شريح بن الحارث بن قيس
ابن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور ابن مرتع أبو أمية الكندي القاضي ويقال: شريح بن شرحبيل ويقال: ابن شراحيل
ويقال: إنه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن. أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. ويقال: بل لقيه. واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وأمّره علي وأقام على القضاء بها ستين سنة. وقضى بالبصرة سنة، وقدم دمشق في ولاية معاوية، وحاكم إلى قاض كان بها.
حدث شريح القاضي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، رضوان الله عليهم أجمعين.
حدث قاضي المصرين شريح بعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله عز وجل يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا بن آدم، فيم أضعت حقوق الناس؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول: يا رب، لم أفسده، ولكني أصبت به إما غرقاً وإما حرقاً. قال: فيقول تبارك وتعالى: أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة.
جاء شريح إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم ثم قال: يا رسول الله، إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن، فقال له جئ بهم، فجاء بهم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قبض.
قال عطاء بن مصعب: تقدم شريح إلى قاضٍ لمعاوية يطالب رجلاً بحق له، فقال القاضي لشريح: أرى حقك قديماً. قال شريح: الحق أقدم منك ومنه، فقال: إني أظنك ظالماً، قال: ما على ظنك رحلت من العراق. قال: ما أظنك تقول الحق. قال: لا إله إلا الله. قال: فنمي الخبر إلى معاوية فقال: هذا شريح فأمر أن يفرغ من أمره ويعجل رده إلى العراق.
وعاش شريح بن الحارث عشرين ومئة سنة. وعاش عدي بن حاتم عشرين ومئة سنة، وعاش سويد بن غفلة عشرين ومئة سنة.
وكان شريح إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله علي بالإسلام ثم عديد لكندة. ويقال إنه إنما خرج إلى المدينة لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا من ذلك فخرج، وكان شاعراً عائفاً زاجراً قائفاً كوسجاً، لا لحية له.
العائف: الذي يعيف الطير أن يزجرها. ولم يرد من قال: إنه عائف: هذه العيافة، وكيف يريد هذا؟ وقد روي أن العيافة من الجبت ولكنه أراد أنه مصيب الظن صادق الحدس، فكأنه عائف. وهذا كما يقال: ما أنت إلا ساحر إذا كان رقيقاً لطيفاً، وما أنت إلا كاهن إذا أصاب بظنه. والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها ويعرف شبه الرجل في ولده وأخيه.
كان مالك بن أنس يقول: كان أهل البصرة عندنا هم أهل العراق وهم الناس. ولقد كان بالكوفة رجال: علقمة والأسود وشريح، حتى وثب إنسان يقال له حماد فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه ففسد الناس، فالله المستعان " وللبسنا عليهم ما يلبسون ".
قيل لشريح: بأي شيء أصبت هذا العلم؟ قال: بمفاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم.
قال الشعبي: أخذ عمر بن الخطاب فرساً من رجل على سوم فحمل عليه رجلاً فعطب عنده فخاصمه فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً. فقال الرجل: فإني أرضى بشريح العراقي، فأتوا شريحاً فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً سالماً، فأعجب عمر بن الخطاب فبعثه قاضياً.
حدث شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاقض بها، فإن
جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانظر ما أجمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن أتأخر فتأخر. ولا أرى التأخير إلا خيراً لك.
وعن هبيرة بن يريم أن علياً جمع الناس في الرحبة وقال: إني مفارقكم فاجتمعوا في الرحبة، رجال أيما رجال، فجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح فجثا على ركبتيه وجعل يسأله، فقال له علي: اذهب فأنت أقضى العرب.
قال الشعبي:
خرج علي بن أبي طالب عليه السلام إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرف علي الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين. ((وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي استقضاه. فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال علي: أما يا شريح لو كان خصمي مسلماً لقعدت معه مجلس الخصم ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تصافحوهم ولا تبدؤوهم بالسلام ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضائق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله. اقض بيني وبينه يا شريح. قال: فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علي: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان. قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين، الدرعي هي درعي. قال: فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: فقال علي عليه السلام: أما إذ أسلمت فهي لك وحمله على فرس عتيق. قال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين.
وفي رواية: وفرض له ألفين وأصيب معه يوم صفين.
وفي رواية: أنه ضاع لعلي عليه السلام درع يوم الجمل فأصابها رجل من بني قفل فباعها، فعرفت عند رجل من اليهود، فقال: اشتريتها من بني قفل فخاصمه علي إلى شريح، فشهد لعلي الحسن بن علي ومولاه قنبر، فقال شريح لعلي: زدني شاهداً مكاالحسن، فقال: أترد شهادة الحسن؟ قال: لا ولكني حفظت عنك أنك قلت: لا تجوز شهادة الولد لوالده، فقال علي عليه السلام: الحق ببانقيا واقض عليها، واستعمل على الكوفة محمد بن يزيد بن خليدة الشيباني ثم عزله وأعاد شريحاً.
قال علي عليه السلام لشريح: لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده فانظر ما تقضي، وفيم تقضي، وكيف تقضي، وفيم تمضي، وإليه تفضي.
وعن عامر قال: جاءت امرأة إلى علي تخاصم زوجها طلقها، فقالت: قد حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت هاهنا؟! قال: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن ترضى دينه وأمانته يزعم أنها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها، وإلا فلا. فقال علي: قالون. وقالون بلسان الروم: أحسنت. وقيل: قالون بالرومية جيد.
أتي شريح ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم، فقال شريح: للزوج النصف وما بقي فللأخ من الأم. وقال علي: أخطأ العبد الأبظر: للزوج النصف وللأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفان.
نظر شريح إلى رجل يقوم على رأسه وهو يضحك وهو في مجلس القضاء، فنظر إليه شريح فقال له: ما يضحكك وأنت تراني أتقلب بين الجنة والنار؟! حدث سالم أبو عبد الله قال: شهدت شريحاً وتقدم إليه رجل قال: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، فقال:
إني رجل من أهل الشام. قال: بعيد سحيق. قال: إني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين. قال: إني اشترطت لها دارها. قال: الشرط أملك. قال: اقض بيننا قال: قد فعلت.
قال أبو عمرو الشيباني:
كنت عند شريح فأتاه قوم برجل عليه صك بخمس مئة درهم ديناً فقالوا: إن مولى لنا مات وترك على هذا خمس مئة درهم ديناً، ونحن وارثو مولانا، فقال له شريح: ما تقول؟ فقال: كان أخير رجلاً حراً مولى لهؤلاء وكان موسراً، وأنا عبد مملوك لقوم آخرين، وكان أعطاني هذه الدراهم أنتفع بها، فمات أخي وترك مالاً كثيراً ورثه هؤلاء عنه، فقلت لهم: دعوا لي هذه الدراهم فإني معيل. قال: فكلمهم شريح، وقال لهم: لا عليكم أن تدعوا له هذه الدراهم وسائر ميراث أخيه لكم فقد ذكر عياله، فأبوا وقالوا خذ لنا بحقنا. قال: فقال لهم شريح: اتقوا الله، وافعلوا. فأبوا وقالوا: خذ لنا بحقنا، فقال له شريح: ادفعها إليهم فإنك عبد لا ميراث لك، فأقيموا من بين يديه على ذلك. قال أبو عمرو الشيباني: فلما رأيت جزعه وشدة همه قلت له: ويحك، ذكرت أنك معيل فما عيالك؟ قال: زوجة وأولاد ذكور وإناث، فقلت: فما زوجتك؟ حرة أو أمة؟ فقال: حرة، فرجعت إلى شريح فقلت: يا أبا أمية، ألا ترى ما يقول هذا الرجل؟ قال: وما يقول؟ قلت: يقول: لي أولاد أحرار من امرأة حرة. قال: ردهم علي، فرددتهم فأعاد الكلام فاعترفوا به، وقالوا: نعم، له أولاد أحرار، فقال: ولد حر من امرأة حرة فقال شريح: فابن الأخ الحر أولى بالميراث منكم، والله، لا تبرحوا حتى تعطوه ما في أيديكم من ميراث أخيه. قال: فانتزع ذلك منهم فدفعه إليه.
قال محمد بن سيرين: جاء رجل إلى شريح فقال: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها؟ قال: النصف. قال: فمضى، ثم عاد وله خصوم له في هذه المسألة، فإذا هي عشرة أسهم يجب له منها ثلاثة أسهم. قال الوليد بن مسلم: يفسر ذلك أنها تركت زوجها وأمها وأختها لأبيها وأمها، وأختها لأمها فأعطاه ثلاثة اسهم من عشرة، وكان الرجل بعد ذلك يقول: انظروا إلى قاضيكم هذا، أتيته فقلت: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها
فقال النصف، فلما تحاكمنا إليه ما أعطاني النصف ولا الثلث، فكان شريح يقول له: يا عدو نفسه، إذا رأيتني ذكرت حكماً جائراً، وإذا رأيتك ذكرت رجلاً فاجراً تظهر الشكوى وتكتم حقيقة القضاء.
قال مجاهد: اختصم إلى شريح في ولد هرة فقالت امرأة: هو ولد هرتي، وقالت الأخرى: هو ولد هرتي، فقال شريح: ألقها مع هذه فإن هي قرّت ودرّت واسبطرت فهي لها، وإن هي فرت وهرت واقشعرت فيلس لها.
أتى شريحا ًالقاضي قوم برجل فقالوا: إن هذا خطب النساء فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدواب. فزوجناه فإذا هو يبيع السنانير. قال: أوَلا قلتم أي الدواب؟ وأجاز شريح نكاحه.
حدث ابن عوف أن شريحاً أقر عنده رجل بشيء ثم ذهب لينكر فقال: قد شهد عليك ابن أخت خالتك.
وعن الشعبي أن عبد الله بن شريح كان بينه وبين رجل خصومه فقال لأبيه إن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان الحق لي فأعلمني ذلك حتى أخاصمه إليك وإن كان الحق علي لم أخاصمه قال: فقال: خاصمه. قال: فجاءه بخصم فقضى عليه، فلقيه بعدما انصرف فقال: ما رأيت مثلك، إني لو لم أكن تقدمت إليك عذرتك، ولكن قد أعلمتك الأمر وسألتك أن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان القضاء علي لم أخاصمه إليك فأمرتني أن أخاصمه! فقال: يا بنيّ، إنك لما تقدمت على أمرك كان القضاء عليك فكرهت أن أخبرك فتذهب إلى خصمك، فتصالحه وتقطع من ماله شيئاً لا حق لك فيه، فلذلك لم أخبرك.
خرجت قرحة بإبهام شريح فقيل له: ألا أريتها طبيباً قال: هو الذي أخرجها.
قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد الله رزقني الصب عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.
وعن شقيق قال: قال شريح في فتنة ابن الزبير: ما استخبرت ولا أخبرت، ولا ظلمت مسلماً ولا معاهداً ديناراً ولا درهماً. قال: قلت له: لو كنت على حالك لأحببت أن أكون قد مت، فأومأ إلى قلبه فقال: كيف بهذا؟ وفي رواية قال: كيف بما في صدري. تلتقي الفئتان إحداهما أحب إلي من الأخرى.
قال الشعبي: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية، ما أظنها إلا مظلومة فقال: يا شعبي، إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون قال عامر:
سئل شريح القاضي عن الجراد: فقال: قبح الله الجرادة فيها خلقه سبعة جبابرة: رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب.
قال المدائني: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له رجل: ما هذه؟ قال: ناقة تمشي على أربع. قال: أتبيع؟ قال: لذلك أخرجتها. قال: وبكم تبيعها؟ قال: بكذا وكذا. قال: كيف لبنها؟ قال: احلب في أي إناء شئت، قال: كيف الوطاء؟ قال: افرش ونم. قال: فكيف قوتها؟ قال: احمل على حائط أو دع. قال: فكيف نجاؤها؟ قال: علق سوطك وسر، فاشتراها منه، فقال له شريح، إن عرضت لك حاجة فسل عن أبي أمية في مسجد الكوفة، فسار بها الرجل، قال: فإذا أخبث ما سخر لأدمي، فأتى مسجد الكوفة وشريح في مجلس القضاء فقال: لم أر فيها شيئاً مما وصفت، فأدناه شريح وأفهمه ما قال له ثم أقاله.
قيل للشعبي: يقال في المثل: إن شريحاً أدهى من الثعلب وأحيل. فما هذا؟ فقال
إن شريحاً خرج أيام الطاعون إلى النجف، فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه فيحاكيه ويمثل بين يديه فيشغله عن صلاته. فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة وأخرج كميه وجعل قلنسوته وعمامته عليه، فأقبل الثعلب فوقف على عادته، فأتاه شريح من خلفه فأخذه بغتة فلذلك يقول هو أدهى من الثعلب.
قال الشعبي قال لنا شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء. قلنا: وكيف؟ قال: رجعت يوماً من جنازة مظهراً، فمررت بخباء فإذا عجوز معها جارية رود فاستسقيت، فقالت: اللبن أعجب إليك أم ماء أم نبيذ؟ قال: قلت: اللبن أعجب إليّ، قالت: يا بنية، اسقيه لبناً، فإني أظنه غريباً، فسقتني، فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه ابنتي زينب بنت جرير إحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهيّة. قلت: أتزوجينيها؟ قالت: نعم، إن كنت كفؤاً، قال: فانصرفت إلى منزلي وامتنعت عن القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إخواني إلى الثقات: مسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، فصليت العصر ثم رحب إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه فقلت: أنت أحق بمجلسك ونحن طالبوا حاجة فقال: مرحباً بك يا أبا أمية ما حاجتك؟ قلت: أني قد ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني، ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت: ماذا صنعت بنفسي؟ فهممت أن أرسل إليها بطلاقها ثم قلت: لا أجمع حمقتين، ولكن أضمها إليّ فإن رأيت ما أحب حمدت الله، وإن تكن الأخرى طلقتها. فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها.
فلما أهديت إليّ وقام النساء عنها قلت: يا هذه؟ إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه، ويسألا الله البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي. فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي إليها فقالت: على رسلك فقلت: إحداهن ورب الكعبة فقالت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فإني امرأة غريبة ولا والله ما ركبت مركباً أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك فخبرني بما تحب آته، وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا وأستغفر لله لي ولك. فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فقد قدمت خير مقدم، قدمت على أهل دار، زوجك سيّد
رجالهم، وأنت إن شاء الله سيّدة نسائهم، أحب هذا وأكره هذا. قالت: فحدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ قال: قلت: إني رجل قاض وأكره أن يملوني وأكره أن ينقطعوا عني. قال: فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سروراً مني باليوم الذي مضى، فرجعت يوماً من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهي في منزلي فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنك، هذه أمي. قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية؟ وكيف رأيت أهلك؟ قال: قلت: كل الخير. قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط. قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب، فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصي بهذه الوصية، ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوماً ولا ليلة إلا يوماً وكنت لها ظالماً، وذلك إني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها، فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت: يا زينب، إياك والإناء فعجلت إليه فحركته فضربها العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمصّ أصبعها وأقرأ عليها المعوذتين، وكان لي جار يقال له قيس لا يزال يقرع مرأته فعند ذلك أقول: من الطويل
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين أضرب زينبا
يا شعبي، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء.
أوصى شريح أن يصلى عليه بالجبّانة، وأن لا يؤذن به أحد، ولا تتبعه صائحة وألا يجعل على قبره نور، أن يسرع به السير، وأن يلحد له.
مات شريح سنة ثمانين. وقيل: سنة ست وسبعين. وقيل: سنة ثمان وسبعين، وهو ابن مئة وعشرين سنة. وقيل: ابن مئة وعشر سنين. وقيل: مئة وثمان سنين. بعدما عزل عن القضاء لسنتين. وقيل: توفي سنة سبع وثمانين.
ابن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور ابن مرتع أبو أمية الكندي القاضي ويقال: شريح بن شرحبيل ويقال: ابن شراحيل
ويقال: إنه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن. أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. ويقال: بل لقيه. واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وأمّره علي وأقام على القضاء بها ستين سنة. وقضى بالبصرة سنة، وقدم دمشق في ولاية معاوية، وحاكم إلى قاض كان بها.
حدث شريح القاضي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، رضوان الله عليهم أجمعين.
حدث قاضي المصرين شريح بعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله عز وجل يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا بن آدم، فيم أضعت حقوق الناس؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول: يا رب، لم أفسده، ولكني أصبت به إما غرقاً وإما حرقاً. قال: فيقول تبارك وتعالى: أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة.
جاء شريح إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم ثم قال: يا رسول الله، إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن، فقال له جئ بهم، فجاء بهم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قبض.
قال عطاء بن مصعب: تقدم شريح إلى قاضٍ لمعاوية يطالب رجلاً بحق له، فقال القاضي لشريح: أرى حقك قديماً. قال شريح: الحق أقدم منك ومنه، فقال: إني أظنك ظالماً، قال: ما على ظنك رحلت من العراق. قال: ما أظنك تقول الحق. قال: لا إله إلا الله. قال: فنمي الخبر إلى معاوية فقال: هذا شريح فأمر أن يفرغ من أمره ويعجل رده إلى العراق.
وعاش شريح بن الحارث عشرين ومئة سنة. وعاش عدي بن حاتم عشرين ومئة سنة، وعاش سويد بن غفلة عشرين ومئة سنة.
وكان شريح إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله علي بالإسلام ثم عديد لكندة. ويقال إنه إنما خرج إلى المدينة لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا من ذلك فخرج، وكان شاعراً عائفاً زاجراً قائفاً كوسجاً، لا لحية له.
العائف: الذي يعيف الطير أن يزجرها. ولم يرد من قال: إنه عائف: هذه العيافة، وكيف يريد هذا؟ وقد روي أن العيافة من الجبت ولكنه أراد أنه مصيب الظن صادق الحدس، فكأنه عائف. وهذا كما يقال: ما أنت إلا ساحر إذا كان رقيقاً لطيفاً، وما أنت إلا كاهن إذا أصاب بظنه. والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها ويعرف شبه الرجل في ولده وأخيه.
كان مالك بن أنس يقول: كان أهل البصرة عندنا هم أهل العراق وهم الناس. ولقد كان بالكوفة رجال: علقمة والأسود وشريح، حتى وثب إنسان يقال له حماد فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه ففسد الناس، فالله المستعان " وللبسنا عليهم ما يلبسون ".
قيل لشريح: بأي شيء أصبت هذا العلم؟ قال: بمفاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم.
قال الشعبي: أخذ عمر بن الخطاب فرساً من رجل على سوم فحمل عليه رجلاً فعطب عنده فخاصمه فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً. فقال الرجل: فإني أرضى بشريح العراقي، فأتوا شريحاً فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً سالماً، فأعجب عمر بن الخطاب فبعثه قاضياً.
حدث شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاقض بها، فإن
جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانظر ما أجمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن أتأخر فتأخر. ولا أرى التأخير إلا خيراً لك.
وعن هبيرة بن يريم أن علياً جمع الناس في الرحبة وقال: إني مفارقكم فاجتمعوا في الرحبة، رجال أيما رجال، فجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح فجثا على ركبتيه وجعل يسأله، فقال له علي: اذهب فأنت أقضى العرب.
قال الشعبي:
خرج علي بن أبي طالب عليه السلام إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرف علي الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين. ((وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي استقضاه. فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال علي: أما يا شريح لو كان خصمي مسلماً لقعدت معه مجلس الخصم ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تصافحوهم ولا تبدؤوهم بالسلام ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضائق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله. اقض بيني وبينه يا شريح. قال: فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علي: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان. قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين، الدرعي هي درعي. قال: فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: فقال علي عليه السلام: أما إذ أسلمت فهي لك وحمله على فرس عتيق. قال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين.
وفي رواية: وفرض له ألفين وأصيب معه يوم صفين.
وفي رواية: أنه ضاع لعلي عليه السلام درع يوم الجمل فأصابها رجل من بني قفل فباعها، فعرفت عند رجل من اليهود، فقال: اشتريتها من بني قفل فخاصمه علي إلى شريح، فشهد لعلي الحسن بن علي ومولاه قنبر، فقال شريح لعلي: زدني شاهداً مكاالحسن، فقال: أترد شهادة الحسن؟ قال: لا ولكني حفظت عنك أنك قلت: لا تجوز شهادة الولد لوالده، فقال علي عليه السلام: الحق ببانقيا واقض عليها، واستعمل على الكوفة محمد بن يزيد بن خليدة الشيباني ثم عزله وأعاد شريحاً.
قال علي عليه السلام لشريح: لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده فانظر ما تقضي، وفيم تقضي، وكيف تقضي، وفيم تمضي، وإليه تفضي.
وعن عامر قال: جاءت امرأة إلى علي تخاصم زوجها طلقها، فقالت: قد حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت هاهنا؟! قال: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن ترضى دينه وأمانته يزعم أنها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها، وإلا فلا. فقال علي: قالون. وقالون بلسان الروم: أحسنت. وقيل: قالون بالرومية جيد.
أتي شريح ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم، فقال شريح: للزوج النصف وما بقي فللأخ من الأم. وقال علي: أخطأ العبد الأبظر: للزوج النصف وللأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفان.
نظر شريح إلى رجل يقوم على رأسه وهو يضحك وهو في مجلس القضاء، فنظر إليه شريح فقال له: ما يضحكك وأنت تراني أتقلب بين الجنة والنار؟! حدث سالم أبو عبد الله قال: شهدت شريحاً وتقدم إليه رجل قال: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، فقال:
إني رجل من أهل الشام. قال: بعيد سحيق. قال: إني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين. قال: إني اشترطت لها دارها. قال: الشرط أملك. قال: اقض بيننا قال: قد فعلت.
قال أبو عمرو الشيباني:
كنت عند شريح فأتاه قوم برجل عليه صك بخمس مئة درهم ديناً فقالوا: إن مولى لنا مات وترك على هذا خمس مئة درهم ديناً، ونحن وارثو مولانا، فقال له شريح: ما تقول؟ فقال: كان أخير رجلاً حراً مولى لهؤلاء وكان موسراً، وأنا عبد مملوك لقوم آخرين، وكان أعطاني هذه الدراهم أنتفع بها، فمات أخي وترك مالاً كثيراً ورثه هؤلاء عنه، فقلت لهم: دعوا لي هذه الدراهم فإني معيل. قال: فكلمهم شريح، وقال لهم: لا عليكم أن تدعوا له هذه الدراهم وسائر ميراث أخيه لكم فقد ذكر عياله، فأبوا وقالوا خذ لنا بحقنا. قال: فقال لهم شريح: اتقوا الله، وافعلوا. فأبوا وقالوا: خذ لنا بحقنا، فقال له شريح: ادفعها إليهم فإنك عبد لا ميراث لك، فأقيموا من بين يديه على ذلك. قال أبو عمرو الشيباني: فلما رأيت جزعه وشدة همه قلت له: ويحك، ذكرت أنك معيل فما عيالك؟ قال: زوجة وأولاد ذكور وإناث، فقلت: فما زوجتك؟ حرة أو أمة؟ فقال: حرة، فرجعت إلى شريح فقلت: يا أبا أمية، ألا ترى ما يقول هذا الرجل؟ قال: وما يقول؟ قلت: يقول: لي أولاد أحرار من امرأة حرة. قال: ردهم علي، فرددتهم فأعاد الكلام فاعترفوا به، وقالوا: نعم، له أولاد أحرار، فقال: ولد حر من امرأة حرة فقال شريح: فابن الأخ الحر أولى بالميراث منكم، والله، لا تبرحوا حتى تعطوه ما في أيديكم من ميراث أخيه. قال: فانتزع ذلك منهم فدفعه إليه.
قال محمد بن سيرين: جاء رجل إلى شريح فقال: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها؟ قال: النصف. قال: فمضى، ثم عاد وله خصوم له في هذه المسألة، فإذا هي عشرة أسهم يجب له منها ثلاثة أسهم. قال الوليد بن مسلم: يفسر ذلك أنها تركت زوجها وأمها وأختها لأبيها وأمها، وأختها لأمها فأعطاه ثلاثة اسهم من عشرة، وكان الرجل بعد ذلك يقول: انظروا إلى قاضيكم هذا، أتيته فقلت: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها
فقال النصف، فلما تحاكمنا إليه ما أعطاني النصف ولا الثلث، فكان شريح يقول له: يا عدو نفسه، إذا رأيتني ذكرت حكماً جائراً، وإذا رأيتك ذكرت رجلاً فاجراً تظهر الشكوى وتكتم حقيقة القضاء.
قال مجاهد: اختصم إلى شريح في ولد هرة فقالت امرأة: هو ولد هرتي، وقالت الأخرى: هو ولد هرتي، فقال شريح: ألقها مع هذه فإن هي قرّت ودرّت واسبطرت فهي لها، وإن هي فرت وهرت واقشعرت فيلس لها.
أتى شريحا ًالقاضي قوم برجل فقالوا: إن هذا خطب النساء فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدواب. فزوجناه فإذا هو يبيع السنانير. قال: أوَلا قلتم أي الدواب؟ وأجاز شريح نكاحه.
حدث ابن عوف أن شريحاً أقر عنده رجل بشيء ثم ذهب لينكر فقال: قد شهد عليك ابن أخت خالتك.
وعن الشعبي أن عبد الله بن شريح كان بينه وبين رجل خصومه فقال لأبيه إن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان الحق لي فأعلمني ذلك حتى أخاصمه إليك وإن كان الحق علي لم أخاصمه قال: فقال: خاصمه. قال: فجاءه بخصم فقضى عليه، فلقيه بعدما انصرف فقال: ما رأيت مثلك، إني لو لم أكن تقدمت إليك عذرتك، ولكن قد أعلمتك الأمر وسألتك أن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان القضاء علي لم أخاصمه إليك فأمرتني أن أخاصمه! فقال: يا بنيّ، إنك لما تقدمت على أمرك كان القضاء عليك فكرهت أن أخبرك فتذهب إلى خصمك، فتصالحه وتقطع من ماله شيئاً لا حق لك فيه، فلذلك لم أخبرك.
خرجت قرحة بإبهام شريح فقيل له: ألا أريتها طبيباً قال: هو الذي أخرجها.
قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد الله رزقني الصب عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.
وعن شقيق قال: قال شريح في فتنة ابن الزبير: ما استخبرت ولا أخبرت، ولا ظلمت مسلماً ولا معاهداً ديناراً ولا درهماً. قال: قلت له: لو كنت على حالك لأحببت أن أكون قد مت، فأومأ إلى قلبه فقال: كيف بهذا؟ وفي رواية قال: كيف بما في صدري. تلتقي الفئتان إحداهما أحب إلي من الأخرى.
قال الشعبي: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية، ما أظنها إلا مظلومة فقال: يا شعبي، إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون قال عامر:
سئل شريح القاضي عن الجراد: فقال: قبح الله الجرادة فيها خلقه سبعة جبابرة: رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب.
قال المدائني: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له رجل: ما هذه؟ قال: ناقة تمشي على أربع. قال: أتبيع؟ قال: لذلك أخرجتها. قال: وبكم تبيعها؟ قال: بكذا وكذا. قال: كيف لبنها؟ قال: احلب في أي إناء شئت، قال: كيف الوطاء؟ قال: افرش ونم. قال: فكيف قوتها؟ قال: احمل على حائط أو دع. قال: فكيف نجاؤها؟ قال: علق سوطك وسر، فاشتراها منه، فقال له شريح، إن عرضت لك حاجة فسل عن أبي أمية في مسجد الكوفة، فسار بها الرجل، قال: فإذا أخبث ما سخر لأدمي، فأتى مسجد الكوفة وشريح في مجلس القضاء فقال: لم أر فيها شيئاً مما وصفت، فأدناه شريح وأفهمه ما قال له ثم أقاله.
قيل للشعبي: يقال في المثل: إن شريحاً أدهى من الثعلب وأحيل. فما هذا؟ فقال
إن شريحاً خرج أيام الطاعون إلى النجف، فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه فيحاكيه ويمثل بين يديه فيشغله عن صلاته. فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة وأخرج كميه وجعل قلنسوته وعمامته عليه، فأقبل الثعلب فوقف على عادته، فأتاه شريح من خلفه فأخذه بغتة فلذلك يقول هو أدهى من الثعلب.
قال الشعبي قال لنا شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء. قلنا: وكيف؟ قال: رجعت يوماً من جنازة مظهراً، فمررت بخباء فإذا عجوز معها جارية رود فاستسقيت، فقالت: اللبن أعجب إليك أم ماء أم نبيذ؟ قال: قلت: اللبن أعجب إليّ، قالت: يا بنية، اسقيه لبناً، فإني أظنه غريباً، فسقتني، فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه ابنتي زينب بنت جرير إحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهيّة. قلت: أتزوجينيها؟ قالت: نعم، إن كنت كفؤاً، قال: فانصرفت إلى منزلي وامتنعت عن القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إخواني إلى الثقات: مسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، فصليت العصر ثم رحب إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه فقلت: أنت أحق بمجلسك ونحن طالبوا حاجة فقال: مرحباً بك يا أبا أمية ما حاجتك؟ قلت: أني قد ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني، ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت: ماذا صنعت بنفسي؟ فهممت أن أرسل إليها بطلاقها ثم قلت: لا أجمع حمقتين، ولكن أضمها إليّ فإن رأيت ما أحب حمدت الله، وإن تكن الأخرى طلقتها. فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها.
فلما أهديت إليّ وقام النساء عنها قلت: يا هذه؟ إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه، ويسألا الله البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي. فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي إليها فقالت: على رسلك فقلت: إحداهن ورب الكعبة فقالت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فإني امرأة غريبة ولا والله ما ركبت مركباً أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك فخبرني بما تحب آته، وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا وأستغفر لله لي ولك. فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فقد قدمت خير مقدم، قدمت على أهل دار، زوجك سيّد
رجالهم، وأنت إن شاء الله سيّدة نسائهم، أحب هذا وأكره هذا. قالت: فحدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ قال: قلت: إني رجل قاض وأكره أن يملوني وأكره أن ينقطعوا عني. قال: فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سروراً مني باليوم الذي مضى، فرجعت يوماً من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهي في منزلي فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنك، هذه أمي. قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية؟ وكيف رأيت أهلك؟ قال: قلت: كل الخير. قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط. قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب، فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصي بهذه الوصية، ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوماً ولا ليلة إلا يوماً وكنت لها ظالماً، وذلك إني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها، فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت: يا زينب، إياك والإناء فعجلت إليه فحركته فضربها العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمصّ أصبعها وأقرأ عليها المعوذتين، وكان لي جار يقال له قيس لا يزال يقرع مرأته فعند ذلك أقول: من الطويل
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين أضرب زينبا
يا شعبي، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء.
أوصى شريح أن يصلى عليه بالجبّانة، وأن لا يؤذن به أحد، ولا تتبعه صائحة وألا يجعل على قبره نور، أن يسرع به السير، وأن يلحد له.
مات شريح سنة ثمانين. وقيل: سنة ست وسبعين. وقيل: سنة ثمان وسبعين، وهو ابن مئة وعشرين سنة. وقيل: ابن مئة وعشر سنين. وقيل: مئة وثمان سنين. بعدما عزل عن القضاء لسنتين. وقيل: توفي سنة سبع وثمانين.