أَبُو محجن الثقفي.
اختلف فِي اسمه، فقيل: اسمه مالك بْن حبيب .
وقيل عَبْد اللَّهِ بْن حبيب بْن عَمْرو بْن عمير بْن عوف بن عقدة بن غيرة ابن عوف بْن قسي- وَهُوَ ثقيف- الثقفي. وقيل اسمه كنيته. أسلم حين أسلمت ثقيف، وسمع من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه. حدث عنه أَبُو سعد البقال، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أخوف مَا أخاف عَلَى أمتي من بعدي ثلاث: إيمان بالنجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة. وَكَانَ أَبُو محجن هَذَا من الشجعان الأبطال فِي الجاهلية والإسلام، من أولي البأس والنجدة ومن الفرسان البهم، وَكَانَ شاعرًا مطبوعًا كريمًا، إلا أنه كَانَ منهمكًا فِي الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وَكَانَ أَبُو بَكْر الصديق يستعين به، وجلده عُمَر بْن الْخَطَّابِ [فِي الخمر] مرارًا، ونفاه إِلَى جزيرة فِي البحر، وبعث معه رَجُلا، فهرب منه ولحق بسعد بْن أبي وقاص بالقادسية، وَهُوَ محارب للفرس، وَكَانَ قد هم بقتل الرجل الَّذِي بعثه معه عمر، فأحس الرجل بذلك، فخرج فارًا فلحق بعمر فأخبره خبره، فكتب عمر إِلَى سعد [بْن أبي وقاص] بحبس أبي محجن، فحبسه. فلما كَانَ؟ يوم [قس] الناطف بالقادسية، والتحم القتال، سأل أَبُو محجن امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرس سعد،
وعاهدها أنه إن سلم عاد إِلَى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة [عَلَيْهِ] ، فخلت سبيله، وأعطته الفرس، فقاتل [أيام القادسية] . وأبلى [فِيهَا] بلاءً حسنًا، ثم عاد إِلَى محبسه.
وكانت بالقادسية أيام مشهورة، منها يوم [قس] الناطف، ومنها يوم أرماث، ويوم أغواث، ويوم الكتائب، وغيرها. وكانت قصة أبي محجن في يوم منها، ويومئذ قال:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت ... مصارع دوني [قد] تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
وقد شف جسمي أنني كل شارق ... أعالج كبلًا مصمتًا قد برانيا
فلله دري يوم أترك موثقًا ... ويذهل عني أسرتي ورجاليا
حبسنا عَنِ الحرب العوان وقد بدت ... وأعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَعْدٍ، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أحمد بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَدَّ أَبَا مِحْجَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِي مَرَّاتٍ وذكر ذلك عبد الرزاق فِي باب من حد من الصحابة فِي الخمر، [قَالَ: وأخبرنا معمر، عَنْ أيوب، عَنِ ابن سيرين، قال:
كَانَ أَبُو محجن الثقفي لا يزال يجلد فِي الخمر] ، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كَانَ يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد- أَوْ إِلَى امرأة سعد- يقول لَهَا:
إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله وحملته عَلَى هَذَا الفرس، ودفعت إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل، وأنشأ يقول:
كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت ... مصارع دوني [قد] تصم المناديا
فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد، فحلت عنه قيوده، وحمل عَلَى فرس كَانَ فِي الدار، وأعطى سلاحًا، ثم خرج يركض حَتَّى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل عَلَى رجل فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد فجعل [منه] يتعجب ويقول: من ذلك الفارس؟ فلم يلبثوا إلا يسيرًا حَتَّى هزمهم اللَّه ورد السلاح، وجعل رجليه فِي القيود كما كَانَ، فجاء سعد، فقالت له امرأته- أَوْ أم ولده:
كيف كَانَ قتالكم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقينا ولقينا، حَتَّى بعث اللَّه رَجُلا عَلَى فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن فِي القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن. فقالت: والله إنه لا بو محجن، كَانَ من أمره كذا وكذا ...
فقصت عَلَيْهِ قصته، فدعا به، وحل قيوده، وَقَالَ: والله لا نجلدك عَلَى الخمر أبدًا. قَالَ أَبُو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدًا، كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. قَالَ: فلم يشربها بعد ذلك.
وروى ابْن الأعرابي، عَنِ المفضل الضبي، قَالَ: قَالَ أَبُو محجن في تركه الخمر:
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تهلك الرجل الحليما
فلا والله أشر بها حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما
وأنشد غيره هذه الأبيات لقيس بْن عَاصِم.
ومن رواية أهل الأخبار أن ابنًا لأبي محجن الثقفي دخل عَلَى معاوية، فَقَالَ له معاوية: أبوك الّذي يقول:
إذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتى عروقها
ولا تدفننّي بالفلاة فإنني ... أخاف إذا مَا مت أن لا أذوقها
فَقَالَ له ابْن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هَذَا من شعره، فقال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تسأل الناس عَنْ مالي وكثرته ... وسائل الناس عَنْ حزمي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
قد أركب الهول مسدولًا عساكره ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
أعطي السنان غداة الروع حصته ... وحامل الرمح أرويه من العلق
وزاد بعضهم في هذه الأبيات:
وأطعن الطعنة النجلاء لو علموا ... وأحفظ السر فيه ضربة العنق
عف المطالب عما لست نائله ... وإن ظلمت شديد الحقد والحنق
وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكر وراء المجحر الفرق
والقوم أعلم أني من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديدة الشفق
قد يعسر المرء حينًا وَهُوَ ذو كرم ... وقد يثوب سوام العاجز الحمق
سيكثر المال يومًا بعد قلته ... ويكتسي العود بعد اليبس بالورق
فَقَالَ [له] معاوية: لئن كنا أسأنا القول لنحسنن لك الصفد، وأجزل جائزته. وَقَالَ: إذا ولدت النساء فلتلدن مثلك. وزعم هيثم بْن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن الثقفي بأذربيجان- أَوْ قَالَ فِي نواحي جرجان، وقد نبتت عَلَيْهِ ثلاثة أصول كرم، وقد طالت وأنمرت، وهي معروشة عَلَى قبره، ومكتوب عَلَى القبر: هَذَا قبر أبي محجن الثقفي. قَالَ: فجعلت أتعجب، وأذكر قوله: إذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة- وذكر البيت.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ أَتَي سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنَ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، وَكَانَ سَعْدٌ بِهِ جِرَاحَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ عَلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، وَرَفَعَ سَعْدٌ فَوْقَ الْعُذَيْبِ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا
فَقَالَ لابْنَةِ خَصْفَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: وَيْحَكِ حِلِّينِي وَلَكِ عَهْدُ اللَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، وَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي، فخلته
فَوَثَبَ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ الرُّمْحَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى النَّاسَ فَجَعَلَ لا يَحْمِلُ فِي نَاحِيَةٍ إِلا هَزَمَهُمْ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ، وَسَعْدٌ يَنْظُرُ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الضَّبْرُ ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ. فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوَّ رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْقَيْدِ، فَأَخْبَرَتِ ابْنَةُ خَصْفَةَ سَعْدًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْلَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى فِي هَذَا الْيَوْمِ، لا أَضْرِبُ رَجُلا أَبْلَى فِي الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى. قَالَ:
فَخَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْتُ أَشْرَبُهَا إِذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذ بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا
اختلف فِي اسمه، فقيل: اسمه مالك بْن حبيب .
وقيل عَبْد اللَّهِ بْن حبيب بْن عَمْرو بْن عمير بْن عوف بن عقدة بن غيرة ابن عوف بْن قسي- وَهُوَ ثقيف- الثقفي. وقيل اسمه كنيته. أسلم حين أسلمت ثقيف، وسمع من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه. حدث عنه أَبُو سعد البقال، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أخوف مَا أخاف عَلَى أمتي من بعدي ثلاث: إيمان بالنجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة. وَكَانَ أَبُو محجن هَذَا من الشجعان الأبطال فِي الجاهلية والإسلام، من أولي البأس والنجدة ومن الفرسان البهم، وَكَانَ شاعرًا مطبوعًا كريمًا، إلا أنه كَانَ منهمكًا فِي الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وَكَانَ أَبُو بَكْر الصديق يستعين به، وجلده عُمَر بْن الْخَطَّابِ [فِي الخمر] مرارًا، ونفاه إِلَى جزيرة فِي البحر، وبعث معه رَجُلا، فهرب منه ولحق بسعد بْن أبي وقاص بالقادسية، وَهُوَ محارب للفرس، وَكَانَ قد هم بقتل الرجل الَّذِي بعثه معه عمر، فأحس الرجل بذلك، فخرج فارًا فلحق بعمر فأخبره خبره، فكتب عمر إِلَى سعد [بْن أبي وقاص] بحبس أبي محجن، فحبسه. فلما كَانَ؟ يوم [قس] الناطف بالقادسية، والتحم القتال، سأل أَبُو محجن امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرس سعد،
وعاهدها أنه إن سلم عاد إِلَى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة [عَلَيْهِ] ، فخلت سبيله، وأعطته الفرس، فقاتل [أيام القادسية] . وأبلى [فِيهَا] بلاءً حسنًا، ثم عاد إِلَى محبسه.
وكانت بالقادسية أيام مشهورة، منها يوم [قس] الناطف، ومنها يوم أرماث، ويوم أغواث، ويوم الكتائب، وغيرها. وكانت قصة أبي محجن في يوم منها، ويومئذ قال:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت ... مصارع دوني [قد] تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
وقد شف جسمي أنني كل شارق ... أعالج كبلًا مصمتًا قد برانيا
فلله دري يوم أترك موثقًا ... ويذهل عني أسرتي ورجاليا
حبسنا عَنِ الحرب العوان وقد بدت ... وأعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَعْدٍ، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أحمد بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَدَّ أَبَا مِحْجَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِي مَرَّاتٍ وذكر ذلك عبد الرزاق فِي باب من حد من الصحابة فِي الخمر، [قَالَ: وأخبرنا معمر، عَنْ أيوب، عَنِ ابن سيرين، قال:
كَانَ أَبُو محجن الثقفي لا يزال يجلد فِي الخمر] ، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كَانَ يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد- أَوْ إِلَى امرأة سعد- يقول لَهَا:
إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله وحملته عَلَى هَذَا الفرس، ودفعت إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل، وأنشأ يقول:
كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت ... مصارع دوني [قد] تصم المناديا
فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد، فحلت عنه قيوده، وحمل عَلَى فرس كَانَ فِي الدار، وأعطى سلاحًا، ثم خرج يركض حَتَّى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل عَلَى رجل فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد فجعل [منه] يتعجب ويقول: من ذلك الفارس؟ فلم يلبثوا إلا يسيرًا حَتَّى هزمهم اللَّه ورد السلاح، وجعل رجليه فِي القيود كما كَانَ، فجاء سعد، فقالت له امرأته- أَوْ أم ولده:
كيف كَانَ قتالكم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقينا ولقينا، حَتَّى بعث اللَّه رَجُلا عَلَى فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن فِي القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن. فقالت: والله إنه لا بو محجن، كَانَ من أمره كذا وكذا ...
فقصت عَلَيْهِ قصته، فدعا به، وحل قيوده، وَقَالَ: والله لا نجلدك عَلَى الخمر أبدًا. قَالَ أَبُو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدًا، كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. قَالَ: فلم يشربها بعد ذلك.
وروى ابْن الأعرابي، عَنِ المفضل الضبي، قَالَ: قَالَ أَبُو محجن في تركه الخمر:
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تهلك الرجل الحليما
فلا والله أشر بها حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما
وأنشد غيره هذه الأبيات لقيس بْن عَاصِم.
ومن رواية أهل الأخبار أن ابنًا لأبي محجن الثقفي دخل عَلَى معاوية، فَقَالَ له معاوية: أبوك الّذي يقول:
إذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتى عروقها
ولا تدفننّي بالفلاة فإنني ... أخاف إذا مَا مت أن لا أذوقها
فَقَالَ له ابْن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هَذَا من شعره، فقال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تسأل الناس عَنْ مالي وكثرته ... وسائل الناس عَنْ حزمي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
قد أركب الهول مسدولًا عساكره ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
أعطي السنان غداة الروع حصته ... وحامل الرمح أرويه من العلق
وزاد بعضهم في هذه الأبيات:
وأطعن الطعنة النجلاء لو علموا ... وأحفظ السر فيه ضربة العنق
عف المطالب عما لست نائله ... وإن ظلمت شديد الحقد والحنق
وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكر وراء المجحر الفرق
والقوم أعلم أني من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديدة الشفق
قد يعسر المرء حينًا وَهُوَ ذو كرم ... وقد يثوب سوام العاجز الحمق
سيكثر المال يومًا بعد قلته ... ويكتسي العود بعد اليبس بالورق
فَقَالَ [له] معاوية: لئن كنا أسأنا القول لنحسنن لك الصفد، وأجزل جائزته. وَقَالَ: إذا ولدت النساء فلتلدن مثلك. وزعم هيثم بْن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن الثقفي بأذربيجان- أَوْ قَالَ فِي نواحي جرجان، وقد نبتت عَلَيْهِ ثلاثة أصول كرم، وقد طالت وأنمرت، وهي معروشة عَلَى قبره، ومكتوب عَلَى القبر: هَذَا قبر أبي محجن الثقفي. قَالَ: فجعلت أتعجب، وأذكر قوله: إذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة- وذكر البيت.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ أَتَي سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنَ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، وَكَانَ سَعْدٌ بِهِ جِرَاحَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ عَلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، وَرَفَعَ سَعْدٌ فَوْقَ الْعُذَيْبِ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا
فَقَالَ لابْنَةِ خَصْفَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: وَيْحَكِ حِلِّينِي وَلَكِ عَهْدُ اللَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، وَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي، فخلته
فَوَثَبَ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ الرُّمْحَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى النَّاسَ فَجَعَلَ لا يَحْمِلُ فِي نَاحِيَةٍ إِلا هَزَمَهُمْ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ، وَسَعْدٌ يَنْظُرُ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الضَّبْرُ ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ. فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوَّ رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْقَيْدِ، فَأَخْبَرَتِ ابْنَةُ خَصْفَةَ سَعْدًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْلَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى فِي هَذَا الْيَوْمِ، لا أَضْرِبُ رَجُلا أَبْلَى فِي الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَى. قَالَ:
فَخَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْتُ أَشْرَبُهَا إِذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذ بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا