Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=151124&book=5563#4e11dd
السري بن المغلس أبو الحسن البغدادي
السقطي الصوفي أحد الزهاد. قدم دمشق.
حدث عن علي بن غراب عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرني أبي قال:
لما اشتكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قال: فصلى بهم، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفةً فخرج، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يصلون بصلاة أبي بكر، أبو بكر قائمٌ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعدٌ.
وحدث السري عن مروان بن معاوية بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا يجالسني اليوم قاطع رحمٍ ". فقام فتًى من الحلقة فأتى خالةً له قد كان بينهما بعض الشيء، فاستغفر لها واستغفرت له، ثم عاد إلى المجلس فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الرحمة لا تنزل على قوم بينهم قاطع رحم ".
وحدث سري بسنده عن الحسن أنه سمعه يقول: ابن آدم، إنك لو تجد حقيقة الإيمان ما كنت تعيب الناس بعيبٍ هو فيك حتى تبدأ بذلك العيب من نفسك فتصلحه، فلا تصلح عيباً إلا ترى عيباً آخر، فيكون شغلك في خاصة نفسك، وذلك أحب ما يكون إلى الله إذا كنت كذلك.
وعن سري السقطي: أنه مرت به جارية معها إناء فيه شيءٌ، فسقط من يدها فانكسر، فأخذ سريٌّ شيئاً من دكانه فدفعه إليها بدل ذلك الإناء، فنظر إليه معروف الكرخي فأعجبه ما صنع، فقال له معروف: بغض الله إليك الدنيا.
وكان سري خالد الجنيد وأستاذه، وكان تلميذ معروف الكرخي، وكان أوحد زمانه في الورع والأحوال السنية وعلوم التوحيد. وكان السري به أدمة.
قال سري السقطي: هذا الذي أنا فيه من بركات معروف: انصرفت من صلاة العيد فرأيت مع معروف
صبياً شعثاً، فقلت: من هذا؟ فقال: رأيت الصبيان يلعبون وهذا واقف منكسرٌ، فسألته لم لا تلعب؟ قال: أنا يتيم. قال سري: فقلت له: ما ترى أنك تعمل به؟ فقال: لعلي أخلو فأجمع له نوىً يشتري به جوزاً يفرح به. فقلت له: أعطنيه أغير من حاله. فقال لي: أو تفعل؟ فقلت: نعم، فقال لي: خذه أغنى الله قلبك. فسويت الدنيا عندي أقل من كذا.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: اكس هذا اليتيم. قال سري: فكسوته، ففرح به معروف وقال: بغض الله إليك الدنيا وأراحك مما أنت فيه. فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إلي من الدنيا.
قال السري: التوبة على أربع دعائم: استغفار باللسان، وندم القلب، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود فيه.
قال الجنيد: سمعت الحسن البزاز يقول: كان أحمد بن حنبل ههنا، وكان بشر بن الحارث ههنا، وكنا نرجو أن يحفظنا الله بهما، ثم إنهما ماتا وبقي السري، وإني أرجو أن يحفظنا الله بالسري.
كان أبو حمدون المقرىء يقول: رجلٌ يعيد صلاةً أربعين سنة يتكلم فيه؟! يعني سري بن مغلس.
قال الجنيد: كان السري يقول لنا ونحن حوله: أنا لكم عبرة يا معشر الشباب، اعملوا، فإنما العمل في الشبيبة.
قال سري السقطي: لا يقوى على ترك الشهوات إلا بترك الشهوات.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: إن نفسي تطالبني منذ ثلاثين أو أربعين سنة أو أغمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وفي حديث بمعناه: وآكلها فما تصح لي.
وقال: أشتهي بقلاً منذ ثلاثين سنة ما أقدر عليه.
وقال: إني لاشتهي الحندقوق منذ ست عشرة سنة والهندباء بخلٍّ منذ ثمان عشرة سنة، وإني لأعجب ممن يتسع كيف يطلق له الاتساع، وهذا عبد الواحد بن زيد يقول: الملح بشبارجات، وإن بلية أبيكم آدم لقمةٌ، وهي أخرجته من الجنة، وهي بليتكم إلى أن تقوم الساعة.
قال سري السقطي: أتاني حسين الجرجاني إلى عبادان فدق علي باب الغرفة التي كنت فيها فخرجت إليه فقال لي: سري؟ فقلت: سري. فقال لي: ملحك مدقوقة؟ قلت: نعم، قال: لا تفلح. ثم قال: سري، لولا أن الله تعالى عقم الآذان عن فهم القرآن ما زرع الزارع، ولا تجر التاجر، ولا تلاقى الناس في الطرقات، ثم مضى فأتعبني وأبكاني.
قال الجنيد بن محمد: ذكر السري بن مغلس يوماً، وأنا أسمعه، السواد فكرهه يعني كره الأكل من السواد أو أن يملك فيها أحد وكان يشدد في ذلك ولا يأكل من بقل السواد، ولا من ثمره. ولا من شيء يعلم أنه منه، ما أمكنه، فرأيت رجلاً يوماً وقد أهدى إليه خرنوباً وقثاء برياً حمله له من أرض الجزيرة فقبله منه. ورأيته قد سر به، وكان يشدد في الورع.
وكان سري يقول: أحب أن آكل أكلة ليس لله علي فيها تبعةٌ، ولا لمخلوق علي فيها منة، فما أجد إلى تلك سبيلاً.
قال ابن أبي الورد: دخلت علي سري السقطي وهو يبكي ودورقه مكسورٌ، فقلت له: ما بالك؟ قال: انكسر الدورق، فقلت: أنا أشتري لك بدله. فقال لي: تشتري بدله! وأنا أعرف من أين الدانق الذي اشتري به الدورق، ومن أين طينه، وإيش أكل عامله حتى فرغ من عمله؟ قال السري: رجعت مرة من بعض المغازي فرأيت في طريقي قفيزاً مملوءاً ماءً صافياً وحوله عشب من حشيش، فدنوت فقلت في نفسي: يا سري، إن كنت يوماً أكلت أكلة حلالٍ وشربت شربة حلالٍ فاليوم. فنزلت عن دابتي فأكلت من ذلك الحشيش، وشربت من ذلك الماء، فهتف بي هاتف، سمعت الصوت، ولم أر الشخص: يا سري بن المغلس، فالنفقة التي بلغتك إلى ههنا من أين هي!؟ وفي حديث آخر: فعلمت أني في لا شيء.
قال سري بن المغلس: اتصل من اتصل بالله أربعة، وانقطع من انقطع عن الله بخصلتين، فأما الأربع التي اتصل بها المتصلون فلزوم الباب، والتشمير في الخدمة، والنظر في الكسرة، وصيانات الكرامات إذا وهب لك شيئاً لا يحب أن يطلع عليه غيره. وأما الخصلتان اللتان انقطع بهما المنقطعون فتخط إلى نافلة بتضييع الفريضة، والثانية عمل بظاهر الجوارح ولم يعط عليه صدق القلوب.
قال سري بن مغلس: أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفاف الطعمة، وحسن الخليقة.
قال سري: خمس من أخلاق الزهاد: الشكر على الحلال، والصبر عن الحرام، ولا يبالي متى مات، ولا يبالي من أكل الدنيا، ويكون الفقر والغنى عنده سواء.
قال السري: كل الدنيا فضول إلا خمس: خبز يشبعه وماء يرويه، وثوب يستره، وبيت يكنه، وعلم يستعمله.
قال أبو العباس السراج: سألت إبراهيم بن السري السقطي: كيف كان يأكل من مالكم؟ قال: كان يقول: آكل من مالكم بقدر ما يحل لي من الميتة.
قال السري: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار عن قولي: الحمد لله، مرة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد فقال لي: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله. فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيراً مما للمسلمين.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: أعرف طريقاً مختصراً قصداً إلى الجنة، فقلت له: ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئاً. ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكون معك شيء تعطي أحداً.
قال: وسمعته يقول: إني لأعراف طريقاً يؤدي إلى الجنة قصداً. فقيل له: ما هو يا أبا الحسن؟ قال: أن تشتغل بالعبادة، وتقبل عليها وحدها فلا يكون فيك فضل.
قال الجنيد: سمعت بعض المؤمنين يقول يعني سرياً: ما بدت لي من الدنيا زهرةٌ إلا جددت لي من الدنيا عزوفاً.
قال سري السقطي لإبراهيم البنا: يا بنا، ليس من زهد في الدنيا تقذراً مثل من زهد في الدنيا تصبراً.
كان السري يقول: لولا الجمعة والجماعات لطينت علي الباب.
قال سري السقطي: إني أذكر مجيء الناس إلي فأقول: اللهم هب لهم من العلم ما يشغلهم عني، فإني لا أريد مجيئهم أن يدخلوا علي.
قال سري: من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، ويقل غمه فليعتزل الناس، لأن هذا زمان عزلة ووحدةٍ. وقال مرة أخرى: فإن هذا زمان وحشةٍ. والعاقل من اختار فيه الوحدة.
قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: اجتهد في الخمول فإن أحوالك تشهرك بين أوليائه إذا صح مقامك فيها.
قال الجنيد: سمعت سري السقطي يقول، وسئل عن التصوف فقال: الإعراض عن الخلق، وترك الاعتراض على الحق.
قال الجنيد: ما رأيت أعبد لله من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعاً إلا في علة الموت.
قال سري: استأذن علي رجلٌ فأذنت له، فجاء فوقف بباب الغرفة قائماً ينظر، وفي زاوية الغرفة محبرة، قال: فقلت له: ادخل. قال: فقال: لا جزى الله من غرني فيك خيراً. قال: فقلت له: ويحك! ولم؟ قال: ما تلك الموضوع في تلك الزاوية؟ ثم انصرف وتركني.
وفي حديث آخر بمعناه: قال: محبرة!؟ إنما ذه في بيوت البطالين.
قال السري: اليقين أن لا تهتم لرزقك الذي قد كفيته وتغفل عن عملك الذي قد أمرت به، فإن اليقين يسوق إليك الرزق سوقاً.
قال الجنيد: سمعت السري يقول:
إن الله سلب الدنيا عن أوليائه. وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنه لم يرضها لهم.
قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: صليت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سري! كذا تجالس الملوك؟ قال: فضممت رجلي، وقلت: وعزتك لا مددتها أبداً. قال الجنيد: فبقي بعد ذلك ستين سنة ما مد رجله ليلاً ولا نهاراً.
قال سري السقطي: غزوت راجلاً فنزلت خربةً للروم، فألقيت نفسي على ظهري، ورفعت رجلي على جدار، فإذا هاتفٌ يهتف بي: يا سري بن مغلس! هكذا تجلس العبيد بين يدي أربابها؟ قال الجنيد: سمعت السري بن المغلس، وقد ذكر الناس فقال: لا تعمل لهم شيئاً، ولا تترك لهم شيئاً، ولا تعط لهم شيئاً، ولا تكشف لهم شيئاً. قال الجنيد: يريد بهذا القول تكون أعمالك كلها لله وحده.
قال: وسمعت السري يقول: لو أحسست بإنسان يريد أن يدخل علي قلت: كذا بلحيتي وأمر يده على لحيته كأنه يريد أن يسويها من أجل دخول الداخل عليه لخفت أن يعذبني الله على ذلك بالنار.
قال: وسمعت السري يقول: إنما أذهب أكثر أعمال القراء العجب وخفي الرياء أو كلام نحو هذا.
وقال السري: عملٌ قليل في سنةٍ خيرٌ من كثير في بدعة، كيف يقل عملٌ مع التقوى؟
قال سري: الأمور ثلاثة: أمر بان لك رشده فاتبعه، وأمر بان لك غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فقف عنه وكله إلى الله عز وجل، وليكن الله دليلك، واجعل فقرك إليه تستغن به عمن سواه.
قال سري: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد. فقيل له: ولم ذلك؟ فقال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح.
قال: وسمعت سرياً يقول غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبةً منه.
قال: وسمعته يقول: ما أرى أن لي فضلاً على أحد. فقيل له: ولا على هؤلاء المخنثين؟ فقال: ولا على هؤلاء المخنثين.
قال: وسمعته يقول: إني لأنظر في أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود.
قال علان الخياط: وجرى ذكر مناقب سري السقطي، قال: كنت جالساً مع سري يوماً، فوافته امرأة فقالت: يا أبا الحسن، أنا من جيرانك، أخذ ابني الطائف البارحة، وكلم ابني الطائف، وأنا أخشى أن يؤذيه، فإن رأيت أن تجيء معي أو تبعث إليه. قال علان: فتوقعت أن يبعث إليه. فقام، فكبر وطول في صلاته، فقالت المرأة: يا أبا الحسن، الله الله في هو ذا أخشى أن يؤذيه السلطان، فسلم، وقال لها: أنا في حاجتك. قال علان: فما برحت حتى جاءت امرأة إلى المرأة فقالت: الحقي، قد خلو ابنك.
قال أبو الطيب: قال لي علان: وإيش يتعجب من هذا؟ اشترى منه كر لوزٍ بستين ديناراً، وكتب في رزمانجه ثلاثة دنانير ربحه، فصار اللوز بتسعين ديناراً، فأتاه الدلال وقال له: إن ذلك اللوز أريده. فقال له: خذه. قال: بكم؟ قال بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. قال له: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله، ليس أبيعه إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إني قد عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً، لست آخذه منك إلا بتسعين، فلا الدلال اشترى منه، ولا سري باعه.
قال أبو الطيب: قال لي علان: كيف لا يستجاب دعاء من كان هذا فعله؟ قال الجنيد: دخلت على السري يوماً فقال: لي عصفورٌ كان يجيء كل يوم فأفت له الخبز فيأكل من يدي، فنزل وقتاً من الأوقات فلم يسقط على يدي، فتذكرت في نفسي أي شيءٍ السبب، فذكرت أني أكلت ملحاً بأبزار، فقلت في نفسي: لا آكل بعدها، وأنا تائب منه. فسقط على يدي فأكل.
وفي حديث آخر بمعناه: ففكرت في سري: ما العلة في وحشته مني؟ فوجدتني قد أكلت ملحاً طيباً، فقلت في نفسي: أنا تائب من الملح الطيب. فسقط على يدي فأكل وانصرف.
قال أبو محمد الجريري:
دخلت يوماً على سري السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: جاءتني البارحة الصبية فقالت لي: يا أبه، هذه الليلة حارةٌ، وهذا الكوز فيه ماء، هو ذا أعلقه ههنا، فإذا برد فاشربه. قال: فعلقته، وقمت إلى أمر كنت أقوم إليه، فحملتني عيناي فنمت، فرأيت كأن جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء، وإذا الدنيا قد أشرقت لحسن وجهها، وعليها قميص فضة يتخشخش، وكأني أقول لها: لمن أنت يا جارية؟ قالت: أنا
لمن لا يشرب الماء البارد في الكيزان. قال: وتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته ثم قالت: سري يدعي المحبة ويشرب الماء البارد في الكيزان، هذا محال. قال: فرأيت الخزف المكسور في غرفته لم يشله ولم يمسه حتى عفا عليه التراب.
وفي حديث آخر: وتناولت القلة بيدها فضربت بها على الأرض فكسرتها.
قال سري: أصبر الناس من صبر على الحق.
قال الجنيد: بت ليلة عند السري، فلما كان في بعض الليل قال لي: يا جنيد، أنت نائم؟ قلت: لا. قال: الساعة أوقفني الحق بين يديه وقال: يا سري، تدري لم خلقت الخلق؟ قلت: لا. قال: خلقت الخلق فادعوا كلهم في، وادعوا محبتي. فخلقت الدنيا فاشتغلوا بها من عشرة آلافٍ تسعة آلاف، وبقي ألفٌ، فخلقت الجنة فاشتغل من الألف تسع مئة بالجنة، وبقيت مئةٌ، فسلطت عليهم شيئاً من البلاء فاشتغل عني بالبلاء من المئة تسعون، وبقيت عشرةٌ فقلت لهم: ما أنتم! لا الدنيا أردتم، ولا في الجنة رغبتم، ولا من البلاء هربتم. فقالوا: وإنك لتعلم ما نريد. فقال: إني أنزل بكم من البلاء ما لا تطيقه الجبال الرواسي، أفتثبتون لذلك؟ قالوا: ألست أنت الفاعل بنا؟ قد رضينا. قلت: فأنتم عبيدي حقاً.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: اللهم، مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب.
قال الجنيد: سألني السري يوماً عن المحبة فقلت: قال قومٌ: هي الموافقة. وقال قوم: الإيثار. وقال قوم: كذا وكذا. فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها، فلم تمتد، ثم قال: وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غشي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق.
قال الجنيد: كنت يوماً عند السري، وكنا جالسين، وهو متزرٌ بمئزرٍ، فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيمٍ دنفٌ مضنى كأجهد ما يكون، فقال: انظر إلى جسدي هذا! لو شئت أن أقول: إن ما بي هذا من المحبة كان كما أقول. وكان وجهه أصفر، ثم أشرق حمرةً حتى تورد، ثم اعتل، فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: من الخفيف
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذت المروحة أروحه، فقال لي: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟ ثم أنشأ يقول: من البسيط
القلب محترقٌ والدمع مستبق ... والكرب مجتمعٌ والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والعشق والقلق
يا رب إن كان شيءٌ فيه لي فرجٌ ... فامنن علي به ما دام بي رمق
قال الجنيد: قال لي ليلة السري بين المغرب وعشاء الآخرة: احفظ عني هذا الكلام. ثم قال: الشوق والوله يترفرفان على القلب، فإن وجدا فيه الحياء والأنس أوطنا، وإلا رحلا. احفظ هذا الكلام يا غلام لئلا يضيع.
وقال في حديث آخر: احفظ عني يا غلام، إن المعرفة ترفرف على القلب، فإن كان فيه الحياء، وإلا رحلت.
قال الجنيد: دخلت على سري السقطي رحمه الله في يوم صائف، فإذا الكوز الذي يشرب به في الشمس! فقلت: يا سيدي، الكوز في الشمس. قال: صدقت يا أبا القاسم، في الفيء كان، فجاءت الشمس إليه، فدعتني نفسي إلى أن أنقله إلى الفيء، فاستحييت من الحق تعالى أن أخطو خطوة يكون لنفسي فيها راحة.
قال جنيد: سمعت سري بن المغلس يقول: أحسن الأشياء ثلاثة: البكاء على الذنوب، وإصلاح العيوب، وطاعة الله علام الغيوب. زاد في حديث آخر فجعلها خمسة فقال: وجلاء الرين من القلوب، وألا تكون لكل ما تهوى ركوب.
وقال السري: أقوى القوة غلبتك نفسك، ومن عجز عن أدب نفسه كان في أدب غيره أعجز.
وقال السري: من علامة المعرفة بالله القيام بحقوق الله، وإثاره على النفس فيما أمكنت فيه القدرة.
وقال: من علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس.
وقال الجنيد: سمعت السري يقول:
اجعل قبرك خزانتك احشها من كل عمل صالح يمكنك، فإذا وردت على قبرك سرك ما ترى فيه.
وقال مرة: واحشه من كل خير، حتى إذا قدمت عليه فرحت بما قدمت إليه من المعروف.
قال الجنيد رحمه الله: سمعت سري رحمه الله يقول: لم أر شيئاً أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب الحانية، ولا أضر بالحكمة، ولا أنجع في هلكة العبد، ولا أدوم للأضرار، ولا أبعد من الاتصال، ولا أقرب من المقت، ولا ألزم لمحجةٍ العجب والرياء والتزين من قلة معرفة العبد بنفسه ونظره في عيوب غيره، لا سيما إن كان مشهوراً معروفاً بالعبادة والصلاح، وامتد له الصوت، وبلغ من الثناء ما لم يكن يأمله، تضيء له نفسه في الأماكن الخفية وسراديب الهوى فاختبأ بعد المحادثة، وصمت بعد
النطاقة، وأظهر الخمولة بعد الشهرة، وأظهر الهرب من الناس فلم يبرز إلا للخواص، ونالت النفس مناها. كل ذلك لجهله بنفسه، وعماه عن عيوبها، وقبول قوله في إسقاط الناس، وقوله: فلانٌ يجالس وفلان احذروه، ويأمر وينهى، ويثني على من تهواه نفسهن فإن اغتيب عنده من لا يهواه قال: اهتكوا ستر الفجرة واذكروا الفاجر بما فيه، وإن اغتيب من يهواه غضب ونهى عن ذلك وروى أحاديث النهي عن الغيبة وقد شرب السموم القاتلة، ويصير غضبه ورضاه لنفسه، ويرى أنه محسن يلوم أهل النقص والتقصير ويتنزه عمن لا يعرفه، ويقبل صلة من يهواه، ويأنس به، فهلك وأهلك. ونجا من صحت معرفته بنفسه، واشتغل بها، فلم يكن له صديق ولا عدو، ولا يخالط الأشرار، ولا يشتغل عن الله بالأخبار، ولا يمدح ولا يذم وكيف له أن يسلم من شر نفسه وعدوه؟ فكيف من جهل شر نفسه والإزراء على غيره؟ قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: قلوب الأبرار معلقةٌ بالجراثيم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، أولئك يقولون: ليتنا بماذا سبق لنا، وهؤلاء يقولون: ليتنا بماذا يختم لنا.
قال السري لبعض جلسائه: لا تلزم نفسك طول الفكرة فيما يورث قلبك ضعف الإيمان، فإن ضعف الإيمان أصل لكل إثمٍ وهم وغم، ولكن اشغل قلبك بكل ما يورث اليقين، فإن اليقين يورث كل طاعة، ويباعد من كل غم وهم، ويؤمنك من كل خوف، ويقربك من كل روح وفرح، وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ما أوتي عبد خيراً من اليقين.
قال السري السقطي: رأيت طاعة الرحمن بأرخص الأثمان مع راحة الأبدان، ورأيت معصية الرحمن بأغلى الأثمان مع تعب الأبدان.
وقال: من لم يعلم قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.
عجبت لمن غدا وراح في طلب الأرباح وهو مثل نفسه لا يربح أبداً.
وقال: لو أشفقت هذه النفوس على أبدانها شفقتها على أولادها للاقت السرور في معادها.
وقال: ثلاثةٌ من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
قال إبراهيم بن السري: مرض أبو المغيرة القاص، فبعث إلى أبي بالسلام، فقال أبي: أقرئه السلام، وقل له: ليس من حمد الله على سيلان الصديد كمن حمده على أكل الثريد.
قال: فوقع من أبي المغيرة ذاك الكلام بالموقع، فما أظهر ما به حتى مات.
قال سري: الشكر نعمةٌ، والشكر على النعمة نعمة إلى أن لا يتناهى الشكر.
وقال: الشكر على ثلاثة أوجه: شكر اللسان، وشكر البدن، وشكر القلب. فشكر القلب أن يعلم أن النعم كلها من الله عز وجل، وشكر البدن أن لا يستعمل جوارحه إلا في طاعته بعد أن عافاه الله، وشكر اللسان دوام الحمد عليه.
وقال سري: سمعت كلمة انتفعت بها منذ خمسين سنة، كنت أطوف بالبيت بمكة، فإذا رجل جالس تحت الميزاب وحوله جماعة، فسمعته يقول لهم: أيها الناس، من علم ما طلب هان عليه ما بذل.
سئل سري السقطي عن التصوف فقال: هو اسم لثلاثة معان، وهو الذي لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن من علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات من الله على هتك أستار محارم الله.
وقال سري: احذر أن يكون لك ثناءٌ منشور وعيب مستور.
وقال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف. فقال له الرجل: كيف يا أبا الحسن؟ قال: لأنه إذا كان في صحته كيساً عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه بربه، وإذا كان في صحته مسيئاً ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
ولما حضرت سري السقطي الوفاة قال له الجنيد: يا سيدي، لا يرون بعدك مثلك. قال: ولا أخلف عليهم بعدي مثلك.
قال الجنيد: دخلت على سري في مرضه الذي توفي فيه فقلت له: كيف تجدك أيها الشيخ؟ فقال: عبدٌ مملوك لا يقدر لنفسه شيئاً. فقال الجنيد: فأخذت المروحة لأروحه فقال: دعني، كيف أتروح بريح المروحة وأحشائي تحترق؟ فقلت له: أوصني أيها الشيخ، فقال: إياك وصحبة العوام. فقلت له: زدني أيها الشيخ. قال: فرفع رأسه إلي بعدما طأطأه وقال: ولا تشتغل عن الله بصحبة الأخيار. قال: فقلت له: لو سمعت منك هذه الكلمة من قبل لما صحبتك قط.
مات سري سنة إحدى وخمسين ومئتين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين، ودفن في مقبرة الشونيزي. وقبره ظاهر معروف وإلى جنبه قبر الجنيد.
قال أبو عبيد بن حربويه: حضرت جنازة السري السقطي فسررت. فحدثنا رجل عن آخر أنه حضر جنازة سري السقطي. فلما كان في بعض الليالي رآه في النوم فقال:
ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ولمن حضر جنازتي وصلى علي. فقلت: فإني في من حضر جنازتك وصلى عليك. قال: فأخرج درجاً فنظر فيه فلم ير لي فيه اسماً، فقلت: بلى قد حضرت. قال: فنظر فإذا اسمي في الحاشية.