عمر بن عبد العزيز بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن مناف أبو حفص القرشيّ الأمويّ، أمير المؤمنين بويع له بالخلافة بعد سليمان بن عبد الملك. وأمّه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب.
روى عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: كان النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع بصره إلى السّماء.
قال عمر: زعمت المرأة الصّالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج محتضناً أحد ابني ابنته وهو يقول: " والله إنكم لتجبّنون وتبخّلون، وإنكم لمن ريحان الله عزّ وجلّ، وإن آخر وطأة وطئها الله بوجّ ".
وعن أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحقّ به من غيره ".
قال محمد بن سعد: في الطّبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة: عمر بن عبد العزيز.
قالوا: ولد عمر سنة ثلاث وستّين، وهي السّنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عمر بن عبد العزيز ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورعّ، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل رحمه الله ورضي عنه.
قال ابن أبي حاتم: وكان استوهب من سهل بن سعد السّاعديّ قدحاً شرب فيه النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوهبه له.
عن اسماعيل بن عليّ الخطبيّ، قال: ورأيت صفته يعني عمر بن عبد العزيز في بعض الكتب، أنه كان رجلاً أبيض، رقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللّحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة حافر دابّة؛ فلذلك سمّي أشجّ بني أميّة، وكان قد وخطه الشّيب.
وعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز، قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه وهو غلام فضربه فرس فشجّه، فجعل أبوه يمسح عنه الدّم ويقول: إن كنت أشجّ بين أميّة إنّك إذاً لسعيد.
عن يعقوب، عن أبيه: أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها، فكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان يلزمه الصّلوات؛ فأبطأ يوماً عن الّصلاة فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجّلتي تسكن شعري! فقال: بلغ منك حبّك تسكين شعرك أن تؤثره على الصّلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث إليه عبد العزيز رسولاً فلم يكلّمه حتى حلق شعره. وكان عمر يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليّ بن أبي طالب، فأتاه عمر، فقام يصّلي، وأرز عمر فلم يبرح حتى سلّم من ركعتين، ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال: فعرف عمر ما أراد؛ فقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود. قال: فما سمع عمر بن عبد العزيز، بعد ذلك ذاكراً عليّاً إلاّ بخير.
حدّث العتبيّ، قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز وحرصه على العلم ورغبته في الأدب، أن أباه ولي مصر وهو حديث السّنّ يشكّ في بلوغه، فأراد إخراجه معه؛ فقال: يا أبه، أو غير ذلك، لعلّه أن يكون أنفع لي ولك؛ ترحلّني إلى المدينة فأقعد إلى فقهاء أهلها وأتأدّب بآدابهم.
فوجّهه إلى المدينة، فقعد مع مشايخ قريش وتجنّب شبابهم، وجاءته ألطاف أبيه من مصر فجعل يقسمها بينهم، فشهره أهل المدينة بعلمه وعقله مع حداثة سنّه؛ فحسده فتيان قريش فقعدوا إليه، فقالوا: كيف أصبحت يا أبا حفص؟ فقال: مهلاً، إيّاي وكلام المجعة؛ فشهرت منه بالمدينة حتى كتب بها إلى أبيه بمصر والمجعة: القليلة عقولهم، الضّعيفة آراؤهم ثم بعث إليه عبد الملك عند وفاة أبيه فخلطه بولده وقدّمه على كثير منهم، وزوّجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشّاعر: من الكامل
بنت الخليفة، والخليفة جدّها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها
فلم تكن امرأة تستحق هذا البيت إلى يومنا هذا غيرها. وكان الذين يعيبون عمر ممّن يحسده إلا بشيئين: إلاّ بالإفراط في النّعمة والاختيال في المشية؛ ولو كانوا يجدون ثالثاً لجعلوه معهما؛ وهو الأحنف: الكامل من عدّت هفواته، ولا تعدّ إلاّ من قلّة. فدخل يوماً على عبد الملك وهو يتجانف في مشيته، فقال له: يا عمر، مالك تمشي غير مشيتك؟ قال: إن بي جرحاً. قال: وفي أيّ حسدك؟ قال: بين الرّانفة والصّفن. قال عبد الملك لروح بن زنباع: أقسم بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا لما أجاب هذا الجواب. الرّانفة: طرف الألية. والصّفن: جلد الخصية. قال جرير: من الرجز يترك أصفان الخصى جلاجلا قال خليفة: سنة سبع وثمانين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة تسع وثمانين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة تسعين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة اثنيتين وتسعين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز أخبر من رأى عمر بن عبد العزيز واقفاً بعرفة وهو يقول: اللهم زد محسن آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحساناً؛ اللهم راجع بمسيئهم إلى التّوبة؛ اللهم حطّ من أوزارهم برحمتك ويقول بيده هكذا؛ اللهم من كان صلاحه لأمّة محمد، وأهلك من كان هلاكه صلاحاً لأمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال مالك: أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا: إن أبانا توفي وترك مالاً عند عمنّا حميد الأمجيّ. قال: فأحضره عمر بن عبد العزيز. قال: فلّما دخل عليه قال: أنت حميد؟ قال: فقال: نعم. قال: فقال: أنت القائل: من المتقارب
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشّيبة الأصلع
أتاه المشيب على شربها ... فكان كريماً فلم ينزع
قال: نعم. قال عمر بن عبد العزيز: ما أراني إلاّ سوف أحدّك. قال، ولم؟ قال: لأنك أقررت بشرب الخمر، وزعمت أنك لم تنزع عنها. قال: أيهات، أين يذهب بك؟ ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول: " والشّعراء يتّبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون "؟ قال: فقال عمر: أولى لك يا حميد، ماأراك إلاّ وقد أفلتّ، ويحك يا حميد كان أبوك رجلاً صالحاً وأنت رجل سوء! قال: أصلحك الله، وأيّنا يشبه أباه؟ كان أبوك رجل سوء وأنت رجل صالح.
قال: إن هؤلاء زعموا أن أباهم توفي وترك مالاً عندك. قال: صدقوا. قال: فأحضره بخاتم أبيهم. قال: قال: إن أبا هؤلاء توفي مذ كذا وكذا وإني كنت أنفق عليهم من مالي، وهذا مالهم. فقال عمر: ماأجد أحداً أحقّ أيكون عنده منك. قال: فقال: أيعود إليّ وقد خرج منّي؟ قال أنس بن مالك: ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة.
عن العبّاس بن أبي راشد، عن أبيه، قال: نزل بنا عمر بن عبد العزيز، فلمّا رحل قال لي مولاي: اركب معي نشيّعه. قال: فركبت فمررنا بواد فإذا نحن بحيّة ميتة مطروحة على الطريق، فنزل عمر فنحّاها وواراها ثم ركب، فبينما نحن نسير إذا هاتف يهتف وهو يقول: يا خرقاء يا خرقاء. قال: فالتفتنا يميناً وشمالاً فلم نر أحداً. فقال له عمر: أسألك بالله أيّها الهاتف إن كنت مّمن تظهر إلاّ ظهرت، وإن كنت مّمن لا تظهر أخبرنا من الخرقاء؟ قال: الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لها يوماً: " يا خرقاء تموتين بفلاة من الأرض يدفنك خير مؤمن من أهل الأرض يومئذ ". فقال له عمر: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا من التّسعة أو السّبعة شكّ التّرقفيّ الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المكان، أو قال: في هذا الوادي شكّ التّرقفيّ فقال له عمر: أنت سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: آلله، إني أنا سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدمعت عينا عمر، وانصرفنا.
قال سفيان: سألت عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حين قدم علينا: كم أتى على عمر؟ قال: مات ولم يتّم أربعين سنةً؛ وذكر شيئاً من فضله.
قال: وقال مجاهد: أتيناه نعلّمه فما برحنا حتى تعلّمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء عند عمر تلامذة.
عن عبد الله بن كثير، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: ما كان بدو إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال لي: يا عمر اذكر ليلةً صبيحتها يوم القيامة.
وعن مالك: أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال: يا مزاحم، أتخشى أن نكون ممّن نفت المدينة؟ قال عبد العزيز بن يزيد الأيليّ: حجّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فأصابهم ليلةً برقّ ورعد فكادت تنخلع أفئدتهم؛ فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه اللّيلة قطّ وسمعت بها؟ قال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله!
قال عبد الرّحمن بن حسّان الكنانيّ: لمّا مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة؛ فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوّف من بني عبد الملك ألاّ يرضوا. قال: فول عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً عليها. قال: لقد رأيت، ائتني بقرطاس.
قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى النّاس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تخبرون بمن فيه حتى يموت. قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان؛ انطلق إلى أصحاب الشّرط والحرس، وناد: الصّلاة جامعةً، ومر النّاس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه. قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه.
قال رجاء: فلمّا خرجوا خرجت إلى منزلي، فبينا أنا أسير في الطريق إذ سمعت جلبة موكب، فالتفتّ فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منّا، وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاً لا أدري ما هو، وأنا أتخّوف أن يكون قد أزالها عنّي، فإن يكن عدلها عنّي فأعلمني ما دام في الأمر نفس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه! لا يكون ذاك أبداً؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه. قال: فانصرف. فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبةً خلفي فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرّجل، أتخوّف أن يكون قد جعلها إليّ، ولست أقوم بهذا الشّأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلّي أتخلّص منه ما دام حيّاً. قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه! ؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه.
قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب النّاس عنه حتى مات؛ فلمّا مات أجلسته وأسندته وهيّأته، وخرجت إلى النّاس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكناً؛ وقد أحبّ أن تسلّموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فأذنت للنّاس فدخلوا وأنا قائم عنده؛ فلمّا دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف؛ ثم أخذت الكتاب من عنده ثم تقدّمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم؛ فلمّا بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين. قالوا: فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلمّا نظرت بنو عبد الملك تغيّرت وجوههم، فلمّا قرؤوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا؛ فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم. قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد. قال: فأتوه، فسلّموا عليه بالخلافة، فعقر فلم يستطع النّهوض حتى أخذوا بضبعيه، فرقوا به المنبر، فلم يقدر على الصّعود حتى أصعدوه، فجلس طويلاً لايتكلّم، فلمّا رآهم رجاء جلوساً قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعونه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلاً رجلاً. قال: فمدّ يده إليهم. قال: فصعد إليه هشام فلمّا مدّ يده إليه قال هشام: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون " فقال عمر: نعم " إنّا لله وإنّا إليه راجعون " حين صار يلي هذا الأمر أنا وأنت. قال: ثم قام عمر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيّها النّاس إنّي لست بقاض ولكنّي منفّذ، ولست بمبتدع ولكنّي متّبع، وإن حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال. ثم نزل يمشي؛ فأتاه صاحب
المراكب، فقال: ما هذا؟ قال: مركب للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتّي. فأتوه بدابّته فركبها ثم خرج يسير، وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق؛ قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيّأ للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي. قال رجاء: فأتى منزله، فنزل عن دابّته ثم دعا بداوة وقرطاس، وجعل يكتب بيده إلى العّمال في الأمصار، ويملّ على نفسه. قال رجاء: فلقد كنت أظنّ سيضعف، فلّما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.
عن حماد العدويّ، قال: سمعت صوتاً عند وفاة سليمان بن عبد الملك، يقول: من الكامل
اليوم حلّت واستقرّ قرارها ... على عمر المهديّ قام عمودها
وعن محمد بن الضّحاك بن عثمان، عن أبيه، قال: لمّا انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان صفّوا له مراكب سليمان، فقال: من الطويل
فلولا التّقى ثم النّهى خشية الرّدى ... لعاصيت في حبّ الصّبا كلّ زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى اللّيالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله، لا قوّة إلاّ بالله؛ قوموا إلى بغلتي.
وعن سليمان بن داود الخولاني؛ أن رجلاً بايع عمر بن عبد العزيز، فمدّ يده إليه، ثم قال: بايعني بلا عهد ولا ميثاق؛ تطيعني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليك. فبايعه.
وعن عمر بن ذرّ، قال: قال مولى لعمر بن عبد العزيز له حين رجع من جنازة سليمان: ما لي أراك مغتّماً؟ فقال عمر: لمثل ما أنا فيه يغتّم؛ ليس أحد من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرق ولا غرب إلاّ وأنا أريد أن أودّي إليه حقّه غير كاتب ولا طالبه منّي.
وعن إبراهيم بن هشام بن يحيى، عن أبيه، عن جدّه، قال: كنت أنا وابن أبي زكريا بباب عمر بن عبد العزيز فسمعنا بكاء في داره، فسألنا عنه، فقالوا: خيّر أمير المؤمنين امرأته بين أن تقوم في منزلها على حالها وأعلمها أنه قد شغل بما في عنقه عن النّساء وبين أن تلحق بمنزل أبيها؛ فبكت فبكى جواريها لبكاءها.
وحدّث بعض خاصّة عمر بن عبد العزيز بن مروان: أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاءً عالياً؛ فسئل عن البكاء، فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خيّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكنّ، فمن أحبّ أن أعتقه عتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، أم يكن منّي إليها شيء؛ فبكين إياساً منه.
وعن مسعود بن بشر: أن رجلاً قال لعمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة: تفرّغ لنا. فقال: قد جاء شغل شاغل، وعدلت عن طرق السّلامة، ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة.
وعن سلام بن سليم، قال: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فكان أول خطبة خطبها؛ حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلاّ فلا يقربنا؛ يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدّلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابنّ عندنا الرّعيّة، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع عنه الشّعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزّهاد؛ وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرّجل حتى يخالف فعله قوله.
قال سفيان بن عيينة: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى محمد بن كعب، وإلى رجاء بن حيوة، وإلى سالم بن عبد الله. قال: فحضروا؛ فقال لهم: قد ترون ما قد ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم؟ فقال محمد بن كعب: يا أمير المؤمنين، اجعل النّاس أصنافاً ثلاثةً؛ اجعل الشّيخ أباً، والنّصف أخاً، والشّاب ولداً؛ فبّر أباك، وصل أخاك، وتعطّف على ولدك.
وقال رجاء بن حيوة: ما تقول يا رجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ارض للنّاس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك لست أوّل خليفة يموت.
وقال لسالم بن عبد الله: ما عندك يا سالم؟ قال: يا أمير المؤمنين، اجعل الأمر يوماً واحداً صرفته عن شهوات الدّنيا، آخر نظرك فيه الموت، فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولاّ قوة إلاّ بالله.
عن مغيرة، قال: كان لعمر بن عبد العزيز سمار يستشيرهم فيما يرفع إليه كم أمور النّاس، وكان علامة ما بينه وبينهم إذا أحبّ أن يقوموا قال: إذا شئتم. قال حنبل: رأيت أبا عبد الله أحمد فعل ذلك إذا أراد القيام قال: إذا شئتم.
وعن السّريّ بن يحيى: أن عمر بن عبد العزيز حمد الله، ثم خنقته العبرة، ثم قال: أيّها النّاس؛ أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم؛ والله إن عبداً ليس بينه وبين آدم أب إلاّ قد مات إنه لمعرق له في الموت.
وعن عبد الله بن شوذب، قال: خطب عمر بن عبد العزيز، فقال: كم من عامر موثق عمّا قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرّحلة بأحسن ما يحضركم من النّقلة؛ بينا ابن آدم في الدّنيا ينافس فيها قرير العين قانعاً، إذ دعاه الله بقدره ورماه
بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصيّر لقوم آخرين مصانعه ومعناه، إن الدّنيا لاتسرّ بقدر ما تضرّ، تسرّ قليلاً وتحزن كثيراً.
حدّث ابن لسعيد بن العاص، قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز؛ حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس؛ أما بعد؛ فإنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدىً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم؛ فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم جنّة عرضها السّموات والأرض؛ ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلاّ من حذر اليوم وخافه، وباع نافذاً بباق وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان؛ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى يردّ إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كلّ يوم تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله عزّ وجلّ، قد قضى نحبه حتى تغيبّوه في صدع من الأرض، في بطن صدع، غير موسّد ولا ممهّد، قد فارق الأحباب وباشر التّراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، غنيّ عمّا ترك، فقير إلى ما قدّم؛ فاتّقوا الله قبل انقضاء مراقبته ونزول الموت بكم؛ أما إني لأقول هذا وما أعلم أن عند أحد من الذّنوب أكثر ممّا عندي، فأستغفر ال ثم رفع طرف رداءه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
قال سفيان الثّوريّ: لمّا قام عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشّام بكلمتين؛ من علم أن كلامه من عمله أقلّ منه إلاّ فيما ينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدّنيا باليسير، والسّلام.
قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النّوم، فقال لي: ادن يا عمر ثم قال لي: ادن يا عمر ثم قال لي ادن يا عمر حتى كدت أن أصيبه، ثم قال لي: يا عمر، إذا وليت فاعمل في ولايتك نحواً من عمل هذين وإذا كهلان قد اكتنفاه، قلت: من هذان؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر.
عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: كان نقش خاتم أبي عمر بن عبد العزيز " لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له ".
قال حمّاد: لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز بكى، فقال: يا أبا فلان، هل تخشى عليّ؟ فقال: كيف حبّك للدّرهم؟ قال: لا أحبّه. قال: لا تخف، فإن الله عزّ وجلّ سيعينك.
عن الوليد بن يسار الخزاعيّ، قال: لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز قال للحاجب: أدن منّي قريشاً ووجوه النّاس؛ ثم قال لهم: إن فدك كانت بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر ففعل مثل ذلك، ثم وليها عمر ففعل مثل ذلك قال الأصمعي: وخفي عليّ ما قال في عثمان ثم إن مروان أقطعها فوهبها لمن لا يرثه من بني بنيه، فكنت أحدهم، ثم ولي الوليد فوهب لي نصيبه، ثم ولي سليمان فوهب لي نصيبه، ثم لم يكن من مالي شيء أردّ عليّ منها؛ ألا وإني قد رددتها موضعها. قال: فانقطعت ظهور النّاس، ويئسوا من المظالم.
عن عبد الله بن المبارك، قال: قال عمر بن عبد العزيز لمزاحم وكان مزاحم مولاه، وكان فاضلاً قال: إن هؤلاء القوم يعني أهله أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه، ولا لهم أن يعطوني، وإني قد هممت بردّها على أربابها. قال: فقال مزاحم: فكيف تصنع بولدك؟ قال: فجرت دموعه على وجنتيه، قال: فجعل يمسحها بأصبعه الوسطى، ويقول: أكلهم إلى الله.
قال عبد الله: لتعرف أنه قد كان يجد بولده ما يجد القوم بأولادهم.
قال عبد الله: وكأن مزاحم مع فضله لم يقنع بقوله، فخرج مزاحم فدخل على
عبد الملك بن عمر، فقال: إن أمير المؤمنين قد همّ بأمر لهو أضرّ عليك وعل ولد أبيك من كذا وكذا، إنه قد همّ بردّ السّهلة. قال عبد الله: وهي باليمامة، وهي أمرّ عظيمّ. قال وكان عيش ولده منها.
قال عبد الملك: فماذا قلت له؟ قال كذا وكذا. قال: بئس لعمر الله وزير الخليفة أنت. قال: ثم قام ليدخل على عمر، وقد تبوّأ مقيله. قال: فاستأذن. قال: فقال له البوّاب: إنه قد تبوّأ مقيلة. قال: ما منه بدّ. قال: سبحان الله، ألا ترحموه، إنما هي ساعته. قال: فسمع عمر صوته، فقال: أعبد الملك؟ قال: نعم ادخل. قال: فدخل. قال: ما جاء بك؟ قال: إن مزاحماً أخبرني بكذا وكذا. قال: فما رأيك؟ فإني أريد أن أقوم به العشّية. قال: أرى أن تعجّله فما يؤمنك أن يحدث بك حدث، أو يحدث بقلبك حدث؟ قال: فرفع يديه فقال: الحمد لله الذي جعل من ذرّيّتي من يعينني على ديني. قال: ثم قام من ساعته، فجمع النّاس، وأمر بردّها.
حدّث اللّيث، قال: فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم وسمّى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أميّة إلى فاطمة بنت مروان عمّته، فأرسلت إليه: إنه قد عنّاني أمر لا بدّ من لقائك فيه؛ فأتته ليلاً؛ فأنزلها عن دابّتها. فلمّا أخذت مجلسها قال: يا عمّة، أنت أولى بالكلام فتكلّمي لأن الحاجة لك. قالت: تكلّم يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمةّ ولم يبعثه عذاباً إلى النّاس كافّةً، ثم اختار له ما عنده فقبضه الله وترك لهم نهراً شربهم سواء، ثم قام أبو بكر فترك النّهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل علي أمر صاحبه، ثم لم يزل النّهر يشتقّ منه يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ، وقد يبس النّهر الأعظم، ولن يروي أصحاب النّهر الأعظم حتى يعود النّهر
إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأمّا إذا كانت مقالتك هذه فلست بذاكرة لك شيئاً أبداً؛ فرجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.
عن ميمون بن مهران، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قال: لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل، وإني لأريد الأمر من أمر العامّة أن أعمل به فأخاف أن لا تحمله قلوبهم فأخرج معه طمعاً من طمع الدّنيا، فإن أنكرت قلوبهم هذا سكنت لهذا.
قيل لطاوس: أخبرنا عن عمر بن عبد العزيز أهو المهديّ؟ قال: إنه لمهديّ وليس به، إذا كان المهديّ تيب على المسيء من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال، شديد على العمّال، رحيم بالمساكين.
قال عبّاد السمّاك: سمعت سفيان يقول: أئمة العدل خمسة، أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعمر بن عبد العزيز.
وعن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، قال: والله لكأنّ عمر بن عبد العزيز كان صعد إلى السّماء فنظر ثم نزل إلى الأرض.
قال طلحة أبو محمد: سمعت أشياخنا يذكرون، قالوا: واستخلف عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومئة، وكان يكتب إلى عمّاله بثلاث خصال يدور فيهم؛ بإحياء سنّة أو إطفاء بدعة، أو قسم في مسكنة، أو ردّ مظلمة؛ وكان يكتب إليهم: إنّما هلك من كان قبلكم من الولاة أنهم كانوا يحبسون الخير حتى يشترى منهم، ويبذلون الشّرّ حتى يفتدى منهم.
عن عمر بن أسيد بن عبد الرّحمن بن زيد بن الخطّاب، قال: إنّما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، ثلاثين شهراً، لا والله ما مات عمر حتى
جعل الرّجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون للفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله؛ قد أغنى عمر بن عبد العزيز النّاس.
حدّث إبراهيم بن هشام بن يحيى، عن أبيه، عن جدّه، قال: كانت فاطمة بنت عبد الملك جارية تعجب عمر، فلمّا صار إلى ما صار إليه زيّنتها فاطمة وطيّبتها، وبعثت بها إلى عمر، وقالت: إني قد كنت أعلم أنها تعجبك، وقد وهبتها لك فتنال منها حاجتك؛ فلمّا دخلت عليه قال لها عمر: اجلسي يا جارية، فوالله ما شيء من الدّنيا كان أعجب إليّ منك أن أناله، حدّثيني بقصّتك، وما سببك؟ قالت: كنت جاريةً من البربر جنى أبي جناية فهرب من موسى بن نصير عامل عبد الملك على إفريقية، فأخذني موسى بن نصير، فبعثني إلى عبد الملك، فوهبني عبد الملك لفاطمة، فبعثت بي فاطمة إليك. فقال: كدنا والله نفتضح. فجهّزها وبعث بها إلى أهلها.
عن عطاء، قال: دخلت على فاطمة بنت عبد الملك بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، فقلت لها: يا بنت عبد الملك، أخبريني عن أمير المؤمنين. قالت: أفعل، ولو كان حيّاً ما فعلت.
إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للنّاس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقيّة من حوائج يومه وصله بليلته، إلى أن أمسى مساءً وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلّى ركعتين، ثم أقعى واضعاً رأسه على يده تسايل دموعه على خدّه، يشهق الشّهقة فأقول: قد خرجت نفسه، أو تصدّعت كبده؛ فلم يزل كذلك ليلته حتى برق له الصّبح، ثم أصبح صائماً. قالت: فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين، لشيء ما كان قبل اللّيلة مل كان منك؟ قال: أجل، فدعيني وشأني، وعليك بشأنك.
قالت: قلت له: إني أرجو أن أتّعظ. قال: إذن أخبرك. قال: إني نظرت إليّ فوجدتني قد وليت هذه الأمّة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضّائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم، في أقاصي البلاد وأطراف الأرض فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر ولا يقوم لي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجّة، فخفت على نفسي خوفاً دمع له عيني، ووجل له قلبي؛ فأنا كلّما ازددت لهذا ذكراً ازددت منه وجلاً، وقد أخبرتك فاتّعظي الآن أو دعي.
عن سليمان بن داود؛ أن عمر بن عبد العزيز قال لبنيه: أتحبّون أن أولّي كلّ رجل منكم جنداً، فينطلق تصلصل به جلاجل البريد؟ فقال له ابنه ابن الحارثيّة: لم تعرض علينا ما لست صانعه؟ فقال عمر: إني لأعلم أن بساطي هذا يصير إلى البلى، وإني لأكره أن تدنّسوه بخفافكم، فكيف أقلّدكم ديني تدنّسوه في كلّ جند؟! حدّث مالك: أن عمر بن عبد العزيز قام في النّاس وهو خليفة على المنبر يوم الجمعة، فقال: يا أيّها النّاس، إني أنساكم ها هنا وأذكركم في بلادكم، فمن أصابه مظلمة من عامله فلا آذن له عليّ، ومن لا فلا أرينّه؛ وإني والله لئن منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال وضننت به عنكم إني إذاً لضنين؛ ولولا أن أنعش سنّةً أو أعمل بحقّ ما أحببت أن أعيش فواقاً.
قال ابن عائشة: كتب بعض عمّال عمر بن عبد العزيز إليه: أمّا بعد؛ فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به. فوقّع في كتابه: أمّا بعد؛ فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظّلم، فإنه مرمّتها، والسّلام.
عن ضمرة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: أمّا بعد؛ فإذا دعتك قدرتك على النّاس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
عن الأوزاعيّ، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالةً لم يحفظها غيري وغير مكحول: أمّا بعد؛ فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير، ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. والسّلام. وعنه: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه لثلاثة أيّام ثم عاقبه، كراهية أن يعجل في أول غضبه. وأسمعه رجل كلاماً، فقال له: أردت أن يستفزّني الشّيطان فأنال منك اليوم بما تناله أنت مني يوم القيامة! انصرف عنّي، عافاك الله ورحمك.
قال مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد؛ أيّ زهد عند مالك وله جبّة وكساء؟! إنّما الزّاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدّنيا فاغرة فاها فتركها.
عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ؛ فقلت لامرأته فاطمة: اغسلوا قميص أمير المؤمنين. فقالت: نفعل ذاك إن شاء الله. ثم عدت فإذا القميص على حاله! فقلت: يا فاطمة، ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين؟ فقالت: والله، ما له قميص غيره!! عن عمرو بن مهاجر، قال: كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين.
عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للنّاس أعطيتاهم. فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للنّاس أعطيتاهم وقد بقي في بيت المال مال. قال: فكتب إليه: انظر كلّ من أدان من غير سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. قال: فكتب إليه: أن انظر كلّ بكر ليس له مال، فشاء أن تزوّجه فزوّجه واصدق عنه. فكتب إليه: إني قد زوّجت كلّ من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنّا لا نريدهم لعام ولا لعامين.
عن عمرو بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز كان يسرج عليه الشّمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأهم ثم أسرج عليه سراجه.
وعن رباح بن عبيدة، قال: أخرج مسك من الخزائن، فوضع بين يدي عمر بن عبد العزيز، فأمسك أنفه مخافة أن يجد ريحه. قال: فقال له: رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما ضرّك إن وجدت ريحه؟ قال: وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟ قال الحكم بن عمر الرّعينيّ: شهدت عمر بن عبد العزيز، وجاءه صاحب الرّقيق فسأل أرزاقهم وكسوتهم وما يصلهم، فقال عمر: كم هم؟ قال: هم كذا وكذا ألفاً. فكتب إلى أمصار الشّام: أن ارفعوا إليّ كلّ أعمى في الدّيوان أو مقعد أو من به
الفالج أو من به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصّلاة. فرفعوا إليه؛ فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزّمنى بخادم. قال: وفضل من الرّقيق، فكتب: أن ارفعوا إليّ كلّ يتيم ومن لا أحد له ممّن قد جرى على والده الدّيون. فأمر لكل خمسة بخادم يتوزّعونه بينهم بالسّويّة. وكتب أن يفرّقوهم جنداً جنداً.
قال إسماعيل بن أبي حكيم: كان عمر بن عبد العزيز لا يدع النّظرة في المصحف كلّ يوم ولكن لا يكثر.
عن الحكم بن عمر، قال: شهدت عمر يقول لحرّاسه: إن بي عنكم لغنى؛ كفى بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً، ولا أطرحكم من مراتبكم ليجري لكم سنّةً بعدي، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله. قال: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمئة شرطيّ وثلاثمئة حرسيّ.
عن عمرو بن مهاجر، قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفّاحاً، فقال: لو كان عندنا شيء من تفّاح؛ فإنه طيّب الرّيح، طيّب الطّعم. فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفّاحاً؛ فلّما جاء به الرّسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه؛ ارفعه يا غلام، وأقر فلاناً السّلام، وقل له: إن هدّيتك قد وقعت عندنا بحيث تحبّ. قال عمرو بن مهاجر: فقلت: يا أمير المؤمنين، ابن عمّك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الهدّية ولا يأكل الصدّقة. فقال: ويحك، إن الهدّية كانت للنّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديةً وهي اليوم لنا رشوة: عن ضمرة، قال: قال عمر بن عبد العزيز لبعض ولد الحسين بن عليّ بن أبي طالب: لا تقف على بابي ساعةً واحدةً إلاّ ساعةً تعلم أني جالس فيؤذن لك عليّ من ساعتك، فإني أستحي من الله أن يقف على بابي رجل من أهل بيت النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يؤذن له عليّ من ساعته.
حدّث جسر القصّاب، قال: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز، فمررت براع وفي غنمه نحوّ من ثلاثين ذ ئبا، فحسبتها كلاباً، ولم أكن رأيت ذئاب قبل ذ لك، فقلت: يا راعي، ما ترجو بهذه الكلاب كلّها، فقال: يا بنيّ إنّها ليست كلاباً، إنّما هذه ذئاب! فقلت: سبحان الله، ذئب في غنم لا يضرّها! فقال: يابنيّ إذا صلح الرّأس فليس على الجسد بأس. وكان ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وعن موسى بن أعين الرّاعي وكان يرعى الغنم لمحمد بن أبي عيينة: قال: كانت الغنم والأسد والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض لشاة منها ذئب. قال: فقلت: إناّ لله، ما أرى الرّجل الصّالح إلاّ وقد هلك. قال: فحسبنا فوجدناه قد هلك في تلك اللّيلة. رواه غيره عن حمّاد، فقال: كنّا نرعى الشاء بكرمان.
عن ميمون بن مهران: أن عمر بن عبد العزيز أتي بسلق وأقراص، فأكل ثم أضطجع على فراشه وغطّى وجهه بطرف ردائه وجعل يبكي ويقول: عبد بطيء بطين، يتباطأ ويتمنّى على الله منازل الصّالحين
وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: قال لي رجاء بن حيوة: ما أكمل مروءة أبيك؛ سمرت عنده ذات ليلة، فعشيّ السّراج، فقال لي: ما ترى، السّراج قد عشي؟ قلت: بلى قال: وإلى جانبه وصيف راقد قال: قلت: ألا أنبّهه؟ قال: لا، دعه يرقد، قال: قلت: ألا أقوم أنا؟ قال: لا، ليس من مروءة الرّجل استخدام ضيفه. قال: فوضع رداءه ثم قام إلى بطّة زيت
معلّقة، فأخذها فأصلح السّراج، ثم ردّها في موضعها، ثم رجع؛ قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وعن ميمون بن مهران، قال: كنت في سمر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما بقاؤك على ما أرى، أنت بالنّهار مشغول في حوائج النّاس، وباللّيل أنت معنا ها هنا، ثم الله أعلم بما تخلو به؟ قال: فعدل عن جوابي، ثم قال: إليك عنّي يا ميمون، فإني وجدت لقى الرّجال تلقيح لألبابهم.
وعنه، قال: كنت باللّيل في سمر عمر بن عبد العزيز، فوعظ، ففطن لرجل قد أخذ بدمعته. قال: فسكت. فقلت: يا أمير المؤمنين عد لمنطقك لعلّ الله ينفع بك من سمعه ومن بلغه. فقال: يا ميمون، إن للكلام فتنةً، وإن الفعال أولى بالمؤمن من القول.
عن عليّ بن الحسن، قال: كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات، فجاء إلى أهله يعزّيهم، فصرخوا في وجهه! فقال لهم عمر: مه، إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حيّ لا يموت؛ إن صاحبكم هذا لم يسّد شيئاً من حفركم وإنّما سدّ حفرة نفسه، لكلّ امرئ منكم حفرةً لا بدّ والله أن يسدّها؛ إن الله جلّ ثناؤه لّما خلق الدّنيا حكم عليها بالخراب وعلى أهلها بالفناء، وما امتلأت دار حبرةً إلاّ امتلأت عبرةً، ولا اجتمعوا إلاّ تفرّقوا حتى يكون الله هو الذي يرث الأرض ومن عليها؛ فمن كان منكم باكياً فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه صاحبكم كلّكم يصير إليه غداً.
عن عبد الله بن المبارك: أن عمر بن عبد العزيز عزّي على ابنه عبد الملك، فقال: إن الموت أمر قد كنّا
وطّنّا أنفسنا عليه فلّما وقع لم نستنكره.
وعن عبد الله بن نافع، قال: ماتت أخت لعمر بن عبد العزيز. قال: فشهدها النّاس، فانصرفوا معه إلى منزله؛ فلّما صار إلى بابه أخذ بحلقة الباب ثم قال: انصرفوا أيّها النّاس مأجورين، أدّى الله الحقّ عنكم؛ فإنا أهل بيت لا نعزّى في أحد من النّساء إلاّ في اثنتين: أمّ لواجب حقّها، وما فرض الله من برّها؛ وامرأة للطف موضعها، وأنه لا يحلّ محلّها أحد.
قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: يا أبا فلان، لقد أرقت اللّيلة مفكراً. قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه؛ إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصّديد، ويخترقه الدّيدان، مع تغيّر الرّيح وبلى الأكفان؛ بعد حسن الهيئة وطيب الرّيح ونقاء الثّوب. قال: ثم شهق شهقةً خرّ مغشياً عليه.
عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: يا مغيرة، إنه يكون في النّاس من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر، وما رأيت أحداً قطّ أشدّ فرقاً من ربّه من عمر؛ كان إذا صلّى العشاء قعد في مسجده ثم رفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه فلا يزال رافعاً يديه يبكي تغلبه عينه.
عن وهيب بن الورد، قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لّما توفي جاء الفقهاء إلى امرأته يعزّونها به، فقالوا لها: جئناك لنعزّيك بعمر، فقد عمّت مصيبته الأمة، فأخبرينا يرحمك الله عن عمر، كيف كانت حاله في بيته فإن أعلم النّاس بالرّجل أهله. فقالت: والله ما كان عمر بأكثركم صلاةً ولا صياماً، ولكني والله ما رأيت عبداً لله
قطّ كان أشدّ خوفاً من عمر؛ والله إن كان ليكون في المكان الذي إليه ينتهي سرور الرّجل بأهله بيني وبينه لحاف فيخطر على قلبه الشيء من أمر الله فينتفض كما ينتفض طائر وقع في الماء، ثم يرتفع بكاءه، حتى أقول: والله لتخرجنّ نفسه التي بين جنبيه؛ فأطرح اللّحاف عني وعنه رحمةً له وأنا أقول: يا ليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد المشرقين؛ فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها.
قال عليّ بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النّار لم تخلق إلاّ لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
قال أبو حاتم: لمّا مرض عمر بن عبد العزيز جيء بطبيب إليه، فقال: به داء ليس له دواء؛ غلب الخوف على قلبه.
قال المبّرد: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل: من البسيط
فما تزوّد ممّا كان يجمعه ... سوى حنوط غداة البين في خرق
وغير نفجة أعواد تشبّ له ... وقلّ ذلك من زاد لمنطلق
بأيّ ما بلد كانت منيّته ... إلاّ يسر طائعاً في قصدها يسق
قال عليّ بن الحسن: كان عمر بن عبد العزيز في جنازة، فنظر إلى قوم في الجنازة قد تلثّموا من الغبار وعدلوا من الشّمس إلى الظّلّ، فنظر في وجوههم وبكى، وقال: من البسيط
من كان حين تصيب الشّمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشّين والشّعثا
ويألف الظلّ كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في قعر مظلمة غبراء موحشة ... يطيل في قعرها تحت الثّرى لبثا
وفي رواية: من أصحّ ما روي لعمر بن عبد العزيز من الشعر هذه الأبيات فذكر البيتين الأولين وقال:
في ظلّ مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثّرى في عنقها اللّبثا
تجهّزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الرّدى، لم تخلقي عبثا
أنشد حرميّ بن الهيثم لعمر بن عبد العزيز: من الطويل
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... مع الله في دار القرار نصيب
فإن تعجب الدّنيا أناساً فإنّها ... متاع قليل والزّوال قريب
قال ابن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: من الطويل
تسرّ بما يبلى وتفرح بالمنى ... كما اغترّ باللّذات في النّوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والرّدى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبّه ... كذلك في الدّنيا تعيش البهائم
وزاد في رواية:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النّوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لخرّقت ... مدامع عينيك الدّموع السّواجم
قال وهيب بن الورد العابد: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات: من الطويل
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كلّه ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهّال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكّر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
أنشد أبو يزيد المؤدّب لعمر بن عبد العزيز: من الوافر
وغرّة مرّة من فعل غرّ ... وغرّة مرّتين فعال موق
وحسن الظّنّ عجز في أمور ... وسوء الظّنّ يأمر بالوثيق
إذا لم تتّق الضّحضاح زلّت ... ولا تأيس من الأمر السّحيق
فإن القرب يبعد بعد قرب ... ويدنو البعد بالقدر المسوق
قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: من الكامل
إني لأمنح من يواصلني ... منّي صفاء ليس بالمذق
فإذا أخ لك حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرّفق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
حدّث الزّبير بن بكار، عن عمّه، قال: أدركت النّاس بالمدينة وهم يعزون لحناً ينسبونه إلى عمر بن عبد العزيز، ويغنّون لحناً ينسبونه إليه: من الطويل
كأن قد شهدت النّاس يوم تقسّمت ... خلائقهم فاخترت منهنّ أربعا
إعارة سمع كلّ مغتاب صاحب ... وتأبى لعيب النّاس إلاّ تتبّعا
وأعجب من هذين أنك تدّعي الس ... سلامة من عيب الخليقة أجمعا
وأنك لو حاولت فعل إساءة ... وكوفيت إحساناً جحدتهما معا
قال أرطاة: قيل لعمر بن عبد العزيز: لو جعلت على طعامك أميناً لا تغتال، وحرساً إذا صلّيت لا تغتال، وتنحّ عن الطّاعون. قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي.
عن مجاهد، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا مجاهد، ما يقول النّاس فيّ؟ قلت: يقولون: مسحور. قال: ما أنا بمسحور؛ ثم دعا غلاماً له، فقال له: ويحك، ما حملك على أن
تسقيني السّمّ؟ قال: ألف دينار أعطيتها، وعلى أن أعتق. قال: ها تها. فجاء بها، فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.
حدّث اللّيث بن سعد: أنه بلغه أن مسلمة بن عبد الملك لمّا رأى عمر بن عبد العزيز اشتدّ وجعه، وظنّ أنه ميّت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالةً لاشيء لهم، ولابدّ لهم ممّا لابدّ لهم منه، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أمّا ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حقّ غيرهم، وأمّا ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصّالحين؛ ادعهم لي. قال: فدعوتهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه، فقال: بأبي فتيةً تركتهم عالةً، وإنّما هم أحد رجلين: إمّا رجل يتّقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإمّا رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قوّيته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذّمّة إلاّ سيرى لكم حقاً. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
عن محمد بن قيس، صاحب عمر بن عبد العزيز، قال: اشتكى عمر بن عبد العزيز حضرة هلال رجب سنة إحدى ومئة، فكانت شكايته عشرين يوماً، فأرسل إلى نصرانيّ يساومه بموضع قبره: فقال له النّصرانيّ: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرّك بقربك وبجوارك، فقد حلّلتك. فأبى ذلك عليه إلاّ أن يبيعه. فباعه إيّاه بثلاثين ديناراً، ثم دعا بالدّنانير فوضعها في يده.
حدّث المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنة عبد الملك: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول:
اللهم أخف عليهم أمري ولو ساعة من نهار. قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين، ألاّ أخرج عنك عسى أن تغفو شيئاً فإنك لم تنم. قالت: فخرجت عنه إلى بيت غير البيت الذي هو فيه. قالت: فجعلت أسمعه يقول: " تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين " مراراً، ثم أطرق، فلبث طويلاً لا يسمع له حسّ. فقلت لوصيف له كان يخدمه: ويحك، انظر. فلمّا دخل صاح. قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه.
عن عبيدة بن حسّان، قال: لمّا احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عنّي فلا يبقى عندي أحد. قال: وكان عنده مسلمة بن عبد الملك. قال: فخرجوا، فقعد على الباب هو وفاطمة. قال: فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه إنس ولا جان. قال: ثم قال: " تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين ". قال: ثم هدأ الصّوت، فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك. فدخلوا فوجدوه قد قبض وغمض وسوّي.
عن رجاء بن حيوة، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز في مرضه: كن في من يغسلني ويكفّنني ويدخل قبري، فإذا وضعتموني في لحدي فحلّ العقدة، ثن انظر إلى وجهي؛ فإني قد دفنت ثلاثةً من الخلفاء كلّهم إذا أنا وضعته في لحده حللت العقدة ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو مسواد في غير القبلة. قال رجاء: فكنت فيمن غسل عمر وكفنه ودخل في قبره، فلمّا حللت العقدة نظرت إلى وجهه فإذا وجهه كالقراطيس في القبلة.
عن عبد العزيز بن أبي سلمة؛ أن عمر بن عبد العزيز لّما وضع عند قبره هبّت ريح فاشتدت، ثم هبّت حتى سقط منها صحيفة من أحسن كتاب، فقرؤوها فإذا فيها: بسم الله الرّحمن الرحيم، براءة من الله عزّ وجلّ لعمر بن عبد العزيز من النّار. فأدخلوها بين أكفان عمر ودفنوها معه.
عن هشام، قال: لّما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال الحسن: مات خير النّاس.
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يحدّث أن صالح بن عليّ حين قدم الشّام سأل عن قبر عمر بن عبد العزيز، فلم يجد أحداً يخبره حتى دلّ على راهب، فأتى فسأل عنه، فقال: قبر الصّدّيق تريدون؟ هو في تلك المزرعة.
قال جرير حين مات عمر بن عبد العزيز: من البسيط
ينعى النّعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به ... وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشّمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا
قال إسماعيل بن علي الخطبيّ: خلافة أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وأمّه أمّ عاصم بنة عاصم بن عمر بن الخطاب: واستخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بدابق يوم الجمعة لعشر ليل خلون من صفر سنة تسع وتسعين، وكان استخلافه بعهد من سليمان بن عبد الملك إليه قبل وفاته، في مرضه الذي مات فيه. وقال ابن إسحاق: وتوفي في ستة أيام بقيت من رجب سنة إحدى ومئة بدير سمعان من أرض حمص على رأس سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوماً من متوفّى سليمان.
ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن مناف أبو حفص القرشيّ الأمويّ، أمير المؤمنين بويع له بالخلافة بعد سليمان بن عبد الملك. وأمّه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب.
روى عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: كان النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع بصره إلى السّماء.
قال عمر: زعمت المرأة الصّالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج محتضناً أحد ابني ابنته وهو يقول: " والله إنكم لتجبّنون وتبخّلون، وإنكم لمن ريحان الله عزّ وجلّ، وإن آخر وطأة وطئها الله بوجّ ".
وعن أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحقّ به من غيره ".
قال محمد بن سعد: في الطّبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة: عمر بن عبد العزيز.
قالوا: ولد عمر سنة ثلاث وستّين، وهي السّنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عمر بن عبد العزيز ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورعّ، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل رحمه الله ورضي عنه.
قال ابن أبي حاتم: وكان استوهب من سهل بن سعد السّاعديّ قدحاً شرب فيه النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوهبه له.
عن اسماعيل بن عليّ الخطبيّ، قال: ورأيت صفته يعني عمر بن عبد العزيز في بعض الكتب، أنه كان رجلاً أبيض، رقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللّحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة حافر دابّة؛ فلذلك سمّي أشجّ بني أميّة، وكان قد وخطه الشّيب.
وعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز، قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه وهو غلام فضربه فرس فشجّه، فجعل أبوه يمسح عنه الدّم ويقول: إن كنت أشجّ بين أميّة إنّك إذاً لسعيد.
عن يعقوب، عن أبيه: أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها، فكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان يلزمه الصّلوات؛ فأبطأ يوماً عن الّصلاة فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجّلتي تسكن شعري! فقال: بلغ منك حبّك تسكين شعرك أن تؤثره على الصّلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث إليه عبد العزيز رسولاً فلم يكلّمه حتى حلق شعره. وكان عمر يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليّ بن أبي طالب، فأتاه عمر، فقام يصّلي، وأرز عمر فلم يبرح حتى سلّم من ركعتين، ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال: فعرف عمر ما أراد؛ فقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود. قال: فما سمع عمر بن عبد العزيز، بعد ذلك ذاكراً عليّاً إلاّ بخير.
حدّث العتبيّ، قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز وحرصه على العلم ورغبته في الأدب، أن أباه ولي مصر وهو حديث السّنّ يشكّ في بلوغه، فأراد إخراجه معه؛ فقال: يا أبه، أو غير ذلك، لعلّه أن يكون أنفع لي ولك؛ ترحلّني إلى المدينة فأقعد إلى فقهاء أهلها وأتأدّب بآدابهم.
فوجّهه إلى المدينة، فقعد مع مشايخ قريش وتجنّب شبابهم، وجاءته ألطاف أبيه من مصر فجعل يقسمها بينهم، فشهره أهل المدينة بعلمه وعقله مع حداثة سنّه؛ فحسده فتيان قريش فقعدوا إليه، فقالوا: كيف أصبحت يا أبا حفص؟ فقال: مهلاً، إيّاي وكلام المجعة؛ فشهرت منه بالمدينة حتى كتب بها إلى أبيه بمصر والمجعة: القليلة عقولهم، الضّعيفة آراؤهم ثم بعث إليه عبد الملك عند وفاة أبيه فخلطه بولده وقدّمه على كثير منهم، وزوّجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشّاعر: من الكامل
بنت الخليفة، والخليفة جدّها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها
فلم تكن امرأة تستحق هذا البيت إلى يومنا هذا غيرها. وكان الذين يعيبون عمر ممّن يحسده إلا بشيئين: إلاّ بالإفراط في النّعمة والاختيال في المشية؛ ولو كانوا يجدون ثالثاً لجعلوه معهما؛ وهو الأحنف: الكامل من عدّت هفواته، ولا تعدّ إلاّ من قلّة. فدخل يوماً على عبد الملك وهو يتجانف في مشيته، فقال له: يا عمر، مالك تمشي غير مشيتك؟ قال: إن بي جرحاً. قال: وفي أيّ حسدك؟ قال: بين الرّانفة والصّفن. قال عبد الملك لروح بن زنباع: أقسم بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا لما أجاب هذا الجواب. الرّانفة: طرف الألية. والصّفن: جلد الخصية. قال جرير: من الرجز يترك أصفان الخصى جلاجلا قال خليفة: سنة سبع وثمانين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة تسع وثمانين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة تسعين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز.
وقال: سنة اثنيتين وتسعين أقام الحجّ عمر بن عبد العزيز أخبر من رأى عمر بن عبد العزيز واقفاً بعرفة وهو يقول: اللهم زد محسن آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحساناً؛ اللهم راجع بمسيئهم إلى التّوبة؛ اللهم حطّ من أوزارهم برحمتك ويقول بيده هكذا؛ اللهم من كان صلاحه لأمّة محمد، وأهلك من كان هلاكه صلاحاً لأمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال مالك: أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا: إن أبانا توفي وترك مالاً عند عمنّا حميد الأمجيّ. قال: فأحضره عمر بن عبد العزيز. قال: فلّما دخل عليه قال: أنت حميد؟ قال: فقال: نعم. قال: فقال: أنت القائل: من المتقارب
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشّيبة الأصلع
أتاه المشيب على شربها ... فكان كريماً فلم ينزع
قال: نعم. قال عمر بن عبد العزيز: ما أراني إلاّ سوف أحدّك. قال، ولم؟ قال: لأنك أقررت بشرب الخمر، وزعمت أنك لم تنزع عنها. قال: أيهات، أين يذهب بك؟ ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول: " والشّعراء يتّبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون "؟ قال: فقال عمر: أولى لك يا حميد، ماأراك إلاّ وقد أفلتّ، ويحك يا حميد كان أبوك رجلاً صالحاً وأنت رجل سوء! قال: أصلحك الله، وأيّنا يشبه أباه؟ كان أبوك رجل سوء وأنت رجل صالح.
قال: إن هؤلاء زعموا أن أباهم توفي وترك مالاً عندك. قال: صدقوا. قال: فأحضره بخاتم أبيهم. قال: قال: إن أبا هؤلاء توفي مذ كذا وكذا وإني كنت أنفق عليهم من مالي، وهذا مالهم. فقال عمر: ماأجد أحداً أحقّ أيكون عنده منك. قال: فقال: أيعود إليّ وقد خرج منّي؟ قال أنس بن مالك: ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة.
عن العبّاس بن أبي راشد، عن أبيه، قال: نزل بنا عمر بن عبد العزيز، فلمّا رحل قال لي مولاي: اركب معي نشيّعه. قال: فركبت فمررنا بواد فإذا نحن بحيّة ميتة مطروحة على الطريق، فنزل عمر فنحّاها وواراها ثم ركب، فبينما نحن نسير إذا هاتف يهتف وهو يقول: يا خرقاء يا خرقاء. قال: فالتفتنا يميناً وشمالاً فلم نر أحداً. فقال له عمر: أسألك بالله أيّها الهاتف إن كنت مّمن تظهر إلاّ ظهرت، وإن كنت مّمن لا تظهر أخبرنا من الخرقاء؟ قال: الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لها يوماً: " يا خرقاء تموتين بفلاة من الأرض يدفنك خير مؤمن من أهل الأرض يومئذ ". فقال له عمر: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا من التّسعة أو السّبعة شكّ التّرقفيّ الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المكان، أو قال: في هذا الوادي شكّ التّرقفيّ فقال له عمر: أنت سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: آلله، إني أنا سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدمعت عينا عمر، وانصرفنا.
قال سفيان: سألت عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حين قدم علينا: كم أتى على عمر؟ قال: مات ولم يتّم أربعين سنةً؛ وذكر شيئاً من فضله.
قال: وقال مجاهد: أتيناه نعلّمه فما برحنا حتى تعلّمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء عند عمر تلامذة.
عن عبد الله بن كثير، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: ما كان بدو إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال لي: يا عمر اذكر ليلةً صبيحتها يوم القيامة.
وعن مالك: أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال: يا مزاحم، أتخشى أن نكون ممّن نفت المدينة؟ قال عبد العزيز بن يزيد الأيليّ: حجّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فأصابهم ليلةً برقّ ورعد فكادت تنخلع أفئدتهم؛ فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه اللّيلة قطّ وسمعت بها؟ قال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله!
قال عبد الرّحمن بن حسّان الكنانيّ: لمّا مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة؛ فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوّف من بني عبد الملك ألاّ يرضوا. قال: فول عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً عليها. قال: لقد رأيت، ائتني بقرطاس.
قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى النّاس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تخبرون بمن فيه حتى يموت. قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان؛ انطلق إلى أصحاب الشّرط والحرس، وناد: الصّلاة جامعةً، ومر النّاس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه. قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه.
قال رجاء: فلمّا خرجوا خرجت إلى منزلي، فبينا أنا أسير في الطريق إذ سمعت جلبة موكب، فالتفتّ فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منّا، وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاً لا أدري ما هو، وأنا أتخّوف أن يكون قد أزالها عنّي، فإن يكن عدلها عنّي فأعلمني ما دام في الأمر نفس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه! لا يكون ذاك أبداً؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه. قال: فانصرف. فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبةً خلفي فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرّجل، أتخوّف أن يكون قد جعلها إليّ، ولست أقوم بهذا الشّأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلّي أتخلّص منه ما دام حيّاً. قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه! ؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه.
قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب النّاس عنه حتى مات؛ فلمّا مات أجلسته وأسندته وهيّأته، وخرجت إلى النّاس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكناً؛ وقد أحبّ أن تسلّموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فأذنت للنّاس فدخلوا وأنا قائم عنده؛ فلمّا دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف؛ ثم أخذت الكتاب من عنده ثم تقدّمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم؛ فلمّا بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين. قالوا: فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلمّا نظرت بنو عبد الملك تغيّرت وجوههم، فلمّا قرؤوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا؛ فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم. قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد. قال: فأتوه، فسلّموا عليه بالخلافة، فعقر فلم يستطع النّهوض حتى أخذوا بضبعيه، فرقوا به المنبر، فلم يقدر على الصّعود حتى أصعدوه، فجلس طويلاً لايتكلّم، فلمّا رآهم رجاء جلوساً قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعونه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلاً رجلاً. قال: فمدّ يده إليهم. قال: فصعد إليه هشام فلمّا مدّ يده إليه قال هشام: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون " فقال عمر: نعم " إنّا لله وإنّا إليه راجعون " حين صار يلي هذا الأمر أنا وأنت. قال: ثم قام عمر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيّها النّاس إنّي لست بقاض ولكنّي منفّذ، ولست بمبتدع ولكنّي متّبع، وإن حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال. ثم نزل يمشي؛ فأتاه صاحب
المراكب، فقال: ما هذا؟ قال: مركب للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتّي. فأتوه بدابّته فركبها ثم خرج يسير، وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق؛ قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيّأ للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي. قال رجاء: فأتى منزله، فنزل عن دابّته ثم دعا بداوة وقرطاس، وجعل يكتب بيده إلى العّمال في الأمصار، ويملّ على نفسه. قال رجاء: فلقد كنت أظنّ سيضعف، فلّما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.
عن حماد العدويّ، قال: سمعت صوتاً عند وفاة سليمان بن عبد الملك، يقول: من الكامل
اليوم حلّت واستقرّ قرارها ... على عمر المهديّ قام عمودها
وعن محمد بن الضّحاك بن عثمان، عن أبيه، قال: لمّا انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان صفّوا له مراكب سليمان، فقال: من الطويل
فلولا التّقى ثم النّهى خشية الرّدى ... لعاصيت في حبّ الصّبا كلّ زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى اللّيالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله، لا قوّة إلاّ بالله؛ قوموا إلى بغلتي.
وعن سليمان بن داود الخولاني؛ أن رجلاً بايع عمر بن عبد العزيز، فمدّ يده إليه، ثم قال: بايعني بلا عهد ولا ميثاق؛ تطيعني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليك. فبايعه.
وعن عمر بن ذرّ، قال: قال مولى لعمر بن عبد العزيز له حين رجع من جنازة سليمان: ما لي أراك مغتّماً؟ فقال عمر: لمثل ما أنا فيه يغتّم؛ ليس أحد من أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرق ولا غرب إلاّ وأنا أريد أن أودّي إليه حقّه غير كاتب ولا طالبه منّي.
وعن إبراهيم بن هشام بن يحيى، عن أبيه، عن جدّه، قال: كنت أنا وابن أبي زكريا بباب عمر بن عبد العزيز فسمعنا بكاء في داره، فسألنا عنه، فقالوا: خيّر أمير المؤمنين امرأته بين أن تقوم في منزلها على حالها وأعلمها أنه قد شغل بما في عنقه عن النّساء وبين أن تلحق بمنزل أبيها؛ فبكت فبكى جواريها لبكاءها.
وحدّث بعض خاصّة عمر بن عبد العزيز بن مروان: أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاءً عالياً؛ فسئل عن البكاء، فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خيّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكنّ، فمن أحبّ أن أعتقه عتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، أم يكن منّي إليها شيء؛ فبكين إياساً منه.
وعن مسعود بن بشر: أن رجلاً قال لعمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة: تفرّغ لنا. فقال: قد جاء شغل شاغل، وعدلت عن طرق السّلامة، ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة.
وعن سلام بن سليم، قال: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فكان أول خطبة خطبها؛ حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلاّ فلا يقربنا؛ يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدّلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابنّ عندنا الرّعيّة، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع عنه الشّعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزّهاد؛ وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرّجل حتى يخالف فعله قوله.
قال سفيان بن عيينة: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى محمد بن كعب، وإلى رجاء بن حيوة، وإلى سالم بن عبد الله. قال: فحضروا؛ فقال لهم: قد ترون ما قد ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم؟ فقال محمد بن كعب: يا أمير المؤمنين، اجعل النّاس أصنافاً ثلاثةً؛ اجعل الشّيخ أباً، والنّصف أخاً، والشّاب ولداً؛ فبّر أباك، وصل أخاك، وتعطّف على ولدك.
وقال رجاء بن حيوة: ما تقول يا رجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ارض للنّاس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك لست أوّل خليفة يموت.
وقال لسالم بن عبد الله: ما عندك يا سالم؟ قال: يا أمير المؤمنين، اجعل الأمر يوماً واحداً صرفته عن شهوات الدّنيا، آخر نظرك فيه الموت، فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولاّ قوة إلاّ بالله.
عن مغيرة، قال: كان لعمر بن عبد العزيز سمار يستشيرهم فيما يرفع إليه كم أمور النّاس، وكان علامة ما بينه وبينهم إذا أحبّ أن يقوموا قال: إذا شئتم. قال حنبل: رأيت أبا عبد الله أحمد فعل ذلك إذا أراد القيام قال: إذا شئتم.
وعن السّريّ بن يحيى: أن عمر بن عبد العزيز حمد الله، ثم خنقته العبرة، ثم قال: أيّها النّاس؛ أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم؛ والله إن عبداً ليس بينه وبين آدم أب إلاّ قد مات إنه لمعرق له في الموت.
وعن عبد الله بن شوذب، قال: خطب عمر بن عبد العزيز، فقال: كم من عامر موثق عمّا قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرّحلة بأحسن ما يحضركم من النّقلة؛ بينا ابن آدم في الدّنيا ينافس فيها قرير العين قانعاً، إذ دعاه الله بقدره ورماه
بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصيّر لقوم آخرين مصانعه ومعناه، إن الدّنيا لاتسرّ بقدر ما تضرّ، تسرّ قليلاً وتحزن كثيراً.
حدّث ابن لسعيد بن العاص، قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز؛ حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس؛ أما بعد؛ فإنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدىً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم؛ فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم جنّة عرضها السّموات والأرض؛ ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلاّ من حذر اليوم وخافه، وباع نافذاً بباق وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان؛ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى يردّ إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كلّ يوم تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله عزّ وجلّ، قد قضى نحبه حتى تغيبّوه في صدع من الأرض، في بطن صدع، غير موسّد ولا ممهّد، قد فارق الأحباب وباشر التّراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، غنيّ عمّا ترك، فقير إلى ما قدّم؛ فاتّقوا الله قبل انقضاء مراقبته ونزول الموت بكم؛ أما إني لأقول هذا وما أعلم أن عند أحد من الذّنوب أكثر ممّا عندي، فأستغفر ال ثم رفع طرف رداءه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
قال سفيان الثّوريّ: لمّا قام عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشّام بكلمتين؛ من علم أن كلامه من عمله أقلّ منه إلاّ فيما ينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدّنيا باليسير، والسّلام.
قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النّوم، فقال لي: ادن يا عمر ثم قال لي: ادن يا عمر ثم قال لي ادن يا عمر حتى كدت أن أصيبه، ثم قال لي: يا عمر، إذا وليت فاعمل في ولايتك نحواً من عمل هذين وإذا كهلان قد اكتنفاه، قلت: من هذان؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر.
عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: كان نقش خاتم أبي عمر بن عبد العزيز " لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له ".
قال حمّاد: لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز بكى، فقال: يا أبا فلان، هل تخشى عليّ؟ فقال: كيف حبّك للدّرهم؟ قال: لا أحبّه. قال: لا تخف، فإن الله عزّ وجلّ سيعينك.
عن الوليد بن يسار الخزاعيّ، قال: لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز قال للحاجب: أدن منّي قريشاً ووجوه النّاس؛ ثم قال لهم: إن فدك كانت بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر ففعل مثل ذلك، ثم وليها عمر ففعل مثل ذلك قال الأصمعي: وخفي عليّ ما قال في عثمان ثم إن مروان أقطعها فوهبها لمن لا يرثه من بني بنيه، فكنت أحدهم، ثم ولي الوليد فوهب لي نصيبه، ثم ولي سليمان فوهب لي نصيبه، ثم لم يكن من مالي شيء أردّ عليّ منها؛ ألا وإني قد رددتها موضعها. قال: فانقطعت ظهور النّاس، ويئسوا من المظالم.
عن عبد الله بن المبارك، قال: قال عمر بن عبد العزيز لمزاحم وكان مزاحم مولاه، وكان فاضلاً قال: إن هؤلاء القوم يعني أهله أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه، ولا لهم أن يعطوني، وإني قد هممت بردّها على أربابها. قال: فقال مزاحم: فكيف تصنع بولدك؟ قال: فجرت دموعه على وجنتيه، قال: فجعل يمسحها بأصبعه الوسطى، ويقول: أكلهم إلى الله.
قال عبد الله: لتعرف أنه قد كان يجد بولده ما يجد القوم بأولادهم.
قال عبد الله: وكأن مزاحم مع فضله لم يقنع بقوله، فخرج مزاحم فدخل على
عبد الملك بن عمر، فقال: إن أمير المؤمنين قد همّ بأمر لهو أضرّ عليك وعل ولد أبيك من كذا وكذا، إنه قد همّ بردّ السّهلة. قال عبد الله: وهي باليمامة، وهي أمرّ عظيمّ. قال وكان عيش ولده منها.
قال عبد الملك: فماذا قلت له؟ قال كذا وكذا. قال: بئس لعمر الله وزير الخليفة أنت. قال: ثم قام ليدخل على عمر، وقد تبوّأ مقيله. قال: فاستأذن. قال: فقال له البوّاب: إنه قد تبوّأ مقيلة. قال: ما منه بدّ. قال: سبحان الله، ألا ترحموه، إنما هي ساعته. قال: فسمع عمر صوته، فقال: أعبد الملك؟ قال: نعم ادخل. قال: فدخل. قال: ما جاء بك؟ قال: إن مزاحماً أخبرني بكذا وكذا. قال: فما رأيك؟ فإني أريد أن أقوم به العشّية. قال: أرى أن تعجّله فما يؤمنك أن يحدث بك حدث، أو يحدث بقلبك حدث؟ قال: فرفع يديه فقال: الحمد لله الذي جعل من ذرّيّتي من يعينني على ديني. قال: ثم قام من ساعته، فجمع النّاس، وأمر بردّها.
حدّث اللّيث، قال: فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم وسمّى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أميّة إلى فاطمة بنت مروان عمّته، فأرسلت إليه: إنه قد عنّاني أمر لا بدّ من لقائك فيه؛ فأتته ليلاً؛ فأنزلها عن دابّتها. فلمّا أخذت مجلسها قال: يا عمّة، أنت أولى بالكلام فتكلّمي لأن الحاجة لك. قالت: تكلّم يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمةّ ولم يبعثه عذاباً إلى النّاس كافّةً، ثم اختار له ما عنده فقبضه الله وترك لهم نهراً شربهم سواء، ثم قام أبو بكر فترك النّهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل علي أمر صاحبه، ثم لم يزل النّهر يشتقّ منه يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ، وقد يبس النّهر الأعظم، ولن يروي أصحاب النّهر الأعظم حتى يعود النّهر
إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأمّا إذا كانت مقالتك هذه فلست بذاكرة لك شيئاً أبداً؛ فرجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.
عن ميمون بن مهران، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قال: لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل، وإني لأريد الأمر من أمر العامّة أن أعمل به فأخاف أن لا تحمله قلوبهم فأخرج معه طمعاً من طمع الدّنيا، فإن أنكرت قلوبهم هذا سكنت لهذا.
قيل لطاوس: أخبرنا عن عمر بن عبد العزيز أهو المهديّ؟ قال: إنه لمهديّ وليس به، إذا كان المهديّ تيب على المسيء من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال، شديد على العمّال، رحيم بالمساكين.
قال عبّاد السمّاك: سمعت سفيان يقول: أئمة العدل خمسة، أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعمر بن عبد العزيز.
وعن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، قال: والله لكأنّ عمر بن عبد العزيز كان صعد إلى السّماء فنظر ثم نزل إلى الأرض.
قال طلحة أبو محمد: سمعت أشياخنا يذكرون، قالوا: واستخلف عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومئة، وكان يكتب إلى عمّاله بثلاث خصال يدور فيهم؛ بإحياء سنّة أو إطفاء بدعة، أو قسم في مسكنة، أو ردّ مظلمة؛ وكان يكتب إليهم: إنّما هلك من كان قبلكم من الولاة أنهم كانوا يحبسون الخير حتى يشترى منهم، ويبذلون الشّرّ حتى يفتدى منهم.
عن عمر بن أسيد بن عبد الرّحمن بن زيد بن الخطّاب، قال: إنّما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، ثلاثين شهراً، لا والله ما مات عمر حتى
جعل الرّجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون للفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله؛ قد أغنى عمر بن عبد العزيز النّاس.
حدّث إبراهيم بن هشام بن يحيى، عن أبيه، عن جدّه، قال: كانت فاطمة بنت عبد الملك جارية تعجب عمر، فلمّا صار إلى ما صار إليه زيّنتها فاطمة وطيّبتها، وبعثت بها إلى عمر، وقالت: إني قد كنت أعلم أنها تعجبك، وقد وهبتها لك فتنال منها حاجتك؛ فلمّا دخلت عليه قال لها عمر: اجلسي يا جارية، فوالله ما شيء من الدّنيا كان أعجب إليّ منك أن أناله، حدّثيني بقصّتك، وما سببك؟ قالت: كنت جاريةً من البربر جنى أبي جناية فهرب من موسى بن نصير عامل عبد الملك على إفريقية، فأخذني موسى بن نصير، فبعثني إلى عبد الملك، فوهبني عبد الملك لفاطمة، فبعثت بي فاطمة إليك. فقال: كدنا والله نفتضح. فجهّزها وبعث بها إلى أهلها.
عن عطاء، قال: دخلت على فاطمة بنت عبد الملك بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، فقلت لها: يا بنت عبد الملك، أخبريني عن أمير المؤمنين. قالت: أفعل، ولو كان حيّاً ما فعلت.
إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للنّاس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقيّة من حوائج يومه وصله بليلته، إلى أن أمسى مساءً وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلّى ركعتين، ثم أقعى واضعاً رأسه على يده تسايل دموعه على خدّه، يشهق الشّهقة فأقول: قد خرجت نفسه، أو تصدّعت كبده؛ فلم يزل كذلك ليلته حتى برق له الصّبح، ثم أصبح صائماً. قالت: فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين، لشيء ما كان قبل اللّيلة مل كان منك؟ قال: أجل، فدعيني وشأني، وعليك بشأنك.
قالت: قلت له: إني أرجو أن أتّعظ. قال: إذن أخبرك. قال: إني نظرت إليّ فوجدتني قد وليت هذه الأمّة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضّائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم، في أقاصي البلاد وأطراف الأرض فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر ولا يقوم لي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجّة، فخفت على نفسي خوفاً دمع له عيني، ووجل له قلبي؛ فأنا كلّما ازددت لهذا ذكراً ازددت منه وجلاً، وقد أخبرتك فاتّعظي الآن أو دعي.
عن سليمان بن داود؛ أن عمر بن عبد العزيز قال لبنيه: أتحبّون أن أولّي كلّ رجل منكم جنداً، فينطلق تصلصل به جلاجل البريد؟ فقال له ابنه ابن الحارثيّة: لم تعرض علينا ما لست صانعه؟ فقال عمر: إني لأعلم أن بساطي هذا يصير إلى البلى، وإني لأكره أن تدنّسوه بخفافكم، فكيف أقلّدكم ديني تدنّسوه في كلّ جند؟! حدّث مالك: أن عمر بن عبد العزيز قام في النّاس وهو خليفة على المنبر يوم الجمعة، فقال: يا أيّها النّاس، إني أنساكم ها هنا وأذكركم في بلادكم، فمن أصابه مظلمة من عامله فلا آذن له عليّ، ومن لا فلا أرينّه؛ وإني والله لئن منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال وضننت به عنكم إني إذاً لضنين؛ ولولا أن أنعش سنّةً أو أعمل بحقّ ما أحببت أن أعيش فواقاً.
قال ابن عائشة: كتب بعض عمّال عمر بن عبد العزيز إليه: أمّا بعد؛ فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به. فوقّع في كتابه: أمّا بعد؛ فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظّلم، فإنه مرمّتها، والسّلام.
عن ضمرة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: أمّا بعد؛ فإذا دعتك قدرتك على النّاس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
عن الأوزاعيّ، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالةً لم يحفظها غيري وغير مكحول: أمّا بعد؛ فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير، ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. والسّلام. وعنه: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه لثلاثة أيّام ثم عاقبه، كراهية أن يعجل في أول غضبه. وأسمعه رجل كلاماً، فقال له: أردت أن يستفزّني الشّيطان فأنال منك اليوم بما تناله أنت مني يوم القيامة! انصرف عنّي، عافاك الله ورحمك.
قال مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد؛ أيّ زهد عند مالك وله جبّة وكساء؟! إنّما الزّاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدّنيا فاغرة فاها فتركها.
عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ؛ فقلت لامرأته فاطمة: اغسلوا قميص أمير المؤمنين. فقالت: نفعل ذاك إن شاء الله. ثم عدت فإذا القميص على حاله! فقلت: يا فاطمة، ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين؟ فقالت: والله، ما له قميص غيره!! عن عمرو بن مهاجر، قال: كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين.
عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للنّاس أعطيتاهم. فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للنّاس أعطيتاهم وقد بقي في بيت المال مال. قال: فكتب إليه: انظر كلّ من أدان من غير سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. قال: فكتب إليه: أن انظر كلّ بكر ليس له مال، فشاء أن تزوّجه فزوّجه واصدق عنه. فكتب إليه: إني قد زوّجت كلّ من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنّا لا نريدهم لعام ولا لعامين.
عن عمرو بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز كان يسرج عليه الشّمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأهم ثم أسرج عليه سراجه.
وعن رباح بن عبيدة، قال: أخرج مسك من الخزائن، فوضع بين يدي عمر بن عبد العزيز، فأمسك أنفه مخافة أن يجد ريحه. قال: فقال له: رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما ضرّك إن وجدت ريحه؟ قال: وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟ قال الحكم بن عمر الرّعينيّ: شهدت عمر بن عبد العزيز، وجاءه صاحب الرّقيق فسأل أرزاقهم وكسوتهم وما يصلهم، فقال عمر: كم هم؟ قال: هم كذا وكذا ألفاً. فكتب إلى أمصار الشّام: أن ارفعوا إليّ كلّ أعمى في الدّيوان أو مقعد أو من به
الفالج أو من به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصّلاة. فرفعوا إليه؛ فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزّمنى بخادم. قال: وفضل من الرّقيق، فكتب: أن ارفعوا إليّ كلّ يتيم ومن لا أحد له ممّن قد جرى على والده الدّيون. فأمر لكل خمسة بخادم يتوزّعونه بينهم بالسّويّة. وكتب أن يفرّقوهم جنداً جنداً.
قال إسماعيل بن أبي حكيم: كان عمر بن عبد العزيز لا يدع النّظرة في المصحف كلّ يوم ولكن لا يكثر.
عن الحكم بن عمر، قال: شهدت عمر يقول لحرّاسه: إن بي عنكم لغنى؛ كفى بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً، ولا أطرحكم من مراتبكم ليجري لكم سنّةً بعدي، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله. قال: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمئة شرطيّ وثلاثمئة حرسيّ.
عن عمرو بن مهاجر، قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفّاحاً، فقال: لو كان عندنا شيء من تفّاح؛ فإنه طيّب الرّيح، طيّب الطّعم. فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفّاحاً؛ فلّما جاء به الرّسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه؛ ارفعه يا غلام، وأقر فلاناً السّلام، وقل له: إن هدّيتك قد وقعت عندنا بحيث تحبّ. قال عمرو بن مهاجر: فقلت: يا أمير المؤمنين، ابن عمّك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الهدّية ولا يأكل الصدّقة. فقال: ويحك، إن الهدّية كانت للنّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديةً وهي اليوم لنا رشوة: عن ضمرة، قال: قال عمر بن عبد العزيز لبعض ولد الحسين بن عليّ بن أبي طالب: لا تقف على بابي ساعةً واحدةً إلاّ ساعةً تعلم أني جالس فيؤذن لك عليّ من ساعتك، فإني أستحي من الله أن يقف على بابي رجل من أهل بيت النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يؤذن له عليّ من ساعته.
حدّث جسر القصّاب، قال: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز، فمررت براع وفي غنمه نحوّ من ثلاثين ذ ئبا، فحسبتها كلاباً، ولم أكن رأيت ذئاب قبل ذ لك، فقلت: يا راعي، ما ترجو بهذه الكلاب كلّها، فقال: يا بنيّ إنّها ليست كلاباً، إنّما هذه ذئاب! فقلت: سبحان الله، ذئب في غنم لا يضرّها! فقال: يابنيّ إذا صلح الرّأس فليس على الجسد بأس. وكان ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وعن موسى بن أعين الرّاعي وكان يرعى الغنم لمحمد بن أبي عيينة: قال: كانت الغنم والأسد والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض لشاة منها ذئب. قال: فقلت: إناّ لله، ما أرى الرّجل الصّالح إلاّ وقد هلك. قال: فحسبنا فوجدناه قد هلك في تلك اللّيلة. رواه غيره عن حمّاد، فقال: كنّا نرعى الشاء بكرمان.
عن ميمون بن مهران: أن عمر بن عبد العزيز أتي بسلق وأقراص، فأكل ثم أضطجع على فراشه وغطّى وجهه بطرف ردائه وجعل يبكي ويقول: عبد بطيء بطين، يتباطأ ويتمنّى على الله منازل الصّالحين
وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: قال لي رجاء بن حيوة: ما أكمل مروءة أبيك؛ سمرت عنده ذات ليلة، فعشيّ السّراج، فقال لي: ما ترى، السّراج قد عشي؟ قلت: بلى قال: وإلى جانبه وصيف راقد قال: قلت: ألا أنبّهه؟ قال: لا، دعه يرقد، قال: قلت: ألا أقوم أنا؟ قال: لا، ليس من مروءة الرّجل استخدام ضيفه. قال: فوضع رداءه ثم قام إلى بطّة زيت
معلّقة، فأخذها فأصلح السّراج، ثم ردّها في موضعها، ثم رجع؛ قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وعن ميمون بن مهران، قال: كنت في سمر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما بقاؤك على ما أرى، أنت بالنّهار مشغول في حوائج النّاس، وباللّيل أنت معنا ها هنا، ثم الله أعلم بما تخلو به؟ قال: فعدل عن جوابي، ثم قال: إليك عنّي يا ميمون، فإني وجدت لقى الرّجال تلقيح لألبابهم.
وعنه، قال: كنت باللّيل في سمر عمر بن عبد العزيز، فوعظ، ففطن لرجل قد أخذ بدمعته. قال: فسكت. فقلت: يا أمير المؤمنين عد لمنطقك لعلّ الله ينفع بك من سمعه ومن بلغه. فقال: يا ميمون، إن للكلام فتنةً، وإن الفعال أولى بالمؤمن من القول.
عن عليّ بن الحسن، قال: كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات، فجاء إلى أهله يعزّيهم، فصرخوا في وجهه! فقال لهم عمر: مه، إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حيّ لا يموت؛ إن صاحبكم هذا لم يسّد شيئاً من حفركم وإنّما سدّ حفرة نفسه، لكلّ امرئ منكم حفرةً لا بدّ والله أن يسدّها؛ إن الله جلّ ثناؤه لّما خلق الدّنيا حكم عليها بالخراب وعلى أهلها بالفناء، وما امتلأت دار حبرةً إلاّ امتلأت عبرةً، ولا اجتمعوا إلاّ تفرّقوا حتى يكون الله هو الذي يرث الأرض ومن عليها؛ فمن كان منكم باكياً فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه صاحبكم كلّكم يصير إليه غداً.
عن عبد الله بن المبارك: أن عمر بن عبد العزيز عزّي على ابنه عبد الملك، فقال: إن الموت أمر قد كنّا
وطّنّا أنفسنا عليه فلّما وقع لم نستنكره.
وعن عبد الله بن نافع، قال: ماتت أخت لعمر بن عبد العزيز. قال: فشهدها النّاس، فانصرفوا معه إلى منزله؛ فلّما صار إلى بابه أخذ بحلقة الباب ثم قال: انصرفوا أيّها النّاس مأجورين، أدّى الله الحقّ عنكم؛ فإنا أهل بيت لا نعزّى في أحد من النّساء إلاّ في اثنتين: أمّ لواجب حقّها، وما فرض الله من برّها؛ وامرأة للطف موضعها، وأنه لا يحلّ محلّها أحد.
قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: يا أبا فلان، لقد أرقت اللّيلة مفكراً. قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه؛ إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصّديد، ويخترقه الدّيدان، مع تغيّر الرّيح وبلى الأكفان؛ بعد حسن الهيئة وطيب الرّيح ونقاء الثّوب. قال: ثم شهق شهقةً خرّ مغشياً عليه.
عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: يا مغيرة، إنه يكون في النّاس من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر، وما رأيت أحداً قطّ أشدّ فرقاً من ربّه من عمر؛ كان إذا صلّى العشاء قعد في مسجده ثم رفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه فلا يزال رافعاً يديه يبكي تغلبه عينه.
عن وهيب بن الورد، قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لّما توفي جاء الفقهاء إلى امرأته يعزّونها به، فقالوا لها: جئناك لنعزّيك بعمر، فقد عمّت مصيبته الأمة، فأخبرينا يرحمك الله عن عمر، كيف كانت حاله في بيته فإن أعلم النّاس بالرّجل أهله. فقالت: والله ما كان عمر بأكثركم صلاةً ولا صياماً، ولكني والله ما رأيت عبداً لله
قطّ كان أشدّ خوفاً من عمر؛ والله إن كان ليكون في المكان الذي إليه ينتهي سرور الرّجل بأهله بيني وبينه لحاف فيخطر على قلبه الشيء من أمر الله فينتفض كما ينتفض طائر وقع في الماء، ثم يرتفع بكاءه، حتى أقول: والله لتخرجنّ نفسه التي بين جنبيه؛ فأطرح اللّحاف عني وعنه رحمةً له وأنا أقول: يا ليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد المشرقين؛ فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها.
قال عليّ بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النّار لم تخلق إلاّ لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
قال أبو حاتم: لمّا مرض عمر بن عبد العزيز جيء بطبيب إليه، فقال: به داء ليس له دواء؛ غلب الخوف على قلبه.
قال المبّرد: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل: من البسيط
فما تزوّد ممّا كان يجمعه ... سوى حنوط غداة البين في خرق
وغير نفجة أعواد تشبّ له ... وقلّ ذلك من زاد لمنطلق
بأيّ ما بلد كانت منيّته ... إلاّ يسر طائعاً في قصدها يسق
قال عليّ بن الحسن: كان عمر بن عبد العزيز في جنازة، فنظر إلى قوم في الجنازة قد تلثّموا من الغبار وعدلوا من الشّمس إلى الظّلّ، فنظر في وجوههم وبكى، وقال: من البسيط
من كان حين تصيب الشّمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشّين والشّعثا
ويألف الظلّ كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في قعر مظلمة غبراء موحشة ... يطيل في قعرها تحت الثّرى لبثا
وفي رواية: من أصحّ ما روي لعمر بن عبد العزيز من الشعر هذه الأبيات فذكر البيتين الأولين وقال:
في ظلّ مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثّرى في عنقها اللّبثا
تجهّزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الرّدى، لم تخلقي عبثا
أنشد حرميّ بن الهيثم لعمر بن عبد العزيز: من الطويل
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... مع الله في دار القرار نصيب
فإن تعجب الدّنيا أناساً فإنّها ... متاع قليل والزّوال قريب
قال ابن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: من الطويل
تسرّ بما يبلى وتفرح بالمنى ... كما اغترّ باللّذات في النّوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والرّدى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبّه ... كذلك في الدّنيا تعيش البهائم
وزاد في رواية:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النّوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لخرّقت ... مدامع عينيك الدّموع السّواجم
قال وهيب بن الورد العابد: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات: من الطويل
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كلّه ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهّال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكّر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
أنشد أبو يزيد المؤدّب لعمر بن عبد العزيز: من الوافر
وغرّة مرّة من فعل غرّ ... وغرّة مرّتين فعال موق
وحسن الظّنّ عجز في أمور ... وسوء الظّنّ يأمر بالوثيق
إذا لم تتّق الضّحضاح زلّت ... ولا تأيس من الأمر السّحيق
فإن القرب يبعد بعد قرب ... ويدنو البعد بالقدر المسوق
قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: من الكامل
إني لأمنح من يواصلني ... منّي صفاء ليس بالمذق
فإذا أخ لك حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرّفق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
حدّث الزّبير بن بكار، عن عمّه، قال: أدركت النّاس بالمدينة وهم يعزون لحناً ينسبونه إلى عمر بن عبد العزيز، ويغنّون لحناً ينسبونه إليه: من الطويل
كأن قد شهدت النّاس يوم تقسّمت ... خلائقهم فاخترت منهنّ أربعا
إعارة سمع كلّ مغتاب صاحب ... وتأبى لعيب النّاس إلاّ تتبّعا
وأعجب من هذين أنك تدّعي الس ... سلامة من عيب الخليقة أجمعا
وأنك لو حاولت فعل إساءة ... وكوفيت إحساناً جحدتهما معا
قال أرطاة: قيل لعمر بن عبد العزيز: لو جعلت على طعامك أميناً لا تغتال، وحرساً إذا صلّيت لا تغتال، وتنحّ عن الطّاعون. قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي.
عن مجاهد، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا مجاهد، ما يقول النّاس فيّ؟ قلت: يقولون: مسحور. قال: ما أنا بمسحور؛ ثم دعا غلاماً له، فقال له: ويحك، ما حملك على أن
تسقيني السّمّ؟ قال: ألف دينار أعطيتها، وعلى أن أعتق. قال: ها تها. فجاء بها، فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.
حدّث اللّيث بن سعد: أنه بلغه أن مسلمة بن عبد الملك لمّا رأى عمر بن عبد العزيز اشتدّ وجعه، وظنّ أنه ميّت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالةً لاشيء لهم، ولابدّ لهم ممّا لابدّ لهم منه، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أمّا ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حقّ غيرهم، وأمّا ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصّالحين؛ ادعهم لي. قال: فدعوتهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه، فقال: بأبي فتيةً تركتهم عالةً، وإنّما هم أحد رجلين: إمّا رجل يتّقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإمّا رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قوّيته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذّمّة إلاّ سيرى لكم حقاً. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
عن محمد بن قيس، صاحب عمر بن عبد العزيز، قال: اشتكى عمر بن عبد العزيز حضرة هلال رجب سنة إحدى ومئة، فكانت شكايته عشرين يوماً، فأرسل إلى نصرانيّ يساومه بموضع قبره: فقال له النّصرانيّ: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرّك بقربك وبجوارك، فقد حلّلتك. فأبى ذلك عليه إلاّ أن يبيعه. فباعه إيّاه بثلاثين ديناراً، ثم دعا بالدّنانير فوضعها في يده.
حدّث المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنة عبد الملك: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول:
اللهم أخف عليهم أمري ولو ساعة من نهار. قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين، ألاّ أخرج عنك عسى أن تغفو شيئاً فإنك لم تنم. قالت: فخرجت عنه إلى بيت غير البيت الذي هو فيه. قالت: فجعلت أسمعه يقول: " تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين " مراراً، ثم أطرق، فلبث طويلاً لا يسمع له حسّ. فقلت لوصيف له كان يخدمه: ويحك، انظر. فلمّا دخل صاح. قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه.
عن عبيدة بن حسّان، قال: لمّا احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عنّي فلا يبقى عندي أحد. قال: وكان عنده مسلمة بن عبد الملك. قال: فخرجوا، فقعد على الباب هو وفاطمة. قال: فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه إنس ولا جان. قال: ثم قال: " تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين ". قال: ثم هدأ الصّوت، فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك. فدخلوا فوجدوه قد قبض وغمض وسوّي.
عن رجاء بن حيوة، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز في مرضه: كن في من يغسلني ويكفّنني ويدخل قبري، فإذا وضعتموني في لحدي فحلّ العقدة، ثن انظر إلى وجهي؛ فإني قد دفنت ثلاثةً من الخلفاء كلّهم إذا أنا وضعته في لحده حللت العقدة ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو مسواد في غير القبلة. قال رجاء: فكنت فيمن غسل عمر وكفنه ودخل في قبره، فلمّا حللت العقدة نظرت إلى وجهه فإذا وجهه كالقراطيس في القبلة.
عن عبد العزيز بن أبي سلمة؛ أن عمر بن عبد العزيز لّما وضع عند قبره هبّت ريح فاشتدت، ثم هبّت حتى سقط منها صحيفة من أحسن كتاب، فقرؤوها فإذا فيها: بسم الله الرّحمن الرحيم، براءة من الله عزّ وجلّ لعمر بن عبد العزيز من النّار. فأدخلوها بين أكفان عمر ودفنوها معه.
عن هشام، قال: لّما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال الحسن: مات خير النّاس.
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يحدّث أن صالح بن عليّ حين قدم الشّام سأل عن قبر عمر بن عبد العزيز، فلم يجد أحداً يخبره حتى دلّ على راهب، فأتى فسأل عنه، فقال: قبر الصّدّيق تريدون؟ هو في تلك المزرعة.
قال جرير حين مات عمر بن عبد العزيز: من البسيط
ينعى النّعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به ... وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشّمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا
قال إسماعيل بن علي الخطبيّ: خلافة أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وأمّه أمّ عاصم بنة عاصم بن عمر بن الخطاب: واستخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بدابق يوم الجمعة لعشر ليل خلون من صفر سنة تسع وتسعين، وكان استخلافه بعهد من سليمان بن عبد الملك إليه قبل وفاته، في مرضه الذي مات فيه. وقال ابن إسحاق: وتوفي في ستة أيام بقيت من رجب سنة إحدى ومئة بدير سمعان من أرض حمص على رأس سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوماً من متوفّى سليمان.
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس الاموي القرشي من الخلفاء الراشدين المهديين الذي أحيا ما أميت قبله من السنن وسلك مسلك من تقدمه من الخلفاء الاربع أمه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب كان مولده سنة
إحدى وستين في السنة التي قتل فيها الحسين بن على كنيته أبو حفص مات سنة إحدى ومائة وهو بن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر وكانت خلافته مثل خلافة أبى بكر الصديق سواء رضنا الله وعنهم أجمعين في العافية
إحدى وستين في السنة التي قتل فيها الحسين بن على كنيته أبو حفص مات سنة إحدى ومائة وهو بن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر وكانت خلافته مثل خلافة أبى بكر الصديق سواء رضنا الله وعنهم أجمعين في العافية