أسامة بْن زيد بْن حارثة بْن شراحيل بْن كعب بْن عَبْد العزى أَبُو زيد الْمَدَنِيّ
مولى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقَالَ أَنَّهُ من كلب من اليمن (1) ، قَالَ شُعْبَة عَنْ سعد بْن إِبْرَاهِيم عاش أسامة بعد عثمان، قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ (2) عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً فَكَانَ إذا فاء الفئ إِنْ كَانَ بِيَدِهِ عَمَلٌ أَلْقَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الصَّلاةِ، حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الإِفَاضَةَ بَعْضَ التَّأْخِيرِ مِنْ أَجْلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ذَهَبَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَلَمَّا جَاءَ جَاءَ غُلامٌ أَفْطَسٌ أَسْوَدٌ فَقَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ مَا حُبِسْنَا بِالإِفَاضَةِ الْيَوْمَ إِلا مِنْ أَجْلِ هَذَا! قَالَ عُرْوَةُ إِنَّمَا كَفَرَتِ الْيَمَنُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أُسَامَةَ.
مولى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقَالَ أَنَّهُ من كلب من اليمن (1) ، قَالَ شُعْبَة عَنْ سعد بْن إِبْرَاهِيم عاش أسامة بعد عثمان، قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ (2) عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً فَكَانَ إذا فاء الفئ إِنْ كَانَ بِيَدِهِ عَمَلٌ أَلْقَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الصَّلاةِ، حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الإِفَاضَةَ بَعْضَ التَّأْخِيرِ مِنْ أَجْلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ذَهَبَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَلَمَّا جَاءَ جَاءَ غُلامٌ أَفْطَسٌ أَسْوَدٌ فَقَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ مَا حُبِسْنَا بِالإِفَاضَةِ الْيَوْمَ إِلا مِنْ أَجْلِ هَذَا! قَالَ عُرْوَةُ إِنَّمَا كَفَرَتِ الْيَمَنُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أُسَامَةَ.
أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل
ابن عبد العزّي بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عبد ودّ بن كنانة بن عوف بن عذرة ابن عديّ بن زيد اللّات بن رفيدة بن ثور بن كلب أبو زيد، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو حارثة، ويقال: أبو يزيد حبّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن حبّه، استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جيش فيه أبو بكر وعمر، فلم ينفذ حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعثه أبو بكر إلى الشّام، فأغار على أبنى من ناحية البلقاء؛ وشهد مع أبيه غزوة مؤتة، وقدم دمشق، وسكن المزّة مدّة، ثم انتقل إلى المدينة فمات بها، ويقال: بوادي القرى.
روى عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه جماعة من الصّحابة والتّابعين.
عن أسامة بن زيد، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرّجال من النّساء ".
وعنه، قال: كان النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذني والحسن فيقول: " اللهم إني أحبّهما فأحبّهما ".
وعنه، أن رسول اله صلى اله عليه وسلم قال: " إنّما الرّبا في النّسيئة ".
قال محمد بن سعد: قبض النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن عشرين سنة، وكان قد نزل وادي القرى، ومات بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وأمّه أمّ أيمن، واسمها بركة، وكانت حاضنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومولاته.
وكان زيد بن حارثة في رواية بعض أهل العلم أوّل النّاس إسلاماً، ولم يفارق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولد له أسامة بمكّة، ونشأ حتى أدرك لم يعرف إلاّ الإسلام، ولم يدن بغيره، وهاجر مع أبيه، وكان رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبّه حبّاً شديداً، وكان عنده كبعض أهله.
عن عائشة، قالت: دخل مجزّر المدلجي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأى أسامة وزيداً، وعليهما قطيفةً، قد غطيّا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؛ فدخل عليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسروراً.
وعن أسامة، قال: جاء العبّاس وعليّ يستأذنان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تدري ما جاء بهما "؟ فقلت: لا؛ قال: " لكنّي أدري، إيذن لهما " فدخلا، فقال عليّ: يا رسول الله، من أحبّ أهلك إليك؟ قال: فاطمة قال: إنّما أعني من الرّجال؛ قال: " من أنعم الله عليه، وأنعمت عليه، أسامة "؛ قال: ثم من؟ قال: ثم أنت؛ قال العبّاس: يا رسول الله، جعلت عمّك آخرهم! قال: " إنّ علياً سبقك بالهجرة ".
قالت عائشة: لا ينبغي لأحد أن ينتقص أسامة بعدما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كان يحب الله ورسوله فليحبّ أسامة ".
عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلّقها ألبتّة، وهو غائب بالشّام، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخّطته، فقال: والله، مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك
له، فقال: ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتدّ في بيت أمّ شريك، ثم قال: تلك المرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني قالت: فلّما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة فنكحته، فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به.
وعن ابن عمر، قال:
لمّا استعمل النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة، قالوا فيه، فبلغ النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " قد بلغني ما قلتم في أسامة وقد قلتم ذلك في أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وإنه لأحبّ النّاس إليّ ".
قال ابن عمر: ما استثنى فاطمة ولا غيرها.
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أمّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد، وأمره أن يغير على أبنى من ساحل البحر، قال هشام: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمّر الرّجل أعلمه وندب النّاس؛ قال: فخرج معه سروات النّاس وخيارهم ومعه عمر؛ قال: فطعن النّاس في تأمير أسامة، قال: فخطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أناساً طعنوا في تأميري أسامة كما طعنوا في تأميري أباه، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان لأحبّ إليّ، وإن ابنه لأحبّ النّاس إليّ بعد أبيه، وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيراً.
قال: ومرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يقول في مرضه " أنفذوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة ".
قال: فسار حتى بلغ الجرف، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس فقالت: لا تعجل فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثقيل؛ فلم يبرح حتى قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع إلى أبي بكر فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإن معي سروات الناس وخيارهم.
قال: فخطب أبو بكر الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: والله لئن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فبعثه أبو بكر إلى أبنى، واستأذن لعمر أن يتركه عنده، قال: فأذن أسامة لعمر.
قال: فأمره أبو بكر أن يجزر في القوم؛ قال هشام: يقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال حتى يفزع القوم.
قال: فمضى حتى أغار عليهم، ثم أمرهم أن يعظموا الجراحة حتى يرهبوهم؛ قال: ثم رجعوا وقد سلموا، وقد غنموا.
قال: فكان عمر يقول: ما كنت لأحيي أحداً بالإمارة غير أسامة لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض وهو أمير.
قال: فساروا، فلما دنوا من الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترهم الله بها حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم.
قال: فقدم بنعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بالي هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا! قال عروة: فما رؤي جيش كان أسلم من ذلك الجيش.
وعن عائشة، قالت: دخل أسامة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصابته عتبة الباب فشج في وجهه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بنت أبي بكر، قومي فامسحي عنه الأذى " قالت: فتقذرته؛ فقام إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يمصه ويمجه، ويقول: " لو كان أسامة جاريةً لحليته بكل شيء وزينته حتى أنفقه للرجال ".
وعن عبد الله بن دينار، قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى أسامة بن زيد يقول: السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا؟ قال: فكان يقول له: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير، مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت علي أمير.
وعن ابن عمر، قال: فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فقلت: إنما هجرتي وهجرة أسامة واحدة؛ فقال: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبيك، وإنه كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، وإنما هاجر بك أبواك.
وعن قيس بن أبي حازم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد بن الوليد، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فهلا إلى رجل قتل أبوه " يعني أسامة بن زيد.
وعن يزيد بن عياض. قال: أهدى حكيم بن حزام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهدنة التي كانت بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش حلة ذي يزن اشتراها بثلاثمئة دينار فردها عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " إني لا أقبل هدية مشرك " فباعها حكيم، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اشتراها له، فلبسها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه حكيم فيها قال: من الطويل
ما تنظر الحكام بالفضل بعدما ... بدا سابق ذو غرة وحجول
فكساها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد بن حارثة فرآها عليه حكيم، فقال: بخ بخ يا أسامة، عليك حلة ذي يزن! فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل له: وما يمنعني وأنا خير منه وأبي خير من أبيه؟ ".
وعن عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب، قالا: دخل أسامة بن زيد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه، ثم قال: " يا أسامة بن زيد عليك بطريق الجنة، وإياك أن تحيد عنه فتختلج دونها " فقال أسامة: يا رسول الله دلني على ما أسرع به قطع ذلك الطريق،؛ قال: " عليك بالظمأ في
الهواجر، وقصر النفس عن لذاتها ولذة الدنيا، والكف عن محارم الله، يا أسامة إن أهل الجنة يتلذذون بريح فم الصائم، وإن الصوم جنةٌ من النار، فعليك بذلك، وتقرب إلى الله بكثرة التهجد والسجود، فإن أشرف الشرف قيام الليل، وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، وإن الله عز وجل يباهي به ملائكته، ويقبل إليه بوجهه، يا أسامة بن زيد إياك وكل كبدٍ جائعةٍ تخاصمك عند الله يوم القيامة، يا أسامة بن زيد، إياك أن تعد عيناك عن عباد الله الذين أذابوا لحومهم بالرياح والسمائم، وأظمأوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم الظلم، أسهروا ليلهم خشعاً ركعاً " يبتغون فضلاً من الله تعالى ورضواناً سيماهم في وجوههم من آثر السجود " تعرفهم بقاع الأرض تحف بهم الملائكة تحوم حواليهم الطير تذل لهم السباع كذل الكلب لأهله يابن زيد إن الله إذا نظر إليهم سر بهم، تصرف بهم الزلازل والفتن ".
ثم بكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكاء شديداً حتى اشتد بكاؤه، وخاف القوم أن يكلموه، وحتى ظن القوم أن أمراً نزل من السماء، ثم تكلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حزين، قال: " ويح هذه الأمة ما يلقى فيها من أطاع الله عز وجل كيف يكذبونه ويضربونه ويحبسونه من أجل أنه أطاع الله "، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، والناس يومئذٍ على الإسلام؟ قال: " نعم " قال: ففيم إذاً يعصون من أطاع الله؟ قال: " إنما يعصونهم حيث أمروهم بطاعة الله، ترك القوم الطريق ولبسوا اللين من الثياب، وخدمتهم أبناء فارس، وتزين الرجل بزينة المرأة، وتزينت المرأة منهم بزينة الرجل، دينهم دين كسرى وقيصر، همتهم جمع الدنانير والدراهم، فهي دينهم، وسنتهم القتل، تباهوا بالجمال واللباس، فإذا تكلم ولي الله، الغني من التعفف، المنحنية أصلابهم من العبادة، قد ذبحوا أنفسهم من العطش لأجل رضاء الله عز وجل، كذبوا وأوذوا وطردوا وحبسوا، وقيل لهم: قرناء الشيطان ورؤوس الضلال، تكذبون بالكتاب وتحرمون زينة الله والطيبات من الرزق التي أخرج لعباده. يا أسامة بن زيد، تأولوا الكتاب على غير تأويله، وتركوا الدين، فهم على غير دين، واستبدلوا بما تأولوا أولياء الله. يا أسامة بن زيد، إن أقرب
الناس من الله يوم القيامة من طال حزنه وظمؤه وسهره وفكرته، أولئك هم الأخيار الأبرار، لا أنبئك بصفتهم؟ قال: بلى يا رسول الله؛ قال: " هم الذين إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يحضروا، وإذا نظر الناس إليهم قالوا: مجانين أو موسوسين، وما بالقوم جنون ولا وسواس، ولكنهم شغلوا أنفسهم بحب الله عز وجل وطلب مرضاته " يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " " يبيتون لربهم سجداً وقياماً " " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " فيقلون على ذلك. يا أسامة بن زيد، أكل الناس من كل نوع، أكلوا من حشيش الأرض وثمارها، وتوسد الناس الوسائد والنمارق، توسدوا اللبن والحجارة، نعم الناس بلذاتهم وشهواتهم، نعموا بجوعهم والعطش، افترش الناس لين الفرش، افترشوا الجنوب والركب، ضحك الناس من الفرح، بكوا هم من الأحزان، تطيب الناس بالطيب، تطيبوا بالماء والتراب، بنوا الناس المنازل والقصور، واتخذوا الخراب والفلوات وظلال الشجر منازل ومساجد ومقيلاً، اتخذ الناس الأندية والمجالس متحدثاً تلذذاً
وتلهياً وبطراً واتخذوا المحاريب وحلق الذكر والخلوة تخشعاً وخوفاً وتفكيراً وتذكيراً وتشريفاً، أنس الناس بالحديث والاجتماع، أنسوا بذكر الله ومناجاته والوحدة والفرار بدينهم من الناس، وهب الناس أنفسهم للدنيا، وهبوا هم أنفساً هو وهبها لهم فباعوا قليلاً زائلاً واشتروا كثيراً دائماً. يا أسامة بن زيد، لا يجمع الله عليهم الشدة في الدنيا والآخرة، بل لهم الجنة، أولئك هم أحباء الله، يا ليت أني قد رأيتهم، الأرض بهم رحيمة، والجبار منهم راض، ضيع الناس أفعال النبيين وأخلاقهم، حفظوها هم وتمسكوا بها. يا أسامة بن زيد، الراغب من رغب إلى مثل رغبتهم، والمغتر المغبون من لم يلق الله عز وجل بمثل رغبتهم وأدبهم، والخاسر من خسر تقواهم وضيع أفعالهم. يا أسامة بن زيد، هم لكل أرضٍ أمان، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلدٍ ليس فيه منهم، ولا تزال الأرض باكيةً حتى يبدل الله مثله. يا أسامة بن زيد، اتخذهم لنفسك أصدقاء وأصحاباً عسى أن تنجو بهم، وإياك أن تدع ما هم عليه فتزل قدمك فتهوي في
النار، يا أسامة بن زيد، زهدوا في الحلال فحرموه على أنفسهم وقد أحل لهم، طلباً للفضل فتركوه لينالوا به الزلفى والكرامات عند الله عز وجل، ولم يتكابوا على الدنيا تكاب الكلاب على الجيف؛ شغل الناس بالدنيا، شغلوا هم أنفسهم بطاعة الله عز وجل، ولم يكن ذلك إلا بتوفيق من الله عز وجل لهم، أكلوا حلو الطعام وحامضه، شعثاً غبراً هزلاً، يراهم الناس فيظنون أن فيهم داء، ويقال: قد خولطوا، وما بالقوم داء ولا خولطوا، ويقال: قد ذهبت عقولهم، وما ذهبت عقولهم، ولكنهم نظروا بقلوبهم إلى من أذهلهم عن الدنيا وما فيها، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول حين ذهبت عقول الناس في سكرتهم بحب الدنيا ورفض الآخرة. أولئك لهم البشرى والكرامة برفضهم لهواهم وإيثارهم حق الله عز وجل على حقوق من عاشروا.
فقال أسامة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أللهم اجعله منهم " أو قال: " أنت منهم ".
وعن محمد بن سيرين، قال: بلغت النخلة على عهد عثمان ألف درهم؛ قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعقرها وأخرج جمارها وأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا، وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتني ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها.
وعن الزهري، قال: قد حمل سعد بن أبي وقاص من العقيق إلى المدينة، وحمل أسامة بن زيد من الجرف.
وقد تقدم أنه مات في خلافة معاوية، ومات معاوية سنة ستين.
ابن عبد العزّي بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عبد ودّ بن كنانة بن عوف بن عذرة ابن عديّ بن زيد اللّات بن رفيدة بن ثور بن كلب أبو زيد، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو حارثة، ويقال: أبو يزيد حبّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن حبّه، استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جيش فيه أبو بكر وعمر، فلم ينفذ حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعثه أبو بكر إلى الشّام، فأغار على أبنى من ناحية البلقاء؛ وشهد مع أبيه غزوة مؤتة، وقدم دمشق، وسكن المزّة مدّة، ثم انتقل إلى المدينة فمات بها، ويقال: بوادي القرى.
روى عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه جماعة من الصّحابة والتّابعين.
عن أسامة بن زيد، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرّجال من النّساء ".
وعنه، قال: كان النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذني والحسن فيقول: " اللهم إني أحبّهما فأحبّهما ".
وعنه، أن رسول اله صلى اله عليه وسلم قال: " إنّما الرّبا في النّسيئة ".
قال محمد بن سعد: قبض النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن عشرين سنة، وكان قد نزل وادي القرى، ومات بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وأمّه أمّ أيمن، واسمها بركة، وكانت حاضنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومولاته.
وكان زيد بن حارثة في رواية بعض أهل العلم أوّل النّاس إسلاماً، ولم يفارق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولد له أسامة بمكّة، ونشأ حتى أدرك لم يعرف إلاّ الإسلام، ولم يدن بغيره، وهاجر مع أبيه، وكان رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبّه حبّاً شديداً، وكان عنده كبعض أهله.
عن عائشة، قالت: دخل مجزّر المدلجي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأى أسامة وزيداً، وعليهما قطيفةً، قد غطيّا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؛ فدخل عليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسروراً.
وعن أسامة، قال: جاء العبّاس وعليّ يستأذنان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تدري ما جاء بهما "؟ فقلت: لا؛ قال: " لكنّي أدري، إيذن لهما " فدخلا، فقال عليّ: يا رسول الله، من أحبّ أهلك إليك؟ قال: فاطمة قال: إنّما أعني من الرّجال؛ قال: " من أنعم الله عليه، وأنعمت عليه، أسامة "؛ قال: ثم من؟ قال: ثم أنت؛ قال العبّاس: يا رسول الله، جعلت عمّك آخرهم! قال: " إنّ علياً سبقك بالهجرة ".
قالت عائشة: لا ينبغي لأحد أن ينتقص أسامة بعدما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كان يحب الله ورسوله فليحبّ أسامة ".
عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلّقها ألبتّة، وهو غائب بالشّام، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخّطته، فقال: والله، مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك
له، فقال: ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتدّ في بيت أمّ شريك، ثم قال: تلك المرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني قالت: فلّما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة فنكحته، فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به.
وعن ابن عمر، قال:
لمّا استعمل النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة، قالوا فيه، فبلغ النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " قد بلغني ما قلتم في أسامة وقد قلتم ذلك في أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وإنه لأحبّ النّاس إليّ ".
قال ابن عمر: ما استثنى فاطمة ولا غيرها.
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أمّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد، وأمره أن يغير على أبنى من ساحل البحر، قال هشام: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمّر الرّجل أعلمه وندب النّاس؛ قال: فخرج معه سروات النّاس وخيارهم ومعه عمر؛ قال: فطعن النّاس في تأمير أسامة، قال: فخطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أناساً طعنوا في تأميري أسامة كما طعنوا في تأميري أباه، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان لأحبّ إليّ، وإن ابنه لأحبّ النّاس إليّ بعد أبيه، وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيراً.
قال: ومرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يقول في مرضه " أنفذوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة ".
قال: فسار حتى بلغ الجرف، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس فقالت: لا تعجل فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثقيل؛ فلم يبرح حتى قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع إلى أبي بكر فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإن معي سروات الناس وخيارهم.
قال: فخطب أبو بكر الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: والله لئن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فبعثه أبو بكر إلى أبنى، واستأذن لعمر أن يتركه عنده، قال: فأذن أسامة لعمر.
قال: فأمره أبو بكر أن يجزر في القوم؛ قال هشام: يقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال حتى يفزع القوم.
قال: فمضى حتى أغار عليهم، ثم أمرهم أن يعظموا الجراحة حتى يرهبوهم؛ قال: ثم رجعوا وقد سلموا، وقد غنموا.
قال: فكان عمر يقول: ما كنت لأحيي أحداً بالإمارة غير أسامة لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض وهو أمير.
قال: فساروا، فلما دنوا من الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترهم الله بها حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم.
قال: فقدم بنعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بالي هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا! قال عروة: فما رؤي جيش كان أسلم من ذلك الجيش.
وعن عائشة، قالت: دخل أسامة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصابته عتبة الباب فشج في وجهه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بنت أبي بكر، قومي فامسحي عنه الأذى " قالت: فتقذرته؛ فقام إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يمصه ويمجه، ويقول: " لو كان أسامة جاريةً لحليته بكل شيء وزينته حتى أنفقه للرجال ".
وعن عبد الله بن دينار، قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى أسامة بن زيد يقول: السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا؟ قال: فكان يقول له: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير، مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت علي أمير.
وعن ابن عمر، قال: فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فقلت: إنما هجرتي وهجرة أسامة واحدة؛ فقال: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبيك، وإنه كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، وإنما هاجر بك أبواك.
وعن قيس بن أبي حازم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد بن الوليد، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فهلا إلى رجل قتل أبوه " يعني أسامة بن زيد.
وعن يزيد بن عياض. قال: أهدى حكيم بن حزام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهدنة التي كانت بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش حلة ذي يزن اشتراها بثلاثمئة دينار فردها عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " إني لا أقبل هدية مشرك " فباعها حكيم، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اشتراها له، فلبسها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه حكيم فيها قال: من الطويل
ما تنظر الحكام بالفضل بعدما ... بدا سابق ذو غرة وحجول
فكساها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد بن حارثة فرآها عليه حكيم، فقال: بخ بخ يا أسامة، عليك حلة ذي يزن! فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل له: وما يمنعني وأنا خير منه وأبي خير من أبيه؟ ".
وعن عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب، قالا: دخل أسامة بن زيد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه، ثم قال: " يا أسامة بن زيد عليك بطريق الجنة، وإياك أن تحيد عنه فتختلج دونها " فقال أسامة: يا رسول الله دلني على ما أسرع به قطع ذلك الطريق،؛ قال: " عليك بالظمأ في
الهواجر، وقصر النفس عن لذاتها ولذة الدنيا، والكف عن محارم الله، يا أسامة إن أهل الجنة يتلذذون بريح فم الصائم، وإن الصوم جنةٌ من النار، فعليك بذلك، وتقرب إلى الله بكثرة التهجد والسجود، فإن أشرف الشرف قيام الليل، وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، وإن الله عز وجل يباهي به ملائكته، ويقبل إليه بوجهه، يا أسامة بن زيد إياك وكل كبدٍ جائعةٍ تخاصمك عند الله يوم القيامة، يا أسامة بن زيد، إياك أن تعد عيناك عن عباد الله الذين أذابوا لحومهم بالرياح والسمائم، وأظمأوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم الظلم، أسهروا ليلهم خشعاً ركعاً " يبتغون فضلاً من الله تعالى ورضواناً سيماهم في وجوههم من آثر السجود " تعرفهم بقاع الأرض تحف بهم الملائكة تحوم حواليهم الطير تذل لهم السباع كذل الكلب لأهله يابن زيد إن الله إذا نظر إليهم سر بهم، تصرف بهم الزلازل والفتن ".
ثم بكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكاء شديداً حتى اشتد بكاؤه، وخاف القوم أن يكلموه، وحتى ظن القوم أن أمراً نزل من السماء، ثم تكلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حزين، قال: " ويح هذه الأمة ما يلقى فيها من أطاع الله عز وجل كيف يكذبونه ويضربونه ويحبسونه من أجل أنه أطاع الله "، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، والناس يومئذٍ على الإسلام؟ قال: " نعم " قال: ففيم إذاً يعصون من أطاع الله؟ قال: " إنما يعصونهم حيث أمروهم بطاعة الله، ترك القوم الطريق ولبسوا اللين من الثياب، وخدمتهم أبناء فارس، وتزين الرجل بزينة المرأة، وتزينت المرأة منهم بزينة الرجل، دينهم دين كسرى وقيصر، همتهم جمع الدنانير والدراهم، فهي دينهم، وسنتهم القتل، تباهوا بالجمال واللباس، فإذا تكلم ولي الله، الغني من التعفف، المنحنية أصلابهم من العبادة، قد ذبحوا أنفسهم من العطش لأجل رضاء الله عز وجل، كذبوا وأوذوا وطردوا وحبسوا، وقيل لهم: قرناء الشيطان ورؤوس الضلال، تكذبون بالكتاب وتحرمون زينة الله والطيبات من الرزق التي أخرج لعباده. يا أسامة بن زيد، تأولوا الكتاب على غير تأويله، وتركوا الدين، فهم على غير دين، واستبدلوا بما تأولوا أولياء الله. يا أسامة بن زيد، إن أقرب
الناس من الله يوم القيامة من طال حزنه وظمؤه وسهره وفكرته، أولئك هم الأخيار الأبرار، لا أنبئك بصفتهم؟ قال: بلى يا رسول الله؛ قال: " هم الذين إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يحضروا، وإذا نظر الناس إليهم قالوا: مجانين أو موسوسين، وما بالقوم جنون ولا وسواس، ولكنهم شغلوا أنفسهم بحب الله عز وجل وطلب مرضاته " يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " " يبيتون لربهم سجداً وقياماً " " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " فيقلون على ذلك. يا أسامة بن زيد، أكل الناس من كل نوع، أكلوا من حشيش الأرض وثمارها، وتوسد الناس الوسائد والنمارق، توسدوا اللبن والحجارة، نعم الناس بلذاتهم وشهواتهم، نعموا بجوعهم والعطش، افترش الناس لين الفرش، افترشوا الجنوب والركب، ضحك الناس من الفرح، بكوا هم من الأحزان، تطيب الناس بالطيب، تطيبوا بالماء والتراب، بنوا الناس المنازل والقصور، واتخذوا الخراب والفلوات وظلال الشجر منازل ومساجد ومقيلاً، اتخذ الناس الأندية والمجالس متحدثاً تلذذاً
وتلهياً وبطراً واتخذوا المحاريب وحلق الذكر والخلوة تخشعاً وخوفاً وتفكيراً وتذكيراً وتشريفاً، أنس الناس بالحديث والاجتماع، أنسوا بذكر الله ومناجاته والوحدة والفرار بدينهم من الناس، وهب الناس أنفسهم للدنيا، وهبوا هم أنفساً هو وهبها لهم فباعوا قليلاً زائلاً واشتروا كثيراً دائماً. يا أسامة بن زيد، لا يجمع الله عليهم الشدة في الدنيا والآخرة، بل لهم الجنة، أولئك هم أحباء الله، يا ليت أني قد رأيتهم، الأرض بهم رحيمة، والجبار منهم راض، ضيع الناس أفعال النبيين وأخلاقهم، حفظوها هم وتمسكوا بها. يا أسامة بن زيد، الراغب من رغب إلى مثل رغبتهم، والمغتر المغبون من لم يلق الله عز وجل بمثل رغبتهم وأدبهم، والخاسر من خسر تقواهم وضيع أفعالهم. يا أسامة بن زيد، هم لكل أرضٍ أمان، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلدٍ ليس فيه منهم، ولا تزال الأرض باكيةً حتى يبدل الله مثله. يا أسامة بن زيد، اتخذهم لنفسك أصدقاء وأصحاباً عسى أن تنجو بهم، وإياك أن تدع ما هم عليه فتزل قدمك فتهوي في
النار، يا أسامة بن زيد، زهدوا في الحلال فحرموه على أنفسهم وقد أحل لهم، طلباً للفضل فتركوه لينالوا به الزلفى والكرامات عند الله عز وجل، ولم يتكابوا على الدنيا تكاب الكلاب على الجيف؛ شغل الناس بالدنيا، شغلوا هم أنفسهم بطاعة الله عز وجل، ولم يكن ذلك إلا بتوفيق من الله عز وجل لهم، أكلوا حلو الطعام وحامضه، شعثاً غبراً هزلاً، يراهم الناس فيظنون أن فيهم داء، ويقال: قد خولطوا، وما بالقوم داء ولا خولطوا، ويقال: قد ذهبت عقولهم، وما ذهبت عقولهم، ولكنهم نظروا بقلوبهم إلى من أذهلهم عن الدنيا وما فيها، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول حين ذهبت عقول الناس في سكرتهم بحب الدنيا ورفض الآخرة. أولئك لهم البشرى والكرامة برفضهم لهواهم وإيثارهم حق الله عز وجل على حقوق من عاشروا.
فقال أسامة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أللهم اجعله منهم " أو قال: " أنت منهم ".
وعن محمد بن سيرين، قال: بلغت النخلة على عهد عثمان ألف درهم؛ قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعقرها وأخرج جمارها وأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا، وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتني ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها.
وعن الزهري، قال: قد حمل سعد بن أبي وقاص من العقيق إلى المدينة، وحمل أسامة بن زيد من الجرف.
وقد تقدم أنه مات في خلافة معاوية، ومات معاوية سنة ستين.