إسحاق بن إبراهيم بن ميمون، أبو محمد التميمي، المعروف والده بالموصلي:
يقال إنه ولد في سنة خمسين ومائة، وقيل ولد بعد ذلك، وكتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهشيم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، وطبقتهم. وأخذ الأدب عن أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة، ونحوهما. وبرع في علم الغناء وغلب عليه فنسب إليه، وكان حسن المعرفة، حلو النادرة، مليح المحاضرة، جيد الشعر، مذكورا بالسخاء، معظما عند الخلفاء، وهو صاحب «كتاب الأغاني» الذي يرويه عنه ابنه حماد، وقد روى عنه أيضا الزبير بن بكار، وأبو العيناء، وميمون بن هارون وغيرهم.
أخبرني أحمد بن يعقوب الكاتب، حَدَّثَنِي جدي محمد بن عبيد الله بن قفرجل، حدّثنا محمّد بن يحيى، حدّثنا أبو العيناء، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:
جئت أبا معاوية الضرير ومعي مائة حديث أريد أن أقرأها عليه، فوجدت في دهليزه رجلا ضريرا، فقال لي: إنه قد جعل الإذن عليه اليوم إلي لينفعني، وأنت رجل جليل، فقلت له: معي مائة حديث، فأنا أهب لك عنها مائة درهم فقال: قد رضيت، ودخل واستأذن لي فدخلت، وقرأت المائة حديث، فقال لي أبو معاوية: الذي ضمنته لهذا يأخذه من أذناب الناس، وأنت من رؤسائهم، وهو ضعيف معيل، وأنا أحب منفعته.
قلت: قد جعلتها له مائة دينار. فقال: أحسن الله جزاءك، فدفعتها إليه فأغنيته.
حدثني أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي، حدثنا علي بن أحمد بن إبراهيم السرخاباذي، حدّثنا أحمد بن فارس بن حبيب، حدثني محمد بن عبد الله الدوري- بمدينة السّلام- حدّثني علي بن الحسين بن الهيثم، حدثنا الحسين بن علي المرداسي قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: قال لي أبي: قلت ليحيى بن خالد أريد أن تكلم لي سفيان بن عيينة ليحدّثني أحاديث، فقال: نعم إذا جاءنا فأذكرني، قال: فجاءه سفيان بن عيينة، فلما جلس أومأت إلى يحيى فقال له: يا أبا محمد إسحاق بن إبراهيم من أهل العلم والأدب، وهو مكره على ما تعلمه منه.
فقال سفيان: ما تريد بهذا الكلام؟ فقال: تحدثه بأحاديث، قال: فتكره ذلك، فقال يحيى: أقسمت عليك إلّا ما فعلت. قال: نعم فليبكر إليّ، قال: فقلت ليحيى: افرض لي عليه شيئا، فقال له: يا أبا محمد افرض له شيئا، قال: نعم، قد جعلت له خمسة أحاديث، قال زده. قال: قد جعلتها سبعة. قال: هل لك أن تجعلها عشرة؟ قال: نعم.
قال إسحاق: فبكرت إليه واستأذنت ودخلت فجلست بين يديه، وأخرج كتابه فأملى عليّ عشرة أحاديث. فلما فرغ قلت له: يا أبا محمد إن المحدِّث يسهو ويغفل والمحدَّث أيضا كذلك، فإن رأيت أن أقرأ عليك ما سمعته منك. قال: اقرأ فديتك، فقرأت عليه، وقلت له أيضا: إن القارئ ربما أغفل طرفه الحرف. والمقروء عليه ربما ذهب عنه الحرف، فأنا في حل أن أروي جميع ما سمعته منك؟ قال: نعم فديتك أنت والله فوق أن تستشفع أو يشفع لك، فتعال كل يوم، فلوددت أن سائر أصحاب الحديث كانوا مثلك.
حدّثنا حسن بن علي المقنعي، عن محمد بن موسى الكاتب قال: أخبرني يوسف ابن يحيى بن علي المنجم، عن أبيه، عن جده، عن إسحاق. قال: بقيت دهرا من
دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم أو غيره من المحدثين فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم آتي إلى منصور زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شُهْدة فآخذ منها صوتا أو صوتين. ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما وأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه. فإذا كان العشي رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
وقال محمد: أَخْبَرَنِي الصولي قَالَ: حَدَّثَنِي عبد اللَّه بن المعتز، حدثني أبو عبد الله الهشامي. قال: اعتبر أهلنا على إسحاق بأن دعوه ومدوا ستارة وأقعدوا كاتبين ضابطين بحيث لا يراهما إسحاق، وقالوا: كلما غنت الستارة صوتا فتكلم عليه إسحاق، فاكتبا الصوت، واكتبا لفظه فيه، وجعل إسحاق كلما سمع صوتا أخبر بالشعر لمن هو، ونسب الصوت وذكر جميع من تغنى فيه، وخبرا إن كان له خبر، كتب ذلك كله وحفظ. ثم دعوا إسحاق بعد مدة طويلة وضربوا ستارة وأمروا من خلفها أن يغنين بمثل ما كن غنين به في ذلك اليوم، ففعلن وابتدأ إسحاق يتكلم في الغناء بمثل ما كان تكلم به، ما خرم حرفا. قال: فعلموا وعلم الناس أنه لا يقول إلا صوابا وحقا. وعجبوا منه.
حدثني علي بن المحسن قَالَ: وجدت في كتاب جدي علي بن مُحَمَّد بن أبي الفهم التنوخي، حدّثنا الحرمي بن أبي العلاء، حدثنا أبو خالد بن يزيد بن محمد المهلبي قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: تخففت، فحملت ثمانية أحمال، ستة عشر صندوقا! قال: فعجبت فقلت: كم معك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوق واحد، قلت: ليس إلا؟ قال: وتستقل صندوقا من حق! قال أبو خالد:
وسمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: رأيت في منامي كأن جريرا ناولني كبة من شعر فأدخلتها في فمي، فقال بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء، قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوما إلى أبي فاستنشدني من شعري فأنشدته:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ورافع ضيمي حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي السماء قاعدا غير قائم
قال: فجعل مروان يستحسن ذلك ويقول لأبي: إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام!
أخبرني أحمد بن محمّد الكاتب، حَدَّثَنِي جدي محمد بن عبيد الله بن قفرجل، حدّثنا محمّد بن يحيى، حدّثنا محمّد بن يزيد المبرد، حدّثنا حماد بْن إسحاق بْن إِبْرَاهِيم، حَدَّثَنِي أَبِي قال: عوتب أبو عبيدة فيما كان يعطيني من العلم، قال: وما ينفعه مما أعطيه، إنما ألقيه في وعاء منخرق الأسفل، كلما ألقيت في أعلاه شيئا خرج من أسفله، فلقيت أبا عبيدة فقلت له: أنا عندك وعاء منخرق، حتى قلت ما قلت؟
[قال ] : وأنت لا ترضى أن يأخذ الناس الكلام الذي لا يضرك وتأخذ أنت العلم وتسكت، ولا تجعل حجة علي.
حدثنا محمد بن عبد الواحد الأكبر، أخبرنا محمّد بن العبّاس الخزاز، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عيسى المكي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القاسم بن خلاد قَالَ: قال إسحاق الموصلي: كان في قلب محمد بن زبيدة عليَّ شيء، فأهديت إليه جارية ومعها هدية، فردها فكتبت إليه:
هتكت الضمير برد اللطف ... وكشفت أمرك لي فانكشف
فإن كنت تحقد شيئا مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف
وجد لي بالعفو عن زلتي ... فبالفضل يأخذ أهل الشرف
فلم يفعل، فكتبت إليه:
أتيت ذنبا عظيما ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بفضلك عنه
فعاد إلى الجميل.
أَخْبَرَنِي أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عبد الواحد المروروذي قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن أحمد المقرئ، حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى النديم، حدّثنا الحسين بن يحيى الكاتب، حدثنا إسحاق الموصلي. قال: أنشدت الأصمعي شعرا لي على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منها الصدى ويشفى الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
قال لي: هذا والله الديباج الخسرواني، فقلت له: إنه ابن ليلته، فقال: لا جرم أن
أثر التوليد فيه! فقلت له: لا جرم أن أثر الحسد فيك! قال أبو بكر: وقد اعجب هذا المعنى إسحاق فردده في شعره فقال:
أيها الظبي الغرير ... هل لنا منك مجير
إن ما نولتنا من ... ك وإن قل كثير
وكان إسحاق يظن أنه ما سبق إلى هذا المعنى حتى أنشد لأعرابي:
قفي ودعينا يا مليح بنظرة ... فقد حان منا يا مليح رحيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل منك ليس قليل
قال: فحلف إسحاق أنه ما كان سمعه.
أخبرني الحسين بن علي الصيمري، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن موسى الكاتب، أخبرني محمّد بن يحيى، حدثني عون بن محمد الكندي، أن محمد بن عطية العطوي الشاعر حدثه أنه كان عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع الناس فيه.
فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى فقال: أعز الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا. قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوي: فالتفت إلي يحيى بن أكثم فقال: جوابه في هذا عليك. قال: وكان العطوي من أهل الجدل. فقلت: نعم أعز الله القاضي، الجواب علي. ثم أقبلت على إسحاق فقلت: يا أبا محمد أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ قال: لا، قلت: أفأنت في اللغة وعلم الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا.
قلت: أفأنت الهذيل والنظام؟ قال: لا. قلت: أفأنت في الفقه كالقاضي؟ قال: لا.
قلت: أفأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا. قلت: فمن هاهنا نسبت إلى ما نسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه ولا شبيه، وأنت في غيره جون رؤساء أهله، فضحك وقام فانصرف، فقال لي يحيى بن أكثم: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق. وإنه لممن يقل في الزمان نظيره.
قرأت على الحسن بن على الجوهري، عن أَبِي عُبَيْد اللَّهِ المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن يحيى النديم، حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل قال: ما سمعت ابن
الأعرابي يصف أحدا بمثل ما يصف به إسحاق من العلم والصدق والحفظ، وكان كثيرا ما يقول: أسمعتم أحسن من ابتدائه في قوله:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل؟
هل تعرفون من شكا نومه بمثل هذا اللفظ الحسن.
وقال محمد بن يحيى: سمعت إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول: كان إسحاق الموصلي ثقة صدوقا عالما، وما سمعت منه شيئا، ولوددت أني سمعت منه وما كان يفوتني منه شيء لو أردته. قال محمد: وسمعت أحمد بن يحيى النحوي يقول نحو هذا القول.
وقال المرزباني: أَخْبَرَنِي يوسف بن يحيى بن علي المنجم، عن أبيه قال: أخبرني أحمد بن القاسم الهاشمي، عن إسحاق بن إبراهيم. قال: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أقعد عشرا عن يمينه، وعشرا عن يساره معهن العيدان يضربن بها، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق أتسمع خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لإبراهيم بن المهدي: هل تسمع خطأ؟ قال: لا. فأعاد علي السؤال. فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر، فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين مر الجواري اللواتي على الميمنة أن يمسكن، فأمرهن فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ فتسمع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ. فقال عند ذلك المأمون: يا إبراهيم لا تمار إسحاق بعد اليوم، فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا، وعشرين حلقا، لجدير بأن لا تماريه! فقال: صدقت يا أمير المؤمنين.
أخبرنا تركان بن الفرج الباقلاني، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُقْسِمٍ العطار- إملاء- حدثنا أبو العباس- وهو أحمد بن يحيى ثعلب. قال: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: استبطأني أبو زياد- يعنى الكلابي- فقال:
نزورك يا ابن الموصليّ لحاجة ... ونفعل يا ابن الموصليّ قليل
قلت: وفي غير هذه الرواية بيت ثان وهو:
فما لك عندي من فعال أذمه ... ومالك ما يثني عليك جميل
فأعتبته.
أَخْبَرَنِي أَبُو طَالِبٍ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَاتِبُ قَالَ: أنشدنا أحمد بن سعيد- يعنى الدمشقي- قال: أنشدني الزبير- هو ابن بكار- قال: أنشدني أبو سليمان إدريس بن أبي حفصة يمدح إسحاق بن إبراهيم التميمي:
إذا الرجال جهلوا المكارما ... كان بها ابن الموصلي عالما
أبقاك ذو العرش بقاء دائما ... لو كنت أدركت الجواد حاتما
كان نداه لنداك خادما ... فقد جعلت للكرام خاتما
قال: وأنشدني أيضا في إسحاق يمدحه:
لقد ذهب المعروف إلّا بقية ... بها أنت يا ابن الموصلي تقوم
إذا ما كريم غير الدهر وده ... فودك يا ابن الموصلي يدوم
تطيب بك الدنيا وليس بزائل ... من الناس فيها ما بقيت كريم
فما عشت في الدنيا فللعيش لذة ... وطيب وإن ودعت فهو ذميم
إذا كان في عود وصوم تشينه ... فعودك عود ليس فيه وصوم
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصيرفي ومحمد بن أحمد بن شعيب الروياني قالا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن شاذان، حدّثنا ابن دريد، أخبرنا عبد الأول ابن مريد، عن أبيه. قال: مات إسحاق بن إبراهيم الموصلي سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات فيها إسحاق بن إبراهيم الطاهري. قال: فأنشدني في ذلك الوقت رجل يعرف بابن سبابة:
تولى الموصليّ وقد تولت ... بشاشات المعازف والقيان
وأي غضارة تبقى فتبقي ... حياة الموصلي على الزمان
ستبكيه المعازف والملاهي ... وتسعدهن عاتقة الدنان
وتبكيه الغوية يوم وَلى ... ولا تبكيه تالية القران
يقال إنه ولد في سنة خمسين ومائة، وقيل ولد بعد ذلك، وكتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهشيم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، وطبقتهم. وأخذ الأدب عن أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة، ونحوهما. وبرع في علم الغناء وغلب عليه فنسب إليه، وكان حسن المعرفة، حلو النادرة، مليح المحاضرة، جيد الشعر، مذكورا بالسخاء، معظما عند الخلفاء، وهو صاحب «كتاب الأغاني» الذي يرويه عنه ابنه حماد، وقد روى عنه أيضا الزبير بن بكار، وأبو العيناء، وميمون بن هارون وغيرهم.
أخبرني أحمد بن يعقوب الكاتب، حَدَّثَنِي جدي محمد بن عبيد الله بن قفرجل، حدّثنا محمّد بن يحيى، حدّثنا أبو العيناء، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:
جئت أبا معاوية الضرير ومعي مائة حديث أريد أن أقرأها عليه، فوجدت في دهليزه رجلا ضريرا، فقال لي: إنه قد جعل الإذن عليه اليوم إلي لينفعني، وأنت رجل جليل، فقلت له: معي مائة حديث، فأنا أهب لك عنها مائة درهم فقال: قد رضيت، ودخل واستأذن لي فدخلت، وقرأت المائة حديث، فقال لي أبو معاوية: الذي ضمنته لهذا يأخذه من أذناب الناس، وأنت من رؤسائهم، وهو ضعيف معيل، وأنا أحب منفعته.
قلت: قد جعلتها له مائة دينار. فقال: أحسن الله جزاءك، فدفعتها إليه فأغنيته.
حدثني أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي، حدثنا علي بن أحمد بن إبراهيم السرخاباذي، حدّثنا أحمد بن فارس بن حبيب، حدثني محمد بن عبد الله الدوري- بمدينة السّلام- حدّثني علي بن الحسين بن الهيثم، حدثنا الحسين بن علي المرداسي قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: قال لي أبي: قلت ليحيى بن خالد أريد أن تكلم لي سفيان بن عيينة ليحدّثني أحاديث، فقال: نعم إذا جاءنا فأذكرني، قال: فجاءه سفيان بن عيينة، فلما جلس أومأت إلى يحيى فقال له: يا أبا محمد إسحاق بن إبراهيم من أهل العلم والأدب، وهو مكره على ما تعلمه منه.
فقال سفيان: ما تريد بهذا الكلام؟ فقال: تحدثه بأحاديث، قال: فتكره ذلك، فقال يحيى: أقسمت عليك إلّا ما فعلت. قال: نعم فليبكر إليّ، قال: فقلت ليحيى: افرض لي عليه شيئا، فقال له: يا أبا محمد افرض له شيئا، قال: نعم، قد جعلت له خمسة أحاديث، قال زده. قال: قد جعلتها سبعة. قال: هل لك أن تجعلها عشرة؟ قال: نعم.
قال إسحاق: فبكرت إليه واستأذنت ودخلت فجلست بين يديه، وأخرج كتابه فأملى عليّ عشرة أحاديث. فلما فرغ قلت له: يا أبا محمد إن المحدِّث يسهو ويغفل والمحدَّث أيضا كذلك، فإن رأيت أن أقرأ عليك ما سمعته منك. قال: اقرأ فديتك، فقرأت عليه، وقلت له أيضا: إن القارئ ربما أغفل طرفه الحرف. والمقروء عليه ربما ذهب عنه الحرف، فأنا في حل أن أروي جميع ما سمعته منك؟ قال: نعم فديتك أنت والله فوق أن تستشفع أو يشفع لك، فتعال كل يوم، فلوددت أن سائر أصحاب الحديث كانوا مثلك.
حدّثنا حسن بن علي المقنعي، عن محمد بن موسى الكاتب قال: أخبرني يوسف ابن يحيى بن علي المنجم، عن أبيه، عن جده، عن إسحاق. قال: بقيت دهرا من
دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم أو غيره من المحدثين فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم آتي إلى منصور زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شُهْدة فآخذ منها صوتا أو صوتين. ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما وأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه. فإذا كان العشي رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
وقال محمد: أَخْبَرَنِي الصولي قَالَ: حَدَّثَنِي عبد اللَّه بن المعتز، حدثني أبو عبد الله الهشامي. قال: اعتبر أهلنا على إسحاق بأن دعوه ومدوا ستارة وأقعدوا كاتبين ضابطين بحيث لا يراهما إسحاق، وقالوا: كلما غنت الستارة صوتا فتكلم عليه إسحاق، فاكتبا الصوت، واكتبا لفظه فيه، وجعل إسحاق كلما سمع صوتا أخبر بالشعر لمن هو، ونسب الصوت وذكر جميع من تغنى فيه، وخبرا إن كان له خبر، كتب ذلك كله وحفظ. ثم دعوا إسحاق بعد مدة طويلة وضربوا ستارة وأمروا من خلفها أن يغنين بمثل ما كن غنين به في ذلك اليوم، ففعلن وابتدأ إسحاق يتكلم في الغناء بمثل ما كان تكلم به، ما خرم حرفا. قال: فعلموا وعلم الناس أنه لا يقول إلا صوابا وحقا. وعجبوا منه.
حدثني علي بن المحسن قَالَ: وجدت في كتاب جدي علي بن مُحَمَّد بن أبي الفهم التنوخي، حدّثنا الحرمي بن أبي العلاء، حدثنا أبو خالد بن يزيد بن محمد المهلبي قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: تخففت، فحملت ثمانية أحمال، ستة عشر صندوقا! قال: فعجبت فقلت: كم معك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوق واحد، قلت: ليس إلا؟ قال: وتستقل صندوقا من حق! قال أبو خالد:
وسمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: رأيت في منامي كأن جريرا ناولني كبة من شعر فأدخلتها في فمي، فقال بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء، قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوما إلى أبي فاستنشدني من شعري فأنشدته:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ورافع ضيمي حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي السماء قاعدا غير قائم
قال: فجعل مروان يستحسن ذلك ويقول لأبي: إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام!
أخبرني أحمد بن محمّد الكاتب، حَدَّثَنِي جدي محمد بن عبيد الله بن قفرجل، حدّثنا محمّد بن يحيى، حدّثنا محمّد بن يزيد المبرد، حدّثنا حماد بْن إسحاق بْن إِبْرَاهِيم، حَدَّثَنِي أَبِي قال: عوتب أبو عبيدة فيما كان يعطيني من العلم، قال: وما ينفعه مما أعطيه، إنما ألقيه في وعاء منخرق الأسفل، كلما ألقيت في أعلاه شيئا خرج من أسفله، فلقيت أبا عبيدة فقلت له: أنا عندك وعاء منخرق، حتى قلت ما قلت؟
[قال ] : وأنت لا ترضى أن يأخذ الناس الكلام الذي لا يضرك وتأخذ أنت العلم وتسكت، ولا تجعل حجة علي.
حدثنا محمد بن عبد الواحد الأكبر، أخبرنا محمّد بن العبّاس الخزاز، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عيسى المكي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القاسم بن خلاد قَالَ: قال إسحاق الموصلي: كان في قلب محمد بن زبيدة عليَّ شيء، فأهديت إليه جارية ومعها هدية، فردها فكتبت إليه:
هتكت الضمير برد اللطف ... وكشفت أمرك لي فانكشف
فإن كنت تحقد شيئا مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف
وجد لي بالعفو عن زلتي ... فبالفضل يأخذ أهل الشرف
فلم يفعل، فكتبت إليه:
أتيت ذنبا عظيما ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بفضلك عنه
فعاد إلى الجميل.
أَخْبَرَنِي أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عبد الواحد المروروذي قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن أحمد المقرئ، حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى النديم، حدّثنا الحسين بن يحيى الكاتب، حدثنا إسحاق الموصلي. قال: أنشدت الأصمعي شعرا لي على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منها الصدى ويشفى الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
قال لي: هذا والله الديباج الخسرواني، فقلت له: إنه ابن ليلته، فقال: لا جرم أن
أثر التوليد فيه! فقلت له: لا جرم أن أثر الحسد فيك! قال أبو بكر: وقد اعجب هذا المعنى إسحاق فردده في شعره فقال:
أيها الظبي الغرير ... هل لنا منك مجير
إن ما نولتنا من ... ك وإن قل كثير
وكان إسحاق يظن أنه ما سبق إلى هذا المعنى حتى أنشد لأعرابي:
قفي ودعينا يا مليح بنظرة ... فقد حان منا يا مليح رحيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل منك ليس قليل
قال: فحلف إسحاق أنه ما كان سمعه.
أخبرني الحسين بن علي الصيمري، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن موسى الكاتب، أخبرني محمّد بن يحيى، حدثني عون بن محمد الكندي، أن محمد بن عطية العطوي الشاعر حدثه أنه كان عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع الناس فيه.
فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى فقال: أعز الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا. قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوي: فالتفت إلي يحيى بن أكثم فقال: جوابه في هذا عليك. قال: وكان العطوي من أهل الجدل. فقلت: نعم أعز الله القاضي، الجواب علي. ثم أقبلت على إسحاق فقلت: يا أبا محمد أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ قال: لا، قلت: أفأنت في اللغة وعلم الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا.
قلت: أفأنت الهذيل والنظام؟ قال: لا. قلت: أفأنت في الفقه كالقاضي؟ قال: لا.
قلت: أفأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا. قلت: فمن هاهنا نسبت إلى ما نسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه ولا شبيه، وأنت في غيره جون رؤساء أهله، فضحك وقام فانصرف، فقال لي يحيى بن أكثم: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق. وإنه لممن يقل في الزمان نظيره.
قرأت على الحسن بن على الجوهري، عن أَبِي عُبَيْد اللَّهِ المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن يحيى النديم، حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل قال: ما سمعت ابن
الأعرابي يصف أحدا بمثل ما يصف به إسحاق من العلم والصدق والحفظ، وكان كثيرا ما يقول: أسمعتم أحسن من ابتدائه في قوله:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل؟
هل تعرفون من شكا نومه بمثل هذا اللفظ الحسن.
وقال محمد بن يحيى: سمعت إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول: كان إسحاق الموصلي ثقة صدوقا عالما، وما سمعت منه شيئا، ولوددت أني سمعت منه وما كان يفوتني منه شيء لو أردته. قال محمد: وسمعت أحمد بن يحيى النحوي يقول نحو هذا القول.
وقال المرزباني: أَخْبَرَنِي يوسف بن يحيى بن علي المنجم، عن أبيه قال: أخبرني أحمد بن القاسم الهاشمي، عن إسحاق بن إبراهيم. قال: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أقعد عشرا عن يمينه، وعشرا عن يساره معهن العيدان يضربن بها، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق أتسمع خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لإبراهيم بن المهدي: هل تسمع خطأ؟ قال: لا. فأعاد علي السؤال. فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر، فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين مر الجواري اللواتي على الميمنة أن يمسكن، فأمرهن فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ فتسمع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ. فقال عند ذلك المأمون: يا إبراهيم لا تمار إسحاق بعد اليوم، فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا، وعشرين حلقا، لجدير بأن لا تماريه! فقال: صدقت يا أمير المؤمنين.
أخبرنا تركان بن الفرج الباقلاني، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُقْسِمٍ العطار- إملاء- حدثنا أبو العباس- وهو أحمد بن يحيى ثعلب. قال: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: استبطأني أبو زياد- يعنى الكلابي- فقال:
نزورك يا ابن الموصليّ لحاجة ... ونفعل يا ابن الموصليّ قليل
قلت: وفي غير هذه الرواية بيت ثان وهو:
فما لك عندي من فعال أذمه ... ومالك ما يثني عليك جميل
فأعتبته.
أَخْبَرَنِي أَبُو طَالِبٍ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَاتِبُ قَالَ: أنشدنا أحمد بن سعيد- يعنى الدمشقي- قال: أنشدني الزبير- هو ابن بكار- قال: أنشدني أبو سليمان إدريس بن أبي حفصة يمدح إسحاق بن إبراهيم التميمي:
إذا الرجال جهلوا المكارما ... كان بها ابن الموصلي عالما
أبقاك ذو العرش بقاء دائما ... لو كنت أدركت الجواد حاتما
كان نداه لنداك خادما ... فقد جعلت للكرام خاتما
قال: وأنشدني أيضا في إسحاق يمدحه:
لقد ذهب المعروف إلّا بقية ... بها أنت يا ابن الموصلي تقوم
إذا ما كريم غير الدهر وده ... فودك يا ابن الموصلي يدوم
تطيب بك الدنيا وليس بزائل ... من الناس فيها ما بقيت كريم
فما عشت في الدنيا فللعيش لذة ... وطيب وإن ودعت فهو ذميم
إذا كان في عود وصوم تشينه ... فعودك عود ليس فيه وصوم
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصيرفي ومحمد بن أحمد بن شعيب الروياني قالا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن شاذان، حدّثنا ابن دريد، أخبرنا عبد الأول ابن مريد، عن أبيه. قال: مات إسحاق بن إبراهيم الموصلي سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات فيها إسحاق بن إبراهيم الطاهري. قال: فأنشدني في ذلك الوقت رجل يعرف بابن سبابة:
تولى الموصليّ وقد تولت ... بشاشات المعازف والقيان
وأي غضارة تبقى فتبقي ... حياة الموصلي على الزمان
ستبكيه المعازف والملاهي ... وتسعدهن عاتقة الدنان
وتبكيه الغوية يوم وَلى ... ولا تبكيه تالية القران