( ك) يحيى بن حسن بن عثمان روى عن اشعث ابن اسحاق بن سعد روى عنه موسى بن يعقوب الزمعي سمعت أبي يقول ذلك.
I pay $140/month to host my websites. If you wish to help, please use the following button (secure payments with Stripe).
Jump to entry:الذهاب إلى موضوع رقم:
500100015002000250030003500400045005000550060006500700075008000850090009500100001050011000115001200012500130001350014000145001500015500160001650017000175001800018500190001950020000205002100021500220002250023000235002400024500250002550026000265002700027500280002850029000295003000030500310003150032000325003300033500340003450035000355003600036500370003750038000385003900039500400004050041000415004200042500430004350044000445004500045500460004650047000475004800048500490004950050000505005100051500520005250053000535005400054500550005550056000565005700057500580005850059000595006000060500610006150062000625006300063500640006450065000655006600066500670006750068000685006900069500700007050071000715007200072500730007350074000745007500075500760007650077000775007800078500790007950080000805008100081500820008250083000835008400084500850008550086000865008700087500880008850089000895009000090500910009150092000925009300093500940009450095000955009600096500970009750098000985009900099500100000100500Similar and related entries:
مواضيع متعلقة أو مشابهة بهذا الموضوع
يحيى بن حسن بن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بْن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي من أهل الْمَدِينَة يروي عَن أَشْعَث بن إِسْحَاق روى عَنهُ مُوسَى بْن يَعْقُوب الزمعِي
يحيى بْن حسن بن عثمان
(1) عن اشعث بن اسحاق ابن سعد (بْن أَبِي وقاص - 2) روى عَنْهُ مُوسَى بْن يعقوب يعد فِي أهل المدينة.
باب خ
(1) عن اشعث بن اسحاق ابن سعد (بْن أَبِي وقاص - 2) روى عَنْهُ مُوسَى بْن يعقوب يعد فِي أهل المدينة.
باب خ
يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن
ابن سمعان بن مشنج بن عمرو بن عبد العزى بن أكثم بن صيفي، أبو محمد التميمي الأسيدي المروزي قاضي القضاة للمأمون. قدم دمشق مع المأمون.
حدث عن جرير بسنده إلى ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
وحدث يحيى بن أكثم عن عبد الله بن إدريس بسنده إلى ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب.
وورد في حديث: أن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. ولم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وهو الصواب.
وكان يحيى بن أكثم من أئمة العلم، أحد أعلام الدنيا، وقد اشتهر فضله وعلمه ورئاسته وسياسته، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم. ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وابن أبي داود.
خرج سفيان بن عيينة إلى أصحاب الحديث وهو ضجر فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد وجالس أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار وجالس جابر بن عبد الله، وجالست عبد الله بن دينار وجالس ابن عمر، وجالست الزهري وجالس أنس بن مالك؟! حتى عدد جماعة، ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس: أتنصف يا أبا محمد؟ قال: إن شاء الله، قال له: والله لشقاء من جالس أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بك أشد من شقائك بنا، فأطرق وتمثل بشعر أبي نواس.
خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
فسئل من الحدث؟ فقالوا: يحيى بن أكثم، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني: السلطان.
صار يحيى بن أكثم إلى حفص بن غياث فتعشى عنده فأتي حفص بعس فشرب منه، ثم ناوله أبا بكر بن أبي شيبة فشرب منه، فناوله أبو بكر يحيى بن أكثم فقال له: يا أبا بكر، أيسكر كثيره؟ قال: إي والله وقليله، فلم يشرب.
ولي يحيى بن أكثم القاضي البصرة، وسنه عشرون أو نحوها، فاستصغره
أهل البصرة، فقال له أحدهم: كم سنو القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر - وفي رواية: فاستزري - فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على أهل البصرة. قال: فبقي سنة لا يقبل بها شاهداً، فتقدم إليه أحد الأمناء، فقال له: أيها القاضي قد وقفت الأمور وتريثت، قال: وما السبب؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، قال: فأجاز في ذلك اليوم شهادة سبعين شاهداً.
قال الفضل بن محمد الشعراني: سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام الله. فمن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
قال يحيى بن أكثم: وليت القضاء، وقضاء القضاة، والوزارة.
وفي رواية: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً وقاضياً على القضاة، ما سررت لشيء كسروري بقول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك.
وقال: جالست الخلفاء، وناظرت العلماء، فلم أر شيئاً أحلى من قول المستملي: من ذكرت يرحمك الله.
قال إسماعيل بن إسحاق: سمعت يحيى بن أكثم يقول: اختصم إلي هاهنا في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه.
قال أبو العيناء عن أحمد بن أبي داود ومحمد بن منصور: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن
أكثم: بكرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا غليه وهو يستاك ويقول، وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر؟؟؟؟؟؟؟؟ فأومأت إلى محمد بن منصور ان أمسك، رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، وجاء يحيى فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ قال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عز وجل: " قد أفلح المؤمنون " إلى قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عنى الله تعالى، ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذا من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: " أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها.
فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ قلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.
قال إسماعيل بن إسحاق - وقد ذكر يحيى بن أكثم -: فعظم أمره، وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله. وذكر هذا اليوم فقال له رجل: فما كان يقال؟ قال: معاذ الله ان تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد، وكانت كتبه في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها.
قال مسلم بن حاتم الأنصاري: كنا يوماً عند زهير البابي نعوده، وإذا نحن برجل يقول في الدار: يا جارية، يا غلام، فأشرف عليه بعض من كان يخدمه فقال: من هذا؟ فقال: أخبر أبا عبد الرحمن أن القاضي بالباب، فأخبره، فقال زهير: مالي وللقاضي وما للقاضي ولي قال: وقد كان جاءه قبل ذلك بيوم فحجبه، فقدم إليه رجلين من أمنائه: العيشي وإسحاق بن حماد بن زيد، وقال لهما: إني ذهبت إلى زهير فحجبني، فاغدوا عليه وكونا عنده حتى أجيء فإن أذن لي فذاك وإلا فسهلا أمري، فأقبل عليه العيشي فقال: يا أبا عبد الرحمن، قاضي أمير المؤمنين جاء يعودك إن رأيت أن تأذن له، قال يا عيشي، أنت أيضاً من هذا الضرب؟ ما للقاضي وعبادة زهير فأقبل عليه ابن حماد فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن رأيت أن تأذن له فلعله أن يسمع منك كلمة ينفعه الله بها، فما زالا بالشيخ حتى قال: ائذنوا له، فدخل وهو يومئذ كهل، وعليه كسوة عجيبة، قال: فتحسحس جميع من في البيت، وزهير لا يتحرك حتى جلس يحيى، فانكب على رأسه فقبله ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، كيف أصبحت؟ كيف تجدك؟ قال: أنا بخير والحمد لله وأنا في عافية، قال: جعلك الله بخير يا أبا عبد الرحمن، جئتك أمس فمنعتني، وجئتك اليوم، فكدت ألا تأذن لي، بلغك عني أمر تكرهه؟ اشتكاني إليك أحد بظلم أحد من قبلي فأستغفر الله وأرجع وأتوب؟ إلى أن قال في كلامه: والله يا أبا عبد الرحمن ما تركت. فقال زهير: خذوا بيدي، فجلس، فقال: يا يحيى، من لم يدعك؟ ضربت سوطاً قط أخذ من مالك دينار قط حبست يوماً إلى الليل قط قال: لا والله، قال: ولكن ما أرى الله أتى بك من أقاصي مرو وقلدك هذه القلادة لخير يريده بك، قال: فجعل يبكي، ثم قال في آخر كلامه: يا أبا عبد الرحمن، لك حاجة توصي بها؟ قال: مالي إليك حاجة إلا أن تؤثر الله على ما سواه.
قال يحيى بن أكثم: كان لي أخ مروزي وكان يكتب إلي في الأحايين، وما كتب إلي إلا انتفعت بكتابه، فكتب إلي مرة: بسم الله الرحمن الرحيم، يا يحيى اعتبر بما ترى، واتعظ بما تسمع، قبل أن تصير عبرة للناظرين وعظة للسامعين. قال: قلت: لقد جمع فيه.
لما ولي يحيى بن أكثم القضاء كتب إليه أخوه عبد الله بن أكثم من مرو وكان من الزهاد:
ولقمة بجريش الملح آكلها ... ألذ من تمرة تحشى بزنبور
وأكلة قربت للهلك صاحبها ... كحية الفخ دقت عنق عصفور
لقي رجل يحيى بن أكثم وهو على قضاء القضاة فقال له: أصلح الله القاضي: كم آكل؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع. قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تمل البكاء من خشية الله تعالى، قال: فكم أخفي من عملي؟ قال: ما استطعت؟ قال: فكم اظهر منه؟ قال: ما يقتدي بك البر الخير، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله، قول قاطن وعمل ظاعن.
قال يحيى بن أكثم: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم.
قال يحيى بن أكثم في رجل من القضاة كان استخف بحقوقه ثم رجع إلى خدمته:
ذهبت بنضرة وجهك الأيام ... ولقد مضى زمن وأنت إمام
ما كان ضرك لو ذخرت ذخيرة ... تبقى لصاحبها يد وذمام
فاليوم إذ نزل البلا بك زرتنا ... هيهات ما منا عليك سلام
كتب يحيى بن أكثم إلى صديق له:
جفوت وما فيما مضى كنت تفعل ... وأغفلت من لم تلفه عنك يغفل
وعجلت قطع الوصل في ذات بيننا ... بلا حدث أو كدت في ذاك تعجل
فاصبحت لولا أنني ذو تعطف ... عليك بودي صابر متحمل
أرى جفوة او قسوة من أخي ندىً ... إلى الله فيها المشتكى والمعول
فأقسم لولا ان حقك واجب ... علي وأني بالوفاء موكل
لكنت عزوف النفس عن كل مدبر ... وبعض عزوف النفس عن ذاك أجمل
ولكنني أرعى الحقوق واستحي ... واحمل من ذي الود ما ليس يحمل
فإن مصاب المرء في أهل وده ... بلاء عظيم عند من كان يعقل
قال ابن أخي دعبل: أنشدني أبي قال: أنشدنا يحيى بن أكثم:
أما ترى كيف طيب ذا اليوم ... وكيف سألت مدامع الغيم
وكيف يسري الندى بأدمعه ... فهب نواره من النوم
لو سيم ذا اليوم لاشتراه أخ اللهو ولو كان غالي السوم
ونحن ظامون في صبيحتنا ... فامنن علينا بشرب ذا اليوم
جاء رجل يسأل يحيى بن أكثم فقال له: إيش توسمت في؟ أنا قاض، والقاضي يأخذ ولا يعطي، وأنا من مرو، وأنت تعرف ضيق أهل مرو، وأنا من تميم، والمثل إلى بخل تميم.
لما قدم يحيى بن أكثم مع المأمون دمشق كان ينظر في أمور الناس، فدخل إليه رجل يوماً فكلمه بكلام لا يصلح، فأمر بحبسه، فركب إليه المشايخ في العشي - قال ابن ذكوان وكان فيهم -: فكلمناه وسألناه يخليه، فقال: ما أنا حبسته، فكأنا أنكرنا ذلك من قوله: قال: الحق حبسه، والحق يطلقه.
كان يحيى بن أكثم وقاعة في الناس شريراً، وكان يغري المأمون بالناس، ويقع فيهم عنده، وكان يثني على عمرو بن مسعدة ويقرظه، ويذكر حسن صناعته وفراهته ويصحبه، فدخل عمرو على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن يحيى بن أكثم
يثني علي عندك، وأنا أسألك بالله أن تريه أنك قبلت شيئاً من قوله في، فإنه إنما قدم للثناء علي لوقيعة يريد يوقعها بي لديك لتصدقه فيما يقول، فضحك المأمون منه وقال: قد أمنت من ذلك فلا تخفه مني.
قال المأمون يوماً ليحيى بن أكثم: أريد أن تسمي لي ثقلاء عسكري وحاشيتي، قال: اعفني من ذلك، فلست أذكر أحداً منهم، وهم لي على ما تعلم، فكيف إن جرى مثل هذا؟ قال: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل مخراقاً وأضربك به وأسمي مع كل ضربة رجلاً، فإن كان ثقيلاً تأوهت وإن يك غير ذلك سكت فأعرفه، فاضطجع له يحيى وقال: ما رأيت قاضي قضاة وأميراً ووزيراً يعمل به مثل ذا، فلف له مخراقاً دبيقياً، فضربه ضربة، وذكر رجلاً، فصاح يحيى: أوه أوه يا أمير المؤمنين في المخراق؟ آخره. فضحك حتى كاد يغشى عليه، وأعفاه من الباقين.
كان المأمون قد احتظى يحيى بن أكثم ورفع منزلته، وخص به خلصة باطنه، فدخل عليه يوماً وهو يتغذى، وعبد الوهاب بن علي إلى جانب المأمون، فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: هلم يا أبا محمد، يا غلام وضئه، فخرج يحيى والطويلة على رأسه ليتوضأ، فقال المأمون لعبد الوهاب: أوسع لأبي محمد، فأوسع له بينه وبين المأمون. فغسل يده ودخل، فوضع طويلته عن غير إذنه، فقال المأمون لعبد الوهاب: عد إلى مكانك، وأقعد يحيى بين يديه وكان بدء ما نقمه عليه.
سئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي دواد أيهما أنبل؟ فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.
قال يحيى بن معين: كان يحيى بن أكثم يكذب، جاء إلى مصر فاشترى كتب الوراقين وأصولهم فقال: أجيزوها لي.
قالوا: ولم يسمع من حفص بن غياث إلا عشرة أحاديث فنسخ أحاديث حفص كلها، ثم جاء بها معه إلى البيت.
وقال إسحاق بن راهويه: ذاك الدجال - يعني يحيى بن أكثم - يحدث عن ابن المبارك.
قال علي بن الحسين بن الجنيد: كانوا لا يشكون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس، فيجعله لنفسه.
وكان يحيى بن أكثم أعور. مازح المأمون يحيى بن أكثم وقد مر غلام أمرد فقال: يا يحيى - وأومأ إلى الغلام - ما تقول في محرم اصطاد ظبياً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي، قال: فمن القائل؟:
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: من عليه لعنة الله، وفي آخر: أو ما تعرف من قاله؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
حاكمنا يرتشي وقاضينا ... يلوط، والرأس شر ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
فوجم المأمون وقال: هذا مزاح قد تضمن إسماعاً قبيحاً، وأنشأ يقول:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
وهل تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضى قضاة المسلمين يلوط
زاد في آخر وقال: ينبغي أن ينفى احمد بن أبي نعيم إلى السند.
والأبيات السينية:
أنطقني الدهر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما ... يرفع من ناس يحط من ناس
لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكس وطول اتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عباس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناس
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راس
لو صلح الدين واستقام لقد ... قام على الناس كل مقياس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
ونسبت هذه الأبيات للرياشي، وهي لأحمد بن أبي نعيم.
تولى يحيى بن أكثم ديوان الصدقات على الأضراء، فلم يعطهم شيئاً، فطالبوه، فلم يعطهم، وقال: ليس لكم عند أمير المؤمنين شيء، فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد، فقال: الحبس الحبس، فحبسوا جميعاً، فلما كان الليل ضجوا، فقال المأمون: ما هذا؟ قالوا: الأضراء، حبسهم يحيى بن أكثم، قال: لم حبسهم؟ قال: كنوه فحبسهم، فدعاه، فقال: حبستهم على أن كنوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أحبسهم على ذلك، إنما
حبستهم على التعريض قالوا لي: يا أبا سعيد، يعرضون بشيخ لائط في الحربية.
قال فضلك بن العباس: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم ومعنا عشر مسائل، فألقى عليه داود خمس مسائل، فأجاب فيها أحسن جواب، فلما كان في السادسة دخل عليه غلام حسن الوجه، فلما رآه اضطرب في المسألة، ولم يقدر يجيء ولا يذهب، فقال لي داود: قم، فإن الرجل قد اختلط.
لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه، فقالوا: عففت عن أموالنا ودمائنا، فقال إسماعيل: وعن أبنائكم، يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط.
كان الحسن بن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضياً، وكان عابساً كالحاً، فتقدمت إليه جارية لبعض أهل البصرة، تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسم وكلمها، فقال عبد الصمد بن المعذل في ذلك:
ولما سرت عنها القناع متيم ... تروح منها العنبري متيماً
رأى ابن عبيد الله وهو محكم ... عليها لها طرفاً عليه محكماً
وكان قديماً عابس الوجه كالحاً ... فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
كان سليمان الشاذكوني عند يحيى بن أكثم فجعل يعارضه في كل شيء يقول، فقال
له يحيى: يا أبا أيوب، حدثني سليمان بن حرب أن بعض مشايخ البصرة يكذب في حديثه، فقال له سليمان: أعز الله القاضي، حدثني سليمان بن حرب أن بعض قضاة المسلمين يفعل فعلاً عذب الله تعالى عليه قوماً.
كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً، وكان مفنناً، فإذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ، فناظره فرآه مفنناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: فما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ: شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً رجم لوطياً. فأمسك فلم يكلمه بشيء.
كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام واستحيا، وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: اكتب ما أملي عليك ثم قال:
أيا قمراً جمشته فتغضبا ... فأصبح لي من تيهه متجنبا
إذا كنت للتجميش والعشق كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذبا
استعدى ابن عمار بن أبي الخصيب يحيى بن أكثم على ورثة أبيه، وكان بارع الجمال فقال له: أيها القاضي، أعدني عليهم، قال: فيمن يعديني أنا على عينيك؟ فهربت به أمه إلى بغداد، فقال لها وقد تقدمت إليه: والله لا أنفذت لكم حكماً أو لتردنه، فهو أولى بالمطالبة منك.
كان يحيى بن أكثم عند الواثق، وغلام أمرد حسن الوجه من غلمان الخليفة واقف بين
يديه، فأحد النظر إليه، فتبسم، فقال له الواثق: يا يحيى، بحياتي لتبتلنه، فقال: إني وحياتك منزه.
دخل ابنا مسعدة على يحيى بن أكثم، وكانا في نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول:
يا زائرينا من الخيام ... حياكما الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام
ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا وقيل: إن يحيى عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات التي أنشدها لما دخل عليه ابنا مسعدة.
ولما عزل يحيى بن أكثم عن القضاء بجعفر بن عبد الواحد جاءه كاتبه فقال: سلم الديوان، فقال: شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، ثم أدخل مدينة السلام، وألزم منزله.
وكان المتوكل قد صير يحيى بن أكثم في مرتبة أحمد بن أبي دواد وخلع عليه خمس خلع.
قال إسماعيل بن إسحاق: كان يحيى بن أكثم يقول: أبرأ إلى الله عز وجل من أن يكون في شيء مما رميت به من أمر الغلمان. قال: ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف لله، ولكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق، فرمى بما رمي به.
قال عبد الله بن محمود: رأيت قاضي القضاة يحيى بن أكثم بمكة يلاحظ حجاماً عليه أنف كأنه برج فقلت له: أيها القاضي، ما هذا الوقوف؟! فقال: ذرني، فإني أريد أنظر إلى هذا، كيف يستوي له مص المحجمة مع هذا الأنف. وكان رجل بين يدي الحجام، ففطن به
الحجام، فقال له: مالك تنظر إلي؟! وليس أضرب في قفا هذا بمعولي وأنت واقف، فتوارينا عنه، فإذا هو يعطف أنفه بيده اليسرى ويمسك المحجمة بيده اليمنى ويمص بفيه، فقال يحيى: أما هكذا فنعم.
قال محمد بن مسلم السعدي: وجه إلي يحيى بن أكثم يوماً فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرة مجلدة فجلست، فقال: افتح هذه القمطرة ففتحها، فإذا شيء خرج منها، رأسه رأس إنسان، وهو من سرته إلى أسفله خلق زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، فكبرت وهللت وجزعت، ويحيى يضحك، فقال لي بلسان فصيح طلق ذلق:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنشوة والقهوه
فلا عربدتي تخشى ... ولا تحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم قال: يا كهل، أنشدني شعراً غزلاً، فقال لي يحيى: قد أنشدك الزاغ، فأنشده، فأنشدته:
أغرك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثم أتوب
وأكترث حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب
فصاح زاغ زاغ زاغ، وطار ثم سقط في القمطر، فقلت ليحيى: أعز الله القاضي، وعاشق أيضاً؟! فضحك، قلت له: أيها القاضي، ما هذا؟ قال: هو ما ترى وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين وما رآه بعد. وكتب كتاباً لم أفضضه، وأظنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
توفي يحيى بن أكثم سنة اثنتين وأربعين ومئتين، وقيل: غره سنة ثلاث وأربعين ومئتين. وكان قد توجه إلى الحجاز وحمل أخته معه، وعزم على أن يجاور. فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة، ورجع يريد العراق، فمات بالربذة، ودفن بها، وله ثلاث وثمانون سنة.
قال محمد بن سلم الخواص الشيخ الصالح: رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء فذكر الثالثة مثل الأوليين. فلما أفقت قلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال الله: وما حدثت عني - وهو أعلم بذلك - قلت: حدثني عبد الرزاق بن همام، حدثنا معمر بن راشد عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عنك يا عظيم أنك قلت: ما شاب لي عبد في الإسلام شيبةً إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار. فقال الله: صدق عبد الرزاق، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل. أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.
زاد في آخر بمعناه: إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا
وقيل: إن يحيى رئي في المنام فقيل له: إلى أي شيء صرت؟ قال: إلى الجنة، قيل له: إلى الجنة؟! قال: نعم، إني رأيت رب العزة جل وعز فقال لي: يا يحيى، لولا شيبتك لعذبتك، فقلت: يا رب، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس بن مالك عن محمد نبيك عن جبريل أنك قلت: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين.
قال: صدق جبريل، صدق محمد نبيي، صدق أنس بن مالك، صدق قتادة، صدق معمر، صدق عبد الرزاق: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين، وكساني حلتين ورداءين وحلة خضراء.
ابن سمعان بن مشنج بن عمرو بن عبد العزى بن أكثم بن صيفي، أبو محمد التميمي الأسيدي المروزي قاضي القضاة للمأمون. قدم دمشق مع المأمون.
حدث عن جرير بسنده إلى ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
وحدث يحيى بن أكثم عن عبد الله بن إدريس بسنده إلى ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب.
وورد في حديث: أن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. ولم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وهو الصواب.
وكان يحيى بن أكثم من أئمة العلم، أحد أعلام الدنيا، وقد اشتهر فضله وعلمه ورئاسته وسياسته، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم. ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وابن أبي داود.
خرج سفيان بن عيينة إلى أصحاب الحديث وهو ضجر فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد وجالس أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار وجالس جابر بن عبد الله، وجالست عبد الله بن دينار وجالس ابن عمر، وجالست الزهري وجالس أنس بن مالك؟! حتى عدد جماعة، ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس: أتنصف يا أبا محمد؟ قال: إن شاء الله، قال له: والله لشقاء من جالس أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بك أشد من شقائك بنا، فأطرق وتمثل بشعر أبي نواس.
خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
فسئل من الحدث؟ فقالوا: يحيى بن أكثم، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني: السلطان.
صار يحيى بن أكثم إلى حفص بن غياث فتعشى عنده فأتي حفص بعس فشرب منه، ثم ناوله أبا بكر بن أبي شيبة فشرب منه، فناوله أبو بكر يحيى بن أكثم فقال له: يا أبا بكر، أيسكر كثيره؟ قال: إي والله وقليله، فلم يشرب.
ولي يحيى بن أكثم القاضي البصرة، وسنه عشرون أو نحوها، فاستصغره
أهل البصرة، فقال له أحدهم: كم سنو القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر - وفي رواية: فاستزري - فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على أهل البصرة. قال: فبقي سنة لا يقبل بها شاهداً، فتقدم إليه أحد الأمناء، فقال له: أيها القاضي قد وقفت الأمور وتريثت، قال: وما السبب؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، قال: فأجاز في ذلك اليوم شهادة سبعين شاهداً.
قال الفضل بن محمد الشعراني: سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام الله. فمن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
قال يحيى بن أكثم: وليت القضاء، وقضاء القضاة، والوزارة.
وفي رواية: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً وقاضياً على القضاة، ما سررت لشيء كسروري بقول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك.
وقال: جالست الخلفاء، وناظرت العلماء، فلم أر شيئاً أحلى من قول المستملي: من ذكرت يرحمك الله.
قال إسماعيل بن إسحاق: سمعت يحيى بن أكثم يقول: اختصم إلي هاهنا في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه.
قال أبو العيناء عن أحمد بن أبي داود ومحمد بن منصور: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن
أكثم: بكرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا غليه وهو يستاك ويقول، وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر؟؟؟؟؟؟؟؟ فأومأت إلى محمد بن منصور ان أمسك، رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، وجاء يحيى فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ قال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عز وجل: " قد أفلح المؤمنون " إلى قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عنى الله تعالى، ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذا من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: " أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها.
فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ قلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.
قال إسماعيل بن إسحاق - وقد ذكر يحيى بن أكثم -: فعظم أمره، وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله. وذكر هذا اليوم فقال له رجل: فما كان يقال؟ قال: معاذ الله ان تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد، وكانت كتبه في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها.
قال مسلم بن حاتم الأنصاري: كنا يوماً عند زهير البابي نعوده، وإذا نحن برجل يقول في الدار: يا جارية، يا غلام، فأشرف عليه بعض من كان يخدمه فقال: من هذا؟ فقال: أخبر أبا عبد الرحمن أن القاضي بالباب، فأخبره، فقال زهير: مالي وللقاضي وما للقاضي ولي قال: وقد كان جاءه قبل ذلك بيوم فحجبه، فقدم إليه رجلين من أمنائه: العيشي وإسحاق بن حماد بن زيد، وقال لهما: إني ذهبت إلى زهير فحجبني، فاغدوا عليه وكونا عنده حتى أجيء فإن أذن لي فذاك وإلا فسهلا أمري، فأقبل عليه العيشي فقال: يا أبا عبد الرحمن، قاضي أمير المؤمنين جاء يعودك إن رأيت أن تأذن له، قال يا عيشي، أنت أيضاً من هذا الضرب؟ ما للقاضي وعبادة زهير فأقبل عليه ابن حماد فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن رأيت أن تأذن له فلعله أن يسمع منك كلمة ينفعه الله بها، فما زالا بالشيخ حتى قال: ائذنوا له، فدخل وهو يومئذ كهل، وعليه كسوة عجيبة، قال: فتحسحس جميع من في البيت، وزهير لا يتحرك حتى جلس يحيى، فانكب على رأسه فقبله ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، كيف أصبحت؟ كيف تجدك؟ قال: أنا بخير والحمد لله وأنا في عافية، قال: جعلك الله بخير يا أبا عبد الرحمن، جئتك أمس فمنعتني، وجئتك اليوم، فكدت ألا تأذن لي، بلغك عني أمر تكرهه؟ اشتكاني إليك أحد بظلم أحد من قبلي فأستغفر الله وأرجع وأتوب؟ إلى أن قال في كلامه: والله يا أبا عبد الرحمن ما تركت. فقال زهير: خذوا بيدي، فجلس، فقال: يا يحيى، من لم يدعك؟ ضربت سوطاً قط أخذ من مالك دينار قط حبست يوماً إلى الليل قط قال: لا والله، قال: ولكن ما أرى الله أتى بك من أقاصي مرو وقلدك هذه القلادة لخير يريده بك، قال: فجعل يبكي، ثم قال في آخر كلامه: يا أبا عبد الرحمن، لك حاجة توصي بها؟ قال: مالي إليك حاجة إلا أن تؤثر الله على ما سواه.
قال يحيى بن أكثم: كان لي أخ مروزي وكان يكتب إلي في الأحايين، وما كتب إلي إلا انتفعت بكتابه، فكتب إلي مرة: بسم الله الرحمن الرحيم، يا يحيى اعتبر بما ترى، واتعظ بما تسمع، قبل أن تصير عبرة للناظرين وعظة للسامعين. قال: قلت: لقد جمع فيه.
لما ولي يحيى بن أكثم القضاء كتب إليه أخوه عبد الله بن أكثم من مرو وكان من الزهاد:
ولقمة بجريش الملح آكلها ... ألذ من تمرة تحشى بزنبور
وأكلة قربت للهلك صاحبها ... كحية الفخ دقت عنق عصفور
لقي رجل يحيى بن أكثم وهو على قضاء القضاة فقال له: أصلح الله القاضي: كم آكل؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع. قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تمل البكاء من خشية الله تعالى، قال: فكم أخفي من عملي؟ قال: ما استطعت؟ قال: فكم اظهر منه؟ قال: ما يقتدي بك البر الخير، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله، قول قاطن وعمل ظاعن.
قال يحيى بن أكثم: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم.
قال يحيى بن أكثم في رجل من القضاة كان استخف بحقوقه ثم رجع إلى خدمته:
ذهبت بنضرة وجهك الأيام ... ولقد مضى زمن وأنت إمام
ما كان ضرك لو ذخرت ذخيرة ... تبقى لصاحبها يد وذمام
فاليوم إذ نزل البلا بك زرتنا ... هيهات ما منا عليك سلام
كتب يحيى بن أكثم إلى صديق له:
جفوت وما فيما مضى كنت تفعل ... وأغفلت من لم تلفه عنك يغفل
وعجلت قطع الوصل في ذات بيننا ... بلا حدث أو كدت في ذاك تعجل
فاصبحت لولا أنني ذو تعطف ... عليك بودي صابر متحمل
أرى جفوة او قسوة من أخي ندىً ... إلى الله فيها المشتكى والمعول
فأقسم لولا ان حقك واجب ... علي وأني بالوفاء موكل
لكنت عزوف النفس عن كل مدبر ... وبعض عزوف النفس عن ذاك أجمل
ولكنني أرعى الحقوق واستحي ... واحمل من ذي الود ما ليس يحمل
فإن مصاب المرء في أهل وده ... بلاء عظيم عند من كان يعقل
قال ابن أخي دعبل: أنشدني أبي قال: أنشدنا يحيى بن أكثم:
أما ترى كيف طيب ذا اليوم ... وكيف سألت مدامع الغيم
وكيف يسري الندى بأدمعه ... فهب نواره من النوم
لو سيم ذا اليوم لاشتراه أخ اللهو ولو كان غالي السوم
ونحن ظامون في صبيحتنا ... فامنن علينا بشرب ذا اليوم
جاء رجل يسأل يحيى بن أكثم فقال له: إيش توسمت في؟ أنا قاض، والقاضي يأخذ ولا يعطي، وأنا من مرو، وأنت تعرف ضيق أهل مرو، وأنا من تميم، والمثل إلى بخل تميم.
لما قدم يحيى بن أكثم مع المأمون دمشق كان ينظر في أمور الناس، فدخل إليه رجل يوماً فكلمه بكلام لا يصلح، فأمر بحبسه، فركب إليه المشايخ في العشي - قال ابن ذكوان وكان فيهم -: فكلمناه وسألناه يخليه، فقال: ما أنا حبسته، فكأنا أنكرنا ذلك من قوله: قال: الحق حبسه، والحق يطلقه.
كان يحيى بن أكثم وقاعة في الناس شريراً، وكان يغري المأمون بالناس، ويقع فيهم عنده، وكان يثني على عمرو بن مسعدة ويقرظه، ويذكر حسن صناعته وفراهته ويصحبه، فدخل عمرو على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن يحيى بن أكثم
يثني علي عندك، وأنا أسألك بالله أن تريه أنك قبلت شيئاً من قوله في، فإنه إنما قدم للثناء علي لوقيعة يريد يوقعها بي لديك لتصدقه فيما يقول، فضحك المأمون منه وقال: قد أمنت من ذلك فلا تخفه مني.
قال المأمون يوماً ليحيى بن أكثم: أريد أن تسمي لي ثقلاء عسكري وحاشيتي، قال: اعفني من ذلك، فلست أذكر أحداً منهم، وهم لي على ما تعلم، فكيف إن جرى مثل هذا؟ قال: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل مخراقاً وأضربك به وأسمي مع كل ضربة رجلاً، فإن كان ثقيلاً تأوهت وإن يك غير ذلك سكت فأعرفه، فاضطجع له يحيى وقال: ما رأيت قاضي قضاة وأميراً ووزيراً يعمل به مثل ذا، فلف له مخراقاً دبيقياً، فضربه ضربة، وذكر رجلاً، فصاح يحيى: أوه أوه يا أمير المؤمنين في المخراق؟ آخره. فضحك حتى كاد يغشى عليه، وأعفاه من الباقين.
كان المأمون قد احتظى يحيى بن أكثم ورفع منزلته، وخص به خلصة باطنه، فدخل عليه يوماً وهو يتغذى، وعبد الوهاب بن علي إلى جانب المأمون، فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: هلم يا أبا محمد، يا غلام وضئه، فخرج يحيى والطويلة على رأسه ليتوضأ، فقال المأمون لعبد الوهاب: أوسع لأبي محمد، فأوسع له بينه وبين المأمون. فغسل يده ودخل، فوضع طويلته عن غير إذنه، فقال المأمون لعبد الوهاب: عد إلى مكانك، وأقعد يحيى بين يديه وكان بدء ما نقمه عليه.
سئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي دواد أيهما أنبل؟ فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.
قال يحيى بن معين: كان يحيى بن أكثم يكذب، جاء إلى مصر فاشترى كتب الوراقين وأصولهم فقال: أجيزوها لي.
قالوا: ولم يسمع من حفص بن غياث إلا عشرة أحاديث فنسخ أحاديث حفص كلها، ثم جاء بها معه إلى البيت.
وقال إسحاق بن راهويه: ذاك الدجال - يعني يحيى بن أكثم - يحدث عن ابن المبارك.
قال علي بن الحسين بن الجنيد: كانوا لا يشكون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس، فيجعله لنفسه.
وكان يحيى بن أكثم أعور. مازح المأمون يحيى بن أكثم وقد مر غلام أمرد فقال: يا يحيى - وأومأ إلى الغلام - ما تقول في محرم اصطاد ظبياً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي، قال: فمن القائل؟:
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: من عليه لعنة الله، وفي آخر: أو ما تعرف من قاله؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
حاكمنا يرتشي وقاضينا ... يلوط، والرأس شر ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
فوجم المأمون وقال: هذا مزاح قد تضمن إسماعاً قبيحاً، وأنشأ يقول:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
وهل تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضى قضاة المسلمين يلوط
زاد في آخر وقال: ينبغي أن ينفى احمد بن أبي نعيم إلى السند.
والأبيات السينية:
أنطقني الدهر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما ... يرفع من ناس يحط من ناس
لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكس وطول اتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عباس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناس
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راس
لو صلح الدين واستقام لقد ... قام على الناس كل مقياس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
ونسبت هذه الأبيات للرياشي، وهي لأحمد بن أبي نعيم.
تولى يحيى بن أكثم ديوان الصدقات على الأضراء، فلم يعطهم شيئاً، فطالبوه، فلم يعطهم، وقال: ليس لكم عند أمير المؤمنين شيء، فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد، فقال: الحبس الحبس، فحبسوا جميعاً، فلما كان الليل ضجوا، فقال المأمون: ما هذا؟ قالوا: الأضراء، حبسهم يحيى بن أكثم، قال: لم حبسهم؟ قال: كنوه فحبسهم، فدعاه، فقال: حبستهم على أن كنوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أحبسهم على ذلك، إنما
حبستهم على التعريض قالوا لي: يا أبا سعيد، يعرضون بشيخ لائط في الحربية.
قال فضلك بن العباس: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم ومعنا عشر مسائل، فألقى عليه داود خمس مسائل، فأجاب فيها أحسن جواب، فلما كان في السادسة دخل عليه غلام حسن الوجه، فلما رآه اضطرب في المسألة، ولم يقدر يجيء ولا يذهب، فقال لي داود: قم، فإن الرجل قد اختلط.
لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه، فقالوا: عففت عن أموالنا ودمائنا، فقال إسماعيل: وعن أبنائكم، يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط.
كان الحسن بن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضياً، وكان عابساً كالحاً، فتقدمت إليه جارية لبعض أهل البصرة، تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسم وكلمها، فقال عبد الصمد بن المعذل في ذلك:
ولما سرت عنها القناع متيم ... تروح منها العنبري متيماً
رأى ابن عبيد الله وهو محكم ... عليها لها طرفاً عليه محكماً
وكان قديماً عابس الوجه كالحاً ... فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
كان سليمان الشاذكوني عند يحيى بن أكثم فجعل يعارضه في كل شيء يقول، فقال
له يحيى: يا أبا أيوب، حدثني سليمان بن حرب أن بعض مشايخ البصرة يكذب في حديثه، فقال له سليمان: أعز الله القاضي، حدثني سليمان بن حرب أن بعض قضاة المسلمين يفعل فعلاً عذب الله تعالى عليه قوماً.
كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً، وكان مفنناً، فإذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ، فناظره فرآه مفنناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: فما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ: شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً رجم لوطياً. فأمسك فلم يكلمه بشيء.
كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام واستحيا، وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: اكتب ما أملي عليك ثم قال:
أيا قمراً جمشته فتغضبا ... فأصبح لي من تيهه متجنبا
إذا كنت للتجميش والعشق كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذبا
استعدى ابن عمار بن أبي الخصيب يحيى بن أكثم على ورثة أبيه، وكان بارع الجمال فقال له: أيها القاضي، أعدني عليهم، قال: فيمن يعديني أنا على عينيك؟ فهربت به أمه إلى بغداد، فقال لها وقد تقدمت إليه: والله لا أنفذت لكم حكماً أو لتردنه، فهو أولى بالمطالبة منك.
كان يحيى بن أكثم عند الواثق، وغلام أمرد حسن الوجه من غلمان الخليفة واقف بين
يديه، فأحد النظر إليه، فتبسم، فقال له الواثق: يا يحيى، بحياتي لتبتلنه، فقال: إني وحياتك منزه.
دخل ابنا مسعدة على يحيى بن أكثم، وكانا في نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول:
يا زائرينا من الخيام ... حياكما الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام
ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا وقيل: إن يحيى عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات التي أنشدها لما دخل عليه ابنا مسعدة.
ولما عزل يحيى بن أكثم عن القضاء بجعفر بن عبد الواحد جاءه كاتبه فقال: سلم الديوان، فقال: شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، ثم أدخل مدينة السلام، وألزم منزله.
وكان المتوكل قد صير يحيى بن أكثم في مرتبة أحمد بن أبي دواد وخلع عليه خمس خلع.
قال إسماعيل بن إسحاق: كان يحيى بن أكثم يقول: أبرأ إلى الله عز وجل من أن يكون في شيء مما رميت به من أمر الغلمان. قال: ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف لله، ولكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق، فرمى بما رمي به.
قال عبد الله بن محمود: رأيت قاضي القضاة يحيى بن أكثم بمكة يلاحظ حجاماً عليه أنف كأنه برج فقلت له: أيها القاضي، ما هذا الوقوف؟! فقال: ذرني، فإني أريد أنظر إلى هذا، كيف يستوي له مص المحجمة مع هذا الأنف. وكان رجل بين يدي الحجام، ففطن به
الحجام، فقال له: مالك تنظر إلي؟! وليس أضرب في قفا هذا بمعولي وأنت واقف، فتوارينا عنه، فإذا هو يعطف أنفه بيده اليسرى ويمسك المحجمة بيده اليمنى ويمص بفيه، فقال يحيى: أما هكذا فنعم.
قال محمد بن مسلم السعدي: وجه إلي يحيى بن أكثم يوماً فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرة مجلدة فجلست، فقال: افتح هذه القمطرة ففتحها، فإذا شيء خرج منها، رأسه رأس إنسان، وهو من سرته إلى أسفله خلق زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، فكبرت وهللت وجزعت، ويحيى يضحك، فقال لي بلسان فصيح طلق ذلق:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنشوة والقهوه
فلا عربدتي تخشى ... ولا تحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم قال: يا كهل، أنشدني شعراً غزلاً، فقال لي يحيى: قد أنشدك الزاغ، فأنشده، فأنشدته:
أغرك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثم أتوب
وأكترث حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب
فصاح زاغ زاغ زاغ، وطار ثم سقط في القمطر، فقلت ليحيى: أعز الله القاضي، وعاشق أيضاً؟! فضحك، قلت له: أيها القاضي، ما هذا؟ قال: هو ما ترى وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين وما رآه بعد. وكتب كتاباً لم أفضضه، وأظنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
توفي يحيى بن أكثم سنة اثنتين وأربعين ومئتين، وقيل: غره سنة ثلاث وأربعين ومئتين. وكان قد توجه إلى الحجاز وحمل أخته معه، وعزم على أن يجاور. فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة، ورجع يريد العراق، فمات بالربذة، ودفن بها، وله ثلاث وثمانون سنة.
قال محمد بن سلم الخواص الشيخ الصالح: رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء فذكر الثالثة مثل الأوليين. فلما أفقت قلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال الله: وما حدثت عني - وهو أعلم بذلك - قلت: حدثني عبد الرزاق بن همام، حدثنا معمر بن راشد عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عنك يا عظيم أنك قلت: ما شاب لي عبد في الإسلام شيبةً إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار. فقال الله: صدق عبد الرزاق، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل. أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.
زاد في آخر بمعناه: إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا
وقيل: إن يحيى رئي في المنام فقيل له: إلى أي شيء صرت؟ قال: إلى الجنة، قيل له: إلى الجنة؟! قال: نعم، إني رأيت رب العزة جل وعز فقال لي: يا يحيى، لولا شيبتك لعذبتك، فقلت: يا رب، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس بن مالك عن محمد نبيك عن جبريل أنك قلت: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين.
قال: صدق جبريل، صدق محمد نبيي، صدق أنس بن مالك، صدق قتادة، صدق معمر، صدق عبد الرزاق: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين، وكساني حلتين ورداءين وحلة خضراء.
يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني [الأنصاري - ] المديني روى عن أبي سعيد الخدري روى عنه ابنه عمرو والزهرى وعمارة ( م ) بن غزية سمعت أبي يقول ذلك.
قال أبو محمد روى عنه محمد بن يحيى بن حبان.
قال أبو محمد روى عنه محمد بن يحيى بن حبان.
يحيى بْن عمارة بْن أَبِي حسن الْمَدَنِيّ المازني
سَمِعَ أبا سَعِيد الخدري روى عَنْهُ ابنه عمرو وعمارة بْن غزية والزُّهْرِيّ.
سَمِعَ أبا سَعِيد الخدري روى عَنْهُ ابنه عمرو وعمارة بْن غزية والزُّهْرِيّ.
- يحيى بن عمَارَة بن أبي حسن الْمَازِني الْمدنِي أخرج البُخَارِيّ فِي الْإِيمَان عَن ابْنه عَمْرو عَنهُ عَن أبي سعيد وَعبد الله بن زيد بن عَاصِم
يَحْيَى بن عمَارَة بن أبي حسن الْمَازِني الْمَدِينِيّ سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن زيد رَوَى عَنهُ ابْنه عَمْرو فِي (الْإِيمَان)
يَحْيَى بنُ مَنْصُوْرِ بنِ حَسَنٍ السُّلَمِيُّ
الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثِّقَةُ، الزَّاهِد، القُدْوَة، مُحَدِّثُ هَرَاةَ، أَبُو سَعْدٍ الهَرَوِيّ.
سَمِعَ مِنْ: عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيّ، وَأَحْمَد بن حَنْبَلٍ، وَأَبِي مُصعب، وَابْن رَاهْوَيْه، وَابْن نُمَيْر، وَسُوَيْد بن سَعِيْدٍ، وَيَعْقُوْب بن كَاسِب، وَحِبَّان بن مُوْسَى، وَعدد كَثِيْر مِنْ طَبَقَتِهِم.
حَدَّثَ عَنْهُ: عبد الصَّمَدِ الطَّسْتِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ خَلَف، وَمُحَمَّد بن صَالِحِ بن هَانِئ، وَعَلِيّ بن حُمْشَاذ، وَأَحْمَد بن عِيْسَى الغيزَانِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْمَاعِيْل الخُطَبِيّ، وَآخَرُوْنَ.
وَحَدَّثَ بِبَغْدَاد.
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ وَقَالَ: تُوُفِّيَ بهَرَاة فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً، حَافِظاً، زَاهِداً.
قُلْتُ: بَل الصَّحِيْح وَفَاته فِي ذِي الحِجَّةِ، سَنَة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَكَانَ عجباً فِي التَّأَلُّه وَالعِبَادَة، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ لَمْ يرَ مِثْل نَفْسه، رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.
وُلِدَ سَنَةَ خَمْس عشر وَمائَتَيْنِ.
وَلَهُ كِتَاب: (أَحكَام القُرْآن) - قَالَ الرّهَاوِيّ: لَمْ يسْبق إِلَى مثلهَا - وَكِتَاب: (شرف النُّبُوَّة) وَكِتَاب: (الإِيْمَان) .وَلَهُ أَحفَاد وَأَسباط عُلَمَاء أَكَابر.
الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثِّقَةُ، الزَّاهِد، القُدْوَة، مُحَدِّثُ هَرَاةَ، أَبُو سَعْدٍ الهَرَوِيّ.
سَمِعَ مِنْ: عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيّ، وَأَحْمَد بن حَنْبَلٍ، وَأَبِي مُصعب، وَابْن رَاهْوَيْه، وَابْن نُمَيْر، وَسُوَيْد بن سَعِيْدٍ، وَيَعْقُوْب بن كَاسِب، وَحِبَّان بن مُوْسَى، وَعدد كَثِيْر مِنْ طَبَقَتِهِم.
حَدَّثَ عَنْهُ: عبد الصَّمَدِ الطَّسْتِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ خَلَف، وَمُحَمَّد بن صَالِحِ بن هَانِئ، وَعَلِيّ بن حُمْشَاذ، وَأَحْمَد بن عِيْسَى الغيزَانِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْمَاعِيْل الخُطَبِيّ، وَآخَرُوْنَ.
وَحَدَّثَ بِبَغْدَاد.
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ وَقَالَ: تُوُفِّيَ بهَرَاة فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً، حَافِظاً، زَاهِداً.
قُلْتُ: بَل الصَّحِيْح وَفَاته فِي ذِي الحِجَّةِ، سَنَة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَكَانَ عجباً فِي التَّأَلُّه وَالعِبَادَة، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ لَمْ يرَ مِثْل نَفْسه، رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.
وُلِدَ سَنَةَ خَمْس عشر وَمائَتَيْنِ.
وَلَهُ كِتَاب: (أَحكَام القُرْآن) - قَالَ الرّهَاوِيّ: لَمْ يسْبق إِلَى مثلهَا - وَكِتَاب: (شرف النُّبُوَّة) وَكِتَاب: (الإِيْمَان) .وَلَهُ أَحفَاد وَأَسباط عُلَمَاء أَكَابر.
يحيى بن عبد الله بن أسامة
القرشي البلقاوي
حدث عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب كثيراً مما يحدثنا عن أخبار الجاهلية وأهلها، ويقول: الأجل حصن حصين، وكهف منيع، ولقد أتت علي أحوال مهلكات نجوت منها سالماً، وكنت من أشد الناس إقداماً على ما يعجز عنه كثير من الناس، من الدخول على الملوك ومباشرة الحرب، حتى إني ونفر من أقراني من قريش دون العشرة أقدمنا على مئة رجل من ذوي البأس في بعض طريق الشام، فقد أجمعوا للقاء أقران لهم، فهجمنا عليهم ضحى، فواقعناهم حتى ذهب النهار وجاء الليل، فتحاجزنا، وما ظفروا منا بشيء، وافترق أصحابي بعد ذلك فرقتين، فمكثت في أقلهم عدداً، فأقمت أنا ومن معي بمكاننا، وغدا الآخرون عنا يريدون البحر، فذهبوا إلى الساعد، فما يعلم لأحد منهم خبر، وانطلقنا نحن إلى الشام، فقضينا أمرنا. فلما هممنا بالانصراف طعن رجل من أصحابي فمات، وسرت أنا وواحد منهم لم يبق معي غيره، فلم تنتصف الطريق بنا حتى غشينا في ليلة ظلمة سبع، فاختطفه وبقيت وحدي، فأتيت مكة فأقمت بها أياماً، ثم توجهت لبعض الأمر، فبينا أنا أسير تغولت لي الغول، فقالت لي: أين تعمد يا بن الخطاب؟ فقلت: وما عليك من ذلك؟ فاستدار وجهها حتى صار من ورائها، فرفعت السيف فأضرب به ما بين كتفيها وعنقها فأبنته، وانطلقت حتى قضيت حاجتي، وحدثت
نفسي أن لا أحد في ذلك الطريق، فأتيت على المكان الذي وقعت الغول فيه، فلم أر لها أثراً.
فبينا أنا أسير سمعت صياحاً قد علا، ولا أرى أحداً، فما راعني ذلك، ولا جبنت به، وسرت حتى أتيت مكة. وكان الناس يكثرون ذكر النعمان بن المنذر ويصفون إكرامه من يأتيه من قريش، فتوجهت نحوه، فوجدته جالساً في مجلس عظيم، وقد كثر الناس فيه، فجلست حيث انتهى بي المجلس، فدعا بقوس وجعبة، فنكت السهام بين يديه، وجعل يتأمل الناس، فإذا رأى رجلاً طالهم وعلا عليهم رشقه في أذنه بسهم، فأنشبه فيه، وكنت رجلاً طويلاً. فلما رأيته فعل ذلك برجلين خفت أن يقع طرفه علي، فيجعلني ثالثاً، فتلطفت حتى خرجت، ثم عدت إلى مكة، فلبثت بها حيناً، ثم بلغني عن ملوك غسان انه من أتاه من قريش حباه وشرفه، فلم يمنعني ما شاهدته من النعمان أن توجهت حتى انتهيت إليه، فأمكث أياماً لا أصل إليه، ولا يؤذن لأحد عليه، ثم جلس جلوساً عاماً، فدخلت في جملة الناس، فإذا هو جالس في صدر مجلسه، وفي وسط داره أسطوانة طويلة، واسعة الرأس، فجعل يتأملها، ثم قال لجلسائه: أترون أنه لو أخذ رجل شاب، ظاهر الدم، حسن الجسم، فذبح على رأس هذه الأسطوانة، أكان يسيل دمه حتى يبلغ الأرض؟ فقالوا: ما نرى ذاك، وإنها لطويلة، فأمر برجل توسمه بين الناس، ونظر إليه على البعث الذي بعثه، فأصعد إلى أعلى الأسطوانة، فذبح، فسال دمه حتى بلغ ثلثها، وانحدر قليلاً، فقال: ما أراه بلغ الأرض، فلقد كانت به أدمة، ولو كان أبيض كان دمه أكثر.
ثم تأمل الناس فلحظني بطرفه، فظننت أنه سيأمر بي، ثم غفل عني فتلطفت وخرجت، فعدت إلى مكة، فمكثت حيناً ثم توجهت في تجارة إلى الشام في رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، وكان مقصدنا غزة. فلما أتيناها وجدنا أسواقها تصرمت، وبقيت بضائعنا، فقيل لنا: لو أتيتم دمشق لأصبتم بها حاجتكم، فأتيناها، فبعنا واشترينا ما يصلح لبلادنا، وخرجنا نريد طريق بلادنا. فلما سرنا غير بعيد عرضت لي حاجة، فحللت إزاري فإذا فيه صرة، ذكرتها حين رأيتها، فيها شيء من الذهب، كانت امرأة من نساء قومي دفعته إلي، وسألتني أن أبتاع لها به بزاً، وما أشبهه،
فقلت لأصحابي: أنظروني بمكانكم إلى أن أنصرف إليكم، فقد عرضت لي حاجة لا بد من العودة فيها إلى دمشق، فأخبرتهم بأمر المرأة، فقالوا: فنحن نقيم عليك، فلا تحبسنا، فرجعت حتى أدخلها مساء، فنزلت فندقاً لأبيت فيه، وأصبح على حاجتي، فإني لنائم أتاني رجل حسن الصورة مكتهل، فحركني برجله ففتحت عيني، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: أنا رجل غريب دخلت في حاجة، فقال: انطلق معي إلى منزلي، فنهضت معه، واحسن ضيافتي، وبت عنده خير مبيت.
فلما أخذت مضجعي قام يصلي الليل كله حتى أدركه الصبح، فأقبل علي، وقال: لا تخرج إلى السوق حتى أخرج معك، فتقضى حاجتك. قال: وكان كل من يخرج إلى الأسواق يحرز متاعه مخافة أن يختطف. قال: وأدرك الرجل النوم لسهره ليله، فكرهت أن أوقظه، وخفت أن أحتبس أنا عن أصحابي، فبادرت إلى السوق، فإذا أكثر أهلها لم يأتوا، فوقفت أترقب، وإذا ببطريق من الروم وجماعة من الأعوان، فرآني وعلم أني غريب، فقال لأعوانه: خذوه، فنعم خادم الكنيسة هو، فأخذوني وانطلقوا بي إلى كنيسة لهم فيها بناء قد استهدم وأعطوني مراً وقالوا: اهدم، فظللت يومي كله أعمل حتى أمسيت، فخلوني، فرجعت إلى الفندق الذي كنت فيه، وأنا بحالة سيئة، فأتاني الرجل الذي كان أضافني فقال: ما كان من أمرك؟ فأخبرته، فقال: ألم أوصك لا تخرج إلى السوق إلا معي؟ فقلت: إنك بت تصلي، وأعجلني الأمر، وكرهت أن أعجلك من منامك، فقال: انطلق الآن معي، فصار بي إلى منزله، وأحسن ضيافتي، وأوصاني ألا أصنع كما صنعت، ولا أخرج إلا معه. وأخذ في صلاته حتى إذا بان الصبح، ونام خالفته فخرجت إلى السوق، فإذا البطريق غشيني، فقال لأصحابه: هذا صاحبنا بالأمس، خذوه فأخذوني، وأعطوني المر، فما زلت أهدم حتى انتصف النهار واشتد الحر، وخلا الموضع، فجلست أستريح، فما شعرت إلا وقد هجم علي البطريق فعلاني بسوط معه حتى أوجعني، فقال: تركت العمل وجلست؟! فأبلغ مني فعله، ونظرت عن يميني وعن شمالي فإذا ليس أحد غيري وغيره، فاجتذبته فسقط إلى الأرض عن دابته،
وضربت هامته بالمر ففلقتها، وهو يستغيث، فلم يسمعه أحد، فطرحت عليه من ذلك الهدم، وخرجت من المدينة هارباً لا ألتفت ورائي حذراً من الطلب، وقصدت غير الطريق الذي فيه أصحابي.
فلما أبعدت لحقني رجل من الروم يسير في بعض أمره، فكلمني بلغته فلم أعرفها واستراب بي، وألح في مخاطبتي بما لا أعلمه، وأنا أخاطبه بما لا يعلمه، ثم أومأ بيده إلى سيفه ليسله، فبادرته فغلبته عليه، وصرعته عن بغلة كان عليها وقتلته، وذهبت البغلة، وأخذت حتى وصلت إلى دير فيه جماعة نصارى فدخلته. فلما رأوني سألوني عن حالي فكنيت عنها، وقلت: بم يعرف ديركم؟ قالوا: يعرف بدير العدس، وانطلقوا إلى أسقف لهم فعرفوه خبري، فأتاني. فلما تأملني قال: أرى وجه خائف، قلت: وما ترى من خوفي؟ قال: كن كيف شئت فقد أمن الله خوفك، ولا مكروه عليك إذ وصلت إلينا، وأنزلني في بيته، وأحسن ضيافتي، ثم سألني من أنا؟ وممن أنا؟ فأخبرته، وهو يتأملني، ويعيد مسألتي. فلما أصبحت قال: ما تشاء، المقام أم الرحيل؟ فقلت: الرحيل، فجاءني بحمارة له قمراء ذات لحم وشحم، فأوكفها، وحملها خرجين، فيهما طعام وطرف وتحف، فقال لي: اركبها، وانطلق، فإنك لن تأتي على أحد من النصارى فيراك عليها إلا أحسن ضيافتك، وحفظك وجوزك، ثم أخذ بيدي، فخلا بي من وراء الدير، فقال لي: يا عمر، قد وجب حقي عليك، وأنت رجل من قوم كرام، ولي إليك حاجة، فاقضها، فقلت: اذكرها، وإني لأعجب أن تكون لمثلك إلى مثلي حاجة، وأنا رجل غريب على الحال الذي ترى، فقال: أنا رجل عندي علم من الكتاب، وقد تفرست فيك، ولن تنقضي الأيام حتى يتغير ما عليه الناس، وينتقلون إلى حالة أخرى، وتلي أنت هذه البلاد، وينفذ أمرك، وحكمك فيها وفي أهلها، وأخرج من كمه دواة وصحيفة وقال: حاجتي أن تكتب كتاباً يكون في يدي بإسقاط الجزية عن هذا الدير، ومن يسكنه، فقلت: ما كنت أراك تهزأ بي، فقال: وما كنت أراك تسيء بي الظن، والذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم لحق كما قلت لك، فاكتب لي بما سألتك، فكتبت له بما سأل وانطلقت، فما أتيت على قوم من النصارى إلا ضيفوني، وجوزوني، وأرشدوني الطريق، وشيعني بعضهم إلى بعض حين رأوني على حمارة الأسقف، حتى انتهيت إلى تبوك، فإذا أصحابي نزول. فلما رأوني نهضوا إلي، وسروا بورودي، وقالوا: حبستنا
بالمكان الذي خلفتنا فيه ثلاثاً، ولما يئسنا منك سرنا، وبنا منك هم شديد، فما كان من شأنك؟ فأخبرتهم خبري غير الذي قاله لي الأسقف، فلم أذكره لهم لضعف كان في نفسي. وقال لهم أبو سفيان حين رآني راكباً على تلك الحمارة: أما ترون هذا الفتى وإقبال أمره، إنه مذ نشأ لو عمد إلى حجر لانفلق عن رزق، قال: وكان الأسقف أوصاني إذا وصلت لأصحابي، واستغنيت عن الحمارة جعلت رسنها في أحد جانبي الخرج، وأشد الخرجين عليها شداً متقناً، وأدعها بمكانها حيث كانت، ففعلت بها ذلك، فقال أبو سفيان: ما هذا؟ فقلت: ما ترى: تدع حمارة مثل هذه معرضة للصوص والسباع، فقلت: بهذا أمرني صاحبها، وهو أعلم بشأنها مني. قال: فسمى ذلك الموضع والركن الذي فيه: ركن الأتان.
وأتينا مكة، ودار في نفسي ما سمعته من ذلك الأسقف، فأسررت ذلك إلى حاضنة لي ذات فهم وعلم، فقالت: يا بن الخطاب، إني لم أزل أتوسم فيك الخير، وأنت صغير، وذلك أني رأيت فيما يرى النائم وأنت تطول حتى لم أستطع النظر إلى وجهك لطولك، ثم مددت يدك اليمنى، فنلت بها السماء، فقلت في منامي: ما بال ابني؟ فقال لي قائل: إنه سينال خير الدنيا والآخرة. قال: ونحن في جاهلية لا نعرف معنى هذا الكلام، وكان بمكة رجل من أهل الكتاب يخفي أمره، ويكتم شأنه، إلا أن أكابر قريش يعرفونه ويكرمونه، وربما شاوروه في الأمر يحدث لهم، فطرقته نصف النهار، وقلت له: أغلق الباب، فإن لي بك خلوة ففعل، فقلت له: إني أذكر لك حديثين، فلا تخبر بهما أحداً، وقصصت عليه ما قال الأسقف بدير العدس، وما أخبرتني به حاضنتي من الرؤيا، فأقبل علي وقال: يا بن الخطاب، أما ما ذكر الأسقف فهو اليوم أعلم من بقي على وجه الأرض من النصارى، وما أخبرك إلا بالحق، وأما الرؤيا، فإنه سيحدث بمكة عن قريب أمر يتغير به جميع ما ترى، وقد أظل، فإذا رأيت أوائله يا بن الخطاب فأتني، فإن فيه مصداق ما أخبرك به الأسقف، فقلت: وما هو؟ فقال: لن يخفى عليك، فأول أمر تراه يحدث فهو هو. قال: فانصرفت، وأنا أتوقع ما قال، فمات بعد أيام، وظهر من ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء تحدث به قوم من قريش، وجعلوا يتذاكرونه بينهم على سبيل
الهزء، وقلت في نفسي: لئن كان هذا حقاً لهو الرجل الذي أخبرني به الرجل الكتابي، ولم يزل ذلك يقوى حتى أظهر الله الإسلام.
قال أسلم: فلما كان في خلافة عمر توجه إلى الشام أتاه شيخ كبير، ومعه جماعة من النصارى، فسلم عليه، وقال: ما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن كنت صاحبي بدير العدس فإني أعرفك، قال: أنا هو، فقال عمر: إن عهدي بك، وأنت مكتهل، وقد بلغت هذه الحال، وقد أتى الله عز وجل بالإسلام، فما يمنعك من الدخول فيه، وأنت رجل من أهل الكتاب؟ وقد كنت أخبرتني بشيء، فرأيت من نبئه ما استدللت به، على أنك من علمائهم، فاعتذر في ذلك. ثم أظهر الكتاب الذي كان عمر كتبه له، فعرفه عمر، وقال: ما تسأل؟ قال: اسأل أن تمضيه لي، فقد تقدم به أمرك ووعدك، فقال: إنا يومئذ كنا وإياكم على حال قد علمتها، وقد أزالها الله، وجاءنا بغيرها، ولا بد من أحد أمرين: إما الخراج، وإما الضيافة، فاختار الضيافة، فألزمهم إياها عمر، وأسقط عن ديره الخراج على أن عليهم ضيافة من نزل هذا الدير من المسلمين إذا كان عابر سبيل ثلاثة أيام، يطعمونهم، ما يحل لهم من أوسط طعامهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وقال عمر: ما أعرف لأحد عندي يداً منذ كنت حتى من الله علي بالإسلام غير هذا الرجل - يعني ما كان صنعه به أسقف الدير - وعرض عليه المكافأة من ماله، فلم يقبلها، وانصرف وأصحابه راضين بما أكرمهم عمر من ضيافة المسلمين.
القرشي البلقاوي
حدث عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب كثيراً مما يحدثنا عن أخبار الجاهلية وأهلها، ويقول: الأجل حصن حصين، وكهف منيع، ولقد أتت علي أحوال مهلكات نجوت منها سالماً، وكنت من أشد الناس إقداماً على ما يعجز عنه كثير من الناس، من الدخول على الملوك ومباشرة الحرب، حتى إني ونفر من أقراني من قريش دون العشرة أقدمنا على مئة رجل من ذوي البأس في بعض طريق الشام، فقد أجمعوا للقاء أقران لهم، فهجمنا عليهم ضحى، فواقعناهم حتى ذهب النهار وجاء الليل، فتحاجزنا، وما ظفروا منا بشيء، وافترق أصحابي بعد ذلك فرقتين، فمكثت في أقلهم عدداً، فأقمت أنا ومن معي بمكاننا، وغدا الآخرون عنا يريدون البحر، فذهبوا إلى الساعد، فما يعلم لأحد منهم خبر، وانطلقنا نحن إلى الشام، فقضينا أمرنا. فلما هممنا بالانصراف طعن رجل من أصحابي فمات، وسرت أنا وواحد منهم لم يبق معي غيره، فلم تنتصف الطريق بنا حتى غشينا في ليلة ظلمة سبع، فاختطفه وبقيت وحدي، فأتيت مكة فأقمت بها أياماً، ثم توجهت لبعض الأمر، فبينا أنا أسير تغولت لي الغول، فقالت لي: أين تعمد يا بن الخطاب؟ فقلت: وما عليك من ذلك؟ فاستدار وجهها حتى صار من ورائها، فرفعت السيف فأضرب به ما بين كتفيها وعنقها فأبنته، وانطلقت حتى قضيت حاجتي، وحدثت
نفسي أن لا أحد في ذلك الطريق، فأتيت على المكان الذي وقعت الغول فيه، فلم أر لها أثراً.
فبينا أنا أسير سمعت صياحاً قد علا، ولا أرى أحداً، فما راعني ذلك، ولا جبنت به، وسرت حتى أتيت مكة. وكان الناس يكثرون ذكر النعمان بن المنذر ويصفون إكرامه من يأتيه من قريش، فتوجهت نحوه، فوجدته جالساً في مجلس عظيم، وقد كثر الناس فيه، فجلست حيث انتهى بي المجلس، فدعا بقوس وجعبة، فنكت السهام بين يديه، وجعل يتأمل الناس، فإذا رأى رجلاً طالهم وعلا عليهم رشقه في أذنه بسهم، فأنشبه فيه، وكنت رجلاً طويلاً. فلما رأيته فعل ذلك برجلين خفت أن يقع طرفه علي، فيجعلني ثالثاً، فتلطفت حتى خرجت، ثم عدت إلى مكة، فلبثت بها حيناً، ثم بلغني عن ملوك غسان انه من أتاه من قريش حباه وشرفه، فلم يمنعني ما شاهدته من النعمان أن توجهت حتى انتهيت إليه، فأمكث أياماً لا أصل إليه، ولا يؤذن لأحد عليه، ثم جلس جلوساً عاماً، فدخلت في جملة الناس، فإذا هو جالس في صدر مجلسه، وفي وسط داره أسطوانة طويلة، واسعة الرأس، فجعل يتأملها، ثم قال لجلسائه: أترون أنه لو أخذ رجل شاب، ظاهر الدم، حسن الجسم، فذبح على رأس هذه الأسطوانة، أكان يسيل دمه حتى يبلغ الأرض؟ فقالوا: ما نرى ذاك، وإنها لطويلة، فأمر برجل توسمه بين الناس، ونظر إليه على البعث الذي بعثه، فأصعد إلى أعلى الأسطوانة، فذبح، فسال دمه حتى بلغ ثلثها، وانحدر قليلاً، فقال: ما أراه بلغ الأرض، فلقد كانت به أدمة، ولو كان أبيض كان دمه أكثر.
ثم تأمل الناس فلحظني بطرفه، فظننت أنه سيأمر بي، ثم غفل عني فتلطفت وخرجت، فعدت إلى مكة، فمكثت حيناً ثم توجهت في تجارة إلى الشام في رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، وكان مقصدنا غزة. فلما أتيناها وجدنا أسواقها تصرمت، وبقيت بضائعنا، فقيل لنا: لو أتيتم دمشق لأصبتم بها حاجتكم، فأتيناها، فبعنا واشترينا ما يصلح لبلادنا، وخرجنا نريد طريق بلادنا. فلما سرنا غير بعيد عرضت لي حاجة، فحللت إزاري فإذا فيه صرة، ذكرتها حين رأيتها، فيها شيء من الذهب، كانت امرأة من نساء قومي دفعته إلي، وسألتني أن أبتاع لها به بزاً، وما أشبهه،
فقلت لأصحابي: أنظروني بمكانكم إلى أن أنصرف إليكم، فقد عرضت لي حاجة لا بد من العودة فيها إلى دمشق، فأخبرتهم بأمر المرأة، فقالوا: فنحن نقيم عليك، فلا تحبسنا، فرجعت حتى أدخلها مساء، فنزلت فندقاً لأبيت فيه، وأصبح على حاجتي، فإني لنائم أتاني رجل حسن الصورة مكتهل، فحركني برجله ففتحت عيني، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: أنا رجل غريب دخلت في حاجة، فقال: انطلق معي إلى منزلي، فنهضت معه، واحسن ضيافتي، وبت عنده خير مبيت.
فلما أخذت مضجعي قام يصلي الليل كله حتى أدركه الصبح، فأقبل علي، وقال: لا تخرج إلى السوق حتى أخرج معك، فتقضى حاجتك. قال: وكان كل من يخرج إلى الأسواق يحرز متاعه مخافة أن يختطف. قال: وأدرك الرجل النوم لسهره ليله، فكرهت أن أوقظه، وخفت أن أحتبس أنا عن أصحابي، فبادرت إلى السوق، فإذا أكثر أهلها لم يأتوا، فوقفت أترقب، وإذا ببطريق من الروم وجماعة من الأعوان، فرآني وعلم أني غريب، فقال لأعوانه: خذوه، فنعم خادم الكنيسة هو، فأخذوني وانطلقوا بي إلى كنيسة لهم فيها بناء قد استهدم وأعطوني مراً وقالوا: اهدم، فظللت يومي كله أعمل حتى أمسيت، فخلوني، فرجعت إلى الفندق الذي كنت فيه، وأنا بحالة سيئة، فأتاني الرجل الذي كان أضافني فقال: ما كان من أمرك؟ فأخبرته، فقال: ألم أوصك لا تخرج إلى السوق إلا معي؟ فقلت: إنك بت تصلي، وأعجلني الأمر، وكرهت أن أعجلك من منامك، فقال: انطلق الآن معي، فصار بي إلى منزله، وأحسن ضيافتي، وأوصاني ألا أصنع كما صنعت، ولا أخرج إلا معه. وأخذ في صلاته حتى إذا بان الصبح، ونام خالفته فخرجت إلى السوق، فإذا البطريق غشيني، فقال لأصحابه: هذا صاحبنا بالأمس، خذوه فأخذوني، وأعطوني المر، فما زلت أهدم حتى انتصف النهار واشتد الحر، وخلا الموضع، فجلست أستريح، فما شعرت إلا وقد هجم علي البطريق فعلاني بسوط معه حتى أوجعني، فقال: تركت العمل وجلست؟! فأبلغ مني فعله، ونظرت عن يميني وعن شمالي فإذا ليس أحد غيري وغيره، فاجتذبته فسقط إلى الأرض عن دابته،
وضربت هامته بالمر ففلقتها، وهو يستغيث، فلم يسمعه أحد، فطرحت عليه من ذلك الهدم، وخرجت من المدينة هارباً لا ألتفت ورائي حذراً من الطلب، وقصدت غير الطريق الذي فيه أصحابي.
فلما أبعدت لحقني رجل من الروم يسير في بعض أمره، فكلمني بلغته فلم أعرفها واستراب بي، وألح في مخاطبتي بما لا أعلمه، وأنا أخاطبه بما لا يعلمه، ثم أومأ بيده إلى سيفه ليسله، فبادرته فغلبته عليه، وصرعته عن بغلة كان عليها وقتلته، وذهبت البغلة، وأخذت حتى وصلت إلى دير فيه جماعة نصارى فدخلته. فلما رأوني سألوني عن حالي فكنيت عنها، وقلت: بم يعرف ديركم؟ قالوا: يعرف بدير العدس، وانطلقوا إلى أسقف لهم فعرفوه خبري، فأتاني. فلما تأملني قال: أرى وجه خائف، قلت: وما ترى من خوفي؟ قال: كن كيف شئت فقد أمن الله خوفك، ولا مكروه عليك إذ وصلت إلينا، وأنزلني في بيته، وأحسن ضيافتي، ثم سألني من أنا؟ وممن أنا؟ فأخبرته، وهو يتأملني، ويعيد مسألتي. فلما أصبحت قال: ما تشاء، المقام أم الرحيل؟ فقلت: الرحيل، فجاءني بحمارة له قمراء ذات لحم وشحم، فأوكفها، وحملها خرجين، فيهما طعام وطرف وتحف، فقال لي: اركبها، وانطلق، فإنك لن تأتي على أحد من النصارى فيراك عليها إلا أحسن ضيافتك، وحفظك وجوزك، ثم أخذ بيدي، فخلا بي من وراء الدير، فقال لي: يا عمر، قد وجب حقي عليك، وأنت رجل من قوم كرام، ولي إليك حاجة، فاقضها، فقلت: اذكرها، وإني لأعجب أن تكون لمثلك إلى مثلي حاجة، وأنا رجل غريب على الحال الذي ترى، فقال: أنا رجل عندي علم من الكتاب، وقد تفرست فيك، ولن تنقضي الأيام حتى يتغير ما عليه الناس، وينتقلون إلى حالة أخرى، وتلي أنت هذه البلاد، وينفذ أمرك، وحكمك فيها وفي أهلها، وأخرج من كمه دواة وصحيفة وقال: حاجتي أن تكتب كتاباً يكون في يدي بإسقاط الجزية عن هذا الدير، ومن يسكنه، فقلت: ما كنت أراك تهزأ بي، فقال: وما كنت أراك تسيء بي الظن، والذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم لحق كما قلت لك، فاكتب لي بما سألتك، فكتبت له بما سأل وانطلقت، فما أتيت على قوم من النصارى إلا ضيفوني، وجوزوني، وأرشدوني الطريق، وشيعني بعضهم إلى بعض حين رأوني على حمارة الأسقف، حتى انتهيت إلى تبوك، فإذا أصحابي نزول. فلما رأوني نهضوا إلي، وسروا بورودي، وقالوا: حبستنا
بالمكان الذي خلفتنا فيه ثلاثاً، ولما يئسنا منك سرنا، وبنا منك هم شديد، فما كان من شأنك؟ فأخبرتهم خبري غير الذي قاله لي الأسقف، فلم أذكره لهم لضعف كان في نفسي. وقال لهم أبو سفيان حين رآني راكباً على تلك الحمارة: أما ترون هذا الفتى وإقبال أمره، إنه مذ نشأ لو عمد إلى حجر لانفلق عن رزق، قال: وكان الأسقف أوصاني إذا وصلت لأصحابي، واستغنيت عن الحمارة جعلت رسنها في أحد جانبي الخرج، وأشد الخرجين عليها شداً متقناً، وأدعها بمكانها حيث كانت، ففعلت بها ذلك، فقال أبو سفيان: ما هذا؟ فقلت: ما ترى: تدع حمارة مثل هذه معرضة للصوص والسباع، فقلت: بهذا أمرني صاحبها، وهو أعلم بشأنها مني. قال: فسمى ذلك الموضع والركن الذي فيه: ركن الأتان.
وأتينا مكة، ودار في نفسي ما سمعته من ذلك الأسقف، فأسررت ذلك إلى حاضنة لي ذات فهم وعلم، فقالت: يا بن الخطاب، إني لم أزل أتوسم فيك الخير، وأنت صغير، وذلك أني رأيت فيما يرى النائم وأنت تطول حتى لم أستطع النظر إلى وجهك لطولك، ثم مددت يدك اليمنى، فنلت بها السماء، فقلت في منامي: ما بال ابني؟ فقال لي قائل: إنه سينال خير الدنيا والآخرة. قال: ونحن في جاهلية لا نعرف معنى هذا الكلام، وكان بمكة رجل من أهل الكتاب يخفي أمره، ويكتم شأنه، إلا أن أكابر قريش يعرفونه ويكرمونه، وربما شاوروه في الأمر يحدث لهم، فطرقته نصف النهار، وقلت له: أغلق الباب، فإن لي بك خلوة ففعل، فقلت له: إني أذكر لك حديثين، فلا تخبر بهما أحداً، وقصصت عليه ما قال الأسقف بدير العدس، وما أخبرتني به حاضنتي من الرؤيا، فأقبل علي وقال: يا بن الخطاب، أما ما ذكر الأسقف فهو اليوم أعلم من بقي على وجه الأرض من النصارى، وما أخبرك إلا بالحق، وأما الرؤيا، فإنه سيحدث بمكة عن قريب أمر يتغير به جميع ما ترى، وقد أظل، فإذا رأيت أوائله يا بن الخطاب فأتني، فإن فيه مصداق ما أخبرك به الأسقف، فقلت: وما هو؟ فقال: لن يخفى عليك، فأول أمر تراه يحدث فهو هو. قال: فانصرفت، وأنا أتوقع ما قال، فمات بعد أيام، وظهر من ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء تحدث به قوم من قريش، وجعلوا يتذاكرونه بينهم على سبيل
الهزء، وقلت في نفسي: لئن كان هذا حقاً لهو الرجل الذي أخبرني به الرجل الكتابي، ولم يزل ذلك يقوى حتى أظهر الله الإسلام.
قال أسلم: فلما كان في خلافة عمر توجه إلى الشام أتاه شيخ كبير، ومعه جماعة من النصارى، فسلم عليه، وقال: ما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن كنت صاحبي بدير العدس فإني أعرفك، قال: أنا هو، فقال عمر: إن عهدي بك، وأنت مكتهل، وقد بلغت هذه الحال، وقد أتى الله عز وجل بالإسلام، فما يمنعك من الدخول فيه، وأنت رجل من أهل الكتاب؟ وقد كنت أخبرتني بشيء، فرأيت من نبئه ما استدللت به، على أنك من علمائهم، فاعتذر في ذلك. ثم أظهر الكتاب الذي كان عمر كتبه له، فعرفه عمر، وقال: ما تسأل؟ قال: اسأل أن تمضيه لي، فقد تقدم به أمرك ووعدك، فقال: إنا يومئذ كنا وإياكم على حال قد علمتها، وقد أزالها الله، وجاءنا بغيرها، ولا بد من أحد أمرين: إما الخراج، وإما الضيافة، فاختار الضيافة، فألزمهم إياها عمر، وأسقط عن ديره الخراج على أن عليهم ضيافة من نزل هذا الدير من المسلمين إذا كان عابر سبيل ثلاثة أيام، يطعمونهم، ما يحل لهم من أوسط طعامهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وقال عمر: ما أعرف لأحد عندي يداً منذ كنت حتى من الله علي بالإسلام غير هذا الرجل - يعني ما كان صنعه به أسقف الدير - وعرض عليه المكافأة من ماله، فلم يقبلها، وانصرف وأصحابه راضين بما أكرمهم عمر من ضيافة المسلمين.