عَبْد الوهاب بْن عليّ بْن عليّ بْن عبيد الله، أبو أحمد بن أبي منصور الأمين، المعروف بابن سكينة :
شيخ وقته في علو الإسناد والمعرفة، والإنفاق والزهد والعبادة، وحسن السمت، وموافقة السنة وسلوك طريق السلف الصالح. بكر به والده فأسمعه في صباه من الحافظ أبي الفضل بن ناصر وقرأ به من أبوي القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين وزاهر بن طاهر الشحامي وأبي [عبد الله] محمد بن حمويه الجويني وأخيه عبد الصمد وأبي غالب محمد بن الحسن الماوردي، ثم صحب أبا سعد بن السمعاني وأبا القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي وسمع بهما الكثير من أَبِي بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي الْأَنْصَارِيّ ومن والده أبي منصور علي ومن جده لأمه أبي البركات إسماعيل بن أحمد النيسابوري وأبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي وأبي الحسن عليّ بْن هبة اللَّه بْن عَبْد السَّلام وأبي سعد أحمد بن محمد الزوزني وأبي الفتح عبد الله بن محمد بن البيضاوي وأبي محمد يحيى بن علي بن محمد بن الطراح وأبي الحسن محمد ابن أحمد بن توبة وأبي منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي وبدر بن عبد الله الشيحي
وأبي منصور عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد القزاز وأبي البدر إبراهيم بن محمد ابن منصور الكرخي وأبي عبد الله الحسين وأبي محمد عبد الله ابني علي بن أحمد الخياط وأبي بكر أحمد بن علي بن عبد الواحد الدلال وأبي المعالي عبد الخالق بن عبد الصمد بن علي بن البدن الصفار وأبي الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم الصائغ وأبي الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي والوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وأخيه نقيب النقباء أبي الحسن محمد وأبي بكر محمد بن حمد بن خلف البندنيجي وأخيه عمر بن حمد وفاطمة بنت أبي حكيم الخبري، وجماعة غيرهم.
وقرأ بنفسه كثيرا على أبي الفضل بن ناصر ولازمه مدة طويلة، قرأ فيها كتبا كثيرة وأجزاء كثيرة، وعلى أحمد بن أبي غالب بن الطلاية وأبي الفرج بن أحمد بن يوسف وأبي القاسم نصر بن نصر بن علي العكبري وأبي الفضل أحمد بن طاهر بن سعيد الميهني والقاضي أبي الفضل مُحَمَّد بن عمر الأرموي وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وأبي الفضل محمد بن يحيى بن بذال وأبي الحسن بن أحمد بن محمويه اليزدي وأبي العباس أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي المكي وأبي المظفر هبة اللَّه بن الشبلي وأبي السعود المبارك بن خيرون بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون، وخلق كثير غيرهم.
وكتب بخطه كثيرا من الحديث وغيره في صباه وبعد علو سنه، وحصل الأصول والنسخ الملاح بالخطوط الحسنة، وسمع بالكوفة من الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم العلوي وأَبِي الْحَسَن مُحَمَّد بْن محمد بن غبرة الحارثي.
وقرأ القرآن بالروايات والطرق على أبي محمد عبد الله بن علي سبط أبي منصور الخياط وعلي الحافظ أَبِي العلاء الْحَسَن بْن أَحْمَد العطار الهمذاني وأبي الحسن علي بن أحمد بن محمويه اليزدي وغيرهم.
وقرأ المذهب والخلاف على أبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز وغيره. وقرأ
الأدب على أبي محمد بن الخشاب، وصحب جده أبا البركات إسماعيل شيخ الشيوخ فانتفع بصحبته، ولبس منه الخرقة، وتخلق بأخلاقه وتأدب بآدابه، وأخذ علم الحديث ومعرفته من ابن ناصر، وكان كثيرا يحكي عنه من الفوائد الحسنة والنكت الغريبة والمعاني الدقيقة، ومد اللَّه له في العمر حتى حدث بجميع مروياته مرارا، وقصده طلاب العلم من سائر الأقطار، وكانت أوقاته محفوظة، وكلماته معدودة، فلا تمضي له ساعة إلا في قراءة القرآن والذكر والتهجد وقراءة الناس، وكان يمنع الناس من التحديث في مجلسه بلغو أو غيبة إنسان أو ذكر ما لا فائدة فيه، وإذا قرئ عليه الحديث منه أن يقام له، [و] إذا حضر غيره أيضا فلا يقام له، وكان كثير الحج والعمرة والمجاورة بمكة، وكان دائما على سجادته على طهارة مستقبل القبلة، يقرأ القرآن ليلا ونهارا، والمصحف في يده ينظر فيه، وإذا غلبه النوم نام على سجادته، وما استيقظ إلا جدد وضوءا، ولا يخرج من منزله إلا لحضور صلاة الجمعة أو العيد أو جنازة أو زيارة صالح حي أو ميت أو حضور مجلس ذكر، ولم يكن يحضر دور أبناء الدنيا ولا أرباب المناصب في هناء ولا عزاء، وكان مديما للصيام في أكثر أوقاته مع علو سنة، وكان يستعمل السنة في جميع أحواله: في مدخله ومخرجه وملبسه ومأكله ومشربه، ويحب الصالحين، ويقتفي بسيرة السلف عقدا وفعلا، ويعظم العلماء، ويستفيد من الكبير والصغير ويتواضع لجميع الناس وفي سائر أحواله، وكان دائما يقول: نسأل اللَّه [أن] يميتنا مسلمين! وإذا دعا له أحد بطول البقاء قال: أسأل اللَّه الوفاة على الإسلام، ويبكي. وكان ظاهر الخشوع عند الذكر، غزير الدمعة عند قراءة القرآن والحديث وأخبار الصالحين.
وكان إذا أكثر من البكاء يعتذر إلى الحاضرين ويقول: قد كبر سني ورق عظمي فلا أملك دمعتي- نفيا لإظهار الخشوع وخوفا من الرياء وسترا لحاله، وكان الله
سبحانه قد ألبسه رداء جميلا من البهاء وحسن الخلقة وقبول الصورة ونور الطاعة وجلالة العبادة، فكانت له في القلوب منزلة عظيمة، يحبه الكبير والصغير والرجال والنساء، وكان الرجل إذا رآه انتفع برؤيته قبل سماع كلامه، فإذا تكلم كان البهاء والنور على ألفاظه، وتقبلها الأسماع والقلوب، ولا يشبع جليسه من مجالسته، ولقد طفت شرقا وغربا، ورأيت الأئمة والعلماء والزهاد، فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتا، صحبته قريبا من عشرين سنة ليلا ونهارا، وتأدبت به وخدمته، وقرأت عليه القرآن بجميع مروياته وقراءاته، وسمعت منه أكثر مروياته، وقرأت عليه الكتب المطولات، واستفدت منه كثيرا، وكان ثقة صدوقا حجة نبيلا، ركنا من أركان الدين، وعلما من أعلام المسلمين. سمع منه الشريف أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي والقاضي أبو المحاسن عمر بن علي القرشي والحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي وخلق من الأئمة الكبار ورووا عنه وهو حجة.
أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا السَّعِيدُ أبو أحمد عَبْد الوهاب بْن عليّ بْن عَلِيِّ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين بِقِرَاءَةِ شَيْخِنَا أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وعشرين وخمسمائة، أنبأنا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلانَ الْبَزَّازُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ إبراهيم الشافعي، حدثنا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عُبَيْد اللَّهِ النَّرْسِيُّ، أنبأنا روح بن عبادة، حدثنا عثمان بن غياث، حدثنا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَمُرُّ النَّاسُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، وَعَلَيْهِ حَسَكٌ وَكَلالِيبُ وَخَطَاطِيفُ تَخْطَفُ النَّاسَ يَمِينًا وَشِمَالا وَبِجَنْبَتَيْهِ مَلائِكَةٌ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْفَرَسِ الْمُجْرِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا؛ فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلا يَمُوتُونَ ولا يحيون،
وَأَمَّا أُنَاسٌ فَيُؤْخَذُونَ بِذُنُوبٍ وَخَطَايَا؛ قَالَ: فَيَحْتَرِقُونَ فَيَكُونُونَ فَحْمًا ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ فَيُؤْخَذُونَ ضُبَارَاتٍ ضُبَارَاتٍ فَيُقْذَفُونَ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الجنة فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ»
، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا رَأَيْتُمُ الصَّبْغَاءَ شَجَرَةً تَنْبُتُ فِي الْفَيَافِي ، فَيَكُونُ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى شَفَّتِهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! اصْرَفْ وَجْهِي عَنْهَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَهْدُكَ وَذِمَّتُكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؛ قَالَ:
وَعَلَى الصِّرَاطِ ثَلاثُ شَجَرَاتٍ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ آكُلَ مِنْ ثمرها وَأَكُونَ فِي ظَلِّهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: عَهْدُكَ وَذِمَّتُكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؛ قَالَ: ثُمَّ يَرَى أُخْرَى أَحْسَنَ مِنْهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ آكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكُونَ فِي ظَلِّهَا؛ ثُمَّ يَرَى سَوَادَ النَّاسِ وَيَسْمَعُ كَلامَهُمْ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ! قَالَ أَبُو نَضْرَةَ:
فَاخْتَلَفَ أَبُو سَعِيدٍ ورَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُعْطَي الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، وَقَالَ الآخَرُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُعْطَى الْجَنَّةَ وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا» .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَّامِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ قَدِمَ عَلَيْنَا في شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكَنْجَرُوذِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، أنبأنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» .
أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور الأمين بقراءتي عليه قال: أنبأنا أبو القاسم هبة اللَّه بن محمد بن الحصين قراءة عليه، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان، أنبأنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدِ بْن يَحْيَى المزكي، أنبأنا السّرّاج، حدثنا قتيبة، حدثنا سعيد، حدثنا بكر بن نصر عن عمرو بن الحارث قال: بلغني أن رجلا كتب إلى
ابن عمر يسأله عن العلم فكتب إليه أن العلم كبير يا ابن أخ، ولكن إن استطعت أن تلقى اللَّه عز وجل خفيف الظهر من دماء المسلمين كاف اللسان عن أعراضهم خامص البطن من أموالهم لازما لجماعتهم فافعل.
أخبرنا عبد الوهاب الأمين بقراءتي عليه قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري قال: أنشدنا أبو القاسم علي بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الحسن بْن عليك قدم علينا قال: أنشدنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي، أنشدني نصر بن أبي نصر البستي لعلي بن محمد بن بسام:
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
والحادثات موكلات بالفتى ... والمرؤ بعد الحادثات سماع
وسمعت أبا محمد بن الأخضر الحافظ غير مرة يقول: لم يبق ممن طلب الحديث، وعنى به غير عبد الوهاب بن سكينة. وسمعت عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي يقول:
رأيت عبد الوهاب بن سكينة يجيء إلى ابن ناصر ليقرأ عليه، وكان من ظراف طلبة الحديث، وسمعت ابن الأخضر يقول: كان شيخنا ابن ناصر يجلس في داره على سرير لطيف، فكل من حضر عنده يجلس تحت سريره كابن شافع والباقداري وأمثالهم، وما رأيته أجلس معه أحدا على سريره إلا عبد الوهاب بن سكينة. ورأيت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي بن أحمد المقرئ شيخ العراق على الكتب والمفردات التي قرأها عليه شيخنا عبد الوهاب: قرأ علي سيدنا ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب، وكان شيخنا لما قرأ عليه قارب العشرين من عمره- رحمة اللَّه عليهما.
أنبأنا القاضي الفقيه يحيى بن القاسم التكريتي مدرس المدرسة النظامية قال في ذكر
مشايخه: أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي المعروف بابن سكينة كان رجلا عالما عاملا بمذهب الشافعي، كثير المباحثة في مسائله، دائم التكرار لكتاب التنبيه في الفقه حافظا له، كثير الاشتغال بكتاب المهذب والوسيط في الفقه، لا يضيع من وقته شيئا، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على «سلام عليكم» مسألة، لكثرة حرصه على المباحثة في المسائل وتقرير أحكامها.
سمعت عبد الكريم بن المفضل اليزدي بأصبهان وكان ينوب في التدريس بالمدرسة النظامية بها عن ابن الخجندي. وحج في تلك السنة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم من بغداد، فلما دخلنا المدينة اجتمعنا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجاء رجل مستفتيا إلى صدر الدين بن الخجندي فكتب فيها، ثم التفت [الرجل] إلي [وقال] : قد سهى صدر الدين في الفتيا فكتبها على غير الصواب، فنبهه على ذلك حتى يصلحها، ثم ناولنيها فإذا هي كما قال، فقمت إلى صدر الدين وذكرت ذلك له، فقال لي: ومن هذا الرجل؟ فقلت: لا أعرفه، فسأل عنه شيخ الشيوخ [فقال] :
ابن أختي عبد الوهاب وهو فقيه محدث، فقام إليه صدر الدين واعتذر إليه.
سألت شيخنا عبد الوهاب بن علي عن مولده فقال: في ليل الجمعة رابع شعبان سنة تسع عشرة وخمسمائة؛ وتوفي سحرة يوم الاثنين التاسع عشر من شهر ربيع الآخر من سنة سبع وستمائة، وصلى عليه بجامع القصر وبعدة أمكنة بالجانب الغربي، ودفن عند جده شيخ الشيوخ مقابل جامع المنصور، وكان يوما مشهودا.
شيخ وقته في علو الإسناد والمعرفة، والإنفاق والزهد والعبادة، وحسن السمت، وموافقة السنة وسلوك طريق السلف الصالح. بكر به والده فأسمعه في صباه من الحافظ أبي الفضل بن ناصر وقرأ به من أبوي القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين وزاهر بن طاهر الشحامي وأبي [عبد الله] محمد بن حمويه الجويني وأخيه عبد الصمد وأبي غالب محمد بن الحسن الماوردي، ثم صحب أبا سعد بن السمعاني وأبا القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي وسمع بهما الكثير من أَبِي بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي الْأَنْصَارِيّ ومن والده أبي منصور علي ومن جده لأمه أبي البركات إسماعيل بن أحمد النيسابوري وأبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي وأبي الحسن عليّ بْن هبة اللَّه بْن عَبْد السَّلام وأبي سعد أحمد بن محمد الزوزني وأبي الفتح عبد الله بن محمد بن البيضاوي وأبي محمد يحيى بن علي بن محمد بن الطراح وأبي الحسن محمد ابن أحمد بن توبة وأبي منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي وبدر بن عبد الله الشيحي
وأبي منصور عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد القزاز وأبي البدر إبراهيم بن محمد ابن منصور الكرخي وأبي عبد الله الحسين وأبي محمد عبد الله ابني علي بن أحمد الخياط وأبي بكر أحمد بن علي بن عبد الواحد الدلال وأبي المعالي عبد الخالق بن عبد الصمد بن علي بن البدن الصفار وأبي الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم الصائغ وأبي الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي والوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وأخيه نقيب النقباء أبي الحسن محمد وأبي بكر محمد بن حمد بن خلف البندنيجي وأخيه عمر بن حمد وفاطمة بنت أبي حكيم الخبري، وجماعة غيرهم.
وقرأ بنفسه كثيرا على أبي الفضل بن ناصر ولازمه مدة طويلة، قرأ فيها كتبا كثيرة وأجزاء كثيرة، وعلى أحمد بن أبي غالب بن الطلاية وأبي الفرج بن أحمد بن يوسف وأبي القاسم نصر بن نصر بن علي العكبري وأبي الفضل أحمد بن طاهر بن سعيد الميهني والقاضي أبي الفضل مُحَمَّد بن عمر الأرموي وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وأبي الفضل محمد بن يحيى بن بذال وأبي الحسن بن أحمد بن محمويه اليزدي وأبي العباس أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي المكي وأبي المظفر هبة اللَّه بن الشبلي وأبي السعود المبارك بن خيرون بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون، وخلق كثير غيرهم.
وكتب بخطه كثيرا من الحديث وغيره في صباه وبعد علو سنه، وحصل الأصول والنسخ الملاح بالخطوط الحسنة، وسمع بالكوفة من الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم العلوي وأَبِي الْحَسَن مُحَمَّد بْن محمد بن غبرة الحارثي.
وقرأ القرآن بالروايات والطرق على أبي محمد عبد الله بن علي سبط أبي منصور الخياط وعلي الحافظ أَبِي العلاء الْحَسَن بْن أَحْمَد العطار الهمذاني وأبي الحسن علي بن أحمد بن محمويه اليزدي وغيرهم.
وقرأ المذهب والخلاف على أبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز وغيره. وقرأ
الأدب على أبي محمد بن الخشاب، وصحب جده أبا البركات إسماعيل شيخ الشيوخ فانتفع بصحبته، ولبس منه الخرقة، وتخلق بأخلاقه وتأدب بآدابه، وأخذ علم الحديث ومعرفته من ابن ناصر، وكان كثيرا يحكي عنه من الفوائد الحسنة والنكت الغريبة والمعاني الدقيقة، ومد اللَّه له في العمر حتى حدث بجميع مروياته مرارا، وقصده طلاب العلم من سائر الأقطار، وكانت أوقاته محفوظة، وكلماته معدودة، فلا تمضي له ساعة إلا في قراءة القرآن والذكر والتهجد وقراءة الناس، وكان يمنع الناس من التحديث في مجلسه بلغو أو غيبة إنسان أو ذكر ما لا فائدة فيه، وإذا قرئ عليه الحديث منه أن يقام له، [و] إذا حضر غيره أيضا فلا يقام له، وكان كثير الحج والعمرة والمجاورة بمكة، وكان دائما على سجادته على طهارة مستقبل القبلة، يقرأ القرآن ليلا ونهارا، والمصحف في يده ينظر فيه، وإذا غلبه النوم نام على سجادته، وما استيقظ إلا جدد وضوءا، ولا يخرج من منزله إلا لحضور صلاة الجمعة أو العيد أو جنازة أو زيارة صالح حي أو ميت أو حضور مجلس ذكر، ولم يكن يحضر دور أبناء الدنيا ولا أرباب المناصب في هناء ولا عزاء، وكان مديما للصيام في أكثر أوقاته مع علو سنة، وكان يستعمل السنة في جميع أحواله: في مدخله ومخرجه وملبسه ومأكله ومشربه، ويحب الصالحين، ويقتفي بسيرة السلف عقدا وفعلا، ويعظم العلماء، ويستفيد من الكبير والصغير ويتواضع لجميع الناس وفي سائر أحواله، وكان دائما يقول: نسأل اللَّه [أن] يميتنا مسلمين! وإذا دعا له أحد بطول البقاء قال: أسأل اللَّه الوفاة على الإسلام، ويبكي. وكان ظاهر الخشوع عند الذكر، غزير الدمعة عند قراءة القرآن والحديث وأخبار الصالحين.
وكان إذا أكثر من البكاء يعتذر إلى الحاضرين ويقول: قد كبر سني ورق عظمي فلا أملك دمعتي- نفيا لإظهار الخشوع وخوفا من الرياء وسترا لحاله، وكان الله
سبحانه قد ألبسه رداء جميلا من البهاء وحسن الخلقة وقبول الصورة ونور الطاعة وجلالة العبادة، فكانت له في القلوب منزلة عظيمة، يحبه الكبير والصغير والرجال والنساء، وكان الرجل إذا رآه انتفع برؤيته قبل سماع كلامه، فإذا تكلم كان البهاء والنور على ألفاظه، وتقبلها الأسماع والقلوب، ولا يشبع جليسه من مجالسته، ولقد طفت شرقا وغربا، ورأيت الأئمة والعلماء والزهاد، فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتا، صحبته قريبا من عشرين سنة ليلا ونهارا، وتأدبت به وخدمته، وقرأت عليه القرآن بجميع مروياته وقراءاته، وسمعت منه أكثر مروياته، وقرأت عليه الكتب المطولات، واستفدت منه كثيرا، وكان ثقة صدوقا حجة نبيلا، ركنا من أركان الدين، وعلما من أعلام المسلمين. سمع منه الشريف أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي والقاضي أبو المحاسن عمر بن علي القرشي والحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي وخلق من الأئمة الكبار ورووا عنه وهو حجة.
أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا السَّعِيدُ أبو أحمد عَبْد الوهاب بْن عليّ بْن عَلِيِّ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين بِقِرَاءَةِ شَيْخِنَا أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وعشرين وخمسمائة، أنبأنا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلانَ الْبَزَّازُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ إبراهيم الشافعي، حدثنا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عُبَيْد اللَّهِ النَّرْسِيُّ، أنبأنا روح بن عبادة، حدثنا عثمان بن غياث، حدثنا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَمُرُّ النَّاسُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، وَعَلَيْهِ حَسَكٌ وَكَلالِيبُ وَخَطَاطِيفُ تَخْطَفُ النَّاسَ يَمِينًا وَشِمَالا وَبِجَنْبَتَيْهِ مَلائِكَةٌ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْفَرَسِ الْمُجْرِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا؛ فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلا يَمُوتُونَ ولا يحيون،
وَأَمَّا أُنَاسٌ فَيُؤْخَذُونَ بِذُنُوبٍ وَخَطَايَا؛ قَالَ: فَيَحْتَرِقُونَ فَيَكُونُونَ فَحْمًا ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ فَيُؤْخَذُونَ ضُبَارَاتٍ ضُبَارَاتٍ فَيُقْذَفُونَ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الجنة فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ»
، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا رَأَيْتُمُ الصَّبْغَاءَ شَجَرَةً تَنْبُتُ فِي الْفَيَافِي ، فَيَكُونُ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى شَفَّتِهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! اصْرَفْ وَجْهِي عَنْهَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَهْدُكَ وَذِمَّتُكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؛ قَالَ:
وَعَلَى الصِّرَاطِ ثَلاثُ شَجَرَاتٍ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ آكُلَ مِنْ ثمرها وَأَكُونَ فِي ظَلِّهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: عَهْدُكَ وَذِمَّتُكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؛ قَالَ: ثُمَّ يَرَى أُخْرَى أَحْسَنَ مِنْهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ آكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكُونَ فِي ظَلِّهَا؛ ثُمَّ يَرَى سَوَادَ النَّاسِ وَيَسْمَعُ كَلامَهُمْ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ! قَالَ أَبُو نَضْرَةَ:
فَاخْتَلَفَ أَبُو سَعِيدٍ ورَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُعْطَي الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، وَقَالَ الآخَرُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُعْطَى الْجَنَّةَ وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا» .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَّامِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ قَدِمَ عَلَيْنَا في شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكَنْجَرُوذِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، أنبأنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» .
أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور الأمين بقراءتي عليه قال: أنبأنا أبو القاسم هبة اللَّه بن محمد بن الحصين قراءة عليه، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان، أنبأنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدِ بْن يَحْيَى المزكي، أنبأنا السّرّاج، حدثنا قتيبة، حدثنا سعيد، حدثنا بكر بن نصر عن عمرو بن الحارث قال: بلغني أن رجلا كتب إلى
ابن عمر يسأله عن العلم فكتب إليه أن العلم كبير يا ابن أخ، ولكن إن استطعت أن تلقى اللَّه عز وجل خفيف الظهر من دماء المسلمين كاف اللسان عن أعراضهم خامص البطن من أموالهم لازما لجماعتهم فافعل.
أخبرنا عبد الوهاب الأمين بقراءتي عليه قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري قال: أنشدنا أبو القاسم علي بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الحسن بْن عليك قدم علينا قال: أنشدنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي، أنشدني نصر بن أبي نصر البستي لعلي بن محمد بن بسام:
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
والحادثات موكلات بالفتى ... والمرؤ بعد الحادثات سماع
وسمعت أبا محمد بن الأخضر الحافظ غير مرة يقول: لم يبق ممن طلب الحديث، وعنى به غير عبد الوهاب بن سكينة. وسمعت عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي يقول:
رأيت عبد الوهاب بن سكينة يجيء إلى ابن ناصر ليقرأ عليه، وكان من ظراف طلبة الحديث، وسمعت ابن الأخضر يقول: كان شيخنا ابن ناصر يجلس في داره على سرير لطيف، فكل من حضر عنده يجلس تحت سريره كابن شافع والباقداري وأمثالهم، وما رأيته أجلس معه أحدا على سريره إلا عبد الوهاب بن سكينة. ورأيت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي بن أحمد المقرئ شيخ العراق على الكتب والمفردات التي قرأها عليه شيخنا عبد الوهاب: قرأ علي سيدنا ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب، وكان شيخنا لما قرأ عليه قارب العشرين من عمره- رحمة اللَّه عليهما.
أنبأنا القاضي الفقيه يحيى بن القاسم التكريتي مدرس المدرسة النظامية قال في ذكر
مشايخه: أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي المعروف بابن سكينة كان رجلا عالما عاملا بمذهب الشافعي، كثير المباحثة في مسائله، دائم التكرار لكتاب التنبيه في الفقه حافظا له، كثير الاشتغال بكتاب المهذب والوسيط في الفقه، لا يضيع من وقته شيئا، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على «سلام عليكم» مسألة، لكثرة حرصه على المباحثة في المسائل وتقرير أحكامها.
سمعت عبد الكريم بن المفضل اليزدي بأصبهان وكان ينوب في التدريس بالمدرسة النظامية بها عن ابن الخجندي. وحج في تلك السنة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم من بغداد، فلما دخلنا المدينة اجتمعنا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجاء رجل مستفتيا إلى صدر الدين بن الخجندي فكتب فيها، ثم التفت [الرجل] إلي [وقال] : قد سهى صدر الدين في الفتيا فكتبها على غير الصواب، فنبهه على ذلك حتى يصلحها، ثم ناولنيها فإذا هي كما قال، فقمت إلى صدر الدين وذكرت ذلك له، فقال لي: ومن هذا الرجل؟ فقلت: لا أعرفه، فسأل عنه شيخ الشيوخ [فقال] :
ابن أختي عبد الوهاب وهو فقيه محدث، فقام إليه صدر الدين واعتذر إليه.
سألت شيخنا عبد الوهاب بن علي عن مولده فقال: في ليل الجمعة رابع شعبان سنة تسع عشرة وخمسمائة؛ وتوفي سحرة يوم الاثنين التاسع عشر من شهر ربيع الآخر من سنة سبع وستمائة، وصلى عليه بجامع القصر وبعدة أمكنة بالجانب الغربي، ودفن عند جده شيخ الشيوخ مقابل جامع المنصور، وكان يوما مشهودا.