الزبير بن الأروح التميمي
عراقي من التابعين، وفد على يزيد بن معاوية.
حدث يحيى بن أبي حية الكلبي قال: ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب كتاباً أطال فيه وكان أول من أطال في الكتب فلما نظر فيه عبيد الله بن زياد تكرهه وقال: ما هذا التطويل؟ اكتب: أما بعد. فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية والزبير بن الأروح، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر، فإن عندهما علماً وصدقاً وورعاً. والسلام.
فكتب إليه يزيد بن معاوية: أما بعد. فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك ورأيي فيك؛ وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيراً. وإنه قد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة، وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من خير إن شاء الله، والسلام عليك.
/
الزبير بن جعفر بن محمد ابن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المعتز بالله ابن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
قدم دمشق مع أبيه المتوكل، وبويع بالخلافة بعد المستعين.
واختلف في اسمه، فقيل: محمد، وقيل: أحمد، وقيل: الزبير. ولد سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين ومئتين بسر من رأى.
كان المتوكل على الله بايع لابنه المعتز بالله بالعهد والخلافة بعد محمد المنتصر بالله، وللمؤيد بالله إبراهيم بن المتوكل بالعهد بعد المعتز بالله، وكان المؤيد محبوساً مع المعتز، فأخرج بخروجه، فلما بويع المعتز بالله بالعهد والخلافة، وانتصب للأمر والنهي والتدبير، وجه أخاه أبا أحمد بن المتوكل إلى بغداد لحرب المستعين، فصار أبو أحمد بالجيش إلى بغداد، وأخذ محمد بن عبد الله بن طاهرٍ في الاستعداد للحرب ببغداد، وبني سور بغداد، وحفر خندقها، ونزل أبو أحمد على بغداد، فحصر المستعين بالله ومن معه، ونصب لهم الحرب، وتجرد من ببغداد للقتال، ونصب المجانيق والعرادات حول سور بغداد، ودام القتال بينهم سنةً، وعظمت الفتنة، وكثر القتل، وغلت الأسعار ببغداد. وداهن محمد بن عبد الله بن طاهر في نصرة المستعين، ومال إلى المعتز، وكاتب سراً، فضعف أمر المستعين، ووقف أهل بغداد على مداهنة ابن طاهر، فصبحوا به، وكاشفوه، وانتقل المستعين من دار محمد بن
عبد الله إلى الرصافة فنزلها، وسعى في الصلح على خلع المستعين وتسليم الأمر للمعتز، وسعى فيه رجال من الوجوه، ووقعت فيه شرائط مؤكدة فخلع المستعين بالله نفسه ببغداد في الرصافة في المحرم سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وسلم الأمر للمعتز بالله، وبايع له، وأشهد على نفسه، فكانت خلافه المستعين ثلاث سنين وتسعة أشهر. وأخذ المستعين بعد خلعه إلى واسط موكلاً به، فخرج من مدينة السلام بعد خلعه بثمانية أيام، وأقام بواسط تسعة أشهر في التوكل به، ثم حمل إلى سر من رأى، فقتل بقادسية سر من رأى في أول شوال، وقيل: آخر رمضان سنة اثنين وخمسين ومئتين، وله إحدى وثلاثون سنة وكسر.
وكان المستعين بوجهه أثر جدري، في لسانه لثغةٌ على السين يميل بها إلى الثاء.
ولما أنزل المعتز بالله من لؤلؤة، وبويع له ركب إلى أمه، وهي في القصر المعروف بالهاروني، فلما دخل عليها، وسألته عن خبره قال لها: قد كنت كالمريض المدنف، وأنا الآن كالذي وقع في النزع، يعني أنه بويع له بسر من رأى والمستعين خليفةٌ مجتمعٌ عليه في الشرق والغرب.
وأم المعتز أم ولد يقال لها: قبيحة رومية أدركت خلافته.
وقتل يوم الجمعة مستهل شعبان سنة خمس وخمسين ومئتين، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. فكانت خلافته من يوم بويع له ببغداد، واجتمع الناس عليه إلى يوم خلع بسر من رأى وقبض عليه صالحٌ بن وصيف فحبسه ثلاث سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وحبس خمسة أيام، ثم قتل يوم الجمعة بعد العصر مستهل شعبان.
حدث جماعة، قالوا: لما حذق المعتز القرآن دعا المتوكل شفيعاً الخادم بحضرة الفتح بن خاقان، فقال: إني قد عزمت على تحذيق أبي عبد الله في يوم كذا ببركوارا، فأخرج من خزانة الجوهر جوهراً بقيمة مئة ألف دينار في عشر صواني فضة للنثار على من يقرب من القواد مثل محمد بن عبد الله ووصيف، وبغا، وجعفر الخياط ورجاء الحصاري ونحو هؤلاء من قادة العسكر، وأخرج مئة ألف دينار عدداً للنثار على القواد الذين دون هؤلاء في الرواق الذين بين يدي الأبواب، وأخرج ألف ألف درهم بيضاً صحاحاً للنثار على من في الصحن من خلفاء القواد والنقباء. قال شفيع: فوجهت إلى أحمد بن حباب الجوهري، فأقام معنا حتى صنفنا في عشر صوانٍ من الجوهر الأبيض والأحمر والأخضر والأزرق بقيمة مئة ألف دينار، ووزن كل صينية ثلاثة آلاف درهم، وقال شفيع لإبن حباب اجعل في صينية من هذه الصواني جوهراً تكون قيمته خمسة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني، حتى تكون في كل واحدة تسعة آلاف وخمس مئة دينار، فإن أمير المؤمنين أمرني أن أدفع هذه الصينية إلى محمد بن عمران مؤدب الأمير أبي عبد الله إذا فرغ من خطبته، ففعل ذلك. وشدوا كل صينية في منديل، وختمت بخاتم شفيعٍ، وتقدم شفيع إلى من كان معه من الخدم أن ينثروا العين في الرواق والورق في الصحن، ووعز إلى الناس من الأكابر، ووجوه الموالي والشاكرية بحضور بركوار في يوم سمي لهم: ليشهدوا خطبة الأمير المعتز، وكتب إلى محمد بن عبد الله، وهو بمدينة السلام بالقدوم إلى سر من رأى لحضور الحذاق. قال: فتوافى الناس إلى بركوار قبل ذلك بثلاثة أيام، وضربت المضارب، وانحدر المتوكل غداة ذلك اليوم، ومعه قبيجة من اختصت من حرم المتوكل ومن حشمها إلى بركوارا، وجلس المتوكل في الإيوان على منصته، وأخرج منبر أبنوسٍ مضبب بالذهب مرصع بالجوهر، مقانصه عاجٌ، وقيل: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثم أمر بإدخال محمد بن عمران المؤدب، فدخل، فسلم على أمير المؤمنين بالخلافة، ودعا له، فجعل أمير المؤمنين يستدنيه حتى جلس بين يدي المنبر، وخرج المعتز من باب في حنية الإيوان حتى
صعد المنبر، فسلم على أمير المؤمنين وعلى من حضره، ثم خطب، فلما فرغ من خطبته دفعت الصينية إلى محمد بن عمران، ونثر شفيعٌ صواني الجوهر على من في الإيوان، ونثر الخدم الذين كانوا في الرواق والصحن ما كان معهم من العين والورق، وأقام المتوكل ببركوار أياماً، في يوم منها دعته قبيجة فيقال: إنه لم ير يوم مثله سروراً وحسناً وكثرة نفقةٍ، وإن الشمع كله كان عنبراً إلا الشمعة التي في الصحن، فإنه كان وزنها ألف مناً، فكادت تحرق القصر، ووجد من حرها من كان في الجانب الغربي من دجلة.
وقد كان أمر المتوكل أن يصاغ له سريران: أحدهما ذهبٌ والآخر فضة، وبفرش السرير الفضة ببساط حب، وبردعة حب، ووسادتي حب، ومخدتي حب، ومسند حب منظوم على ديباج أسود، وكان طول السرير تسعة أذرع.
قال: فأخرج من خزانة الجوهر حب عمل له ذلك، فكان أرفع قيمة الحبة ديناراً وأقل القيمة درهماً، فاتخذ ذلك. وأمر بفرش السرير الذهب بمثل فرش السرير الفضة منقوشاً بأنواع الجوهر الأحمر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فقعد عليهما هو وقبيجة، ثم وهبهما لها.
قال علي بن حرب الطائي: دخلت على المعتز بالله فما رأيت خليفة كان أحسن وجهاً منه، فلما رأيته سجدت. فقال: يا شيخ! تسجد لأحد من دون الله!؟ قلت: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل بسنده عن أبي بكرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى ما يفرح به، أو بشر بما يسره سجد شكراً لله عز وجل.
قال أبو العيناء: دخل ابن السكيت على المعتز، وكان يؤدبه وله عشر سنين، فقال: بأي شيء تحب أن أبتدىء الأمير من العلوم؟ فقال: بالانصراف. قال: أنا أخف نهوضاً منك. فوثب فعثر بسراويله، فالتفت فقال: من الطويل:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فخبر بها المتوكل، فأمر لابن السكيت بخمسين ألف درهم. قال أبو العيناء: وإنما فعل ذلك المتوكل ليستر عوار ابنه في سوء أدبه على معلمه.
قال أحمد بن بديل الكوفي القاضي: بعث إلي المعتز رسولاً بعد رسول، فلبست كمتي، ولبست نعل طاق، فأتيت بابه، فقال الحاجب: يا شيخ نعليك. فلم ألتفت إليه. ودخلت الباب الثاني، فقال الحاجب: نعليك. فلم ألتفت إليه، فدخلت إلى الباب الثالث، فقال: يا شيخ نعليك! فقلت: أبالوادي المقدس أنا، فأخلع نعلي!؟ فدخلت بنعلي، فرفع مجلسي، وجلست على مصلاة، فقال: أتعبناك أبا جعفر. فقلت: أتعبتني وأذعرتني، فكيف بك إذا سئلت عني؟ فقال: ما أردنا إلا الخير، أردنا نسمع العلم. فقلت: وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي. قال: تعبت أبا جعفرٍ؟ فقلت له: خلبتني بحسن أدبك، اكتب.
قال: فأخذ الكاتب القرطاس والدواة، فقلت له: أتكتب حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرطاس بمداد؟ قال: فبم نكتب؟ قلت: في رق بحبرٍ. فجاؤوا رقٍّ وحبرٍ، فأخذ الكاتب يريد أن يكتب، فقلت: اكتب بخطك، فأومى إلي أنه لا يكتب، فأمليت عليه حديثين أسخن الله بهما عينيه.
فسأله ابن البنا أو ابن النعمان: أي حديثين؟ فقال: قلت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من استرعي رعيةً فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة ".
والثاني: " ما من أمير عشرة إلا يوتى به يوم القيامة مغلولاً ".
قال عمر بن محمد بن عبد الملك، قعد المعتز، ويونس بن بغا بين يديه، والجلساء، والمغنون حضورٌ، وقد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا سيدي والدة عبدك يونس في الموت، وهي تحب أن تراه، فأذن له. فخرج، وفتر المعتز بعده، ونعس، وقام
الجلساء إلى أن صليت المغرب، وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس، وبين يديه الشموع، فلما رآه المعتز عاد المجلس أحسن ما كان، فقال المعتز: مجزوء المتقارب:
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح
وإن شئت عذبتني ... بأنك لا تسمح
فأصبحت ما بين ذين ... ولي كبد تقرح
على ذاك يا سيدي ... دنوك لي أصلح
ثم قالوا: غنوا فيه، فغنو فيه، فجعلوا يفكرون، فقال المعتز لابن فضل الطنبوري: وتلك ألحان الطنبور أملح وأخف، فغن لنا. فغنى فيه لحناً، فقال: دنانير الخريطة وهي مئة دينار فيها مئتان مكتوب على كل دينار: ضرب هذا الدينار بالحسنى لخريطة أمير المؤمنين ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.
ومن شعر عريب في المعتز وأمه قبيجة قولها: مجزوء الرمل:
اسلمي يا دار دار ال ... عز للمعتز دارا
ثم كوني لولي ال ... عهد خلداً وقرارا
أبداً معمورةً ما ... طرد الليل النهارا
ويكون اله للدي ... ن وللإسلام جارا
وولياً ونصيراً ... حيثما حل وسارا
يا أمير المؤمنين اخ ... تارك الله اختيارا
وولاة العهد للدي ... ن صغاراً وكبارا
فدم الدهر لنا ما ... طلع النجم وغارا
عراقي من التابعين، وفد على يزيد بن معاوية.
حدث يحيى بن أبي حية الكلبي قال: ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب كتاباً أطال فيه وكان أول من أطال في الكتب فلما نظر فيه عبيد الله بن زياد تكرهه وقال: ما هذا التطويل؟ اكتب: أما بعد. فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية والزبير بن الأروح، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر، فإن عندهما علماً وصدقاً وورعاً. والسلام.
فكتب إليه يزيد بن معاوية: أما بعد. فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك ورأيي فيك؛ وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيراً. وإنه قد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة، وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من خير إن شاء الله، والسلام عليك.
/
الزبير بن جعفر بن محمد ابن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المعتز بالله ابن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
قدم دمشق مع أبيه المتوكل، وبويع بالخلافة بعد المستعين.
واختلف في اسمه، فقيل: محمد، وقيل: أحمد، وقيل: الزبير. ولد سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين ومئتين بسر من رأى.
كان المتوكل على الله بايع لابنه المعتز بالله بالعهد والخلافة بعد محمد المنتصر بالله، وللمؤيد بالله إبراهيم بن المتوكل بالعهد بعد المعتز بالله، وكان المؤيد محبوساً مع المعتز، فأخرج بخروجه، فلما بويع المعتز بالله بالعهد والخلافة، وانتصب للأمر والنهي والتدبير، وجه أخاه أبا أحمد بن المتوكل إلى بغداد لحرب المستعين، فصار أبو أحمد بالجيش إلى بغداد، وأخذ محمد بن عبد الله بن طاهرٍ في الاستعداد للحرب ببغداد، وبني سور بغداد، وحفر خندقها، ونزل أبو أحمد على بغداد، فحصر المستعين بالله ومن معه، ونصب لهم الحرب، وتجرد من ببغداد للقتال، ونصب المجانيق والعرادات حول سور بغداد، ودام القتال بينهم سنةً، وعظمت الفتنة، وكثر القتل، وغلت الأسعار ببغداد. وداهن محمد بن عبد الله بن طاهر في نصرة المستعين، ومال إلى المعتز، وكاتب سراً، فضعف أمر المستعين، ووقف أهل بغداد على مداهنة ابن طاهر، فصبحوا به، وكاشفوه، وانتقل المستعين من دار محمد بن
عبد الله إلى الرصافة فنزلها، وسعى في الصلح على خلع المستعين وتسليم الأمر للمعتز، وسعى فيه رجال من الوجوه، ووقعت فيه شرائط مؤكدة فخلع المستعين بالله نفسه ببغداد في الرصافة في المحرم سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وسلم الأمر للمعتز بالله، وبايع له، وأشهد على نفسه، فكانت خلافه المستعين ثلاث سنين وتسعة أشهر. وأخذ المستعين بعد خلعه إلى واسط موكلاً به، فخرج من مدينة السلام بعد خلعه بثمانية أيام، وأقام بواسط تسعة أشهر في التوكل به، ثم حمل إلى سر من رأى، فقتل بقادسية سر من رأى في أول شوال، وقيل: آخر رمضان سنة اثنين وخمسين ومئتين، وله إحدى وثلاثون سنة وكسر.
وكان المستعين بوجهه أثر جدري، في لسانه لثغةٌ على السين يميل بها إلى الثاء.
ولما أنزل المعتز بالله من لؤلؤة، وبويع له ركب إلى أمه، وهي في القصر المعروف بالهاروني، فلما دخل عليها، وسألته عن خبره قال لها: قد كنت كالمريض المدنف، وأنا الآن كالذي وقع في النزع، يعني أنه بويع له بسر من رأى والمستعين خليفةٌ مجتمعٌ عليه في الشرق والغرب.
وأم المعتز أم ولد يقال لها: قبيحة رومية أدركت خلافته.
وقتل يوم الجمعة مستهل شعبان سنة خمس وخمسين ومئتين، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. فكانت خلافته من يوم بويع له ببغداد، واجتمع الناس عليه إلى يوم خلع بسر من رأى وقبض عليه صالحٌ بن وصيف فحبسه ثلاث سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وحبس خمسة أيام، ثم قتل يوم الجمعة بعد العصر مستهل شعبان.
حدث جماعة، قالوا: لما حذق المعتز القرآن دعا المتوكل شفيعاً الخادم بحضرة الفتح بن خاقان، فقال: إني قد عزمت على تحذيق أبي عبد الله في يوم كذا ببركوارا، فأخرج من خزانة الجوهر جوهراً بقيمة مئة ألف دينار في عشر صواني فضة للنثار على من يقرب من القواد مثل محمد بن عبد الله ووصيف، وبغا، وجعفر الخياط ورجاء الحصاري ونحو هؤلاء من قادة العسكر، وأخرج مئة ألف دينار عدداً للنثار على القواد الذين دون هؤلاء في الرواق الذين بين يدي الأبواب، وأخرج ألف ألف درهم بيضاً صحاحاً للنثار على من في الصحن من خلفاء القواد والنقباء. قال شفيع: فوجهت إلى أحمد بن حباب الجوهري، فأقام معنا حتى صنفنا في عشر صوانٍ من الجوهر الأبيض والأحمر والأخضر والأزرق بقيمة مئة ألف دينار، ووزن كل صينية ثلاثة آلاف درهم، وقال شفيع لإبن حباب اجعل في صينية من هذه الصواني جوهراً تكون قيمته خمسة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني، حتى تكون في كل واحدة تسعة آلاف وخمس مئة دينار، فإن أمير المؤمنين أمرني أن أدفع هذه الصينية إلى محمد بن عمران مؤدب الأمير أبي عبد الله إذا فرغ من خطبته، ففعل ذلك. وشدوا كل صينية في منديل، وختمت بخاتم شفيعٍ، وتقدم شفيع إلى من كان معه من الخدم أن ينثروا العين في الرواق والورق في الصحن، ووعز إلى الناس من الأكابر، ووجوه الموالي والشاكرية بحضور بركوار في يوم سمي لهم: ليشهدوا خطبة الأمير المعتز، وكتب إلى محمد بن عبد الله، وهو بمدينة السلام بالقدوم إلى سر من رأى لحضور الحذاق. قال: فتوافى الناس إلى بركوار قبل ذلك بثلاثة أيام، وضربت المضارب، وانحدر المتوكل غداة ذلك اليوم، ومعه قبيجة من اختصت من حرم المتوكل ومن حشمها إلى بركوارا، وجلس المتوكل في الإيوان على منصته، وأخرج منبر أبنوسٍ مضبب بالذهب مرصع بالجوهر، مقانصه عاجٌ، وقيل: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثم أمر بإدخال محمد بن عمران المؤدب، فدخل، فسلم على أمير المؤمنين بالخلافة، ودعا له، فجعل أمير المؤمنين يستدنيه حتى جلس بين يدي المنبر، وخرج المعتز من باب في حنية الإيوان حتى
صعد المنبر، فسلم على أمير المؤمنين وعلى من حضره، ثم خطب، فلما فرغ من خطبته دفعت الصينية إلى محمد بن عمران، ونثر شفيعٌ صواني الجوهر على من في الإيوان، ونثر الخدم الذين كانوا في الرواق والصحن ما كان معهم من العين والورق، وأقام المتوكل ببركوار أياماً، في يوم منها دعته قبيجة فيقال: إنه لم ير يوم مثله سروراً وحسناً وكثرة نفقةٍ، وإن الشمع كله كان عنبراً إلا الشمعة التي في الصحن، فإنه كان وزنها ألف مناً، فكادت تحرق القصر، ووجد من حرها من كان في الجانب الغربي من دجلة.
وقد كان أمر المتوكل أن يصاغ له سريران: أحدهما ذهبٌ والآخر فضة، وبفرش السرير الفضة ببساط حب، وبردعة حب، ووسادتي حب، ومخدتي حب، ومسند حب منظوم على ديباج أسود، وكان طول السرير تسعة أذرع.
قال: فأخرج من خزانة الجوهر حب عمل له ذلك، فكان أرفع قيمة الحبة ديناراً وأقل القيمة درهماً، فاتخذ ذلك. وأمر بفرش السرير الذهب بمثل فرش السرير الفضة منقوشاً بأنواع الجوهر الأحمر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فقعد عليهما هو وقبيجة، ثم وهبهما لها.
قال علي بن حرب الطائي: دخلت على المعتز بالله فما رأيت خليفة كان أحسن وجهاً منه، فلما رأيته سجدت. فقال: يا شيخ! تسجد لأحد من دون الله!؟ قلت: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل بسنده عن أبي بكرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى ما يفرح به، أو بشر بما يسره سجد شكراً لله عز وجل.
قال أبو العيناء: دخل ابن السكيت على المعتز، وكان يؤدبه وله عشر سنين، فقال: بأي شيء تحب أن أبتدىء الأمير من العلوم؟ فقال: بالانصراف. قال: أنا أخف نهوضاً منك. فوثب فعثر بسراويله، فالتفت فقال: من الطويل:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فخبر بها المتوكل، فأمر لابن السكيت بخمسين ألف درهم. قال أبو العيناء: وإنما فعل ذلك المتوكل ليستر عوار ابنه في سوء أدبه على معلمه.
قال أحمد بن بديل الكوفي القاضي: بعث إلي المعتز رسولاً بعد رسول، فلبست كمتي، ولبست نعل طاق، فأتيت بابه، فقال الحاجب: يا شيخ نعليك. فلم ألتفت إليه. ودخلت الباب الثاني، فقال الحاجب: نعليك. فلم ألتفت إليه، فدخلت إلى الباب الثالث، فقال: يا شيخ نعليك! فقلت: أبالوادي المقدس أنا، فأخلع نعلي!؟ فدخلت بنعلي، فرفع مجلسي، وجلست على مصلاة، فقال: أتعبناك أبا جعفر. فقلت: أتعبتني وأذعرتني، فكيف بك إذا سئلت عني؟ فقال: ما أردنا إلا الخير، أردنا نسمع العلم. فقلت: وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي. قال: تعبت أبا جعفرٍ؟ فقلت له: خلبتني بحسن أدبك، اكتب.
قال: فأخذ الكاتب القرطاس والدواة، فقلت له: أتكتب حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرطاس بمداد؟ قال: فبم نكتب؟ قلت: في رق بحبرٍ. فجاؤوا رقٍّ وحبرٍ، فأخذ الكاتب يريد أن يكتب، فقلت: اكتب بخطك، فأومى إلي أنه لا يكتب، فأمليت عليه حديثين أسخن الله بهما عينيه.
فسأله ابن البنا أو ابن النعمان: أي حديثين؟ فقال: قلت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من استرعي رعيةً فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة ".
والثاني: " ما من أمير عشرة إلا يوتى به يوم القيامة مغلولاً ".
قال عمر بن محمد بن عبد الملك، قعد المعتز، ويونس بن بغا بين يديه، والجلساء، والمغنون حضورٌ، وقد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا سيدي والدة عبدك يونس في الموت، وهي تحب أن تراه، فأذن له. فخرج، وفتر المعتز بعده، ونعس، وقام
الجلساء إلى أن صليت المغرب، وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس، وبين يديه الشموع، فلما رآه المعتز عاد المجلس أحسن ما كان، فقال المعتز: مجزوء المتقارب:
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح
وإن شئت عذبتني ... بأنك لا تسمح
فأصبحت ما بين ذين ... ولي كبد تقرح
على ذاك يا سيدي ... دنوك لي أصلح
ثم قالوا: غنوا فيه، فغنو فيه، فجعلوا يفكرون، فقال المعتز لابن فضل الطنبوري: وتلك ألحان الطنبور أملح وأخف، فغن لنا. فغنى فيه لحناً، فقال: دنانير الخريطة وهي مئة دينار فيها مئتان مكتوب على كل دينار: ضرب هذا الدينار بالحسنى لخريطة أمير المؤمنين ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.
ومن شعر عريب في المعتز وأمه قبيجة قولها: مجزوء الرمل:
اسلمي يا دار دار ال ... عز للمعتز دارا
ثم كوني لولي ال ... عهد خلداً وقرارا
أبداً معمورةً ما ... طرد الليل النهارا
ويكون اله للدي ... ن وللإسلام جارا
وولياً ونصيراً ... حيثما حل وسارا
يا أمير المؤمنين اخ ... تارك الله اختيارا
وولاة العهد للدي ... ن صغاراً وكبارا
فدم الدهر لنا ما ... طلع النجم وغارا