Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=151767&book=5531#73bc6b
عبد الله بن هارون بن محمد
ابن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو العباس - ويقال: أبو جعفر المأمون بن الرشيد قدم دمشق دفعات، وأقام بها مدة.
قال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: صليت العصر في الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة. فلما سلم كبر الناس، فرأيت المأمون خلف الدرابزين وعليه كمة بيضاء وهو يقول: لا يا غوغاء لا يا غوغاء، غداً سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلما كان يوم الأضحى حضرت الصلاة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.. حدثنا هشيم بن بشير أخبرنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، اللهم، أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي.
قال أحمد بن إبراهيم الموصلي: كنت بالشماسية والمأمون يجري الحلبة فسمعته يقول ليحيى بن أكثم وهو ينظر إلى كثرة الناس: أما ترى؟ ثم قال: حدثنا يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخلق كلهم عيال الله عز وجل، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله.
وحدث المأمون عن هشيم عن منصور عن الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحياء من الإيمان.
ولد المأمون في ربيع الأول سنة سبعين ومئة، ليلة مات موسى الهادي، واستقامت له الولاية في المحرم سنة ثمان وتسعين ومئة، ومات سنة ثمان عشرة ومئتين، فكانت ولايته عشرين سنة وخمسة أشهر وأياماً، ودعي له بالخلافة بخراسان في حياة أخيه الأمين ثم قدم بغداد بعد قتله. وكان إبراهيم يقول: مات خليفة، وولي خليفة، وولد خليفة في ليلة واحدة: مات موسى، وولي الرشيد، وولد المأمون في ليلة واحدة. وكان المأمون بايع لعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسماه الرضا، وطرح السواد وألبس الناس الخضرة، فمات علي بسرخس، وقدم المأمون بغداد سنة أربع ومئتين في صفر وطرح الخضرة، وعاد إلى السواد، وامر المأمون في آخر عمره أن يكون أخوه أبو إسحاق الخليفة من بعده. وكانت كنيته أولاً أبو العباس، فلما ولي الخلافة اكتنى بأبي جعفر. وأمه أم ولد يقال لها: مراجل الباذغيسية، توفيت في نفاسها به، وكان ولي عهد أبيه الرشيد بعد أخيه محمد الأمين، وكان يدعى للمأمون بالخلافة ومحمد حي، دعي له من آخر سنة خمس وتسعين ومئة إلى أن قتل محمد، واجتمع الناس عليه، وتفرق عماله في البلاد، ومحمد حي، ودعي له بالحرمين، وأقيم الحج للناس بإمامته في سنتي ست وسبع وتسعين ومئة، وهو مقيم بخراسان، والكتب تنفذ عنه، والأموال تحمل إليه، وأمره ينفذ في الآفاق، فاجتمع الناس عليه بعد قتل محمد، وبويع له ببغداد على يدي طاهر بن الحسين في المحرم سنة ثمان وتسعين وورد الخبر عليه وهو
بمرو في صفر سنة ثمان وتسعين. ولم يزل المأمون مقيماً بمرو. ووجه الحسن بن سهل صنو ذي الرياستين إلى بغداد وجعله خليفته بالعراق، وعقد له عليه، وكان وجه قبله منصور بن المهدي إلى بغداد، ودفع إليه خاتمه، وأمره أن يكاتب عنه. فلما قدم الحسن بن سهل لم يكن لمنصور من الأمر شيء غير المكاتبة والختم. وعقد المأمون بخراسان العهد بعده لعلي بن موسى بن جعفر وسماه الرضا، وخلع السواد، وألبس الناس الخضرة في سنة إحدى ومئتين. فلما اتصل ذلك بمن في العراق من العباسيين من ولد الخلافة وغيرهم عظم عليهم، وأنكروه، واجتمعوا، فكتبوا إلى المأمون كتاباً في ذلك، وورد كتابه على الحسن بن سهل يأمره بأخذ البيعة على الناس لعلي بن موسى بعده فأعظم الناس ذلك وأبوه وخالفوا الأمر فيه ودعاهم ذلك إلى أن بايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وخلعوا المأمون.
وكان المأمون أبيض، ربعة، حسن الوجه، قد وخطه الشيب، تعلوه صفرة، أغبر، طويل اللحية رقيقها، ضيق الجبين، على خده خال، وكان ساقاه من سائر جسده صفراوين، حتى كأنهما طليتا بالزعفران.
قال أبو محمد اليزيدي:
كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري. قال: فأتيته يوماً وهو داخل، فوجهت إليه بعض خدمه يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت إليه آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر، قال: أجل، ومع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدامه، ولقوا منه أذى شديداً فقومه بالأدب. فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر. قال: فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل له: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منديلاً، فمسح عينيه من البكاء، وجمع ثيابه، وقام إلى فرشه، فقعد عليها متربعاً ثم قال: ليدخل، فدخل، فقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى
منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه وحديثه حتى أضحكه، وضحك إليه. فلما هم بالحركة دعا بدابته، وأمر غلمانه، فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ على ما بقي من جزئي. فقلت: ايها الأمير - أطال الله بقاءك - لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى فلو فعلت ذلك لشكر لي، فقال: أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذه؟ فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه؟ إني أحتاج إلى أدب. إذاً يغفر الله لك بعد ظنك، ووجيب قلبك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبداً، ولو عدت في كل يوم مئة مرة.
أراد الرشيد سفراً فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعلمهم أنه خارج بعد الأسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمع الناس إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر فكتب إليه المأمون: السريع
يا خير من دنت المطي به ... ومن تقدى بسرجه فرس
هل غاية في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس؟
ما علم هذا إلا إلى ملكٍ ... من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متبعاً ... وإن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد وسر بها، ووقع فيها: يا بني، ما أنت والشعر إنما الشعر أرفع حالات الدنيء، وأقل حالات السري والمسير إلى ثلاث أن شاء الله.
حدث ذو الرياستين في شوال سنة اثنتين ومئتين أن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمة. أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم، كان يرفع صوته ليسمع، وكان يأخذ عليه.
قال محمد بن عباد: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان والمأمون.
حدث يحيى بن أكثم القاضي قال: قال لي المأمون يوماً: يا يحيى إني لرأيت أن أحدث، فقلت: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟ فقال: ضعوا لي منبراً بالحلبة، فصعد وحدث، فأول حديث حدثنا به من هشيم عن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار. ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثاً، ثم نزل فقال لي: يا يحيى، كيف رأيت مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس، يا أمير المؤمنين، تفقه الخاصة والعامة، فقال: لا، وحياتك، ما رأيت لكم حلاوة، إنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر، يعني من أصحاب الحديث.
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: لما فتح المأمون مصر قام فرج الأسود فقال: الحمد الله الذي كفاك أمر عدوك، وأدان لك العراقين والشامات ومصر، وأنت ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ويحك يا فرج، إلا أنه بقيت لي خلة، وهو أن أجلس في مجلس، ويستملي يحيى فيقول: من ذكرت رضي الله عنك؟ فأقول: حدثنا الحمادان: حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد بن درهم قالا: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من عال ابنتين أو ثلاثاً أو أختين أو ثلاثاً حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي كهاتين في الجنة. وأشار بالمسبحة والوسطى.
قال أبو بكر الخطيب: في هذا الخبر غلط فاحش. قال: ويشبه أن يكون المأمون رواه عن رجل عن الحمادين، وذلك أن مولد المأمون في سنة سبعين ومئة، ومات حماد بن سلمة في سنة سبع وستين ومئة، قبل مولده بثلاث سنين، وأما حماد بن زيد فمات في سنة تسع وسبعين ومئة.
قال محمد بن سهل بن عسكر:
وقف المأمون يوماً للإذن، ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة، فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: ما تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه شيئاً، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم، وحدثنا حجاج بن محمد، وحدثنا فلان حتى ذكر الباب، ثم سأله عن بابٍ باب فلم يذكر فيه شيئاً، فذكره
المأمون، ثم نظر إلى أصحابه فقال: أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: أنا من أصحاب الحديث؟! أعطوه ثلاثة دراهم.
قال محمد بن حفص الأنماطي: تغدينا مع المأمون في يوم عيد. قال: فأظنه وضع على مائدته أكثر من ثلاث مئة لون. قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا نافع لكذا، ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا، ومن قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا. قال: فوالله إن زالت تلك حاله في كل لون يقدم إليه حتى رفعت الموائد، فقال له يحيى بن أكثم: يا امير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هرمس في حسابه، او في الفقه كنت علي بن أبي طالب في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيئ في صفته، أو صدق الحديث فأنت أبو ذر في لهجته، أو الكرم فأنت كعب بن مالك في فعاله، أو الوفاء فأنت السموءل بن عادياء في وفائه. فسر بهذا الكلام، وقال: يا أبا محمد، إن الإنسان إنما فضل بعقله، لولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم.
قال: ونظر يوماً إلى رؤوس آنيته محشوة بقطن، وكانت قبل ذلك بأطباق فضة، فقال لصاحب الشراب: أحسبت يا بني أنما تباهي بالذهب والفضة من قلاً عنده، واما نحن فينبغي أن نباهي بالفعال الجميلة والأخلاق الكريمة، فإياك أن تحشو رؤوس أوانيك إلا بالقطن، فذلك بالملوك أهيأ وأبهى.
قال يحيى بن أكثم القاضي: ما رأيت أكمل آلة من المأمون وجعل يحدث بأشياء استحسنها من كان في مجلسه ثم قال: كنت عنده - يعني ليلة أذاكره أو أحدثه، ثم نام وانتبه فقال: يا يحيى، انظر إيش عند رجلي، فنظرت فلم أر شيئاً، فقال: شمعة، فتبادر الفراشون فقال: انظروا، فنظروا فإذا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب، فقال: معاذ الله، ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم فقال: مجزوء الكامل
يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى
قال: فانتبهت، فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب وإما بعيد، فتأملت ما قرب فكان ما رأيت.
قال عمارة بن عقيل: قال ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن المأمون أمير المؤمنين لا يبصر الشعر؟ فقلت: من ذا يكون أفرس منه، والله إنا لننشد أول البيت، فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه. قال: إني أنشدته بيتاً أجدت فيه، فلم أره تحرك له، وهذا البيت فاسمعه: البسيط
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقلت له: مازدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها في يدها سبحة. فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولاً عنها؟ فهو المطوق بها، ألا قلت كما قال عمك جرير لعبد العزيز بن الوليد: الطويل
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: كنت واقفاً على رأس المأمون، وهو يتفكر، ثم رفع رأسه فقال: يا إبراهيم، بيتا شعر قيلا لم يسبق قائلهما إليهما أحد، ولا يلحقهما أحد. قلت: من هما يا أمير المؤمنين؟ قال: أبو نواس وشريح، فتبسمت فقال: أمن أبي نواس وشريح؟ قلت: نعم. قال: خذ، قال أبو نواس: الطويل
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدوٍ في ثياب صديق
قال: قلت أحسن يا أمير المؤمنين، فما قال شريح؟ فقال: قال شريح الطويل
تهون على الدنيا الملامة أنه ... حريص على استصلاحها من يلومها
فقلت: أحسن يا أمير المؤمنين، فقال: أحسن منها ما سمعته أنا: كنت أسير في موكبي فألجأني الزحام إلى دكان، عليه أسمال، فنظر إلي نظر من رحمني أو متعجب مما أنا فيه فقال: الطويل
أرى كل مغرور تمنيه نفسه ... إذا ما مضى عام سلامة قابل
قال النضر بن شميل:
دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو وعلي أطمار متر عبلة، فقال لي: يا نضر، أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق. قال: لا، ولكنك تتقشف فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز، قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم. حدثني عوف الأعرابي عن الحسن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز، وكان المأمون متكئاً، فاستوى جالساً وقال: السداد لحن يا نضر؟ قلت: نعم هاهنا، وإنما لحن هشيم، وكان لحاناً، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السداد: القصد في السبيل، والسداد: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد. قال: أفتعرف العرب ذلك؟ قلت نعم. هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغرٍ
فأطرق المأمون ملياً ثم قال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب. قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: المنسرح
تقول لي والعيون هاجعة: ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها: ... لأي وجهٍ إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه: ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... هيهات إذ حل أعطني سلمي
فقال المأمون: لله درك، فكأنما شق لك عن قلبي. أنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المدني بأمير المؤمنين: الكامل
إني وإن كان ابن عمي عاتباً ... لمراجم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأ ... مترحرحاً في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه ... حتى يحين إلي وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسم ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سيسائه
وإذا أتى من وجهه بطريقة ... لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل: ... يا ليت أن علي حسن ردائه
فقال: أحسنت يا نضر. أنشدني الآن أقنع بيت للعرب، فأنشدته قول ابن عبدل: المنسرح
إني امرؤ لم أزل من الله أديب أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الدار وإن كنت نازحاً طربا
لا أجتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الرزق وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في ضيعةٍ رغبا
والعبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن شيئاً إلا إذا ضربا
وام أجد عروة العلائق إلا الدين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنسٍ ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والرحل ومن لا يزال مغتربا
قال: أحسنت يا نضر، أفعندك ضد هذا؟ قلت: نعم احسن منه، قال: هاته وأنشدته: الوافر
يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها كفور أو شكور
قال: أحسنت يا نضر، وأخذ القرطاس فكتب شيئاً لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول أفعل من التراب؟ قلت: أترب. قال: الطين؟ قلت: طن، قال: فالكتاب ماذا؟ قلت: مترب مطين، قال: هذه أحسن من الأولى، قال: فكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر الخادم أن يوصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمني إلى الفضل بن سهل، فمضيت
معه. فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر، لحنت أمير المؤمنين؟! قلت: كلا، ولكن هشيم لحانة، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفاً.
وقال لي الفضل: يا نضر، حدثني عن الخليل بن أحمد، قلت: حدثني الخليل بن أحمد قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من اعلم من رأيت، وكان على سطح أو سطيح. فلما رأيناه أشرنا باليد بالسلام، فقال: استووا، فلم ندر ما قال، فقال لنا شيخ عنده يقول لكم: ارتفعوا، فقال الخليل: هذا من قول الله عز وجل " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " ثم ارتفع ثم قال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فلما فارقناه قال: سلاماً، قلنا: فسر قولك هذا، فقال متاركة: لا خير ولا شر، فقال الخليل: هذا مثل قول الله عز وجل " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " أي متاركة.
قال محمد بن زياد الأعرابي: بعث إلي المأمون، فصرت إليه، وهو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم، فرأيتهما موليين، فجلست. فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة، فسمعته يقول: يا أبا محمد، ما أحسن أدبه، رآنا موليين فجلس، ثم رآنا مقبلين فقام، ثم رد علي السلام، وقال: يا ابا محمد، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب، فقلت: يا أمير المؤمنين قوله: الطويل
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
فقال: أشعر منه الذي يعني: أبا نواس: السريع
فتمشت في مفاصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمهم ... كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت ... مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
فقلت: فائدة يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
من طارق هذا؟ قال: فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما اعرفه في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، وانتسبت إليه لحسنها من قول الله تعالى " والسماء والطارق " الآية قال: فقلت: فائدتان يا أمير المؤمنين، فقال: أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبئه، ثم دحا إلي بعنبرة كان يقلبها في يده، بعتها بخمسة آلاف درهم.
حدث محمد بن عبد الرحمن الشروي صاحب أبي نواس قال: أشرف المأمون ليلة من موضع كان به على الحرس، فقال: هل فيكم من ينشد لأبي نواس أربعة أبيات؟ قال: فقال غلام من الحرس؛ أو من أبناء الحرس: أنا يا أمير المؤمنين، قال: هات، فأنشده: البسيط
لاتبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأساً إذا انحدرت من حلق شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخد
فالخمر يا قوتة والكأس لؤلؤة ... في كف لؤلؤةٍ ممشوقة القد
تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فمالك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فقال المأمون: هذا والله الشعر، لا قول الذي يقول: ألا هبي بسلحك فالطحينا.
وأمر للغلام بأربعة آلاف درهم.
قال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يخطب يوم العيد فأثنى على الله، وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأوصاهم بتقوى الله، وذكر الجنة والنار ثم قال: عباد الله، عظم قدر الدارين، وارتفع جزاء العاملين، وطال مدة الفريقين، فوالله إنه الجدلا اللعب، وإنه الحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث والحساب، والفصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلم والصراط ثم العقاب والثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة والشر كله في النار.
وعن الحسن بن عبد الجبار المعروف بالعرق قال:
بينا المأمون في بعض مغازيه يسير مفرداً عن أصحابه ومعه عجيف بن عنبسة إذ طلع رجل متخبط متكفن. فلما عاينه المأمون وقف ثم التفت إلى عجيف فقال: ويحك، اما ترى صاحب الكفن مقبلاً يريدني؟! فقال له عجيف: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، قال: فما كذب الرجل أن وقف على المأمون، فقال له المأمون: من أردت يا صاحب الكفن؟ قال: إياك أردت، قال: وعرفتني؟ قال: لو لم أعرفك ما قصدتك، قال: أولا سلمت علي؟ قال: لا أرى السلام عليك، قال: ولم؟ قال: لإفسادك علينا الغزاة، قال عجيف: وأنا ألين مس سيفي لئلا نبطئ ضرب عنقه إذ التفت المأمون، فقال: يا عجيف: إني جائع ولا رأي لجائع، فخذه إليك حتى أتغدى، وأدعو به. قال: فتناوله عجيف فوضعه بين يديه. فلما صار المأمون إلى رحلة دعا
بالطعام. فلما وضع بين يديه أمر برفعه، وقال: والله ما أسيغه حتى أناظر خصمي، يا عجيف، علي بصاحب الكفن. قال: فلما جلس بين يديه قال: هيه يا صاحب الكفن، ماذا قلت؟ قال: قلت: لا أرى السلام عليك لإفسادك الغزاة علينا، قال: بماذا أفسدتها؟ قال: بإطلاقك الخمور تباع في عسكرك وقد حرمها الله في كتابه، فابدأ بعسكرك ثم اقصد الغزو، بماذا استحللت أن تبيح شيئاً قد حرمه الله كهيئة ما أحل الله؟! قال: أو عرفت الخمر أنها تباع ظاهراً ورأيتها؟ قال: لو لم أرها وتصح عندي ما وقفت هذا الموقف. قال: فشيء سوى الخمر أنكرته؟ قال: نعم إظهارك الجواري في العماريات وكشفهن الشعور منهن بين أيدينا كأنهن فلق الأقمار، خرج الرجل منا يريد أن يهراق دمه في سبيل الله، ويعقر جواده قاصداً نحو العدو، فإذا نظر إليهن أفسدت قلبه، وركن إلى الدنيا، وانصاع إليها، فلم استحللت ذاك؟ قال: ما استحللت ذاك، وسأخبرك العذر فيه فإن كان صواباً وإلا رجعت ثم قال: شيئاً غير هذا أنكرته؟ قال: نعم، شيء أمرت به، تنهانا عن الأمر بالمعروف، قال: أما الذي يأمر بالمنكر فإني أنهاه، وأما الذي يأمر بالمعروف فإني أحثه على ذلك وأحدوه عليه، أفشيء سوى ذاك؟ قال لا.
قال: يا صاحب الكفن، أما الخمر فلعمري قد حرمه الله، ولكن الخمر لا تعرف إلا بثلاث جوارح: بالنظر والشم والذوق، أفتشربها؟ قال: معاذ الله أن أنكر ما أشرب، قال: أفيمكن في وقتك هذا أن تقصى على بيعها حتى نوجه معك من يشتري منها؟ قال: ومن يظهرها لي أو يبيعنيها فيها على هذا الكفن؟ قال: صدقت، قال: فكأنك إنما عرفتها بهاتين الجارحتين. يا عجيف: علي بقوارير فيها شراب، فانطلق عجيف، فأتاه بعشرين قارورة، فوقفها بين يديه في أيدي عشرين وصيفاً، ثم قال: يا صاحب الكفن، نفيت من آبائي الراشدين المهديين إن لم تكن الخمر فيها، فإنك تعلم أن الخمر من ستر الله على عباده، وأنه لا يجوز لك أن تشهد على قوم مستورين إلا بمعاينةٍ وعلم، ولا يجوز لي أن آخذ إلا بمعاينة بينة وشاهدي عدل، قال: فنظر صاحب الكفن إلى القوارير فقال له
عجيف: أيها الرجل، لو كنت خماراً ما عرفت موضع الخمر بعينها من هذه القوارير، فقال له: هذه الخمر بعينها من هذه القوارير، فأخذ المأمون القارورة فذاقها ثم قطب ثم قال: يا صاحب الكفن، انظر إلى هذه الخمر فتناول الرجل القارورة فذاقها فإذا خل ذابح، فقال: قد خرجت هذه عن حد الخمر، فقال المأمون: صدقت، إن الخل مصنوع من الخمر، ولا يكون خلاً حتى يكون خمراً، ولا والله ما كانت هذه خمراً قط، وما هو إلا رمان حامض يعصر لي أصطبغ به من ساعته، فقد سقطت الجارحتان، وبقي الشم، يا عجيف، صيرها في رصاصيات وائت بها، قال: ففعل، فعرضت على صاحب الكفن فشمها، فوقع مشمه على قارورة منها فيها ميبختج فقال: هذه، فأخذها المأمون فصبها بين يديه وقال: انظر إليها كأنها طلاء قد عقدتها النار بل تقطع بالسكين. قد سقطت إحدى الثلاث التي أنكرت يا صاحب الكفن، ثم رفع المأمون رأسه إلى السماء وقال: اللهم، إني أتقرب إليك بنهي هذا ونظرائه عن الأمر بالمعروف، يا صاحب الكفن، أدخلك الأمر بالمعروف في أعظم المنكر، شنعت على قوم باعوا من هذا الخل ومن هذا الميبختج الذي شممت. فلم تسلم، استغفر الله من ذنبك هذا العظيم، وتب إليه.
والثاني؟ قال: الجواري، قال: صدقت، أخرجتهن أبقي عليك وعلى المسلمين، كرهت أن تراهن عيون العدو والجواسيس في العماريات والقباب، والسجف عليهن، فيتوهمون أنهن بنات أو أخوات، فيجدون في قتالنا، ويحرصون على الغلبة على ما في أيدينا حتى يجتذبوا خطام واحد من هذه الإبل يستقيدونه بكل طريق إلى أن يبين لهم أنهن إماء، فأمرت برفع الظلال عنهن، وكشف شعورهن، فيعلم العدو أنهن إماء نقي بهن حوافر دوابنا، لا قدر لهن عندنا. هذا تدبير دبرته للمسلمين عامة، ويعز علي أن ترى لي حرمة، فدع هذا فليس هو من شأنك، فقد صح عندك أني في هذا مصيب، وأنك أنكرت باطلاً.
أي شيء الثالثة؟ قال: الأمر بالمعروف، قال: نعم، أرأيتك لو أنك أصبت فتاة مع فتى قد اجتمعا في هذا الفج على حديث، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت أسألهما: ما أنتما؟ قال: كنت تسأل الرجل فيقول: امرأتي، وتسأل المرأة فتقول: زوجي، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت أحول بينهما وأحبسهما، قال: حتى يكون ماذا؟ قال: حتى أسأل عنهما، قال: ومن تسأل عنهما؟ قال أسألهما: من أين أنتما؟ قال: سألت الرجل: من أين أنت؟ قال: أنا من أسفيجاب، وسألت المرأة، من أين أنت؟ فقالت: من أسفيجاب، ابن عمي، تزوجنا وجئنا، كنت حابساً الرجل والمرأة لسوء ظنك وتوهمك الكاذب إلى أن يرجع الرسول من أسفيجاب، مات الرسول أو ماتا إلى أن يعود رسولك؟ قال: كنت أسأل في عسكرك هذا، قال: فعلك لا تصادف في عسكري هذا من أهل أسفيجاب إلا رجلاً أو رجلين فيقولان لك: لا نعرفهما على هذا النسب، يا صاحب الكفن، ما احسبك إلا أحد ثلاثة رجال: إما رجل مديون، وإما مظلوم، وإما رجل تأولت في حديث أبي سعيد الخدري في خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وروى الحديث عن هشيم وغيره، ونحن نسمع الخطبة إلى ... مغربان الشمس إلى أن بلغ إلى قوله: إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فجعلتني جائراً وأنت الجائر، وجعلت نفسك تقوم مقام الأمر بالمعروف، وقد ركبت من المنكر ما هو أعظم عليك، لا والله لأضربنك سوطاً، ولا زدتك على تخريق كفنك، ونفيت من آبائي الراشدين المهديين، إن قام أحد مقامك هذا لا يقوم بالحجة إن نقصته من ألف سوط، ولآمرن بصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمبه في الموضع الذي يقوم فيه. قال: فنظرت إلى عجيف وهو يخرق كفن الرجل، ويلقي عليه ثياب بياض.
وعن ابن عباد أنه ذكر المأمون يوماً فقال: كان والله أحد ملوك الأرض، وكان يجب له هذا الاسم على الحقيقة.
قال ابن أبي داود دخل رجل من الخوارج على المأمون فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آية في كتاب الله تعالى، قال: وما هي؟ قال: قوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ". فقال له المأمون: ألك علم بأنها منزلة؟ قال: نعم، قال؛ وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل، قال: صدقت. السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وعن أبي العيناء قال: كان المأمون يقول: كان معاوية بعمره، وعبد الملك بحجاجه، وأنا بنفسي.
قال قحبطة بن حميد بن قحطبة: حضرت المأمون يوماً وهو يناظر محمد بن القاسم النوبنجاني في شيء، ومحمد يغضي له ويصدقه، فقال له المأمون: أراك تنقاد لي إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك، ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان، وطول لسان، وأبهة الخلافة، وسطوة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذباً، وصوبت وإن كنت مخطئاً، وعدلت وإن كنت جائراً. ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة، وإن شر الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم: صدق الأمير.
قيل للمأمون يوماً: يا أمير المؤمنين، لو نصبت للناس رجلاً وأقمته لحوائجهم، فتشاغل بهم واقتصرت عليه بينك وبين الرعية، ولم تشغل نفسك بالاستماع إلى كل داخل، فقال المأمون: إني بسطت للناس في الكلام، وأذنت لهم علي، وجعلت حوائجهم بيني وبينهم لتصل إلي أخبارهم، وأعرف مبلغ عقولهم، وأعطي كل امرئ منهم على قدره، فيكون كل إنسان وجميل حاجته، ولسان طلبته خارجاً عن يدي شكله والطلب إلى مبلغ، ولو جعلت ذلك إلى أحدٍ لضاق على الرعية المذهب، وخفيت علي أمورهم،
وحبست عني أخبارهم، وموطلوا بحوائجهم وتآمر عليهم غيري، وكان الحمد والمن لواحد في زمانهم دوني ودون أوليائي، وخفت مع هذا أن لو نصبت لهم رجلاً لا أشكر على صنيعة، فينسون نعمتي أوليائي ويستعبدهم غيري، فأكون قد صبرت أحراراً أرقاء.
قال قحطبة بن حميد بن الحسن بن قحطبة: كنت واقفاً على رأس المأمون أمير المؤمنين يوماً، وقد قعد للمظالم، فأطال الجلوس حتى زالت الشمس، فإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورجمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم، فأقبل يحيى عليها فقال: تكلمي، فقالت: يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبين ضيعتي، وليس لي ناصر إلا الله تبارك وتعالى، فقال لها يحيى بن أكثم: إن الوقت قد فات، ولكن عودي يوم المجلس، قال: فرجعت. فلما كان يوم المجلس قال المأمون: أول من يدعى المرأة المظلومة، فدعا بها، فقال لها: أين خصمك؟ قالت: واقف على رأسك يا أمير المؤمنين قد حيل بيني وبينه، وأومأت إلى العباس، ابنه، فقال لأحمد بن أبي خالد: خذه بيده وأقعده معها، ففعل، قتناظر ساعة حتى علا صوتها عليه، فقال لها أحمد بن أبي خالد: أيتها المرأة، إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة أمير المؤمنين، فاخفضي عليك، فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه، فلم تزل تناظره حتى حكم لها المامون عليه، وأمره برد ضيعتها، وأمر ابن أبي خالد أن يدفع إليها عشرة آلاف درهم.
وقد حكي عن هذه المرأة أنها دخلت على المأمون، وقد أذن المؤذن فقالت: البسيط
يا خير منتصف يهدى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكو إليك عقيد الملك أرملة ... عدا عليها فلم تقوبه أسد
فابتز مني ضياعي بعد منعتها ... وقد تفرق عني الأهل والولد
فأجابها المأمون:
من دون ما قلت عيل الصبر والجلد ... مني ودام به من قلبي الكمد
هذا أوان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلماة الظهر فانصرفيوأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... أنصفك منه وإلا المجلس الأحد
وساق بقية الحديث بمعناه.
قال أحمد بن يوسف القاضي: قلت للمامون: يا أمير المؤمنين، إن رجلاً ليس بينه وبين الله أحد يخشاه لحقيق أن يتقي الله عز وجل، فقال المأمون: صدقت.
قال محمد بن منصور: وقع المأمون في رقعة متظلم من علي بن هشام: علامة الشريف أن يظلم من فوقه، ويظلمه من هو دونه، فأخبر أمير المؤمنين: أي الرجلين أنت؟.
ووقع في قضية رجل يظلم من بعض أصحابه: ليس من المروءة أن تكون ابنتك من ذهب وفضة وغريمك عارٍ، وجارك طاو.
قال أبو عيسى الهاشمي: حدثني أبي قال: كنت بحضرة المأمون فأحضر رجلاً، فأمر بضرب عنقه، وكان الرجل من ذوي العقول، فقال ليحيى بن أكثم: إن أمير المؤمنين قد أمر بضرب عنقي، وإن دمي عليه لحرام، فهل لي في حاجة أسأله إياها لا تضر بدينه ولا مروءته؟ فإذا فعل ذلك فهو في حل من دمي، فأظهر المأمون تحرجاً، فقال ليحيى بن أكثم: سله عنها، فقال الرجل: يضع يده في يدي إلى الموضع الذي يضرب فيه عنقي، فإذا فعل ذلك فهو في حل من دمي، فقالم المأمون من مجلسه وضرب بيده إلى يد الرجل، فلم يزل يخبره وينشده، ويحدثه حتى كأنه من بعض أسرته، فلما أن رأى السياف والسيف والموضع الذي يكون فيه مثل هذه الحال انعطف فقال للمأمون: بحق هذه الصحبة والمحادثة لما عفوت، فعفا عنه، وأجزل له الجائزة.
وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له: والله لأقتلنك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، تأن علي، فإن الرفق نصف العفو، فقال: فكيف وقد حلفت
لأقتلنك؟ فقال: يا امير المؤمنين، لأن تلقى الله حانثاً خير لك من أن تلقاه قاتلاً.
قال: فخلى سبيله.
قال المأمون: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأبي في العفو، ليذهب الخوف عنهم، ويخلص السرور إلى قلوبهم.
قال عبد الله بن البواب: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا في بعض الأوقات، وغنه جلس يستاك على دجلة من وراء ستره، ونحن قيام بين يديه، فمر ملاح وهو يقول: بأعلى صوته: أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه؟ قال: فوالله ما زاد على أن تبسم وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل؟!.
قال يحيى بن أكثم: بت ليلة عند المأمون، فعطشت في جوف الليل، فقمت لأشرب ماء، فرآني المأمون فقال: مالك؛ ليس تنام يا يحيى! فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا عطشان، قال: ارجع إلى موضعك، فقالم إلى البرادة، فجاءني بكوز ماء، وقام على رأسي وقال: اشرب يا يحيى، فقلت: يا أمير المؤمنين فهلا وصيف أو وصيفة؟ (يعني: فقال: إنهم نيام، قلت: فأنا كنت أقوم للشرب، فقال لي: لؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه قال: يا يحيى، قلت: لبيك، قال: ألا أحدثك؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، قال: حدثني الرشيد، حدثني المهدي، حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس، حدثني جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيد القوم خادمهم.
قال يحيى بن أكثم: ما رأيت أكرم من المامون، بت ليلة عنده فعطش، وقد نمنا، فكره أن يصيح بالغلمان فأنتبه، وكنت منتبهاً، فرأيته قد قام يمشي قليلاً قليلاً إلى البرادة وبينه وبينها بعيد حتى شرب ورجع، قال يحيى: ثم بت عنده ونحن بالشام، وما مي أحد، فلم يحملني النوم، فأخذ المأمون سعال، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه، ثم حملني آخر الليل النوم، وكان له وقت يقوم فيه يستاك، فكره أن ينبهني. فلما ضاق الوقت عليه تحركت فقال: الله أكبر، يا غلمان، نعل أبي محمد.
قال يحيى بن أكثم: وكنت أمشي يوماً مع المأمون في بستان موسى في ميدان البستان، والشمس علي وهو في الظل. فلما رجعنا قال لي: كن الآن أنت في الظل، فأبيت عليه، فقال: أول العدل أن يعدل الملك في بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى.
كان المأمون يقول: الملوك لا تحتمل ثلاثة أشياء: إفشاء السر، والتعرض للحريم والقدح في الملك.
قال يحيى بن خالد البرمكي: سمعت المأمون يقول: يا يحيى، اغتنم قضاء حوائج الناس، فإن الفلك أدور، والدهر أجور من أن يترك لأحد حالاً، أو يبقي لأحد نعمة.
قال المأمون: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
قال المأمون لأبي حفص عمر بن الأزرق الكرماني؛ أريدك للوزارة، قال: لا أصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح لها يا أمير المؤمنين، قال: ترفع نفسك عنها؟! قال: ومن يرفع نفسه عن الوزراة؟ ولكني قلت هذا رافعاً لها، وواضعاً لنفسي بها، فقال المأمون: إنا نعرف موضع الكفاة الثقات، المتقدمين من الرجال، ولكن دولتنا منكوسة إن قومناها بالراجحين انتقضت، وإن أيدناها بالناقصين استقامت، ولذلك اخترت استعمال الصواب فيك.
قال المبرد: انشد المأمون بيت أبي العتاهية: الوافر
تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال
فقال: الحرص مفسدة للدين والمروءة، والله ما عرفت من أحد قط حرصاً أو شرهاً فرأيت فيه مصطنعاً.
كان المأمون يقول: من لم يحمدك على حسن النية لم يشكرك على جميل الفعل.
قال أبو العالية: سمعت المأمون يقول: ما أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبحمنه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء، والمزاح بالشيوخ، والكسل بالشباب، والجبن بالمقاتل.
قال المأمون: اظلم الناس لنفسه من عمل بثلاث: من يتقرب إلى من يبعده، ويتواضع لمن لا يكرمه، ويقبل مدح من لا يعرفه.
قال مخارق: أنشدت المأمون قول أبي العتاهبة: الطويل
وإني لمحتاج إلى ظل صاحبٍ ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
قال: أعد فأعدت سبع مرات، فقال لي: يا مخارق خذ مني الخلافة، وأعطني هذا الصاحب، لله در أبي العتاهبة، ما أحسن ما قال.
كان للمأمون ابن عم جيد الخط، فدخل عليه يوماً، فقال له المأمون: يا بن عمي، بلغني أنك جيد الخط، وذلك معدوم في أهلك فقال: يا امير المؤمنين، جودة الخط بلاغة اليد، قال: وبلغني أنك شاعر، قال: ذاك ضعه للشريف ورفعة للوضيع، قال: وبلغني أنك سخي، قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود قلة ثقة بالمعبود، قال: فأنت أكبر أم أمير المؤمنين؟ قال: جوابي في ذلك جواب جدك العباس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سئل، فقيل له: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر أم أنت؟ فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر، وولدت قبله.
قال هدبة بن خالد: حضرت غداء المأمون. فلما رفعت المائدة جعلت التقط ما في الأرض، فنظر إلي المأمون، فقال: اما شبعت يا شيخ؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إنما شبعت في فنائك وكنفك، ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر. فنظر المأمون إلى خادم
واقف بين يديه فأشار إليه، فما شعرت حتى جاءني ومعه منديل، فيه ألف دينار، فناولني، فقلت: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضاً من ذلك.
قال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: يا أبا عبد الله، قد أعطيتك ألف ألف وألف ألف وألف ألف وعليك دين! إن فيك سرفاً، قال: يا أمير المؤمنين إن منع الموجود سوء الظن بالمعبود، قال المأمون: أحسنت يا محمد، أعطوه ألف ألف وألف ألف وألف ألف.
قال ثمامة بن أشرس: تفرد المأمون يوماً في بعض تصيده، فانتهى إلى بعض بيوت البادبة، فرأى صبياً يضبط قربة، وقد غلبه وكاؤها، وهو يقول: يا أبه، اشدد فاها، فقد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها. قال: فوقف عليه المأمون، فقال: يا فرخ غمه، ممن يكون؟ قال: من قضاعة، قال: من أيها؟ قال: من كلب، قال: وإنك لمن الكلاب! قال: لسنا هم، ولكنا قبيل يدعى كلباً، قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من بني عامر، قال: من أيها؟ قال: من الأجدار ثم من بني كنانة، فمن أنت يا خال؟ فقد سألتني عن حسبي، قال: ممن تبغضه العرب كلها، قال: فأنت إذاً من نزار، قال: أنا ممن تبغضه نزار كلها، قال: فأنت إذاً من مضر، قال: أنا ممن تبغضه مضر كلها، قال: فأنت إذالً من قريش، قال: أنا ممن تبغضه قريش كلها، قال: فأنت إذاً من بني هاشم، قال: أنا ممن تحسده بنوهاشم كلها، قال: فأرسل فم القربة، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وضرب بيده إلى شكيمة الدابة وهو يقول: مشطور الرجز
مأمون يا ذا المن (ن الشريفه ... وصاحب الكتيبة الكثيفه
هل لك في أرجوزةٍ ظريفه ... أظرف من فقه أبي حنيفه؟
لا والذي أنت له خليفه ... ما ظلمت في أرضنا ضعيفه
عاملنا مؤنته خفيفه ... وما حبا فضلاً عن الوظيفه
والذئب والنعجة في سقيفه ... واللص والتاجر في قطيفه
قد سار فينا سيرة الخليفة
فقال له المأمون: أحسنت يا فرخ غمه، فأيهما أحب إليك، عشرة آلافٍ معجلة أو
مئة ألف موكلة؛ قال: بل أؤخرك يا أمير المؤمنين. فما لبث أن أبلت الفرسان، فقال: احملوه، حتى كان أحد مسامريه.
ركب المأمون يوماً إلى المطبق، وبلغ القواد ركوبه فتبعوه، وكان رجل من الطالبيين يلقب بكلب الجنة، وكان طيباً ظريفاً، فكان كلب الجنة ممن ركب تلك العشية، قال: فبصر به المأمون، وفي يده خشبة من حطب الوقود، وفي اليد الآخرى لحافه، فقال: كلب الجنة؟ قال: نعم، كلب الجنة، بلغه ركوبك فجاء لنصرتك، والله ما وجدت سلاحاً إلا هذه المشققة من الحطب، ولا ترساً إلا لحافي هذا، وعياش بن القاسم في بيته ألف ترس وألف درع، والف سيف قائم غير مكترث، فوصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمه بثلاثين ألفاً؛ وجاء عياش يركض فشتمه المأمون وناله بمكروه.
قال عمرو بن سعيد بن سلم الباهلي:
كنت في حرس المأمون بحلوان حين قفل من خراسان. قال: فخرج لينظر إلى العسكر في بعض الليالي فعرفته، ولم يعرفني، فأغفلته، فجاء من ورائي حتى وضع يده على كتفي، فقال لي: من أنت، فقلت: أنا عمرو - عمرك الله - ابن سعيد - اسعدك الله - ابن سلم، سلمك الله، فقال: أنت الذي كنت تكلؤنا من هذه الليلة؟ فقلت: الله يكلؤك يا أمير المؤمنين، فأنشأ المأمون يقول: مشطور الرجز
إن أخا هيجاك من يسعى معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمانٍ صدعك
فرق من جميعه ليجمعك
ثم قال: أعطه لكل بيت ألف دينار، فوددت أن تكون الأبيات طالت علي فأجد الغناء، فقلت: يا أمير المؤمنين، وازيدك بيتاً من عندي فقال لي هات، فقلت:
وإن غدوت طالما غدا معك
فقال: أعطه لهذا البيت ألف دينار، فما برحت من موقفي حتى أخذت خمسة آلاف دينار.
دخل المأمون يوماً ديوان الخراج، فمر بغلام جميل، على أذنه قلم، فأعجبه ما رأىمن حسنه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: الناشئ في دولتك وخريج أدبك يا أمير المؤمنين، المتقلب في نعمتك، والمؤمل لخدمتك، الحسن بن رجاء، فقال له المأمون: يا غلام، بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ثم أمر أن يرفع عن مرتبة الديوان، وأمر له بمئة ألف درهم.
قال أبو الفضل الربعي: لما ولد جعفر بن المأمون المعروف بابن بخه دخل المهنئون على المأمون فهنؤوه بصنوف من التهاني، وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل قائماً بين يديه ثم أنشأ يقول: الرجز
مد لك الله الحياة مدا ... حتى ترى ابنك هذا جدا
ثم يفدى مثلما تفدى ... كأنه أنت إذا تبدى
أشبه منك قامةً وقدا ... مؤزراً بمجده مردى
فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم.
كانت للرشيد هارون جارية غلامية، تصب على يده، وتقف على رأسه، وكان المأمون يعجب بها، وهو أمرد، فبينا هي تصب على هارون من إبريق معها، والمأمون مع هارون قد قابل بوجهه وجه الجارية إذ أشار إليها بقبلة، فزبرته بحاجبها، وأبطأت عن الصب في مهلة ما بين ذلك، فنظر إليها هارون، فقال: ما هذا؟! فتلكأت عليه، فقال: ضعي ما معك، علي كذا، إن لم تخبريني لأقتلنك، فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة، فالتفت إليه وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قم فادخل بها في تلك القبة، فقام، ففعل، فقال له، هارون: قل في هذا شعراً، فأنشأ يقول: المجتث
ظبي كنيت بطرفي ... عن الضمير إليه
قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه
ورد أحسن رد ... بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه
عشق المأمون جارية لأم عيسى امرأته، فوجدت عليه فكتب إليها شعراً به: الوافر
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي؟
فرضيت عنه. وجاءها فأخرجت إليه الجواري، فغنت الجارية الشعر من بينهن، فقال المأمون:
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
فقالت: خذها غير مبارك لك فيها.
قال بعض النخاسين: عرضت على المأمون جارية فصيحة، متأدبة، شطرنجية، فساومته في ثمنها بألفي دينار، فقال المأمون: إن هي أجازت بيتاً أقوله ببيت من عندها اشتريتها بما تقول، وزدتك. قال: فكم الزيادة يا أمير المؤمنين؟ قال: مئة دينار، قال: زدني، قال: مئتا دينار، قال: زدني، قال: ثلاث مئة دينار، قال: زدني، قال: خمس مئة دينار، قال: فليسألها أمير المؤمنين عما أراد، فأنشد المأمون: البسيط
ماذا تقولين فيمن شفه أرق ... من جهد حبك حتى صار حيرانا
فأجازته:
إذا وجدنا محباً قد أضر به ... داء الصبابة أوليناه إحسانا
كان المأمون يهوى جارية من جواريه يقال لها: تتريف، فبعث إليها ليلة خادماً يأمرها بالمصير إليه، فجاءها الخادم، فقالت: لا والله، لا أجيؤه، فإن كانت الحاجة له فليصر إلي. فلما استبطأ المأمون الخادم أنشأ يقول: الطويل
بعثتك مشتاقاً ففزت بنظرةٍ ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
ونا جيت من أهوى وكنت مقرباً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ورددت طرفاً في محاسن وجهها ... ومتعت باستمتاع نغمتها أذنا
أرى أثراً منها بوجهك ظاهراً ... لقد سرقت عيناك من حسنها حسنا
فقال الخادم: لا والله يا سيدي، إلا أنها قالت كذا وكذا، فقال: إذاً والله أقوم إليها.
ومن شعر المأمون يقوله في نديم له، وقد ثمل عنده سكراً، فناوله قدحاً بيده فقال: خذ، فقال: يدي لا تطاوعني، فقال: قم نم في فراشك، وكان ينام عنده، فقال رجلي لا تواتيني، فقال فيه المأمون: البسيط
أبصرته وظلام الليل منسدل ... وقد تمدد سكراً في الرياحين
فقلت: خذ قال: كفي لا تطاوعني ... فقلت: قم قال: رجلي لا تواتيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
ومن شعر المأمون: البسيط
مولاي ليس لعيشٍ أنت حاضره ... قدر ولا قيمة عندي ولا ثمن
ولا فقدت من الدنيا ولذتها ... شيئاً إذا كان عندي وجهك الحسن
كتب الرضى إلى المأمون: السريع
إنك في دار لها مدة ... يقبل فيها عمل العامل
أما ترى الموت محيطاً بها ... يقطع منها أمل الآمل
يعجبك الذنب لما تشتهي ... وتأمل التوبة في قابل
والموت يأتي أهله بغتةً ... ماذا بفعل الحازم العاقل
دخل المريسي يوماً على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، إن ها هنا شاعراً يهجو، ويقول الشعر فيما أحدثناه من أمر القرآن، فأحب أن تحدد له عقوبة، فقال المأمون: أما غنه إن كان شاعراً فلست أقدم لك عليه، وإن كان فقيهاً أقدمت عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يدعي الشعر، وليس بشاعر، فقال: إنه قد خطر على فؤادي في هذه الليلة أبيات فأنا أكتب بها إليه، فإن لم يجبني أقدمت عليه فكتب: المنسرح
قد قال مأموننا وسيدنا ... قولا له في الكتاب تصديق
إن علياً أعني أبا حسنٍ ... أفضل من أرقلت به النوق
بعد نبي الهدى وإن لنا ... أعمالنا والقران مخلوق
فلما قرأها الشاعر قال: اكتب: البسيط
يا أيها الناس لا قول ولا عمل ... لمن يقول كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر ... ولا النبي ولم يذكره صديق
ولم يقل ذاك إلا كل مبتدعٍ ... على الإله وعند الله زنديق
عمداً أراد به إمحاق دينكم ... لأن دينهم والله ممحوق
أصح يا قوم عقلاً من خليفتكم ... يمسي ويصبح في الأغلال موثوق؟
فلما ورد الشعر على المأمون التفت إلى المريسي فقال له: يا عاض كذا من أمه، لا يكني، أليس زعمت أنه ليس بشاعر؟ وأغلظ له في القول.
قال معلى بن أيوب: وقف المأمون في بعض أسفاره وهو قافل إلى طرسوس في قدمته التي مات فيها، فوقف على شرفٍ عالٍ ثم انشاً يقول: البسيط
حتى متى أنا في حط وترحالٍ ... وطول سعيٍ وإدبارٍ وإقبالٍ
ونازح الدار لا أنفك مغترباً ... عن الأحبة ما يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصٍ على بالي
ولو قعدت أتاني الرزق في دعةٍ ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال
وصفت للمأمون جارية، بكل ما توصف امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها فأتي بها وقت خروجه إلى بلاد الروم. فلما هم ليلبس درعه خطرت بباله، فأمر، فأخرجت إليه. فلما نظر إليها أعجب بها؛ فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتني والله يا سيدي، وحدرت دموعها على خدها كنظام اللؤلؤ، وأنشأت تقول: الوافر
سأدعو دعوة المضطر رباً ... يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حرباً ... ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضمها المأمون إلى صدره، وأنشأ يقول: الطويل
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها ... وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور، احتفظ بها، وأكرم محلها، وأصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَى الله عليه وسلمى الله عليه وسلمح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا ما قال الأخطل حين يقول: البسيط
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
ثم خرج، فلم يزل يتعهدها، ويصلح ما أمر به، فاعتلت الجارية علةً شديدة، وورد عليها نعي المأمون. فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وتوفيت. وكان مما قالت وهي تجود بنفسها: البسيط
إن الزمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة انفاساً وأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ... ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا نزال به ... من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا نراها ترينا من تصرفها ... مالا يدوم مصافاةً وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا نزايلها ... للعيش أحياؤنا يبكون موتانا
توفي المأمون وسنة ثمان وأربعون سنة، وقيل تسع وأربعون، وسنه الصحيح ثمان وأربعون سنة وأ؟ ربعة أشهر وخمسة أيام. وتوفي ناحية طرسوس في رجب سنة ثمان عشرة ومئتين. ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم. وقال أبو سعيد المخزومي: الخفيف
ما رأيت النجوم أغنت من المأ ... مون في عز ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس