أشعث بن قيس
أبو محمد الكندي له صحبة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث يسيرة، وشهد اليرموك، وأصيبت عينه به، وسكن الكوفة، وشهد الحكمين بدومة الجندل.
عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: من حلف على يمين يستحق بها مالاً، وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله عز وجل تصديق ذلك: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ".
فقال أشعث بن قيس: في نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة، فاختصمنا إلى
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " شاهداك أو يمينه " فقلت: إنه يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلف على يمين يستحق بها مالاً، وهو فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان ". فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك؛ ثم قرأ هذه الآية: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " إلى آخر الآية.
قال خليفة بن خياط: الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن ثور، وهو كندة بن عفير؛ أمه كبشة بنت يزيد من ولد الحارث بن عمرو بن معاوية؛ يكنى أبا محمد؛ مات في آخر سنة أربعين بعد قتل علي عليه السلام قليلاً.
وقال ابن سعد: وكان اسم الأشعث معدي كرب، وكان أبداً أشعث الرأس، فسمي الأشعث؛ ووفد الأشعث بن قيس على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبعين رجلاً من كندة، وكل اسم في كندة وفد بوفادته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأشعث.
وقال أبو بكر الخطيب: ويعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة، وله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواية، وقد شهد مع سعد بن أبي وقاص قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة يوم صفين مع علي بن أبي طالب، وحضر قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، وصلى عليه الحسن.
قال القحذمي: تزوج قيس بن معدي كرب بنت الحارث بن عمرو آكل المرار، فولدت له الأشعث بن قيس، فقال أبو هانئ الكندي: من الوافر
بنات الحارث الملك بن عمرو ... تخيرها فتنكح في ذراها
لها الويلات إذ أنكحتموها ... ألا طعنت بمديتها حشاها
وقد نبئتها ولدت غلاماً ... فلا عاش الغلام ولا هناها
فأجابه أبو قساس الكندي: من الوافر
ألا أبلغ لديك أبا هني ... ألا تنهى لسانك عن رداها
فقد طالبت هذا قبل قيس ... لتنحكها فلم تك من هواها
فطافت في المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلاً عذباً شفاها
شديد الساعدين أخا حروب ... إذا ما سيل منقصة أباها
وما أحيت مطيته إليها ... ولا من فوق ذروتها أتاها
قال القحذمي: وآل الأشعث ينشدون هذا الشعر ولا ينكرونه؛ قال: والأشراف لا يبالون أن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم.
قال القاضي المعافى بن زكريا الجريري: قوله في هذا الشعر: ألا تنهى لسانك عن رداها؛ أنث اللسان، وذكر أهل العلم بالعربية أن العرب تذكر اللسان وتؤنثه؛ وقيل: من أنثه أراد به اللغة والرسالة، كقول الشاعر: من البسيط
إذا أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر
وعن الزهري، قال: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بضعة عشر راكباً من كندة، فدخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجده، وقد رجلوا جممهم واكتحلوا، وعليهم جباب الحبرة قد كفوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألم تسلموا؟ " قالوا: بلى؛ قال: " فما بال هذا عليكم؟ " فألقوه، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشر أواق عشر أواق، وأعطى الأشعث اثنتي عشرة أوقية.
عن خيثمة، قال: بشر الأشعث بن قيس بغلام وهو عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أما والله لوددت أن لكم به قصعة من خبز ولحم! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لئن قلت ذاك إنها لمحزنة مجبنة، وإنها لثمرة القلوب وقرة العين ".
عن ابن إسحاق، قال: وكان من حديث كندة حين ارتدت، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان بعث إليهم رجلاً من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد، وكان عقبيا بدرياً، أميراً على حضرموت، فكان فيهم حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطيعونه ويؤدون إليه صدقاتهم لا ينازعونه، فلما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغهم انتقاض من انتقض من العرب ارتدوا وانتقضوا بزياد بن لبيد.
وكان سبب انتقاضهم به أن زياداً أخذ فيما يأخذ من الصدقة قلوصاً لغلام من كندة، وكانت كوماء خيار إبله، فلما أخذها زياد فعقلها في إبل الصدقة ووسمها جزع الغلام من ذلك فخرج يصيح إلى حارثة بن سراقة بن معدي كرب، فقال: أخذت الفلانية في إبل الصدقة فأنشدك الله والرحم فإنها أكرم إبلي علي، فخرج معه حارثة حتى أتى زياداً فطلب إليه أن يردها عليه ويأخذ مكانها بعيراً، فأبى عليه زياد، وكان رجلاً صلباً مسلماً، وخشي أن يروا ذلك منه ضعفاً وخوراً للحديث الذي كان، فقال: ما كنت لأردها وقد وسمتها في إبل الصدقة، ووقع عليها حق الله عز وجل؛ فراجعه حارثة فأبى، فلما رأى ذلك حارثة قام إلى القلوص فحل عقالها ثم ضرب وجهها، فقال: دونك وقلوصك لصاحبها وهو يرتجز ويقول: من الرجز
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... قد لمع الوجه كتلميع الثوب
اليوم لا أخلط بالعلم الريب ... وليس في منعي حريمي من عيب
وقال حارثة بن سراقة الكندي: من الطويل
أطعنا رسول الله ما دام وسطنا ... فيال عباد الله ما لأبي بكر
أيأخذها قسراً ولا عهد عنده ... يملكه فينا وفيكم عرى الأمر
فلم يك يهديها إليه بلا هدى ... وقد مات مولاها النبي ولا عذر
فنحن بأن نختارها وفصالها ... أحق وأولى بالإمارة في الدهر
إذا لم يكن من ربنا أو نبينا ... فذو الوفد أولى بالقضية في الوفر
أيجري على أموالنا الناس حكمهم ... بغير رضى إلا التسنم بالقسر
بغير رضى منا ونحن جماعة ... شهوداً كأنا غائبين عن الأمر
فتلك إذا كانت من الله زلفة ... ومن غيره إحدى القواصم للظهر
فأجابه زياد بن لبيد: من الطويل
سيعلم أقوام أطاعوا نبيهم ... بأن عدي القوم ليس بذي قدر
أذاعت عن القوم الأصاغر لعنةٌ ... قلوب رجال في الحلوق من الصدر
ودنوا لعقباه إذا هي صرمت ... هواديه الأولى على حين لا عذر
فإن عصا الإسلام قد رضيت به ... جماعته الأولى برأي أبي بكر
فإن كنتم منهم فطوعاً لأمره ... وإلا فأنتم من مخافته صعر
فنحن لكم حتى نقيم صعوركم ... بأسيافنا الأولى وبالذيل السمر
رويدكم إن السيوف التي بها ... ضربناكم بدءاً بأيماننا تبري
أبعد التي بالأمس كنتم غويتم ... لها يبغون الغي من فرط الصغر
وكان لهم في غير أسود عبرة ... وناهية عن مثلها آخر الدهر
تلعب فيكم بالنساء ابن عبه ... وبالقوم حتى نالهن بلا مهر
فإن تسلموا فالسلم خير بقية ... وإن تكفروا تستوبلوا غبة الكفر
فتفرقت الناس عند ذلك طائفتين، فصارت طائفة مع حارثة بن سراقة قد ارتدوا عن الإسلام، وطائفة مع زياد بن لبيد؛ فلما رأى ذلك زياد قال لهم: نقضتم العهد وكفرتم، فأحللتم بأنفسكم واغتنمتم أولاها بعد عقباها؟ فقال حارثة: أما عهد بيننا وبين صاحبك هذا الأحدث فقد نقضناها، وإن أبيت إلا الأخرى أصبتنا على رجل، فاقض ما أنت قاض.
فتنحى زياد فيمن اتبعه من كندة وغيرهم قريباً، وكتب إلى المهاجر أن يمده، وأخبره خبر القوم؛ فخرج المهاجر إليه، وسمع الأشعث بن قيس صارخاً من أعلى حصنهم في شطر من الليل: من الرجز
عشيرة تملك بالعشيرة ... في حائط يجمعها كالصيرة
والمسلمون كالليوث الزيرة ... فيها أمير من بني المغيرة
فلما سمع الأشعث الصارخ إلى ما قد رأى من اختلاف أصحابه بادرهم فخرج من تحت ليل حتى أتى المهاجر وزياداً فسألهما أن يؤمناه على دمه وماله حتى يبلغاه أبا بكر فيرى فيه رأيه، ويفتح لهم باب الحصن، ففعلا، ويفتح لهم باب الحصن فيدخل المسلمون على أهل الحصن فاستنزلوهم فضربوا أعناقهم، واستاقوا أموالهم، واستبوا نساءهم، وكتبوا إلى أبي بكر بذلك، واستوثقوا من الأشعث حتى بعثوا به إلى أبي بكر في الحديد موثقاً، فقال له أبو بكر: كيف ترى صنيع الله بمن نقض عهده؟ فقال الأشعث: أرى أنه قد أخطأ حظه ونفس جده؛ فقال له أبو بكر: فما تأمرني فيك؟ قال: آمرك أن تمن علي فتفكني من الحديد، وتزوجني أختك أم فروة بنت أبي قحافة؛ ففعل أبو بكر.
فقال الأشعث حين زوجه أبو بكر: من الطويل
لعمري وما عمري علي بهينٍ ... لقد كنت بالإخوان جد ضنين
أحاذر أن تضرب هناك رؤوسهم ... وما الدهر عندي بعدها بأمين
فليت جنون الناس تحت جنونهم ... ولم ترم أنثى بعدهم بجنين
وكنت كذاب البو أنحت وأقبلت ... عليه بقلب والهٍ وحنين
فأجابه مسلم بن صبيح السكوني: من الطويل
جزى الأشعث الكندي بالغدر ربه ... جزاء مليم في الأمور ظنين
أخا فجرة لا تستقال وغدرة ... لها أخوات مثلها ستكون
فلا تأمنوه بعد غدرته بكم ... على مثلها فالمرء غير أمين
وليس امرؤ باع الحياة بقومه ... أخا ثقةٍ أن يرتجى ويكون
هدمت الذي قد كان قيس يشيده ... ويرضى من الأفعال ما هو دون
وألبستنا ثوب المسبة بعدها ... فلا زلت محبوساً بمنزل هون
أرى الأشعث الكندي أصبح بعدها ... هجيناً بها من دون كل هجين
سيهلك مذموماً ويورث سبةً ... يبيت بها في الناس ذات قرون
وفي رواية ابن سعد:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استعمل زياد بن لبيد على حضرموت، وقال له: " سر مع هؤلاء القوم يعني وفد كندة فقد استعملتك عليهم " فسار زياد معهم عاملاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حضرموت على صدقاتهم، الثمار والخف والماشية والكراع والعشور، وكتب له كتاباً، فكان لا يعدوه إلى غيره ولا يقبض دونه؛ فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف أبو بكر، كتب إلى زياد يقره على عمله ويأمره أن يبايع من قبله، ومن أبي وطئه بالسيف، ويستعين بمن أقبل على من أدبر، وبعث بكتابه إليه مع أبي هند البياضي، فلما أصبح زياد غدا بنعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس وأخذهم بالبيعة لأبي بكر وبالصدقة؛ فامتنع قوم من أن يعطوا الصدقة، وقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس فما أنا إلا كائدهم؛ ونكص عن التقدم إلى البيعة، فقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك وأبق على نفسك، فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا فأبى الأشعث وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت تعبد، ونحن أقصى العرب داراً من أبي بكر، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ فقال امرؤ القيس: إي والله، وأخرى: لا يدعك عامل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجع إلى الكفر؛ فقال الأشعث: من؟ قال: زياد بن لبيد؛ فتضاحك الأشعث وقال: أما يرضى زياد أن أجيره! فقال امرؤ القيس: سترى.
ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر ما أظهر من الكلام القبيح من غير أن ينطق بالردة؛ ووقف يتربص وقال: تقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ونكون من آخر الناس.
قال: وبايع زياد لأبي بكر بعد الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، فصلى بالناس العصر ثم انصرف إلى بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان يفعل قبل ذلك، وهو أقوى ما كان نفساً وأشده لساناً، فمنعه حارثة بن سراقة بن معدي كرب العبدي أن يصدق غلاماً
منهم، وقام يحل عقال البكرة التي أخذت في الصدقة وجعل يقول: من الرجز
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب
ماض على الريب إذا كان الريب
فنهض زياد بن لبيد وصاح بأصحابه المسلمين، ودعاهم إلى النصرة لله ولكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد، وجعل من ارتد ينحاز إلى حارثة، وكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل، فقاتلهم أياماً كثيرة، وضوى إلى الأشعث بن قيس بشر كثير، فتحصن بمن معه ممن هو على مثل رأيه، فحاصرهم زياد بن لبيد، وقذف الله الرعب في أيديهم، وجهدهم الحصار فقال الأشعث بن قيس: إلى متى نقيم في هذا الحصن قد غرثنا فيه وغرث عيالنا، وهذه البعوث تقدم عليكم ما لا قبل لنا به، والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع، ويؤخذ من قبة الرجل كما يصنع بالذرية؛ قالوا: وهل لنا قوة بالقوم، ارتأ لنا، فأنت سيدنا؛ قال: أنزل وآخذ لكم أماناً تأمنون به، قبل أن تدخل عليكم هذه الأمداد، ما لا قبل لنا به ولا يدان.
قال: فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث؛ افعل فخذ لنا الأمان، فإنه ليس أحد أحرى أن يقدر على ما قبل زياد منك؛ فأرسل الأشعث إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال زياد: نعم؛ فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد، فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، ولي قرابة ورحم، وإن وكلتني إلى صاحبك قتلني يعني المهاجر بن أبي أمية وإن أبا بكر يكره قتل مثلي، وقد جاءك كتاب أبي بكر ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا أحدهم، وإنما أطلب منك الأمان على أهلي ومالي؛ فقال زياد بن لبيد: لا أؤمنك أبداً على دمك وأنت كنت رأس الردة والذي نقض علينا كندة؛ فقال: أيها الرجل دع عنك ما مضى، واستقبل الأمور إذا أقبلت عليك، فتؤمن على دمي وأهلي ومالي حتى أقدم على أبي بكر فيرى في رأيه؛ فقال زياد: وماذا؟ قال: وأفتح لك النجير؛ فأمنه زياد على أهله ودمه وماله، وعلى أن يقدم به على أبي بكر فيرى فيه رأيه ويفتح له النجير.
قال محمد بن عمر الواقدي: وهذا أثبت عند أصحابنا من غيره.
قال أبو مغيث:
كنت فيمن حضر أهل النجير، فصالح الأشعث زياداً على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلاً ففعل، فنزل سبعون ونزل معهم الأشعث، فكانوا أحداً وسبعين؛ فقال له زياد: أقتلك، لم يبق لك أمان؛ فقال الأشعث: تؤمنني على أن أقدم على أبي بكر فيرى في رأيه، فأمنه على ذلك.
وعن مصعب بن عبد الله قال: أمن زياد بن لبيد الأشعث بن قيس على أن يبعث به وبأهله وماله إلى أبي بكر فيحكم فيه بما يرى؛ وفتح له النجير، فأخرجوا المقاتلة وهم كثير، فعمد زياد إلى أشرافهم سبعمئة رجل فضرب أعناقهم على دم واحد؛ ولام القوم الأشعث، فقالوا لزياد: غدر بنا الأشعث وأخذ الأمان لنفسه وماله وأهله ولم يأخذه لنا جميعاً، فنزلنا ونحن آمنون فقتلنا؛ فقال زياد: ما آمنتكم؛ قالوا: صدقت، خدعنا الأشعث.
وعن عبد الرحمن بن الحويرث قال: رأيت الأشعث بن قيس يوم قدم به المدينة في حديد مجموعة يداه إلى عنقه، بعث به زياد بن لبيد والمهاجرين أبي أمية إلى أبي بكر، وكتبا إليه: إنا لم نؤمنه إلا على حكمك، وقد بعثنا به في وثاق وبأهله وماله الذي خف حمله، فترى في ذلك رأيك.
قال: وتولى نهيك بن أوس بالسبي في دار ملة بنت الحارث، ومعهم الأشعث بن قيس؛ فجعل يقول: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كفرت بعد إسلامي ولكن شححت على مالي؛ فقال أبو بكر: ألست الذي تقول: قد رجعت العرب إلى ما كانت تعبد، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب داراً، فرد عليك من هو خير منك فقال: لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر؛ فقلت: من؟ فقال: زياد بن لبيد؛ فتضاحكت، فيكيف وجدت زياداً؟ أذكرت به أمه؟ فقال الأشعث: نعم كل الإذكار؛ ثم قال الأشعث: أيها الرجل أطلق إساري واستبقني لحربك، وزوجني أختك أم فروة بنت أبي قحافة، فإني قد تبت مما صنعت، ورجعت إلى ما خرجت منه من منعي الصدقة.
فزوجه أبو بكر أم فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة مقيماً حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب وندب الناس إلى فتح العراق، فخرج الأشعث بن قيس مع سعد بن أبي وقاص فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، واختلط بالكوفة حين اختط المسلمون، وبنى بها داراً في بني كندة، ونزلها إلى أن مات بها، وولده بها إلى اليوم.
وعن قيس بن أبي خازم قال: لما قدم بالأشعث بن قيس أسيراً على أبي بكر الصديق أطلق وثاقه وزوجه أخته، اخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلا عرقبه؛ وصاح الناس: كفر الأشعث. فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا في بلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا شرواها.
حدث أبو الصلت سليم الحضرمي، قال: شهدنا صفين، فإنا لعلى صفوفنا وقد حلنا بين أهل العراق وبين الماء، فأتانا فارس على برذون مقنعاً بالحديد، فقال: السلام عليكم، فقلنا: وعليك؛ قال: فأين معاوية؟ قلنا: هو ذا؛ فأقبل حتى وقف ثم حسر عن رأسه فإذا هو أشعث بن قيس الكندي، رجل أصلع ليس في رأسه إلا شعرات فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هبوا أنكم قتلتم أهل العراق فمن للبعوث والذراري؟ أم هبوا أنا قتلنا أهل الشام، فمن للبعوث والذراري؟ الله الله، فإن الله يقول: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " فقال له معاوية: فما الذي تريد؟ قال: نريد أن تخلوا بيننا وبين الماء، فوالله لتخلن بيننا وبين الماء أو لنضعن أسيافنا على عواتقنا ثم نمضي حتى نرد الماء أو نموت دونه؛ فقال معاوية لأبي الأعور وعمرو بن سفيان: يا أبا عبد الله خل بين إخواننا وبين الماء؛ فقال أبو الأعور لمعاوية: كلا والله، لا نخل بينهم وبين الماء، يا أهل الشام دونكم عقيدة الله، فإن الله قد أمكنكم منهم؛ فعزم عليه معاوية حتى خلوا بينهم وبين الماء فلم يلبثوا بعد ذلك إلا قليلاً
حتى كان الصلح بينهم، ثم انصرف معاوية إلى الشام بأهل الشام، وعلي إلى العراق بأهل العراق.
عن أبي إسحاق، قال: صليت الفجر في مسجد الأشعث، أطلب غريماً لي، فلما صلى الإمام وضع رجل بين يدي حلة ونعلاً، فقلت: إني لست من أهل هذا المسجد، فقال: ابن قيس قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعل.
وعن ميمون بن مهران، قال: أول من مشت معه الرجال وهو راكب الأشعث بن قيس، وكان المهاجرون إذا رأوا الدهقان راكباً والرجال يمشون، قالوا: قاتله الله جباراً.
وقال الأصمعي: أول من دفن في منزله، وصلى عليه الحسن بن علي وكانت ابنة الأشعث تحته قال: وأول من مشي بين يديه وخلفه بالأعمدة، الأشعث بن قيس.
عن حكيم بن جابر، قال: لما توفي الأشعث بن قيس وكانت ابنته تحت الحسن بن علي قال الحسن: إذا غسلتموه فلا تهيجوه حتى تؤذنوني، فآذنوه، فجاء فوضأه بالحنوط وضوءاً.
قال خليفة بن خياط: مات في آخر سنة أربعين بعد علي قليلاً.
أبو محمد الكندي له صحبة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث يسيرة، وشهد اليرموك، وأصيبت عينه به، وسكن الكوفة، وشهد الحكمين بدومة الجندل.
عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: من حلف على يمين يستحق بها مالاً، وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله عز وجل تصديق ذلك: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ".
فقال أشعث بن قيس: في نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة، فاختصمنا إلى
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " شاهداك أو يمينه " فقلت: إنه يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلف على يمين يستحق بها مالاً، وهو فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان ". فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك؛ ثم قرأ هذه الآية: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " إلى آخر الآية.
قال خليفة بن خياط: الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن ثور، وهو كندة بن عفير؛ أمه كبشة بنت يزيد من ولد الحارث بن عمرو بن معاوية؛ يكنى أبا محمد؛ مات في آخر سنة أربعين بعد قتل علي عليه السلام قليلاً.
وقال ابن سعد: وكان اسم الأشعث معدي كرب، وكان أبداً أشعث الرأس، فسمي الأشعث؛ ووفد الأشعث بن قيس على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبعين رجلاً من كندة، وكل اسم في كندة وفد بوفادته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأشعث.
وقال أبو بكر الخطيب: ويعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة، وله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواية، وقد شهد مع سعد بن أبي وقاص قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة يوم صفين مع علي بن أبي طالب، وحضر قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، وصلى عليه الحسن.
قال القحذمي: تزوج قيس بن معدي كرب بنت الحارث بن عمرو آكل المرار، فولدت له الأشعث بن قيس، فقال أبو هانئ الكندي: من الوافر
بنات الحارث الملك بن عمرو ... تخيرها فتنكح في ذراها
لها الويلات إذ أنكحتموها ... ألا طعنت بمديتها حشاها
وقد نبئتها ولدت غلاماً ... فلا عاش الغلام ولا هناها
فأجابه أبو قساس الكندي: من الوافر
ألا أبلغ لديك أبا هني ... ألا تنهى لسانك عن رداها
فقد طالبت هذا قبل قيس ... لتنحكها فلم تك من هواها
فطافت في المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلاً عذباً شفاها
شديد الساعدين أخا حروب ... إذا ما سيل منقصة أباها
وما أحيت مطيته إليها ... ولا من فوق ذروتها أتاها
قال القحذمي: وآل الأشعث ينشدون هذا الشعر ولا ينكرونه؛ قال: والأشراف لا يبالون أن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم.
قال القاضي المعافى بن زكريا الجريري: قوله في هذا الشعر: ألا تنهى لسانك عن رداها؛ أنث اللسان، وذكر أهل العلم بالعربية أن العرب تذكر اللسان وتؤنثه؛ وقيل: من أنثه أراد به اللغة والرسالة، كقول الشاعر: من البسيط
إذا أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر
وعن الزهري، قال: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بضعة عشر راكباً من كندة، فدخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجده، وقد رجلوا جممهم واكتحلوا، وعليهم جباب الحبرة قد كفوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألم تسلموا؟ " قالوا: بلى؛ قال: " فما بال هذا عليكم؟ " فألقوه، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشر أواق عشر أواق، وأعطى الأشعث اثنتي عشرة أوقية.
عن خيثمة، قال: بشر الأشعث بن قيس بغلام وهو عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أما والله لوددت أن لكم به قصعة من خبز ولحم! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لئن قلت ذاك إنها لمحزنة مجبنة، وإنها لثمرة القلوب وقرة العين ".
عن ابن إسحاق، قال: وكان من حديث كندة حين ارتدت، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان بعث إليهم رجلاً من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد، وكان عقبيا بدرياً، أميراً على حضرموت، فكان فيهم حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطيعونه ويؤدون إليه صدقاتهم لا ينازعونه، فلما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغهم انتقاض من انتقض من العرب ارتدوا وانتقضوا بزياد بن لبيد.
وكان سبب انتقاضهم به أن زياداً أخذ فيما يأخذ من الصدقة قلوصاً لغلام من كندة، وكانت كوماء خيار إبله، فلما أخذها زياد فعقلها في إبل الصدقة ووسمها جزع الغلام من ذلك فخرج يصيح إلى حارثة بن سراقة بن معدي كرب، فقال: أخذت الفلانية في إبل الصدقة فأنشدك الله والرحم فإنها أكرم إبلي علي، فخرج معه حارثة حتى أتى زياداً فطلب إليه أن يردها عليه ويأخذ مكانها بعيراً، فأبى عليه زياد، وكان رجلاً صلباً مسلماً، وخشي أن يروا ذلك منه ضعفاً وخوراً للحديث الذي كان، فقال: ما كنت لأردها وقد وسمتها في إبل الصدقة، ووقع عليها حق الله عز وجل؛ فراجعه حارثة فأبى، فلما رأى ذلك حارثة قام إلى القلوص فحل عقالها ثم ضرب وجهها، فقال: دونك وقلوصك لصاحبها وهو يرتجز ويقول: من الرجز
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... قد لمع الوجه كتلميع الثوب
اليوم لا أخلط بالعلم الريب ... وليس في منعي حريمي من عيب
وقال حارثة بن سراقة الكندي: من الطويل
أطعنا رسول الله ما دام وسطنا ... فيال عباد الله ما لأبي بكر
أيأخذها قسراً ولا عهد عنده ... يملكه فينا وفيكم عرى الأمر
فلم يك يهديها إليه بلا هدى ... وقد مات مولاها النبي ولا عذر
فنحن بأن نختارها وفصالها ... أحق وأولى بالإمارة في الدهر
إذا لم يكن من ربنا أو نبينا ... فذو الوفد أولى بالقضية في الوفر
أيجري على أموالنا الناس حكمهم ... بغير رضى إلا التسنم بالقسر
بغير رضى منا ونحن جماعة ... شهوداً كأنا غائبين عن الأمر
فتلك إذا كانت من الله زلفة ... ومن غيره إحدى القواصم للظهر
فأجابه زياد بن لبيد: من الطويل
سيعلم أقوام أطاعوا نبيهم ... بأن عدي القوم ليس بذي قدر
أذاعت عن القوم الأصاغر لعنةٌ ... قلوب رجال في الحلوق من الصدر
ودنوا لعقباه إذا هي صرمت ... هواديه الأولى على حين لا عذر
فإن عصا الإسلام قد رضيت به ... جماعته الأولى برأي أبي بكر
فإن كنتم منهم فطوعاً لأمره ... وإلا فأنتم من مخافته صعر
فنحن لكم حتى نقيم صعوركم ... بأسيافنا الأولى وبالذيل السمر
رويدكم إن السيوف التي بها ... ضربناكم بدءاً بأيماننا تبري
أبعد التي بالأمس كنتم غويتم ... لها يبغون الغي من فرط الصغر
وكان لهم في غير أسود عبرة ... وناهية عن مثلها آخر الدهر
تلعب فيكم بالنساء ابن عبه ... وبالقوم حتى نالهن بلا مهر
فإن تسلموا فالسلم خير بقية ... وإن تكفروا تستوبلوا غبة الكفر
فتفرقت الناس عند ذلك طائفتين، فصارت طائفة مع حارثة بن سراقة قد ارتدوا عن الإسلام، وطائفة مع زياد بن لبيد؛ فلما رأى ذلك زياد قال لهم: نقضتم العهد وكفرتم، فأحللتم بأنفسكم واغتنمتم أولاها بعد عقباها؟ فقال حارثة: أما عهد بيننا وبين صاحبك هذا الأحدث فقد نقضناها، وإن أبيت إلا الأخرى أصبتنا على رجل، فاقض ما أنت قاض.
فتنحى زياد فيمن اتبعه من كندة وغيرهم قريباً، وكتب إلى المهاجر أن يمده، وأخبره خبر القوم؛ فخرج المهاجر إليه، وسمع الأشعث بن قيس صارخاً من أعلى حصنهم في شطر من الليل: من الرجز
عشيرة تملك بالعشيرة ... في حائط يجمعها كالصيرة
والمسلمون كالليوث الزيرة ... فيها أمير من بني المغيرة
فلما سمع الأشعث الصارخ إلى ما قد رأى من اختلاف أصحابه بادرهم فخرج من تحت ليل حتى أتى المهاجر وزياداً فسألهما أن يؤمناه على دمه وماله حتى يبلغاه أبا بكر فيرى فيه رأيه، ويفتح لهم باب الحصن، ففعلا، ويفتح لهم باب الحصن فيدخل المسلمون على أهل الحصن فاستنزلوهم فضربوا أعناقهم، واستاقوا أموالهم، واستبوا نساءهم، وكتبوا إلى أبي بكر بذلك، واستوثقوا من الأشعث حتى بعثوا به إلى أبي بكر في الحديد موثقاً، فقال له أبو بكر: كيف ترى صنيع الله بمن نقض عهده؟ فقال الأشعث: أرى أنه قد أخطأ حظه ونفس جده؛ فقال له أبو بكر: فما تأمرني فيك؟ قال: آمرك أن تمن علي فتفكني من الحديد، وتزوجني أختك أم فروة بنت أبي قحافة؛ ففعل أبو بكر.
فقال الأشعث حين زوجه أبو بكر: من الطويل
لعمري وما عمري علي بهينٍ ... لقد كنت بالإخوان جد ضنين
أحاذر أن تضرب هناك رؤوسهم ... وما الدهر عندي بعدها بأمين
فليت جنون الناس تحت جنونهم ... ولم ترم أنثى بعدهم بجنين
وكنت كذاب البو أنحت وأقبلت ... عليه بقلب والهٍ وحنين
فأجابه مسلم بن صبيح السكوني: من الطويل
جزى الأشعث الكندي بالغدر ربه ... جزاء مليم في الأمور ظنين
أخا فجرة لا تستقال وغدرة ... لها أخوات مثلها ستكون
فلا تأمنوه بعد غدرته بكم ... على مثلها فالمرء غير أمين
وليس امرؤ باع الحياة بقومه ... أخا ثقةٍ أن يرتجى ويكون
هدمت الذي قد كان قيس يشيده ... ويرضى من الأفعال ما هو دون
وألبستنا ثوب المسبة بعدها ... فلا زلت محبوساً بمنزل هون
أرى الأشعث الكندي أصبح بعدها ... هجيناً بها من دون كل هجين
سيهلك مذموماً ويورث سبةً ... يبيت بها في الناس ذات قرون
وفي رواية ابن سعد:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استعمل زياد بن لبيد على حضرموت، وقال له: " سر مع هؤلاء القوم يعني وفد كندة فقد استعملتك عليهم " فسار زياد معهم عاملاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حضرموت على صدقاتهم، الثمار والخف والماشية والكراع والعشور، وكتب له كتاباً، فكان لا يعدوه إلى غيره ولا يقبض دونه؛ فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف أبو بكر، كتب إلى زياد يقره على عمله ويأمره أن يبايع من قبله، ومن أبي وطئه بالسيف، ويستعين بمن أقبل على من أدبر، وبعث بكتابه إليه مع أبي هند البياضي، فلما أصبح زياد غدا بنعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس وأخذهم بالبيعة لأبي بكر وبالصدقة؛ فامتنع قوم من أن يعطوا الصدقة، وقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس فما أنا إلا كائدهم؛ ونكص عن التقدم إلى البيعة، فقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك وأبق على نفسك، فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا فأبى الأشعث وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت تعبد، ونحن أقصى العرب داراً من أبي بكر، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ فقال امرؤ القيس: إي والله، وأخرى: لا يدعك عامل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجع إلى الكفر؛ فقال الأشعث: من؟ قال: زياد بن لبيد؛ فتضاحك الأشعث وقال: أما يرضى زياد أن أجيره! فقال امرؤ القيس: سترى.
ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر ما أظهر من الكلام القبيح من غير أن ينطق بالردة؛ ووقف يتربص وقال: تقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ونكون من آخر الناس.
قال: وبايع زياد لأبي بكر بعد الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، فصلى بالناس العصر ثم انصرف إلى بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان يفعل قبل ذلك، وهو أقوى ما كان نفساً وأشده لساناً، فمنعه حارثة بن سراقة بن معدي كرب العبدي أن يصدق غلاماً
منهم، وقام يحل عقال البكرة التي أخذت في الصدقة وجعل يقول: من الرجز
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب
ماض على الريب إذا كان الريب
فنهض زياد بن لبيد وصاح بأصحابه المسلمين، ودعاهم إلى النصرة لله ولكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد، وجعل من ارتد ينحاز إلى حارثة، وكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل، فقاتلهم أياماً كثيرة، وضوى إلى الأشعث بن قيس بشر كثير، فتحصن بمن معه ممن هو على مثل رأيه، فحاصرهم زياد بن لبيد، وقذف الله الرعب في أيديهم، وجهدهم الحصار فقال الأشعث بن قيس: إلى متى نقيم في هذا الحصن قد غرثنا فيه وغرث عيالنا، وهذه البعوث تقدم عليكم ما لا قبل لنا به، والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع، ويؤخذ من قبة الرجل كما يصنع بالذرية؛ قالوا: وهل لنا قوة بالقوم، ارتأ لنا، فأنت سيدنا؛ قال: أنزل وآخذ لكم أماناً تأمنون به، قبل أن تدخل عليكم هذه الأمداد، ما لا قبل لنا به ولا يدان.
قال: فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث؛ افعل فخذ لنا الأمان، فإنه ليس أحد أحرى أن يقدر على ما قبل زياد منك؛ فأرسل الأشعث إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال زياد: نعم؛ فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد، فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، ولي قرابة ورحم، وإن وكلتني إلى صاحبك قتلني يعني المهاجر بن أبي أمية وإن أبا بكر يكره قتل مثلي، وقد جاءك كتاب أبي بكر ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا أحدهم، وإنما أطلب منك الأمان على أهلي ومالي؛ فقال زياد بن لبيد: لا أؤمنك أبداً على دمك وأنت كنت رأس الردة والذي نقض علينا كندة؛ فقال: أيها الرجل دع عنك ما مضى، واستقبل الأمور إذا أقبلت عليك، فتؤمن على دمي وأهلي ومالي حتى أقدم على أبي بكر فيرى في رأيه؛ فقال زياد: وماذا؟ قال: وأفتح لك النجير؛ فأمنه زياد على أهله ودمه وماله، وعلى أن يقدم به على أبي بكر فيرى فيه رأيه ويفتح له النجير.
قال محمد بن عمر الواقدي: وهذا أثبت عند أصحابنا من غيره.
قال أبو مغيث:
كنت فيمن حضر أهل النجير، فصالح الأشعث زياداً على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلاً ففعل، فنزل سبعون ونزل معهم الأشعث، فكانوا أحداً وسبعين؛ فقال له زياد: أقتلك، لم يبق لك أمان؛ فقال الأشعث: تؤمنني على أن أقدم على أبي بكر فيرى في رأيه، فأمنه على ذلك.
وعن مصعب بن عبد الله قال: أمن زياد بن لبيد الأشعث بن قيس على أن يبعث به وبأهله وماله إلى أبي بكر فيحكم فيه بما يرى؛ وفتح له النجير، فأخرجوا المقاتلة وهم كثير، فعمد زياد إلى أشرافهم سبعمئة رجل فضرب أعناقهم على دم واحد؛ ولام القوم الأشعث، فقالوا لزياد: غدر بنا الأشعث وأخذ الأمان لنفسه وماله وأهله ولم يأخذه لنا جميعاً، فنزلنا ونحن آمنون فقتلنا؛ فقال زياد: ما آمنتكم؛ قالوا: صدقت، خدعنا الأشعث.
وعن عبد الرحمن بن الحويرث قال: رأيت الأشعث بن قيس يوم قدم به المدينة في حديد مجموعة يداه إلى عنقه، بعث به زياد بن لبيد والمهاجرين أبي أمية إلى أبي بكر، وكتبا إليه: إنا لم نؤمنه إلا على حكمك، وقد بعثنا به في وثاق وبأهله وماله الذي خف حمله، فترى في ذلك رأيك.
قال: وتولى نهيك بن أوس بالسبي في دار ملة بنت الحارث، ومعهم الأشعث بن قيس؛ فجعل يقول: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كفرت بعد إسلامي ولكن شححت على مالي؛ فقال أبو بكر: ألست الذي تقول: قد رجعت العرب إلى ما كانت تعبد، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب داراً، فرد عليك من هو خير منك فقال: لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر؛ فقلت: من؟ فقال: زياد بن لبيد؛ فتضاحكت، فيكيف وجدت زياداً؟ أذكرت به أمه؟ فقال الأشعث: نعم كل الإذكار؛ ثم قال الأشعث: أيها الرجل أطلق إساري واستبقني لحربك، وزوجني أختك أم فروة بنت أبي قحافة، فإني قد تبت مما صنعت، ورجعت إلى ما خرجت منه من منعي الصدقة.
فزوجه أبو بكر أم فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة مقيماً حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب وندب الناس إلى فتح العراق، فخرج الأشعث بن قيس مع سعد بن أبي وقاص فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، واختلط بالكوفة حين اختط المسلمون، وبنى بها داراً في بني كندة، ونزلها إلى أن مات بها، وولده بها إلى اليوم.
وعن قيس بن أبي خازم قال: لما قدم بالأشعث بن قيس أسيراً على أبي بكر الصديق أطلق وثاقه وزوجه أخته، اخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلا عرقبه؛ وصاح الناس: كفر الأشعث. فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا في بلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا شرواها.
حدث أبو الصلت سليم الحضرمي، قال: شهدنا صفين، فإنا لعلى صفوفنا وقد حلنا بين أهل العراق وبين الماء، فأتانا فارس على برذون مقنعاً بالحديد، فقال: السلام عليكم، فقلنا: وعليك؛ قال: فأين معاوية؟ قلنا: هو ذا؛ فأقبل حتى وقف ثم حسر عن رأسه فإذا هو أشعث بن قيس الكندي، رجل أصلع ليس في رأسه إلا شعرات فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هبوا أنكم قتلتم أهل العراق فمن للبعوث والذراري؟ أم هبوا أنا قتلنا أهل الشام، فمن للبعوث والذراري؟ الله الله، فإن الله يقول: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " فقال له معاوية: فما الذي تريد؟ قال: نريد أن تخلوا بيننا وبين الماء، فوالله لتخلن بيننا وبين الماء أو لنضعن أسيافنا على عواتقنا ثم نمضي حتى نرد الماء أو نموت دونه؛ فقال معاوية لأبي الأعور وعمرو بن سفيان: يا أبا عبد الله خل بين إخواننا وبين الماء؛ فقال أبو الأعور لمعاوية: كلا والله، لا نخل بينهم وبين الماء، يا أهل الشام دونكم عقيدة الله، فإن الله قد أمكنكم منهم؛ فعزم عليه معاوية حتى خلوا بينهم وبين الماء فلم يلبثوا بعد ذلك إلا قليلاً
حتى كان الصلح بينهم، ثم انصرف معاوية إلى الشام بأهل الشام، وعلي إلى العراق بأهل العراق.
عن أبي إسحاق، قال: صليت الفجر في مسجد الأشعث، أطلب غريماً لي، فلما صلى الإمام وضع رجل بين يدي حلة ونعلاً، فقلت: إني لست من أهل هذا المسجد، فقال: ابن قيس قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعل.
وعن ميمون بن مهران، قال: أول من مشت معه الرجال وهو راكب الأشعث بن قيس، وكان المهاجرون إذا رأوا الدهقان راكباً والرجال يمشون، قالوا: قاتله الله جباراً.
وقال الأصمعي: أول من دفن في منزله، وصلى عليه الحسن بن علي وكانت ابنة الأشعث تحته قال: وأول من مشي بين يديه وخلفه بالأعمدة، الأشعث بن قيس.
عن حكيم بن جابر، قال: لما توفي الأشعث بن قيس وكانت ابنته تحت الحسن بن علي قال الحسن: إذا غسلتموه فلا تهيجوه حتى تؤذنوني، فآذنوه، فجاء فوضأه بالحنوط وضوءاً.
قال خليفة بن خياط: مات في آخر سنة أربعين بعد علي قليلاً.