكان أخوه عبد الله بن الزبير ولاه الصرة، ثم عزله بابنه حمزة، ثن ولاها إياه ثانية وجمع له معها الكوفة.
عن الحكم، أن رجلاً من عبد القيس كان يدخل على امرأة فنهاها زوجها عن ذلك وأشهد عليه أهل المجلس، فجاء يوماً فرآه في بيته، فقتله، فرفع إلى مصعب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر عقل هذا ما عقلته، فوداه.
وقال جرير بن حازم: قدم على معاوية شباب من أهل المدينة من قريش وافدين، فيهم عمرو بن سعيد
وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن أم الحكم ومصعب بن الزبير، فأنزلهم في منازل حسنة وأكرمهم، ووافق ذلك قدوم زياد عليه. فقال له معاوية: يا أبا المغيرة، إنه قدم علي شباب من قومي يزعم أهل المدية وغيرهم أنهم أفضل من وراءهم، فأت كل رجل منهم حتى تجالسه وتسأله وتبلوا ما عنده، ثم انصرف فعرفني.
فجعل زياد يزور كل واحد منهم فيتحدث عنده ساعة، ومنهم من يتحدث عنده يزماً وليلة، ثم أتاه، فقال: صفهم لي ولا تسمهم؛ فقال: أما رجل منهم فبسيط اللسان، حسن العقل، لم يدع التيه فيه فضلاً، وهو خليق أن يطلب هذا الأمر فتعطيه. قال: هو - والله - عمرو بن سعيد. قال: هو هو.
قال: ورجل له مثل عقله، حسن اللسان، إلا أن لصاحبه فضل حلاوة عليه، فذكر العفة ويتحظى بها، وهو خليق أن يبلغ غايته في نفسه. قال: هو - والله - عبد الملك. قال: هو هو.
قال: ورجل آخر هو أحيا من فتاة مخدرة حيية، وهو أحبهم إلي، لك أن تصطنعه. قال: هذا - والله - مصعب بن الزبير. قال: هو هو.
قال: وكيف رأيت عبد الرحمن؟ قال: قد غلب عليه قول الشعر وذهب به. قال: لعن الله من لا يموت دونك.
قال الزبير بن بكار في تسمية ولد الزبير: ومصعب وحمزة ورملة بني الزبير، وأمهم الرباب بنت أنيف بن عبيد بن قصاد بن كعب بن عليم بن جناب بن هبل، من كلب، وكان مصعب سمى آنية النحل، من كرمه وجوده. قال الشاعر: " من الطويل "
لا تحسب السلطان عاراً عقابها ... ولا ذلة عند الحفئظ في الأصل
فقد قتل السلطان عمراً ومصعباً ... قريعي قريش واللذين هما مثلي
عماد بني العاص الرفع عمادها ... وقرم بن العباس آنية النحل
ولي العراقين لأخيه عبد الله بن الزبير، وكان شجاعاً ممدحاً، يقول عببيد الله بن قيس الرقيات: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء
وقال أحد الكلبيين يذكر ولادة من ولدوا: " من الطويل "
وعبد العزيز قد ولدنا ومصعباً ... وكلب أب للصالحين ولود
قال محمد بن سعد: مصعب بن الزبير بن العوام قتل بالعراق سنة اثنتين وسبعين، ويكنى أبا عبد الله ولم يكن له ابن يسمى عبد الله.
قال أبو بكر الخطيب: كان من أحسن الناس وجهاً، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً، وولي إمارة العراقين وقت دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة، فلم يزل كذلك حتى سار إليه عبد الملك بن مروان فقتله بمسكن في موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن معروف هناك.
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهراني، أن جميلاً نظر إلى مصعب بن الزبير على جبال عرفة فقال: إن ها هنا لفتى أكره أن تراه بثينة.
قال الشعبي: ما رأيت أميراً قط على منبر أحسن من مصعب بن الزبير.
عن الوليد بن هشام، قال: كان مصعب بن الزبير يحسد الناس على الجمال، فإنه ليخطب الناس بالبصرة إذ أهل ابن جودان من ناحية الأزد، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية بني تميم، فأقبل ابن حيران من تلك الناحية، فأعرض ببصره عنها ورمى ببصره إلى مؤخر المسجد، فأقبل الحسن البصري من مؤخر المسجد، فأفف مصعب ونزل عن المنبر.
عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب بن عروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا. فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
قالخليفة: وفيها - يعني سنة سبع وستين - جمع عبد الله بن الزبير العراق لأخيه مصعب بن الزبير.
وقال: سنة ثمان وستين: فيها عزل ابن الزبير ابنه حمزة عن العراق وجمعها لمصعب بن الزبير، فأقام بها - يعني الكوفة - مصعب نحواً من سنتين، ثم انحدر إلى البصرة واستخلف القباع الحارث بن عبد الله المخزومي، ثم رجع مصعب فلم يزل بها حتى قتل.
وسار مصعب يريد الشام، وسار عبد الملك يريد العراق، فأتى مصعب باجميرا أقصى عمل العراق، وأتى عبد الملك بطنان حبيب أقصى عمل الشام، وهجم عليهما الشتاء فرجعا، وكذلك كانا يفعلان في كل عام حتى قتل مصعب، وفي ذلك يقول: " من الرجز "
أبيت يا مصعب إلا سيراً ... في كل عام لك باجميرا
تغزو بنا ولا تفيد خيرا
عن عبد الله بن أبس بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: قدم وفد من أهل العراق على عبد الله بن الزبير، فأتوه في المسجد، فسلموا عليه، فسألهم عن مصعب بن الزبير وعن سيرته فيهم، فقالوا: أحسن الناس سيرة، وأقضاهم بحق، وأعدلهم في حكم؛ وذلك يوم الجمعة، فلما صلى عبد الله بنالزبير بالناس الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم تمثل: " من الرجز "
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شابوا وشيبوني ... خلوا عناني ثم سيبوني
أيها الناس، إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق عن عاملهم مصعب بن الزبير فأحسنوا الثناء، وذكروا منه ما أحب، إن مصعباً اطبى القلوب حتى لا يعدل به، والأهواء حتى لا تحول عنه، واستمال الألسن بثنائها، والقلوب بصحتها، والأنفس بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المأمون في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط به من البذل. ثم نزل.
عن علي بن زيد، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن عريف الأنصار شيء. فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " استوصوا بالأنصار خيراً - أو قال: معروفاً - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئتهم ". فألقى مصعب نفسه عن سريره وألزق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرأس والعين. فتركه.
عن عبد الله بن المبارك، قال: دخل أيقف نجران على مصعب بن الزبير، فرمى إليه مصعب بشيء فشجه، فقال: له الأسقف: أعطني الأمان حتى أخبرك بما أنزل الله على عيسى بن مريم في الأنجيل. فقال له: لك الأمان. وما أنزل الله عليه؟ فقال للأسقف: أنزل الله عليه: ما للأمير وللغضب ومن عنده يطلب الحلم! وما له وللجور ومن عنده يطلب العدل! وما له وللبخل ومن عنده يطلب البذل! عز وجل من أهل العلم، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن رجل من أهل البصرة كبر، فقال مصعب: العجب من ابن آدم، كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين؟
قال أبو عبد الله بن سلمويه: أسر عبد الله بن الزبير رجلاً فأمر بضرب عنقه، فقال: أعز الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فأتعلق بأطرافك الحسنة وبوجهك الذي يستضاء به فأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، اعف عنه. فقال: أعز الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي. قال: يا غلام، أعطه مئة ألف. فقال: أعز الله الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً، فقال له: ولم؟ فقال: لقوله فيك: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
قال الشعبي: مر بي مصعب بن الزبير وأنا على باب داري، قال: فقال بيده هكذا. قال فتبعته. قال: فلما دخل أذن لي فدخلت عليه فتحدثت معه ساعة. ثم قال بيده هكذا، فرفع الستر، فإذا عائشة بنت طلحة امرأته. فقال: يا شعبي، رأيت مثل هذه قط؟ قال: قلت: لا، ثم خرجت. ثم لقيني بعد ذلك فقال لي: يا شعبي، تدري ما قالت لي؟ قلت: لا، قال: قالت: تجلوني عليه ولا تعطيه شيئاً. قال: فقد أمرت لك بعشرة آلاف. فأخذتها. فكان أول مال ملكته.
قال الزبير بن بكار: حدثني عمي، قال: أهديت لمصعب بن الزبير نخلة ذهبية، عناقيدها من صنوف الجوهر، فدعا لها المقومين فقوموها بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس. فقال: والله ما أدري ما أصنع بها، أما إني سأعطيها رجلاً أحبه. فاستشرف لها ولده ومن حواليه، فدفعها إلى عبد الله بن أبي فروة.
عن عبد الله بن نافع، قال: كان عبد الله بن الزبير لا يكسو أسماء بنت أبي بكر بكسوة إلا كساها مصعب مثلها.
قال أبو عاصم النبيل: قيل لعبد الملك: شرب المصعب الشراب. فقال: والله لو كان ترك الماء مروءة عند مصعب لترك الماء.
وكان عبد الله بن الزبير إذا كتب لرجل بجائزة إلى مصعب بألف درهم جعلها مصعب مئة ألف.
عن الحكم، قال: أول من عرف بالكوفة مصعب بن الزبير.
قال عبد الله بن عمرا: كتبت إلى عبد الملك بن مروان، وكتبت إلى عبد الله بن الزبير، ولم يمنعني أن أكتب إلى مصعب بن الزبير إلا مخافة تزيد أهل العراق.
عن سعيد، قال: جاء ابن عمر مصعب بن الزبير فسلم عليه، فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال ابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا وقاتلوا، حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك. قال: وكم العدد؟ قال: خمسة آلاف. قال: فسبح، ثم قال: عمرك الله يا مصعب لو أن امرءاً أتى ماشية للزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة، أكنت تعده أو تراه مسرفاً. قال: فسكت مصعب. فقال: أجبني. قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم، لا تعبد الله وتدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته؟ أصب يا ابن أخي من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
عن عمر بن حمزة، قال: سمعت سالم بن عبد الله يسأل عبد الله بن عمر: أي ابني الزبير أشجع؟ قال: كلاهما جاءه الموت وهو ينظر إليه.
عن عبد الله بن مصعب، عن أبيه، قال: لما تفرق عن مصعب جنده قال له بعض أودائه: لو اعتصمت ببعض القلاع، وكاتبت من بعد عنك من أوليائك كمثل المهل والأشتر وفلان وفلان، فإذا اجتمع لك من ترضاه لقيت القوم بأكفائهم، فقد ضعفت جداً واختل أصحابك. فلبس سلاحه وخرج فيمن بقي من أصحابه وهو يتمثل بشعر - قيل: لطريف العنبري، وكان طريف يعد بألف فارس من فرسان خراسان - فقال: " من الطويل "
علام تقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا
سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوماً عليه ولا عتبا
عن سعيد بن يزيد، قال: سار عبد الملك إلى مصعب، وسار مصعب حتى نزل الكوفة، فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: ابعث إلى ابن زياد بن عمرو ومالك بن مسمع ووجوه من وجوه البصرة فاضرب أعناقهم، فإنهم قد أجمعوا على أن يغدروا بك. فأبى. قال: فقال إبراهيم: فإني أخرج الآن في الخيل، فإذا قتلت فأنت أعلم. فقاتل حتى قتل. فلما التقى المصعب وعبد الملك قلب القوم ترستهم ولحقوا بعبد الملك.
قال: فقتل المصعب وقتل معه ابنه عيسى وإبراهيم بن الأشتر، وخرج مسلم بن عمرو الباهلي فقال: احملوني إلى خالد بن يزيد، فحمل إليه، فاستأمن له، ووثب عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب فقتله عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له: دجيل من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك لما أتى برأسه؛ وكان عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاتكاً رديئاً، فكان يتلهف ويقول: كيف لم أقتل عبد الملك يومئذ حين سجد، فأكون قد قتلت ملكي العرب!.
فقال عبد الملك لحاجبه: أقص هذا الأعرابي عني أخر إذنه ما استطعت. فكان يفعل به ذلك.
فجاء يوماً فأذن الحاجب للناس وحبسه حتى أخذ الناس مجالسهم، ثم أنزله، فدخل والناس حول سرير عبد الملك، فمضى حتى جلس مع عبد الملك على السرير، فغضب عد الملك فأقبل عليه فقال: يا ابن ظبيان، لقد بلغني أنك لا تشبه أباك. فقال: والله لأنا أشبه من الغراب بالغراب، والقذة بالقذة، والماء بالماء، والتمرة بالتمرة، ولكن إن شئت - يا أمير المؤمنين - أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك ويحك؟ قال: سويد بن منجوف بن ثور السدوسي، وهو قد تجالس معه. فقال عبد الملك: أكذاك يا سويد؟ قال سويد: إن ذلك ليقال -
وكان عبد الملك ولد لسعة أشهر - فلما خرجا قال ابن ظبيان: ما أحب أن لي بفطنتك حمر النعم. قال سويد: وأنا - والله - ما سرني أن لي بما قلت حمر النعم وسودها.
وسار عبد الملك من فوره حتى دخل الكوفة، وعمرو بن حريث يسير بين يديه.
عن جعفر بن أبي كثير، عن أبيه، قال: لما وضع رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان قال: " من الوافر "
لقد أردى الفوارس يوم عبس ... غلاماً غير مناع المتاع
ولا فرح لخير إن أتاه ... ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تعدو ... ولا خال كأنبوب اليراع
فقال الذي جاء برأسه: والله - يا أمير المؤمنين - لو رأيته والرمح في يده تارة، والسيف تارة، يفري بهذا ويطعن بهذا لرأيت رجلاً يملأ القلب والعين شجاعة وإقداماً، ولكنه لما تفرقت رجاله وكثر من قصده وبقي وحده، ما زال يشهد: " من الطويل "
وإني على المكروه عند حضوره ... أكذب نفسي والجفون له تنضي
وما ذاك من ذل ولكن حفيظة ... أذب بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصد ... وإني لذي سلم أذل من الأرض
فقال عبد الملك: كان والله كما وصف نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إلي، وأشدهم لي إلفاً ومودة، ولكن الملك عقيم.
حدث أبو محلم، قال: لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في فخذه، فأكبت عليه، فقالت: يرحمك الله، نعم - والله - حليل المسلمة كنت، أدركك - والله - ما قال عنترة: " من الكامل "
وحليل غانية تركت مجدلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فتهتكت بالرمح الطويل إهانه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: شبيب، قطري، فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت حسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى. ومشى بسيفه حتى مات، ذلك مصعب بن الزبير. لا من قطع الجسور مرة ها هنا ومرة ها هنا.
عن عبد الملك بن عمير، قال: رأيت عجباً، رأيت رأس الحسين أتي به حتى وضع بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد الله أتي به حتى وضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار أتي به حتى وضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم أتي برأس مصعب حتى وضع بين يدي عبد الملك.
حدث شيخ من أهل مكة سنة مئة، قال:
لما قتل مصعب بن الزبير بالعراق وبلغ عبد الله بن الزبير بمكة، فظع به فأضرب عن ذكر مقتله أياماً حتى تحث به العبيد والإماء في سكك المدينة، ثم صعد ذات يوم المنبر فأسكت عليه هنيهة، فنظرت إليه فإذا جبينه يعرق، وإذا أثر الكآبة على وجهه لا تخفى، فقلت لأخ لي إلى جانبي: أما والله إنه للبيب النهد؟ قال: فلعله يريد أن يذكر مقتل سيد فتيان العرب المصعب بن الزبير، ففظع بذلك وغير ملوم.
فما كان بأسرع أن قام فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من
يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ألا وإنه لم يذلل من كان الحق معه وإن كان فرداً، ولم يعز الله من كان من أولياء الشيطان وحزبه وإن كان معه الناس طراً، إنه أتانا خبر من قبل العراق أحزننا وأفرحنا، قتل مصعب بن الزبير رحمة الله عليه؛ فأما الذي أحزننا من ذلك قإن لفراق الحميم لوعة يجدها له حميمة عند المصيبة له، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا له فإنا قد علمنا أن قتله له شهادة، وأن الله جعل ذلك لنا وله خيرة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه إسلام النعام المخطم فقتل؛ وإن يقتل مصعب فقد قتل أبوه وأخوه وعمه وخاله، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حبجاً، ما نموت إلا قتلاً قتلاً، قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف.
ثم قال: ألا إن الدنيا عارية من الملك إلا على الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل علي الدنييا لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
قوله: أخوه، يعني المنذر بن الزبير، وعمه، يعني السائب بن العوام قتل يوم اليمامة شهيداً. وخاله، ويعني خال أبيه حمزة بن عبد المطلب.
عن الزبير بن خبيب، قال: قام عبد الله بن الزبير بعد المقام الذي نعى فيه بمصعب لقد صبت بأبي الزبير. فظننت أن لا أجتبرها، ثم استمرت مريرتي، وما كنت خلواً من مصيبة عثمان، وما كان مصعب إلا فتى من فتياني؛ ثم جعل يرد البكاء وإنه ليغلبه، ويقول: " من الطويل "
هم دفعوا الدنيا على حين أعرضت ... كراماً وسنوا للكرام التأسيا
قتل مصعب سنة إحدى وسبعين،، وقيل: سنة اثنتين وسبعين، يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى، وقتل معه ابنه عيسى.
قال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير: " من الطويل "
لقد أورثت المصرين خزياً وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ... ولا صدقت يوم الحفاظ تميم
فلو كان بكرياً تعطف حوله ... كتائب يغلي حمومها ويديم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك حكيم
جزى الله كويفي تميم ملامة ... بفعلهما إن المليم مليم
فنحن بنو العلات أخلوا ظهورنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم